
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع
تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
الحلقة (522)
صــ 411 إلى صــ 425
القول في تأويل قوله ( إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ( 168 ) إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا ( 169 ) )
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فكفروا بالله بجحود ذلك ، وظلموا بمقامهم على الكفر على علم منهم ، بظلمهم عباد الله ، وحسدا للعرب ، وبغيا على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم" لم يكن الله ليغفر لهم " ، يعني : لم يكن الله ليعفو عن ذنوبهم بتركه عقوبتهم عليها ، ولكنه يفضحهم بها بعقوبته إياهم عليها " ولا ليهديهم طريقا " ، يقول : ولم يكن الله تعالى ذكره ليهدي هؤلاء الذين كفروا وظلموا ، الذين وصفنا صفتهم ، فيوفقهم لطريق من الطرق التي ينالون بها ثواب الله ، ويصلون بلزومهم إياه إلى الجنة ، ولكنه يخذلهم عن ذلك ، حتى يسلكوا طريق جهنم . وإنما كنى بذكر"الطريق" عن الدين . وإنما معنى الكلام : لم يكن الله ليوفقهم للإسلام ، ولكنه يخذلهم عنه إلى"طريق جهنم" ، وهو الكفر ، يعني : حتى يكفروا بالله ورسله ، فيدخلوا جهنم"خالدين فيها أبدا" ، يقول : مقيمين فيها أبدا"وكان ذلك على الله يسيرا" ، يقول : وكان تخليد هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم في جهنم ، [ ص: 412 ] على الله يسيرا ، لأنه لا يقدر من أراد ذلك به على الامتناع منه ، ولا له أحد يمنعه منه ، ولا يستصعب عليه ما أراد فعله به من ذلك ، وكان ذلك على الله يسيرا ، لأن الخلق خلقه ، والأمر أمره .
القول في تأويل قوله ( يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ( 170 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "يا أيها الناس" ، مشركي العرب ، وسائر أصناف الكفر" قد جاءكم الرسول " ، يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم ، قد جاءكم" بالحق من ربكم" ، يقول : بالإسلام الذي ارتضاه الله لعباده دينا ، يقول : "من ربكم" ، يعني : من عند ربكم " فآمنوا خيرا لكم " ، يقول : فصدقوه وصدقوا بما جاءكم به من عند ربكم من الدين ، فإن الإيمان بذلك خير لكم من الكفر به"وإن تكفروا" ، يقول : وإن تجحدوا رسالته وتكذبوا به وبما جاءكم به من عند ربكم ، فإن جحودكم ذلك وتكذيبكم به ، لن يضر غيركم ، وإنما مكروه ذلك عائد عليكم ، دون الذي أمركم بالذي بعث به إليكم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن لله ما في السماوات والأرض ، ملكا وخلقا ، لا ينقص كفركم بما كفرتم به من أمره ، وعصيانكم إياه فيما عصيتموه فيه ، من ملكه وسلطانه شيئا "وكان الله عليما حكيما" ، يقول : "وكان الله عليما" ، بما [ ص: 413 ] أنتم صائرون إليه من طاعته فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ، ومعصيته في ذلك ، على علم منه بذلك منكم ، أمركم ونهاكم "حكيما" يعني : حكيما في أمره إياكم بما أمركم به ، وفي نهيه إياكم عما نهاكم عنه ، وفي غير ذلك من تدبيره فيكم وفي غيركم من خلقه .
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله نصب قوله : "خيرا لكم" .
فقال بعض نحويي الكوفة : نصب"خيرا" على الخروج مما قبله من الكلام ، لأن ما قبله من الكلام قد تم ، وذلك قوله : "فآمنوا" . وقال : قد سمعت العرب تفعل ذلك في كل خبر كان تاما ، ثم اتصل به كلام بعد تمامه ، على نحو اتصال"خير" بما قبله . فتقول : "لتقومن خيرا لك" و"لو فعلت ذلك خيرا لك" ، و"اتق الله خيرا لك" . قال : وأما إذا كان الكلام ناقصا ، فلا يكون إلا بالرفع ، كقولك : "إن تتق الله خير لك" ، و ( وأن تصبروا خير لكم ) [ سورة النساء : 25 ] .
وقال آخر منهم : جاء النصب في"خير" ، لأن أصل الكلام : فآمنوا هو خير لكم ، فلما سقط"هو" ، الذي [ هو كناية ] ومصدر ، اتصل الكلام بما قبله ، والذي قبله معرفة ، و"خير" نكرة ، فانتصب لاتصاله بالمعرفة لأن الإضمار من الفعل"قم فالقيام خير لك" ، و"لا تقم فترك القيام خير لك" . فلما سقط اتصل [ ص: 414 ] بالأول . وقال : ألا ترى أنك ترى الكناية عن الأمر تصلح قبل الخبر ، فتقول للرجل : "اتق الله هو خير لك" ، أي : الاتقاء خير لك . وقال : ليس نصبه على إضمار"يكن" ، لأن ذلك يأتي بقياس يبطل هذا . ألا ترى أنك تقول : "اتق الله تكن محسنا" ، ولا يجوز أن تقول : "اتق الله محسنا" ، وأنت تضمر"كان" ، ولا يصلح أن تقول : "انصرنا أخانا" ، وأنت تريد : "تكن أخانا" ؟ وزعم قائل هذا القول أنه لا يجيز ذلك إلا في"أفعل" خاصة ، فتقول : "افعل هذا خيرا لك" ، و"لا تفعل هذا خيرا لك" ، و"أفضل لك" . ، ولا تقول : "صلاحا لك" . وزعم أنه إنما قيل مع"أفعل" ، لأن"أفعل" يدل على أن هذا أصلح من ذلك .
وقال بعض نحويي البصرة : نصب"خيرا" ، لأنه حين قال لهم : "آمنوا" ، أمرهم بما هو خير لهم ، فكأنه قال : اعملوا خيرا لكم ، وكذلك : ( انتهوا خيرا لكم ) [ سورة النساء : 171 ] . قال : وهذا إنما يكون في الأمر والنهي خاصة ، ولا يكون في الخبر لا تقول : "أن أنتهي خيرا لي" ؟ ولكن يرفع على كلامين ، لأن الأمر والنهي يضمر فيهما فكأنك أخرجته من شيء إلى شيء ، لأنك حين قلت له : "انته" ، كأنك قلت له : "اخرج من ذا ، وادخل في آخر" ، واستشهد بقول الشاعر عمر بن أبي ربيعة : [ ص: 415 ]
فواعديه سرحتي مالك أو الربى بينهما أسهلا
كما تقول : "واعديه خيرا لك" . قال : وقد سمعت نصب هذا في الخبر ، تقول العرب : "آتي البيت خيرا لي ، وأتركه خيرا لي" ، وهو على ما فسرت لك في الأمر والنهي .
وقال آخر منهم : نصب"خيرا" ، بفعل مضمر ، واكتفى من ذلك المضمر بقوله : "لا تفعل هذا" أو"افعل الخير" ، وأجازه في غير"أفعل" ، فقال : "لا تفعل ذاك صلاحا لك" .
وقال آخر منهم : نصب"خيرا" على ضمير جواب"يكن خيرا لكم" . وقال : كذلك كل أمر ونهي .
القول في تأويل قوله ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "يا أهل الكتاب" ، يا أهل الإنجيل من النصارى "لا تغلوا في دينكم" ، يقول : لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه ، ولا تقولوا في عيسى غير الحق ، فإن قيلكم في عيسى إنه ابن الله ، قول منكم [ ص: 416 ] على الله غير الحق . لأن الله لم يتخذ ولدا فيكون عيسى أو غيره من خلقه له ابنا"ولا تقولوا على الله إلا الحق" .
وأصل "الغلو" ، في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حده . يقال منه في الدين : "قد غلا فهو يغلو غلوا" ، و"غلا بالجارية عظمها ولحمها" ، إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها"يغلو بها غلوا ، وغلاء" ، ومن ذلك قول الحارث بن خالد المخزومي :
خمصانة قلق موشحها رؤد الشباب غلا بها عظم
وقد : -
10853 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، [ ص: 417 ] عن أبيه ، عن الربيع قال : صاروا فريقين : فريق غلوا في الدين ، فكان غلوهم فيه الشك فيه والرغبة عنه ، وفريق منهم قصروا عنه ، ففسقوا عن أمر ربهم .
القول في تأويل قوله ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )
قال أبو جعفر : يعني ثناؤه بقوله : " إنما المسيح عيسى ابن مريم " ، ما المسيح ، - أيها الغالون في دينهم من أهل الكتاب - بابن الله ، كما تزعمون ، ولكنه عيسى ابن مريم ، دون غيرها من الخلق ، لا نسب له غير ذلك . ثم نعته الله جل ثناؤه بنعته ووصفه بصفته فقال : هو رسول الله أرسله الله بالحق إلى من أرسله إليه من خلقه .
وأصل "المسيح " ، "الممسوح" ، صرف من"مفعول" إلى"فعيل" . وسماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب . وقيل : مسح من الذنوب والأدناس التي تكون في الآدميين ، كما يمسح الشيء من الأذى الذي يكون فيه ، فيطهر منه . ولذلك قال مجاهد ومن قال مثل قوله : "المسيح" ، الصديق .
وقد زعم بعض الناس أن أصل هذه الكلمة عبرانية أو سريانية "مشيحا" ، فعربت فقيل : "المسيح" ، كما عرب سائر أسماء الأنبياء التي في القرآن مثل : [ ص: 418 ] "إسماعيل" و"إسحاق" و"موسى" و"عيسى" .
قال أبو جعفر : وليس ما مثل به من ذلك ل"المسيح" بنظير . وذلك أن"إسماعيل" و"إسحاق" وما أشبه ذلك ، أسماء لا صفات ، و"المسيح" صفة . وغير جائز أن تخاطب العرب ، وغيرها من أجناس الخلق ، في صفة شيء إلا بمثل ما تفهم عمن خاطبها . ولو كان"المسيح" من غير كلام العرب ، ولم تكن العرب تعقل معناه ، ما خوطبت به . وقد أتينا من البيان عن نظائر ذلك فيما مضى بما فيه الكفاية عن إعادته .
وأما "المسيح الدجال" ، فإنه أيضا بمعنى : الممسوح العين ، صرف من"مفعول" إلى"فعيل" . فمعنى : "المسيح" في عيسى صلى الله عليه وسلم : الممسوح البدن من الأدناس والآثام ومعنى : "المسيح" في الدجال : الممسوح العين اليمنى أو اليسرى ، كالذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك .
وأما قوله : " وكلمته ألقاها إلى مريم " ، فإنه يعني : ب "الكلمة" ، الرسالة التي [ ص: 419 ] أمر الله ملائكته أن تأتي مريم بها ، بشارة من الله لها ، التي ذكر الله جل ثناؤه في قوله : ( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه ) [ سورة آل عمران : 45 ] ، يعني : برسالة منه ، وبشارة من عنده .
وقد قال قتادة في ذلك ما : -
10854 - حدثنا به الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " وكلمته ألقاها إلى مريم " ، قال : هو قوله : "كن" ، فكان .
وقد بينا اختلاف المختلفين من أهل الإسلام في ذلك فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : " ألقاها إلى مريم " ، يعني : أعلمها بها وأخبرها ، كما يقال : "ألقيت إليك كلمة حسنة" ، بمعنى : أخبرتك بها وكلمتك بها .
وأما قوله : " وروح منه " ، فإن أهل العلم اختلفوا في تأويله .
فقال بعضهم : معنى قوله : "وروح منه" ، ونفخة منه ، لأنه حدث عن نفخة جبريل عليه السلام في درع مريم بأمر الله إياه بذلك ، فنسب إلى أنه"روح من الله" ، لأنه بأمره كان . قال : وإنما سمي النفخ"روحا" ، لأنها ريح تخرج من الروح ، واستشهدوا على ذلك من قولهم بقول ذي الرمة في صفة نار نعتها : [ ص: 420 ]
فلما بدت كفنتها ، وهي طفلة بطلساء لم تكمل ذراعا ولا شبرا [ ص: 421 ] وقلت له ارفعها إليك ، وأحيها
بروحك ، واقتته لها قيتة قدرا وظاهر لها من يابس الشخت ، واستعن
عليها الصبا ، واجعل يديك لها سترا [ ولما تنمت تأكل الرم لم تدع
ذوابل مما يجمعون ولا خضرا ] فلما جرت في الجزل جريا كأنه
سنا البرق ، أحدثنا لخالقها شكرا
وقالوا : يعني بقوله : "أحيها بروحك" ، أي : أحيها بنفخك .
وقال بعضهم يعني بقوله : "وروح منه" إنه كان إنسانا بإحياء الله له بقوله : "كن" . قالوا : وإنما معنى قوله : "وروح منه" ، وحياة منه ، بمعنى إحياء الله إياه بتكوينه .
وقال آخرون : معنى قوله : "وروح منه" ، ورحمة منه ، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر : ( وأيدهم بروح منه ) [ سورة المجادلة : 22 ] . قالوا : ومعناه في هذا الموضع : ورحمة منه . قالوا : فجعل الله عيسى رحمة منه على من اتبعه وآمن به وصدقه ، لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد .
وقال آخرون : معنى ذلك : وروح من الله خلقها فصورها ، ثم أرسلها إلى مريم فدخلت في فيها ، فصيرها الله تعالى روح عيسى عليه السلام .
ذكر من قال ذلك :
10855 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد قال : أخبرني أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب في قوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، [ سورة الأعراف : 172 ] ، قال : أخذهم فجعلهم أرواحا ، ثم صورهم ، ثم [ ص: 422 ] استنطقهم ، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق ، فأرسل ذلك الروح إلى مريم ، فدخل في فيها ، فحملت الذي خاطبها ، وهو روح عيسى عليه السلام .
وقال آخرون : معنى"الروح" هاهنا ، جبريل عليه السلام . قالوا : ومعنى الكلام : وكلمته ألقاها إلى مريم ، وألقاها أيضا إليها روح من الله . قالوا : ف"الروح" معطوف به على ما في قوله : "ألقاها" من ذكر الله ، بمعنى : أن إلقاء الكلمة إلى مريم كان من الله ، ثم من جبريل عليه السلام .
قال أبو جعفر : ولكل هذه الأقوال وجه ومذهب غير بعيد من الصواب .
القول في تأويل قوله ( فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "فآمنوا بالله ورسله" ، فصدقوا ، يا أهل الكتاب ، بوحدانية الله وربوبيته ، وأنه لا ولد له ، وصدقوا رسله فيما جاءوكم به من عند الله ، وفيما أخبرتكم به أن الله واحد لا شريك له ، ولا صاحبة له ، لا ولد له "ولا تقولوا ثلاثة" ، يعني : ولا تقولوا : الأرباب ثلاثة .
[ ص: 423 ]
ورفعت"الثلاثة" ، بمحذوف دل عليه الظاهر ، وهو"هم" . ومعنى الكلام : ولا تقولوا هم ثلاثة . وإنما جاز ذلك ، لأن"القول" حكاية ، والعرب تفعل ذلك في الحكاية ، ومنه قول الله : ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ) ، [ سورة الكهف : 22 ] . وكذلك كل ما ورد من مرفوع بعد"القول" لا رافع معه ، ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم .
ثم قال لهم جل ثناؤه : متوعدا لهم في قولهم العظيم الذي قالوه في الله : "انتهوا" ، أيها القائلون : الله ثالث ثلاثة ، عما تقولون من الزور والشرك بالله ، فإن الانتهاء عن ذلك خير لكم من قيله ، لما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم على قيلكم ذلك ، إن أقمتم عليه ، ولم تنيبوا إلى الحق الذي أمرتكم بالإنابة إليه والآجل في معادكم .
القول في تأويل قوله ( إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ( 171 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله : "إنما الله إله واحد" ، ما الله ، أيها القائلون : الله ثالث ثلاثة ، كما تقولون ، لأن من كان له ولد ، فليس بإله . وكذلك من كان له صاحبة ، فغير جائز أن يكون إلها معبودا . ولكن الله الذي له الألوهة والعبادة ، إله واحد معبود ، لا ولد له ، ولا والد ، ولا صاحبة ، ولا شريك .
ثم نزه جل ثناؤه نفسه وعظمها ورفعها عما قال فيه أعداؤه الكفرة به فقال : "سبحانه أن يكون له ولد" ، يقول : علا الله وجل وعز وتعظم وتنزه عن أن يكون له ولد أو صاحبة .
[ ص: 424 ]
ثم أخبر جل ثناؤه عباده : أن عيسى وأمه ومن في السماوات ومن في الأرض ، عبيده وإماؤه وخلقه ، وأنه رازقهم وخالقهم ، وأنهم أهل حاجة وفاقة إليه احتجاجا منه بذلك على من ادعى أن المسيح ابنه ، وأنه لو كان ابنه كما قالوا ، لم يكن ذا حاجة إليه ، ولا كان له عبدا مملوكا ، فقال : " له ما في السماوات وما في الأرض " ، يعني : لله ما في السماوات وما في الأرض من الأشياء كلها ملكا وخلقا ، وهو يرزقهم ويقوتهم ويدبرهم ، فكيف يكون المسيح ابنا لله ، وهو في الأرض أو في السماوات ، غير خارج من أن يكون في بعض هذه الأماكن ؟
وقوله : " وكفى بالله وكيلا " ، يقول : وحسب ما في السماوات وما في الأرض بالله قيما ومدبرا ورازقا ، من الحاجة معه إلى غيره .
القول في تأويل قوله ( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون )
يعني جل ثناؤه بقوله : " لن يستنكف المسيح " ، لن يأنف ولن يستكبر المسيح " أن يكون عبدا لله " ، يعني : من أن يكون عبدا لله ، كما : -
10856 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون " ، لن يحتشم المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة .
[ ص: 425 ]
وأما قوله : "ولا الملائكة المقربون" ، فإنه يعني : ولن يستنكف أيضا من الإقرار لله بالعبودة والإذعان له بذلك ، رسله"المقربون" ، الذين قربهم الله ورفع منازلهم على غيرهم من خلقه .
وروي عن الضحاك أنه كان يقول في ذلك ، ما : -
10857 - حدثني به جعفر بن محمد البزوري قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن الأجلح قال : قلت للضحاك : ما"المقربون" ؟ قال : أقربهم إلى السماء الثانية .
القول في تأويل قوله ( ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ( 172 ) )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : ومن يتعظم عن عبادة ربه ، ويأنف من التذلل والخضوع له بالطاعة من الخلق كلهم ، ويستكبر عن ذلك" فسيحشرهم إليه جميعا " ، يقول : فسيبعثهم يوم القيامة جميعا ، فيجمعهم لموعدهم عنده .