فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 337)
من صــ 251 الى صـ 265
وذلك أنهم منعوهم أن يقيموا بمكة مع الإيمان، وهم لا يمكنهم ترك الإيمان فقد أخرجوهم (* إذا كانوا مؤمنين وهذا يدل على أن الكفار أخرجوا صاحبه كما أخرجوه، والكفار إنما أخرجوا *) أعداءهم لا من كان كافرا منهم.
فهذا يدل على أن صحبته صحبة موالاة وموافقة على الإيمان لا صحبة مع الكفر.
وإذا قيل: هذا يدل على أنه كان مظهرا للموافقة، وقد كان يظهر الموافقة له من كان في الباطن منافقا، وقد يدخلون في لفظ الأصحاب في مثل قوله لما استؤذن في قتل بعض المنافقين قال: " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " فدل على أن هذا اللفظ قد كان الناس يدخلون فيه من هو منافق.
قيل: قد ذكرنا فيما تقدم أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق وينبغي أن يعرف أن المنافقين كانوا قليلين بالنسبة إلى المؤمنين، وأكثرهم انكشف حاله لما نزل فيهم القرآن وغير ذلك، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف كلا منهم بعينه فالذين باشروا ذلك كانوا يعرفونه.
والعلم بكون الرجل مؤمنا في الباطن، أو يهوديا، أو نصرانيا، أو مشركا أمر لا يخفى مع طول المباشرة فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه.
وقال تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} [سورة محمد: 30]، وقال: {ولتعرفنهم في لحن القول} [سورة محمد: 30]، فالمضمر للكفر لا بد أن يعرف في لحن القول، وأما بالسيما فقد يعرف وقد لا يعرف.
وقد قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [سورة الممتحنة: 10].
والصحابة المذكورون في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والذين يعظمهم المسلمون على الدين، كلهم كانوا مؤمنين به، ولم يعظم المسلمون ـ ولله الحمد ـ على الدين منافقا.
والإيمان يعلم من الرجل كما يعلم سائر أحوال قلبه من موالاته ومعاداته وفرحه وغضبه وجوعه وعطشه وغير ذلك، فإن هذه الأمور لها لوازم ظاهرة. والأمور الظاهرة تستلزم أمورا باطنة وهذا أمر يعرفه الناس فيمن جربوه وامتحنوه.
ونحن نعلم بالاضطرار أن ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبا سعيد الخدري وجابر، أو نحوهم كانوا مؤمنين بالرسول محبين له معظمين له ليسوا منافقين، فكيف لا يعلم ذلك في مثل الخلفاء الراشدين الذين أخبارهم وإيمانهم ومحبتهم ونصرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد طبقت البلاد مشارقها ومغاربها؟!.
فهذا مما ينبغي أن يعرف، ولا يجعل وجود قوم منافقين موجبا للشك في إيمان هؤلاء الذين لهم في الأمة لسان صدق، بل نحن نعلم بالضرورة إيمان سعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود ومالك والشافعي وأحمد والفضيل والجنيد، ومن هو دون هؤلاء، فكيف لا يعلم إيمان الصحابة، ونحن نعلم إيمان كثير ممن باشرناه من الأصحاب؟!.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن العلم بصدق الصادق في أخباره (* إذا كان دعوى نبوة، أو غير ذلك، وكذب الكاذب *) مما يعلم بالاضطرار في مواضع كثيرة بأسباب كثيرة.
وإظهار الإسلام من هذا الباب؛ فإن الإنسان إما صادق وإما كاذب.
فهذا يقال أولا، ويقال ثانيا: وهو ما ذكره أحمد وغيره، ولا أعلم بين العلماء فيه نزاعا ـ: أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق أصلا، وذلك لأن المهاجرين إنما هاجروا باختيارهم لما آذاهم الكفار على الإيمان وهم بمكة لم يكن يؤمن أحدهم إلا باختياره، بل مع احتمال الأذى فلم يكن أحد يحتاج أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر لا سيما إذا هاجر إلى دار يكون فيها سلطان الرسول عليه ولكن لما ظهر الإسلام في قبائل الأنصار صار بعض من لم يؤمن بقلبه يحتاج إلى أن يظهر موافقة قومه، لأن المؤمنين صار لهم سلطان وعز ومنعة وصار معهم السيف يقتلون من كفر.
ويقال: ثالثا: عامة عقلاء بني آدم إذا عاشر أحدهم الآخر مدة يتبين له صداقته من عداوته فالرسول يصحب أبا بكر بمكة بضع عشرة سنة ولا يتبين له هل هو صديقه، أو عدوه وهو يجتمع معه في دار الخوف وهل هذا إلا قدح في الرسول؟.
ثم يقال: جميع الناس كانوا يعرفون أنه أعظم أوليائه من حين المبعث إلى الموت فإنه أول من آمن به من الرجال الأحرار، ودعا غيره إلى الإيمان به حتى آمنوا وبذل أمواله في تخليص من كان آمن به من المستضعفين مثل بلال وغيره، وكان يخرج معه إلى الموسم فيدعو القبائل إلى الإيمان به، ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم إلى بيته: إما غدوة وإما عشية، وقد آذاه الكفار على إيمانه حتى خرج من مكة فلقيه ابن الدغنة أمير من أمراء العرب سيد القارة، وقال: إلى أين؟ وقد تقدم حديثه: فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل؟ أن مثل هذا لا يفعله إلا من هو في غاية الموالاة والمحبة للرسول ولما جاء به؟! وأن موالاته ومحبته بلغت به إلى أن يعادي قومه، ويصبر على أذاهم وينفق أمواله على من يحتاج إليه من إخوانه المؤمنين؟!.
وكثير من الناس يكون مواليا لغيره، لكن لا يدخل معه في المحن والشدائد ومعاداة الناس وإظهار موافقته على ما يعاديه الناس عليه، فأما إذا أظهر اتباعه وموافقته على ما يعاديه عليه جمهور الناس، وقد صبر على أذى المعادين وبذل الأموال في موافقته من غير أن يكون هناك داع يدعو إلى ذلك من الدنيا ; لأنه لم يحصل له بموافقته في مكة شيء من الدنيا لا مال ولا رياسة ولا غير ذلك، بل لم يحصل له من الدنيا إلا ما هو أذى ومحنة وبلاء.
والإنسان قد يظهر موافقته للغير: إما لغرض يناله منه، أو لغرض آخر يناله بذلك مثل أن يقصد قتله أو الاحتيال عليه، وهذا كله كان منتفيا بمكة، فإن الذين كانوا يقصدون أذى النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من أعظم الناس عداوة لأبي بكر لما آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بهم اتصال يدعو إلى ذلك ألبتة ولم يكونوا يحتاجون في مثل ذلك إلى أبي بكر، بل كانوا أقدر على ذلك، ولم يكن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أذى قط من أبى بكر مع خلوته به، واجتماعه به ليلا ونهارا وتمكنه مما يريد المخادع من إطعام سم، أو قتل، أو غير ذلك.
وأيضا فكان حفظ الله لرسوله وحمايته له يوجب أن يطلعه على ضميره السوء لو كان مضمرا له سوءا، وهو قد أطلعه الله على ما في نفس أبي عزة لما جاء مظهرا للإيمان بنية الفتك به، وكان ذلك في قعدة واحدة وكذلك أطلعه على ما في نفس الحجبي يوم حنين لما انهزم المسلمون، وهم بالسوأة، وأطلعه على ما في نفس عمير بن وهب لما جاء من مكة مظهرا للإسلام يريد الفتك به، وأطلعه الله على المنافقين في غزوة تبوك لما أرادوا أن يحلوا حزام ناقته.
وأبو بكر معه دائما ليلا ونهارا حضرا وسفرا في خلوته وظهوره ويوم بدر يكون معه وحده في العريش، ويكون في قلبه ضمير سوء والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ضمير ذلك قط، وأدنى من له نوع فطنة يعلم ذلك في أقل من هذا الاجتماع، فهل يظن ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم وصديقه إلا من هو مع فرط جهله وكمال نقص عقله من أعظم الناس تنقصا للرسول وطعنا فيه وقدحا في معرفته؟!، فإن كان هذا الجاهل مع ذلك محبا للرسول فهو كما قيل: " عدو عاقل خير من صديق جاهل ".
ولا ريب أن كثيرا ممن يحب الرسول من بني هاشم وغيرهم، وقد تشيع قد تلقى من الرافضة ما هو من أعظم الأمور قدحا في الرسول، فإن أصل الرفض إنما أحدثه زنديق غرضه إبطال دين الإسلام، والقدح
في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد ذكر ذلك العلماء.
وكان عبد الله بن سبأ شيخ الرافضة لما أظهر الإسلام، أراد أن يفسد الإسلام بمكره وخبثه كما فعل بولص بدين النصارى فأظهر النسك، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى سعى في فتنة عثمان وقتله، ثم لما قدم على الكوفة أظهر الغلو في علي والنص عليه ليتمكن بذلك من أغراضه وبلغ ذلك عليا فطلب قتله فهرب منه إلى قرقيسيا وخبره معروف، وقد ذكره غير واحد من العلماء.
وإلا فمن له أدنى خبرة بدين الإسلام يعلم أن مذهب الرافضة مناقض له، ولهذا كانت الزنادقة الذين قصدهم إفساد الإسلام يأمرون بإظهار التشيع والدخول إلى مقاصدهم من باب الشيعة كما ذكر ذلك إمامهم صاحب " البلاغ الأكبر " و " الناموس الأعظم ".
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وقد اتفق جميع الباطنية وكل مصنف لكتاب ورسالة منهم في ترتيب الدعوة المضلة على أن من سبيل الداعي إلى دينهم ورجسهم المجانب لجميع أديان الرسل والشرائع أن يجيب الداعي إليه الناس بما يبين وما يظهر له من أحوالهم ومذاهبهم، وقالوا لكل داع لهم إلى ضلالتهم ما أنا حاك لألفاظهم وصيغة قولهم بغير زيادة ولا نقصان ليعلم بذلك كفرهم وعنادهم لسائر الرسل والملل فقالوا للداعي:
" يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلما: أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك، واجعل المدخل عليه من جهة ظلم السلف وقتلهم الحسين وسبيهم نساءه وذريته والتبري من تيم وعدي ومن بني أمية وبني العباس، وأن تكون قائلا بالتشبيه والتجسيم والبدء والتناسخ والرجعة والغلو، وأن عليا إله يعلم الغيب مفوض إليه خلق العالم، وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة وجهلهم، فإنهم أسرع إلى إجابتك بهذا الناموس حتى تتمكن منهم مما تحتاج إليه أنت ومن بعدك، ممن تثق به من أصحابك فترقيهم إلى حقائق الأشياء حالا فحالا، ولا تجعل كما جعل المسيح ناموسه في زور موسى القول بالتوراة وحفظ السبت، ثم عجل وخرج عن الحد، وكان له ما كان يعني من قتلهم له بعد تكذيبهم إياه وردهم عليه وتفرقهم عنه فإذا آنست من بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشدا أوقفته على مثالب علي وولده، وعرفته حقيقة الحق لمن هو وفيمن هو وباطل بطلان كل ما عليه أهل ملة محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل،ومن وجدته صابئا فأدخله مداخله بالأشانيع وتعظيم الكواكب، فإن ذلك ديننا وجل مذهبنا في أول أمرنا، وأمرهم من جهة الأشانيع يقرب عليك أمره جدا ومن وجدته مجوسيا اتفقت معه في الأصل في الدرجة الرابعة من تعظيم النار والنور والشمس والقمر واتل عليهم أمر السابق، وأنه نهر من الذي يعرفونه،
وثالثه المكنون من ظنه الجيد والظلمة المكتوبة فإنهم مع الصابئين أقرب الأمم إلينا، وأولاهم بنا لولا يسير صحفوه بجهلهم به "، قالوا: " وإن ظفرت بيهودي فادخل عليه من جهة انتظار المسيح، وأنه المهدي الذي ينتظره المسلمون بعينه، وعظم السبت عندهم وتقرب إليهم بذلك، وأعلمهم أنه مثل يدل على ممثول، وأن ممثوله يدل على السابع المنتظر يعنون محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأنه دوره، وأنه هو المسيح وهو المهدي وعند معرفته تكون الراحة من الأعمال، وترك التكليفات كما أمروا بالراحة يوم السبت، وأن راحة السبت هو دلالة على الراحة من التكليف والعبادات في دور السابع المنتظر، وتقرب من قلوبهم بالطعن على النصارى والمسلمين الجهال الحيارى الذين يزعمون أن عيسى لم يولد ولا أب له، وقو في نفوسهم أن يوسف النجار أبوه وأن مريم أمه، وأن يوسف النجار كان ينال منها ما ينال الرجال من النساء، وما شاكل ذلك فإنهم لن يلبثوا أن يتبعوك ".
قال: " وإن وجدت المدعى نصرانيا فادخل عليه بالطعن على اليهود والمسلمين جميعا، وصحة قولهم في الثالوث، وأن الأب والابن وروح القدس صحيح وعظم الصليب عندهم، وعرفهم تأويله.
وإن وجدته مثانيا، فإن المثانية تحرك الذي منه يعترف، فداخلهم بالممازجة في الباب السادس في الدرجة السادسة من حدود البلاغ التي يصفها من بعد، وامتزج بالنور وبالظلام، فإنك تملكهم بذلك، وإذا آنست من بعضهم رشدا فاكشف له الغطاء.
ومتى وقع إليك فيلسوف فقد علمت أن الفلاسفة هم العمدة لنا، وقد أجمعنا [نحن]، وهم على إبطال نواميس الأنبياء وعلى القول بقدم العالم لولا ما يخالفنا بعضهم من أن للعالم مدبرا لا يعرفونه، فإن وقع الاتفاق منهم على أنه لا مدبر للعالم فقد زالت الشبهة بيننا وبينهم.
وإذا وقع لك ثنوي منهم فبخ بخ، قد ظفرت يداك بمن يقل معه تعبك والمدخل عليه بإبطال التوحيد، والقول بالسابق والتالي ورتب له ذلك على ما هو مرسوم لك في أول درجة البلاغ وثانيه وثالثه.
وسنصف لك عنهم من بعد، واتخذ غليظ العهود، وتوكيد الأيمان وشدة المواثيق جنة لك وحصنا، ولا تهجم على مستجيبك بالأشياء الكبار التي يستبشعونها حتى ترقيهم إلى أعلى المراتب:
حالا فحالا، وتدرجهم درجة درجة على ما سنبينه من بعد، وقف بكل فريق حيث احتمالهم، فواحد لا تزيده على التشيع والائتمام بمحمد بن إسماعيل، وأنه حي، لا تجاوز به هذا الحد، لا سيما إن كان مثله ممن يكثر به وبموضع اسمه وأظهر له العفاف عن الدرهم والدينار، وخفف عليه وطأتك مرة بصلاة السبعين، وحذره الكذب والزنا واللواط وشرب النبيذ، وعليك في أمره بالرفق والمداراة له والتودد وتصبر له إن كان هواه متبعا لك تحظ عنده، ويكون لك عونا على دهرك، وعلى من لعله يعاديك من أهل الملل، ولا تأمن أن يتغير عليك بعض أصحابك ولا تخرجه عن عبادة إلهه، والتدين بشريعة محمد نبيه صلى الله عليه وسلم والقول بإمامة علي وبنيه إلى محمد بن إسماعيل، وأقم له دلائل الأسابيع فقط ودقه بالصوم والصلاة دقا وشدة الاجتهاد فإنك يومئذ إن أومأت إلى كريمته فضلا عن ماله لم يمنعك، وإن أدركته الوفاة فوض إليك ما خلفه، وورثك إياه ولم ير في العالم من هو أوثق منك، وآخر ترقيه إلى نسخ شريعة محمد، وأن السابع هو الخاتم للرسل، وأنه ينطق كما ينطقون ويأتي بأمر جديد، وأن محمدا صاحب الدور السادس وأن عليا لم يكن إماما، وإنما كان سوسا لمحمد وحسن القول فيه وإلا سياسية، فإن هذا باب كبير،
وعمل عظيم منه ترقى إلى ما هو أعظم منه، وأكبر منه ويعينك على زوال ما جاء به من قبلك، من وجوب زوال النبوات على المنهاج الذي هو عليه، وإياك أن ترتفع من هذا الباب إلا إلى من تقدر فيه النجابة، وآخر ترقيه من هذا إلى معرفة القرآن ومؤلفه وسببه وإياك أن تغتر بكثير ممن يبلغ معك إلى هذه المنزلة، فترقيه إلى غيرها ألا يغلطون المؤانسة والمدارسة، واستحكام الثقة به، فإن ذلك يكون لك عونا على تعطيل النبوات، والكتب التي يدعونها منزلة من عند الله، وآخر ترقيه إلى إعلامه أن القائم قد مات، وأنه يقوم روحانيا، وأن الخلق يرجعون إليه بصورة روحانية تفصل بين العباد بأمر الله عز وجل ويستصفي المؤمنين من الكافرين بصور روحانية، فإن ذلك يكون أيضا عونا لك عند إبلاغه إلى إبطال المعاد الذي يزعمونه والنشور من القبر.
وآخر ترقيه من هذا إلى إبطال أمر الملائكة في السماء والجن في الأرض، وأنه كان قبل آدم بشر كثير، وتقيم على ذلك الدلائل المرسومة في كتبنا، فإن ذلك مما يعينك وقت بلاغه على تسهيل التعطيل للوحي والإرسال إلى البشر بملائكة، والرجوع إلى الحق، والقول بقدم العالم.
وآخر ترقيه إلى أوائل درجة التوحيد، وتدخل عليه بما تضمنه كتابهم المترجم بكتاب " الدرس الشافي للنفس " من أنه لا إله ولا صفة ولا موصوف، فإن ذلك يعينك على القول بالإلهية لمستحقها عند البلاغ ".
وإلى ذلك يعنون بهذا أن كل داع منهم يترقى درجة درجة إلى أن يصير إماما ناطقا، ثم ينقلب إلها روحانيا على ما سنشرح قولهم فيه من بعد.
قالوا: " ومن بلغته إلى هذا المنزلة فعرفه حسب ما عرفناك من حقيقة أمر الإمام، وأن إسماعيل وأباه محمدا كانا من نوابه، ففي ذلك عون لك على إبطال إمامة علي وولده عند البلاغ والرجوع إلى القول بالحق "، ثم لا يزال كذلك شيئا فشيئا حتى يبلغ الغاية القصوى على تدريج يصفه عنهم فيما بعد.
قال القاضي: " فهذه وصيتهم جميعا للداعي إلى مذاهبهم وفيها أوضح دليل لكل عاقل على كفر القوم وإلحادهم، وتصريحهم بإبطال حدوث العالم ومحدثه وتكذيب ملائكته ورسله وجحد المعاد والثواب والعقاب وهذا هو الأصل لجميعهم وإنما يتمخرقون بذكر الأول، والثاني، والناطق والأساس، إلى غير ذلك ويخدعون به الضعفاء حتى إذا استجاب لهم مستجيب أخذوه بالقول بالدهر والتعطيل.
وسأصف من بعد من عظيم سبهم لجميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتجريدهم القول بالاتحاد، وأنه نهاية دعوتهم ما يعلم به كل قار له عظيم كفرهم وعنادهم للدين.
قلت: وهذا بين، فإن الملاحدة من الباطنية الإسماعيلية وغيرهم والغلاة النصيرية وغير النصيرية إنما يظهرون التشيع، وهم في الباطن أكفر من اليهود والنصارى، فدل ذلك على أن التشيع دهليز الكفر والنفاق.
والصديق رضي الله عنه هو الإمام في قتال المرتدين، وهؤلاء مرتدون، فالصديق وحزبه هم أعداؤه.