تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 18 من 18 الأولىالأولى ... 89101112131415161718
النتائج 341 إلى 345 من 345

الموضوع: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

  1. #341
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 337)

    من صــ 251 الى صـ 265






    وذلك أنهم منعوهم أن يقيموا بمكة مع الإيمان، وهم لا يمكنهم ترك الإيمان فقد أخرجوهم (* إذا كانوا مؤمنين وهذا يدل على أن الكفار أخرجوا صاحبه كما أخرجوه، والكفار إنما أخرجوا *) أعداءهم لا من كان كافرا منهم.
    فهذا يدل على أن صحبته صحبة موالاة وموافقة على الإيمان لا صحبة مع الكفر.
    وإذا قيل: هذا يدل على أنه كان مظهرا للموافقة، وقد كان يظهر الموافقة له من كان في الباطن منافقا، وقد يدخلون في لفظ الأصحاب في مثل قوله لما استؤذن في قتل بعض المنافقين قال: " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " فدل على أن هذا اللفظ قد كان الناس يدخلون فيه من هو منافق.
    قيل: قد ذكرنا فيما تقدم أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق وينبغي أن يعرف أن المنافقين كانوا قليلين بالنسبة إلى المؤمنين، وأكثرهم انكشف حاله لما نزل فيهم القرآن وغير ذلك، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف كلا منهم بعينه فالذين باشروا ذلك كانوا يعرفونه.
    والعلم بكون الرجل مؤمنا في الباطن، أو يهوديا، أو نصرانيا، أو مشركا أمر لا يخفى مع طول المباشرة فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه.
    وقال تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} [سورة محمد: 30]، وقال: {ولتعرفنهم في لحن القول} [سورة محمد: 30]، فالمضمر للكفر لا بد أن يعرف في لحن القول، وأما بالسيما فقد يعرف وقد لا يعرف.
    وقد قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [سورة الممتحنة: 10].
    والصحابة المذكورون في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والذين يعظمهم المسلمون على الدين، كلهم كانوا مؤمنين به، ولم يعظم المسلمون ـ ولله الحمد ـ على الدين منافقا.
    والإيمان يعلم من الرجل كما يعلم سائر أحوال قلبه من موالاته ومعاداته وفرحه وغضبه وجوعه وعطشه وغير ذلك، فإن هذه الأمور لها لوازم ظاهرة. والأمور الظاهرة تستلزم أمورا باطنة وهذا أمر يعرفه الناس فيمن جربوه وامتحنوه.
    ونحن نعلم بالاضطرار أن ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبا سعيد الخدري وجابر، أو نحوهم كانوا مؤمنين بالرسول محبين له معظمين له ليسوا منافقين، فكيف لا يعلم ذلك في مثل الخلفاء الراشدين الذين أخبارهم وإيمانهم ومحبتهم ونصرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد طبقت البلاد مشارقها ومغاربها؟!.
    فهذا مما ينبغي أن يعرف، ولا يجعل وجود قوم منافقين موجبا للشك في إيمان هؤلاء الذين لهم في الأمة لسان صدق، بل نحن نعلم بالضرورة إيمان سعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود ومالك والشافعي وأحمد والفضيل والجنيد، ومن هو دون هؤلاء، فكيف لا يعلم إيمان الصحابة، ونحن نعلم إيمان كثير ممن باشرناه من الأصحاب؟!.
    وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن العلم بصدق الصادق في أخباره (* إذا كان دعوى نبوة، أو غير ذلك، وكذب الكاذب *) مما يعلم بالاضطرار في مواضع كثيرة بأسباب كثيرة.

    وإظهار الإسلام من هذا الباب؛ فإن الإنسان إما صادق وإما كاذب.
    فهذا يقال أولا، ويقال ثانيا: وهو ما ذكره أحمد وغيره، ولا أعلم بين العلماء فيه نزاعا ـ: أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق أصلا، وذلك لأن المهاجرين إنما هاجروا باختيارهم لما آذاهم الكفار على الإيمان وهم بمكة لم يكن يؤمن أحدهم إلا باختياره، بل مع احتمال الأذى فلم يكن أحد يحتاج أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر لا سيما إذا هاجر إلى دار يكون فيها سلطان الرسول عليه ولكن لما ظهر الإسلام في قبائل الأنصار صار بعض من لم يؤمن بقلبه يحتاج إلى أن يظهر موافقة قومه، لأن المؤمنين صار لهم سلطان وعز ومنعة وصار معهم السيف يقتلون من كفر.
    ويقال: ثالثا: عامة عقلاء بني آدم إذا عاشر أحدهم الآخر مدة يتبين له صداقته من عداوته فالرسول يصحب أبا بكر بمكة بضع عشرة سنة ولا يتبين له هل هو صديقه، أو عدوه وهو يجتمع معه في دار الخوف وهل هذا إلا قدح في الرسول؟.
    ثم يقال: جميع الناس كانوا يعرفون أنه أعظم أوليائه من حين المبعث إلى الموت فإنه أول من آمن به من الرجال الأحرار، ودعا غيره إلى الإيمان به حتى آمنوا وبذل أمواله في تخليص من كان آمن به من المستضعفين مثل بلال وغيره، وكان يخرج معه إلى الموسم فيدعو القبائل إلى الإيمان به، ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم إلى بيته: إما غدوة وإما عشية، وقد آذاه الكفار على إيمانه حتى خرج من مكة فلقيه ابن الدغنة أمير من أمراء العرب سيد القارة، وقال: إلى أين؟ وقد تقدم حديثه: فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل؟ أن مثل هذا لا يفعله إلا من هو في غاية الموالاة والمحبة للرسول ولما جاء به؟! وأن موالاته ومحبته بلغت به إلى أن يعادي قومه، ويصبر على أذاهم وينفق أمواله على من يحتاج إليه من إخوانه المؤمنين؟!.
    وكثير من الناس يكون مواليا لغيره، لكن لا يدخل معه في المحن والشدائد ومعاداة الناس وإظهار موافقته على ما يعاديه الناس عليه، فأما إذا أظهر اتباعه وموافقته على ما يعاديه عليه جمهور الناس، وقد صبر على أذى المعادين وبذل الأموال في موافقته من غير أن يكون هناك داع يدعو إلى ذلك من الدنيا ; لأنه لم يحصل له بموافقته في مكة شيء من الدنيا لا مال ولا رياسة ولا غير ذلك، بل لم يحصل له من الدنيا إلا ما هو أذى ومحنة وبلاء.
    والإنسان قد يظهر موافقته للغير: إما لغرض يناله منه، أو لغرض آخر يناله بذلك مثل أن يقصد قتله أو الاحتيال عليه، وهذا كله كان منتفيا بمكة، فإن الذين كانوا يقصدون أذى النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من أعظم الناس عداوة لأبي بكر لما آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بهم اتصال يدعو إلى ذلك ألبتة ولم يكونوا يحتاجون في مثل ذلك إلى أبي بكر، بل كانوا أقدر على ذلك، ولم يكن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أذى قط من أبى بكر مع خلوته به، واجتماعه به ليلا ونهارا وتمكنه مما يريد المخادع من إطعام سم، أو قتل، أو غير ذلك.
    وأيضا فكان حفظ الله لرسوله وحمايته له يوجب أن يطلعه على ضميره السوء لو كان مضمرا له سوءا، وهو قد أطلعه الله على ما في نفس أبي عزة لما جاء مظهرا للإيمان بنية الفتك به، وكان ذلك في قعدة واحدة وكذلك أطلعه على ما في نفس الحجبي يوم حنين لما انهزم المسلمون، وهم بالسوأة، وأطلعه على ما في نفس عمير بن وهب لما جاء من مكة مظهرا للإسلام يريد الفتك به، وأطلعه الله على المنافقين في غزوة تبوك لما أرادوا أن يحلوا حزام ناقته.
    وأبو بكر معه دائما ليلا ونهارا حضرا وسفرا في خلوته وظهوره ويوم بدر يكون معه وحده في العريش، ويكون في قلبه ضمير سوء والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ضمير ذلك قط، وأدنى من له نوع فطنة يعلم ذلك في أقل من هذا الاجتماع، فهل يظن ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم وصديقه إلا من هو مع فرط جهله وكمال نقص عقله من أعظم الناس تنقصا للرسول وطعنا فيه وقدحا في معرفته؟!، فإن كان هذا الجاهل مع ذلك محبا للرسول فهو كما قيل: " عدو عاقل خير من صديق جاهل ".
    ولا ريب أن كثيرا ممن يحب الرسول من بني هاشم وغيرهم، وقد تشيع قد تلقى من الرافضة ما هو من أعظم الأمور قدحا في الرسول، فإن أصل الرفض إنما أحدثه زنديق غرضه إبطال دين الإسلام، والقدح

    في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد ذكر ذلك العلماء.
    وكان عبد الله بن سبأ شيخ الرافضة لما أظهر الإسلام، أراد أن يفسد الإسلام بمكره وخبثه كما فعل بولص بدين النصارى فأظهر النسك، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى سعى في فتنة عثمان وقتله، ثم لما قدم على الكوفة أظهر الغلو في علي والنص عليه ليتمكن بذلك من أغراضه وبلغ ذلك عليا فطلب قتله فهرب منه إلى قرقيسيا وخبره معروف، وقد ذكره غير واحد من العلماء.
    وإلا فمن له أدنى خبرة بدين الإسلام يعلم أن مذهب الرافضة مناقض له، ولهذا كانت الزنادقة الذين قصدهم إفساد الإسلام يأمرون بإظهار التشيع والدخول إلى مقاصدهم من باب الشيعة كما ذكر ذلك إمامهم صاحب " البلاغ الأكبر " و " الناموس الأعظم ".
    قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وقد اتفق جميع الباطنية وكل مصنف لكتاب ورسالة منهم في ترتيب الدعوة المضلة على أن من سبيل الداعي إلى دينهم ورجسهم المجانب لجميع أديان الرسل والشرائع أن يجيب الداعي إليه الناس بما يبين وما يظهر له من أحوالهم ومذاهبهم، وقالوا لكل داع لهم إلى ضلالتهم ما أنا حاك لألفاظهم وصيغة قولهم بغير زيادة ولا نقصان ليعلم بذلك كفرهم وعنادهم لسائر الرسل والملل فقالوا للداعي:
    " يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلما: أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك، واجعل المدخل عليه من جهة ظلم السلف وقتلهم الحسين وسبيهم نساءه وذريته والتبري من تيم وعدي ومن بني أمية وبني العباس، وأن تكون قائلا بالتشبيه والتجسيم والبدء والتناسخ والرجعة والغلو، وأن عليا إله يعلم الغيب مفوض إليه خلق العالم، وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة وجهلهم، فإنهم أسرع إلى إجابتك بهذا الناموس حتى تتمكن منهم مما تحتاج إليه أنت ومن بعدك، ممن تثق به من أصحابك فترقيهم إلى حقائق الأشياء حالا فحالا، ولا تجعل كما جعل المسيح ناموسه في زور موسى القول بالتوراة وحفظ السبت، ثم عجل وخرج عن الحد، وكان له ما كان يعني من قتلهم له بعد تكذيبهم إياه وردهم عليه وتفرقهم عنه فإذا آنست من بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشدا أوقفته على مثالب علي وولده، وعرفته حقيقة الحق لمن هو وفيمن هو وباطل بطلان كل ما عليه أهل ملة محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل،ومن وجدته صابئا فأدخله مداخله بالأشانيع وتعظيم الكواكب، فإن ذلك ديننا وجل مذهبنا في أول أمرنا، وأمرهم من جهة الأشانيع يقرب عليك أمره جدا ومن وجدته مجوسيا اتفقت معه في الأصل في الدرجة الرابعة من تعظيم النار والنور والشمس والقمر واتل عليهم أمر السابق، وأنه نهر من الذي يعرفونه،
    وثالثه المكنون من ظنه الجيد والظلمة المكتوبة فإنهم مع الصابئين أقرب الأمم إلينا، وأولاهم بنا لولا يسير صحفوه بجهلهم به "، قالوا: " وإن ظفرت بيهودي فادخل عليه من جهة انتظار المسيح، وأنه المهدي الذي ينتظره المسلمون بعينه، وعظم السبت عندهم وتقرب إليهم بذلك، وأعلمهم أنه مثل يدل على ممثول، وأن ممثوله يدل على السابع المنتظر يعنون محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأنه دوره، وأنه هو المسيح وهو المهدي وعند معرفته تكون الراحة من الأعمال، وترك التكليفات كما أمروا بالراحة يوم السبت، وأن راحة السبت هو دلالة على الراحة من التكليف والعبادات في دور السابع المنتظر، وتقرب من قلوبهم بالطعن على النصارى والمسلمين الجهال الحيارى الذين يزعمون أن عيسى لم يولد ولا أب له، وقو في نفوسهم أن يوسف النجار أبوه وأن مريم أمه، وأن يوسف النجار كان ينال منها ما ينال الرجال من النساء، وما شاكل ذلك فإنهم لن يلبثوا أن يتبعوك ".
    قال: " وإن وجدت المدعى نصرانيا فادخل عليه بالطعن على اليهود والمسلمين جميعا، وصحة قولهم في الثالوث، وأن الأب والابن وروح القدس صحيح وعظم الصليب عندهم، وعرفهم تأويله.
    وإن وجدته مثانيا، فإن المثانية تحرك الذي منه يعترف، فداخلهم بالممازجة في الباب السادس في الدرجة السادسة من حدود البلاغ التي يصفها من بعد، وامتزج بالنور وبالظلام، فإنك تملكهم بذلك، وإذا آنست من بعضهم رشدا فاكشف له الغطاء.
    ومتى وقع إليك فيلسوف فقد علمت أن الفلاسفة هم العمدة لنا، وقد أجمعنا [نحن]، وهم على إبطال نواميس الأنبياء وعلى القول بقدم العالم لولا ما يخالفنا بعضهم من أن للعالم مدبرا لا يعرفونه، فإن وقع الاتفاق منهم على أنه لا مدبر للعالم فقد زالت الشبهة بيننا وبينهم.
    وإذا وقع لك ثنوي منهم فبخ بخ، قد ظفرت يداك بمن يقل معه تعبك والمدخل عليه بإبطال التوحيد، والقول بالسابق والتالي ورتب له ذلك على ما هو مرسوم لك في أول درجة البلاغ وثانيه وثالثه.
    وسنصف لك عنهم من بعد، واتخذ غليظ العهود، وتوكيد الأيمان وشدة المواثيق جنة لك وحصنا، ولا تهجم على مستجيبك بالأشياء الكبار التي يستبشعونها حتى ترقيهم إلى أعلى المراتب:

    حالا فحالا، وتدرجهم درجة درجة على ما سنبينه من بعد، وقف بكل فريق حيث احتمالهم، فواحد لا تزيده على التشيع والائتمام بمحمد بن إسماعيل، وأنه حي، لا تجاوز به هذا الحد، لا سيما إن كان مثله ممن يكثر به وبموضع اسمه وأظهر له العفاف عن الدرهم والدينار، وخفف عليه وطأتك مرة بصلاة السبعين، وحذره الكذب والزنا واللواط وشرب النبيذ، وعليك في أمره بالرفق والمداراة له والتودد وتصبر له إن كان هواه متبعا لك تحظ عنده، ويكون لك عونا على دهرك، وعلى من لعله يعاديك من أهل الملل، ولا تأمن أن يتغير عليك بعض أصحابك ولا تخرجه عن عبادة إلهه، والتدين بشريعة محمد نبيه صلى الله عليه وسلم والقول بإمامة علي وبنيه إلى محمد بن إسماعيل، وأقم له دلائل الأسابيع فقط ودقه بالصوم والصلاة دقا وشدة الاجتهاد فإنك يومئذ إن أومأت إلى كريمته فضلا عن ماله لم يمنعك، وإن أدركته الوفاة فوض إليك ما خلفه، وورثك إياه ولم ير في العالم من هو أوثق منك، وآخر ترقيه إلى نسخ شريعة محمد، وأن السابع هو الخاتم للرسل، وأنه ينطق كما ينطقون ويأتي بأمر جديد، وأن محمدا صاحب الدور السادس وأن عليا لم يكن إماما، وإنما كان سوسا لمحمد وحسن القول فيه وإلا سياسية، فإن هذا باب كبير،
    وعمل عظيم منه ترقى إلى ما هو أعظم منه، وأكبر منه ويعينك على زوال ما جاء به من قبلك، من وجوب زوال النبوات على المنهاج الذي هو عليه، وإياك أن ترتفع من هذا الباب إلا إلى من تقدر فيه النجابة، وآخر ترقيه من هذا إلى معرفة القرآن ومؤلفه وسببه وإياك أن تغتر بكثير ممن يبلغ معك إلى هذه المنزلة، فترقيه إلى غيرها ألا يغلطون المؤانسة والمدارسة، واستحكام الثقة به، فإن ذلك يكون لك عونا على تعطيل النبوات، والكتب التي يدعونها منزلة من عند الله، وآخر ترقيه إلى إعلامه أن القائم قد مات، وأنه يقوم روحانيا، وأن الخلق يرجعون إليه بصورة روحانية تفصل بين العباد بأمر الله عز وجل ويستصفي المؤمنين من الكافرين بصور روحانية، فإن ذلك يكون أيضا عونا لك عند إبلاغه إلى إبطال المعاد الذي يزعمونه والنشور من القبر.
    وآخر ترقيه من هذا إلى إبطال أمر الملائكة في السماء والجن في الأرض، وأنه كان قبل آدم بشر كثير، وتقيم على ذلك الدلائل المرسومة في كتبنا، فإن ذلك مما يعينك وقت بلاغه على تسهيل التعطيل للوحي والإرسال إلى البشر بملائكة، والرجوع إلى الحق، والقول بقدم العالم.
    وآخر ترقيه إلى أوائل درجة التوحيد، وتدخل عليه بما تضمنه كتابهم المترجم بكتاب " الدرس الشافي للنفس " من أنه لا إله ولا صفة ولا موصوف، فإن ذلك يعينك على القول بالإلهية لمستحقها عند البلاغ ".
    وإلى ذلك يعنون بهذا أن كل داع منهم يترقى درجة درجة إلى أن يصير إماما ناطقا، ثم ينقلب إلها روحانيا على ما سنشرح قولهم فيه من بعد.
    قالوا: " ومن بلغته إلى هذا المنزلة فعرفه حسب ما عرفناك من حقيقة أمر الإمام، وأن إسماعيل وأباه محمدا كانا من نوابه، ففي ذلك عون لك على إبطال إمامة علي وولده عند البلاغ والرجوع إلى القول بالحق "، ثم لا يزال كذلك شيئا فشيئا حتى يبلغ الغاية القصوى على تدريج يصفه عنهم فيما بعد.

    قال القاضي: " فهذه وصيتهم جميعا للداعي إلى مذاهبهم وفيها أوضح دليل لكل عاقل على كفر القوم وإلحادهم، وتصريحهم بإبطال حدوث العالم ومحدثه وتكذيب ملائكته ورسله وجحد المعاد والثواب والعقاب وهذا هو الأصل لجميعهم وإنما يتمخرقون بذكر الأول، والثاني، والناطق والأساس، إلى غير ذلك ويخدعون به الضعفاء حتى إذا استجاب لهم مستجيب أخذوه بالقول بالدهر والتعطيل.
    وسأصف من بعد من عظيم سبهم لجميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتجريدهم القول بالاتحاد، وأنه نهاية دعوتهم ما يعلم به كل قار له عظيم كفرهم وعنادهم للدين.
    قلت: وهذا بين، فإن الملاحدة من الباطنية الإسماعيلية وغيرهم والغلاة النصيرية وغير النصيرية إنما يظهرون التشيع، وهم في الباطن أكفر من اليهود والنصارى، فدل ذلك على أن التشيع دهليز الكفر والنفاق.
    والصديق رضي الله عنه هو الإمام في قتال المرتدين، وهؤلاء مرتدون، فالصديق وحزبه هم أعداؤه.





  2. #342
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 338)

    من صــ 266 الى صـ 280






    والمقصود هنا أن الصحبة المذكورة في قوله: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] صحبة موالاة للمصحوب ومتابعة له لا صحبة نفاق كصحبة المسافر للمسافر، وهي من الصحبة التي يقصدها الصاحب لمحبة المصحوب كما هو معلوم عند جماهير الخلائق علما ضروريا بما تواتر عندهم من الأمور الكثيرة أن أبا بكر كان في الغاية من محبة النبي صلى الله عليه وسلم وموالاته والإيمان به أعظم مما يعلمون أن عليا كان مسلما، وأنه كان ابن عمه.
    وقوله: " {إن الله معنا} " لم يكن لمجرد الصحبة الظاهرة التي ليس فيها
    متابعة، فإن هذه تحصل للكافر إذا صحب المؤمن ليس الله معه، بل إنما كانت المعية للموافقة الباطنية والموالاة له والمتابعة.
    ولهذا كل من كان متبعا للرسول كان الله معه بحسب هذا الاتباع، قال الله تعالى: {ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [سورة الأنفال: 64] أي: حسبك وحسب من اتبعك، فكل من اتبع الرسول من جميع المؤمنين فالله حسبه، وهذا معنى كون الله معه.
    والكفاية المطلقة مع الاتباع المطلق، والناقصة مع الناقص، وإذا كان بعض المؤمنين به المتبعين له قد حصل له من يعاديه على ذلك فالله حسبه، وهو معه وله نصيب من معنى قوله: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}، فإن هذا قلبه موافق للرسول، وإن لم يكن صحبه ببدنه، والأصل في هذا القلب.
    كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم " قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: " وهم بالمدينة حبسهم العذر» ".

    فهؤلاء بقلوبهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغزاة، فلهم معنى صحبته في الغزاة، فالله معهم بحسب تلك الصحبة المعنوية.
    ولو انفرد الرجل [في] بعض الأمصار والأعصار بحق جاء به الرسول ولم تنصره الناس عليه، فإن الله معه، وله نصيب من قوله: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40]، فإن نصر الرسول هو نصر دينه الذي جاء به حيث كان، ومتى كان، ومن وافقه فهو صاحبه عليه في المعنى، فإذا قام به ذلك الصاحب كما أمر الله، فإن الله مع ما جاء به الرسول، ومع ذلك القائم به.
    وهذا المتبع له حسبه الله، وهو حسب الرسول كما قال تعالى: {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [سورة الأنفال: 64].
    [فصل قول الرافضي إن إنزال السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده يعني نقصه والرد عليه]
    فصل.
    وأما قول الرافضي: " إن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم شرك معه المؤمنين إلا هذا الموضع، ولا نقص أعظم منه ".
    فالجواب: أولا: أن هذا يوهم أنه ذكر ذلك في مواضع متعددة وليس كذلك، بل لم يذكر ذلك إلا في قصة حنين.
    كما قال تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين - ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها} [سورة التوبة: 25، 26] فذكر إنزال السكينة على الرسول والمؤمنين بعد أن ذكر توليتهم مدبرين.
    وقد ذكر إنزال السكينة على المؤمنين وليس معهم الرسول في قوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} [سورة الفتح: 1] إلى قوله: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} [سورة الفتح: 4] الآية، وقوله: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم} [سورة الفتح: 18].
    ويقال: ثانيا: الناس قد تنازعوا في عود الضمير في قوله تعالى: {فأنزل الله سكينته عليه} [سورة التوبة: 40] فمنهم من قال: إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال: إنه عائد إلى أبي بكر لأنه أقرب المذكورين ولأنه كان محتاجا إلى إنزال السكينة، فأنزل السكينة عليه كما أنزلها على المؤمنين الذين بايعوه تحت الشجرة.
    والنبي صلى الله عليه وسلم كان مستغنيا عنها في هذه الحال لكمال طمأنينته بخلاف إنزالها يوم حنين، فإنه كان محتاجا إليها لانهزام جمهور أصحابه وإقبال العدو نحوه وسوقه ببغلته إلى العدو.

    وعلى القول الأول يكون الضمير عائدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما عاد الضمير إليه في قوله: {وأيده بجنود لم تروها} [سورة التوبة: 40] ; ولأن سياق الكلام كان في ذكره، وإنما ذكر صاحبه ضمنا وتبعا.
    لكن يقال: على هذا لما قال لصاحبه: {إن الله معنا} والنبي صلى الله عليه وسلم هو المتبوع المطاع، وأبو بكر تابع مطيع، وهو صاحبه والله معهما، فإذا حصل للمتبوع في هذه الحال سكينة وتأييد كان ذلك للتابع أيضا بحكم الحال فإنه صاحب تابع لازم، ولم يحتج أن يذكر هنا أبو بكر لكمال الملازمة والمصاحبة التي توجب مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في التأييد.
    بخلاف حال المنهزمين يوم حنين، فإنه لو قال: فأنزل الله سكينته على رسوله وسكت لم يكن في الكلام ما يدل على نزول السكينة عليهم لكونهم بانهزامهم فارقوا الرسول، ولكونهم لم يثبت لهم من الصحبة المطلقة التي تدل على كمال الملازمة ما ثبت لأبي بكر.
    وأبو بكر لما وصفه بالصحبه المطلقة الكاملة، ووصفها في أحق الأحوال أن يفارق الصاحب فيها صاحبه، وهو حال شدة الخوف، كان هذا دليلا بطريق الفحوى على أنه صاحبه وقت النصر والتأييد، فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد، فلأن يكون صاحبه في حال حصول النصر والتأييد أولى وأحرى فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام والحال عليها.
    وإذا علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أن ما حصل للرسول من إنزال السكينة والتأييد بإنزال الجنود التي لم يرها الناس لصاحبه المذكور فيها أعظم مما لسائر الناس وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه.
    وهذا كما في قوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [سورة التوبة: 62]، فإن الضمير [في قوله: (أحق أن يرضوه)] إن عاد إلى الله، فإرضاؤه لا يكون إلا بإرضاء الرسول، وإن عاد إلى الرسول فإنه لا يكون (* إرضاؤه إلا بإرضاء الله، فلما كان إرضاؤهما لا يحصل أحدهما إلا مع الآخر، وهما يحصلان بشيء *) واحد، والمقصود بالقصد الأول إرضاء الله وإرضاء الرسول تابع، وحد الضمير في قوله: {أحق أن يرضوه}، وكذلك وحد الضمير في قوله: {فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها} ; لأن نزول ذلك على أحدهما يستلزم مشاركة الآخر له، إذ محال
    أن ينزل ذلك على الصاحب دون المصحوب، أو على المصحوب دون الصاحب الملازم، فلما كان لا يحصل ذلك إلا مع الآخر وحد الضمير، وأعاده إلى الرسول فإنه هو المقصود والصاحب تابع له.
    ولو قيل: فأنزل السكينة عليهما وأيدهما، لأوهم أن أبا بكر شريك في النبوة، كهارون مع موسى حيث قال: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا} الآية [سورة القصص: 35]، وقال: {ولقد مننا على موسى وهارون - ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم - ونصرناهم فكانوا هم الغالبين - وآتيناهما الكتاب المستبين - وهديناهما الصراط المستقيم} [سورة الصافات: 114 - 118]، فذكرهما أولا وقومهما فيما يشركونهما فيه.
    كما قال: {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} [سورة الفتح: 26] إذ ليس في الكلام ما يقتضي حصول النجاة والنصر لقومهما إذا نصرا ونجيا، ثم فيما يختص بهما ذكرهما بلفظ التثنية إذا كانا شريكين في النبوة لم يفرد موسى كما أفرد الرب نفسه بقوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [سورة التوبة: 62]، وقوله: {أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله} [سورة التوبة: 24].
    فلو قيل: أنزل الله سكينته عليهما وأيدهما لأوهم الشركة، بل عاد الضمير إلى الرسول المتبوع، وتأييده تأييد لصاحبه التابع له الملازم بطريق الضرورة.
    ولهذا لم ينصر النبي صلى الله عليه وسلم قط في موطن إلا كان أبو بكر رضي الله عنه أعظم المنصورين بعده، ولم يكن أحد من الصحابة أعظم يقينا وثباتا في المخاوف منه، ولهذا قيل: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح.
    كما في السنن عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " «هل رأى أحد منكم رؤيا؟ " فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ثم وزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ثم وزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فاستاء لها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء» ".
    وقال أبو بكر بن عياش: ما سبقهم أبو بكر بصلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه.
    [فصل في مناقشة ابن المطهر على كلامه عن مثالب أبي بكر في زعمه]
    قال الرافضي " وقد ذكر غيره منها أشياء كثيرة، ونحن نذكر منها شيئا يسيرا. منها ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتصم بالوحي، وإن لي شيطانا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني»، وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، مع أن الرعية تحتاج إليه؟ ".
    والجواب: أن يقال: هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق - رضي الله عنه - وأدلها على أنه لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا، فلم يكن طالب رياسة، ولا كان ظالما، وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله فقال لهم: إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها، وإن زغت عنها فقوموني، كما قال أيضا: أيها الناس أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.

    والشيطان الذي يعتريه يعتري جميع بني آدم، فإنه ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن.
    والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن " قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: " وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير ".
    وفي الصحيح عنه قال: «لما مر به بعض الأنصار وهو يتحدث مع صفية ليلا، قال: " على رسلكما، إنها صفية بنت حيي " ثم قال: " إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئا، إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» ".
    ومقصود الصديق بذلك: إني لست معصوما كالرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا حق.
    وقول القائل: كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية؟ كلام جاهل بحقيقة الإمامة، فإن الإمام ليس هو ربا لرعيته حتى يستغني عنهم، ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله. وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا، فلا بد له من إعانتهم، ولا بد لهم من إعانته، كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق: إن سلك بهم الطريق اتبعوه، وإن أخطأ عن الطريق نبهوه وأرشدوه، وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم على دفعه، لكن إذا كان أكملهم علما وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم.
    وكذلك إمام الصلاة إن استقام صلوا بصلاته، وإن سها سبحوا به فقوموه إذا زاغ.
    وكذلك دليل الحاج إن مشى بهم في الطريق مشوا خلفه، وإن غلط قوموه.
    والناس بعد الرسول لا يتعلمون الدين من الإمام، بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة.
    ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة، بل قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} الآية [سورة النساء: 59]، فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول لا إلى الأئمة وولاة الأمور، وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعا لطاعة الرسول.
    ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «إنما الطاعة في المعروف» "، وقال: " «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» "، وقال: " «من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه» ".
    وقول القائل: كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، مع أن الرعية تحتاج إليه؟
    وارد في كل متعاونين ومتشاركين يحتاج كل منهما إلى الآخر، حتى الشركاء في التجارات والصناعات، وإمام الصلاة هو بهذه المنزلة، فإن المأمومين يحتاجون إليه، وهو يحمل عنهم السهو وكذلك القراءة عند الجمهور، وهو يستعين بهم إذا سها فينبهونه على سهوه ويقومونه، ولو زاغ في الصلاة فخرج عن الصلاة الشرعية لم يتبعوه فيها، ونظائره متعددة.
    ثم يقال: استعانة علي برعيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر، وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم علي لرعيته وطاعتهم له، فإن أبا بكر كانوا إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه، كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك.
    وكانوا إذا أمرهم أطاعوه. وعلي - رضي الله عنه - لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يبعن، ثم رأى أن يبعن، فقال له قاضيه عبيدة السلماني: رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة.
    وكان يقول: اقضوا كما كنتم تقضون ; فإني أكره الخلاف، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي.
    وكانت رعيته كثيرة المعصية له، وكانوا يشيرون عليه بالرأي الذي يخالفهم فيه، ثم يتبين له أن الصواب كان معهم، كما أشار عليه الحسن بأمور، مثل أن لا يخرج من المدينة دون المبايعة، وأن لا يخرج إلى الكوفة، وأن لا يقاتل بصفين، وأشار عليه أن لا يعزل معاوية، وغير ذلك من الأمور.
    وفي الجملة فلا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر وعثمان ما لم تنتظم لعلي - رضي الله عنهم -، فإن كان هذا لكمال المتولي وكمال الرعية، كانوا هم ورعيتهم أفضل. وإن كان لكمال المتولي وحده، فهو أبلغ في فضلهم، وإن كان ذلك لفرط نقص رعية علي، كان رعية علي أنقص من رعية أبي بكر - رضي الله عنه - وعمر وعثمان.
    ورعيته هم الذين قاتلوا معه، وأقروا بإمامته. ورعية الثلاثة كانوا مقرين بإمامتهم. فإذا كان المقرون بإمامة الثلاثة أفضل من المقرين بإمامة علي، لزم أن يكون كل واحد من الثلاثة أفضل منه.

    وأيضا فقد انتظمت السياسة لمعاوية ما لم تنتظم لعلي، فيلزم أن تكون رعية معاوية خيرا من رعية علي، ورعية معاوية شيعة عثمان، وفيهم النواصب المبغضون لعلي، فتكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي، فيلزم على كل تقدير: إما أن يكون الثلاثة أفضل من علي، وإما أن تكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي والروافض.
    وأيهما كان لزم فساد مذهب الرافضة ; فإنهم يدعون أن عليا أكمل من الثلاثة، وأن شيعته الذين قاتلوا معه أفضل من الذين بايعوا الثلاثة، فضلا عن أصحاب معاوية.
    والمعلوم باتفاق الناس أن الأمر انتظم للثلاثة ولمعاوية ما لم ينتظم لعلي، فكيف يكون الإمام الكامل والرعية الكاملة - على رأيهم - أعظم اضطرابا وأقل انتظاما من الإمام الناقص والرعية الناقصة؟ بل من الكافرة والفاسقة على رأيهم؟
    ولم يكن في أصحاب علي من العلم والدين والشجاعة والكرم، إلا ما هو دون ما في رعية الثلاثة. فلم يكونوا أصلح في الدنيا ولا في الدين.
    ومع هذا فلم يكن للشيعة إمام ذو سلطان معصوم بزعمهم أعظم من علي، فإذا لم يستقيموا معه كانوا أن لا يستقيموا مع من هو دونه أولى وأحرى، فعلم أنهم شر وأنقص من غيرهم.
    وهم يقولون: المعصوم إنما وجبت عصمته لما في ذلك من اللطف بالمكلفين والمصلحة لهم. فإذا علم أن مصلحة غير الشيعة في كل زمان خير من مصلحة الشيعة، واللطف لهم أعظم من اللطف للشيعة، علم أن ما ذكروه من إثبات العصمة باطل.
    وتبين حينئذ حاجة الأئمة إلى الأمة، وأن الصديق هو الذي قال الحق وأقام العدل أكثر من غيره.
    (فصل آخر في فضائل الصديق - رضي الله عنه -)
    قال شيخ الإسلام:
    وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: " «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس وسادس، وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءنا بعد ما مضى من الليل ما شاء. قالت امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ قال: أوما عشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء: عرضوا عليهم العشاء فغلبوهم»، وذكر الحديث.
    وفي رواية قال: " «كان أبي يتحدث إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، وفي سفر الهجرة لم يصحب غير أبي، ويوم بدر لم يبق معه في العريش غيره» ".
    وقال: " «إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» ".
    وهذا من أصح الأحاديث الصحيحة المستفيضة في الصحاح من وجوه كثيرة.
    وفي الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: " «كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى من ركبتيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما صاحبكم فقد غامر فسلم» ".





  3. #343
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 339)

    من صــ 281 الى صـ 295






    وقال: " «إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، وإني أتيتك، فقال: " يغفر الله لك يا أبا بكر " ثلاثا، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فلم يجده، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، وغضب حتى أشفق أبو بكر، وقال: أنا كنت أظلم يا رسول الله، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ " فما أوذي بعدها». قال البخاري: سبق بالخير.
    وقد تقدم ما في الصحيحين أن أبا سفيان يوم أحد لم يسأل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ; لعلمه وعلم سائر الناس أن هؤلاء هم رءوس الإسلام، وأن قيامه بهم.
    ولهذا لما سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه في مماته ".
    فقال: " شفيتني يا مالك شفيتني يا مالك ".
    وكثرة الاختصاص والصحبة، مع كمال المودة والائتلاف والمحبة، والمشاركة في العلم والدين تقتضي أنهما أحق بذلك من غيرهما، وهذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم.
    أما الصديق فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنهما غيره حتى بينها لهم، لم يحفظ له قول يخالف فيه نصا، وهذا يدل على غاية البراعة والعلم، وأما غيره فحفظت له أقوال كثيرة خالفت النصوص لكون النصوص لم تبلغه.
    والذي وجد لعمر من موافقته النصوص أكثر من موافقة علي، يعرف هذا من عرف مسائل العلم، وأقوال العلماء فيها، والأدلة الشرعية، ومراتبها، وذلك مثل عدة المتوفى عنها زوجها، فإن قول عمر فيها هو الذي وافق النص دون القول الآخر، وكذلك مسألة الحرام: قول عمر وغيره فيها هو الأشبه بالنصوص من القول الآخر الذي هو قول علي، وكذلك المخيرة التي خيرها زوجها، والمفوضة للمهر، ومسألة الخلية، والبرية، والبائن، والبتة، وكثير من مسائل الفقه.
    وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» " ..
    وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «رأيت كأني أتيت بقدح لبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظافري، ثم ناولت فضلي عمر "، قالوا: ما أولته يا رسول الله؟ قال: " العلم» ".

    وفي الترمذي وغيره عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» " ولفظ الترمذي: " «لو كان بعدي نبي لكان عمر» " قال الترمذي: " حديث حسن ".
    وأيضا فإن الصديق استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة، التي هي عمود الإسلام، وعلى إقامة المناسك قبل أن يحج النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى: " «أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» ".
    «وأردفه بعلي، فقال: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور»، فأمر أبا بكر على علي، فكان ممن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمع ويطيع لأبي بكر.
    وهذا بعد غزوة تبوك التي استخلف فيها عليا على المدينة.
    وكتاب أبي بكر في الصدقات أصح الكتب وآخرها، ولهذا عمل به عامة الفقهاء، وغيره في كتابه ما هو متقدم منسوخ، فدل على أنه أعلم بالسنة الناسخة.
    وفي الصحيحين عن أبي سعيد، قال: كان أبو بكر أعلمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
    وأيضا فالصحابة لم يتنازعوا في زمن أبي بكر في مسألة إلا فصلها، وارتفع النزاع، فلا يعلم بينهم في زمانه مسألة تنازعوا فيها إلا ارتفع النزاع بينهم بسببه، كتنازعهم في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ودفنه، وميراثه، وتجهيزه جيش أسامة، وقتال مانعي الزكاة، وغير ذلك من المسائل الكبار.
    بل كان رضي الله عنه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حقا، يعلمهم، ويقومهم، ويشجعهم، ويبين لهم من الأدلة ما تزول معه الشبهة، فلم يكونوا معه يختلفون.
    وبعده فلم يبلغ علم أحد وكماله علم أبي بكر وكماله، فصاروا يتنازعون في بعض المسائل، كما تنازعوا في الجد والإخوة، وفي الحرام، والطلاق الثلاث، وفي متعة الحج، ونفقة المبتوتة وسكناها، وغير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على عهد أبي بكر.
    وكانوا يخالفون عمر وعثمان وعليا في كثير من أقوالهم، ولم يعرف أنهم خالفوا الصديق في شيء مما كان يفتي به ويقضي، وهذا يدل على غاية العلم،وقام رضي الله عنه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام الإسلام فلم يخل بشيء، بل أدخل الناس من الباب الذي خرجوا منه، مع كثرة المخالفين من المرتدين وغيرهم، وكثرة الخاذلين فكمل به من علمهم ودينهم ما لا يقاومه فيه أحد.

    وكانوا يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انقطع هذا الاتصال اللفظي بموته.
    قال أبو القاسم السهيلي: ظهر سر قوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} (سورة التوبة: 40) في اللفظ والمعنى، فإنهم قالوا: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انقطع هذا بموته.
    وأيضا فعلي تعلم من أبي بكر بعض السنة، وأبو بكر لم يتعلم من علي شيئا، ومما يبين هذا أن علماء الكوفة الذين صحبوا عمر وعليا، كعلقمة والأسود وشريح وغيرهم، كانوا يرجحون قول عمر على قول علي، وأما تابعو المدينة ومكة والبصرة فهذا عندهم أظهر وأشهر من أن يذكر، وإنما ظهر علم علي وفقهه في الكوفة بحسب مقامه فيها عندهم مدة خلافته، وكل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر وعمر لا في فقه ولا علم ولا دين، بل كل شيعته الذين قاتلوا معه كانوا مع سائر المسلمين متفقين على تقديم أبي بكر وعمر،
    إلا من كان ينكر عليه ويذمه، مع قلتهم وحقارتهم وخمولهم.
    وهم ثلاث طوائف: طائفة غلت فيه، وادعت فيه الإلهية، وهؤلاء حرقهم بالنار.
    وطائفة سبت أبا بكر رأسهم عبد الله بن سبأ، فطلب علي قتله حتى هرب منه إلى المدائن.
    وطائفة كانت تفضله حتى قال: لا يبلغني عن أحد أنه فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري.
    وقد روي عن علي من نحو ثمانين وجها أنه قال على منبر الكوفة: " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ".

    وفي صحيح البخاري وغيره من رواية رجال همدان خاصته التي يقول فيهم:
    ولو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلي بسلام أنه قال وقد سأله ابنه محمد ابن الحنفية: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قال: ثم من؟ قال: ثم عمر، قال: ثم أنت؟ قال: إنما أبوك رجل من المسلمين.
    قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان الثوري،
    حدثنا جامع بن شداد، حدثنا أبو يعلى منذر الثوري، عن محمد ابن الحنفية، قال: قلت لأبي: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بني، أوما تعرف؟ فقلت: لا، فقال أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر ".
    وهذا يقوله لابنه الذي لا يتقيه، ولخاصته، ويتقدم بعقوبة من يفضله عليهما، ويراه مفتريا. والمتواضع لا يجوز أن يتقدم بعقوبة من يفضله عليهما، يقول الحق، ولا يسميه مفتريا.
    وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم، ورأس الفضائل العلم، قال تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [سورة الزمر: 9]، والدلائل على ذلك كثيرة، وكلام العلماء كثير في ذلك.
    [فصل رد الرافضي لكثير مما ورد في فضائل أبي بكر رضي الله عنه والرد عليه]
    فصل.
    قال الرافضي: " الثالث ما ورد فيه من الفضائل كآية
    الغار وقوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى} [سورة الليل: 17]، وقوله: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد} [سورة الفتح: 16] والداعي هو أبو بكر: وكان أنيس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العريش يوم بدر، وأنفق على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقدم في الصلاة ".
    قال: " والجواب أنه لا فضيلة له في الغار لجواز أن يستصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره.
    وأيضا فإن الآية تدل على نقيضه لقوله: {لا تحزن} فإنه يدل على خوره وقلة صبره، وعدم يقينه بالله تعالى وعدم رضا بمساواته النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقضاء الله وقدره ; ولأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان معصية كان ما ادعوه من الفضيلة رذيلة.
    وأيضا فإن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله
    شرك معه المؤمنين إلا في هذا الموضع ولا نقص أعظم منه.

    وأما: {وسيجنبها الأتقى}، فإن المراد "أبو الدحداح، حيث اشترى نخلة شخص لأجل جاره، وقد عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صاحب النخلة نخلة في الجنة، فأبى فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له ووهبها الجار؛ فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عوضها له بستانا في الجنة".
    وأما قوله تعالى: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد} [سورة الفتح: 16]، [يريد سندعوكم إلى قوم]، فإنه أراد الذين تخلفوا عن الحديبية. والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى بقوله:
    {قل لن تتبعونا} [سورة الفتح: 15] لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ثم قال: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون} [سورة الفتح: 16] يريد سندعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي بأس شديد، وقد دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوات كثيرة: كمؤتة وحنين، وتبوك، وغيرهما؛ فكان الداعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
    وأيضا جاز أن يكون [علي] هو الداعي، حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين؛ وكان رجوعهم إلى طاعته [إسلاما] لقوله عليه الصلاة والسلام: "يا علي حربك حربي"، وحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر.
    وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أنسه بالله تعالى مغنيا له عن كل أنيس؛ لكن لما عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمره
    لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال حيث هرب عدة مرات في غزواته. وأيما أفضل: القاعد عن القتال، أو المجاهد بنفسه في سبيل الله؟.
    وأما إنفاقه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكذب ; لأنه لم يكن ذا مال، فإن أباه كان فقيرا في الغاية، وكان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان بمد كل يوم يقتات به؛ فلو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه. وكان أبو بكر في الجاهلية معلما للصبيان وفي الإسلام كان خياطا، ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة فقال: إني محتاج إلى القوت فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان قبل الهجرة غنيا بمال خديجة، ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش. وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر البتة شيء، ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن، كما نزل في علي: {هل أتى} [سورة الإنسان: 1].
    ومن المعلوم أن النبي [- صلى الله عليه وسلم -] أشرف من الذين تصدق عليهم أمير المؤمنين، والمال الذي يدعون إنفاقه أكثر، فحيث لم ينزل فيه قرآن؛ دل على كذب النقل.
    وأما تقديمه في الصلاة فخطأ؛ لأن بلالا لما أذن بالصلاة أمرته عائشة أن يقدم أبا بكر، ولما أفاق النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع التكبير فقال: من يصلي بالناس؟ فقالوا: أبو بكر،
    فقال: أخرجوني فخرج بين علي والعباس فنحاه عن القبلة وعزله عن الصلاة وتولى هو الصلاة ".
    قال الرافضي: " فهذه حال أدلة القوم، فلينظر العاقل بعين الإنصاف وليقصد اتباع الحق دون اتباع الهوى، ويترك تقليد الآباء والأجداد؛ فقد نهى الله تعالى [في كتابه] عن ذلك ولا تلهيه الدنيا عن إيصال الحق [إلى] مستحقه، ولا
    يمنع المستحق عن حقه، فهذا آخر ما أردنا إثباته في هذه المقدمة.
    والجواب أن يقال: في هذا الكلام من الأكاذيب والبهت والفرية ما لا يعرف مثله لطائفة من طوائف المسلمين، ولا ريب أن الرافضة فيهم شبه قوي من اليهود؛ فإنهم قوم بهت يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
    وظهور فضائل شيخي الإسلام: أبي بكر وعمر أظهر بكثير عند كل عاقل من فضل غيرهما؛ فيريد هؤلاء الرافضة قلب الحقائق، ولهم نصيب من قوله تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه} [سورة الزمر: 32]، {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون} [سورة يونس: 17] ونحو هذه الآيات.
    فإن القوم من أعظم الفرق تكذيبا بالحق وتصديقا بالكذب؛ وليس في الأمة من يماثلهم في ذلك.
    أما قوله: " لا فضيلة في الغار ".
    فالجواب: أن الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن لقوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] فأخبر الرسول [- صلى الله عليه وسلم -] أن الله معه ومع صاحبه كما قال لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46].
    وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، قال "نظرت إلى إقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" ".
    وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق فلم يختلف في ذلك اثنان منهم، فهو مما دل القرآن على معناه يقول: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40].
    والمعية في كتاب الله على وجهين: عامة وخاصة؛ فالعامة كقوله تعالى:
    {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم} الآية [سورة الحديد: 4].
    وقوله: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [سورة المجادلة: 7].
    فهذه المعية عامة لكل متناجين، وكذلك الأولى عامة لجميع الخلق.

    ولما أخبر سبحانه في المعية أنه رابع الثلاثة وسادس الخمسة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" "، فإنه لما كان معهما كان ثالثهما كما دل القرآن على معنى الحديث الصحيح. وإن كان هذه معية خاصة وتلك عامة.
    وأما المعية الخاصة فكقوله تعالى لما قال لموسى وهارون: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46]، فهذا تخصيص لهما دون فرعون وقومه فهو مع موسى وهارون دون فرعون.
    وكذلك لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: " {لا تحزن إن الله معنا} " كان معناه: إن الله معنا دون المشركين الذين يعادونهما
    ويطلبونهما كالذين كانوا فوق الغار ولو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصر ما تحت قدميه.
    وكذلك قوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [سورة النحل: 128]، فهذا تخصيص لهم دون الفجار والظالمين وكذلك قوله تعالى: {إن الله مع الصابرين} [سورة البقرة: 153] تخصيص لهم دون الجازعين.
    وكذلك قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي} الآية [سورة المائدة: 12]، وقال: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [سورة الأنفال: 12].
    وفي ذكره سبحانه للمعية عامة تارة وخاصة أخرى: ما يدل على أنه ليس المراد بذلك أنه بذاته في كل مكان، أو أن وجوده عين وجود المخلوقات، ونحو ذلك من مقالات الجهمية الذين يقولون بالحلول العام والاتحاد العام أو الوحدة العامة ; لأنه على هذا القول لا يختص بقوم دون قوم ولا مكان دون مكان، بل هو في الحشوش على هذا القول [وأجواف البهائم]، كما هو فوق العرش [فإذا أخبر أنه مع قوم دون قوم كان هذا مناقضا لهذا المعنى ; لأنه على هذا القول لا يختص
    بقوم دون قوم، ولا مكان دون مكان، بل هو في الحشوش على هذا القول كما هو فوق العرش].
    والقرآن يدل على اختصاص المعية تارة وعمومها أخرى؛ فعلم أنه ليس المراد بلفظ " المعية " اختلاطه.
    وفي هذا أيضا رد على من يدعي أن ظاهر القرآن هو الحلول؛ لكن يتعين تأويله على خلاف ظاهره، ويجعل ذلك أصلا يقيس عليه ما يتأوله من النصوص.
    فيقال له: قولك إن القرآن يدل على ذلك خطأ كما أن قول قرينك الذي اعتقد هذا المدلول خطأ، وذلك لوجوه.
    أحدها: أن لفظ (مع) في لغة العرب إنما تدل على المصاحبة والموافقة والاقتران، ولا تدل على أن الأول مختلط بالثاني في عامة موارد الاستعمال.
    كقوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه} [سورة الفتح: 29] لم يرد أن ذواتهم مختلطة بذاته.
    وقوله: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [سورة التوبة: 119].
    وكذلك قوله: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} [سورة الأنفال: 75].
    وكذلك قوله عن نوح: {وما آمن معه إلا قليل} [سورة هود: 40].
    وقوله عن نوح أيضا: {فأنجيناه والذين معه في الفلك} الآية [سورة الأعراف: 64].
    وقوله عن هود: {فأنجيناه والذين معه برحمة منا} [سورة الأعراف: 72].
    وقول قوم شعيب: {لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا} [سورة الأعراف: 88].





  4. #344
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 340)

    من صــ 296 الى صـ 310




    وقوله: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين} الآية [سورة النساء: 146].
    وقوله: {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [سورة الأنعام: 68].
    وقوله: {ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم} [سورة المائدة: 53].
    وقوله: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم} [سورة الحشر: 11].
    وقوله عن نوح: {اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم} [سورة هود: 48].
    وقوله: {وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} [سورة الأعراف: 47].
    وقوله: {فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} [سورة التوبة: 83].
    وقوله: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} [سورة التوبة: 87].
    وقال: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم} [سورة التوبة: 88].
    ومثل هذا كثير في كلام الله تعالى وسائر الكلام العربي.
    وإذا كان لفظ " مع " إذا استعملت في كون المخلوق مع المخلوق لم تدل على اختلاط ذاته بذاته؛ فهي أن لا تدل على ذلك في حق الخالق بطريق الأولى.
    فدعوى ظهورها في ذلك باطل من وجهين: أحدهما: أن هذا ليس معناها في اللغة ولا اقترن بها في الاستعمال ما يدل على الظهور؛ فكان الظهور منتفيا من كل وجه.
    الثاني: أنه إذا انتفى الظهور فيما هو أولى به فانتفاؤه فيما هو أبعد عنه أولى.
    الثاني: أن القرآن قد جعل المعية خاصة أكثر مما جعلها عامة، ولو كان المراد اختلاط ذاته بالمخلوقات لكانت عامة لا تقبل التخصيص.

    الثالث: أن سياق الكلام أوله وآخره يدل على معنى المعية، كما
    قال تعالى في آية المجادلة: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [سورة المجادلة: 7] فافتتحها بالعلم، وختمها بالعلم فعلم أنه أراد عالم بهم لا يخفى عليه منهم خافية.
    وهكذا فسرها السلف: الإمام أحمد ومن قبله من العلماء كابن عباس والضحاك وسفيان الثوري.
    وفي آية الحديد قال: {ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} [سورة الحديد: 4] فختمها أيضا بالعلم وأخبر أنه مع استوائه على العرش يعلم هذا كله.
    كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأوعال: " "والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه" " فهناك أخبر بعموم العلم لكل نجوى.
    وهنا أخبر أنه مع علوه على عرشه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج
    منها، وهو مع العباد أينما كانوا: يعلم أحوالهم والله بما يعملون بصير.
    وأما قوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [سورة النحل: 128] فقد دل السياق على أن المقصود ليس مجرد علمه وقدرته، بل هو معهم في ذلك بتأييده ونصره، وأنه يجعل للمتقين مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون.
    وكذلك قوله لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46] فإنه معهما بالتأييد والنصر والإعانة على فرعون وقومه كما إذا رأى الإنسان من يخاف فقال له من ينصره: " نحن معك " أي معاونوك وناصروك على عدوك.
    وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لصديقه: " إن الله معنا " يدل على أنه موافق لهما بالمحبة والرضا فيما فعلاه وهو مؤيد لهما ومعين وناصر.

    وهذا صريح في مشاركة الصديق للنبي في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق.
    والمقصود هنا أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: " إن الله معنا هي معية الاختصاص التي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبا بكر على عدونا ويعيننا عليهم.
    ومعلوم أن نصر الله نصر إكرام ومحبة، كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} [سورة غافر: 51] وهذا غاية المدح لأبي بكر؛ إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله، وكان متضمنا شهادة الرسول له بكمال الإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي بين الله فيها غناه عن الخلق فقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} [سورة التوبة: 40].
    ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا أبا بكر. وقال من أنكر صحبة أبي بكر فهو كافر لأنه كذب القرآن.

    وقال طائفة من أهل العلم كأبي القاسم السهيلي وغيره: هذه المعية الخاصة لم تثبت لغير أبي بكر.
    وكذلك قوله: " "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" "؛ بل ظهر اختصاصهما في اللفظ كما ظهر في المعنى فكان يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " محمد رسول الله؛ " فلما تولى أبو بكر بعده صاروا يقولون: " وخليفة رسول الله " فيضيفون الخليفة إلى رسول الله المضاف إلى الله، والمضاف إلى المضاف مضاف تحقيقا لقوله: " {إن الله معنا} "، "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، ثم لما تولى عمر بعده صاروا يقولون: " أمير المؤمنين " فانقطع الاختصاص الذي امتازه به أبو بكر عن سائر الصحابة.
    ومما يبين هذا أن الصحبة فيها عموم وخصوص؛ فيقال: صحبه ساعة ويوما وجمعة وشهرا وسنة وصحبه عمره كله.
    وقد قال تعالى: {والصاحب بالجنب} [سورة النساء: 36] قيل: هو الرفيق في السفر وقيل الزوجة وكلاهما تقل صحبته [وتكثر]، وقد سمى الله الزوجة صاحبة في قوله: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} [سورة الأنعام: 101].
    ولهذا قال أحمد بن حنبل في " الرسالة " التي رواها عبدوس بن مالك
    عنه: " من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة، أو شهرا، أو يوما، أو ساعة، أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه ".
    وهذا قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرهم: يعدون في أصحابه من قلت صحبته ومن كثرت، وفي ذلك خلاف ضعيف.
    والدليل على قول الجمهور ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " "يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون نعم فيفتح لهم". وهذا لفظ مسلم.
    (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين (47)
    فقد أخبر الله سبحانه أن فينا قوما سماعين للمنافقين يقبلون منهم كما قال: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} وإنما عداه باللام لأنه متضمن معنى القبول والطاعة كما قال الله على لسان عبده: " سمع الله لمن حمده " أي استجاب لمن حمده وكذلك {سماعون لهم} أي مطيعون لهم. فإذا كان في الصحابة قوم سماعون للمنافقين فكيف بغيرهم.
    (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (49)

    وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في {الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم - وأظنه قال: هل لك في نساء بني الأصفر؟ - فقال يا رسول الله: إني رجل لا أصبر عن النساء؛ وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر. فائذن لي ولا تفتني}.
    وهذا الجد هو الذي تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة؛ واستتر بجمل أحمر؛ وجاء فيه الحديث: {أن كلهم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر فأنزل الله تعالى فيه: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا}. يقول: إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء فلا يفتتن بهن فيحتاج إلى الاحتراز من المحظور ومجاهدة نفسه عنه فيتعذب بذلك أو يواقعه فيأثم؛ فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها فإن لم يتمكن منها إما لتحريم الشارع وإما للعجز عنها يعذب قلبه وإن قدر عليها وفعل المحظور هلك. وفي الحلال من ذلك من معالجة النساء ما فيه بلاء. فهذا وجه قوله: {ولا تفتني} قال الله تعالى: {ألا في الفتنة سقطوا} يقول نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد: فتنة عظيمة قد سقط فيها فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؟ والله يقول: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}. فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة: فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده وتركه ما أمر الله به من الجهاد. فتدبر هذا؛ فإن هذا مقام خطر؛ فإن الناس هنا ثلاثة أقسام:
    قسم يأمرون وينهون ويقاتلون؛ طلبا لإزالة الفتنة التي زعموا ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة؛ كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة. وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا وهم قد سقطوا في الفتنة وهذه الفتنة المذكورة في " سورة براءة " دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة؛ فإنها سبب نزول الآية.
    وهذه حال كثير من المتدينين؛ يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا بجنس الشهوات؛ وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحظور. وهما متلازمان؛ وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعا أو تركهما جميعا: مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال وشهوات الغي؛ فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهي وجهاد وإمارة ونحو ذلك فلا بد أن يفعل شيئا من المحظورات. فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين. فإن كان المأمور أعظم أجرا من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة؛ وإن كان ترك المحظور أعظم أجرا لم يفوت ذلك برجاء ثواب بفعل واجب يكون دون ذلك؛ فذلك يكون بما يجتمع له من الأمرين من الحسنات والسيئات؛ فهذا هذا. وتفصيل ذلك يطول.
    وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي ولا بد أن يأمر وينهى حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها؛ إما بمعروف وإما بمنكر؛ كما قال تعالى: {إن النفس لأمارة بالسوء} فإن الأمر هو طلب الفعل وإرادته؛ والنهي طلب الترك وإرادته ولا بد لكل حي من إرادة وطلب في نفسه يقتضي بهما فعل نفسه ويقتضي بهما فعل غيره إذا أمكن ذلك؛ فإن الإنسان حي يتحرك بإرادته. وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض وإذا اجتمع اثنان فصاعدا فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر؛ ولهذا كان أقل الجماعة في الصلاة اثنين؛ كما قيل: الاثنان فما فوقهما جماعة؛ لكن لما كان ذلك اشتراكا في مجرد الصلاة حصل باثنين أحدهما إمام والآخر مأموم كما {قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه: إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما؛ وليؤمكما أكبركما} وكانا متقاربين في القراءة.
    وأما الأمور العادية ففي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: {لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أمروا عليهم أحدهم}. وإذا كان الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم: فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ويؤمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله؛ وإلا فلا بد أن يأمر وينهى. ويؤمر وينهى: إما بما يضاد ذلك؛ وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزل الله بالباطل الذي لم ينزله الله وإذا اتخذ ذلك دينا كان دينا مبتدعا. وهذا كما أن كل بشر فإنه متحرك بإرادته همام حارث فمن لم تكن نيته صالحة وعمله عملا صالحا لوجه الله وإلا كان عملا فاسدا أو لغير وجه الله وهو الباطل كما قال تعالى: {إن سعيكم لشتى}.
    (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون (52)
    قال الله تعالى في كتابه: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين} يعني: إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة فمن عاش من المجاهدين كان كريما له ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. ومن مات منهم أو قتل فإلى الجنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم {يعطى الشهيد ست خصال يغفر له بأول قطرة من دمه ويرى مقعده من الجنة ويكسى حلة من الإيمان ويزوج ثنتين وسبعين من الحور العين ويوقى فتنة القبر ويؤمن من الفزع الأكبر} رواه أهل السنن. وقال صلى الله عليه وسلم {إن في الجنة لمائة درجة. ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله سبحانه وتعالى للمجاهدين في سبيله} فهذا ارتفاع خمسين ألف سنة في الجنة لأهل الجهاد. وقال صلى الله عليه وسلم {مثل المجاهد في سبيل الله مثل الصائم القائم القانت الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام} {وقال رجل: أخبرني بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا تستطيعه. قال:أخبرني به؟ قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر وتقوم لا تفتر؟ قال: لا. قال: فذلك الذي يعدل الجهاد في سبيل الله}.
    وهذه الأحاديث في الصحيحين وغيرهما. وكذلك اتفق العلماء - فيما أعلم - على أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد. فهو أفضل من الحج وأفضل من الصوم التطوع وأفضل من الصلاة التطوع. والمرابطة في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة وبيت المقدس حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أوافق ليلة القدر عند الحجر الأسود. فقد اختار الرباط ليلة على العبادة في أفضل الليالي عند أفضل البقاع؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون بالمدينة دون مكة؛ لمعان منها أنهم كانوا مرابطين بالمدينة. فإن الرباط هو المقام بمكان يخيفه العدو ويخيف العدو فمن أقام فيه بنية دفع العدو فهو مرابط والأعمال بالنيات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل} رواه أهل السنن وصححوه. وفي صحيح مسلم " عن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطا أجري عليه عمله وأجري عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان} يعني منكرا ونكيرا. فهذا في الرباط فكيف الجهاد.
    وقال صلى الله عليه وسلم {لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبد أبدا} وقال {من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار}
    فهذا في الغبار الذي يصيب الوجه والرجل فكيف بما هو أشق منه؛ كالثلج والبرد والوحل. ولهذا عاب الله عز وجل المنافقين الذين يتعللون بالعوائق كالحر والبرد. فقال سبحانه وتعالى: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} وهكذا الذين يقولون: لا تنفروا في البرد فيقال: نار جهنم أشد بردا. كما أخرجاه في الصحيحين من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {اشتكت النار إلى ربها فقالت: ربي أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر والبرد فهو من زمهرير جهنم} فالمؤمن يدفع بصبره على الحر والبرد في سبيل الله حر جهنم وبردها والمنافق يفر من حر الدنيا وبردها حتى يقع في حر جهنم وزمهريرها.
    (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون (54)
    وقال {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا}.

    وفي " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " {تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا} " وكانوا يخرجون مع النبي صلى الله عليه وسلم في المغازي كما خرج ابن أبي في غزوة بني المصطلق وقال فيها: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}. " وفي الصحيحين " عن {زيد بن أرقم قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيها شدة؛ فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله. وقال: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى عبد الله بن أبي؛ فسأله فاجتهد يمينه ما فعل وقالوا: كذب زيد يا رسول الله فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقي في {إذا جاءك المنافقون} فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رءوسهم.





  5. #345
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    الدولة
    المملكة العربية السعودية
    المشاركات
    2,057

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

    بارك الله فيك ...

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •