سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ
يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ ): مُخْتَلَفٌ فِيهَا[1]، وَآيُها سِتٌّ وَثَلاثُونَ آيَةً[2].
أَسْمَاءُ السُّورَةِ:
وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ أَسْمَائِها: سُورَةُ المُطَفِّفِينَ، وَسُورَةُ التَّطْفِيفِ، وَسُورَةُ (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ)[3].
الْمَقَاصِدُ الْعَامَّةُ لِلسُّورَةِ:
حَوَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَثيرَ مِنَ الْمَقاصِدِ وَالْمَعانِي الْعَظيمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ[4]:
• التَّحْذيرُ مِنَ التَّطْفِيفِ في الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا سَيُحاسَبُ عَلَيْهِ النَّاسُ يَومَ الْقِيامَةِ.
• ذِكْرُ السِّجِّينِ لِأَهْلِ العِصْيانِ، وَسُوءِ مُنْقَلَبِهِمْ.
• ذِكْرُ العِلِّيِّينَ لِأَهْلِ الإِيمَانِ، وَما هُم فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ.
• وَصْفُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُؤمِنِينَ بِلَمْزِهِمْ وَالسُّخْرِيَّة ِ مِنْهُمْ، وَكَيْفَ انْقَلَبَ الْحالُ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
سَبَبُ النُّزُولِ:
جاءَ في سَبَبِ نُزولِ هَذِهِ السُّورَةِ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنها قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّصلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِي ن ﴾؛ فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ»[5].
شَرْحُ الْآيَاتِ:
قَوْلُهُ: ﴿ وَيْلٌ ﴾: كَلِمَةُ عَذَابٍ وَهَلَاكٍ، أَوْ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ[6]، ﴿ لِّلْمُطَفِّفِي ن ﴾، التَّطْفِيفُ: الْبَخْسُ في الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ؛ لِأنَّ مَا يُبْخَسُ طَفِيفٌ، أَيْ: حَقِيرٌ[7]. قَالَ الذَّهَبيُّ رحمه الله: وَالْمُطَفِّفُ: هُوَ الْمُنْقِصُ لِلْكَيْلِ أَوِ الْوَزْن أَوِ الذِّرَاع أَوِ الصَّلَاةِ، وَعَدَهُمُ اللهُ بِوَيْلٍ وَهُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّم، تَسْتَغِيثُ جَهَنَّمُ مِنْ حرِّهِ -نَعُوذُ بِاللَّه مِنْهُ-"[8].
وَقَدْ فَسَّرَ اللهُ تَعَالَى التَّطْفِيفَ بِقَوْلِهِ:﴿ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون ﴾، أَيْ: إِذَا اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ حُقُوقَهم يَأْخُذُونَها تَامَّةً وَافِيَةً[9].
قَوْلُهُ:﴿ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ ﴾،أَيْ: إِذَا كَالُوا للنَّاسِ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ[10]، ﴿ يُخْسِرُون ﴾، أَيْ: يُنْقِصُونَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ[11].
قَوْلُهُ:﴿ أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُون ﴾، ألَا: اِسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ، والمعنى: أَلَا يَتَيَقَّنُ أُوْلَئكَ الْمُطَفِّفِونَ أَنَّهُم مَّبْعُوْثُوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[12].
قَوْلُهُ:﴿ لِيَوْمٍ عَظِيم ﴾،يَعْني: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَظَّمَهُ لِعِظَمِ مَا يَكُونُ فِيهِ[13].
قَوْلُهُ:﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ ﴾، أَيْ: مِنْ قُبورِهِمْ، ﴿ لِرَبِّ الْعَالَمِين ﴾، أَيْ: يَقُومُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا لِلْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ[14].
قَوْلُهُ:﴿ كَلاَّ ﴾: كَلِمَةُ رَدْعٍ وتَنْبِيه[15]، أَيْ: لَيْسَ الْأمْرُ عَلَى ما هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّطْفِيفِ، وَالْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ[16]، ﴿ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ ﴾، أَيْ: الَّذِي كُتِبَتْ فِيهِ أَعْمَالُهُمْ[17]، ﴿ لَفِي سِجِّين ﴾،أَيْ:مَكَانٍ ضَيِّقٍ في أَسْفَلِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ[18].
قَوْلُهُ:﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّين ﴾،أَيْ: وَما أَعْلَمَكَ -أَيُّهَا الرَّسولُ- ما سِجِّينٌ؟ تَفْخيمًا لِشَأْنِهِ.
قَوْلُهُ:﴿ كِتَابٌ مَّرْقُوم ﴾، لَيْسَ هَذَا تَفْسِيرَ السِّجِّينِ، بَلْ هُوَ بَيَانُ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: ﴿ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ ﴾، أَيْ: هُوَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، أَيْ: مَكْتُوبٌ وَمُثْبَتَةٌ فيهِ أَعْمَالُهُمْ[19].
قَوْلُهُ:﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي ن ﴾، أَيْ: عَذَابٌ شَدِيدٌ في ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلْمُكَذِّبينَ.
قَوْلُهُ:﴿ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّين ﴾،أَيْ: يَوْمِ الْجَزاءِ وَالحِسَابِ، وَسُمِّيَ بِيَوْمِ الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يدِينُ اللهُ الْخَلْقَ بِأَعْمالِهِمْ، وَيُحاسِبُهُمْ عَلَيْهَا[20].
قَوْلُهُ:﴿ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ ﴾،أَيْ: بِيَوْمِ الدِّينِ، ﴿ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ ﴾: مُجَاوِزٍ لِلْحَدِّ[21]، ﴿ أَثِيم ﴾،أَيْ: مُبالِغٍ في ارْتِكَابِ الْآثَامِ وَأَنْوَاعِ الْمَعَاصِي[22].
قَوْلُهُ: ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ﴾،أَيْ: الْمُعْتَدِي الْأَثِيمِ، ﴿ آيَاتُنَا ﴾،أَيْ: الْقُرْآنُ، ﴿ قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِين ﴾،أَيْ: أَبَاطِيلُ الْأَوَّلينَ الْمُسَطَّرَةُ في كُتُبِهِمْ، وَهَذَا مِن فَرْطِ جَهْلِهِ وإعْرَاضِهِ عَنِ الحَقِّ، فَلا تَنْفَعُهُ شَوَاهِدُ النَّقْلِ كَمَا لَمْ تَنْفَعْهُ دَلائِلُ العَقْلِ[23].
قَوْلُهُ:﴿ كَلاَّ ﴾: كلمَةُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ لِلْمُعْتَدِي الْأَثيمِ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْبَاطِلِ، وَتَكذِيب لَهُ، ﴿ بَلْ رَانَ ﴾،أَيْ: غَطَّى، ﴿ عَلَى قُلُوبِهِم ﴾،وَغَلَبَ عَلَيْهَا[24]، ﴿ مَّا كَانُوا يَكْسِبُون ﴾مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي فَهُوَ كَالصَّدَأِ -وَالعِياذُ بِاللهِ-[25]. وَفي الْحَديثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ، حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ ذَاكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ عز وجل فِي الْقُرْآنِ: ﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون ﴾ [سورة المطففين:14]»[26].
قَوْلُهُ:﴿ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ ﴾،أَيْ: يَوْمَ الْقِيامَةِ، ﴿ لَّمَحْجُوبُون ﴾،فَلا يَرَوْنَهُ -وَالعِيَاذُ بِاللهِ-[27].
قَوْلُهُ:﴿ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيم ﴾، أَيْ: دَاخِلِينَ النَّارَ -وَالعِياذُ بِاللهِ-[28].
قَوْلُهُ:﴿ ثُمَّ يُقَالُ ﴾ لَهُمْ تَوْبِيخًا وَتَقْريعًا[29]: ﴿ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُون ﴾ فَتَقُولُونَ: لَا بَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا حِسَابَ وَلَا جَزاءَ[30].
قَوْلُهُ:﴿ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ ﴾،أَيْ: كِتَابَ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فِي أَقْوالِهِمْ وَأَفْعالِهِمْ[31]، ﴿ لَفِي عِلِّيِّين ﴾،أَيْ: لَفِي مَرْتَبَةٍ وَمَكَانٍ عَالٍ في الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ:﴿ وَمَا أَدْرَاكَ ﴾، أَيْ: وَمَا أَعْلَمَك أيُّهَا الرَّسُولُ، ﴿ مَا عِلِّيُّون ﴾،أَيْ: مَا كِتَابُ عِلِّيِّينَ.
قَوْلُهُ:﴿ كِتَابٌ مَّرْقُوم ﴾، الْكَلَامُ فِي ها كمَا مَرَّ في نَظِيرِهِ.
قَوْلُهُ:﴿ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُون ﴾،أَيْ: إِنَّ الْمَلائِكَةَ الْمُقَرَّبينَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى يَحْضُرُون ذَلِكَ الكِتابَ الْمَرْقومَ فَيَحْفَظُونَهُ ، أَوْ يَشْهَدُونَ عَلَى مَا فِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ[32]، وَهَذا يَدُلُّ عَلَى شَرَفِ هَذَا الْكِتَابِ وَشَرَفِ أَهْلِهِ.
ثُمَّ ذَكَر اللهُسبحان وتعالى حَالَهُمْ في الْجَنَّةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كِتابَهُمْ وَعَظَّمَهُ:
قَوْلُهُ:﴿ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيم ﴾، أَيْ: عَظِيمٍ دائِمٍ، وذَلِكَ نَعِيمُهُمْ في الْجَنَّةِ[33].
قَوْلُهُ:﴿ عَلَى الأَرَائِكِ ﴾، أَيْ: عَلَى الْأَسِرَّةِ الْمُزَيَّنَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الزِّيَنَةِ[34]، ﴿ يَنظُرُون ﴾،أَيْ: إِلى رَبِّهِمْ سُبْحانَهُ، وَإِلَى مَا يَسُرُّهُمْ مِنْ أَنْواعِ النِّعَمِ وَالْخَيْراتِ[35].
قَوْلُهُ:﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ﴾، أَيْ: بَهْجَةَ، ﴿ النَّعِيم ﴾، وَحُسْنَهُ وَبَريقَهُ مِمَّا هُمْ فيهِ مِنَ التَّرَفِ والرَّاحَةِ[36].
قَوْلُهُ:﴿ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ ﴾،أَيْ: أَجْوَدِ الْخَمْرِ وَأَصْفَاهُ[37]، ﴿ مَّخْتُوم ﴾، أي: مُحْكَمٍ إِنَاؤُهَا، وَمَسْدُودٍ حتَّى يَفُكَّهُ الْأَبْرارُ[38]، وَالّذِي يَسْقِيهِمْ خَدَمُهُمْ، كَما قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُون * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِين * لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُون ﴾[سورة الواقعة:17-19].
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنى: ﴿ مَّخْتُوم ﴾، أَيْ: مَمْزوج شُرْبُهُ بِرائِحَةِ الْمِسْكِ[39].
قَوْلُهُ:﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ ﴾،أَيْ: آخرُ شَرْبَةٍ مِنْهُ بِرائِحَةِ الْمِسْكِ[40].
قَوْلُهُ:﴿ وَفِي ذَلِكَ ﴾،يَعْنِي: الرَّحِيقَ أَوِ النَّعِيمَ، ﴿ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُو ن ﴾،أَيْ: فَلْيَسْتَبِقِ الْمُتسَابِقُون َ، وَلْيُجَاهِدُوا النُّفوسَ لِيَلْحَقُوا بِالْأَبْرارِ[41].
ثُمَّ بيَّنَ حَالَ هَذَا الشَّرَابِ لِلْأبْرارِ فَقَالَ: ﴿ وَمِزَاجُهُ ﴾، أَيْ: مَخْلُوطٌ[42]، ﴿ مِن تَسْنِيم ﴾،أَيْ: مِنْ عَيْنٍ عَالِيَةٍ في الْجَنَّةِ؛ وَلِهَذا سُمِّيَتْ تَسْنِيمًا لِارْتِفَاعِ مَكَانِهَا[43].
قَوْلُهُ:﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُون ﴾، (عينًا): حالٌ، أوْ نَصْبٌ عَلَى المَدْحِ[44]، والمعنى: فَإنَّهم يَشْرَبُونَها صِرْفًا خالصًا؛ لِأنَّهم لَمْ يَشْتَغِلُوا بِغَيْرِ اللَّهِ[45].
ثم ذَكَرَ اللهُ سُبْحانَهُ حَالهُمْ في الْجَنَّةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كِتابَهُمْ وَعَظَّمَهُ؛ فقال الآيات التالية:
قَوْلُهُ:﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ﴾،أَيْ: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ ﴿ كَانُواْ ﴾،أَيْ: في الدُّنْيَا، ﴿ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُون ﴾، أي:اسْتِهْزاءً[46] وتهَكُّمًا بِهِمْ بِسَبَبِ إِيمانِهِمْ.
قَوْلُهُ:﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ ﴾،أَيْ: إِذَا مَرَّ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُؤمِنِينَ ، ﴿ يَتَغَامَزُون ﴾،أَيْ: يَغْمِزُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُشِيرُونَ بِأعْيُنِهِمْ سُخْرِيَّةً بِهِمْ وَاحْتِقَارًا لَهُمْ[47].
قَوْلُهُ:﴿ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ ﴾، أَيْ: إِذَا رَجَعَ الكُفَّارُ إِلَى أَهْلِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ[48]، ﴿ انقَلَبُواْ ﴾،أَيْ: رَجَعُوا، ﴿ فَكِهِين ﴾،أَيْ: مُتَلَذِّذِينَ بِاسْتِخْفَافِه ِمْ بِالْمُؤْمنينَ وَالسُّخْرِيَةِ مِنهُمْ[49].
قَوْلُهُ:﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ ﴾،أَيْ: وَإِذا رَأَى الْكَافِرُونَ الْمُؤْمِنِينَ[50]، ﴿ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّون ﴾؛ لِكَوْنِهِمْ أَسْلَمُوا، واتَّبَعُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وتَمَسَّكُوا بِمَا جَاءَ بِهِ[51].
قَوْلُهُ:﴿ وَمَا أُرْسِلُوا ﴾، أَيْ: وَمَا وَكَّلَ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاءِ الْمُجْرِمِينَ الْقَائِلِينَ مَا ذُكِرَ، ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾، أَيْ: عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، ﴿ حَافِظِين ﴾، أَيْ: يَحْفَظُونَ عَلَيْهِمْ أعْمَالَهم، وَيَشْهَدُونَ بِرُشْدِهِمْ وَضَلَالِهِمْ[52].
قَوْلُهُ:﴿ فَالْيَوْمَ ﴾، أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُون ﴾، أَيْ: كَمَا ضَحِكُوا هُمْ مِنَ الْمُؤمِنِينَ في الدُّنْيَا[53]؛ جَزَاءً وِفَاقًا.
قَوْلُهُ:﴿ عَلَى الأَرَائِكِ ﴾، أَيْ: عَلَى الْأَسِرَّةِ الْمُزَيَّنَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الزِّينَةِ[54]، ﴿ يَنظُرُون ﴾،أَيْ: يَنْظُرُ الْمُؤمِنُونَ إِلى مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنَ الْكَرَامةِ وَالنَّعِيمِ فِي الجنَّةِ، وَيَنْظُرُونَ إِلى مَا حَلَّ بِالْمُجْرِمِين َ مِنَ الْعَذَابِ[55].
قَوْلُهُ:﴿ هَلْ ثُوِّبَ ﴾، أَيْ: هَلْ جُوزِيَ[56]، ﴿ الْكُفَّارُ مَا ﴾، أَيْ: الَّذِي، ﴿ كَانُوا يَفْعَلُون ﴾،أَيْ: في الدُّنْيَا، وَالَّذِي مِنْ جُمْلَتِهِ الاسْتِهْزاءُ وَالسُّخْرِيَةَ بالمؤْمِنينَ[57]، وَالْجَوَابُ: نَعَمْ، جُوزِيَ الْكُفَّارُ عَلَى الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا جُوزِيَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ.
بَعْضُ الْفَوَائِدِ الْمُسْتَخْلَصَ ةِ مْنَ الْآيَاتِ:
التَّحْذِيْرُ مِنْ التَّطْفِيفِ وَبَيَانُ خُطُورَةِ ظُلْمِ النَّاسِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِي ن ﴾: تَصْرِيحٌ بِالْوَعيدِ الشَّدِيدِ لِمَنْ ظَلَمَ النَّاسَ، وَتَعَدَّى عَلَى حُقوقِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ ، وَأَنَّهُ كَبيرَةٌ مِنْ كَبائِرِ الذُّنوبِ. قَالَ الشِّنْقِيْطِيْ رحمه الله: افْتِتَاحِيَّة هَذِهِ السُّورَة بِالْوَيْلِ لِلْمُطَفِّفِين َ: يُشْعِرُ بِشِدَّةِ خَطَرِ هَذَا الْعَمَلِ، وَهُوَ فِعْلًا خَطِيرٌ; لِأَنَّهُ مِقْيَاسُ اقْتِصَادِ الْعَالَمِ وَمِيزَانُ التَّعَامُلِ، فَإِذَا اخْتَلَّ أَحْدَثَ خَلَلًا فِي اقْتِصَادِهِ، وَبِالتَّالِي اخْتِلَالٌ فِي التَّعَامُلِ، وَهُوَ فَسَادٌ كَبِيرٌ"[58]. قالَ الْبَيْضاوِيُّ: "وَفيْ هَذَا الْإِنْكارِ وَالتَّعْجِيْبِ وَذِكْرِ الظَّنِّ وَوَصْفِ الْيَوْمِ بالعِظَمِ، وَقِيامِ النَّاسِ فيهِ للهِ، وَالتَّعبيرِ عَنْهُ بِرَبِّ الْعالمينَ: مُبالَغاتٌ في الْمَنْعِ عَنِ التّطْفيفِ، وَتَعْظيمُ إِثْمِهِ"[59].
التَّرَابُطُ بَيْنَ التَّطْفِيفِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِي ن * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُون * أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُون * لِيَوْمٍ عَظِيم ﴾ [سورة المطففين:1-5]: أَنَّ الَّذِي يُؤْمنُ بِالْبَعْثِ إِيمانًا حَقِيقِيًّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ بِالتَّطْفيفِ في الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ؛ فَإِذا اشْتَرَى مِنْ غَيْرِهِ أَخَذَ وافِيًا، وَإِنْ باعَ غَيْرَهُ يَنْقُصُ وَيَبْخَسُ. قَالَ القُرْطُبِي رحمه الله: "إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ عَظِيمٌ مِنْ حَالِهِمْ، فِي الِاجْتِرَاءِ عَلَى التَّطْفِيفِ، كَأَنَّهُمْ لَا يُخْطِرُونَ التَّطْفِيفَ بِبَالِهِمْ، وَلَا يُخَمِّنُونَ تَخْمِينًا ﴿ أَنَّهُم مَّبْعُوثُون ﴾ فَمَسْئُولُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ"[60]؛ ولذا فقد قيل: إن من كان صاحب مراقبة لله ربّ العالمين فإنه يستشعر الهيبة في العاجلة، كما يكون حال الناس في المحشر؛ لأنّ اطلاع الله تعالى اليوم مثل اطلاعه غدًا[61]، وَقَالَ السَّعْدِيُّ رحمه الله: "تَوَعَّدَ تَعَالَىْ الْمُطَفِّفِيْن َ، وَتَعَجَّبَ مِنْ حَالِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ عَلَىْ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ﴿ أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُون * لِيَوْمٍ عَظِيم * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين ﴾؛ فَالذِيْ جَرَّأَهُمْ عَلَىْ التَّطْفِيْفِ عَدَمُ إِيْمَانِهِمْ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَإِلَّا فَلَوْ آمَنُوْا بِهِ، وَعَرَفُوْا أَنَّهُمْ يَقُوْمُوْنَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ، يُحَاسِبُهُمْ عَلَىْ الْقَلِيْلِ وَالْكَثِيْرِ، لَأَقْلَعُوْا عَنْ ذَلِكَ وَتَابُوْا مِنْهُ"[62].
عُمُومُ التَّطْفِيفِ وَشُمُولُهُ لِغَيْرِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ:
التَّطْفيفُ لَيْسَ خَاصًّا بِالْكيْلِ وَالْوَزْنِ[63]، بَلْ هُوَ عَامٌّ يَدْخُل فيهِ كُلُّ بَخْسٍ، سَوَاءٌ كانَ بَخْسًا حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مالِكٌ: «لِكُلِّ شَيْءٍ وَفَاءٌ وَتَطْفِيفٌ»[64]، وَإِعْطَاءُ الْمَرْءِ أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ تَطْفِيفٌ، فَكُلُّ مَنْ خَانَ غَيْرَه وَبَخَسَهُ حَقَّهُ أَوِ انْتَقَصَ ممَّا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَهُوَ دَاخِلٌ في هَذَا الْوَعِيدِ. وَمِنَ التَّطْفِيفِ: أَنْ يُطالِبَ الشَّخْصُ بِكُلِّ ما لَهُ مِنَ الْحُقوقِ، وَلَا يَرْضَى أَنْ يُنْتَقَصَ شَيْءٌ مِنْهَا، مَعَ إِخْلَالِهِ هُوَ بِالحْقُوقِ الَّتِي عَلَيْهِ[65]. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله: "فِي هَذَا الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ وَكَلِمَةِ الظَّنِّ، وَوَصْفِ الْيَوْمِ بِالْعَظِيمِ، وَقِيَامِ النَّاسِ فِيهِ لِلَّهِ خَاضِعِينَ، وَوَصْفِ ذَاتِهِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ: بَيَانٌ بَلِيغٌ لِعِظَمِ الذَّنْبِ، وَتَفَاقُمِ الْإِثْمِ فِي التَّطْفِيفِ، وَفِيمَا كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ مِنَ الْحَيْفِ، وَتَرْكِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، وَالْعَمَلِ عَلَى التَّسْوِيَةِ وَالْعَدْلِ، فِي كُلِّ أَخْذٍ وَإِعْطَاءٍ، بَلْ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ"[66].
الْأَمْرُ بِالْأَمَانَةِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْخِيَانَةِ:
تُشيرُ الْآيَاتُ الْكَريمَةُ إِلَى أَنَّ الْإِسْلامَ أَمَرَ بِالْأَمانَةِ وَالْعَدْلِ، وَنَهَى عَنِ الْخِيانَةِ وَالاعْتِداءِ عَلَى حُقُوقِ الْآخَرِينَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: "يَأْمُرُ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، كَمَا تَوَعَّدَ عَلَى تَرْكِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِي ن * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُون * أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُون * لِيَوْمٍ عَظِيم * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين ﴾ [سورة الْمُطَفِّفِينَ :1-6]، وَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ كَانُوا يَبْخَسُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ"[67].
التَّحَلِّي بِخُلُقِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ عِنْدَ الْمُعَامَلَاتِ :
فِي الْآيَاتِ تَحْفيزٌ لِلْمُؤْمِنِ أَنَّهُ إِذَا تَعَامَلَ مَعَ النَّاسِ أَنْ يَتَعامَلَ مَعَهُمْ بِالْعَدْلِ، وَأَنْ يُعْطِيَهُمْ حُقوقَهُمْ وَلَا يَبْخَسُ مِنْهَا شيْئًا، بَلْ إِنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالزِّيادَةِ فَوْقَ حَقِّهِمْ فَهُو أَفْضَلُ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ، فَقَدْ كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَمْحًا في الْبَيْعِ وَالشِّراءِ وَالْأَدَاءِ، يُعْطِي الْحَقَّ وَيَتَفَضَّلُ فيهِ، كَمَا في حَدِيثِ سُوَيْدِ بنِ قَيْسٍ رضي الله عنه قالَ: «جَلَبْتُ أَنَا وَمَخْرَفَةُ العَبْدِيُّ بَزًّا مِنْ هَجَرَ، فَأَتَيْنا بِهِ مَكَّةَ، فَجَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي فَسَاوَمَنَا بِسَرَاوِيلَ، فَبِعْنَاهُ، وَثَمَّ رَجُلٌ يَزِنُ بِالأَجْرِ، فَقَالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: زِنْ وَأَرْجِحْ»[68]، أَيْ: زِنْ لَهُ ثَمَنَ سِلْعَتِه حَتَّى تُوَفِّيَهُ حَقَّهُ وَزِيادَةً عَلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ التَّوجِيهُ عَامًّا في حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنها قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا وَزَنْتُمْ فَأَرْجِحُواْ»[69]، وَهُوَ مِنْ بَابِ الاِحْتِياطِ في بَابِ الْحُقوقِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا لِعِظَمِ شَأْنِها عِنْدَ اللهِ؛ سِيَّما فِيمَا لَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ حَدُّ الْعَدْلِ، فَيَزيدُ في الْأَدَاءِ قَدْرًا لِيَنْدَفِعَ بِهِ احْتِمَال النَّقْصِ، وَالوُقوع فِي التَّطْفيفِ، كَالْمُتَوَضِّئ ِ يَغْسِلُ جُزْءًا مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ تَحْقِيقًا لِاسْتِيعَابِ غَسْلِ وَجْهِهِ، وَلِهَذا نَظائِرُ كَثيرَةٌ.
يتبع