تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 24 من 26 الأولىالأولى ... 14151617181920212223242526 الأخيرةالأخيرة
النتائج 461 إلى 480 من 511

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #461
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْحَجِّ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4336 الى صـ 4350
    الحلقة (460)





    [ ص: 4336 ] والسر في إفراده هذه النعمة ، والتذكير بها دون غيرها من نعمه وأياديه ، أن بها حياة العرب وقوام معاشهم . إذ منها طعامهم وشرابهم ولباسهم وأثاثهم وخباؤهم وركوبهم وجمالهم . فلولا تفضله تعالى عليهم بتذليلها لهم ، لما قامت لهم قائمة . لأن أرضهم ليست بذات زرع وما هم بأهل صناعة مشهورة ، ولا جزيرتهم متحضرة متمدنة . ومن كانوا كذلك ، فيجدر بهم أن يذكروا المتفضل عليهم بما يبقيهم ، ويشكروه ويعرفوا له حقه . من عبادته وحده وتعظيم حرماته وشعائره . فالاعتبار بها من ذلك ، موجب للاستكانة لرازقها ، والخضوع له والخشية منه . نظير الآية - على ما ظهر لنا - قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف هذا أولا . وثانيا : قد يقال : إنما أفردت لتتبع بما هو البر الأعظم والخير الأجزل . وهو مواساة البؤساء منها . فإن ذلك من أجل ما يرضيه تعالى ، ويثيب عليه . والله أعلم .

    فكلوا منها أي : من لحومها . والأمر للندب . وإزاحة ما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه . وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه ، أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ ، فأكل من لحمها ، وحسا من مرقها .

    وعن إبراهيم قال : كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم . فرخص للمسلمين فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل .

    قال في (" الإكليل " ) : والأمر للاستحباب حيث لم يكن الدم واجبا بإطعام الفقراء . وأباح مالك الأكل من الهدي الواجب ، إلا جزاء الصيد والأذى والنذر ، وأباحه أحمد ، إلا من جزاء الصيد والنذر . وأباح الحسن الأكل من الجميع تمسكا بعموم الآية . وذهب قوم إلى أن [ ص: 4337 ] الأكل من الأضحية واجب ، لظاهر الأمر . وقوم إلى أن التصدق منها ندب ، وحملوا الأمر عليه . ولا تحديد فيما يؤكل أو يتصدق به ، لإطلاق الآية . انتهى .

    وأطعموا البائس أي : الذي أصابه بؤس : أي : شدة : الفقير أي : الذي أضعفه الإعسار ، والأمر هنا للوجوب . وقد قيل به في الأول أيضا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [29 - 31] ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق .

    ثم أي : بعد الذبح : ليقضوا تفثهم أي : ليؤدوا إزالة وسخهم من الإحرام ، بالحلق والتقصير وقص الأظفار ولبس الثياب : وليوفوا نذورهم أي : ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم : وليطوفوا بالبيت العتيق أي : طواف الإفاضة . وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج . ويقع به تمام التحلل . والعتيق : (القديم ) . لأنه أول بيت وضع للناس . أو المعتق من تسلط الجبابرة : ذلك خبر محذوف . أي : الأمر ذلك . وهو وأمثاله من أسماء الإشارة ، تطلق للفصل بين الكلامين ، أو بين وجهي كلام واحد .

    قال الشهاب : والمشهور في الفصل (هذا ) كقوله : هذا وإن للطاغين لشر مآب [ ص: 4338 ] واختيار (ذلك ) هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته . وهو من الاقتضاب القريب من التخلص ، لملاءمة ما بعده لما قبله ، كما هنا : ومن يعظم حرمات الله أي : أحكامه . أو الحرم وما يتعلق بالحج من المناسك . و(الحرمات ) جمع حرمة وهو ما لا يحل هتكه ، بل يحترم شرعا : فهو خير له عند ربه أي : ثوابا . و(خير ) اسم تفضيل حذف متعلقه . أي : من غيره ، أو ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقديره ، قاله الشهاب . والثاني هو الأظهر ، لأنه أسلوب التنزيل في موضع لا يظهر التفاضل فيها . وإيثاره ، مع ذلك ، لرقة لفظه ، وجمعه بين الحسن والروعة : وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم أي : آية تحريمه . وذلك قوله في سورة المائدة : حرمت عليكم الميتة والدم والمعنى : أن الله قد أحل لكم الأنعام كلها ، إلا ما استثناه في كتابه . فحافظوا على حدوده . وإياكم أن تحرموا مما أحل لكم شيئا . كتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك . وأن تحلوا مما حرم الله . كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك . أفاده الزمخشري .

    فاجتنبوا الرجس من الأوثان تفريع على ما سبق من تعظيم حرماته تعالى . فإن ترك الشرك واجتناب الأوثان من أعظم المحافظة على حدوده تعالى . و(من ) بيانية . أي : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، كما تجتنب الأنجاس . وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها . قال الزمخشري : سمى الأوثان رجسا وكذلك الخمر والميسر والأزلام ، على طريق التشبيه . يعني أنكم ، كما تنفرون بطباعكم عن الرجس وتجتنبونه ، فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة . ونبه على هذا المعنى بقوله : رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه جعل العلة في اجتنابه أنه رجس ، والرجس مجتنب . وقوله تعالى : واجتنبوا قول الزور تعميم بعد تخصيص . فإن عبادة الأوثان رأس الزور . كأنه لما حث على تعظيم الحرمات ، أتبعه ذلك ، ردا لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب . وتعظيم الأوثان والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك ، [ ص: 4339 ] وإعلاما بأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه ، وصدق القول ، أعظم الحرمات وأسبقها خطوا : حنفاء لله مخلصين له الدين ، منحرفين عن الباطل إلى الحق : غير مشركين به أي : شيئا من الأشياء . ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى ، فقال تعالى : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أي : سقط منها فقطعته الطيور في الهواء : أو تهوي به الريح أي : تقدمه : في مكان سحيق أي : بعيد مهلك لمن هوى فيه . و(أو ) للتخيير أو التنويع . قال الزمخشري : يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق . فإن كان تشبيها مركبا ، فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية . بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير ، فتفرق مزعا في حواصلها . أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة . وإن كان مفرقا ، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله ، بالساقط من السماء . والأهواء التي تتوزع أفكاره ، بالطير المختطفة . والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة ، بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة . فكتب الناصر عليه : أما على تقدير أن يكون مفرقا فيحتاج تأويل تشبيه المشرك بالهاوي من السماء ، إلى التنبيه على أحد أمرين : إما أن يكون الإشراك المراد ردته ، فإنه حينئذ كمن علا إلى السماء بإيمانه ثم هبط بارتداده وإما أن يكون الإشراك أصليا ، فيكون قد عد تمكن المشرك من الإيمان ومن العلو به ثم عدوله عنه اختيارا ، بمنزلة من علا إلى السماء ثم هبط كما قال تعالى : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات فعدهم مخرجين من النور وما دخلوه قط ، ولكن كانوا متمكنين منه . وفي تقريره تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر ، بالطير المختطفة ، وفي تشبيه تطويح الشيطان بالهوي مع الريح في مكان سحيق - نظر . لأن الأمرين ذكرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين . فإذا جعل الأول مثلا لاختلاف الأهواء [ ص: 4340 ] والأفكار ، والثاني مثلا لنزغ الشيطان فقد جعلهما شيئا واحدا . لأن توزع الأفكار واختلاف الأهواء ، مضاف إلى نزغ الشيطان ، فلا يتحقق التقسيم المقصود . والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك . فنقول : لما انقسمت حال الكفر إلى قسمين لا مزيد عليهما ، الأول منهما : المتذبذب والمتمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة . فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته ، فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر ، وذلك حال المذبذب . لا يلوح له خيال إلا اتبعه ونزل عما كان عليه . والثاني : مشرك مصمم على معتقد باطل . لو نشر بالمنشار لم يكع ولم يرجع . لا سبيل إلى تشكيكه ، ولا مطمع في نقله عما هو عليه ، فهو فرح مبتهج بضلالته .

    فهذا مشبه في إقراره على كفره ، باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل فاستقر فيه . ويظهر تشبيه بالاستقرار في الوادي السحيق ، الذي هو أبعد الأحباء عن السماء ، وصف ضلاله بالبعد في قوله تعالى : أولئك في ضلال بعيد و : ضلوا ضلالا بعيدا أي : صمموا على ضلالهم فبعد رجوعهم إلى الحق فهذا تحقيق القسمين والله أعلم . انتهى كلامه .

    ولا يخفى أن في النظم الكريم مساغا له . إلا أنه لا قاطع به . نعم ، هو من بديع الاستنباط ، ورقيق الاستخراج . فرحم الله ناسخه .

    قال ابن كثير : وقد ضرب تعالى للمشركين مثلا آخر في سورة الأنعام . وهو قوله تعالى : قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى الآية .
    [ ص: 4341 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [32] ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب .

    ذلك ومن يعظم شعائر الله أي : علائم هدايته ، وهو الدين . أو معالم الحج ومناسكه . أو الهدايا خاصة ، لأنها من معالم الحج وشعائره تعالى . كما تنبئ عنه آية : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله وهو الأوفق لما بعده . وتعظيمها أن يختارها عظام الأجرام حسانا سمانا ، غالية الأثمان . ويترك المكاس في شرائها . فقد كانوا يغالون في ثلاث ويكرهون المكاس فيهن : الهدي والأضحية والرقبة .

    وعن سهل : كنا نسمن الأضحية في المدينة وكان المسلمون يسمنون . رواه البخاري .

    وعن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين . رواه البخاري

    وعن البراء مرفوعا : « أربع لا تجوز في الأضاحي ، العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ظلعها ، والكسيرة التي لا تنقي » رواه أحمد وأهل السنن فإنها أي : فإن تعظيمها : من تقوى القلوب أي : من أفعال ذوي التقوى . والإضافة إلى القلوب ، لأن التقوى وضدها تنشأ منها .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [33] لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق .

    لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق أي : لكم في الهدايا منافع درها ونسلها وصوفها وظهرها إلى وقت نحرها . وقد روي في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة قال : « اركبها » . قال : إنها بدنة قال : « اركبها ويحك . في الثانية أو الثالثة » . وقوله : ثم محلها أي : محل الهدايا وانتهاؤها إلى البيت العتيق وهو الكعبة كما قال تعالى : هديا بالغ الكعبة وقال : والهدي معكوفا أن يبلغ محله

    قال في (" الإكليل " ) : فيه أن الهدي لا يذبح إلا بالحرم . وقيل : المعنى : محل هذه الشعائر كلها الطواف بالبيت العتيق . فيقتضي أن الحاج بعد طواف الإفاضة . يحل له كل شيء . وكذا روي عن ابن عباس : ما طاف أحد بالبيت إلا حل ، لهذه الآية . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [34] ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين .

    ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ ص: 4343 ] أي : شرعنا لكل أمة أن ينسكوا . أي : يذبحوا لوجهه تعالى ، على وجه التقرب . وجعل العلة ، أن يذكر اسمه . تقدست أسماؤه . على النسائك . فـ(منسكا ) مصدر ميمي على أصله . أو بمعنى المفعول . وفي الآية تنبيه على أن القربان يجب أن يكون نعما .

    فإلهكم إله واحد فله أسلموا أي : أخلصوا له الذكر خاصة ، لا تشوبوه بإشراك وبشر المخبتين
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [35 - 36] الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون .

    الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم أي : خافت لتأثرهم عند ذكره مزيد تأثر : والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها أي : في ذبحها تضحية : خير من المنافع الدينية والدنيوية : فاذكروا اسم الله عليها صواف أي : قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن . وعن ابن عباس : قياما على ثلاث قوائم ، معقولة يدها اليسرة . يقول : بسم الله ، والله أكبر ، لا إله إلا الله : اللهم منك ولك . وفي الصحيحين عن ابن عمر ; أنه أتى على رجل قد أناخ [ ص: 4344 ] بدنة وهو ينحرها . فقال : ابعثها قياما مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم . وفي صحيح مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع ، قال فيه : فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة . جعل يطعنها بحربة في يده ، فإذا وجبت جنوبها أي : سقطت على الأرض ، وهو كناية عن الموت : فكلوا منها وأطعموا القانع أي : السائل : والمعتر أي : المتعرض بغير سؤال . أو القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال ، والمعتر المتعرض بسؤال وقد استنبط أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء : فيأكل ثلثا ويهدي ثلثا ويتصدق بثلث .

    كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون أي : ذللناها لكم ، لتشكروا إنعامنا ، والشكر صرف العبد ما أنعم عليه ، إلى ما خلق لأجله .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [37] لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين .

    لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم أي : لن يصيب رضاءه لحومها المتصدق بها ، ولا دماؤها المهراقة ، من حيث أنها لحوم ودماء . ولكن بمراعاة النية والإخلاص ، ابتغاء وجهه الأعلى ، ويقرب من هذه الآية قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم إلى آخرها : كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم أي : لتعرفوا عظمته فتوحدوه بالعبادة على ما أرشدكم إلى طريق تسخيرها ، وكيفية التقرب بها على لسان أكرم رسله المبعوث بسعادة الدارين . وإنما كرره تذكيرا للنعمة وتعليلا بما بعده . [ ص: 4345 ] وفي التعليل المذكور شاهد لما قدمناه أولا في معنى قوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فتذكر . وقوله تعالى : وبشر المحسنين أي : المخلصين في أعمالهم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [38] إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور .

    إن الله يدافع عن الذين آمنوا كلام مستأنف ، مسوق لتوطين قلوب المؤمنين ، ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم ، بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج ، ليتفرغوا إلى أداء مناسكه . كذا قاله أبو السعود . وسبقه الرازي إليه . والأولى أن يقال : إنه طليعة لما بعده من الإذن بالقتال ، مبشرة بغاية النصرة والحفظ والكلاءة والعاقبة للمؤمنين . تشجيعا لهم على قتال من ظلمهم ، وتشويقا إلى استخلاص بيته الحرام ، ليتسنى لهم إقامة شعائره وأداء مناسكه . وقوله تعالى : إن الله لا يحب كل خوان كفور أي : في أمانة الله : كفور أي : لنعمته بعبادته غيره ، فلا يرتضي فعلهم ولا ينصرهم . وصيغة المبالغة فيهما ، لأنه في حق المشركين ، وهم كذلك ولأن خيانة أمانة الله وكفران نعمته لا يكون حقيرا ، بل هو أمر عظيم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [39 - 40] أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز .

    [ ص: 4346 ] أذن للذين يقاتلون أي : يقاتلهم المشركون . والمأذون فيه محذوف ، لدلالة المذكور عليه . وقرئ بكسر التاء بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله أي : بغير حق سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين ، لا موجب الإخراج والتسيير . ومثله : هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم .

    ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا أي : لولا كفه تعالى المشركين بالمسلمين ، وإذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين ، لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم ، وعلى متعبداتهم فهدموها .

    قال ابن جرير : ومنه كفه تعالى ببعضهم التظالم . كالسلطان الذي كف به رعيته عن التظالم بينهم ومنه كفه تعالى لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق . ونحو ذلك . وكل ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض . لولا ذلك لتظالموا . فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيعهم ، وما سمى جل ثناؤه . و(الصوامع ) : مباني الرهبانية لخلوتهم . و(البيع ) : معابد النصارى . و(الصلوات ) : روي عن ابن عباس أنه عنى بها كنائس اليهود . سميت بها لأنها محلها . وقيل هي بمعناها الحقيقي . و(هدمت ) : بمعنى عطلت . أو فيه مضاف مقدر : ولينصرن الله من ينصره أي : ينصر دينه وأولياءه .

    قال القاضي : وقد أنجز الله وعده ، بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم ، وأورثهم أرضهم وديارهم إن الله لقوي عزيز
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [41] الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور .

    [ ص: 4347 ] الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور أي : مرجعها إلى حكمه وتقديره . وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم . ثم أشار تعالى إلى تسلية نبيه صلى الله عليه وسلم ، عما يناله من أذى المشركين ، وحاضا له على الصبر على ما يلحقه منهم من التكذيب ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [42 - 44] وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير .

    وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وهم قوم هود : وثمود وهم قوم صالح : وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وهم قوم شعيب : وكذب موسى وإنما لم يقل و(قوم موسى ) كسابقه ، لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط . وفيه شيء آخر كأنه قيل ، بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم : وكذب موسى مع وضوح آياته وعظم معجزاته ، فما ظنك بغيره ؟ أفاده الزمخشري .

    قال الناصر : ويحتمل عندي ، والله أعلم ، أنه لما صدر الكلام بحكاية تكذيبهم ، ثم عدد أصناف المكذبين وطوائفهم ، ولم ينته إلى موسى إلا بعد طول الكلام ، حسن تكريره ليلي قوله : فأمليت للكافرين فيتصل المسبب بالسبب ، كما قال في آية (ق ) بعد تعديدهم : كل كذب الرسل فحق وعيد فربط العقاب والوعيد ، ووصلهما [ ص: 4348 ] بالتعذيب ، بعد أن جدد ذكره ، والله أعلم .

    وإيراد من زعم بأن موسى كذبه قومه بعبادة العجل ، إيراد من لم يفهم معنى التكذيب الذي هو رد دعوة النبي وعدم الإيمان به والإصرار على الكفر بوحيه ، والقيام في وجهه وصد الناس عن اتباعه . وما وقع من قوم موسى هو تخليط ، وخطأ اجتهاد ، وتعنت ولجاج مع الاستظلال بظل دعوته ، والانتظام في سلك إجابته . وقوله تعالى : فأمليت للكافرين أي : أمهلتهم : ثم أخذتهم أي : بالعقوبة : فكيف كان نكير أي : إنكاري عليهم بالإهلاك .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [45] فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد .

    فكأين من قرية أي : فكم من أهالي قرية : أهلكناها أي : بالعذاب : وهي ظالمة أي : مشركة كافرة : فهي خاوية أي : ساقطة : على عروشها أي : سقوفها : وبئر معطلة أي : وكم من بئر متروكة لا يستقى منها ، لهلاك أهلها : وقصر مشيد أي : مرفوع . من (شاد البناء ) : رفعه . أو معناه مطلي ومعمول بالشيد ، بالكسر ، وهو الجص ، أي : مجصص ، أخليناه عن ساكنيه ، ومن شواهد الأول قول عدي بن زيد :


    شاده مرمرا وجلله كل سا ، فللطير في ذراه وكور
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [46] أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .

    أفلم يسيروا أي : أهل مكة في تجارتهم : في الأرض فتكون لهم أي : بما يشاهدونه من مواد الاعتبار : قلوب يعقلون بها أي : ما يجب أن يعقل من التوحيد : أو آذان يسمعون بها أي : ما يجب أن يسمع من الوحي والتخويف : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور الضمير في (فإنها ) للقصة . أو مبهم يفسره (الأبصار ) . والمعنى : ليس الخلل في مشاعرهم ، وإنما هو في عقولهم باتباع الهوى والانهماك في الغفلة . وفائدة ذكر الصدور هو التأكيد مثل : يقولون بأفواههم و : طائر يطير بجناحيه إلا أنه لتقرير معنى الحقيقة ، وهنا لتقرير معنى المجاز .

    وقال الزمخشري : الفائدة زيادة التصوير والتعريف وعبارته : الذي قد تعورف واعتقد ; أن العمى على الحقيقة مكانه البصر ، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها . واستعماله في القلب استعارة ومثل . فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ، ونفيه عن الأبصار ، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف ، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار . كما تقول : (ليس المضاء للسيف ، ولكنه للسانك الذي بين فكيك ) ، فقولك : (الذي بين فكيك ) تقرير لما ادعيته للسانه ، وتثبيت . لأن محل المضاء هو هو لا غير . وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف . وأثبته للسانك ، فلتة ولا سهوا مني ، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا .
    [ ص: 4350 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [47] ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون .

    ويستعجلونك بالعذاب أي : المبين في آية : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ولن يخلف الله وعده أي : فيصيبهم ما أوعدهم به ، ولو بعد حين : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون أي : هو تعالى حليم لا يعجل ، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه ، كيوم واحد عنده ، بالنسبة إلى حلمه . لعلمه بأنه على الانتقام قادر ، وأنه لا يفوته شيء . وإن أنظر وأملى . ولهذا قال بعده :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [48] وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير .

    وكأين من قرية أمليت لها أي : أمهلتها : وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير إلى حكمي مرجع الكل فأجزيهم بأعمالهم . فتأثر هذه الآية ما قبلها صريح في بيان خطئهم في الاستعجال المذكور ، ببيان كمال سعة حلمه تعالى ، وإظهار غاية ضيق عطنهم ، المستتبع لكون المدة القصيرة عنه تعالى ، مددا طوالا عندهم ، حسبما ينطق به قوله تعالى : إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ولذلك يرون مجيئه بعيدا ، ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره ، ويجترئون على الاستعجال به ، ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها ، وقوعا وإخبارا ، ما عنده تعالى من المقدار . أفاده ابن كثير وأبو السعود .





  2. #462
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْحَجِّ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4351 الى صـ 4365
    الحلقة (461)



    وفي (" العناية " ) : لما ذكر استعجالهم ، وبين أنه لا يتخلف ما استعجلوه ، وإنما أخر [ ص: 4351 ] حلما ، لأن اليوم ألف سنة عنده . فما استطالوه ليس بطويل بالنسبة إليه ، بل هو أقصر من يوم . فلا يقال : إن المناسب حينئذ أن ألف سنة كيوم ، والقلب لا وجه له .

    وقال الرازي : لما حكى تعالى من عظم ما هم عليه من التكذيب ، أنهم يستهزئون باستعجال العذاب ، بين أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة فقال : وإن يوما عند ربك يعني فيما ينالهم من العذاب وشدته : كألف سنة لو عد في كثرة الآلام وشدتها . فبين سبحانه أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة ، وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه .

    قال الرازي : وهذا قول أبي مسلم ، وهو أولى الوجوه . انتهى .

    وقد حكاه الزمخشري بقوله : وقيل معناه : كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه ، في طول ألف سنة من سنيكم . لأن أيام الشدائد مستطالة ، أي : تعد طويلة كما قيل :


    تمتع بأيام السرور فإنها قصار وأيام الهموم طوال


    أو كان ذلك اليوم الواحد ، لشدة عذابه ، كألف سنة من سني العذاب . انتهى .

    واعتمد الوجه الأول أبو السعود . وناقش فيما بعده ; بأنه لا يساعده سياق النظم الجليل ولا سياقه . فإن كلا منهما ناطق بأن المراد هو العذاب الدنيوي . وأن الزمان الممتد هو الذي مر عليهم قبل حلوله بطريق الإملاء والإمهال . لا الزمان المقارن له . ألا يرى إلى قوله تعالى : وكأين من قرية إلخ ، فإنه صريح في أن المراد هو الأخذ العاجل الشديد ، بعد الإملاء المديد . انتهى . وفيه قوة . فالله أعلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [49 - 51] قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم [ ص: 4352 ] والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم .

    قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم وهي الجنة : والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم أي : والذين سعوا في رد آياتنا ، وصد الناس عنها مشاقين . فالمعاجزة مستعارة للمشاقة مع المؤمنين ومعارضتهم . فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله . كما يقال : (جاراه في كذا ) . قال تعالى : أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا وقرئ : (معجزين ) بتشديد الجيم . بمعنى أنهم عجزوا الناس وثبطوهم عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بالقرآن . وكلتا القراءتين متقاربة المعنى . وذلك أن من عجز عن آيات الله ، فقد عاجز الله . ومن معاجزة الله التعجيز عن آيات الله ، والعمل بمعاصيه ، وخلاف أمره . وكان من صفة القوم الذين نزلت فيهم الآيات أنهم كانوا يبطئون الناس عن الإيمان بالله واتباع رسوله . ويغالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحسبون أنهم يعجزونه ويغلبونه . وقد ضمن الله له نصره عليهم . فكان ذلك معاجزتهم الله . كذا في الشهاب وابن جرير . ثم أشار تعالى إلى تسلية رسوله صلوات الله عليه ، عما كان يلاقيه من صد شياطين قومه عن سبيل الله ، بأن تلك سنة كل رسول وأن العاقبة له ، فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [52] وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم .

    وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى أي : رغب في انتشار [ ص: 4353 ] دعوته ، وسرعة علو شرعته : ألقى الشيطان في أمنيته أي : بما يصد عنها ، ويصرف المدعوين عن إجابتها : فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي : يبطله ويمحقه : ثم يحكم الله آياته أي : يثبتها : فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض والله عليم يعلم الإلقاءات الشيطانية ، وطريق نسخها من وجه وحيه حكيم يحكم آياته بحكمته . ثم أشار إلى أن من مقتضيات حكمته أنه يجعل الإلقاء الشيطاني فتنة للشاكين المنافقين والقاسية قلوبهم عن قبول الحق ، ابتلاء لهم ليزدادوا إثما . ورحمة للمؤمنين ليزدادوا ثباتا واستقامة ، فقال تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [53] ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد .

    ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض أي : شك وارتياب : والقاسية قلوبهم وهم العتاة المتمردون : وإن الظالمين لفي شقاق أي : خلاف للحق : بعيد عن موافقته جدا ، بسبب ظلمهم وشركهم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [54] وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم .

    وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم أي : بالانقياد ، والخشية . والضمير للقرآن أو لله تعالى : وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى [ ص: 4354 ] صراط مستقيم أي : إلى طريق الحق والاستقامة ، فلا تزل أقدامهم بقبول ما يلقي الشيطان ، ولا تقبل قلوبهم إلا ما يلقي الرحمن ، لصفائها . هذا هو الصواب في تفسير الآية . ولها نظائر تظهر المراد منها كما أشرنا إليه ، لو احتاجت إلى نظير . ولكنها بينة بنفسها ، غنية عن التطويل في التأويل ، لولا ما أحوج المحققين إلى رد ما دسه بعض الرواة هنا من الأباطيل . ونحن نسوق ما قيل فيها من ذلك ، ثم نتبعه بنقد المحققين ، لئلا يبقى في نفس الواقف حاجة .

    قال ابن جرير الطبري : قيل : إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الشيطان كان ألقى على لسانه ، في بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن ، ما لم ينزل الله عليه . فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم واغتم به ، فسلاه الله مما به من ذلك ، بهذه الآيات . ثم ذكر من قال ذلك . فأسند عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس وغيرهما ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قريش ، كثير أهله ، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه . فأنزل الله عليه : { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى } ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } ، ألقى عليه الشيطان كلمتين : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى . فتكلم بها ، ثم مضى فقرأ السورة كلها . فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعا معه ورضوا بما تكلم به .

    قالا : فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة . فلما بلغ الكلمتين المذكورتين قال : ما جئتك بهاتين . فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله تبارك وتعالى عليه يعزيه : وما أرسلنا من قبلك الآية
    .

    وقال القاضي عياض في (" الشفا " ) : اعلم أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين : أحدهما في توهين أصله ، والثاني على تسليمه .

    [ ص: 4355 ] أما المأخذ الأول ، فيكفيك أن هذا لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل . وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم . وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفاسير . وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف بعض نقلته ، واضطراب رواياته ، وانقطاع إسناده ، واختلاف كلماته . ومن حكيت عنه هذه الحكاية من المفسرين والتابعين ، لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب . وأكثر الطرق عنهم فيها ، واهية ضعيفة ، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فيما أحسب (الشك في الحديث ) : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة ، وذكر القصة .

    قال أبو بكر البزار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل ، يجوز ذكره إلا هذا ، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد . وغيره يرسله عن سعيد بن جبير . وإنما يعرف عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس . فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا . وفيه من الضعف ما نبه عليه ، مع وقوع الشك فيما ذكرناه ، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه . وأما حديث الكلبي فما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره ، لقوة ضعفه وكذبه ، كما أشار إليه البزار رحمه الله : والذي منه في الصحيح ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة (والنجم ) وهو بمكة . فسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن .

    هذا توهينه من طريق النقل .

    وأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته عليه السلام ، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة . إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح غير الله وهو كفر ، أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ، حتى ينبهه عليه جبريل عليهما السلام . وذلك كله ممتنع في حقه عليه السلام . أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من [ ص: 4356 ] قبل نفسه عمدا ، وذلك كفر . أو سهوا وهو معصوم من هذا كله . ووجه ثان - وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا . وذلك أن الكلام ، لو كان كما روي ، بعيد الالتئام ، متناقض الأقسام ممتزج المدح بالذم ، متخاذل التأليف . ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ، ممن يخفى عليه ذلك ، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل . فكيف بمن رجح حلمه ، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه ؟ ووجه ثالث - أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين ، نفورهم من أول وهلة ، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة ، وتعييرهم المسلمين والشمات بهم الفينة بعد الفينة . وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة . ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل . ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة . ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة . كما فعلوه مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردة . وكذلك ما روي في قصة القضية . ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت . ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت . فما روي عن معاند فيها كلمة . ولا عن مسلم بسببها بنت شفة . فدل على بطلانها ، واجتثاث أصلها . ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس والجن ، على بعض مغفلي المحدثين ، ليلبس به على ضعفاء المسلمين .

    ووجه رابع - ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت : وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك الآيتين . وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه . لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري ، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم . فمضمون هذا ومفهومه ، أن الله تعالى عصمه من أن يفتري ، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا ، فكيف كثيرا ؟ وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم . وهذا ضد مفهوم الآية ، ويضعف الحديث ، لو صح ، فكيف ولا صحة له ؟ وأما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث ، لو صح . وقد أعاذنا الله من صحته . ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك [ ص: 4357 ] أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين . فمنها ما رواه قتادة ومقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم أصابته سنة عند قراءة هذه السورة . فجرى هذا الكلام على لسانه بحكم النوم . وهذا لا يصح . إذ لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم مثله في حالة من أحواله . ولا يخلقه الله على لسانه ولا يستولي الشيطان عليه في نوم ولا يقظة ، لعصمته في هذا الباب من جميع العمد والسهو . وقد قال عليه السلام : « إن عيني تنامان ولا ينام قلبي » . وفي حديث الكلبي ; أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث نفسه ، فقال ذلك الشيطان على لسانه . وفي رواية ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال : ومنها لما أخبر بذلك قال : إنما ذلك من الشيطان . وكل هذا لا يصح أن يقوله عليه السلام لا سهوا ولا قصدا . ولا يتقوله الشيطان على لسانه . وقيل : لعل النبي صلى الله عليه وسلم قاله أثناء تلاوته ، على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار . كقول إبراهيم : هذا ربي على أحد التأويلات . وكقوله : بل فعله كبيرهم هذا بعد السكت وبيان الفصل بين الكلامين . ثم رجع إلى تلاوته . وهذا ممكن مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد ، وأنه ليس من المتلو . وهو أحد ما ذكره القاضي أبو بكر .

    ومما يظهر في تأويله ، إن سلمنا القصة ، أن يراد بالغرانيق الملائكة . ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح . فلما تأوله المشركون على أن المراد بها آلهتهم . ولبس عليهم الشيطان ذلك وزينه في قلوبهم ، وألقاه إليهم ، نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته ورفع تلاوة تلك اللفظتين . انتهى كلام القاضي ملخصا .

    وقال أبو بكر الباقلاني : وقيل كان صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن ، فارتصده الشيطان في سكتة [ ص: 4358 ] من السكتات . ونطق بتلك الكلمات ، محاكيا نغمته . بحيث سمعه من دنا إليه ، فظنها من قوله تعالى وأشاعها .

    قال : وهذا أحسن الوجوه . ويؤيده ما روي عن ابن عباس من تفسير (تمنى ) بـ(تلا ) وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل . وقال قبله : إن هذه الآية نص في براءة النبي صلى الله عليه وسلم ما نسب إليه ، وأن الشيطان زاده في قوله صلوات الله عليه ، لا أنه عليه السلام قاله .

    قال : وقد سبق إلى ذلك الطبري فصوب هذا المعنى وحوم عليه . واستحسان ابن العربي ذلك ، على فرض صحة القصة ، وإلا فقد قال : ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها . وقال تقي الدين بن تيمية : في الآية قولان والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك . والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله : (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ) . وقالوا : إن هذا لم يثبت . ومن علم أنه ثبت قال : هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ، ولم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم . ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا .

    وقالوا في قوله : إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته هو حديث النفس وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف ، فقالوا : هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه وقالوا : الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث . والقرآن يوافق ذلك . فإن نسخ الله لما يلقي الشيطان ، وإحكامه آياته ، إنما يكون لرفع ما وقع في آياته ، وتمييز الحق عن الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها . وجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ، إنما يكون ذلك ظاهرا يسمعه الناس ، لا باطنا في النفس . والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ ، من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ . وهذا النوع أدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبعده عن الهوى ، من ذلك النوع . فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله ، وهو مصدق في ذلك ، فإذا قال عن نفسه أن الثاني هو الذي [ ص: 4359 ] من عند الله وهو الناسخ ، وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك ، كان أدل على اعتماده للصدق وقول الحق . وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها : لو كان محمد كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية : وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ألا ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ . فبيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان ، هو أدل على تحريه للصدق وبراءته من الكذب . وهذا هو المقصود بالرسالة . فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم تسليما . انتهى .

    وفي كلامه رحمه الله نظر من وجوه :

    أولا : دعواه أن المأثور يوافق القرآن . فإنه ذهاب إلى أن الإلقاء إلقاء في الآيات . ولا تدل الآية عليه ، لا مطابقة ولا التزاما . بل القول بذلك ينافي التنزيل والوحي منافاة النار للماء ، كما ستراه .

    وثانيا : دعواه أن تلك الرواية نقلها ثابت لا يمكن القدح فيه . فقد قدح فيها من لا يحصى من المتقدمين والمتأخرين . ويكفي أن تلميذه الحافظ ابن كثير قال : قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق . وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ، ظنا منهم أن مشركي قريش أسلموا . ولكنها من طرق كلها مرسلة . ولم أرها مسندة من وجه صحيح . وتعداد طرقها ، بعد ضعف أصلها ، لا يفيد . وهذه شبهة يعتمدها كثير من الواقفين مع الروايات . يظنون أن الضعيف بكثرة طرقه يقوى . والحال أن الضعيف ضعيف كيفما جاء . وقد سرت هذه الشبهة للحافظ ابن حجر . فأخذ يقوي بعض طرقها ويصححها من جهة الإسناد . كما ستمر بك مناقشته . ولو كان لها أدنى رائحة من الصحة لأخرجها البخاري معلقة أو موقوفة ، أو أرباب السنن .

    [ ص: 4360 ] وثالثا : اعترافه بأن السؤال وارد على تقدير ثبوتها ، وإلقاء الشيطان ذلك في مسامعهم ، مما يبرهن أن فيها مغامز تنبذها العقول ، كما نبذتها صحة النقول .
    فصل

    وقال الفخر الرازي في (" تفسيره " ) : هذه الرواية باطلة موضوعة ، عند أهل التحقيق . واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول . أما القرآن فوجوه :

    أحدها : قوله تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين

    وثانيها : قوله : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي

    وثالثها : قوله : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى

    ورابعها : قوله تعالى : وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا وكلمة كاد عند بعضهم معناها أنه لم يحصل .

    وخامسها : قوله : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره . فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل .

    وسادسها : إلى قوله : كذلك لنثبت به فؤادك

    وسابعها : قوله : سنقرئك فلا تنسى

    وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنادقة . وصنف فيه كتابا .

    [ ص: 4361 ] وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل . ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم . وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه السلام قرأ سورة (والنجم ) وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن . وليس فيه حديث الغرانيق . وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق .

    وأما المعقول فمن وجوه :

    أحدها : أن من جوز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان ، فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان .

    وثانيها : أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة آمنا أذى المشركين له طول دعوته . حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه . وإنما كان يصلي ، إذا لم يحضروها ، ليلا ، أو في أوقات خلوة . وذلك يبطل قولهم .

    وثالثها : أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة ، دون أن يقفوا على حقيقة الأمر . فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجدا ؟ مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم .

    ورابعها : قوله : فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول ، أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها . فإذا أراد الله إحكام الآيات ، لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا ، أولى .

    وخامسها : وهو أقوى الوجوه ، أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه . وجوزنا [ ص: 4362 ] في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي ، وبين الزيادة فيه . فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال ، أن هذه القصة موضوعة .

    أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكرها . لكنهم ما بلغوا حد التواتر . وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة .

    ثم أطال الرازي في تفصيل المباحث . ونقل عن أبي مسلم الأصفهاني ما توسع به البحث فانظره إن شئت .

    فصل

    وكتب الأستاذ الإمام مفتي مصر ، الشيخ محمد عبده رحمه الله في هذه الآية مقالة بديعية ، نقتبس منها شذرات .

    قال : يعلم كل ناظر في كتابنا الإلهي (" القرآن " ) ما رفع الإسلام من شأن الأنبياء والمرسلين ، والمنزلة التي أحلهم من حيث هم حملة الوحي وقدوة البشر ، في الفضائل وصالح الأعمال . وتنزيهه إياهم عما رماهم به أعداؤهم وما نسبه إليهم المعتقدون بأديانهم . ولا يخفى على أحد من أهل النظر ، في هذا الدين القويم ، أنه قد قرر عصمة الرسل كافة من الزلل في التبليغ ، والزيغ عن الوجهة التي وجه الله وجوههم نحوها من قول أو عمل . وخص خاتمهم محمدا صلى الله عليه وسلم فوق ذلك بمزايا فصلت في ثنايا الكتاب العزيز . وعصمة الرسل في التبليغ عن الله ، أصل من أصول الإسلام . شهد به الكتاب وأيدته السنة ، وأجمعت عليه الأمة . وما خالف فيه بعض الفرق ، فإنما هو في غير الإخبار عن الله وإبلاغ وحيه إلى خلقه . ذلك الأصل الذي اعتمدت عليه الأديان ، حق لا يرتاب فيه ملي يفهم ما معنى الدين . ومع ذلك لم يعدم الباطل فيه أعوانا يعملون على هدمه وتوهين ركنه . أولئك عشاق الرواة [ ص: 4363 ] وعبدة النقل . نظروا نظرة في قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي وفيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن تمنى بمعنى قرأ والأمنية القراءة ) فعمي عليهم وجه التأويل ، على فرض صحة الرواية عن ابن عباس ، فذهبوا يطلبون ما به يصح التأويل في زعمهم . فقيض لهم من يروي في ذلك أحاديث تختلف طرقها وتتباين ألفاظها وتتفق في أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغ منه أذى المشركين ما بلغ ، وأعرضوا عنه ، وجفاه قومه وعشيرته ، لعيبه أصنامهم وزرايته على آلهتهم ، أخذه الضجر من إعراضهم . ولحرصه على إسلامهم تمنى ألا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم . فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة (والنجم ) إلى آخر ما رواه ابن جرير أولا . وقد شايعه عليه كثير من المفسرين ، وفي طباع الناس إلف الغريب ، والتهافت على العجيب . فولعوا بهذه التفاسير ، ونسوا ما رآه جمهور المحققين في تأويلها . وذهب إليه الأئمة في بيانها .

    جاء في صحيح البخاري : وقال ابن عباس في : إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته . ويقال : (أمنيته قراءته ) : إلا أماني يقرؤون ولا يكتبون . انتهى .

    فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ (يقال ) بعدما فسرها بالحديث رواية عن ابن عباس . وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين . فما يدعيه الشراح أن الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة . ثم حكاية تفسير الأمنية بمعنى القراءة بلفظ (يقال ) يفيد أنه غير معتبر عنده . وسيأتي أن المراد بالحديث حديث النفس .

    وقال صاحب الإبريز : إن تفسير (تمنى ) بمعنى : (قرأ ) ، و(الأمنية ) بمعنى : (القراءة ) مروي عن ابن عباس في نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . ورواها علي بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وقد علم ما للناس [ ص: 4364 ] في ابن أبي صالح كاتب الليث ، وأن المحققين على تضعيفه . انتهى .

    وهذا ما في الرواية عن ابن عباس وهي أصل هذه الفتنة وقد رأيت أن المحققين يضعفون راويها . وأما قصة الغرانيق ، فمع ما فيها من الاختلاف ، فقد طعن فيها غير واحد من الأئمة ، حتى قال ابن إسحاق : إنها من وضع الزنادقة . كما تقدم عن الرازي ، ونحوه عن القاضي عياض رحمه الله ، من وهنها وسقوطها من عدة أوجه .

    وأما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رويت مرسلة من طرق على شرط الصحيح ، وأنه يحتج بها من يرى الاحتجاج بالمرسل ، فقد ذهب عليه كما قال في الإبريز ; أن العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين . فالحديث الذي يريد خرمها ونقضها ، لا يقبل على أي وجه جاء . وقد عد الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة ، من الأخبار التي يجب القطع بكذبها . هذا لو فرض اتصال الحديث ، فما ظنك بالمراسيل ؟ وإنما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به ، فيما هو من قبيل الأعمال وفروع الأحكام ، لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالمرسل وما جاءوا به . فهي هفوة من ابن حجر يغفرها الله له .

    هذا ما قاله الأئمة ، جزاهم الله خيرا ، في بيان فساد هذه القصة ، وأنها لا أصل لها . ولا عبرة برأي من خالفهم . فلا يعتد بذكرها في بعض كتب التفسير ، وإن بلغ أربابها من الشهرة ما بلغوا . وشهرة المبطل في بطله ، لا تنفخ القوة في قوله . ولا تحمل على الأخذ برأيه .

    ثم قال الأستاذ رحمه الله : والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذي تحتملها ألفاظها وتدل عليه عباراتها . والله أعلم :

    لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية ، وقرأ شيئا من القرآن ، أن قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الآيات ، يحكي قدرا قدر للمرسلين كافة ، لا يعدونه ولا يقفون دونه . ويصف شنشنة عرفت فيهم ، وفي أممهم . فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى : أن جميع الأنبياء والمرسلين قد سلط الشيطان عليهم فخلط في الوحي المنزل [ ص: 4365 ] إليهم . ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ الله كلام الشيطان ويحكم الله آياته إلخ ، وهذا من أقبح ما يتصور متصور في اختصاص الله تعالى لأنبيائه ، واختيارهم من خاصة أوليائه ! فلندع هذا الهذيان ، ولنعد إلى ما نحن بصدده .
    ذكر الله لنبيه حالا من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله ، ليبين له سنته فيهم . وذلك بعد أن قال : وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود إلى آخر الآيات ثم قال : قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلخ ، فالقصص السابق كان في تكذيب الأمم لأنبيائهم . ثم تبعه الأمر الإلهي بأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لقومه : إنني لم أرسل إليكم إلا لأنذركم بعاقبة ما أنتم عليه ، ولأبشر المؤمنين بالنعيم . وأما الذين يسعون في الآيات والأدلة التي أقيمها على الهدى وطرق السعادة ، ليحولوا عنها الأنظار ويحجبوها عن الأبصار ، ويفسدوا أثرها الذي أقيمت لأجله ، ويعاجزوا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أي : يسابقوهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن القول بذلك . وذلك بلعبهم بالألفاظ وتحويلها عن مقصد قائلها ، كما يقع عادة من أهل الجدل والمماحكة - هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم . وأعقب ذلك بما يفيد أن ما ابتلي به النبي صلى الله عليه وسلم من المعاجزة في الآيات ، قد ابتلي به الأنبياء السابقون . فلم يبعث نبي في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل والتحريف ، ويضادون أمانيه ، ويحولون بينه وبين ما يبتغي ، بما يلقون في سبيله من العثرات . فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعا ، يجب أن تفسر الآية . وذلك يكون على وجهين :






  3. #463
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْحَجِّ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4366 الى صـ 4380
    الحلقة (462)





    [ ص: 4366 ] الأول : أن يكون (تمنى ) بمعنى : (قرأ ) و(الأمنية ) بمعنى : (القراءة ) وهو معنى قد يصح . وقد ورد استعمال اللفظ فيه ; قال حسان بن ثابت في عثمان رضي الله عنهما :


    تمنى كتاب الله أول ليله * * وآخره لاقى حمام المقادر


    وقال آخر :


    تمنى كتاب الله أول ليله * * تمني داود الزبور على رسل


    غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه ، بل على المعنى المفهوم من قولك : (ألقيت في حديث فلان ) ، إذا أدخلت فيه ما ربما يحتمله لفظه ، ولا يكون قد أراده . أو نسبت إليه ما لم يقله تعللا بأن ذلك الحديث يؤدي إليه . وذلك من عمل المعاجزين الذين ينصبون أنفسهم لمحاربة الحق ، يتبعون الشبهة ، ويسعون وراء الريبة ، فالإلقاء بهذا المعنى دأبهم ، ونسبة الإلقاء إلى الشيطان لأنه مثير الشبهات بوساوسه ، مفسد القلوب بدسائسه ، وكل ما يصدر من أهل الضلال يصح أن ينسب إليه . ويكون المعنى : وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا حدث قومه عن ربه ، أو تلا وحيا أنزل إليه في هدى لهم ، قام في وجهه مشاغبون ، يحولون ما يتلوه عليهم عن المراد منه . ويتقولون عليه ما لم يقله ، وينشرون ذلك بين الناس ، ليبعدوهم عنه ، ويعدلوا بهم عن سبيله ، ثم يحق الله الحق ويبطل الباطل . وما زال الأنبياء يصبرون على ما كذبوا وأوذوا ، ويجاهدون في الحق ، ولا يعتدون بتعجيز المعجزين ، ولا بهزء المستهزئين إلى أن يظهر الحق بالمجاهدة ، وينتصر على الباطل بالمجالدة . فينسخ الله تلك الشبه ويجتثها من أصولها ، ويثبت آياته ويقررها . وقد وضع الله هذه السنة في الناس ليتميز الخبيث من الطيب ، فيفتتن الذين في قلوبهم مرض ، وهم ضعفاء العقول ، بتلك الشبه والوساوس ، فينطلقون وراءها . ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة ، فيتخذونها سندا يعتمدون عليها في جدلهم . ثم يتمحص الحق عند الذين أوتوا العلم ، ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه ، فيعلمون أنه الحق من ربك فيصدقون به ، فتخبت وتطمئن له قلوبهم . والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذي [ ص: 4367 ] يستقر بالعقل في قرارة اليقين . وبين المغالطات وضروب السفسطة التي تطيش بالفهم ، وتطير به مع الوهم ، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين . وسواء أرجعت الضمير في (أنه الحق ) إلى ما جاءت به الآيات المحكمات من الهدى الإلهي أو إلى القرآن ، وهو أجلها ، فالمعنى من الصحة على ما يراه أهل التمكين . هؤلاء الذين أوتوا العلم هم الذين آمنوا . وهم الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم . ولم يجعل للوهم عليها سلطانا ، فيحيد بهم عن ذلك النهج القويم . وأما الذين كفروا وهم ضعفاء العقول ومرضى القلوب ، أو أهل العناد وزعماء الباطل وقساة الطباع ، الذين لا تلين أفئدتهم ولا تبش للحق قلوبهم فأولئك لا يزالون في ريب في الحق أو الكتاب . لا تستقر عقولهم عليه ، ولا يرجعون في متصرفات شؤونهم إليه . حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة ، فيلاقوا حسابهم عند ربهم . أو إن امتد بهم الزمن ، ومادهم الأجل ، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم . يوم حرب يسامون فيه سوء العذاب ، القتل أو الأسر . ويقذفون إلى مطارح الذل وقرارات الشر . فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة ، بل يسلبون ما كان لديهم ويساقون إلى مصارع الهلكة . وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته . ما أقرب هذه الآيات في مغازيها ، إلى قوله تعالى في سورة آل عمران : هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب وقد قال بعد ذلك : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار ثم قال : قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد إلخ الآيات . [ ص: 4368 ] وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى . فالذين في قلوبهم زيغ هم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم . والراسخون في العلم هم الذين أوتوا العلم ، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم . فيقولون آمنا به كل من عند ربنا ، فتخبت له قلوبهم ، وإن الله لهاديهم إلى صراط مستقيم . وأولئك هم الذين يفتتنون بالتأويل ، ويشتغلون بقال وقيل بما يلقي الشيطان ، ويصرفهم عن مرامي البيان ، ويميل بهم عن محجة الفرقان . وما يتكئون عليه من الأموال والأولاد ، لن يغني عنهم من الله شيئا . فستوافيهم آجالهم ، وتستقبلهم أعمالهم . فإن لم يوافهم الأجل على فراشهم . فسيغلبون في هراشهم . وهذه سنة جميع الأنبياء مع أممهم ، وسبيل الحق مع الباطل من يوم أن رفع الله الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه ، وبين ما يحفظه وما يذهب ببقائه . وكما لا مدخل لقصة الغرانيق في آيات آل عمران ، لا مدخل لها في آيات سورة الحج ، هذا هو الوجه الأول في تفسير الآيات : وما أرسلنا إلى آخرها ، على تقدير أن (تمنى ) بمعنى : (قرأ ) وأن (الأمنية ) بمعنى : (القراءة ) والله أعلم .

    الوجه الثاني : في تفسير الآيات : أن التمني على معناه المعروف . وكذلك الأمنية . وهي أفعولة بمعنى المنية . وجمعها : أماني كما هو مشهور . قال أبو العباس أحمد بن يحيى : التمني حديث النفس بما يكون وبما لا يكون . قال : والتمني سؤال الرب . وفي الحديث : « إذا تمنى أحدكم فليتكثر فإنما يسأل ربه » وفي رواية : (فليكثر ) . قال ابن الأثير : (التمني ) تشهي حصول الأمر المرغوب فيه ، وحديث النفس بما يكون وبما لا يكون . وقال أبو بكر : تمنيت الشيء إذا قدرته وأحببت أن يصير إلي . وكل ما قيل في معنى التمني على هذا الوجه ، فهو يرجع إلى ما ذكرناه ويتبعه معنى الأمنية . ما أرسل الله من رسول ولا نبي ليدعو قوما إلى هدي جديد ، أو شرع سابق شرعه لهم ، ويحملهم على التصديق بكتاب جاء به نفسه إن كان رسولا ; أو جاء به غيره إن كان نبيا بعث ليحمل الناس على اتباع من سبقه ، إلا وله أمنية في قومه . وهي أن يتبعوه [ ص: 4369 ] وينحازوا إلى ما يدعوهم إليه ، ويستشفوا من دائهم بدوائه ، ويعصوا أهواءهم بإجابة ندائه . وما من رسول أرسل إلا وقد كان أحرص على إيمان أمته . وتصديقهم برسالته ، منه على طعامه الذي يطعم ، وشرابه الذي يشرب ، وسكنه الذي يسكن إليه . ويغدو عنه ويروح علينا . وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك في المقام الأعلى ، والمكان الأسمى . قال الله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا وقال : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وقال : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وفي الآيات ما يطول سرده ، مما يدل على أمانيه صلى الله عليه وسلم المتعلقة بهداية قومه ، وإخراجهم من ظلمات ما كانوا فيه ، إلى نور ما جاء به . وما من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية ، ألقى الشيطان في سبيله العثرات ، وأقام بينه وبين مقصده العقبات . ووسوس في صدور الناس . وسلبهم الانتفاع بما وهبوا من قوة العقل والإحساس ، فثاروا في وجهه ، وصدوه عن قصده ، وعاجزوه حتى لقد يعجزونه ، وجادلوه بالسلاح والقول حتى لقد يقهرونه . فإذا ظهروا عليه ، والدعوة في بدايتها ، وسهل عليهم إيذاؤه وهو قليل الأتباع ضعيف الأنصار ، ظنوا الحق من جانبهم ، وكان فيما ألقوه من العوائق بينه وبين ما عمد إليه ، فتنة لهم .

    غلبت سنة الله في أن يكون الرسل من أواسط قومهم ، أو من المستضعفين فيهم ، ليكون العامل في الإذعان بالحق محض الدليل وقوة البرهان . وليكون الاختيار المطلق هو الحامل لمن يدعى إليه على قبوله . ولكيلا يشارك الحق الباطل في وسائله ، أو يشاركه في نصب شراكه وحبائله . أنصار الباطل في كل زمان ، هم أهل الأنفة والقوة والجاه والاعتزاز بالأموال والأولاد والعشيرة والأعوان والغرور بالزخارف . والزهو بكثرة المعـــــارف . [ ص: 4370 ] وتلك الخصال إنما تجتمع كلها أو بعضها في الرؤساء وذوي المكانة من الناس فتذهلهم عن أنفسهم ، وتصرف نظرهم عن سبيل رشدهم . فإذا دعا إلى الحق داع ، عرفته القلوب النقية من أوضار هذه الفواتن ، وفزعت إليه النفوس الصافية والعقول المستعدة لقبوله ، بخلوصها من هذه الشواغل . وقلما توجد إلا عند الضعفاء وأهل المسكنة فإذا التف هؤلاء حول الداعي وظافروه على دعوته ، قام أولئك المغرورون يقولون : ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين فإذا استدرجهم الله على سنته ، وجعل الجدال بينهم وبين المؤمنين سجالا ، افتتن الذين في قلوبهم مرض من أشياعهم ، وافتتنوا هم بما أصابوا من الظفر في دفاعهم . ولكن الله غالب على أمره . فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات ، ويرفع هذه الموانع وتلك العقبات ، ويهب السلطان لآياته فيحكمها ويثبت دعائمها ، وينشئ من ضعف أنصارها قوة ، ويخلف لهم من ذلتهم عزة ، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى : فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وفي حكاية هذه السنة الإلهية التي أقام عليها الأنبياء والمرسلين ، تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم عما كان يلاقي من قومه ، ووعد له بأنه سيكمل له دينه ، ويتم عليه وعلى المؤمنين نعمته ، مع استلفاتهم إلى سيرة من سبقهم : { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب

    هذا هو التأويل الثاني في معنى الآية . يدل عليه ما سبق من الآيات ، ويرشد إلى سياق [ ص: 4371 ] القصص السابق في قوله : وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح إلخ . وأنت ترى أن قصة الغرانيق لا تتفق مع هذا المعنى الصحيح .

    وهناك تأويل ثالث ذكره صاحب الإبريز وإني أنقله بحروفه وما هو بالبعيد عن هذا بكثير قال : (بعد ذكر أماني الأنبياء في أممهم ، وطمعهم في إيمانهم ، وشأن نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك ، على نحو يقرب مما ذكرناه في الوجه الثاني ) :

    ثم إن الأمة تختلف كما قال تعالى : ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر فأما من كفر فقد ألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة له في الرسالة ، الموجبة لكفره . وكذا المؤمن أيضا لا يخلو أيضا من وساوس ، لأنها لازمة للإيمان بالغيب في الغالب ، وإن كانت تختلف في الناس بالقلة والكثرة ، وبحسب المتعلقات إذا تقرر هذا فمعنى (تمنى ) : أنه يتمنى لهم الإيمان ويحب لهم الخير والرشد والصلاح والنجاح ، فهذه أمنية كل رسول ونبي . وإلقاء الشيطان فيها ، يكون بما يلقيه في قلوب أمة الدعوة من الوساوس الموجبة لكفر بعضهم ، ويرحم الله المؤمنين فينسخ ذلك من قلوبهم ، ويحكم فيها الآيات الدالة على الوحدانية والرسالة ، ويبقي ذلك عز وجل في قلوب المنافقين والكافرين ليفتتنوا به . فخرج من هذا أن الوساوس تلقى أولا في قلوب الفريقين معا ، غير أنها لا تدوم على المؤمنين وتدوم على الكافرين . انتهى .

    وأنت إذا نظرت بين هذا التفسير وبين ما سبقه ، تتبين الأحق بالترجيح . ولو صح ما قاله نقلة قصة الغرانيق لارتفعت الثقة بالوحي وانتقض الاعتماد عليه ، كما قاله القاضي البيضاوي وغيره . ولكان الكلام في الناسخ كالكلام في المنسوخ . يجوز أن يلقي فيه الشيطان ما يشاء ، ولانهدم أعظم ركن للشرائع الإلهية وهو العصمة . وما يقال في المخرج عن ذلك ، ينفر منه الذوق ولا ينظر إليه العقل على أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق العلى لم يرد لا في نظمهم ولا في خطبهم . ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم . إلا ما جاء في معجم ياقوت غير مسند [ ص: 4372 ] ولا معروف بطريق صحيح . وهذا يدل على أن القصة من اختراع الزنادقة ، كما قال ابن إسحاق . وربما كانت منشأ ما أورده ياقوت . ولا يخفى أن الغرنوق والغرنيق لم يعرف في اللغة إلا اسما لطائر مائي أسود أو أبيض . أو هو اسم الكركي أو طائر يشبهه والغرنيق (بالضم وكزنبور وقنديل وسموأل وفردوس وقرطاس وعلابط ) معناه : الشاب الأبيض الجميل . وتسمى الخصلة من الشعر المفتلة : (الغرنوق ) ، كما يسمى به ضرب من الشجر . ويطلق الغرنوق والغرانيق على ما يكون في أصل العوسج اللين النبات . ويقال : (لمة غرانقة ) و(غرانقية ) : أي : ناعمة تفيئها الريح . أو الغرنوق الناعم المستتر من النبات إلخ . ولا شيء في هذه المعاني يلائم الآلهة والأصنام ، حتى يطلق عليها في فصيح القول الذي يعرض على ملوك البلاغة وأمراء الكلام . فلا أظنك تعتقد إلا أنها من مفتريات الأعاجم ومختلقات الملبسين ، ممن لا يميز بين حر الكلام ، وما استعبد منه لضعفاء الأحلام . فراج ذلك على من يذهله الولوع بالرواية ، عما تقتضيه الدراية : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب انتهى كلام الأستاذ رحمه الله .

    وممن جزم بوضع هذه القصة جزما باتا ، الإمام ابن حزم رحمه الله ، حيث قال في كتابه " الملل " في الرد على من لم يوجب العصمة على الأنبياء ما مثاله : استدلوا بالحديث الكاذب الذي لم يصح قط في قراءته عليه السلام في : والنجم إذا هوى وذكروا تلك الزيادة المفتراة التي تشبه من وضعها من قولهم : وإنها لهي (الغرانيق ) العلى وإن شفاعتها لترتجى ، ثم قال بعد : وأما الحديث الذي فيه الغرانيق فكذب بحت موضوع . لأنه لم يصح قط من طريق النقل ، ولا معنى للاشتغال به ، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد . وأما قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآية ، فلا حجة لهم فيها . لأن الأماني الواقعة في النفس لا معنى لها . وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم إسلام عمه أبي طالب ، [ ص: 4373 ] ولم يرد الله عز وجل كون ذلك . فهذه الأماني التي ذكرها الله عز وجل لا سواها ، وحاشا لله أن يتمنى نبي معصية . وبالله تعالى التوفيق .

    وهذا الذي قلنا هو ظاهر الآية دون مزيد تكلف ، ولا يحل خلاف الظاهر إلا بظاهر آخر وبالله تعالى التوفيق . انتهى ، وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [55] ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم .

    ولا يزال الذين كفروا في مرية منه أي : في شك وجدال من التنزيل الكريم ، لما طبع على قلوبهم : حتى تأتيهم الساعة أي : القيامة : بغتة أي : فجأة : أو يأتيهم عذاب يوم عقيم أي : يوم لا يوم بعده . كأن كل يوم يلد ما بعده من الأيام ، فما لا يوم بعده يكون عقيما . والمراد به الساعة أيضا . كأنه قيل : أو يأتيهم عذابها ، فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل . أفاده أبو السعود . أي : لأنه بمعنى : شديد لا مثل له في شدته . وتقدم فيما نقلنا وجه آخر وهو أن المعنى : لا يزال الذين كفروا في ريب من الحق أو الكتاب ، لا تستقر عقولهم عليه حتى تأتي ساعة هلاكهم بغتة ، فيلاقون حسابهم عند ربهم . أو إن امتد بهم الزمن ، ومادهم الأجل ، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم . يوم حرب يسامون فيه سوء عذاب القتل أو الأسر . فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة . بل يسلبون ما كان لديهم ، ويساقون إلى مصارع الهلكة ، وهذا هو العقم في أتم معانيه وأشأم درجاته . انتهى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [56] الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم .

    [ ص: 4374 ] الملك يومئذ أي : يوم تزول مريتهم : لله أي : وحده ، بحيث لا يكون لأحد تصرف لا حقيقة ولا صورة : يحكم بينهم أي : بالمجازاة ، ثم فسر الحكم بقوله تعالى : فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [57 - 59] والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم .

    والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أي : في الجهاد : أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا أي : من الجنة ونعيمها : وإن الله لهو خير الرازقين ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم

    قال في الإكليل : استدل بقوله تعالى : ثم قتلوا أو ماتوا فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي على أن المقتول والميت في سبيل الله سواء في الفضل . أخرجه ابن أبي حاتم وهو رأي قاله جماعة . وخالفه آخرون ففضلوا المقتول وأخرجه ابن أبي حاتم عن سليمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « فمن مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأمر ، وأجرى عليه الرزق ، وأمن من الفتانين . واقرؤوا ما شئتم : والذين هاجروا في سبيل الله إلى : حليم » .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [60] ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور .

    [ ص: 4375 ] ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله أي : ومن جازى ظالما بمقدار ظلمه ، ولم يزد في الاقتصاص منه ، ثم تعدى عليه الظالم ثانيا ، لينصرن الله ذلك المظلوم . وإنما سمي الابتداء بالعقاب ، الذي هو الجزاء ، للازدواج والمشاكلة . أو لأنه سبب الجزاء وفي قوله تعالى : إن الله لعفو غفور تعريض بالحث على العفو والمغفرة . فإنه تعالى مع كمال قدرته ، لما كان يعفو ويغفر ، فغيره أولى بذلك . وتنبيه على قدرته على النصر . إذا لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده . فظهر سر مطابقة العفو الغفور لهذا الموضع .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [61 - 62] ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير .

    ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل أي : ذلك النصر بسبب أنه قادر . ومن آيات قدرته البالغة ، إيلاج أحد الملوين في الآخر ، بزيادته في أحدهما ما ينقص من ساعات الآخر : وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير أي : ذلك الصنع الباهر بأنه المعبود الحق الذي لا مثل له ولا ند ، وأن الذي يدعوه المشركون هو الباطل الذي لا يقدر على صنعة شيء . بل هو المصنوع . أي : فتتركون عبادة من منه النفع وبيده الضر ، وتعبدون الباطل الذي لا تنفعكم عبادته . وأن الله هو ذو العلو على كل شيء ، والعظيم الذي كل شيء [ ص: 4376 ] دون عظمته ، فلا أعلى منه ولا أكبر . ثم أشار إلى آية من آيات صنعه الباهر ، تقريرا لألوهيته ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [63 - 65] ألم تر أن الله أنـزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم .

    ألم تر أن الله أنـزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض أي : جعلها معدة لمنافعكم : والفلك أي : وسخر لكم البحر ، حتى أن الفلك : تجري في البحر بأمره أي : بتيسيره لمنافعكم : ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه أي : بمشيئته وقدرته . أي : ما يمسكها ويحفظها إلا ذلك ، رحمة بكم ، فاشكروا آلاءه وحده : إن الله بالناس لرءوف رحيم أي : في آلائه وآياته المذكورة ، ما أبان فيها من طرق الاستدلال على وحدانيته ، لا إله إلا هو . وكذلك من آيات ألوهيته ما تضمن قوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [66] وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور .

    [ ص: 4377 ] وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور أي : جحود للنعم ، بعبادة غير بارئها . أو إشراكه معه ، مع أنه هو الخالق لكل ذلك ، و القادر عليه ، وغيره لا يملك شيئا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [67] لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم .

    لكل أمة جعلنا أي : وضعنا : منسكا أي : شريعة ومتعبدا : هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر أي : في ذلك الجعل والوضع والحوار في تنوعه في كل أمة ، وعدم وحدته ، أو في أمر ما جئتهم به ، زعما بأنه يستغني عنه بما شرع قبله . لأنه جهل بحكمته تعالى في تكوين الأمم وتربيتها بالشرائع المناسبة لزمنها ومكانها ، وحياتها ومنشئها . ولذلك كانت هذه الشريعة أهدى الشرائع للامتنان بها ، حينما بلغ الإنسان أعلى طور الرشد ولذلك وجبت الدعوة إليها خاصة كما قال سبحانه : وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم أي : اثبت على دينك ثباتا لا يطمعون أن يخدعوك عنه . أو معناه : ثابر على الدعوة إلى ما أمرت به . فلا تضرك منازعتهم . وعلى الكل اتباعك وعدم مخالفتك ، لاستقرار الأمر على شرعتك . لأنها الطريق القويم .

    هذا ، وقال ابن جرير : أصل المنسك في كلام العرب ، الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه ، لخير أو شر . يقال : (إن لفلان منسكا يعتاده ) ، يراد مكانا يغشاه ويألفه لخير أو شر . وقد اختلف أهل التأويل في معنى (النسك ) هنا ، فقيل : عيدا . وقيل : إراقة الدم (ثم استظهر ) أن المعنى إراقة الدم أيام النحر بمنى . لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت إراقة الدم في هذه الأيام ، أي : فلا ينازعك هؤلاء المشركون في ذبحك ومنسكك بقولهم : (أتأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون الميتة التي قتلها الله ) ؟ انتهى .

    [ ص: 4378 ] وعليه ، فيكون المراد بالجعل في قوله تعالى : جعلنا الجعل القدري لا التشريعي . كما قال : ولكل وجهة هو موليها أي : هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته . فلا تتأثر بمنازعتهم لك ، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق . وهذا كقوله تعالى : ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنـزلت إليك وادع إلى ربك أشار له ابن كثير . ونقل الرازي عن ابن عباس ، في رواية عطاء ، أن المراد بالمنسك : الشريعة المنهاج . قال : وهو اختيار القفال ، لقوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وهو الذي آثرناه أولا لظهوره فيه . والله أعلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [68 - 71] وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ويعبدون من دون الله ما لم ينـزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير .

    وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون أي : من أمر الدين : ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ويعبدون من دون الله ما لم ينـزل به سلطانا أي : حجة : وما ليس لهم به علم أي : من ضرورة العقل أو استدلاله : وما للظالمين من نصير أي : يدفع عنهم ما يراد بهم .
    [ ص: 4379 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [72 - 74] وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز .

    وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات أي : حال كونها واضحة الدلالة على حقيقتها وما تضمنته : تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر أي : الإنكار أو الفظيع من التهجم والبسور . أو الشر الذي يقصدونه بظهور مخايله : يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا أي : يبطشون بهم من فرط الغيظ والغضب . قال في (" فتح البيان " ) : وكذلك أهل البدع المضلة ، إذا سمع الواحد منهم ما يتلوه العالم عليه ، من آيات الكتاب العزيز أو من السنة الصحيحة ، مخالفا لما اعتقده من الباطل ، رأيت في وجهه من المنكر ، ما لو تمكن من أن يسطو بذلك لفعل به ما لا يفعله به ما لا يفعله بالمشركين والله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق : قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير يا أيها الناس ضرب أي : بين : مثل أي : حال مستغرب : فاستمعوا له أي : تدبروه حق تدبره . فإن الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع : إن الذين تدعون من دون الله يعني : الأصنام : لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له أي : لخلقه متعاونين . وتخصيصه الذباب ، لمهانته [ ص: 4380 ] وضفعه واستقذاره . وهذا من أبلغ ما أنزل في تجهيل المشركين . حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها ، والإحاطة بالمعلومات عن آخرها ، صورا وتماثيل ، يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله ، ولو اجتمعوا لذلك : وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه أي : هذا الخلق الأقل الأذل ، لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه ، لم يقدروا : ضعف الطالب أي : الصنم يطلب ما سلب منه : والمطلوب أي : الذباب بما سلب . وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف . ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف . فإن الذباب حيوان وهو جماد . وهو غالب وذلك مغلوب . وجوز أن يراد بالطالب عابد الصنم ، وبالمطلوب معبوده . قيل : وهو أنسب بالسياق لأنه لتجهيلهم وتحقير معبوداتهم . فناسب إرادتهم والأصنام من هذا التذييل . واختار الوجه الأول الزمخشري . لما فيه من التهكم ، بجعل الصنم طالبا على الفرض تهكما وأنه أضعف من الذباب لأنه مسلوب وجماد ، وذلك حيوان بخلافه .

    وهذه الجملة التذييلية إخبار أو تعجب . وقوله تعالى : ما قدروا الله حق قدره أي : ما عرفوه حق معرفته ، حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه : إن الله لقوي عزيز أي : قادر وغالب . فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيها به . أو لقوي بنصر أوليائه ، عزيز ينتقم من أعدائه .



  4. #464
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4381 الى صـ 4395
    الحلقة (463)






    القول في تأويل قوله تعالى :

    [75 - 76] الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور .

    الله يصطفي أي : يختار : من الملائكة رسلا ومن الناس أي : فلا نكران لاصطفائه من البشر من شاء لرسالته . ولا وجه لقولهم : أأنـزل عليه الذكر من بيننا قال [ ص: 4381 ] أبو السعود : كأنه تعالى . لما قرر وحدانيته ، في الألوهية ، ونفى أن يشاركه فيها شيء من الأشياء بين أن له عبادا مصطفين للرسالة ، يتوسل بإجابتهم والاقتداء بهم ، إلى عبادته عز وجل . وتقدمه بنحوه البيضاوي : إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم أي : ما عملوه وما سيعملونه : وإلى الله ترجع الأمور أي : لأنه مالكها . فلا يسأل عما يفعل ، من الاصطفاء وغيره ، وهم يسألون .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [77] يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون .

    يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا أي : صلوا . وعبر عن الصلاة بهما ، لأنهما أعظم أركانها . أو اخضعوا له تعالى ، وخروا له سجدا ، لا لغيره : واعبدوا ربكم وافعلوا الخير أي : تحروه . كصلة الأرحام ومواساة الأيتام والحض على الإطعام والاتصاف بمكارم الأخلاق : لعلكم تفلحون أي : لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة .

    تنبيهات :

    الأول : لم يختلف العلماء في السجدة الأولى من هذه السورة . واختلفوا في السجدة الثانية - هذه - فروي عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى ; أنهم قالوا : في الحج سجدتان . وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق ، يدل عليه ما روي عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله أفي الحج سجدتان ؟ قال : « نعم [ ص: 4382 ] ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما » . أخرجه الترمذي وأبو داود . وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين وقال : إن هذه السورة فضلت بسجدتين . أخرجه مالك في (" الموطأ " ) وذهب قوم إلى أن الحج سجدة واحدة ، وهي الأولى ، وليست هذه بسجدة وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك . بدليل أنه قرن السجود بالركوع . فدل ذلك أنه سجدة صلاة ، لا سجدة تلاوة - كذا في (" لباب التأويل " ) أي : لأن المعهود في مثله من كل آية ، قرن الأمر بالسجود فيها بالركوع ، كونه أمرا بما هو ركن للصلاة ، بالاستقراء نحو : واسجدي واركعي وإذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال .

    وما روي من الحديث المذكور ، قال الترمذي رحمه الله : إسناده ليس بالقوي . وكذا قال غيره كما في " شرح الهداية " لابن الهمام .

    قال الخفاجي : لكن يرد عليه ما في " الكشف " أن الحق أن السجود حيث ثبت ، ليس من مقتضى خصوص في تلك الآية ، لأن دلالة الآية غير مقيدة بحال التلاوة البتة . بل إنما ذلك بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قوله . فلا مانع من كون الآية دالة على فرضية سجود الصلاة . ومع ذلك يشرع السجود عند تلاوتها ، لما ثبت من الرواية فيه .

    الثاني : قال في (" اللباب " ) اختلف العلماء في عدة سجود التلاوة . فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة . لكن الشافعي قال : في الحج سجدتان . وأسقط سجدة (ص ) . وقال أبو حنيفة في الحج سجدة . وأثبت سجدة (ص ) وبه قال أحمد ، في إحدى الروايتين عنه . فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة . وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود . يروى ذلك عن أبي بن كعب وابن عباس . وبه قال مالك .

    [ ص: 4383 ] فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة . يدل عليه ما روي عن أبي الدرداء ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « في القرآن إحدى عشرة سجدة » . أخرجه أبو داود وقال : إسناده واه . ودليل من قال : في القرآن خمس عشرة سجدة ما روي عن عمرو بن العاص قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن خمس عشرة سجدة . منها ثلاث في المفصل . وفي سورة الحج سجدتان أخرجه أبو داود . وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في : اقرأ و : إذا السماء انشقت أخرجه مسلم . انتهى .

    والخمس عشرة : في الأعراف ، والرعد ، والنحل ، والإسراء ، ومريم ، والحج ، والفرقان ، والنمل ، والم تنزيل ، وص ، وحم ، والسجدة ، والنجم ، والانشقاق ، واقرأ .

    والمفصل من سورة الحجرات إلى آخر القرآن ، في أصح الأقوال . سمي مفصلا لكثرة الفصل بين سوره .

    الثالث : سجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع . وبه قال مالك والشافعي وأحمد . لقول ابن عمر : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة ، فيسجد ونسجد معه ، حتى ما يجد أحدنا موضعا لجبهته . رواه الشيخان .

    [ ص: 4384 ] وقال عمر : إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء . رواه البخاري وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [78] وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير .

    وجاهدوا في الله حق جهاده عام في جهاد الكفار والظلمة والنفس . و(حق ) منصوب على المصدرية . والأصل (جهادا فيه حقا ) فعكس ، وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة ، ليدل على أن المطلوب القيام بمواجبه وشرائطه على وجه التمام والكمال بقدر الطاقة . وعن الرضي : إن (كل ) و(جد ) و(حق ) إذا وقعت تابعة لاسم جنس ، مضافة لمثل متبوعها لفظا ومعنى ، نحو : (أنت عالم كل عالم ) أو (جد عالم ) أو (حق عالم ) أفادت أنه تجمع فيه من الخلال ما تفرق في الكل . وأن ما سواه باطل أو هزل . وقوله تعالى : هو اجتباكم أي : اختاركم لدينه ولنصرته . وفيه تنبيه على المقتضى للجهاد والداعي إليه . لأن المختار إنما يختار من يقوم بخدمته . وهي بما ذكر . ولأن من قر به العظيم ، يلزمه دفع أعدائه ومجاهدة نفسه ، بترك ما لا يرضاه : وما جعل عليكم في الدين من حرج أي : في جميع أمور الدين من ضيق ، بتكليف ما يشق القيام به . كما كان على من قبلنا ، فالتعريف في الدين [ ص: 4385 ] للاستغراق . قال في (" الإكليل " ) : هذا أصل القاعدة (" المشقة تجلب التيسير " ) : ملة أبيكم إبراهيم منصوب على المصدرية ، بفعل دل عليه ما قبله من نفي الحرج . بعد حذف مضاف أي : وسع دينكم توسيع ملة أبيكم إبراهيم . أو على الإغراء بتقدير : (اتبعوا أو الزموا ) ، أو الاختصاص بتقدير : (أعني ) ونحوه . أو هو بدل أو عطف بيان مما قبله . فيكون مجرورا بالفتح ، أفاده الشهاب . قال القاضي ; وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو كالأب لأمته ، من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية . أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته . فغلبوا على غيرهم .

    وقال القاشاني : معنى أبوته كونه مقدما في التوحيد ، مفيضا على كل موحد ، فكلهم من أولاده . وقوله تعالى : هو سماكم المسلمين من قبل أي : من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة . والجملة مستأنفة . وقيل : إنها كالبدل من قوله : هو اجتباكم ولذا لم يعطف : وفي هذا أي : القرآن . أي : فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم وقيل : الضمير لـ(إبراهيم ) عليه السلام .

    قال القاضي : وتسميتهم بـ(مسلمين ) في القرآن ، وإن لم يكن منه ، كان بسبب تسميته من قبل ، في قوله : ومن ذريتنا أمة مسلمة لك أي : لدخول أكثرهم في الذرية . فجعل مسميا لهم مجازا ليكون الرسول شهيدا عليكم أي : بأنه قد بلغكم رسالات ربكم : وتكونوا شهداء على الناس أي : بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم : فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير أي : وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة ، فاعبدوه وأنفقوا مما آتاكم بالإحسان إلى الفقراء والمساكين ، وثقوا به ، ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه ، فهو خير مولى وناصر .

    * * *
    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ

    سميت بهم لاشتمالها على جلائل أوصافهم ونتائجها ، في أولها وفي قوله :

    إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، إلى قوله : سابقون أفاده المهايمي . وهي مكية . واستثنى بعضهم منها آية حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب ، إلى قوله : مبلسون وآيها مائة وثماني عشرة .

    وقد روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن السائب قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة الصبح . فاستفتح سورة المؤمنون . حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون ، أو ذكر عيسى ، أخذته سعلة فركع .

    [ ص: 4387 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [1 - 7] قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون .

    قد أفلح المؤمنون أي : دخلوا في الفوز الأعظم الذين هم في صلاتهم خاشعون أي : متذللون مع خوف وسكون للجوارح ، لاستيلاء الخشية والهيبة على قلوبهم والذين هم عن اللغو معرضون أي : عن الفضول وما لا يعني من الأقوال والأفعال ، معرضون في عامة أوقاتهم ، لاستغراقهم بالجد .

    والذين هم للزكاة فاعلون أي : للتجرد عن رذيلة البخل . قيل : السورة مكية ، والزكاة إنما فرضت بالمدينة ؟ وجوابه : إن الذي فرض بالمدينة إنما هو النصب والمقادير الخاصة . وإلا فأصل التفضل بالعفو مشروع في أوائل البعثة ، فلا حاجة إلى دعوى إرادة زكاة النفوس من الشرك والعصيان ، لعدم التبادر إليه .

    { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } لأنه الحق المأذون فيه [ ص: 4388 ] فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون أي : الكاملون في العدوان المرتكبونه على أنفسهم .

    تنبيهات :

    الأول : دلت الآية على تعليق فلاح العبد على حفظ فرجه ، وأنه لا سبيل له إلى الفلاح بدونه ، وتضمنت هذه الآية ثلاثة أمور : من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين . وأنه من الملومين . ومن العادين . ففاته الفلاح واستحق اسم العدوان ووقع في اللوم . فمقاساة ألم الشهوة ومعاناتها ، أيسر من بعض ذلك . وقد أمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم . وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم ، مطلع عليها ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر ، جعل الأمر بغضه مقدما على حفظ الفرج . فإن الحوادث مبدؤها من النظر . كما أن معظم النار مبدؤها من مستصغر الشرر . ثم تكون نظرة ، ثم تكون خطرة ، ثم خطوة ، ثم خطيئة . ولهذا قيل : من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه : اللحظات ، والخطرات ، واللفظات . والخطوات . فينبغي للعبد أن يكون بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة . ويلازم الرباط على ثغورها . فمنها يدخل عليه العدو ، فيجوس خلال الديار ويتبروا ما علوا تتبيرا .

    الثاني : روي عن الإمام أحمد أنه قال : لا أعلم بعد القتل ذنبا أعظم من الزنى .

    واحتج بحديث عبد الله بن مسعود أنه قال : يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ قال : « أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك . قال قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك » . والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر من كل نوع أعلاه ليطابق جوابه سؤال السائل . [ ص: 4389 ] فإنه سئل عن أعظم الذنب فأجابه بما تضمن ذكر أعظم أنواعه وما هو أعظم كل نوع ، فأعظم أنواع الشرك أن يجعل العبد لله ندا . وأعظم أنواع القتل أن يقتل ولده خشية أن يشاركه في طعامه وشرابه . وأعظم أنواع الزنى أن يزني بحليلة جاره . فإن مفسدة الزنى تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق . فالزنى بالمرأة التي لها زوج ، أعظم إثما وعقوبة من الزنى بالتي لا زوج لها إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه ، وتعليق نسب عليه ، لم يكن منه ، وغير ذلك من أنواع أذاه . فهو أعظم إثما وجرما من الزنى بغير ذات الزوج فإذا كان زوجها جارا له ، انضاف إلى ذلك سوء الجوار ، وأذى جاره بأعلى أنواع الأذى . وذلك من أعظم البوائق . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه » . ولا بائقة أعظم من الزنى بامرأته . فالزنى بمائة امرأة لها زوج أيسر عند الله من الزنى بامرأة الجار . فإن كان أخا له ، أو قريبا من أقاربه ، انضم إلى ذلك قطيعة الرحم ، فيتضاعف الإثم . فإن كان الجار غائبا في طاعة الله ، كالصلاة وطلب العلم والجهاد ، تضاعف الإثم ، فإن اتفق أن تكون المرأة رحما منه ، انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها .

    فإن اتفق أن يكون الزاني محصنا ، كان الإثم أعظم . فإن كان شيخا كان أعظم إثما وهو أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم فإن اقترن بذلك أن يكون في شهر حرام أو بلد حرام أو وقت معظم عند الله ، كأوقات الصلاة وأوقات الإجابة ، تضاعف الإثم .

    وعلى هذا ، فاعتبر مفاسد الذنوب وتضاعف درجاتها في الإثم والعقوبة والله المستعان .

    الثالث : أجمع المسلمون على أن حكم التلوط مع المملوك كحكمه مع غيره ، ومن ظن أن تلوط الإنسان مع مملوكه جائز ، واحتج على ذلك بقوله تعالى : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين وقاس ذلك على أمته المملوكة ، فهو كافر يستتاب كما يستتاب المرتد . فإن تاب وإلا قتل وضربت عنقه . وتلوط الإنسان بمملوكه كتلوطه بمملوك غيره . في الإثم والحكم . أفاد هذا وما قبله بتمامه الإمام ابن القيم في (" الجواب الكافي " ) . وقوله تعالى :
    [ ص: 4390 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [8 - 11] والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون .

    والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون أي : قائمون عليها بحفظها وإصلاحها . والآية تحتمل العموم في كل ما اؤتمنوا عليه وعوهدوا ، من جهة الله تعالى ومن جهة الخلق والخصوص فيما حملوه من أمانات الناس وعهودهم . ولذا عدت الخيانة في الأمانة من آيات النفاق في الحديث المشهور.

    والذين هم على صلواتهم يحافظون أي : يحافظون عليها . وذلك أن لا يسهوا عنها ويؤدوها في أوقاتها ، ويقيموا أركانها ، ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أن تتم به أوصافها . وليس هذا تكريرا لما وصفهم به أولا . فإن الخشوع في الصلاة ، غير المحافظة عليها . وتقديم الخشوع اهتماما به . حتى كأن الصلاة ، لا يعتد به بدونه ، أو لعموم هذا له . وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة ، تعظيم لشأنها .

    أولئك أي : الجامعون لهذه الأوصاف : هم الوارثون الذين يرثون الفردوس أي : الجنة : هم فيها خالدون أي : لا يخرجون منها أبدا .

    ثم أشار تعالى إلى مبدأ خلقه الإنسان وتقليبه في أطوار شتى ، حتى نما كاملا ، وإلى ما خلقه من عالم السماء والأرض ، وسخره لمنافعه ، ليشكر مولاه ويعبده ، كما أمره وهداه ، بقوله سبحانه :
    [ ص: 4391 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [12 - 13] ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين .

    ولقد خلقنا الإنسان أي : ابتدأنا خلقه : من سلالة أي : خلاصة : من طين أي : تراب خلط بماء فصار نباتا فأكله إنسان فصار دما ثم جعلناه نطفة أي : بأن خلقناه منها ، أو ثم جعلنا السلالة نطفة بالتصفية : في قرار أي : مستقر ، وهو رحم المرأة الذي نقل إليه : مكين أي : متمكن لا يمج ما فيه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [14] ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين .

    ثم خلقنا النطفة علقة أي : بالاستحالة من بياض إلى حمرة كالدم الجامد : فخلقنا العلقة مضغة أي : قطعة لحم بقدر ما يمضغ : فخلقنا المضغة عظاما أي : بأن صلبناها وجعلناها عمودا للبدن ، على هيئات وأوضاع مخصوصة ، تقتضيها الحكمة : فكسونا العظام لحما أي : جعلناه محيطا بها ساترا لها كاللباس : ثم أنشأناه خلقا آخر أي : بتمييز أعضائه وتصويره ، وجعله في أحسن تقويم : فتبارك الله أي : تعاظم قدرة وحكمة وتصرفا : أحسن الخالقين أي : المقدرين . فـ(الخلق ) بمعنى التقدير كقوله :


    ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري


    [ ص: 4392 ] لا بمعنى الإيجاد . إذ لا خالق غيره ، إلا أن يكون على الفرض .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [15 - 17] ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين .

    ثم إنكم بعد ذلك أي : بعد ما ذكر من الأمور العجيبة وتحصيل هذه الكمالات : لميتون أي : لصائرون إلى الموت .

    قال المهايمي : والحكيم لا يتلف ما استكمله بأنواع التكميل ، ولذلك سيبعثه كما قال : ثم إنكم يوم القيامة تبعثون أي : من قبوركم للحساب والمجازاة : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق أي : سبع سماوات هي طرق للملائكة والكواكب فيها مسيرها .

    قال بعض علماء الفلك (في تفسير هذه الآية ) : أي : سبعة أفلاك ، للسبع سماوات ، لكل سماء طريق تجري بما معها من الأقمار . قال : فلذلك دلنا الله سبحانه بأن العالم الشمسي ينقسم إلى سبع طرائق ، خلاف طريق الأرض الذي يعينه قوله تعالى : فوقكم فالمسافة ابتداء من منتصف البعد بين الشمس وعطارد تقريبا ، إلى منتهى فلك نبتون ، تنقسم إلى سبعة أقسام بحسب بعد كل سيار . كل قسم تجري فيه سماء بما معها . ويسمى هذا الطريق فلكا وما كنا عن الخلق غافلين أي : عن ذلك المخلوق ، الذي هو السماوات ، أو جميع المخلوقات . فالتعريف على الأول ، عهدي ، وعلى الثاني استغراقي . أي : ما كنا مهملين أمر الخلق ، بل نحفظه وندبر أمره حتى يبلغ منتهى ما قدر له من الكمال ، حسبما اقتضته الحكمة ، وتعلقت به المشيئة .
    [ ص: 4393 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [18] وأنـزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون .

    وأنـزلنا من السماء ماء بقدر أي : بتقدير يصلون معه إلى منفعتهم . أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم : فأسكناه في الأرض أي : جعلناه قارا فيها ، يتفجر من الأماكن التي أراد سبحانه إحياءها كقوله : فسلكه ينابيع في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون أي : إزالته بالتغوير وبغيره ، كما قدرنا على إنزاله . ففي تنكير (ذهاب ) إيماء إلى كثرة طرقه ، ومبالغة في الإبعاد به .

    قال الزمخشري : فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء ، ويقيدوها بالشكر الدائم ، ويخافوا نفارها ، إذا لم تشكر .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [19 - 20] فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين .

    فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها أي : في الجنات : فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة بالنصب عطف على (جنات ) وقرئت مرفوعة على الابتداء . أي : ومما أنشئ لكم شجرة : تخرج من طور سيناء وهو جبل بفلسطين ، أو بين مصر وأيلة (بفتح الهمزة ) محل معروف يسمى اليوم (العقبة ) وهو على مراحل من مصر . قاله الشهاب (والشجرة ) : شجرة الزيتون ، نسبت إلى الطور لأنه مبدؤها . أو لكثرتها فيه : [ ص: 4394 ] تنبت بالدهن أي : ملتبسة بالدهن المستصبح به : وصبغ للآكلين أي : وبإدام يغمس فيه الخبز فالصبغ كالصباغ ما يصطبغ به من الإدام . ويختص بكل إدام مائع . يقال صبغ اللقمة : دهنها وغمسها وكل ما غمس فقد صبغ . كذا في (" المصباح " ) و (" التاج " ) .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [21 - 22] وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون .

    وإن لكم في الأنعام لعبرة أي : تعتبرون بحالها وتستدلون بها : نسقيكم مما في بطونها أي : من الألبان : ولكم فيها منافع كثيرة أي : في ظهورها وأصوافها وشعورها ونتاجها : ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون أي : بخلقه وتسخيره وإلهامه . فله الحمد .

    قال الزمخشري : والقصد بالأنعام أي : الإبل ، لأنها هي المحمول عليها في العادة . وقرنها بالفلك التي هي السفائن ، لأنها سفائن البر .

    قال ذو الرمة :


    سفينة بر تحت خدي زمامها


    قال الشهاب : وجعل الإبل سفائن البر معروف مشهور . وهي استعارة لطيفة وقد تصرفوا فيها تصرفات بديعة . كقول بعض المتأخرين :


    لمن شحر أثقلتها ثمارها سفائن بر والسراب بحارها
    ولما بين تعالى دلائل التوحيد ، تأثره بقصص بعثة الرسل لعلو كلمته ، فقال سبحانه :

    [ ص: 4395 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [23 - 25] ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنـزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين .

    ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا أي : الداعي إلى عبادة الله وحده . بدعوى الرسالة منه : إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم أي : أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم ، كقوله تعالى : وتكون لكما الكبرياء في الأرض ولو شاء الله أي : إرسال رسول : لأنـزل ملائكة أي : من السماء : ما سمعنا بهذا أي : بمثل ما يدعو إليه : في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين أي : لعله يرجع أو يفيق من جنته أو يتمادى فنكيد له . قال الرازي : واعلم أنه سبحانه ما ذكر الجواب عن شبههم هذه الخمسة ، لركاكتها ووضوح فسادها . وذلك لأن كل عاقل يعلم أن الرسول لا يصير رسولا إلا لأنه من جنس الملك . وإنما يصير كذلك بأن يتميز من غيره بالمعجزات . فسواء كان من جنس الملك أو جنس البشر ، فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولا . بل جعل الرسول من جملة البشر أولى . لما مر بيانه في السورة المتقدمة . وهو أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة . وأما قولهم : يريد أن يتفضل [ ص: 4396 ] عليكم فإن أرادوا به إرادته لإظهار فضله ، حتى يلزمهم الانقياد لطاعته ، فهذا واجب على الرسول . وإن أرادوا به أن يرتفع عليهم على سبيل التجبر والتكبر والانقياد ، فالأنبياء منزهون عن ذلك . وأما قولهم : ما سمعنا بهذا فهو استدلال بعدم التقليد ، على عدم وجود الشيء . وهو في غاية السقوط . لأن وجود التقليد لا يدل على وجود الشيء . فعدمه من أن يدل على عدمه ؟ وأما قولهم : به جنة فقد كذبوا . لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله . وأما قولهم : فتربصوا به فضعيف . لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته وهي المعجزة ، وجب عليهم قبول قوله في الحال ، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته . لأن الدولة لا تدل على الحقيقة . وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله ، سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر . ولما كانت هذه الأجوبة في نهاية الظهور ، لا جرم تركها الله سبحانه ، انتهى .



  5. #465
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4396 الى صـ 4410
    الحلقة (464)




    القول في تأويل قوله تعالى :

    [26 - 30] قال رب انصرني بما كذبون فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنـزلني منـزلا مباركا وأنت خير المنـزلين إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين

    قال أي : بعد ما أيس من إيمانهم : رب انصرني بما كذبون فأوحينا إليه [ ص: 4397 ] أن اصنع الفلك بأعيننا أي : ملتبسا بحفظنا وكلاءتنا ، لا تلحقها آفة ولا يعترضها نقص عبر بكثرة آلة الحس التي بها يحفظ الشيء ، ويراعى من الاختلال والزيغ ، عن المبالغة في الحفظ والرعاية ، على طريق التمثيل ، وقيل : المعنى بمرأى منا ومشهد في حفظنا وكلاءتنا . بناء على أن المراد بالعين البصر ، وأنه يسمى البصر عينا لأجل أنه مما يتعلق به ويقوم به . من باب تسمية الشيء باسم محله . وباسم ما هو قائم به .

    قال الإمام ابن فورك في (" متشابه الحديث " ) - بعد حكاية نحو ما تقدم - : وقد اختلف أصحابنا فيما يثبت لله عز وجل من الوصف له بالعين . فمنهم من قال : إن المراد به البصر والرؤية . ومنهم من قال : إن طريق إثباتها صفة لله تعالى بالسمع . وسبيل القول فيها كسبيل القول في اليد والوجه . انتهى .

    ومذهب السلف ; أن الصفات يحتذى فيها حذو الذات ، فكما أنها منزهة عن التشبيه والتمثيل والتكييف ، فكذلك الصفات إثباتها منزه عن ذلك وعن التحريف والتأويل . وقوله تعالى : ووحينا أي : أمرنا وتعليمنا كيف تصنع : فإذا جاء أمرنا أي : عذابنا : وفار التنور كناية عن الشدة . كقولهم : (حمي الوطيس ) . و(التنور ) : كانون الخبز حقيقة . وأطلقه بعضهم على وجه الأرض ومنبع الماء ، للآية مجازا : فاسلك فيها أي : فأدخل في الفلك : من كل أي : من كل أمة : زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي : في الدعاء لهم بالنجاة ، عند مشاهدة هلاكهم : إنهم مغرقون أي : في بحر الهلاك ، كما غرقوا في بحر الضلال وظلمهم أنفسهم ، بعد أن أملى لهم الدهر المتطاول : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنـزلني أي : في السفينة أو منها : منـزلا مباركا وأنت خير المنـزلين أي : لمن أنزلته منزل قربك : إن في ذلك أي فيما فعل بنوح وقومه : لآيات أي : يستدل بها ويعتبر أولو الأبصار : وإن كنا لمبتلين [ ص: 4398 ] أي : مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد . أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا ، لننظر من يعتبر ويدكر . كقوله تعالى : ولقد تركناها آية فهل من مدكر و(إن ) مخففة على الأصح - وقيل نافية . واللام بمعنى (إلا ) والجملة حالية .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [31] ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين .

    ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين هم عاد أو ثمود . قال الشهاب : ليس في الآية تعيين لهؤلاء . لكن الأول مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما . وأيده في (" الكشف " ) بمجيء قصتهم بعد قصة نوح في سورة الأعراف وهود وغيرهما . وعليه أكثر المفسرين . ومن ذهب إلى أنهم ثمود قوم صالح عليه السلام ، استدل بذكر الصيحة لأنهم المهلكون بها . كما صرح به في هذه السورة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [32 - 41] فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون [ ص: 4399 ] هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين .

    فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم أي : نعمناهم : في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أي : لعزة أنفسكم ، بالتذلل لمثلكم : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون أي من الأجداث أحياء كما كنتم : هيهات هيهات لما توعدون تكرير لتأكيد البعد . أي : بعد الوقوع أو الصحة لما توعدون من البعث : إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا أي : يموت بعض ويولد بعض . لينقرض قرن ويأتي قرن آخر وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة أي : العقوبة الهائلة ، أو صيحة ملك : بالحق فجعلناهم غثاء أي : كغثاء السيل : فبعدا للقوم الظالمين أي : هلاكا لهم . إخبار أو دعاء .
    [ ص: 4400 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [42 - 45] ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين .

    ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها أي : وقتها الذي عين لهلاكها : وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترى أي : متواترين ، واحدا بعد واحد : كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا أي : في الإهلاك : وجعلناهم أحاديث أي : أخبارا يسمر بها ويتعجب منها . يعني أنهم فنوا ولم يبق إلا خبرهم ، إن خيرا وإن شرا .


    وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى


    فبعدا لقوم لا يؤمنون ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين أي : حجة واضحة ملزمة للخصم . والمراد به الآيات نفسها . عبر عنها بذلك على طريقة العطف ، على جمعها لعنوانين جليلين .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [46 - 48] إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين .

    [ ص: 4401 ] إلى فرعون وملئه فاستكبروا أي : عن الانقياد وإرسال بني إسرائيل مع موسى لأرض كنعان ، وتحريرهم من تلك العبودية لهم : وكانوا قوما عالين أي : متمردين : فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين أي : المغرقين في البحر .

    فائدة :

    قال الزمخشري : البشر يكون واحدا وجمعا : بشرا سويا لبشرين فإما ترين من البشر و(مثل ) و(غير ) يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث : إنكم إذا مثلهم ومن الأرض مثلهن ويقال أيضا : هما مثلاه وهم أمثاله : إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [49 - 50] ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين .

    ولقد آتينا موسى الكتاب أي : التوراة : لعلهم أي : قومه : يهتدون أي : إلى طريق الحق ، بما فيها من الشرائع والأحكام : وجعلنا ابن مريم وأمه آية أي : دلالة على قدرتنا الباهرة . لأنها ولدته من دون مسيس . فالآية أمر واحد نسب إليهما . أو المعنى : وجعلنا ابن مريم آية بما ظهر منه من الخوارق ، وأمه آية بأنها ولدته من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها : وآويناهما أي : جعلنا مأواهما أي : منزلهما : إلى ربوة أي : أرض مرتفعة ذات قرار أي : مستقر من أرض منبسطة مستوية . وعن قتادة : ذات ثمار [ ص: 4402 ] وماء . يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها : ومعين أي : وماء معين ظاهر جار . من (معن الماء إذا جرى ) أو مدرك بالعين (من عانه ) إذا أدركه بعينه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [51] يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم .

    يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم نداء وخطاب لجميع الأنبياء باعتبار زمان كل وعهده . فدخل فيه عيسى دخولا أوليا . أو يكون ابتداء كلام ذكر تنبيها على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة . وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم . واحتجاجا على الرهابنة في رفض الطيبات . وقوله : واعملوا صالحا أي : عملا صالحا . فإنه الذي به سعادة الدارين . وقوله : إني بما تعملون عليم أي : ذو علم لا يخفى علي منها شيء . فأنا مجازيكم بجميعها ، وموفيكم أجوركم وثوابكم عليها ، فخذوا في صالحات الأعمال واجتهدوا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [52] وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون .

    وإن هذه أمتكم أي : واعلموا أن هذه ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها : أمة واحدة أي : ملة واحدة ، وهي شريعة الإسلام . إسلام الوجه لله تعالى بعبادته وحده . كقوله : إن الدين عند الله الإسلام (فالأمة ) هنا بمعنى : الملة والدين : وأنا ربكم أي : من غير شريك : فاتقون أي : فخافوا عقابي ، في مفارقة الدين والجماعة . قيل إنه اختير على قوله : فاعبدون الواقع في سورة الأنبياء ، لأنه أبلغ في التخويف ، لذكره بعد إهلاك الأمم ، بخلاف ما ثمة وهذا بناء على أنه تذييل للقصص السابقة ، أو لقصة [ ص: 4403 ] عيسى عليه الصلاة والسلام ، لا ابتداء كلام . فإنه حينئذ لا يفيده . إلا أن يراد أنه وقع في حكاية لهذه المناسبة . كذا في (" العناية " ) .

    ثم قص ما وقع من أمم الرسل بعدهم من مخالفة الأمر ، بقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [53 - 54] فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين

    فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا أي : جعلوا دينهم بينهم قطعا وفرقا منوعة : كل حزب بما لديهم فرحون أي : كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم ، فرح بباطله ، مطمئن النفس ، معتقد أنه على الحق : فذرهم في غمرتهم أي : في جهالتهم ، ومشيهم مع هواهم ، ونبذهم كتاب الله : حتى حين أي : إلى وقت يستفيقون فيه من سباتهم ، بظهور دين الله وعلو كلمته وهزم عدوه . وشبه جهالتهم بالماء الذي يغمر القامة ، لأنهم مغمورون فيها .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [55 - 56] أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون .

    أيحسبون أنما نمدهم به أي : نعطيهم إياه ، ونجعله مددا لهم : من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون أي كلا . لا نفعل ذلك . بل هم لا يشعرون أصلا . كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور ، ليتأملوا ويعرفوا أن ذلك الإمداد استدراج لهم واستجرار إلى زيادة الإثم . وهم يحسبونه معاجلة فيما لهم فيه إكرام .
    ثم بين سبحانه من له المسارعة في الخيرات من أوليائه وعباده ، بقوله تعالى :

    [ ص: 4404 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [57 - 61] إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون .

    إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون أي : من خوف عذابه حذرون : والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون أي : شركا جليا ، ولا خفيا : والذين يؤتون ما آتوا أي : يعطون ما أعطوه من الصدقات : وقلوبهم وجلة أي : خائفة : أنهم إلى ربهم راجعون أي : من رجوعهم إليه تعالى ، فتخشى أن تحاسب على ما قصرت من الحقوق ، أو غفلت عنه من الآداب : أولئك يسارعون في الخيرات أي : في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة . كما في قوله تعالى : فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وقوله تعالى : وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين فقد أثبت لهم ما نفى عن أضدادهم ، خلا أنه غير الأسلوب ، حيث لم يقل : { أولئك نسارع لهم في الخيرات } بل أسند المسارعة إليهم ، إيماء إلى كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم . وإيثار كلمة (في ) على كلمة (إلى ) للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات . لا أنهم خارجون عنها ، متوجهون إليها ، بطريق المسارعة كما في قوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة أفاده أبو السعود .

    [ ص: 4405 ] وهم لها سابقون أي : إياها سابقون . أي : ينالونها قبل الآخرة ، حيث عجلت لهم في الدنيا ، فتكون اللام لتقوية العمل . كما في قوله تعالى : هم لها عاملون وقيل : المراد : بالخيرات الطاعات . والمعنى : يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة . وهم لأجلها فاعلون السبق ، أو لأجلها سابقون الناس ، والله أعلم ، وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [62 - 63] ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون .

    ولا نكلف نفسا إلا وسعها جملة مستأنفة ، سيقت للتحريض على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الخيرات ، ببيان سهولته ، وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاقة . أي : سنتنا جارية على ألا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في وسعها . أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك الصالحين ، ببيان أنه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم . فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين ، فلا عليهم ، بعد أن يبذلوا طاقاتهم ويستفرغوا وسعهم ، أفاده أبو السعود .

    ولدينا كتاب ينطق بالحق وهو كتاب الأعمال . كقوله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا أي : مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين : ولهم أعمال أي : سيئة كثيرة : من دون ذلك أي : الذي ذكر من كون قلوبهم في غفلة ، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم : هم لها عاملون أي : معتادون لا يزايلونها .

    [ ص: 4406 ] تنبيه :

    أغرب الإمام أبو مسلم الأصفهاني فيما نقله عنه الرازي ، فذهب إلى أن قوله تعالى : بل قلوبهم في غمرة من هذا إلى آخر الآية ، من تتمة صفات المؤمنين المشفقين . كأنه سبحانه قال بعد وصفهم : ولا نكلف نفسا إلا وسعها ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون ، ولدينا كتاب يحفظ أعمالهم ينطق بالحق وهم لا يظلمون . بل نوفر عليهم ثواب كل أعمالهم بل قلوبهم في غمرة من هذا هو أيضا وصف لهم بالحيرة كأنه قال : وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في جعل أعمالهم مقبولة أو مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي : لهم أيضا من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه . إما أعمالا قد عملوها في الماضي أو سيعملونها في المستقبل . ثم إنه تعالى رجع .

    قال الرازي : وقول أبي مسلم أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين ، كان أولى من رده إلى ما بعد منه ، وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته ، بأن قلبه في غمرة ، ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أو رده ، وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر . انتهى .

    وبعد فإن نظم الآية الكريمة يحتمل لذلك . ولكن لم يرد وصف الغمرة في حق المؤمنين أصلا بل لم يوصف بها إلا قلوب المجرمين ، كما تراه في الآيات أولا . فالذوق الصحيح ورعاية نظائر الآيات ، يأبى ما أغرب به أبو مسلم أشد الإباء . والله أعلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [64] حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون .

    حتى إذا أخذنا مترفيهم أي : متنعميهم : بالعذاب أي : بالانتقام ، مثل أخذهم يوم بدر : إذا هم يجأرون أي : يصرخون باستغاثة أو الآية . كقوله [ ص: 4407 ] تعالى : وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [65 - 67] لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون .

    لا تجأروا اليوم أي : يقال لهم تبكيتا لهم : لا تجأروا ، فإن الجؤار غير نافع لكم : إنكم منا لا تنصرون قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون أي : تعرضون عن سماعها أشد الإعراض : مستكبرين به أي : بالبيت الحرام والذي سوغ الإضمار ، شهرتهم بالاستكبار به ، وأن لا مفخر لهم إلا أنهم قوامه . وجوز تضمين (مستكبرين ) معنى (مكذبين ) والضمير للتنزيل الكريم . أي : مكذبين تكذيب استكبار . ولم يذكروا احتمال إرجاع الضمير (للنكوص ) إشارة إلى زيادة عتوهم ، وأنهم يفتخرون بهذا الإعراض ولا يرهبون مما ينذرون به ، كقوله : ولى مستكبرا وليس ببعيد . فتأمل سامرا تهجرون يعني أنهم يسمرون ليلا بذكر القرآن وبالطعن فيه ، وتسميته سحرا وشعرا ونحو ذلك . وهو معنى تهجرون من الهجر بالضم ، وهو الفحش في القول . أو معناه تعرضون . من (الهجر ) بالفتح .

    تنبيه :

    قال أبو البقاء : (سامرا ) حال أيضا وهو مصدر . كقولهم (قم قائما ) وقد جاء من المصادر على لفظ اسم الفاعل نحو العاقبة والعافية . وقيل : هو واحد في موضع الجميع . انتهى .

    [ ص: 4408 ] فيكون واحدا أقيم مقام الجمع . وقيل هو اسم جمع كحاج وحاضر وراكب وغائب . قال الشهاب : وعلى كونه مصدرا فيشمل القليل والكثير أيضا ، باعتبار أصله . ولكن مجيء المصدر على وزن (فاعل ) نادر . وقرئ (سمرا ) بضم وتشديد . (سمار ) بزيادة ألف .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [68] أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين .

    أفلم يدبروا القول أي : القرآن ، ليعلموا أنه الحق المبين ، فيصدقوا به وبمن جاء به : أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أي : من الهدى والحق ، فاستبدعوه واستبعدوه ، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال . مع أن المجيء بما لم يعهد ، لا يوجب النفرة . لأن المألوف قد يكون باطلا ، فتقتضي به الحكمة التحذير منه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [69 - 70] أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون .

    أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أي : جاحدون بما أرسل به . وهذا توبيخ آخر يشير إلى عظيم جهالتهم ، بأنهم ما عرفوا شأنه ولا دروا سر ما بعث به مما يؤسف له . كما قال : يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون أم يقولون به جنة أي : جنون ، أو جن يخبلونه . وهذا توبيخ آخر ، فيه تعجيب من تلونهم في الجحود ، وتفننهم في العناد ، ثم أشار إلى أنه لم يحملهم على ذلك إلا أنفتهم للحق كبرا وعتوا بقوله : بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون أي : لما فيهم من الزيغ والانحراف .

    [ ص: 4409 ] قال القاشاني : ولما أبطلوا استعداداتهم وأطفأوا نورها بالرين والطبع ، على مقتضى قوى النفس والطبع ، واشتد احتجابهم بالغواشي الظلمانية عن نور الهدى والعقل ، لم يمكنهم تدبر القول ولم يفهموا حقائق التوحيد ، والعدل فنسبوه إلى الجنة ولم يعرفوه ، للتقابل بين النور والظلمة ، والتضاد بين الباطل والحق ، وأنكروه وكرهوا الحق الذي جاء به .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [71 - 74] ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون .

    ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن أي : ولو كان ما كرهوه من الحق الذي هو التوحيد والعدل المبعوث بهما الرسول صلوات الله عليه ، موافقا لأهوائهم المتفرقة في الباطل ، الناشئة من نفوسهم الظالمة المظلمة ، لفسد نظام الكون لانعدام العدل الذي قامت به السماوات والأرض ، والتوحيد الذي به قوامهما فلزم فساد الكون لأن مناط النظام ليس إلا ذلك ، وفيه من تنويه شأن الحق ، والتنبيه على سمو مكانه ، ما لا يخفى : بل أتيناهم بذكرهم إضراب عن توبيخهم بكراهته ، وانتقال إلى لومهم بالنفور عما ترغب فيه كل نفس من خيرها . أي : ليس هو مكروها بل هو عظة لهم لو اتعظوا . أو فخرهم أو متمناهم لأنهم كانوا يقولون : لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فهم عن ذكرهم معرضون أي : بالنكوص عنه . وأعاد الذكر تفخيما . وأضافه لهم لسبقه . وفي سورة الأنبياء : ذكر ربهم لاقتضاء ما قبله له : أم تسألهم خرجا [ ص: 4410 ] أي : جعلا على أداء الرسالة ، فلأجل ذلك لا يؤمنون : فخراج ربك خير أي : عطاؤه : وهو خير الرازقين وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون أي : منحرفون . قال القاشاني : الصراط المستقيم الذي يدعوهم إليه ، هو طريق التوحيد المستلزم لحصول العدالة في النفس ، ووجود المحبة في القلب . وشهود الوحدة . والذين يحتجبون عن عالم النور بالظلمات ، وعن القدس بالرجس ، إنما هم منهمكون في الظلم والبغضاء والعداوة ، والركون إلى الكثرة . فلا جرم أنهم عن الصراط ناكبون منحرفون إلى ضده . فهو في واد وهم في واد . وقال الزمخشري : قد ألزمهم الحجة في هذه الآيات ، وقطع معاذيرهم وعللهم ، بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله ، مخبور سره وعلنه ، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم ، وأنه لم يعرض له حتى يدعي بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم ، واستعطاء أموالهم ، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام ، الذي هو الصراط المستقيم . مع إبراز المكنون من أدوائهم ، وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل ، واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان ، وتعللهم بأنه مجنون ، بعد ظهور الحق ، وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة ، وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر . وقوله تعالى :



  6. #466
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النُّورِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4411 الى صـ 4425
    الحلقة (465)






    القول في تأويل قوله تعالى :

    [75] ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون

    ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون

    قال ابن جرير : أي : ولو رحمنا هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ورفعنا عنهم ما بهم من القحط والجدب ، وضر الجوع والهزال : للجوا في طغيانهم يعني في عتوهم وجرأتهم على [ ص: 4411 ] ربهم : يعمهون يعني يترددون . وأشار ابن كثير إلى معنى آخر فقال : يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم ، بأنه لو أزاح عنهم الضر ، وأفهمهم القرآن ، لما انقادوا له ، ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم ، كما قال تعالى : ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون وقال : ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون ، لو كان كيف يكون . انتهى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [76] ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون .

    ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون

    قال ابن جرير : أي : ولقد أخذنا هؤلاء المشركين بعذابنا ، وأنزلنا بهم بأسنا وسخطنا ، وضيقنا عليهم معايشهم ، وأجدبنا بلادهم ، وقتلنا سراتهم بالسيف فما استكانوا لربهم . أي : فما خضعوا لربهم ; فينقادوا لأمره ونهيه ، وينيبوا إلى طاعته . وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ الله قريشا بسني الجدب ، إذ دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن الحسن قال : إذا أصاب الناس من قبل الشيطان بلاء ، فإنما هي نقمة . فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية . ولكن استقبلوها بالاستغفار وتضرعوا إلى الله . وقرأ هذه الآية : ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون [ ص: 4412 ] .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [77] حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون .

    حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد يعني ما نزل بهم من القتال والقتل يوم بدر ، أو باب المجاعة والضر ، وهو ما روي عن مجاهد واختاره ابن جرير : إذا هم فيه مبلسون أي : حزنى نادمون على ما سلف منهم ، في تكذيبهم بآيات الله ، في حين لا ينفعهم الندم والحزن . ثم أشار تعالى إلى قدرته على البعث بآياته المبصرة في الأنفس والآفاق ، فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [78] وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون .

    وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة أي : لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا : قليلا ما تشكرون أي : نعمة الله في ذلك ، بصرفها لما خلقت له . وهو أن يدرك .


    وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد


    والقلة في الآية هذه ونظائرها ، بمعنى النفي ، في أسلوب التنزيل الكريم . لأن الخطاب للمشركين .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [79 - 81] وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون بل قالوا مثل ما قال الأولون .

    [ ص: 4413 ] وهو الذي ذرأكم في الأرض أي : خلقكم وبثكم بالتناسل فيها : وإليه تحشرون أي : تجمعون يوم القيامة ، بعد تفرقكم إلى موقف الحساب : وهو الذي يحيي أي : خلقه ، أي : يجعلهم أحياء ، بعد أن كانوا نطفا أمواتا ، ينفخ الروح فيها ، بعد الأطوار التي تأتي عليها : ويميت وله اختلاف الليل والنهار أي : بالطول والقصر . فهو متوليه ولا يقدر على تصريفهما غيره : أفلا تعقلون أي : إن من أنشأ ذلك ابتداء من غير أصل ، لا يمتنع عليه إحياء الأموات بعد فنائهم . ثم بين تعالى أنهم لم يعتبروا بآياته ، ولا تدبروا ما احتج عليهم من الحجج الدالة على قدرته على فعل كل ما يشاء ، بقوله : بل قالوا مثل ما قال الأولون أي : من الأمم المكذبة رسلها .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [82 - 83] قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين .

    قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أي : أحياء ، كهيئتنا قبل الممات : لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين أي : ما سطروه في كتبهم ، مما لا حقيقة له :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [84 - 85] قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون .

    قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون أي : فتعلمون أن من ابتدأ ذلك ، قدر على إعادته .
    [ ص: 4414 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [86 - 87] قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون .

    قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون أي : عقابه على شرككم به ، وتكذيبكم خبره وخبر رسوله .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [88 - 89] قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون .

    قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير أي : يغيث من أراد ، ممن قصد بسوء : ولا يجار عليه أي : ولا أحد يمتنع ممن أراده هو بسوء ، فيدفع عنه عذابه وعقابه : إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون أي : تخدعون عن توحيده وطاعته ، مع ظهور الأمر وتظاهر الأدلة فالسحر مستعار للخديعة . وتكرير : { إن كنتم تعلمون } لاستهانتهم ، وتجهيلهم ، لكمال ظهور الأمر .

    قال في (" الإكليل " ) : قال مكي : في هذه الآيات دلالة على جواز محاجة الكفار والمبطلين ، وإقامة الحجة وإظهار الباطل من قولهم ومذهبهم ، ووجوب النظر في الحجج على من خالف في دين الله .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [90 - 94] بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون [ ص: 4415 ] ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين .

    بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون أي : في دعواهم أن له ولدا ومعه شريكا : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض لأنه يجب أن يتخالفا بالذات ، وإلا لما تصور العدد - والمتخالفان بالذات يجب أن يتخالفا في الأفعال فيذهب كل بما خلقه ، ويستبد به ، ويظهر بينهم التحارب والتغالب ، فيفسد نظام الكون ، كما تقدم بيانه في آية : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون قل رب إما تريني ما يوعدون أي : من العذاب . أي : إن كان لا بد من أن تريني . لأن (ما ) و(النون ) للتأكيد : رب فلا تجعلني في القوم الظالمين أي : نجني من عذابهم . وفيه إيذان بكمال فظاعة ما وعدوه من العذاب ، وكونه بحيث يجب أي : يستعيذ منه من لا يمكن أن يحيق به . ورد لإنكارهم إياه واستعجالهم به ، استهزاء . وتكرير النداء ، لإظهار زيادة الابتهال .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [95 - 100] وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون [ ص: 4416 ] ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون .

    وإنا على أن نريك ما نعدهم أي : من العذاب : لقادرون أي : وإنما نؤخره لحكمة بلوغ الكتاب أجله : ادفع بالتي هي أحسن أي : بالخلة التي هي أحسن الخلال . وهو العفو والصفح : السيئة يعني أذى المشركين : نحن أعلم بما يصفون أي : فسيرون جزاءه : وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين أي : وساوسهم المغرية على الباطل والشرور والفساد ، والصد عن الحق : وأعوذ بك رب أن يحضرون أي : يحضروني في حال من الأحوال : حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت أي : حتى إذا احتضر وشاهد أمارات العذاب ، وعاين وحشة هيئات السيئات ، تمنى الرجوع ، وأظهر الندامة ، ونذر العمل الصالح في الإيمان الذي ترك . وقوله تعالى : كلا إنها كلمة يعني قوله : رب ارجعون إلخ : هو قائلها أي : لا يجاب إليها ولا تسمع منه ، يعني أنه لم يحصل إلا على الحسرة والندامة ، والتلفظ بألفاظ التحسر والندم ، والدعوة دون المنفعة والفائدة والإجابة . والآية نظيرها قوله تعالى : وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون أي : حائل يحول بينهم وبين الرجعة ، يلبثون فيه إلى يوم القيامة .

    [ ص: 4417 ] لطيفة :

    الواو في {ارجعون} قيل : لتعظيم المخاطب وهو الله تعالى ، ورده ابن مالك بأنه لا يعرف أحدا يقول : (رب ارحموني ، ونحوه ) لما فيه من إيهام التعدد . مدفوع بأنه لا يلزم من عدم صدوره عنا كذلك ، ألا يطلقه الله تعالى على نفسه . كما في ضمير المتكلم . وقيل إنه لتكرير قوله : (ارجعني ) كما قيل في (قفا ) و(أطرقا ) إن أصله (قف قف ) على التأكيد ، وبه فسر قوله تعالى : ألقيا في جهنم قال الشهاب : فيكون من باب استعارة لفظ مكان آخر لنكتة ، بقطع النظر عن معناه ، وهو كثير في الضمائر . كاستعمال الضمير المجرور الظاهر مكان المرفوع المستتر في (كفى به ) حتى لزم انتقاله عن صفة إلى صفة أخرى ، ومن لفظ إلى آخر . وما نحن فيه من هذا القبيل . فإنه غير الضميران المستتران إلى ضمير مثنى ظاهر . فلزم الاكتفاء بأحد لفظي الفعل ، وجعل دلالة الضمير على المثنى على تكرير الفعل ، قائما مقامه في التأكيد ، من غير تجوز فيه ولابن جني في (الخصائص ) كلام يدل على ما ذكرناه . انتهى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [101] فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون

    فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ أي : لشدة الهول من هجوم ما شغل البال حتى زال به التعاطف والتآلف ، إذ : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ونفي نفع النسب ، إذا دهم مثل ذلك معروف . كما قال :


    لا نسب اليوم ولا خلة اتسع الخرق على الراقع


    [ ص: 4418 ] ولا يتساءلون أي : لا يسأل بعضهم بعضا ، لعظم الفزع وشدة ما بهم من الأهوال ، وذهولهم عما كان بينهم من الأحوال ، فتنقطع العلائق والوصل التي كانت بينهم ، وجلي أن نفي التساؤل إنما هو وقت النفخ ، كما دل عليه قوله : { فإذا } أي : فوقت القيام من القبور وهول المطلع يشتغل كل بنفسه . وأما ما بعده فقد يقع التساؤل ، كما قال تعالى : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون لأن يوم القيامة يوم ممتد . ففيه مشاهد ومواقف . فيقع في بعضها تساؤل وفي بعضها دهشة تمنع منه .

    تنبيه :

    روى هنا بعض المفسرين أخبارا في نفع النسب النبوي . وحبذا لو روي شيء منها في الصحيحين ، أو في مسانيد من التزم الصحة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [102 - 104] فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون .

    فمن ثقلت موازينه أي : رجحت حسناته : فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم أي : بتضييع ما منحت من الاستعداد لأن تربح في تجارة الكمال ، بفطرة الإيمان وصالح الأعمال ، ولله در القائل :


    إذا كان رأس المال عمرك ، فاحترس عليه من الإنفاق في غير واجب


    في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار أي : تحرقها . وتخصيص الوجوه لأنها أشرف الأعضاء . فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار : وهم فيها كالحون أي : مشوهون ، قبيحو المنظر . ويقال لهم تعنيفا وتوبيخا :
    [ ص: 4419 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [105 - 106] ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين .

    ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا أي : ملكتنا : شقوتنا أي : التي اقترفناها بسوء اختيارنا : وكنا قوما ضالين أي : عن الحق ، ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب ، قال أبو السعود : وهذا ، كما ترى ، اعتراف منهم ، بأن ما أصابهم قد أصابهم بسوء صنيعهم ، وأما ما قيل من أنه اعتذار منهم بغلبة ما كتب عليهم من الشقاوة الأزلية ، فمع أنه باطل في نفسه ، لما أنه لا يكتب عليهم من السعادة والشقاوة إلا ما علم الله تعالى أنهم يفعلونه باختيارهم ، ضرورة أن العلم تابع للمعلوم - يرده قوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [107 - 110] ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون .

    ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون أي : أخرجنا من النار ، وأرجعنا إلى الدنيا . فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه من الكفر والمعاصي ، فإنا متجاوزون الحد في الظلم . ولو كان اعتقادهم أنهم مجبورون على ما صدر عنهم ، لما سألوا الرجعة إلى الدنيا ، ولما وعدوا الإيمان والطاعة : قال اخسئوا فيها أي : ذلوا فيها كخسء الكلاب : ولا تكلمون [ ص: 4420 ] أي : في رفع العذاب ، فإنه لا يرفع ولا يخفف . ثم أشار إلى علة ذلك بقوله تعالى : إنه كان فريق من عبادي وهم المؤمنون : يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم أي : بتشاغلكم بهم على تلك الصفة : ذكري وكنتم منهم تضحكون

    ثم أشار تعالى لبيان حسن حالهم ، وأنهم انتفعوا بما آذوهم ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [111 - 114] إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون .

    إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون قال أي : الله أو الملك المأمور بسؤالهم : كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون أي : شيئا ما . أو لو كنتم من أهل العلم ، والجواب محذوف ، ثقة بدلالة ما سبق عليه . أي : لعلمتم يومئذ قلة لبثكم فيها ، كما علمتم اليوم . ولعملتم بموجبه ولم تخلدوا إليها .

    قال الرازي : الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ ، فقد كانوا ينكرون اللبث في الآخرة أصلا ، ولا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا . ويظنون أن بعد الموت يدوم الفناء ، ولا إعادة . فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة وهم فيها مخلدون ، سألهم : كم لبثتم في الأرض ؟ تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا ، فهو يسير ، بالإضافة إلى ما أنكروه . فحينئذ تحصل [ ص: 4421 ] لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا . من حيث أيقنوا خلافه . فليس الغرض مجرد السؤال ، بل ما ذكر .

    قال الزمخشري : استقصروا مدة لبثهم في الدنيا ، بالإضافة إلى خلودهم ، ولما هم فيه من عذابها . لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ، ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة إليها . أو لأنهم كانوا في سرور . وأيام السرور قصار ، أو لأن المنقضي في حكم ما لم يكن ، وصدقهم الله في تقالهم لسني لبثهم في الدنيا ، ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها . وقرئ : { فسل العادين } والمعنى : لا نعرف من عدد تلك السنين ، إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم . لما نحن فيه من العذاب ، وما فينا أن نعدها ، فسل من فيه أن يعد ، ويقدر أن يلقى إليه فكره . وقيل : فسل الملائكة الذين يعدون أعمار العباد ويحصون أعمالهم . انتهى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [115 - 118] أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين .

    أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا أي : بغير حكمة ، حتى أنكرتم البعث : وأنكم إلينا لا ترجعون أي : للجزاء : فتعالى الله أي تعاظم عما تصفون ، لأنه : الملك الحق أي : المتصرف وحده ، الذي قصد بالخلق معرفته وعبادته . والذي لا يترك الجزاء بل يحق الحق : لا إله إلا هو رب العرش الكريم أي : العظيم المجيد . وقرئ بالرفع : ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون [ ص: 4422 ] قال ابن جرير : ومن يدع مع المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، معبودا آخر لا حجة له بما يقول ولا بينة . فإنما حساب عمله السيئ عند ربه ، وهو موفيه جزاءه إذا قدم عليه . فإنه لا ينجح أهل الكفر بالله ، عنده ، ولا يدركون الخلود والبقاء في النعيم ، قال الزمخشري : وقوله : لا برهان له به كقوله : ما لم ينـزل به سلطانا وهي صفة لازمة ، نحو قوله : يطير بجناحيه جيء بها للتوكيد ، لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان . ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء . كقولك : (من أحسن إلى زيد - لا أحق بالإحسان منه - فالله مثيبه ) .

    قال في " الانتصاف " : إن كان صفة ، فالمقصود بها التهكم بمدعي إله مع الله ، كقوله : بما أشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطانا فنفى إنزال السلطان به ، وإن لم يكن في نفس الأمر سلطان ، لا منزل ولا غير منزل . وقال الرازي : نبه تعالى بالآية ، على أن كل ما لا برهان فيه ، لا يجوز إثباته، وذلك يوجب صحة النظر وفساد التقليد . انتهى .

    ثم أمر تعالى نبيه بالابتهال إليه واستغفاره والثناء عليه ، بقوله : وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين أي : خير من رحم ذا ذنب ، فقبل توبته .

    * * *
    سُورَةُ النُّورِ

    سميت به لاشتمالها على ما أمكن من بيان النور الإلهي ، بالتمثيل المفيد كمال المعرفة الممكنة لنوع الإنسان ، مع مقدماتها ، وهي أعظم مقاصد القرآن- قاله المهايمي ، وهي مدنية . وقال القرطبي : إن آية يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم إلخ مكية وهي أربع وستون آية .

    [ ص: 4424 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [1] سورة أنـزلناها وفرضناها وأنـزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون .

    سورة أنـزلناها خبر محذوف . أي : هذه السورة . والتنكير للتفخيم : وفرضناها أي : أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا : وأنـزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون أي : تتذكرونها فتعملون بموجبها . قال الإمام ابن تيمية رحمه الله ، في تفسير هذه الآيات : هذه السورة فرضها تعالى بالبينات والتقدير والحدود ، التي من يتعد حلالها إلى الحرام فقد ظلم نفسه . ومن قرب من حرامها فقد اعتدى وتعدى الحدود . وبين فيها فرض العقوبة وآية الجلد وفريضة الشهادة على الزنى وفريضة شهادة المتلاعنين . كل منهما يشهد أربع شهادات بالله . ونهى فيها عن تعدي حدود الله في الفروج والأعراض والعورات وطاعة ذي السلطان . سواء كان في منزله أو ولايته . ولا يخرج ولا يدخل إلا بإذنه . إذ الحقوق نوعان : نوع لله فلا يتعدى حدوده ، ونوع للعبادة فيه أمر فلا يفعل إلا بإذن المالك ، فليس لأحد أن يفعل شيئا في حق غيره إلا بإذن الله . وإن لم يأذن المالك ، فإذن الله هو الأصل ، وإذن المالك حيث أذن الله وجعل له الإذن فيه . ولهذا ضمنها الاستئذان في المساكن والمطاعم وفي الأمور الجامعة . كالصلاة والجهاد ونحوهما . ووسطها بذكر النور الذي هو مادة كل خير وصلاح كل شيء . وهو ينشأ عن امتثال أمر الله واجتناب نهيه ، وعن الصبر على ذلك ، فإنه ضياء . فإن حفظ الحدود بتقوى الله ، يجعل لصاحبه نورا . كما قال تعالى : اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به الآية . فضد النور الظلمة ، ولهذا عقب ذكر النور وأعمال المؤمنين بأعمال الكفار . وأهل البدع والضلال . [ ص: 4425 ] فقال : والذين كفروا أعمالهم كسراب الآية ، إلى قوله : أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج الآية ، وكذلك الظلم ظلمات يوم القيامة . وظلم العبد نفسه من الظلم . فإن للسيئة ظلمة في القلب ، وسوادا في الوجه ، ووهنا في البدن ، ونقصا في الرزق ، وبغضا في قلوب الخلق . كما روي ذلك عن ابن عباس ، يوضحه أن الله ضرب مثل إيمان المؤمنين بالنور ، وأعمال الكفار بالظلمة . والإيمان اسم جامع لكل ما يحبه الله . والكفر اسم جامع لكل ما يبغضه ، وإن كان لا يكفر العبد إذا كان معه أصل الإيمان وبعض فروع الكفر من المعاصي . كما لا يصير مؤمنا إذا كان معه بعض فروع الإيمان . ولغض البصر اختصاص بالنور كما في حديث أبي هريرة الذي صححه الترمذي : « إن العبد إذا أذنب . . . » الحديث . وفيه : فذلك الران الذي ذكر الله . وفي الصحيح : « إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة » . والغين حجاب رقيق أرق من الغيم ، فأخبر أنه يستغفر ليزيل الغين ، فلا يكون نكتة سوداء . كما أنها إذا أزيلت لا تصير رينا . وقال حذيفة : إن الإيمان يبدو في القلب لمظة بيضاء . فكلما ازداد العبد إيمانا ، ازداد قلبه بياضا ، وفي خطبة الإمام أحمد ، في الرد على الزنادقة : الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى . يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى . . . إلخ . وقد قرن الله سبحانه بين الهدى والضلال بما يشبه هذا . كقوله تعالى : وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور وقال : مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع وقال : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآيات ، [ ص: 4426 ] وهذا النور الذي يكون للمؤمن في الدنيا على حسن عمله واعتقاده ، يظهر في الآخرة ، كما قاله تعالى : يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم الآية ، فذكر النور هنا عقيب أمره بالتوبة ، كما في سورة النور عقيب أمره بغض البصر والتوبة . وذكر ذلك بعد أمره بحقوق الأهلين والأزواج وما يتعلق بالنساء . وقال في سورة الحديد : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات إلى قوله : وبئس المصير فأخبر سبحانه أن المنافقين يفقدون النور الذي كان المؤمنون يمشون به ، ويطلبون الاقتباس من نورهم ، فيحجبون عن ذلك بحجاب يضرب بينهم . كما أنهم في الدنيا لما فقدوا النور : كمثل الذي استوقد نارا الآية . وقوله تعالى :




  7. #467
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النُّورِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4426 الى صـ 4440
    الحلقة (466)






    القول في تأويل قوله تعالى :

    [2] الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين .

    الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة شروع في تفصيل ما ذكر من الآيات البينات وبيان أحكامها . أي : كل من زنى من الرجال والنساء ، فأقيموا عليه هذا الحد . وهو أن يجلد ، أي : يضرب على جلده مائة جلدة ، عقوبة لما صنع : ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله أي : رقة ورحمة في طاعته فيما أمركم به ، من إقامة الحد عليهما ، على ما ألزمكم به : إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر أي : تصدقون بالله ربكم وباليوم الآخر ، وأنكم مبعوثون لحشر القيامة وللثواب والعقاب . فإن من كان بذلك مصدقا ، فإنه لا يخالف الله في أمره ونهيه ، خوف عقابه على معاصيه : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ ص: 4427 ] أي : وليحضر جلدهما طائفة من أهل الإيمان بالله ورسوله ، قال ابن جرير : العرب تسمي الواحد فما زاد طائفة .

    قال ابن تيمية عليه الرحمة : فأمر تعالى بعقوبتهما بحضور طائفة من المؤمنين . وذلك بشهادته على نفسه أو شهادة المؤمنين عليه . لأن المعصية إذا ظهرت كانت عقوبتها ظاهرة . كما في الأثر : (من أذنب سرا فليتب سرا . ومن أذنب علانية فليتب علانية ) ، وليس من الستر الذي يحبه الله ، كما في الحديث : « إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها . فإذا أعلنت ولم تنكر ، ضرت العامة » فإذا أعلنت أعلنت عقوبتها بحسب العدل الممكن . ولهذا لم يكن للمعلن بالبدع والفجور غيبة . كما روي عن الحسن وغيره ، لأنه لما أعلن استحق العقوبة . وأدناها أن يذم عليها لينزجر ويكف الناس عنه وعن مخالطته . ولو لم يذكر إلا بما فيه لاغتر به الناس . فإذا ذكر انكف وانكف غيره عن ذلك وعن صحبته . قال الحسن : أترغبون عن ذكر الفاجر؟ اذكروا بما فيه كي يحذره الناس . و(الفجور ) : اسم جامع لكل متجاهر بمعصية أو كلام قبيح ، يدل السامع له على فجور قلب قائله . ولهذا استحق الهجرة ، إذا أعلن ببدعة أو معصية ، أو فجور أو تهتك أو مخالطة لمن هذا حاله . بهذا لا يبالي بطعن الناس عليه . فإن هجره نوع تعزير له . فإذا أعلن السيئات ، أعلن هجره ، وإذا أسر أسر هجره ، إذ الهجرة هي الهجرة على السيئات وهجرة السيئات ، كقوله : والرجز فاهجر وقوله : واهجرهم هجرا جميلا وقوله : فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم وقد روي عن عمر ; أن ابنه عبد الرحمن لما شرب الخمر بمصر وذهب به [ ص: 4428 ] أخوه إلى أميرها عمرو بن العاص ليحده ، جلده سرا ، فبعث إليه عمر ينكر عليه . ولم يعتد بذلك حتى أرسل إلى ابنه ، فأقدمه المدينة وجلده علانية ، وعاش ابنه مدة ثم مرض ثم مات ولم يمت من الجلد ، ولا ضربه بعد الموت ، كما يزعمه الكذابون .

    وقوله تعالى : ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله نهى تعالى عما يأمر به الشيطان في العقوبات عموما وفي الفواحش خصوصا . فإن هذا الباب مبناه على المحبة والشهوة ، والرأفة التي يزينها الشيطان بانعطاف القلوب على أهل الفواحش ، حتى يدخل كثير من الناس بسبب هذه الآفة في الدياثة ، إذا رأى من يهوى بعض المتصلين به ، أو يعاشره عشرة منكرة ولو كان ولده ، رق به وظن أن هذا من رحمة الخلق . وإنما ذلك دياثة ومهانة وعدم دين وإعانة على الإثم والعدوان . وترك للتناهي عن المنكر . وتدخل النفس به في القيادة التي هي أعظم من الدياثة كما دخلت عجوز السوء مع قومها ، في استحسان ما كانوا يتعاطونه من إتيان الذكران والمعاونة لهم على ذلك ، وكانت في الظاهر مسلمة على دين زوجها لوط ، وفي الباطن منافقة على دين قومها . لا تقلي عملهم كما قلاه لوط .

    وكما فعل النسوة بيوسف . فإنهن أعن امرأة العزيز على ما دعته إلى فعل الفاحشة معها ولهذا قال : رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وذلك بعد قولهن : إنا لنراها في ضلال مبين ولا ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب . فإن الشهوة توجب السكر كما قال تعالى : إنهم لفي سكرتهم يعمهون وفي الصحيحين ومن حديث أبي هريرة : « العينان تزنيان » إلخ فكثير من الناس يكون مقصوده بعض هذه الأنواع كالنظر والاستمتاع والمخاطبة . ومنهم من يرتقي إلى المس والمباشرة . ومنهم من يقبل وينظر . وكل ذلك حرام .

    وقد نهانا الله سبحانه أن تأخذنا بالزناة رأفة ، بل نقيم عليهم الحد ، فكيف بما دونه من هجر ونهي [ ص: 4429 ] وتوبيخ وغير ذلك ؟ بل ينبغي شنآن الفاسقين وقلاهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنى المذكورة في الحديث . والمحب ، وإن كان يحب النظر والاستمتاع بصورة المحبوب وكلامه ، فليس دواؤه في ذلك ، لأنه مريض . والمريض إذا اشتهى ما يضره أو جزع من تناول الدواء الكريه ، فأخذتنا به رأفة ، فقد أعناه على ما يهلكه ويضره وقال تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أي : فيها الشفاء والبرء من ذلك . بل الرأفة به أن يعان على شرب الدواء وإن كان كريها ، مثل الصلاة وما فيها من الأذكار والدعوات وأن يحمى عما يزيد علته . ولا يظن أنه إذا استمتع بمحرم يسكن بلاؤه . بل ذلك يوجب له زيادة في البلاء . فإنه وإن سكن ما به عقيب استمتاعه ، أعقبه ذلك مرضا عظيما لا يتخلص منه ، بل الواجب دفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما قبل استحكام الداء .

    ومن المعلوم أن ألم العلاج النافع أيسر من ألم المرض الباقي . وبهذا يتبين أن العقوبات الشرعية أدوية نافعة . وهي من رأفة الله بعباده ، الداخلة في قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين فمن ترك هذه الرحمة النافعة ، لرأفة بالمريض ، فهو الذي أعان على عذابه ، وإن كان لا يريد إلا الخير ، إذ هو في ذلك جاهل أحمق ، كما يفعله بعض النساء بمرضاهن وبمن يربينهن من أولادهن في ترك تأديبهم على ما يأتونه من الشر ويتركونه من الخير .

    ومن الناس من تأخذه الرأفة بهم لمشاركته لهم في ذلك المرض وبرودة القلب والدياثة . وهو في ذلك من أظلم الناس وأديثهم في حق نفسه ونظرائه . وهو بمنزلة جماعة مرضى قد وصف لهم الطبيب ما ينفعهم ، فوجد كبيرهم مرارته ، فترك شربه .

    ونهى عن سقيه للباقين . ومنهم من تأخذه الرأفة لكون أحد الزانين محبوبا له . إما لقرابة أو مودة أو إحسان ، أو لما يرجوه منه ، أو لما في العذاب من الألم الذي يوجب رقة القلب . ويتأول « إنما يرحم الله من عباده [ ص: 4430 ] الرحماء » . وليس كما قال . بل ذلك وضع الشيء في غير موضعه . بل قد ورد « لا يدخل الجنة ديوث » فمن لم يكن مبغضا للفواحش كارها لها ولأهلها ، ولا يغضب عند رؤيتها وسماعها ، لم يكن مريدا للعقوبة عليها . فيبقى العذاب عليها يوجب ألم قلبه ، قال تعالى : ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله الآية . في دين الله هو طاعته وطاعة رسوله . المبني على محبته ومحبة رسوله ، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . فإن الرأفة والرحمة يحبهما لله ما لم تكن مضيعة لدين الله .

    فالرحمة مأمور بها بخلاف الرأفة في دين الله . والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها . فإنه إن رآه مائلا إلى الرحمة ، زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله ، ولا يغار ، وإن رآه مائلا إلى الشدة ، زين له الشدة في غير ذات الله ، فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه . ويترك من اللين والصلة والإحسان والبر ما يأمر الله به . فالأول مذنب والثاني مسرف . فليقولا جميعا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا الآية .

    وقوله : إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر فالمؤمن بذلك يفعل ما يحبه الله ، وينهى عما يبغضه الله . ومن لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يتبع هواه ، فتارة تغلب عليه الشدة : ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله والنظر والمباشرة ، وإن كان بعضه من اللمم ، فإن دوام ذلك وما يتصل به ، من المعاشرة والمباشرة قد تكون أعظم بكثير من فساد زنى لا إصرار فيه . بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك . كما قال تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله الآية . ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان . والله تعالى إنما ذكره عن امرأة العزيز [ ص: 4431 ] المشركة وعن قوم لوط . وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الحدود فيما رواه أبو داود من حديث ابن عمر : « من حالت شفاعته دون حد من حدود الله ، فقد ضاد الله في أمره . ومن خاصم في باطل ، وهو يعلم ، لم يزل في سخط لله حتى ينزع ومن قال في مسلم ما ليس فيه ، حبس في ردعة الخبال حتى يخرج مما قال » . فالشافع في الحدود مضاد لله في أمره . فلا يجوز أن يأخذ المؤمن رأفة بأهل البدع والفجور والمعاصي ، وجماع ذلك كله قوله : أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وقوله : أشداء على الكفار رحماء بينهم فإن هذه الكبائر كلها من شعب الكفر كما في الصحاح : « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » إلخ . ففيهم من نقص الإيمان ما يوجب زوال الرأفة بهم . ولا منافاة بين كون الواحد يحب من وجه ويبغض من وجه ، ويثاب من وجه ويعاقب من وجه . خلافا للخوارج والمعتزلة . ولهذا جاء في السنة أن من أقيم عليه الحد ، يرحم من وجه آخر ، فيحسن إليه ويدعى له .

    وهذا الجانب أغلب في الشريعة ، كما في صفة الرب سبحانه وتعالى .

    ففي الصحيح : « إن رحمتي تغلب غضبي » وقال : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم وقال : اعلموا أن الله شديد [ ص: 4432 ] العقاب وأن الله غفور رحيم فجعل الرحمة صفة مذكورة في أسمائه . وأما العذاب والعقاب فجعلهما من مفعولاته . ومن هذا ما أمر الله تعالى به من الغلظة على الكفار والمنافقين .

    وقال تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم الآية ، وفي الحديث بيان السبيل الذي جعله الله لهن وهو جلد مائة وتغريب عام في البكر ، وفي الثيب الرجم لكن الذي في الحديث الجلد والنفي للبكر من الرجال وأما الآية ففيها ذكر الإمساك في البيوت للنساء إلى الموت ، والسبيل للنساء خاصة . ومن الفقهاء من لا يوجب مع الحد تغريبا ، ومنهم من يفرق بين الرجل والمرأة . كما أن أكثرهم لا يوجبون الجلد مع الرجم . ومنهم من يوجبها جميعا . كما فعل بشراحة الهمدانية ، حيث جلدها ثم رجمها . وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة نبيه . رواه البخاري .

    والله سبحانه ذكر في سورة النساء ما يختص بهن من العقوبة .

    ثم ذكر ما يعم الصنفين فقال : واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما فإن الأذى يتناول الصنفين . وأما الإمساك فيختص بالنساء ، لأن المرأة يجب أن تصان بما لا يجب مثله في الرجال ولهذا خصت بالاحتجاب وترك الزينة وترك التبرج ، لأن ظهورها يسبب الفتنة ، والرجال قوامون عليهن ، وقوله : فاستشهدوا عليهن أربعة منكم دل على شيئين : على نصاب الشهادة وعلى أن الشهداء على نسائنا منا . وهذا لا نزاع فيه .

    وأما شهادة الكفار بعضهم على بعض ففيها روايتان عن أحمد . الثانية أنها تقبل . اختارها أبو الخطاب . وهو قول أبي حنيفة . وهو أشبه بالكتاب والسنة .

    وقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تجوز شهادة أهل ملة [ ص: 4433 ] على ملة ، إلا أمتي » فمفهومه جواز شهادة أهل الملة الواحدة بعضهم على بعض . ولكن فيه : أن المؤمنين تقبل شهادتهم على من سواهم، لقوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس وفي آخر الحج مثلها وفي البخاري من حديث أبي سعيد : (يدعى نوح ) ، الحديث وكذلك فيهما من حديث أنس ، شهادتهم على الجنازتين خيرا وشرا ، فقال : « أنتم شهداء الله في أرضه » الحديث . ولهذا لما كان أهل السنة والجماعة لم يشوبوا الإسلام بغيره ، كانت شهادتهم مقبولة على سائر فرق الأمة ، بخلاف أهل البدع والأهواء ، كالخوارج والروافض ، فإن بينهم من العداوة والظلم ما يخرجهم عن هذه الحقيقة التي جعلها الله لأهل السنة ، قال فيهم : « يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » واستدل من جوز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض بهذه الآية : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم الآية ، قالوا : دلت على قبول شهادتهم على المسلمين . ففيه تنبيه على قبول شهادة بعضهم على بعض بطريق الأولى . ثم نسخ الظاهر لا يوجب نسخ الفحوى ، والتنبيه على الأقوى . كما نص عليه أحمد وغيره من أئمة الحديث الموافقين للسلف . ولهذا يجوز في الشهادة للضرورة ما لا يجوز في غيرها . كما تقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال . حتى نص أحمد على قبول شهادتين في الحدود التي تكون في مجامعهن الخاصة . [ ص: 4434 ] فالكفار الذين لا يختلط بهم المسلمون أولى ، والله أمرنا أن نحكم بينهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم رجم الزانيين من اليهود ، ومن غير سماع إقرار منهم ولا شهادة مسلم . ولولا قبول شهادة بعضهم على بعض لم يجز ذلك .

    وفي تولي بعضهم مال بعض ، نزاع ، فهل يتولى الكافر العدل في دينه ، مال ولده الكافر ؟ على قولين والصواب المقطوع به أن بعضهم أولى ببعض وقد مضت السنة بذلك وسنة خلفائه .
    وقوله تعالى : فآذوهما أمر بالأذى مطلقا ، ولم يذكر صفته ولا قدره . ولفظ الأذى يستعمل في الأقوال كثيرا . كقوله : لن يضروكم إلا أذى والإعراض هو الإمساك عن الإيذاء . فالمذنب لا يزال يؤذي وينهى ويوبخ إلا أن يتوب . وأدنى ذلك هجره . فلا يكلم بالكلام الطيب . وهذه محكمة فمن أتى الفاحشة وجب إيذاؤه بالكلام الزاجر إلى أن يتوب . وليس ذلك محدودا بقدر ولا صفة . إلا ما يكون زاجرا له داعيا إلى حصول المقصود ، وهو توبته وصلاحه . وعلقه تعالى على التوبة والإصلاح ، فإذا لم يوجدا ، فلا يجوز أن يكون الأمر بالإعراض موجودا . فأما من تاب بترك الفاحشة ولم يصلح ، فتنازعوا : هل من شرط التوبة صلاح العمل ؟ على قولين . وهذه تشبه قوله : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم فعلق تخلية سبيلهم على التوبة والعمل الصالح . مع أنهم إذا تكلموا بالشهادتين وجب الكف عنهم . ثم إن صلوا وزكوا ، وإلا عوقبوا على ترك الفعل . لأن الشارع في التوبة شرع الكف عن أذاه . ويكون الأمر فيه موقوفا على التمام . وكذلك التائب من الفاحشة . وهذه الآية مما يستدل به على التعزير بالأذى . والأذى ، وإن كان كثيرا يستعمل في الكلام ، فليس مختصا به . كقوله لمن بصق في القبلة : « إنك قد آذيت الله [ ص: 4435 ] ورسوله » ، وكذا قوله في حق فاطمة : « ويؤذيني ما آذاها » وقوله لمن أكل البصل : « إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم » وهل يكون من توبته اعترافه بالذنب ؟ فإذا ثبت الذنب بإقراره فجحد وكذب الشهود أو ثبت بشهادة شهود. فيه نزاع . فذكر أحمد أنه لا توبة لمن جحد . واستدل بقصة علي بن أبي طالب : أنه أتي بجماعة ممن شهد عليهم بالزندقة ، فاعترف منهم ناس فتابوا . فقبل توبتهم . وجحد جماعة فقتلهم . وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة : « فإن العبد إذا اعترف ثم تاب ، تاب الله عليه » . فمن أذنب سرا فليتب سرا ، كما في الحديث : « ومن ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر » إلخ ، وفي الصحيح « كل أمتي معافى إلا المجاهرون » الحديث . فإذا ظهر من العبد الذنب فلا بد من ظهور التوبة . ومع الجحود لا تظهر التوبة . فإن الجاحد يزعم أنه غير مذنب . ولهذا كان السلف يستعملون ذلك فيمن أظهر بدعة أو فجورا ، فإن هذا أظهر حال الضالين ، وهذا أظهر حال المغضوب عليهم . ومن أذاه منعه ، مع القدرة ، من الإمامة والحكم والفتيا والرواية والشهادة . وأما بدون القدرة ، فليفعل المقدور عليه . ولم يعلق الأذية على استشهاد أربعة ، وليس هذا من حمل المطلق على المقيد . [ ص: 4436 ] لأن ذلك لا بد أن يكون فيه الحكم واحدا ، مثل الإعتاق . فإذا كان متفقا في الجنس دون النوع كإطلاق الأيدي في التيمم ، وتقييدها إلى المرافق في الوضوء ، فلا يحمل . ولم يحمل الصحابة والتابعون المطلق على المقيد في قوله تعالى : وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن وقوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف قالوا : الشرط في الربائب خاصة . قالوا : أبهموا ما أبهم الله . والمبهم هو المطلق . والمشروط فيه هو المقيد . لكن تنازعوا : هل الموت كالدخول ؟ على قولين . وذلك لأن الحكم مختلف ، والقيد ليس متساويا في الأعيان . فإن تحريم جنس ، ليس مثل تحريم جنس يخالفه . كما أن تحريم الدم والميتة ولحم الخنزير ، لما كان أجناسا ، فليس تقييد الدم بالمسفوح موجبا تقييد الميتة والخنزير أن يكون مسفوحا . وهنا القيد قيد الربيبة بدخول أمها .

    والدخول بالأم لا يوجد مثله في حليلة الأب وأم المرأة . إذ بالدخول في الحليلة ، بها نفسها . وفي أم المرأة ببنتها . وكذلك المسلمون لم يحملوا المطلق على المقيد في نصاب الشهادة . بل لما ذكر الله في آية الدين : فرجل وامرأتان وفي الرجعة : رجلين أقروا كلا منهما على حاله . لأن سبب الحكم مختلف وهو المال والبضع . كما أن إقامة الحد في الفاحشة والقذف بها اعتبر فيه أربعة ، فلا يقاس بذلك عقود الأثمان والأبضاع ، وذكر في حد القذف ثلاثة أحكام : جلد ثمانين ، وترك قبول شهادتهم أبدا وأكثرهم فاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم الآية ، والتوبة لا ترفع الجلد إذا طلبه المقذوف ، وترفع الفسق بلا تردد . والأكثر قالوا : ترفع المنع من قبول الشهادة . وإذا اشتهر عن شخص الفاحشة لم يرجم ، كما في الصحيح : [ ص: 4437 ] « إن جاءت به يشبه الزوج فقد كذب عليها وإن جاءت به يشبه الرجل الذي رماها به ، فقد صدق عليها » فجاءت به على النعت المكروه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن » فقيل لابن عباس : هذه التي قال فيها : « لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها » فقال : لا . تلك امرأة كانت تلعن السوء في الإسلام ، فقد أخبر أنه لا يرجم أحدا إلا ببينة ، ولو ظهر على الشخص السوء . ودل الحديث على أن الشبه له تأثير في ذلك ، ولم تكن بينة . وكذلك ثبت عنه في الجنازة لما أثنوا عليها شرا ، والأخرى خيرا . فقال : « أنتم شهداء الله في أرضه » وفي المسند عنه أنه قال : « يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار » قالوا يا رسول الله ! وبم ذاك ؟ قال بالثناء الحسن وبالثناء السيئ فقد جعل الاستفاضة حجة وبينة في هذه الأحكام . ولم يجعلها حجة في الرجم . وكذلك تقبل شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السفر . وكذلك تقبل شهادة الصبيان في الجراح إذا أدوها قبل التفرق ، في إحدى الروايتين . وإذا شهد شاهد أنه رأى الرجل والمرأة أو الصبي في لحاف ، أو بيت مرحاض ، أو محلولي السراويل ، ويوجد مع ذلك ما يدل على ذلك ، من وجود اللحاف فقد خرج عن العادة إلى مكانهما أو يكون مع أحدهما أو معهما ضوء قد أظهره ، فرآه فأطفأه فإن إطفاءه دليل على استخفائه بما يفعل . فإن لم يكن ما يستخفي به إلا ما شهد به الشاهد ، كان ذلك من أعظم البيان على ما شهد به فهذا باب عظيم النفع في الدين . وهو مما جاءت الشريعة التي أهملها كثير من القضاة والمتفقهة ، زاعمين أنه لا يعاقب أحد إلا بشهود عاينوا ، أو إقرار مسموع . وهذا خلاف ما تواترت به السنة وسنة الخلفاء الراشدين . وما فطرت عليه القلوب التي تعرف المعروف وتنكر المنكر . ويدل عليه قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا الآية . ففيها دلالات : إحداها أنه لم يأمر بالتبين عند مجيء كل فاسق بكل نبأ ; إذ من الأنباء ما ينهى فيه عن التبين . ومنه ما يباح فيه ترك التبين . ومن الأنباء ما يتضمن العقوبة لبعض الناس ، لأنه علل بخشية الإصابة ، [ ص: 4438 ] بجهالة . فلو كان كل ما أصيب بنبأ كذلك ، لم تحصل التفرقة بين العدل والفاسق . بل هذه دلالة واحدة على أن الإصابة بنبأ كذلك لم تحصل التفرقة بين العدل والفاسق ، بل هذه دلالة واحدة على أن الإصابة بنبأ العدل الواحد لا ينهى عنه مطلقا . وذلك يدل على قبول شهادة العدل الواحد في جنس العقوبات . فإن سبب نزول الآية يدل على ذلك . فإنها نزلت بإخبار واحد . أن قوما قد حاربوا بالردة أو نقض العهد . وفيه أيضا أنه متى اقترن بخبر الفاسق دليل آخر يدل على صدقه فقد استبان الأمر وزال الأمر بالتثبت . فيجوز إصابة القوم إذا . فكيف خبر العدل مع دلالة أخرى ؟ ولهذا كان أصح القولين ، أن مثل هذا لوث في القسامة فإذا انضاف أيمان المقسمين صار ذلك بينة تبيح دم المقسم عليه . وقوله : بجهالة جعل المحذور هو الإصابة لقوم بلا علم . فمتى أصيبوا بعلم زال المحذور . وهذا هو المناط الذي دل عليه القرآن كما قال : إلا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال : ولا تقف ما ليس لك به علم وأيضا علل بخوف الندم وهو إنما يحصل على عقوبة البريء من الذنب كما في السنن : « ادرأوا الحدود بالشبهات . فإن الإمام ، أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة » فإذا حصل عنده علم أنه لم يعاقب إلا مذنبا ، فإنه لا يندم ولا يكون فيه خطأ . وقد ذكر الشافعي وأحمد أن التغريب جاء في السنة في موضعين : أحدهما الزنى ، والثاني المخنث ، فيما روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنث وهو يقول لعبد الله أخيها : إن فتح الله لكم الطائف غدا ، أدلك على ابنة غيلان . فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أخرجوهم من بيوتكم » . أخرجاه ، وفي لفظ « لا يدخل هؤلاء عليكم » وفي رواية : « أرى هذا يعرف مثل هذا . لا يدخلن عليكم بعد اليوم » وقال ابن جريج : هو هيت . وقال غيره : هنب . وقيل : ماتع . وذكر [ ص: 4439 ] بعضهم أنهم ثلاثة : نهم وهيت وماتع . ولم يكونوا يرمون بالفاحشة الكبرى . إنما كان تخنيثهم لينا في القول ، وخضابا في الأيدي والأرجل ، ولعبا كلعب النساء . وفي السنن : أنه أمر بمخنث فنفي إلى النقيع . فإذ كان الله أمر بإخراج هؤلاء من البيوت ، فمعلوم أن الذي يمكن الرجال من نفسه ، شر من هؤلاء : وهو أحق بالنفي . فإن المخنث فيه فساد للرجال والنساء . لأنه إذا تشبه بالنساء ، فقد يعاشرنه وهو رجل ، فيفسدهن . ولأنها إذا رأت الرجل يتخنث فقد تترجل وتعاشر الصنفين . وقد تختار مجامعة النساء كما يختار هو مجامعة الرجال . وأما إفساده للرجال فهو أن يمكنهم من الفعل به ، بمشاهدته وعشقه فإذا خرج إلى بلد ووجد هناك من يفعل به ، فهنا يكون نفيه بحسبه في مكان ليس معه غيره فيه . وإن خيف خروجه ، قيد ; إذ هذا هو معنى نفيه . ولهذا تنازع العلماء في نفي المحارب : هل هو طرده بحيث لا يأوي إلى بلد ، أو حبسه ، أو بحسب ما يراه الإمام من هذا وهذا ؟ فعن أحمد ثلاث روايات : الثالثة أعدل وأحسن . فإن نفيه بحيث لا يأوي إلى بلد لا يمكن ، لتفرق الرعية واختلافهم واختلاف هممهم . وحسبه قد لا يمكن لأنه يحتاج إلى مؤونة . وروي أن هنبا لما اشتكى الجوع أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل المدينة من الجمعة إلى الجمعة يسأل ما يقيته ، والذي جاءت به الشريعة من النفي هو نوع من الهجرة وليس كنفي الثلاثة الذين خلفوا ، ولا هجرهم . فإنه لم يمنعهم من مشاهد الناس وحضور مجامعهم في الصلاة وغيرها . وذلك أن الله خلق الآدميين محتاجين إلى معاونة بعضهم بعضا . فمن كانت مخالطته تضر ، استحق الإخراج من بينهم ، لأنه مضرة بلا مصلحة . فإن الصبي إذا رأى صبيا يفعل شيئا تشبه به . والاجتماع بالزناة واللوطية : فيه أعظم الفساد والضرر على الرجال والنساء والصبيان . فيجب أن يعاقب اللوطي والزاني بما فيه تقريعه وإبعاده . وجماع الهجرة هي هجرة السيئات وأهلها . وكذلك هجران الدعاء إلى البدع وهجران الفساق وهجران من [ ص: 4440 ] يخالط هؤلاء كلهم ويعاونهم . وكذلك من يترك الجهاد الذي لا مصلحة لهم بدونه فإنه يعاقب بهجرهم له ، لما لم يخاطبهم في البر . فمن لم يهجر هؤلاء كان تاركا للمأمور فاعلا للمحذور . فهذا ترك المأمور من الاجتماع . وهذا فعل المحذور منه . فعوقب كل منهما بما يناسب جرمه . وما جاءت به الشريعة من المأمورات والعقوبات والكفارات وغير ذلك ، يفعل بحسب الاستطاعة . فإن لم يقدر المسلم على جهاد جميع المشركين ، جاهد من يقدر على جهاده . وإذا لم يقدر على عقوبة جميع المعتدين ، عاقب من يقدر على عقوبته . فإذا لم يكن النفي والحبس عن جميع الناس ، كان النفي والحبس على حسب القدرة . ويكون هو المأمور به ، فالقليل من الخير ، خير من تركه . ودفع بعض الشر خير من تركه كله. وكذلك المتشبهة بالرجال تحبس . كحالها إذا زنت فإن جنس الحبس مما شرع في جنس الفاحشة . ومما يدخل في هذا : أن عمر نفى نصر بن حجاج من المدينة إلى البصرة ، لما شبب به النساء . وكان أولا قد أمر بأخذ شعره ليزيل جماله الفاتن ، فلما رآه من أحسن الناس وجنتين ، غمه ذلك فنفاه إلى البصرة . فهذا لم يصدر منه ذنب يعاقب عليه ، لكن كان في النساء من يفتتن به ، فأمر بإزالة جماله الفاتن . فإن انتقاله من وطنه مما يضعف همته وبدنه ويعلم أنه معاقب . وهذا من باب التفريق بين الذين يخاف عليهم الفاحشة والعشق قبل وقوعه . وليس من باب المعاقبة . وقد كان عمر ينفي في الخمر إلى خيبر ، زيادة في عقوبة شاربها . ومن أقوى ما يهيج الفاحشة إنشاد أشعار الذين في قلوبهم مرض من العشق ومحبة الفواحش ، وإن كان القلب في عاقبة ، جعل فيه مرضا ، كما قال بعض السلف : الغناء رقية الزنى . ورقية الحية هي التي تستخرج بها الحية من جحرها . ورقية العين والحمة ورقية الزنى . أي : تدعو إليه وتخرج من الرجل الأمر الخبيث . كما أن الخمر أم الخبائث . قال ابن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب ، كما ينبت الماء البقل . وقال تعالى : واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك واستفزازه إياهم بصوته يكون بالغناء ، كما قاله من قاله من السلف ، وبغيره من الأصوات كالنياحة وغير ذلك .




  8. #468
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النُّورِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4441 الى صـ 4455
    الحلقة (467)




    فإن هذه الأصوات توجب [ ص: 4441 ] انزعاج القلوب والنفوس الخبيثة إلى ذلك ، وتوجب حركتها السريعة واضطرابها . حتى يبقى الشيطان يلعب بهؤلاء أعظم من لعب الصبيان بالكرة . والنفس متحركة . فإن سكنت فبإذن الله ، وإلا فهي لا تزال متحركة . وشبهها بعضهم بكرة على مستوى أملس ، لا تزال تتحرك عليه . وفي الحديث المرفوع : « القلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا » وفي الحديث الآخر : « مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض ، تحركها الريح » وفي البخاري عن ابن عمر : كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا ومقلب القلوب » ولمسلم عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « اللهم مصرف القلوب ، صرف قلوبنا إلى طاعتك » وفي الترمذي : كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك » قيل : يا رسول الله ! آمنا بك وبما جئت به . فهل تخاف علينا ؟ فقال : « نعم . القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها كيف يشاء » انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله .

    تنبيه :

    قال السيوطي في (" الإكليل " ) : في قوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا الآية ، وجوب الحد على الزاني والزانية ، وأنه مائة جلدة . أي : في البكر كما بينته السنة . واستدل بعمومه من أوجب المائة على العبد والذمي وعلى المحصن ، ثم يرجم . فأخرج أحمد عن علي أنه [ ص: 4442 ] أتي بمحصنة فجلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة ، ثم قال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . واستدل الخوارج بالآية على أن حد المحصن الجلد دون الرجم . قالوا : لأنه ليس في كتاب الله . واستدل أبو حنيفة بها على أنه لا تغريب ، إذ لم يذكره . وفي الآية رد على من قال : إن العبد إذا زنى بحرة يرجم . وبأمة يجلد . وعلى من قال : لا تحد العاقلة إذا زنى بها مجنون ، والكبيرة إذا زنى بها صبي ، أو عكسه ، لا يحد . وعلى من قال : لا حد على الزاني بحربية أو بمسلمة في بلاد الحرب أو في عسكر أهل البغي . أو بنصرانية مطلقا . أو بأمة امرأته . أو محرم . أو من استدخلت ذكر نائم . واستدل بعمومها من أوجبه على المكره والزاني بأمة ولده والميتة .

    قال ابن الفرس : ويستدل بقوله : فاجلدوا على أنه يجرد عن ثيابه . لأن الجلد يقتضي مباشرة البدن . وبقوله : مائة جلدة على أنه لا يكتفي بالضرب بها مجموعة ضربة واحدة ، صحيحا كان أو مريضا . وفي قوله تعالى : ولا تأخذكم بهما رأفة الحث على إقامة الحدود والنهي عن تعطيلها . وأنه لا يجوز العفو عنها للإمام ولا لغيره ، وفيه رد على من أجاز للسيد العفو . فاستدل بالآية من قال : إن ضرب الزنى أشد من ضرب القذف والشرب . وفي قوله تعالى : وليشهد عذابهما إلخ ، استحباب حضور جمع ، عند جلدها . وأقله أربعة **عدد شهود الزنى** . وقيل عشرة ، وقيل ثلاثة وقيل : اثنان . انتهى .

    وتقدم عن ابن جرير أن العاطفة تصدق بالواحد ، لغة . فتذكر . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [3] الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين .

    [ ص: 4443 ] الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين لما أمر الله بعقوبة الزانيين ، حرم مناكحتهما على المؤمنين ، هجرا لهما ولما معهما من الذنوب كقوله : والرجز فاهجر وجعل مجالس فاعل ذلك المنكر ، مثله بقوله : إنكم إذا مثلهم وهو زوج له قال تعالى : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أي : عشراءهم وأشباههم . ولهذا يقال : (المستمع شريك المغتاب ) ، ورفع إلى عمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر . وكان فيهم جليس لهم صائم ، فقال ابدءوا به في الجلد ألم يسمع قول الله تعالى : فلا تقعدوا معهم ، فإذا كان هذا في المجالسة والعشرة العارضة حين فعلهم المنكر ، يكون مجالسهم مثلا لهم ، فكيف بالعشرة الدائمة : و(الزوج ) يقال له : العشير . كما في الحديث « ويكفرن العشير » وأخبر أنه لا يفعل ذلك إلا زان أو مشرك . أما المشرك فلا إيمان له يزجره عن الفواحش ومجامعة أهلها . وأما الزاني ففجوره يدعوه إلى ذلك ، وإن لم يكن مشركا . وفيها دليل على أن الزاني ليس بمؤمن مطلق الإيمان . وإن لم يكن مشركا كما في الصحيح « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » وذلك أنه أخبر أنه لا ينكح الزانية إلا زان أو مشرك . ثم قال تعالى : وحرم ذلك على المؤمنين فعلم أن الإيمان يمنع منه . وأن فاعله إما مشرك وإما زان ، ليس من المؤمنين الذين يمنعهم إيمانهم من ذلك . وذلك أن المزاناة فيها فساد فراش الرجل وفي مناكحتها معاشرة الفاجرة دائما . والله قد أمر بهجر السوء وأهله ما داموا عليه . وهذا موجود في الزاني . فإنه إن لم يفسد فراش امرأته كان قرين سوء لها ، كما قال الشعبي : من زوج كريمته من فاسق ، فقد قطع رحمها . وهذا مما يدخل المرأة ضرارا في دينها ودنياها . فنكاح الزانية أشد من جهة الفراش . ونكاح الزاني أشد من جهة أنه السيد المالك الحاكم . فتبقى المرأة الحرة العفيفة في أسر الفاجر الزاني الذي يقصر في حقوقها ، ويعتدي عليها ، ولهذا اتفقوا على اعتبار الكفاءة في الدين ، وعلى [ ص: 4444 ] ثبوت الفسخ بفوات هذه الكفاءة . واختلفوا في صحة النكاح بدون ذلك . فإن من نكح زانية فقد رضي لنفسه بالقيادة والدياثة . ومن نكحت زانيا فهو لا يحصن ماءه ، بل يضعه فيها وفي غيرها من البغايا . فهي بمنزلة المتخذة خدنا . فإن مقصود النكاح حفظ الماء في المرأة . وهذا لا يحفظ ماءه . والله سبحانه شرط في الرجال أن يكونوا محصنين غير مسافحين ، فقال : وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين وهذا مما لا ينبغي إغفاله . فإن القرآن قد قصه وبينه بيانا مفروضا . كما قال تعالى : سورة أنـزلناها وفرضناها فأما تحريم نكاح الزانية فقد تكلم فيه الفقهاء . وفيه آثار عن السلف . وليس مع من أباحه ما يعتمد عليه ، وقد ادعى بعضهم أنها منسوخة بقوله : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم وزعموا أن البغي من المحصنات . وتلك حجة عليهم ، فإن أقل ما في الإحصان العفة . وإذا اشترط فيه الحرية ، فذاك تكميل للعفة والإحصان . ومن حرم نكاح الأمة لئلا يرق ولده ، فكيف يبيح البغي الذي يلحق به من ليس بولده ؟ وأين فساد فراشه من رق ولده ؟ وكذلك من زعم أن النكاح هنا هو الوطء وهذا حجة عليهم . فمن وطئ زانية أو مشركة بنكاح ، فهو زان . وكذلك من وطئها زان . فإن ذم الزاني بفعله الذي هو الزنى . حتى لو استكرهها أو استدخلت ذكره وهو نائم كانت العقوبة للزاني دون قرينه . والمقصود أن الآية تدل على أن الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة . وأن ذلك حرام على المؤمنين . وليس هذا مجرد كونه فاجرا ، بل لخصوصية كونه زانيا . وكذلك في المرأة . ليس بمجرد فجورها ، بل لخصوص زناها ، بدليل أنه جعل المرأة زانية إذا تزوجت زانيا كما جعله زانيا إذا تزوج زانية . وهذا إذا كانا مسلمين يعتقدان تحريم الزنى . وإلا إن كانا مشكين ، فينبغي أن يعلم ذلك . ومضمونه أن الزاني لا يجوز إنكاحه حتى يتوب . وذلك يوافق اشتراطه الإحصان ، والمرأة الزانية لا تحصن فرجها . ولهذا يجب عليه نفي الولد الذي ليس منه . فمن نكح زانية [ ص: 4445 ] فهو زان ، أي : تزوجها . ومن نكحت زانيا فهي زانية ، أي : تزوجته . فإن كثيرا من الزناة قصروا أنفسهم على الزواني ، فتكون خدنا له لا يأتي غيرها ، فإن الرجل إذا كان زانيا لا يعف امرأته فتتشوق إلى غيره فتزني كما هو الغالب على نساء الزاني ومن يلوط بالصبيان . فإن نساءهم يزنين ليقضين إربهن وليراغمن أزواجهن . ولهذا يقال : عفوا تعف نساؤكم . وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم . فكما تدين تدان ، والجزاء من جنس العمل ، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها . فإن الرجل إذا رضي أن ينكح زانية ، رضي بأن تزني امرأته . والله سبحانه قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة . فأحدهما يحب لنفسه ما يحب للآخر . فإذا رضيت المرأة أن تنكح زانيا فقد رضيت عمله ، وكذلك الرجل . ومن رضي بالزنى فهو بمنزلة الزاني ، فإن أصل الفعل هو الإرادة . ولهذا في الأثر : من غاب من معصية فرضيها كان كمن شهدها . وفي الحديث : « المرء على دين خليله » وأعظم الخلة خلة الزوجين . وأيضا ، فإن الله تعالى جعل في نفوس بني آدم من الغيرة ما هو معروف فيستعظم الرجل أن يطأ الرجل امرأته ، أعظم من غيرته على نفسه أن يزني . فإذا لم يكره أن تكون زوجته بغيا وهو ديوثا ، كيف يكره أن يكون هو زانيا ؟ ولهذا لم يوجد من هو ديوث أو قواد يعف عن الزنى ، فإن الزنى له شهوة في نفسه . والديوث له شهوة في زنى غيره . فإذا لم يكن معه إيمان يكره من زوجته ذلك ، كيف يكون معه إيمان يمنعه من الزنى ؟ فمن استحل أن يترك امرأته تزني ، استحل أعظم الزنى . ومن أعان على ذلك فهو كالزاني . ومن أقر عليه ، ما إمكان تغييره ، فقد رضيه . ومن تزوج غير تائبة فقد رضي أن تزني . إذ لا يمكنه منعها . فإن كيدهن عظيم . ولهذا جاز له ، إذا أتت بفاحشة مبينة ، أن يعضلها لتفتدي . لأنها بزناها طلبت الاختلاع منه وتعرضت لإفساد نكاحه . فإنه لا يمكنه المقام معها حتى تتوب . ولا يسقط المهر بمجرد زناها . كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم للملاعن (لما قال مالي ) ، قال : « لا مال لك عندها [ ص: 4446 ] إن كنت صادقا فهو بما استحللت من فرجها » ، وإن كنت كاذبا عليها فذاك أبعد وأبعد لك منها ; لأنها إذا زنت قد تتوب . لكن زناها يبيح إعضالها حتى تفتدي إن اختارت فراقه ، أو تتوب . وفي الغالب أن الرجل لا يزني بغير امرأته ، إلا إذا أعجبه ذلك الغير . فلا يزال بما يعجبه ، فتبقى امرأته بمنزلة المعلقة . لا هي أيم ولا ذات زوج . فيدعوها ذلك إلى الزنى ، ويكون الباعث لها مقابلة زوجها على وجه القصاص . فإذا كان من العادين لم يكن قد أحصن نفسه . وأيضا فإن داعية الزاني تشتغل بما يختاره من البغايا ، فلا تبقى داعيته إلى الحلال تامة ، ولا غيرته كافية في إحصانه المرأة ، فتكون عنده كالزانية المتخذة خدنا ، وهذه معان شريفة لا ينبغي إهمالها . وعلى هذا ، فالمساحقة زانية ، كما في الحديث : « زنى النساء سحاقهن » والذي يعمل عمل قوم لوط زان ، فلا ينكح إلا زانية أو مشركة . ولهذا يكثر في نساء اللوطي من تزني ، وربما زنت بمن يتلوط به مراغمة له وقضاء لوطرها . وكذلك المتزوجة بمخنث ينكح كما تنكح ، هي متزوجة بزان ، بل هو أسوأ الشخصين حالا . فإنه مع الزنى صار ملعونا على نفسه للتخنيث ، غير اللعنة التي تصيبه بعمل قوم لوط . فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من يعمل عمل قوم لوط . وفي الصحيح أنه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء . وكيف يجوز لها أن تتزوج بمخنث قد انتقلت شهوته إلى دبره ؟ فهو يؤتى كما تؤتى المرأة . وتضعف داعيته من أمامه كما تضعف داعية الزاني بغير امرأته عنها . فإذا لم يكن له غيرة على نفسه ، ضعفت غيرته على امرأته وغيرها . ولهذا يوجد من كان مخنثا ليس له كبير غيرة على ولده ومملوكه ومن يكفله ، والمرأة إذا رضيت بالمخنث واللوطي ، كانت على دينه ، فتكون زانية ، وأبلغ . فإن تمكين المرأة من نفسها أسهل من تمكين الرجل من نفسه . فإذا رضيت ذلك من زوجها رضيته من نفسها .

    [ ص: 4447 ] ولفظ الآية : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك يتناول هذا كله بطريق عموم اللفظ ، أو بطريق التنبيه . وفحوى الخطاب الذي هو أقوى من مدلول اللفظ . وأدنى من ذلك أن يكون بطريق القياس ، كما بيناه في حد اللوطي وغيره . انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله . وكله تأييد لما ذهب إليه الإمام أحمد من أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ، ما دامت كذلك ، فإن تابت صح العقد عليها ، وإلا فلا . وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة . لقوله تعالى : وحرم ذلك على المؤمنين كما فضله تقي الدين .

    وقد روى هنا الحافظ ابن كثير آثارا مرفوعة وموقوفة ، كلها مؤكدة لهذا . ثم قال بعدها : فأما الحديث الذي رواه النسائي عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن عندي امرأة من أحب الناس إلي ، وهي لا تمنع يد لامس . قال : « طلقها » قال : لا صبر لي عنها . قال : « استمتع بها » . فقال النسائي : هذا الحديث غير ثابت . وعبد الكريم أحد رواته ضعيف الحديث ليس بالقوي . وقال الإمام أحمد : هو حديث منكر . وقال ابن قتيبة : إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلا . وحكاه النسائي في سننه عن بعضهم . فقال : وقيل : سخية تعطي . ورد هذا بأنه لو كان المراد لقال : لا ترد يد ملتمس . وقيل : المراد أن سجيتها لا ترد يد لامس ، لا أن المراد أن هذا واقع منها ، وأنها تفعل الفاحشة . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها ، فإن زوجها والحالة هذه يكون ديوثا ، وقد تقدم الوعيد على ذلك . ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها . فلما ذكر أنه يحبها أباح البقاء معها . لأن محبته لها محققة . ووقوع الفاحشة منها متوهم ، فلا يصار إلى الضرر العاجل للتوهم الآجل . والله أعلم . انتهى .

    [ ص: 4448 ] لطيفة :

    سر تقديم (الزانية ) في الآية الأولى و(الزاني ) في الثانية : أن الأولى في حكم الزنى والأصل فيه المرأة لما يبدو منها من الإيماض والإطماع . والثانية في نكاح الزناة إذا وقع ذلك على الصحة . والأصل في النكاح الذكور ، وهم المبتدئون بالخطبة ، فلم يسند إلا لهم ، لهذا وإن كان الغرض من الآية تنفير الأعفاء من الذكور والإناث ، من مناكحة الزناة ذكورا وإناثا ، زجرا لهم عن الفاحشة ، ولذلك قرن الزنى والشرك . ومن ثم كره مالك رحمه الله مناكحة المشهورين بالفاحشة ، وقد نقل أصحابه الإجماع في المذهب على أن للمرأة أو لمن قام من أوليائها فسخ نكاح الفاسق . ومالك أبعد الناس من اعتبار الكفاءة إلا في الدين . وأما في النسب فقد بلغه أنهم فرقوا بين عربية ومولى ، فاستعظمه وتلا : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم انتهى كلام الناصر في (" الانتصاف " ) ومراد السلف بالكراهة ، ما تعرف بالكراهة التحريمية . فيقرب بذلك مذهب المالكية .

    ثم بين تعالى حكم جلد القاذف للمحصنة ، وهي الحرة البالغة العفيفة ، بقوله سبحانه وتعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [4 - 5] والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم .

    والذين يرمون أي : يقذفون بالزنى : المحصنات أي : المسلمات الحرائر العاقلات [ ص: 4449 ] البالغات العفيفات عن الزنى : ثم لم يأتوا بأربعة شهداء أي : يشهدون على ما رموهن به : فاجلدوهم ثمانين جلدة أي : كل واحد من الرامين . وتخصيص النساء لخصوص الواقعة ، ولأن قذفهن أغلب وأشنع . وإلا فرق فيه بين الذكر والأنثى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أي : في أي : واقعة كانت ، لظهور كذبهم : وأولئك هم الفاسقون أي : لخروجهم عما وجب عليهم من رعاية حقوق المحصنات : إلا الذين تابوا من بعد ذلك أي : القذف : وأصلحوا أي : أعمالهم : فإن الله غفور رحيم أي : بقبول توبتهم وعفوه عنهم .

    تنبيهات :

    الأول : قال ابن تيمية : ذكر تعالى عدد الشهداء وأطلق صفتهم ولم يقيدهم بكونهم (منا ) ولا (ممن نرضى ) ولا (من ذوي العدل ) ولهذا تنازعوا : هل شهادة الأربعة التي لا توجب الحد مثل شهادة أهل الفسوق ؟ هل تدرأ الحد عن القاذف ؟ على قولين : أحدهما تدرأ كشهادة الزوج على امرأته أربعا . فإنها تدرأ حد القذف ولا توجب الحد على المرأة . ولو لم تشهد المرأة ، فهل تحد أو تحبس حتى تقر أو تلاعن ، أو يخلى سبيلها ؟ فيه نزاع . فلا يلزم من درء الحد عن القاذف ، وجوب حد الزنى فإن كلاهما حد . والحدود تدرأ بالشبهات . وأربع شهادات للقاذف شبهة قوية ، ولو اعترف المقذوف مرة أو مرتين أو ثلاثا درئ الحد عن القاذف ولم يجب الحد عليه عند أكثر العلماء ولو كان المقذوف غير محصن ، مثل أن يكون مشهورا بالفاحشة ، لم يحد قاذفه حد القذف . ولم يحد هو حد الزنى بمجرد الاستفاضة . وإن كان يعاقب كل منهما دون الحد . ولا يقام حد الزنى على مسلم إلا بشهادة مسلمين . لكن يقال لم يقيدهم بالعدالة ، وقد أمرنا الله أن نحمل الشهادة المحتاج إليها لأهل العدل والرضا وهم الممتثلون ما أمر الله به بقوله : كونوا قوامين بالقسط وقوله : وإذا قلتم فاعدلوا [ ص: 4450 ] ولو كان ذا قربى وقوله : ولا تكتموا الشهادة وقوله : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا وقوله : والذين هم بشهاداتهم قائمون فهم يقومون بها بالقسط لله ، فيحصل مقصود الذي استشهدوه .

    والوجه الثاني : كون شهادتهم مقبولة لأنهم أهل العدل والرضا . فدل على وجوب ذلك في القبول والأداء . وقد نهى الله سبحانه عن قبول شهادة الفاسق بقوله : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا لكن هذا نص في أن الفاسق الواحد يجب التبين في خبره . وأما الفاسقان فصاعدا . فالدلالة عليه تحتاج إلى مقدمة أخرى ، وما ذكره من عدد الشهود لا يتعين في الحكم باتفاق العلماء في مواضع . وعند الجمهور يحكم بلا شهود في مواضع عند النكول والرد ونحو ذلك .

    ونحكم بشاهد ويمين كما مضت بذلك السنة . ويدل على هذا أن الله لم يعتبر عند الأداء هذا القيد ، لا في آية الزنى ، ولا في آية القذف . بل قال : فاستشهدوا عليهن أربعة منكم وإنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق الواحد ، ولم يأمر به عند خبر الفاسقين . فإن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد . ولهذا قال العلماء : إذا استراب الحاكم في الشهود ، فرقهم وسألهم عما تبين به اتفاقهم واختلافهم . انتهى .

    الثاني : قال الحافظ ابن حجر في (" الفتح " ) : ذهب الجمهور إلى أن شهادة القذف بعد التوبة تقبل . ويزول عنه اسم الفسق . سواء كان بعد إقامة الحد أو قبله ، لقوله تعالى : إلا الذين تابوا روى البيهقي عن ابن عباس في هذه الآية : فمن تاب فشهادته في كتاب الله تقبل . وتأولوا قوله تعالى : أبدا على أن المراد ما دام مصرا على قذفه . لأن (أبد كل شيء ) على ما يليق به . كما لو قيل : لا تقبل شهادة الكافر أبدا ، فإن المراد ما دام مصرا على الكفر . وبالغ الشعبي فقال : إن تاب القاذف قبل إقامة الحد عليه ، سقط عنه . وذهبت الحنفية إلى [ ص: 4451 ] أن الاستثناء يتعلق بالفسق خاصة . فإذا تاب سقط عنه اسم الفسق ، وأما شهادته فلا تقبل أبدا . وقال بذلك بعض التابعين . انتهى .

    قال الزمخشري : والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها ، أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط . كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوهم ، وردوا شهادتهم وفسقوهم . أي : فاجمعوا لهم الجلد والرد والتفسيق ، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا ، فإن الله يغفر لهم ، فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين . انتهى .

    وأخرج البخاري في صحيحه في (كتاب الشهادات ) في باب شهادة القاذف والسارق والزاني ، عن عمر رضي الله عنه ; أنه جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا ، بقذف المغيرة بالزنى ، لما شهدوا بأنهم رأوه متبطن المرأة . ولم يبت زياد الشهادة . ثم استتابهم وقال : من تاب قبلت شهادته . وفي رواية قال لهم : من أكذب نفسه قبلت شهادته فيما يستقبل . ومن لم يفعل ، لم أجز شهادته . فأكذب شبل نفسه ونافع . وأبى أبو بكرة أن يرجع .

    قال المهلب : يستنبط من هذا ; أن إكذاب القاذف نفسه ليس شرطا في قبول توبته . لأن أبا بكرة لم يكذب نفسه ، ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعملوا بها .

    الثالث : قال الرازي : اختلفوا في أن التوبة عن القذف كيف تكون ؟

    قال الشافعي رحمه الله : التوبة منه إكذابه نفسه ، واختلف أصحابه في معناه . فقال الإصطخري : يقول كذبت فيما قلت فلا أعود لمثله . وقال أبو إسحاق : لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقا فيكون قوله : (كذبت ) كذبا ، والكذب معصية ، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل . ندمت على ما قلت ، ورجعت عنه ، ولا أعود إليه .

    الرابع : قال الرازي في قوله تعالى : وأصلحوا قال أصحابنا : إنه بعد التوبة ، لا بد من مضي مدة عليه في حسن الحل ، حتى تقبل شهادته وتعود ولايته . ثم قدروا تلك المدة بسنة [ ص: 4452 ] حتى تمر عليه الفصول الأربعة ، التي تتغير فيها الأحوال والطباع . كما يضرب للعنين أجل سنة . وقد علق الشرع أحكاما بالسنة من الزكاة والجزية وغيرهما . انتهى .

    وقال الغزالي في (" الوجيز " ) يكفيه أن يقول : تبت ولا أعود . إلا إذا أقر على نفسه بالكذب ، فهو فاسق ، يجب استبراؤه ككل فاسق يقول : تبت . فإنه لا يصدق حتى يستبرأ مدة فيعلم بقرائن الأحوال صلاح سريرته . انتهى .

    وبه يعلم أن التقدير بسنة لا دليل عليه ، بل المدار على علم صلاحه وظهور استقامته ، ولو على أثر الحد .

    قال الحافظ ابن حجر : روى سعيد بن منصور من طريق حصين بن عبد الرحمن قال : رأيت رجلا جلد حدا في قذف بالزنى . فلما فرغ من ضربه أحدث توبة . فلقيت أبا الزناد فقال لي : الأمر عندنا بالمدينة ; إذا رجع القاذف عن قوله ، فاستغفر ربه ، قبلت شهادته وعلقه البخاري .

    الخامس : ننقل هنا ما أجمله السيوطي في (" الإكليل " ) مما يتعلق بأحكام الآية . قال رحمه الله : في هذه الآية تحريم القذف ، وأنه فسق ، وأن القاذف لا تقبل شهادته ، وأنه يجلد ثمانين إذا قذف محصنة أي : عفيفة . ومفهومه أنه إذا قذف من عرفت بالزنى لا يحد للقذف . ويصرح بذلك قوله : ثم لم يأتوا بأربعة شهداء وفيها أن الزنى لا يقبل فيه إلا أربعة رجال ، لا أقل . ولا نساء . وسواء شهدوا مجتمعين أو متفرقين . واستدل بعموم الآية من قال : يحد العبد أيضا ثمانين . ومن قال : يحد قاذف الكافر والرقيق وغير البالغ والمجنون وولده . واحتج بها على أن من قذف نفسه ثم رجع لا يحد لنفسه . لأنه لم يرح أحدا واستدل بها من قال : إن حد القذف من حقوق الله ، فلا يجوز العفو عنه . انتهى .

    ثم رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، تحقيقا في بحث قبول الشهادة بعد التوبة ، جديرا بأن يؤثر . قال رحمه الله : وقوله تعالى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا نص في أن هؤلاء القذفة لا تقبل شهادتهم أبدا . واحدا كانوا أو عددا . بل لفظ الآية ينتظم العدد على سبيل [ ص: 4453 ] الجمع والبدل ، لأنها نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير . وكان الذين قذفوا عائشة عددا ، ولم يكونوا واحدا لما رأوها قدمت صحبة صفوان بن المعطل ، بعد قفول العسكر ، وكانت قد ذهبت تطلب قلادة لها فقدت ، فرفعوا هودجها معتقدين أنها فيه لخفتها ، ولم تكن فيه . فلما رجعت لم تجد أحدا فمكثت مكانها . وكان صفوان قد تخلف وراء الجيش . فلما رآها أعرض بوجهه عنها وأناخ راحلته حتى ركبتها . ثم ذهب إلى العسكر فكانت خلوته بها للضرورة . كما يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم للضرورة كسفر الهجرة مثل ما قدمت أم كلثوم بنت عقبة مهاجرة وقصة عائشة .

    ودلت الآية على أن القاذفين لا تقبل شهادتهم مجتمعين ولا متفرقين . ودلت الآية على أن شهادتهم بعد التوبة مقبولة كما هو مذهب الجمهور . فإنه كان من جملتهم مسطح وحسان وحمنة . ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد شهادة أحد منهم ، ولا المسلمون بعده لأنه كلهم تابوا لما نزل القرآن ببراءتها . ومن لم يتب حينئذ ، فإنه كافر مكذب بالقرآن . وهؤلاء ما زالوا مسلمين وقد نهى الله عن قطع صلتهم . ولو ردت شهادتهم بعد التوبة لاستفاض ذلك كما استفاض رد عمر شهادة أبي بكرة . وقصة عائشة أعظم من قصة المغيرة . لكن من رد شهادة القاذف بعد التوبة يقول : أرد شهادة من حد في القذف . وهؤلاء لم يحدوا . والأولون يجيبون بأجوبة : أحدها : أنه قد روي في السنن أنهم حدوا . الثاني : أن هذا الشرط غير معتبر في ظاهر القرآن ، وهم لا يقولون به . الثالث : أن الذين اعتبروا الحد واعتبروه وقالوا : قد يكون القاذف صادقا وقد يكون كاذبا . فإعراض المقذوف عن طلب الحد قد يكون لصدق القاذف . فإذا طلبه ولم يأت القاذف بأربعة شهداء ظهر كذبه . ومعلوم أن الذين قذفوا عائشة ظهر كذبهم أعظم من ظهور كذب كل أحد . فإن الله عز وجل هو الذي برأها بكلامه الذي أنزله من فوق سبع سماوات يتلى ، فإذا كانت شهادتهم مقبولة ، فغيرهم أولى . وقصة عمر التي حكم فيها بين المهاجرين والأنصار ، في شأن المغيرة ، دليل على الفصلين جميعا . لما توقف الرابع فجلد الثلاثة دونه ورد شهادتهم لأن اثنين من الثلاثة تابا فقبل شهادتهما . والثالث ، هو أبو بكرة ، مع كونه من أفضلهم ، لم يتب [ ص: 4454 ] فلم يقبل المسلمون شهادته . وقد قال عمر : تب أقبل شهادتك . لكن إذا كان القرآن قد بين أنهم إن لم يأتوا بأربعة شهداء لم تقبل شهادتهم أبدا ، ثم قال بعد ذلك : وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا فمعلوم أن قوله : { هم الفاسقون } وصف ذم لهم زائد على رد الشهادة .

    وأما تفسير العدالة فإنها الصلاح في الدين والمروءة . وإذا وجد هذا في شخص كان عدلا في شهادته وكان من الصالحين ، وأما أنه لا يستشهد أحد في وصية ولا رجعة في جميع الأمكنة والأزمنة حتى يكون بهذه الصفة ، فليس في كتاب الله وسنة رسوله ما يدل على ذلك ، بل هذا صفة المؤمن الذي أكمل إيمانه بأداء الواجبات وإن كان المستحبات لم يكملها . ومن كان كذلك كان من أولياء الله المتقين .

    ثم إن القائلين بهذا قد يفسرون الواجبات بالصلوات الخمس ونحوها ، بل قد يجب على الإنسان من حقوق الله وحقوق عباده ما لا يحصيه إلا الله ، مما يكون تركه أعظم إثما من شرب الخمر والزنى ومع ذلك لم يجعلوه قادحا في عدالته ، إما لعدم استشعار كثرة الواجبات ، وإما لالتفافهم إلى ترك السيئات دون فعل الواجبات ، وليس الأمر كذلك في الشريعة . وبالجملة ، فهذا معتبر في باب الثواب والعقاب والمدح والذم والموالاة والمعاداة ، وهذا أمر عظيم . وباب الشهادة مداره على أن يكون الشهيد مرضيا ، أو يكون ذا عدل بتحري القسط والعدل في أقواله وأفعاله . والصدق في شهادته وخبره . وكثيرا ما يوجد هذا مع الإخلال بكثير من تلك الصفات . كما أن الصفات التي اعتبروها كثيرا ما توجد بدون هذا كما قد رأينا كل واحد من الصنفين كثيرا . لكن يقال : إن ذلك مظنة الصدق والعدل والمقصود من الشهادة ودليل عليها وعلامة لها . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق على صحته : « عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي [ ص: 4455 ] إلى الجنة . . » الحديث . فالصدق مستلزم للبر ، كما أن الكذب مستلزم للفجور . فإذا وجد الملزوم ، وهو تحري الصدق ، وجد اللازم وهو البر . وإذا انتفى اللازم وهو البر انتفى الملزوم وهو الصدق . وإذا وجد الكذب وهو الملزوم وجد الفجور وهو اللازم . وإذا انتفى اللازم وهو الفجور انتفى الملزوم وهو الكذب ، ولهذا يستدل بعدم بر الرجل على كذبه . وبعدم فجوره على صدقه . فالعدل الذي ذكروه ; من انتفى فجوره . وهو إتيان الكبيرة والإصرار على الصغيرة . وإذا انتفى ذلك فيه ، انتفى كذبه الذي يدعوه إلى الفجور . والفاسق هو من عدم بره ، وإذا عدم بره عدم صدقه . ودلالة هذا الحديث مبنية على أن الداعي إلى البر يستلزم البر ، والداعي إلى الفجور يستلزم الفجور . فالخطأ كالنسيان والعمد كالكذب . انتهى . ثم بين تعالى حكم الرامين لأزواجه خاصة ، بعد بيان حكم الرامين بغيرهن ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [6 - 7] والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين .

    والذين يرمون أزواجهم أي : بالزنى : ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين أي : فيما رماها به من الزنى : والخامسة أي : والشهادة الخامسة للأربع المتقدمة : أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين أي : فيما رماها به من الزنى . فيسقط عنه حد القذف ، ويجب عليها الحد وهو الرجم . إلا إن لاعنت أيضا . كما قال سبحانه :




  9. #469
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النُّورِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4456 الى صـ 4470
    الحلقة (468)




    القول في تأويل قوله تعالى :

    [8 - 10] ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم .

    ويدرأ عنها العذاب أي : الدنيوي وهو الرجم : أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين أي : فيما رماها به من الزنى : والخامسة أن غضب الله عليها إن كان أي : الزوج : من الصادقين ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم أي : لحرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم ، ولكن لرحمته ولطفه ، شرع لكم من الفرج والمخرج ، ما أنزله وأحكمه .

    تنبيهات :

    الأول : قال ابن كثير : هذه الآية الكريمة فيها فرج للأزواج وزيادة مخرج ، إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة ، أن يلاعنها كما أمر الله عز وجل . وهو أن يحضرها إلى الإمام فيدعي عليها بما رماها به . فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء إنه لمن الصادقين . أي : فيما رماها به من الزنى . والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . فإذا قال ذلك بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء . وحرمت عليه أبدا . ويعطيها مهرها . ويتوجه عليها حد الزنى . ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين . أي : فيما رماها به . والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين .

    الثاني : روي في الصحيح أن ذلك وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم . وأن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 4457 ] أرأيت رجلا رأى مع امرأته رجلا ، أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يفعل ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد قضى الله فيك وفي امرأتك . وتلا عليه ما نزل من هذه الآية . فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وصح أيضا أنها قد وقعت لرجلين سميا . وقد اختلف شراح الصحيح في معنى ما روي من أنها نزلت فيهما معا .

    وإذا راجعت ما كتبناه في (المقدمة ) في معنى سبب النزول ، زال الإشكال فارجع إليه .

    الثالث : قال السيوطي في (" الإكليل " ) : هذه الآية أصل في اللعان ، ففيها أن شرطه سبق قذف . وأنه إنما يكون بين الزوجين لا بين الرجل وأجنبية ولا السيد وأمته . واستدل بعمومها من قال بلعان الكفار والعبيد والخصي والمجبوب والمحدود في القذف والأعمى والأخرس ، ومن الصغيرة التي لا تحمل والآيسة . واستدل بقوله : ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم من قال : لا لعان إذا أقام البينة على زناها وبقوله : فشهادة أحدهم من قال : إن اللعان شهادة لا يمين . وقوله : أربع شهادات بالله إلخ فيه أن صيغته أن يقول : أشهد بالله إني لمن الصادقين ، أربعا والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فاستدل به من لم يجز إبدال أشهد (بأحلف أو أقسم ونحوه ) أو الله (بالرحمن ونحوه ) أو زاد (بعلم الله ونحوه ) ومن لم يوجب زيادة : (الذي لا إله إلا هو ) ، ومن لم يجز إسقاط : إني لمن الصادقين ، ولا إبدالها بما كذبت عليها ونحوه ولا الاكتفاء بدون أربع ، خلافا لأبي حنيفة ، في اكتفائه بثلاث شهادات . ولا تقديم اللعنة على الشهادة ، أو توسطها ، أو إبدالها بالغضب . وقوله تعالى : ويدرأ عنها العذاب الآية ، فيه أن لعانه يوجب على المرأة حد الزنى وأن لها دفعه بأن تقول أربع مرات . أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إلخ . وفيه أيضا أنه لا يجوز لها أن تبدل أشهد (بأحلف ) أو الغضب (باللعنة ) إلى آخر ما تقدم . واستدل به على أنه لا يجوز تقديم لعانها على لعانه . انتهى .

    [ ص: 4458 ] الرابع : اعلم أن الحد الواجب بالزنى نوعان : جلد ورجم . فالجلد حد البكرين الحرين إذا زنيا . فيجلد كل واحد منهما مائة جلدة . وفي تغريبهما سنة ، وتغريب الزاني وحده كذلك ، خلاف . نعم ، إذا رآه الإمام مصلحة فلا خلاف في إمضائه . والرجم حد الزانيين المحصنين . والإحصان عبارة عن البلوغ والعقل والحرية والدخول في النكاح الصحيح . فلا يقتل بالسيف ، بل ينكل بالرجم ، لا بصخرة تدفف ، ولا بحصيات تعذب ، بل بحجارة معتدلة ، كما في (" الوجيز " ) وقد اعترض جماعة الخوارج على تشريع الرجم في الإسلام وقالوا : إن الله لم يأمر به في كتابه العزيز . فالذي ورد في عقاب الزنى في القرآن حكمان . أحدهما قوله تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما وهذا الحكم قد نسخ - أي : بين - بالحكم الثاني وهو قوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين هذه حجة الخوارج . أما حجة الإجماع فهي ورود الآثار الصحيحة الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم المحصن ، وفعله . وروي لذلك جملة أحاديث وأحكام عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، كذا في كتاب (" المقابلات " ) وسبقه الرازي في (" تفسيره " ) فطول النفس في سوق شبهة الخوارج ، وأجاب عنها بما ملخصه : أن الآية المذكورة مخصوصة بالبكر ، خصصها بالخبر المتواتر بالرجم ، وتخصيص القرآن الكريم بخبر الواحد جائز . فأولى بالمتواتر . وثانيا - قال - إنه لا يستبعد تجدد الأحكام الشرعية بحسب تجدد المصالح . فلعل المصلحة التي تقتضي وجوب الرجم ، حدثت بعد نزول تلك الآيات . انتهى .

    قال صاحب (" المقابلات " ) : إن الشريعة الإسلامية متفقة مع الشرع العبري في أغلب أحكام الزنى ، ولم يرد في الديانة المسيحية نص صريح ينسخ حكم اليهودية في الزنى . ولكن يروى [ ص: 4459 ] عن عيسى عليه السلام ، ما يؤخذ منه ضمنا ، عدم إمكان إقامة حد الرجم . لأنه اشترط براءة الراجمين من كل عيب ، وأمر الزانية ، التي اعترفت بين يديه ، بالتوبة والاستغفار . أما حكم الزنى في القوانين الحديثة فيخالف مخالفة كلية لحكم الشريعة الغراء ، وحكم التوراة والإنجيل . انتهى كلامه .

    وفقنا الله لحفظ حدوده ، وجنبنا محارمه بمنه وكرمه .

    التنبيه الرابع : من مباحث اللفظ في الآية أن يقال : قد وردت الفاصلة في غير هذا الموضع بـ(تواب رحيم ) فعلام فصلت هنا بـ(تواب حكيم ) مع أن التوبة مع الرحمة ، فيما يظهر ؟

    و(الجواب ) : أن الله عز وجل حكم بالتلاعن على الصورة التي أمر بها . وأراد بذلك ستر هذه الفاحشة على عباده . وذلك حكمة منه . ففصلت هذه الآية بـ(تواب حكيم ) إثر بيان الحكم . جمعا بين التوبة المرجوة من صاحب المعصية ، وبين الحكمة في سترها على تلك الصورة . فافهم ذلك . أشار له ابن الأثير في (" المثل السائر " ) .

    ثم أشار تعالى إلى نبأ الإفك ، وتبرئة عائشة رضي الله عنها ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [11] إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم .

    إن الذين جاءوا بالإفك أي : بأبلغ ما يكون من الكذب ، وقيل هو البهتان لا تشهر به حتى يفجأك . والمراد به ما أفك به الصديقة ، أم المؤمنين رضي الله عنها ؟ فاللام للعهد ويجوز حمله على الجنس . قيل : فيفيد القصر ، كأنه لا إفك إلا هو . وفي لفظ (المجيء ) إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل : عصبة منكم أي : جماعة منكم ، خبر (إن ) و(منكم ) نعت لها . وبه أفاد الخبر . وقوله تعالى : لا تحسبوه شرا لكم [ ص: 4460 ] مستأنف ، والهاء ضمير الإفك أو القذف . والخطاب لرسول الله صلوات الله عليه ، ولآل الصديق رضي الله عنهم ، ولمن ساءه ذلك من المؤمنين . تسلية لهم من أول الأمر . وقوله تعالى : بل هو خير لكم زيادة في التسلية والتكريم . أي : لا تظنوه يلحق تهمة بكم أو يوقع نقيصة فيكم ، بل قد جر لكم خيرا عظيما .

    قال الزمخشري : ومعنى كونه خيرا لهم ، أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم . لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة . وأنه نزلت فيه ثماني عشرة آية ، كل واحدة منها مستقلة ، بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له ، وتنزيه لأم المؤمنين رضوان الله عليها ، وتطهير لأهل البيت ، وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به فلم تمجه أذناه . وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة . وفوائد دينية وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم أي : جزاؤه ، وذلك الذم في الدنيا إلى يوم القيامة ، والجلد ثمانين . ولعذاب الآخرة أشد : والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم أي : قام بعظمه وإشاعته ، بعد ابتدائه بالخوض فيه ، وهو رأس المنافقين عبد الله بن أبي ، لإمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانتهازه الفرص ، وطلبه سبيلا إلى الغميزة .

    روى الطبري عن ابن زيد قال : أما الذي تولى كبره فعبد الله بن أبي بن سلول الخبيث . هو الذي ابتدأ هذه الكلام وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ، ثم جاء يقود بها . والعذاب العظيم يعم عذابي الدارين ، كما قلنا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [12] لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين .

    لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا أي : بالذين منهم من [ ص: 4461 ] المؤمنين والمؤمنات ، كقوله تعالى : ولا تلمزوا أنفسكم قال الشهاب : وهذا من بديع الكلام . وقد وقع في القرآن كثيرا . وهو بحسب الظاهر يقتضي أن كل واحد يظن بنفسه خيرا ، وليس بمراد . بل أن يظن بغيره ذلك . وتوجيهه أنه مجاز لجعله اتحاد الجنس كاتحاد الذات ولذا فسر قوله : ولا تقتلوا أنفسكم بلا تقتلوا من كان من جنسكم أو يجعلهم كنفس واحدة ، فمن عاب مؤمنا فكأنما عاب نفسه ، ويجوز أن يقدر فيه مضاف . أي : ظن بعض المؤمنين والمؤمنات بأنفس بعضهم الآخر . وقال الكرماني في حديث : « أموالكم عليكم حرام » إنه كقولهم : بنو فلان قتلوا أنفسهم أي : قتل بعضهم بعضا ، مجازا أو إضمارا للقرينة الصارفة عن ظاهره . و(لولا ) تحضيضية بمعنى : (هلا ) : وقالوا هذا إفك مبين أي : هذا الذي سمعناه ، من رمي أم المؤمنين ، إفك مبين جلي لمن عقل وفكر فيه . قال العلامة الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : (لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم ) ؟ ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة ؟ وعن الضمير إلى الظاهر ؟ قلت : ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات . وليصرح بلفظ (الإيمان ) دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض ألا يصدق مؤمن على أخيه ، ولا مؤمنة على أختها ، قول عائب ولا طاعن . وفيه تنبيه على أنحق المؤمن ، إذا سمع قالة في أخيه ، أن يبني الأمر فيها على الظن ، لا على الشك . وأن يقول بملء فيه - بناء على ظنه بالمؤمن الخير - : هذا إفك مبين هكذا باللفظ المصرح ببراءة ساحته . كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال . وهذا يدل من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له . وليتك تجد من يسمع فيسكت ، ولا يشيع ما سمعه بأخوات ! انتهى . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [13] لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون .

    [ ص: 4462 ] لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله أي : في حكمه وشريعته المؤسسة على الدلائل الظاهرة المستيقنة : هم الكاذبون أي الكاملون في الكذب ، المشهود عليهم بذلك . قال الزمخشري : وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره . واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع ، من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة والتنكيل به ، إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المؤمنين . فكيف بأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحبيبة حبيب الله ؟
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [14] ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم .

    ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم أي : لعوجلتم بالعقاب ، بسبب ما خضتم فيه من الإفك . ولكنه واسع الفضل والرحمة . يمهل المذنب للتوبة ، ويحلم عنه للأوبة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [15] إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم .

    إذ تلقونه أي : وقت تلقي بعضكم من بعض : بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا أي : لا تبعة له ولا عقوبة على مشيعه : وهو عند الله عظيم أي : والحال أنه عظيم في الوزر واستجرار العذاب . قال المهايمي : لأن الجراءة على رسول الله وعلى أوليائه ، تشبه الجراءة على الله تعالى . قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله : بأفواهكم [ ص: 4463 ] والقول لا يكون إلا بالفم ؟ قلت : معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ، فيترجم عنه اللسان . وهذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم ، ويدور في أفواهكم ، من غير ترجمة عن علم به في القلب . كقوله تعالى : يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم انتهى . فالقيد ليس تأكيدا صرفا ، (كنظر بعينه ) بل ليفيد نفيه عما عداه . وقيل إنه توبيخ ، كما تقول : (قاله بملء فيه ) ، فإن القائل ربما رمز ، وربما صرح وتشدق . وقد قيل هذا في قوله : بدت البغضاء وقيل : فائدته ألا يظن أنه كلام نفسي . فهو تأكيد لدفع المجاز . والسياق يقتضي الأول . كذا في (" العناية " ) .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [16] ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم .

    ولولا إذ سمعتموه قلتم أي : تكذيبا لمشيعيه : ما يكون لنا أي : ما يصح لنا بوجه ما : أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم أي : تنزيها لك ، وبراءة إليك مما جاء به هؤلاء . فإنه بهتان عظيم يستحيل صدقه . قال الزمخشري : كلمة (سبحانك ) للتعجب من عظم الأمر . فإن قلت : ما معنى التعجب في كلمة التسبيح ؟ قلت : الأصل في ذلك ، أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه . ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه . أو لتنزيه الله تعالى من أن تكون حرمة نبيه عليه السلام فاجرة . انتهى .

    فعلى الأول ، هو من المجاز المتفرع على الكناية ، وهو كثير . وقد ذكره النووي في (" الأذكار " ) وكذا (لا إله إلا الله ) تستعمل للتعجب أيضا . وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التعجب فلم ترد ولم تسمع في لسان الشرع . وقد صرح الفقهاء بالمنع . وإنما وقع من العوام وبعض المحدثين كقوله :

    [ ص: 4464 ]
    فمن رأى حسنه المفدى في الحال صلى على محمد


    وعلى الثاني ، هو حقيقة . كذا في (" العناية " ) .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [17 - 18] يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم .

    يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين فإن الاتصاف يصد عن كل مقبح : ويبين الله لكم الآيات أي : الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب ، دلالة واضحة لتتعظوا وتتأدبوا بها . أي : ينزلها كذلك مبينة ، ظاهرة الدلالة على معاينها : والله عليم حكيم

    ثم أشار تعالى إلى تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيئ ، فعلق بذهنه منه شيء ، ألا يتكلم به ولا يذيعه ، بقوله سبحانه متوعدا :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [19] إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون .

    إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة أي : تنتشر الخصلة المفرطة في القبح ، وهي الفرية والرمي بالزنى ونحوه ، كاللواط وما عظم فحشه : في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا أي : من الحد وغيره ، مما يتفق من البلايا الدنيوية : والآخرة أي : من عذاب النار : والله يعلم أي : ما في القلوب من الأسرار والضمائر : وأنتم لا تعلمون يعني أنه قد علم محبة من أحب الإشاعة ، وهو معاقبه عليها .
    [ ص: 4465 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [20] ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم .

    ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم تكرير للمنة ، بترك المعاجلة بالعقاب ، للدلالة على عظم الجريمة . وحذف الجواب وهو مستغنى عنه بذكره مرة . وهو (لمسكم ) .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [21 - 22] يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم .

    يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان أي : بإشاعة الفاحشة : ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا أي : ما طهر من دنسها : منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء من عباده بإلهامه التوبة والإنابة : والله سميع عليم ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم

    [ ص: 4466 ] قال الزمخشري : (يأتل ) من (ائتلى ) إذا حلف ، افتعال من الألية وهو القسم وقيل من قولهم : (ما ألوت جهدا ) إذا لم تدخر منه شيئا . ويشهد للأول قراءة الحسن : و(لا يتأل ) والمعنى : لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان . أو لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم ، وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجناية اقترفوها ، فليعودوا عليهم بالعفو والصفح . وليفعلوا بهم مثل ما يرجون أن يفعل بهم ربهم ، مع كثرة خطاياهم وذنوبهم وسيأتي سبب نزولها فيمن عني بها .

    ثم بين تعالى وعيد القاذفين للبريئات ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [23 - 24] إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون .

    إن الذين يرمون المحصنات الغافلات أي : العفائف عن الفاحشة ، النقيات القلوب عنها : المؤمنات لعنوا في الدنيا بالذم والحد ورد الشهادة إلا إذا تابوا : والآخرة أي : حيث يلعنهم ثمة الملائكة ومن شاء الله : ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون أي : يعترفون بها بإنطاق الله تعالى إياها أو بظهور آثار ما عملوه عليها . بحيث يعلم من يشاهدهم ما عملوه . وذلك بكيفية يعلمها الله . فهو استعارة . ورجع الأول لقوله : قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء فظاهره الحقيقة ، وحمله على الثاني بعيد . قيل : سيأتي في (" يس " ) : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون والختم على الأفواه [ ص: 4467 ] ينافي شهادة الألسنة . والجواب أن الختم على الأفواه معناه المنع عن التكلم بما يريده وينفعه ، بحسب زعمه ، اختيارا . كالإنكار والاعتذار ، أو أن هذا في حال ، وذلك في حال ، أو كل منهما في حق قوم غير الآخرين ، أو هذا في حق القذفة ، وذاك في حق الكفرة - وليس بشيء - إذ لا منافاة فالسر في التصريح بالألسنة هنا ، وعدم ذكرها هناك ، أن الآية لما كانت في حق القاذف بلسانه ، وهو مطالب معه بأربعة شهداء ، ذكر هنا خمسة أيضا ، وصرح باللسان الذي به عمله ليفضحه ، جزاء له من جنس فعله . كذا في (" العناية " ) .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [25] يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين .

    يومئذ أي : يوم إذ تشهد عليهم بما ذكر : يوفيهم الله دينهم أي : جزاءهم : الحق أي : الواجب الثابت : ويعلمون أن الله هو الحق المبين أي : المظهر للأمور كما هي في أنفسها . ثم أشار تعالى إلى ما يؤكد التبرئة من شاهد العرف والعادة ، في أنه لا يضم الشكل إلا إلى شكله ، ولا يساق الأهل إلا إلى أهله ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [26] الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم .

    الخبيثات أي : من النساء : للخبيثين أي : من الرجال : والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أي : بحيث لا يكاد يتجاوز كل واحد إلى غيره . و(الطيب ) : ضد الخبيث وهو الأفضل من كل شيء والأحسن والأجود . قال أبو السعود : وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الأطيبين ، وخيرة الأولين والآخرين ، تبين كون الصديقة رضي الله عنها من أطيب الطيبات بالضرورة . واتضح بطلان ما قيل في حقها من الخرافات ، [ ص: 4468 ] حسبما نطق به قوله تعالى : أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم وهو الجنة . وبهذه الآية تم نبأ أهل الإفك .

    واعلم أن ما اشتملت عليه الآيات من الأحكام والفوائد والمطالب والآداب ، لا تفي بها مجلدات . إلا أنا نشير إلى شيء من ذلك ، نقتبسه من أهم المراجع ، تتميما لما أجملناه في تأويلها .

    فالأول : أن نبأ الإفك كان في غزوة المريسيع (تصغير مرسوع ، بئر أو ماء لخزاعة ) وكانت في شعبان سنة خمس . وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن الحارث بن أبي ضرار ، سيد بني المصطلق سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريد حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من أصحابه . وخرج معهم جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها ، فأغار عليهم ، فسبى ذراريهم وأموالهم . وكانت عائشة رضي الله عنها قد خرجت معه ، عليه الصلاة والسلام ، في هذه الغزوة ، بقرعة أصابتها وكانت تلك عادته مع نسائه . فلما رجعوا من الغزوة ، نزلوا في بعض المنازل . فخرجت عائشة لحاجتها ففقدت عقدا لأختها كانت أعارتها إياه . فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها . فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها ، فظنوها فيه ، فحملوا الهودج ، ولا ينكرون خفته ، لأنها رضي الله عنها كانت فتية السن لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها . وأيضا ، فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج ، لم ينكروا خفته . ولو كان الذي حمله واحدا أو اثنين لم يخف عليهما الحال . فرجعت عائشة إلى منزلهم وقد أصابت العقد ، فإذا ليس لها داع ولا مجيب . فقعدت في المنزل ، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها والله غالب على أمره ، يدبر الأمر فوق عرشه كما يشاء فغلبتها عيناها فنامت فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل (بفتح الطاء المشدودة سلمى ذكواني صحابي فاضل متقدم الإسلام ) : إنا لله وإنا إليه راجعون . زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صفوان قد عرس في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم كما جاء عنه في صحيح أبي حاتم وفي السنن . فلما رآها عرفها . وكان يراها قبل نزول الحجاب . فاسترجع وأناخ راحلته ، فقربها إليها ، فركبتها . وما كلمها كلمة واحدة . ولم [ ص: 4469 ] تسمع منه إلا استرجاعه . ثم سار بها يقودها حتى قدم بها ، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته وما يليق به . ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفسا . فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه . فجعل يستحكي الإفك ويستوشيه ويشيعه ويذيعه ويجمعه ويفرقه . وكان أصحابه يتقربون إليه . فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم . ثم استشار أصحابه في فراقها ، فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها ويأخذ غيرها ، تلويحا لا تصريحا . وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها ، وألا يلتفت إلى كلام الأعداء . فعلي ، لما رأى أن ما قيل مشكوك فيه ، أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين ، ليتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والغم الذي لحقه من كلام الناس فأشار بحسم الداء . وأسامة لما علم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ولأبيها ، وعلم من عفتها وبراءتها وحصانتها وديانتها ، ما هي فوق ذلك وأعظم منه ، وعرف من كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه ومنزلته عنده ودفاعه عنه ; أنه لا يجعل ربة بيته وحبيبته ، من النساء وبنت صديقه بالمنزل الذي أنزلها به أرباب الإفك . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربه وأعز عليه من أن يجعل تحته امرأة بغيا . وعلم أن الصديقة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربها من أن يبتليها بالفاحشة وهي تحت رسوله . ومن قويت معرفة الله ومعرفة رسوله وقدره عند الله في قلبه - قال كما قال أبو أيوب وغيره من سادات الصحابة ، لما سمعوا ذلك : سبحانك هذا بهتان عظيم وتأمل ما في تسبيحهم لله وتنزيههم له في ذلك المقام ، من المعرفة به وتنزيهه عما لا يليق به أن يجعل لرسوله وخليله وأكرم الخلق عليه ، امرأة خبيثة بغيا . فمن ظن به سبحانه هذا الظن ، فقد ظن به السوء . وعرف أهل المعرفة بالله ورسوله ، أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها . كما قال تعالى : الخبيثات للخبيثين فقطعوا قطعا لا يشكون فيه ، أن هذا بهتان عظيم وفرية ظاهرة .

    فإن قيل : فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها وسأل عنها وبحث واستشار وهو أعرف بالله وبمنزلته عنده فيما يليق به . وهلا قال : سبحانك هذا بهتان عظيم ، كما قاله فضلاء الصحابة ؟ [ ص: 4470 ] فالجواب : أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سببا لها ، وامتحانا وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم ولجميع الأمة إلى يوم القيامة . ليرفع بهذه القصة أقواما ويضع بها آخرين . ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا ، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا . واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي شهرا في شأنها . لا يوحي إليه في ذلك بشيء ليتم حكمته التي قدرها وقضاها ، ويظهر على أكمل الوجوه ، ويزداد المؤمنون الصادقون إيمانا وثباتا على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصديقين من عباده . ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا . ويظهر للرسول وللمؤمنين سرائرهم ، ولتتم العبودية المرادة من الصديقة وأبيها . وتتم نعمة الله عليهم ، ولتشدد الفاقة والرغبة منها ومن أبيها ، والافتقار إلى الله ، والذل له ، وحسن الظن به ، والرجاء له . ولينقطع رجاؤها من المخلوقين ، وتيأس من حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق . ولهذا وقت لهذا المقام حقه ، لما قال لها أبوها : قومي إليه ، وقد أنزل الله عليه براءتها ، قالت : والله ! لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي .

    وأيضا ، فكان من حكمة حبس الوحي شهرا ، أن القضية نضجت وتمخضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف ، إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها .

    وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع . فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، والصديق ، وأهله وأصحابه ، والمؤمنون . فورد عليهم ورود الغيث على الأرض ، أحوج ما كانت إليه . فوقع منهم أعظم موقع وألطفه . وسروا به أتم السرور ، وحصل لهم به غاية الهناء . فلو أطلع الله رسوله على حقيقة الحال من أول وهلة ، وأنزل الوحي على الفور بذلك ، لفاتت هذه الحكم وأضعافها ، بل أضعاف أضعافها .





  10. #470
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النُّورِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4471 الى صـ 4485
    الحلقة (469)



    وأيضا فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عندهم ، وكرامته عليه . وأن يخرج رسوله عن هذه القضية ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة عنه ، والرد على أعدائه ، [ ص: 4471 ] وذمهم وعيبهم بأمر لا يكون له فيه عمل ولا ينسب إليه ، بل يكون هو وحده المتولي لذلك ، الثائر لرسوله وأهل بيته .

    وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى . والتي رميت زوجته فلم يكن يليق أن يشهد ببراءتها . مع علمه ، أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها ، ولم يظن بها سوءا قط ، وحاشاه وحاشاها . ولذلك لما استعذر من أهل الإفك ، قال : « من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي ؟ والله ! ما علمت على أهلي إلا خيرا . ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا . وما كان يدخل على أهلي إلا معي » فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين . لكن لكمال صبره وثباته ورفقه وحسن ظنه بربه ، وثقته به ، وفى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه . حتى جاء الوحي بما أقر عينه وسر قلبه وعظم قدره وظهر لأمته احتفال ربه به واعتناؤه بشأنه .

    ولما جاء الوحي ببراءتها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك ، فحدوا ثمانين ثمانين . ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبي ، مع أنه رأس الإفك . فقيل : لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة . والخبيث ليس أهلا لذلك . ولقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة ، فيكفيه ذلك عن الحد . وقيل : بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ، ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه وقيل : الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو بينة . وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد فإنه إنما كان يذكر من أصحابه ولم يشهدوا عليه . ولم يكن يذكره بين المؤمنين . وقيل : حد القذف حق الآدمي ، لا يستوفى إلا بمطالبته : وإن قيل إنه حق لله فلا بد من مطالبة المقذوف وعائشة لم تطالب به ابن أبي . وقيل : بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته . كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا . وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام . فإنه كان مطاعا فيهم رئيسا عليهم . فلم يؤمن إثارة فتنة في حده ، ولعله ترك لهذه الوجوه كلها . فجلد مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش . وهؤلاء من المؤمنين الصادقين ، تطهيرا لهم وتكفيرا . وترك عدو الله ابن أبي إذا فليس هو من أهل ذاك [ ص: 4472 ] - هذا ما أفاده الإمام ابن القيم رحمه الله في (" زاد المعاد " ) وهو خلاصة الروايات في هذا الباب .

    ثم قال رحمه الله : ومن تأمل قول الصديقة ، وقد نزلت براءتها ، فقال لها أبوها : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : والله ! لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله - علم معرفتها وقوة إيمانها وتوليتها النعمة لربها . وإفراده بالحمد في ذلك المقام ، وتجديدها التوحيد ، وقوة جأشها وإدلالها ببراءة ساحتها ، وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح الطالب له . ولثقتها بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ، قالت ما قالت . إدلالا للحبيب على حبيبه ، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي هو أحسن مقامات الإدلال ، فوضعته موضعه . ولله ! ما كان أحبها إليه حين قالت : لا أحمد إلا الله فإنه هو الذي أنزل براءتي . ولله ! ذلك الثبات والرزانة منها ، وهو أحب شيء إليها ، ولا صبر لها عنه ، وقد تنكر قلب حبيبها لها شهرا . ثم صادفت الرضاء منه والإقبال ، فلم تبادر إلى القيام إليه ، والسرور برضاه وقربه ، مع شدة محبتها له . وهذا غاية الثبات والقوة . انتهى .
    وطرق حديث الإفك متعددة عن أم المؤمنين عائشة وعن ابن الزبير وأم رومان وابن عباس وأبي هريرة وأبي اليسر . ورواه من التابعين عشرة كما في (" فتح الباري " ) وذلك في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها . ما بين مطول وموجز . ومن الثاني ما أخرجه الإمام أحمد عن أم رومان قالت : بينا أنا عند عائشة ، إذ دخلت عليها امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله بابنها وفعل . فقالت عائشة : ولم ؟ قالت : إنه كان فيمن حدث الحديث قالت : وأي حديث ؟ قالت كذا وكذا . قالت : وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت نعم ، وبلغ أبا بكر ؟ قالت : نعم . فخرت عائشة رضي الله عنها مغشيا عليها . فما أفاقت وإلا وعليها حمى بنافض . قالت : فقمت فدثرتها . قالت : فجاء النبي صلى الله عليه وسلم قال : فما شأن هذه ؟ فقلت : يا رسول الله أخذتها حمى بنافض . قال : فلعله في حديث تحدث به ؟ قالت : فاستوت عائشة قاعدة ، فقالت : والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ، [ ص: 4473 ] ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني . فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه حين قال : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون

    قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله عذرها . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر . فدخل فقال : يا عائشة ! إن الله تعالى قد أنزل عذرك . فقالت : بحمد الله لا بحمدك . فقال لها أبو بكر : تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم .

    قالت : وكان فيمن حدث هذا الحديث رجل يعوله أبو بكر . فحلف ألا يصله . فأنزل الله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة إلى آخر الآية . فقال أبو بكر : بلى ، فوصله
    . تفرد به البخاري .

    المطلب الثاني : قال في (" الإكليل " ) في قوله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك نزلت في براءة عائشة مما قذفت به ، فاستدل بها الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن قال العلماء : قذف عائشة كفر . لأن الله سبح نفسه عند ذكره . فقال : سبحانك هذا بهتان عظيم كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد . وفي قوله تعالى : لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا تحريم ظن السوء ، وأنه لا يحكم بالظن . وأن من عرف بالصلاح لا يعدل به عنه لخبر مخبر . وأن القاذف مكذب شرعا ، ما لم يأت بالشهداء . وفي قوله تعالى : إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة الآية ، الحث على ستر المؤمن وعدم هتكه . أخرج ابن أبي حاتم عن خالد بن معدان ، قال : من حدث بما أبصرت عيناه وسمعت أذناه فهو من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وأخرج عن عطاء قال : من أشاع الفاحشة فعليه النكال وإن كان صادقا .

    [ ص: 4474 ] وأخرج عن عبد الله بن أبي زكريا ، أنه سئل عن هذه الآية فقال : هو الرجل يتكلم عنده في الرجل ، فيشتهي ذلك ولا ينكر عليه .

    وفي قوله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة الآية . النهي عن الحلف ألا يفعل خيرا ، وأن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، يستحب له الحنث . وفيه الأمر بالعفو والصفح .

    واستدل من ذهب إلى أن قوله تعالى : إن الذين يرمون المحصنات الآية ، نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، يقتل قاذفهن ، إذا لم يذكر له توبة ، كما ذكرت في قاذف غيرهن في أول السورة انتهى .

    وقال ابن كثير : ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة رضي الله عنها ، والصحيح أن الآية عامة لكل المؤمنات ، ويدخل فيهن أمهات المؤمنين دخولا أوليا ، لا سيما من كانت سبب نزولها ، وهي عائشة .

    قال ابن كثير : وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة ، على أن من سبها بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية ، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن . وفي بقية أمهات المؤمنين قولان : أصحهما : أنهن كهي . والله أعلم .

    الثالث : قال الإمام ابن تيمية في قوله تعالى : الخبيثات للخبيثين الآية أخبر تعالى أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين . فلا تكون خبيثة لطيب . فإنه خلاف الحصر . وأخبر أن الطيبين للطيبات فلا يكون طيب لخبيثة ، فإنه خلاف الحصر . إذ قد ذكر أن جميع الخبيثات للخبيثين . فلا يبقى خبيثة لطيب ولا طيب لخبيثة . وأخبر أن جميع الطيبات للطيبين . فلا يبقى طيبة لخبيث . فجاء الحصر من الجانبين ، موافقا لقوله : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة الآية . ولهذا قال من قال من السلف : ما بغت امرأة نبي قط ، فإن السورة نزل صدرها بسبب أهل الإفك .

    ولهذا لما صارت شبهة ، استشار النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 4475 ] في طلاقها . إذ لا يصلح له أن تكون امرأته غير طيبة ، وقد روي أنه : « لا يدخل الجنة ديوث » وهو الذي يقر السوء في أهله ، ولهذا كانت الغيرة على الزنى مما يحبها الله وأمر بها. حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أتعجبون من غيرة سعد ؟ لأنا أغير منه ، والله أغير مني » ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ولهذا أذن الله للقاذف إذا كان زوجا ، أن يلاعن ، لأجل ما أمر به من الغيرة ، ولأنها أفسدت فراشه ، وإن حبلت من الزنى ، فعليه اللعان ، لئلا يلحق به من ليس منه . ومضت السنة بالتفريق بينهما ، سواء حصلت الفرقة بالتلاعن أو بحاكم أو عند انقضاء لعان الزوج . لأن أحدهما ملعون أو خبيث . فاقترانهما يقتضي مقارنة الخبيث للطيب . وفي صحيح مسلم من حديث عمران في الناقة التي لعنتها المرأة ، أنه أمر فأخذ ما عليها وأرسلت . وقال : « لا تصحبنا ناقة ملعونة » . ولما اجتاز بديار ثمود قال : « لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين . لئلا يصيبكم ما أصابهم » . فنهى عن عبور ديارهم إلا على وجه الخوف المانع من العذاب . وهكذا السنة في مقارنة الظالمين والزناة وأهل البدع والفجور وسائر المعاصي . لا ينبغي لأحد أن يقارنهم ويخالطهم إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عز وجل ، وأقل ذلك أن يكون منكرا لظلمهم ، ماقتا لهم شانئا ما هم فيه بحسب الإمكان . كما في قوله : « من رأى منكم منكرا لظلمهم ، فليغيره بيده إلخ » . وقال تعالى : وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون الآية ، وكذلك ما ذكره عن يوسف وعمله لصاحب مصر لقوم كفار . وذلك أن مقارنة الكفار إنما يفعلها المؤمن في موضعين : أحدهما : أن [ ص: 4476 ] يكون مكرها عليها . الثاني : أن يكون في ذلك مصلحة دينية ، راجحة على مفسدة المقارنة ، أو أن يكون في تركها مفسدة راجحة في دينه فيدفع أعظم المفسدين باحتمال أدناهما ، وتحصل المصلحة الراجحة باحتمال المفسدة المرجوحة . وفي الحقيقة : المكره هو من يدفع الفساد باحتمال أدناهما . وهو الأمر الذي أكره عليه قال تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وقال تعالى : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء وقال تعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلى قوله : غفورا وقال : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان فقد دلت الآية على النهي عن مناكحة الزاني ، والمناكحة نوع خاص من المصاحبة . والمناكحة في أصل اللغة المجامعة . فقلوبهما تجتمع إذا عقد النكاح بينهما ، ويصير بينهما من التعاطف ما لم يكن قبل ذلك . حتى يثبت ذلك حرمة المصاهرة في غير الربيبة ، بمجرد ذلك في التوارث وعدة الوفاة وغير ذلك . وأوسط ذلك اجتماعهما خاليين في مكان واحد ، وهو المعاشرة المقررة للصداق ، كما أفتى به الخلفاء . وآخر ذلك اجتماع المباضعة . وهذا ، وإن اجتمع بدون عقد نكاح ، فهو اجتماع ضعيف ، بل اجتماع القلوب أعظم من مجرد اجتماع البدنين بالسفاح ودل قوله تعالى : والطيبات للطيبين على ذلك من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ودل أيضا على النهي عن مقارنة الفجار ومزاوجتهم ، كما دل على هذا غير ذلك من النصوص . مثل قوله تعالى : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أي : نظراءهم وأشباههم . والزواج أعم من النكاح المعروف . قال تعالى : أو يزوجهم ذكرانا وإناثا وقال : من كل زوج بهيج وقال : وإذا النفوس زوجت وقال : ومن كل شيء خلقنا زوجين وقال : وخلقناكم أزواجا [ ص: 4477 ] . وقال : إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم وإن كان في الآية نص في الزوجة التي هي الصاحبة وفي الولد منها . فمعنى ذلك : في كل مشابه ومقارن في كل نوع وتابع : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده الآيتين . فالمصاحبة والمصاهرة والمؤاخاة لا تجوز إلا مع طاعة الله على مراد الله . ويدل عليه الحديث الذي في السنن « لا تصاحب إلا مؤمنا . ولا يأكل طعامك إلا تقي » وفيها « المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل » وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة « إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد » إلى قوله « ثم إن زنت فليبعها ولو بضفير » والضفير الحبل وهذا أمر ببيعها ولو بأدنى ما يقابله . قال أحمد : إن لم يبعها كان تاركا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم . والإماء اللاتي يفعلن هذا ، يكون عامتهن للخدمة . فكيف بأمة التمتع ؟ وإذا وجب إخراج الأمة الزانية عن ملكه ، فكيف بالزوجة الزانية ؟ والعبد نظير الأمة ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : لعن الله من آوى محدثا فهذا يوجب لعنة كل من آوى محدثا . [ ص: 4478 ] سواء كان إحداثه بالزنى أو السرقة ، أو غير ذلك ، وسواء كان الإيواء بملك اليمين ، أو نكاح ، أو غير ذلك ، لأن أقل ما فيه ترك إنكار المنكر . والمؤمن يحتاج إلى امتحان من يريد أن يصاحبه ويقارنه ، بالنكاح وغيره . قال تعالى : إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن وكذلك المرأة التي زنى بها رجل ، فإنه لا يتزوجها إلا بعد التوبة في الأصح . كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار . لكن إذا أراد أن يمتحنها . هل هي صحيحة التوبة ؟ فقال ابن عمر : يراودها . فإن أجابته لم تصح توبتها . وإن لم تجبه فقد تابت . ونص عليه أحمد . وقيل : هذا فيه طلب الفاحشة . وقد تنقض التوبة . وقد تأمره نفسه بتحقيق ذلك . ويزين له الشيطان ، لا سيما إن كان يحبها وتحبه ، وقد ذاقته وذاقها . ومن قال بالأول قال : الأمر الذي يقصد به امتحانها ، لا يكون أمرا بما نهى الله عنه . ويمكنه أن لا يطلب الفاحشة بل يعرض . والتعريض للحاجة جائز بل واجب في مواضع كثيرة . وأما نقضها ، فإذا جاز أن تنقض للتوبة معه ، جاز أن تنقضها مع غيره والمقصود أن تكون ممتنعة ممن يراودها . وأما تزيين الشيطان له الفعل . فهذا داخل في كل أمر يفعله الإنسان من الخير يجد فيه محنة . فإذا أراد المؤمن أن يصاحب أحدا ، وقد ذكر عنه الفجور ، وقيل إنه تاب ، أو كان ذلك مقولا صدقا أو كذبا ، فإنه يمتحنه بما يظهر به بره وفجوره ، وكذلك إذا أراد أن يولي أحدا ولاية ، امتحنه ، كما أمر عمر بن عبد العزيز غلامه أن يمتحن ابن أبي موسى ، لما أعجبه سمته . فقال له : قد علمت مكاني عند أمير المؤمنين . فكم تعطيني إذا أشرت عليه بولايتك ؟ فبذل له مالا عظيما . فعلم أنه ليس ممن يصلح للولاية . وكذلك في المعاملات . وكذلك الصبيان والمماليك الذين عرفوا ، أو قيل عنهم الفجور ، وأراد الرجل أن يشتريه فإنه يمتحنه . ومعرفة أحوال الناس تارة تكون بشهادات الناس ، وتارة بالجرح والتعديل ، وتارة بالاختبار والامتحان .
    ثم قال ابن تيمية رحمه الله وكما عظم الله الفاحشة ، عظم ذكرها بالباطل - وهو القذف . فقال بعد ذلك : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم [ ص: 4479 ] ثمانين جلدة الآية . ثم ذكر رمي الرجل امرأته وما أمر فيه من التلاعن . ثم ذكر قصة أهل الإفك وبين ما في ذلك من الخير للمقذوف ، وما فيه من الإثم للقاذف ، وما يجب على المؤمنين إذا سمعوا ذلك أن يظنوا بإخوانهم من المؤمنين الخير ، ويقولون : هذا إفك مبين . لأن دليله كذب ظاهر . ثم أخبر أنه قول بلا حجة فقال : لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ثم أخبر أنه لولا فضله عليهم ورحمته لعذبهم بما تكلموا به . وقوله : إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم فهذا بيان لسبب العذاب . وهو تلقي الباطل بالألسنة ، والقول بالأفواه . وهما نوعان محرمان : القول بالباطل والقول بلا علم . ثم قال سبحانه : ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم

    فالأول تحضيض على الظن الحسن ، وهذا نهي لهم عن التكلم بالقذف . ففي الأول قوله : اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وقوله صلى الله عليه وسلم : « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » وقوله : ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا دليل على حسن مثل هذا الظن الذي أمر الله به .

    وفي الصحيح قوله لعائشة : « ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا » ؟ فهذا يقتضي جواز بعض الظن ، كما احتج البخاري بذلك ، لكن مع العلم بما عليه المرء المسلم من الإيمان الرادع له عن فعل الفاحشة ، يجب أن يظن به الخير دون الشر . وفي الآية نهي عن تلقي مثل هذا باللسان ، ونهي عن قول الإنسان ما ليس له به علم ، لقوله تعالى : ولا تقف [ ص: 4480 ] ما ليس لك به علم والله جعل في فعل الفاحشة والقذف من العقوبة ، ما لم يجعله في شيء من المعاصي . لأنه جعل فيه الرجم وقد رجم قوم لوط إذ كانوا هم أول من فعل فاحشة اللواط . وجعل العقوبة على القاذف بها ثمانين جلدة ، والرمي بغيرها فيه الاجتهاد . ويجوز عند بعض العلماء أن يبلغ الثمانين ، كما قال علي : لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري . وكما قال عبد الرحمن بن عوف : إذا شرب هذى وإذا هذى افترى . وحد الشرب ثمانون ، وحد المفتري ثمانون .

    وقوله تعالى : إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة وهذا ذم لمن يحب ذلك . وذلك يكون باللقب فقط ، ويكون مع ذلك باللسان والجوارح . وهو ذم لمن يتكلم بها أو يخبر بها . محبة لوقوعها في المؤمنين ، إما حسدا أو بغضا ، أو محبة للفاحشة . فكل من أحب فعلها ، ذكرها .

    وكره العلماء الغزل من الشعر الذي يرغب فيها . وكذلك ذكرها غيبة محرم ، سواء كان بنظم أو نثر . وكذلك التشبيه بمن يفعلها ، منهي عنها مثل الأمر بها . فإن الفعل يطلب بالأمر تارة وبالإخبار تارة . فهذان الأمران للفجرة الزناة واللوطية ، مثل ذكر قصص الأنبياء والصالحين للمؤمنين . أولئك يعتبرون من الغيرة بهم ، وهؤلاء من الاغترار يعتبرون . فإن أهل الكفر والفسوق والعصيان يذكرون من قصص أشباههم ما يكون به لهم فيه قدوة .

    ومن ذلك قوله تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث الآية . قيل : أراد الغناء . وقيل : أراد قصص ملوك الكفار . وبالجملة كل ما رغب النفوس في الطاعة ونهاها عن المعصية ، فهو من الطاعة . وما رغب في المعصية ونهى عن الطاعة ، فهو من المعصية ، فأما ذكر الفاحشة وأهلها بما يجب أو يستحب في الشريعة ، مثل النهي عنها وعنهم ، والذم لها ولهم وذكر أهلها مطلقا حيث يسوغ ذلك في وجوههم ومغيبهم - فهذا حسن يجب تارة ويستحب أخرى . كما قص الله قصص المؤمنين والفجار ليعتبروا بالأمرين .

    وقد ذكر الله [ ص: 4481 ] عن أنبيائه وعباده الصالحين ، من ذكر الفاحشة وعلائقها على وجه الذم ما فيه عبرة . فقال تعالى : ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة إلخ . في مواضع ، وهذا فيه من التوبيخ ما فيه ، وليس من باب القذف واللمز . ثم توعدوه بإخراجه من القرية . وهذا حال أهل الفجور ، إذا كان بينهم من ينهاهم طلبوا إخراجه . وقد عاقب الله على الفاحشة اللوطية بما أرادوا أن يقصدوا به أهل التقوى . حيث أمر بنفي الزاني والمخنث . فمضت السنة ، بنفي هذا وهذا . وهو سبحانه وتعالى أخرج المتقين من بينهم عند نزول العذاب . وكذلك ما ذكره تعالى في قصة يوسف في قوله : وراودته التي هو في بيتها عن نفسه إلى قوله : فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم وما ذكره بعده من قول يوسف : ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن وهذا من باب الاعتبار الذي يوجب النفور عن المعصية والتمسك بالتقوى . وكذلك ما بينه في آخرها بقوله تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب الآية ، ومع هذا ، فمن الناس من يحب سماعها لما فيه من ذكر العشق وما يتعلق به ، لمحبته لذلك ولرغبته في الفاحشة ، حتى إن منهم من يسمعها النساء لمحبتهم للسوء ، ولا يختارون أن يسمعوا ما في سورة النور من العقوبة والنهي عن ذلك . حتى قال بعض السلف : كل ما حصلته من سورة يوسف أنفقته في سورة النور . وقد قال تعالى : وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وقال : وإذا ما أنـزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا الآيات . فكل أحد يحب سماع ذلك لتحريك المحبة المذمومة ، ويبغض سماع ذلك إعراضا عن دفع هذه المحبة ، فهو مذموم ومن هذا ذكر أحوال الكفار والفجار وغير ذلك مما فيه ترغيب في المعصية وصد عن سبيل الله ، ومنه سماع كلام أهل البدع ، والنظر [ ص: 4482 ] في كتبهم لمن يضره ذلك ، فهذا الباب تجتمع فيه الشبهات والشهوات . والله تعالى ذم هؤلاء في مثل قوله :يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وقوله : والشعراء يتبعهم الغاوون وقوله : هل أنبئكم على من تنـزل الشياطين وما بعدها ، وقوله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث وقوله : مستكبرين به سامرا تهجرون وقوله : وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا وقوله : وإن تطع أكثر من في الأرض ومثل هذا في القرآن كثير ، فأهل المعاصي كثير في العالم ، بل هم أكثر ، كما قال تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله الآية ، وفي النفوس من الشبهات المذمومة والشهوات قولا وعملا ما يعلمه إلا الله ، وأهلها يدعون الناس إليها ويقهرون من يعصيهم ، ويزينونها لمن يطيعهم . فهم أعداء الرسل وأندادهم . فالرسل يدعون إلى الطاعة بالرغبة والرهبة . ويجاهدونهم عليها . وينهون عن المعاصي ويحذرون منها بالرغبة والرهبة . ويجاهدون من يفعلها . قال تعالى : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف الآية ، ثم قال : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر الآية ، وقوله تعالى : الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ومثل هذا في القرآن كثير والله سبحانه قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته ، فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر بالمعروف . والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته ، فمن لا يعلمه لا يمكنه النهي عنه .
    وقد أوجب الله علينا فعل المعروف وترك المنكر . فإن حب الشيء وفعله ، وبغض ذلك وتركه [ ص: 4483 ] لا يكون إلا بعد العلم بهما ، حتى يصح القصد إلى فعل المعروف وترك المنكر . فإن ذلك مسبوق بعلمه ، فمن لم يعلم الشيء لم يتصور منه حب له ولا بغض ، ولا فعل ولا ترك . لكن فعل الشيء والأمر به يقتضي أن يعلمه علما مفصلا يمكن معه فعله والأمر به إذا أمر به مفصلا . ولهذا أوجب الله على الإنسان معرفة ما أمر به من الواجبات مثل صفة الصلاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فإذا أمر بأوصاف فلا بد من العلم بثبوتها . فكما أنا لا نكون مطيعين إذا علمنا عدم الطاعة ، فلا نكون مطيعين إذا لم نعلم وجودها . بل الجهل بوجودها كالعلم بعدمها . وكل منهما معصية . فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في بيع الأموال الربوية .

    وأما معرفة ما يتركه وينهى عنه فقد يكتفي بمعرفته في بعض المواضع مجملا . فإن الإنسان يحتاج إلى معرفة المنكر وإنكاره . وقد يحتاج إلى الحجج المبينة لذلك . وإلى الجواب عما يعارض به أصحابها ، وإلى دفع أهوائهم . وذلك يحتاج إلى إرادة جازمة وقدرة على ذلك . ولا يكون ذلك إلا بالصبر ، كما قال تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وأول ذلك أن تذكر الأقوال والأفعال على وجه الذم لها والنهي عنها .

    وبيان ما فيها من الفساد . فإن الإنكار بالقلب واللسان ، قبل الإنكار باليد ، وهذه طريقة القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والعصاة ، كما أن فيما يذكره أهل العلم والإيمان على وجه المدح والحب وبيان منفعته والترغيب فيه ، نحو قوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا الآيات . وهذا كثير جدا . فالذي يحب أقوالهم وأفعالهم هو منهم . إما كافر إما فاجر . وليس منهم من هو بعكسه . ولكن لا يثاب على مجرد عدم ذلك . وإنما يثاب على قصده لترك ذلك وإرادته ، وذلك مسبوق بالعلم بقبح ذلك وبغضه لله . وهذا العلم والقصد والبغض هو من الإيمان الذي يثاب عليه ، وهو أدنى الإيمان ، كما قال صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكرا إلى قوله : [ ص: 4484 ] وذلك أضعف الإيمان وتغيير القلب يكون بالبغض لذلك وكراهته ، وذلك لا يكون إلا بعد العلم به وبقبحه .

    ثم بعد ذلك يكون الإنكار باللسان ثم يكون باليد . والنبي صلى الله عليه وسلم قال : « وذلك أضعف الإيمان » فيمن رأى المنكر . فأما إذا رآه ولم يعلم أنه منكر . ولم يكرهه ، لم يكن هذا الإيمان موجودا في القلب في حال وجوده ورؤيته ، بحيث يجب بغضه وكراهته ، والعلم بقبحه يوجب جهاد الكفار والمنافقين إذا وجدوا . وإذا لم يكن المنكر موجودا لم يجب ذلك ويثاب من أنكره عند وجوده ، ولا يثاب من لم يوجد عنده حتى ينكره وكذلك ما يدخل في ذلك من الأقوال والأفعال والمنكرات ، قد يعرض عنها كثير من الناس ، إعراضهم عن جهاد الكفار والمنافقين . وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فهؤلاء وإن كانوا من المهاجرين الذين هجروا السيئات ، فليسوا من المجاهدين الذين يجاهدون في إزالتها . حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ، فتدبر هذا فإنه كثيرا ما يجتمع في كثير من الناس هذان الأمران : بغض الكفر وأهله ، وبغض الفجور وأهله ، وبغض نهيهم وجهادهم ، كما يحب المعروف وأهله ، ولا يحب أن يأمر به ، ولا يجاهد عليه بالنفس والمال . وقد قال تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون وقال تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله الآية . قال : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم وكثير من الناس ، بل أكثرهم ، كراهتهم للجهاد على المنكرات أعظم من كراهتهم للمنكرات ، ولا سيما إذا كثرت المنكرات وقويت فيها الشبهات والشهوات . فربما مالوا إليها تارة وعنها أخرى . فتكون نفس أحدهم لوامة بعد أن كانت أمارة . [ ص: 4485 ]

    ثم إذا ارتقى إلى الحال الأعلى في هجر السيئات ، وصارت نفسه مطمئنة ، تاركا للمنكرات والمكروهات ، لا تحب الجهاد ومصابرة العدو على ذلك ، واحتمال ما يؤذيه من الأقوال والأفعال فإن هذا شيء آخر داخل في قوله : ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم إلى قوله : وكان الله على كل شيء مقيتا والشفاعة : الإعانة . إذ المعين قد صار شفيعا للمعان . فكل من أعان على بر أو تقوى كان له نصيب منه . ومن أعان على الإثم والعدوان كان له كفل منه . وهذا حال الناس فيما يفعلونه بقلوبهم وألسنتهم وأيديهم ، من الإعانة على البر والتقوى والإعانة على الإثم والعدوان ، ومن ذلك الجهاد بالنفس والمال على ذلك من الجانبين . كما قال تعالى قبل ذلك : يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم إلى قوله : إن كيد الشيطان كان ضعيفا ومن ها هنا يظهر الفرق في السمع والبصر من الإيمان وآثاره والكفر وآثاره . والفرق بين المؤمن وبين الكافر الفاجر . فإن المؤمنين يسمعون إقبال أهل الإيمان فيشهدون رؤيتهم على وجه العلم والمعرفة والمحبة والتعظيم لهم ولأخبارهم وآثارهم ، كرؤية الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم وسمعهم لما بلغهم عن الله . والكافر والمنافق يسمع ويرى على وجه البغض والجهل كما قال تعالى : وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر الآية . وقال : فإذا أنـزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت وقال : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون وقال : فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم وقال تعالى في حق المؤمنين : والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا [ ص: 4486 ] عليها صما وعميانا وقال في حق الكفار : فما لهم عن التذكرة معرضين والآيات في هذا كثيرة جدا . وكذلك النظر إلى زينة الدنيا فتنة .




  11. #471
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النُّورِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4486 الى صـ 4500
    الحلقة (470)




    قال تعالى : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه وفي آخر الحجر . وقوله : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم وقال : قل للمؤمنين : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم الآية ، وقال : ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا الآية ، وقال : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت الآيات ، وقال : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض الآية ، وقال : أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض الآية . وكذلك قال الشيطان : إني أرى ما لا ترون وقال : فلما تراءى الجمعان الآيات . وقال : إذ يريكهم الله في منامك قليلا الآيات . فالنظر إلى متاع الدنيا على وجه المحبة والتعظيم لها ولأهلها ، منهي عنه . والنظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه الاعتبار مأمور به . وأما رؤية ذلك عند الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدفع شر أولئك ، فمأمور به . وكذلك رؤية الاعتبار شرعا في الجملة . فالعين الواحدة ينظر إليها تارة نظرا مأمورا به . إما للاعتبار وإما لبغض ذلك . والنظر إليه لبغض الجهاد منهي عنه . وكذلك المولاة والمعاداة . وقد يحصل للعبد فتنة بنظر منهي عنه ، وهو يظن أنه نظرة عبرة . وقد يؤمر بالجهاد فيظن أن ذلك نظر فتنة ، كالذين قال الله فيهم : ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني فإنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتجهز لغزو الروم فقال : إني مغرم بالنساء وأخاف الفتنة بنساء الروم . فهذا ونحوه مما يكون باللسان من القول . وأما [ ص: 4487 ] ما يكون من الفعل بالجوارح ، فكل عمل يتضمن محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، داخل في هذا . بل يكون عذابه أشد . فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد المحبة . وهذه قد لا يقترن بها قول ولا فعل . فكيف إذا اقترن ؟ بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله تعالى من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين آمنوا . ومن رضي عمل قوم حشر معهم . كما حشرت امرأة لوط معهم . ولم تكن تفعل فاحشة اللواط . فإنه لا يقع من المرأة . ولكن لما رضيت فعلهم ، عمها معهم العذاب . فمن هذا الباب قيل : من أعان على الفاحشة وإشاعتها ، مثل القواد . لما يحصل له من رياسة أو سؤدد أو سحت يأكله . وكذلك أهل الصناعات التي تنفق ، مثل المغنين وشربة الخمر وضمان الجهات السلطانية وغيرها ، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا . فإنها إذا شاعت تمكنوا من أغراضهم من الرياسة والمال وفعل الفاحشة وتمكنوا من دفع من ينكرها ، بخلاف ما إذا كانت قليلة . ولا خلاف بين المسلمين أن ما يدعوا إلى معصية الله وينهى عن طاعته ، منهي عنه محرم . كما قال تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر أي : ما فيها من ذكر الله وطاعته وامتثال أمره أكبر من ذلك . وقال في الخمر والميسر : ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة أي : يوقعكم ذلك في معصيته التي هي العداوة والبغضاء ، وهذا من أعظم المنكرات التي تنهى عنه الصلاة ، والخمر تدعو إلى الفحشاء والمنكر ، كما هو الواقع . فإن شارب الخمر تدعوه نفسه إلى الجماع حلالا كان أو حراما . فإن الله سبحانه لم يذكر الجماع ، لأن الخمر لا يدعو إلى الحرام بعينه من الجماع . والسكر يزيل العقل الذي يميز به بين الحلال والحرام . والعقل الصحيح ينهى عن مواقعة الحرام . ولهذا يكثر شارب الخمر من مواقعة الفواحش . ما لا يكثر من غيرها ، حتى ربما يقع على ابنته وابنه ومحارمه . وقد يستغني بالحلال إذا أمكنه . ويدعو شرب الخمر [ ص: 4488 ] إلى أكل أموال الناس بالسرقة والمحاربة وغير ذلك . لأنه يحتاج إلى الخمر وما يستتبعه من مأكول وغير ذلك من فواحش وغناء . وشرب الخمر يظهر أسرار الرجال ، حتى يتكلم شاربه بما في باطنه وكثير من الناس إذا أرادوا استفهام ما في قلوب الرجال من الأسرار ، سقوهم الخمر ، وربما يشربون معهم ما لا يسكرون به . وأيضا فالخمر تصد الإنسان عن علمه وتدبيره . فجميع الأمور التي تصد عنها وتوقعها من المفاسد داخل في قوله تعالى : ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة وكذلك إيقاع العداوة والبغضاء هو منتهى قصد الشيطان ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » قالوا بلى يا رسول الله ; قال : « إصلاح ذات البين . فإن فساد ذات البين هي الحالقة . لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين » وقد ذكرنا في غير هذا أن الفواحش والظلم وغير ذلك من الذنوب يوقع العداوة والبغضاء وأن كل عداوة أو بغضاء فأصلها من المعصية والشيطان يأمر بالمعصية ليوقع فيما هو أعظم منها ولا يرضى إلا بغاية ما قدر على ذلك . وأيضا فالعداوة والبغضاء شر محض ، لا يحبهما عاقل . بخلاف المعاصي فإن فيها لذة . والنفوس تريدها ، والشيطان يدعو إليها ، ليوقعها في شر لا تهواه . والله سبحانه قد بين ما يريد الشيطان بالخمر والميسر ، ولم يذكر ما يريده الإنسان . ثم قال في سورة النور : لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر وكذلك في البقرة نهى عن اتباع خطواته ، وهو اتباع أمره بالاقتداء والاتباع . وأخبر أنه يأمر بالفحشاء والمنكر والسوء والقول على الله بلا علم . وقال فيها : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء فذكر أن الشيطان يأمر بذلك وبعد هذا : والله يعدكم مغفرة منه وفضلا وقال : إن الله يأمر بالعدل [ ص: 4489 ] والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وقال عن نبيه : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر الآية ، وقال عن أمته : ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ذكر مثل ذلك في مواضع كثيرة فتارة يخص اسم المنكر بالنهي ، وتارة يقرنه بالفحشاء ، وتارة يقرن معهما البغي . وكذلك المعروف ، تارة يخصه بالأمر ، وتارة يقرن به غيره . كقوله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس الآية ، وذلك أن الأسماء قد يكون عمومها وخصوصها بحسب الإفراد والتركيب . كلفظ (الفقير والمسكين ) . إذا عرف هذا فاسم المنكر يعم كل ما كرهه الله ونهى عنه . واسم المعروف يعم كل ما يحبه الله ويرضاه . وإذا قرن المنكر بالفحشاء ، فالفحشاء مبناها على المحبة . والمنكر هو الذي تنكره القلوب . فقد يظن أن ما في الفاحشة من المحبة يخرجها عن الدخول فيه . فإن الفاحشة وإن كانت مما تنكره القلوب فإنها تشتهيها النفوس . وكذلك البغي ، قرن بها لأنه أبعد عن محبة النفوس . ولهذا كان جنس عذاب صاحبه أعظم من جنس عذاب صاحب الفحشاء . ومنشؤه من قوة الغضب . ولكل من النفوس لذة بحصول مطلوبها . فالفواحش والبغي مقرونان بالمنكر . وأما الإشراك والقول على الله بلا علم ، فإنه منكر محض . ليس في النفوس ميل إليهما . بل إنما يكونان عن عناد وظلم . فهما منكر محض بالفطرة : ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر سواء كان الضمير عائدا إلى الشيطان أو إلى المتبع . فإن من أتى ذلك ، فإن كان الشيطان أمره فهو متبعه عابد له . وإن كان الآتي هو الآمر . فالأمر بالفعل أبلغ من فعله . فمن أمر بها غيره رضيها لنفسه .
    ومن الفحشاء والمنكر استماع العبد مزامير الشيطان . والمغني هو مؤذنه الذي يدعو إلى طاعته فإن الغناء رقية الزنى . وكذلك من اتباع خطوات الشيطان ، القول على الله بلا علم . كحال أهل [ ص: 4490 ] البدع والفجور وكثير ممن يستحل مؤاخاة النساء والمرد وإحضارهم في سماع الغناء ودعوى محبة صورهم لله وغير ذلك ، مما فتن به كثير من الناس فصاروا ضالين مضلين . ثم إنه سبحانه نهى المظلوم بالقذف ، أن يمنع ما ينبغي فعله من الإحسان إلى القرابة والمساكين وأهل التوبة . وأمره بالعفو . فإنه كما يحب أن يغفر له فليغفر ، ولا ريب أن صلة الأرحام واجبة ، وإيتاء المساكين واجب ، ومعونة المهاجرين واجبة ، فلا يجوز ترك ما يجب من الإحسان إلى للإنسان بمجرد ظلمه : كما لا يمنع ميراثه وحقه من الصدقات والفيء ، بمجرد ذنب من الذنوب وقد يمنع من ذلك لبعض الذنوب .

    وفي الآية دليل على وجوب الصلة والنفقة وغيرها لذوي الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب .

    فإنه قد ثبت في الصحيح عن عائشة في قصة الإفك ، أن أبا بكر الصديق حلف ألا ينفق على مسطح بن أثاثة ، وكان أحد الخائضين في الإفك في شأن عائشة . وكانت أم مسطح بنت خالة أبي بكر . وقد جعله الله من ذوي القربى الذين نهى عن ترك إيتائهم . والنهي يقتضي التحريم . فإذا لم يجز الحلف على ترك الفعل ، كان الفعل واجبا ، لأن الحلف على ترك الجائز جائز . انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .

    الرابع : قال الزمخشري : لو فليت القرآن كله وفتشت عما أعد به العصاة ، لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة ، رضوان الله عليها ، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه - ما أنزل فيه ، على طرق مختلفة وأساليب مفتنة . كل واحد منها [ ص: 4491 ] كان في بابه ولم ينزل إلا هذه الثلاث يعني قوله تعالى : إن الذين يرمون إلى قوله تعالى : هو الحق المبين لكفى بها . حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا . وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة . وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا . وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله ، حتى يعلموا عند ذلك ، أن الله هو الحق المبين . فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر ، بما لم يقع في وعيد المشركين ، عبدة الأوثان ، إلا ما هو دونه في الفظاعة . وما ذلك إلا لأمر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بالبصرة يوم عرفة . وكان يسأل عن تفسير القرآن . حتى سأل عن هذه الآيات فقال : من أذنب ذنبا ثم تاب قبلت توبته ، إلا من خاض في أمر عائشة ، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك . ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد : وشهد شاهد من أهلها وبرأ موسى من قول اليهود فيه ، بالحجر الذي ذهب بثوبه . وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى في حجرها : إني عبد الله وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر ، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات . فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك ؟ وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتنبيه على إنافة محل سيد ولد آدم وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين .

    ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه صلى الله عليه وسلم وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق فليتلق ذلك من آيات الإفك . وليتأمل كيف غضب الله له في حرمته ، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه .

    [ ص: 4492 ] (فإن قلت ) : إن كانت عائشة هي المرادة ، فكيف قيل : المحصنات ؟ (قلت ) : فيه وجهان :

    أحدهما : أن يراد بالمحصنات أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يخصصن بأن من قذفهن ، فهذا الوعيد لاحق به . وإذا أردن عائشة كبراهن منزلة وقربة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت المرادة أولا .

    والثاني : أنها أم المؤمنين ، فجمعت . إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان انتهى .

    قال الناصر : والأظهر أن المراد عموم المحصنات والمقصود بذكرهن على العموم ، وعيد من وقع في عائشة ، على أبلغ الوجوه ، لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات ، فما الظن بوعيد من قذف سيدتهن وزوج سيد البشر صلى الله عليه وسلم ؟ على أن تعميم الوعيد أبلغ وأفظع من تخصيصه . هذا ومعنى قول زليخا : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم فعممت أرادت يوسف ، تهويلا عليه وإرجافا . والمعصوم من عصمه الله تعالى . انتهى .

    الخامس : قال الإمام ابن تيمية في (" منهاج السنة " ) ذهب كثير من أهل السنة إلى أن عائشة رضي الله عنها أفضل نسائه عليه الصلاة والسلام واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى وعن أنس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » . والثريد هو أفضل الأطعمة ، لأنه خبز ولحم . كما قال الشاعر :


    إذا ما الخبز تأدمه بلحم فذاك أمانة الله الثريد


    وذلك أن البر أفضل الأقوات . واللحم أفضل الإدام ، كما في الحديث الذي رواه [ ص: 4493 ] ابن قتيبة وغيره . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم » فإذا كان اللحم سيد الإدام ، والبر سيد الأقوات ، ومجموعهما الثريد ، كان الثريد أفضل الطعام .

    وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق أنه قال : « فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام » وفي الصحيح عن عمرو بن العاص قال : قلت : يا رسول الله ! أي النساء أحب إليك ؟ قال : « عائشة » قلت : ومن الرجال ؟ قال : « أبوها » قلت : ثم من ؟ قال : « عمر ، وسمى رجالا » . وهؤلاء يقولون : قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة : « ما أبدلني الله خيرا منها » : إن صح معناه ما أبدلني خيرا لي منها : فإن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعا لم يقم غيرها فيه مقامها . فكانت خيرا له من هذا الوجه لكونها نفعته وقت الحاجة ، وعائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين . فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول النبوة . فكانت أفضل لهذه الزيادة فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها ، وبلغت من العلم والسن ما لم يبلغه غيرها فخديجة كان خيرها مقصورا على نفس النبي صلى الله عليه وسلم لم تبلغ عنه شيئا ، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة ، ولأن الدين لم يكن قد كمل حتى تعلمه ، ويحصل لها من كمالاته ما حصل لمن علم وآمن به بعد كماله ، ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد ، كان أبلغ فيه ممن تفرق همه في أعمال متنوعة . فخديجة رضي الله تعالى عنها خير له من هذا الوجه . لكن أنواع البر لم تحصر في ذلك . ألا ترى أن من كان من الصحابة أعظم إيمانا ، وأكثر جهادا بنفسه وماله . كحمزة وعلي وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وغيرهم ، هم أفضل من كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وينفعه في نفسه أكثر منهم . كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما . وفي الجملة ، الكلام في تفضيل عائشة وخديجة ليس هذا موضع استقصائه . لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها ، وإن نساءه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين [ ص: 4494 ] اللواتي مات عنهن ، كانت عائشة أحبهن إليه وأعظمهن حرمة عند المسلمين . وقد ثبت في الصحيح أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، لما يعلمون من محبته إياها . حتى أن نساءه غرن من ذلك . وأرسلن إليه فاطمة رضي الله عنها تقول له : نساؤك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة : فقال لفاطمة : « أي : بنية أما تحبين ما أحب » ؟ قالت : بلى . قال : « فأحبي هذه » ، الحديث في الصحيحين وفي الصحيحين أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يا عائشة ! هذا جبريل يقرأ عليك السلام » قالت : وعليه السلام ورحمة الله . ترى ما لا نرى . ووهبت سودة بنت زمعة يومها لعائشة رضي الله عنهما ، بإذنه صلى الله عليه وسلم . وكان في مرضه الذي مات فيه يقول : « أين أنا اليوم » ؟ استبطاء ليوم عائشة . ثم استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها ، فمرض [ ص: 4495 ] فيه . وفي بيتها توفي بين سحرها ونحرها وفي حجرها . وكانت رضي الله عنها مباركة على أمته . حتى قال أسيد بن حضير ، لما أنزل الله آية التيمم بسببها : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر . ما نزل بك أمر قط تكرهينه إلا جعل الله فيه للمسلمين بركة . وقد كانت نزلت آية براءتها قبل ذلك ، لما رماها أهل الإفك . فبرأها الله من فوق سبع سماوات ، وجعلها من الصينات . وبالله التوفيق . انتهى .
    وأغرب الإمام ابن حزم ، فذهب إلى أن أفضل الناس بعد الأنبياء ، نساؤه صلى الله عليه وسلم . معلوم أن عائشة فضلاهن ، وقد أسهب في ذلك في كتابه (" الملل " ) فارجع إليه .

    السادس : قال القاشاني رحمه الله تعالى : إنما عظم تعالى أمر الإفك وغلظ في الوعيد عليه ، بما لم يغلظ في غيره من المعاصي ، وبالغ في العقاب عليه بما لم يبالغ به في باب الزنى وقتل النفس المحرمة ، لأن عظم الرذيلة وكبر المعصية ، إنما يكون على حسب القوة التي هي مصدرها . وتتفاوت حال الرذائل في حجب صاحبها عن الحضرة الإلهية والأنوار القدسية ، وتوريطه في المهالك الهيولانية ، والمهاوي الظلمانية ، على حسب تفاوت مبادئها ، فكلما كانت القوة التي هي مصدرها ومبدؤها أشرف . كانت الرذيلة الصادرة منها أردأ . وبالعكس لأن الرذيلة ما قابل الفضيلة . فلما كانت الفضيلة أشرف ، كان ما يقابلها من الرذيلة أخس ، والإفك رذيلة القوة الغضبية . [ ص: 4496 ] فبحسب شرف الأولى على الباقيتين ، تزداد رداءة رذيلتها .

    وذلك أن الإنسان إنما يكون بالأولى إنسانا ، وترقيه إلى العالم العلوي ، وتوجهه إلى الجانب الإلهي وتحصيله للمعارف والكمالات ، واكتسابه للخيرات والسعادات - إنما يكون بها . فإذا فسدت بغلبة الشيطنة عليها ، واحتجبت عن النور باستيلاء الظلمة ، حصلت الشقاوة العظمى ، وحقت العقوبة بالنار . وهو الرين والحجاب الكلي .

    ألا ترى أن الشيطنة المغوية للآدمي أبعد عن الحضرة الآلهية ، من السبعية والبهيمية ؟ وأبعد بما لا يقدر قدره ، فالإنسان برسوخ رذيلته النطفية يصير شيطانا ، وبرسوخ الرذيلتين الأخريين ، يصير حيوانا كالبهيمة أو السبع ، وكل حيوان أرجى صلاحا ، وأقرب فلاحا من الشيطان . ولهذا قال تعالى : هل أنبئكم على من تنـزل الشياطين تنـزل على كل أفاك أثيم ونهى ها هنا عن اتباع خطوات الشيطان . فإن ارتكاب مثل هذه الفواحش لا يكون إلا بمتابعته ومطاوعته ، وصاحبه يكون من جنوده وأتباعه ، فيكون أخس منه وأذل ، محروما من فضل الله الذي هو نور هدايته ، محجوبا من رحمته التي هي إفاضة كمال وسعادة ، ملعونا في الدنيا والآخرة ، ممقوتا من الله والملائكة . تشهد عليه جوارحه بتبدل صورها وتشوه منظرها . خبيث الذات والنفس . متورطا في الرجس . فإن مثل هذه الخبائث لا تصدر إلا من الخبيثين . كما قال تعالى : الخبيثات للخبيثين وأما الطيبون المنزهون عن الرذائل ، فإنما تصدر عنهم الطيبات والفضائل . انتهى .

    السابع : في سر قرن الزنى بالشرك في قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة وتحقيق القول في الآية . قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (" إغاثة اللهفان " ) : نجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات . من جهة أنها تفسد القلب وتضعف توحيده جدا . ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة ، أكثرهم شركا . فكلما كان الشرك في العبد أغلب . [ ص: 4497 ] كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر ، وكلما كان أعظم إخلاصا ، كان منها أبعد ، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها . بل هو من أعلى أنواع التعبد . ولا سيما إذ استولى على القلب وتمكن منه ، صار تتيما . والتتيم التعبد . فيصير العاشق عابدا لمعشوقه . وكثيرا ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته وإيثار محابه ، على حب الله وذكره والسعي في مرضاته ، بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية ويصير متعلقا بمعشوقه من الصور . كما هو مشاهد فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل . يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه . ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله . وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله . ويتجنب سخطه ما لا يتجنب من سخط الله تعالى . فيصير آثر عنده من ربه حبا وخضوعا وذلا وسمعا وطاعة ، ولهذا كان العشق والشرك متلازمين ، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط ، وعن امرأة العزيز ، وكانت إذ ذاك مشركة ، فكلما قوي شرك العبد بلي بعشق الصور وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه . والزنى واللواطة كمال لذته ، إما يكون من العشق . ولا يخلو صاحبهما منه . وإنما لتنقله من محل إلى محل ، لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد . بل ينقسم على سهام كثيرة لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده . فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين . ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله ، فإنهما من أعظم الخبائث فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب لا يصعد إليه إلا طيب . وكلما ازداد خبثا ازداد من الله بعدا . ولهذا قال المسيح ، فيما رواه الإمام أحمد في (" كتاب الزهد " ) لا يكون البطالون من الحكماء . ولا يلج الزناة ملكوت السماء . ولما كانت هذه حال الزنى كان قريبا للشرك في كتاب الله تعالى . قال الله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين والصواب القول بأن هذه الآية محكمة . يعمل بها لم ينسخها شيء . وهي مشتملة على خبر وتحريم . ولم يأت من ادعى نسخها بحجة البتة . [ ص: 4498 ] والذي أشكل منها على كثير من الناس ، واضح بحمد الله تعالى . فإنهم أشكل عليهم قوله : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة هل هو خبر أو نهي أو إباحة ؟ فإن كان خبرا فقد رأينا كثيرا من الزناة ينكح عفيفة . وإن كان نهيا فيكون قد نهى الزاني أن يتزوج إلا بزانية أو مشركة ، فيكون نهيا له عن نكاح المؤمنات العفائف . وإباحة له نكاح المشركات والزواني ، والله سبحانه لم يرد ذلك قطعا . فلما أشكل عليهم ذلك وطلبوا للآية وجها يصح حملها عليه . فقال بعضهم : المراد من النكاح الوطء والزنى . فكأنه قال : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة . وهذا فاسد . فإنه لا فائدة فيه . ويصان كلام الله تعالى عن حمله على مثل ذلك . فإنه من المعلوم أن الزاني لا يزني إلا بزانية . فأي فائدة في الإخبار بذلك . ولما رأى الجمهور فساد هذا التأويل أعرضوا عنه ، ثم قالت طائفة : هذا عام اللفظ خاص المعنى . والمراد به رجل واحد وامرأة واحدة . وهي عناق وصاحبها ، فإنه أسلم واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاحها فنزلت هذه الآية .

    وهذا أيضا فاسد . فإن هذه الصورة المعينة ، وإن كانت سبب النزول ، فالقرآن لا يقتصر به على محال أسبابه . ولو كان كذلك لبطل الاستدلال به على غيرها . وقالت طائفة : بل الآية منسوخة بقوله : وأنكحوا الأيامى منكم وهذا أفسد من الكل . فإنه لا تعارض بين هاتين الآيتين . ولا تناقض إحداهما الأخرى . بل أمر سبحانه بإنكاح الأيامى ، وحرم نكاح الزانية ، كما حرم نكاح المعتدة والمحرمة وذوات المحارم . فأين الناسخ والمنسوخ في هذا ؟ (فإن قيل ) : فما وجه الآية ؟ قيل : وجهها ، والله أعلم . أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة ، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط . كما ذكر ذلك سبحانه في سورتي النساء والمائدة . والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه . والإباحة قد علقت على شرط الإحصان ، فإذا انتفى الإحصان انتفت الإباحة المشروطة به . [ ص: 4499 ] فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه الذي شرعه على لسان رسوله ، أو لا يلتزمه . فإن لم يلتزمه فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله ، وإن التزمه وخالفه ، ونكح ما حرم عليه ، لم يصح إنكاح . فيكون زانيا ، فظهر معنى قوله : لا ينكح إلا زانية أو مشركة وتبين غاية البيان . وكذلك حكم المرأة . وكما أن هذا الحكم هو موجب القرآن وصريحه ، فهو موجب الفطرة ومقتضى العقل . فإن الله سبحانه حرم على عبده أن يكون قرنانا ديوثا زوج بغي . فإن الله تعالى فطر الناس على استقباح ذلك واستهجانه . ولهذا إذا بالغوا في سب الرجل قالوا : (زوج قحبة ) ، فحرم الله على المسلم أن يكون كذلك . فظهرت حكمة التحريم وبان معنى الآية . والله الموفق .

    ومما يوضح التحريم ، وأنه هو الذي يليق بهذه الشريعة الكاملة ، أن هذه الجناية من المرأة تعود بفساد فراش الزوج ، وفساد النسب الذي جعله الله تعالى بين الناس لتمام مصالحهم . وعدوه من جملة نعمه عليهم ، فالزنى يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب . فمن محاسن الشريعة تحريم نكاح الزانية حتى تتوب وتستبرأ . وأيضا ، فإن الزانية خبيثة ، كما تقدم بيانه والله سبحانه جعل النكاح سببا للمودة والرحمة ، والمودة خالص الحب ، فكيف تكون الخبيثة مودودة للطيب ، زوجا له ؟ والزوج سمي زوجا من الازدواج فالزوجان ، الاثنان المتشابهان والمنافرة ثابتة بين الطيب والخبيث شرعا وقدرا . فلا يحصل معها الازدواج والتراحم والتواد . فلقد أحسن كل الإحسان من ذهب إلى هذا المذهب ، ومنع الرجل أن يكون زوج قحبة . فأين هذا من قول من جوز أن يتزوجها ويطأها الليلة ، وقد وطئها الزاني البارحة ؟ وقال : ماء الزاني لا حرمة له . فهب أن الأمر كذلك ، فماء الزوج له حرمة فكيف يجوز اجتماعه مع ماء الزاني في رحم واحد ، والمقصود أن الله سبحانه سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات . وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة ، وإن كان حلالا . وسمي فاعله جنبا لبعده عن قراءة القرآن وعن الصلاة وعن المساجد . فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء . فكذلك إذا كان حراما يبعد القلب عن الله تعالى وعن الدار الآخرة . بل يحول بينه وبين الإيمان ، حتى يحدث طهرا . [ ص: 4500 ] كاملا بالتوبة . وطهرا لبدنه بالماء . وقول اللوطية : أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود : وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد وقوله سبحانه : قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل من قبل وهكذا المشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد ، وأنه لا يشوبه بالإشراك ، وهكذا المبتدع إنما ينقم على السني تجريده متابعة الرسول وأنه لم يشبها بآراء الرجال ولا بشيء مما خالفها ، فصبر الموحد المتبع للرسول ، على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة ، خير له وأنفع ، وأسهل عليه ، من صبره على ما ينقمه الله ورسوله ، عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة .


    إذا لم يكن بد من الصبر ، فاصطبر على الحق . ذاك الصبر تحمد عقباه


    لطيفة :

    كتب ابن القاضي شرف الدين ابن المقري ، صاحب (" الروض " ) إلى أبيه ، وقد قطع نفقته :


    لا تقطعن عادة بر ، ولا تجعل عتاب المرء في رزقه


    فإن أمر الإفك من مسطح يحط قدر النجم من أفقه


    وقد جرى منه الذي قد جرى وعوتب الصديق في حقه


    فأجابه أبوه شرف الدين بقوله :


    قد يمنع المضطر من ميتة إذا عصى بالسير في طرقه

    لأنه يقوى على توبة توجب إيصالا إلى رزقه

    لو لم يتب من ذنبه مسطح ما عوتب الصديق في حقه

    ولما فضل تعالى الزواجر عن الزنى ، وعن رمي العفائف عنه . بين من الزواجر ما عسى يؤدي [ ص: 4501 ] إلى أحدهما . وذلك في مخالطة الرجال بالنساء ، ودخولهم عليهن ، وفي أوقات الخلوات ، وفي تعليم الآداب الجميلة ، فقال سبحانه :



  12. #472
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النُّورِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4515 الى صـ 4515
    الحلقة (471)




    القول في تأويل قوله تعالى :

    [27 - 28] يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم .

    يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا أي : تستعلموا وتستكشفوا الحال . هل يراد دخولكم أم لا ؟ من (الاستئناس ) وهو الاستعلام . من (آنس الشيء ) إذا أبصره ظاهرا مكشوفا . أو المعنى : حتى يؤذن لكم فتستأنسوا . من (الاستئناس ) الذي هو خلاف الاستيحاش . لما أن المستأذن مستوحش من خفاء الحال عليه ، فيكون عبر بالشيء عما هو لازم له ، مجازا أو استعارة . وجوز أن يكون من (الإنس ) والمعنى : حتى تعلموا هل فيها إنسان ؟ وتسلموا على أهلها أي : ليؤمنهم عما يوحشهم : ذلكم أي : الاستئذان والتسليم : خير لكم أي : من الدخول بغتة : لعلكم تذكرون أي : فتتعظوا وتعملوا بموجبه .

    فإن لم تجدوا فيها أحدا أي : من الآذنين : فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم أي : واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم . ويحتمل : فإن لم تجدوا فيها أحدا من أهلها ، ولكم فيها حاجة ، فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها .

    قال الزمخشري : وذلك لأن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الداخل على عورة ، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط ، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ، ولأنه تصرف في ملك غيرك . فلا بد من أن يكون برضاه ، وإلا أشبه الغصب والتغلب . انتهى .

    [ ص: 4502 ] وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا أي : إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع ، سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أو لا ، كالنساء والولدان ، فارجعوا ولا تلحوا بتكرير الاستئذان ، لأن هذا مما يجلب الكراهة في قلوب الناس ، ولذا قال تعالى : هو أي : الرجوع : أزكى لكم أي : أطهر مما لا يخلو عنه الإلحاح والوقوف على الأبواب ، من دنس الدناءة . وأنمى لمحبتكم .

    قال الزمخشري : وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة ، وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف ، والتصييح بصاحب الدار ، وغير ذلك مما يدخل في عادات من لم يتهذب من أكثر الناس .

    لطيفة :

    قال ابن كثير : قال قتادة : قال بعض المهاجرين : لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها : أن أستأذن على بعض إخواني ، فيقول لي : ارجع . فأرجع وأنا مغتبط . انتهى والله بما تعملون عليم أي : فيجزيكم على نيتكم الحسنة ، في الزيارة ، أو المكر والخيانة بأهل المزور أو ماله .

    تنبيه :

    قال السيوطي في (" الإكليل " ) : في هذه الآية وجوب الاستئذان عند دخول بيت الغير ، ووجوب الرجوع إذا لم يؤذن له ، وتحريم الدخول إذا لم يكن فيها أحد . ويستفاد من هذا تحريم دخول ملك الغير ، والكون فيه ، وشغله بغير إذن صاحبه فيدخل تحته من المسائل والفروع ما لا يحصى . واستدل بالآية الأكثر على الجمع بين الاستئذان والسلام . والأقل على تقديم الاستئذان على السلام بتقديمه في الآية . وأجاب الأكثرون ، بأن الواو لا تفيد ترتيبا ، واستدل بها من قال : له الزيادة في الاستئذان على ثلاث ، حتى يؤذن له أو يصرح بالمنع ، وفهم من الآية أن الرجل لا يستأذن عند دخول بيته على امرأته . انتهى .

    [ ص: 4503 ] وقال ابن كثير : ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره ، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن ، فحذقته بحصاة ، ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح » وأخرج الجماعة عن جابر قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي . فدققت الباب ، فقال : « من ذا » فقلت : أنا قال : « أنا ، أنا » كأنه كرهه . وإنما كرهه ، لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها ، حتى يفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها . وإلا فكل أحد يعبر عن نفسه بأنا فلا يحصل به المقصود الاستئذان ، الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية . وعن ابن مسعود قال : عليكم الإذن على أمهاتكم . وعن طاوس قال : ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم . وكان يشدد النكير في ذلك . وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته ؟ قال : لا . قال ابن كثير : وهذا محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ، ولا يفاجئها به ، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها . وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة ، فانتهى إلى الباب ، تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه . ولهذا جاء في الصحيحعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا .

    [ ص: 4504 ] ثم بين تعالى ما رخص فيه عدم الاستئذان ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [29] ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون .

    ليس عليكم جناح أن تدخلوا أي : بغير استئذان : بيوتا غير مسكونة أي : غير معدة لسكنى طائفة مخصوصة ، بل ليتمتع بها كائنا من كان ، كالخانات والحمامات وبيوت الضيافات : فيها متاع لكم أي : منفعة وحاجة : والله يعلم ما تبدون وما تكتمون وعيد لمن يدخل مدخلا من هذه المداخل ، لفساد أو اطلاع على عورات . أفاده أبو السعود .

    ثم أرشد سبحانه إلى آداب عظيمة تتناول المستأذنين عند دخولهم وغيرهم ، بقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [30] قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون .

    قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم أي : مقتضى إيمانكم الغض عما حرم الله تعالى النظر إليه : ويحفظوا فروجهم أي : عن الإفضاء بها إلى محرم ، أو عن الإبداء والكشف : ذلك أي : الغض والحفظ : أزكى لهم أي : أطهر للنفس وأتقى للدين : إن الله خبير بما يصنعون أي : بأفعالهم وأحوالهم . وكيف يجيلون أبصارهم ، وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم . فعليهم ، إذ عرفوا ذلك ، أن يكونوا منه على تقوى وحذر ، في كل حركة وسكون . أفاده الزمخشري .

    [ ص: 4505 ] تنبيهات :

    الأول : قال السيوطي في (" الإكليل " ) : في الآية تحريم النظر إلى النساء وعورات الرجال وتحريم كشفها . أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية : كل شيء في القرآن من (حفظ الفرج ) فهو من الزنى ، إلا هذه الآية والتي بعدها ، فهو أن لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة . انتهى .

    وليس بمتعين . وعليه فيكون النهي عن الزنى يعلم منه بطريق الأولى . أو الحفظ عن الإبداء يستلزم الحفظ عن الإفضاء .

    الثاني : إن قيل : لم أتى بـ(من ) التبعيضية في غض الأبصار وقيدها به دون حفظ الفروج ؟ مع أنه غير مطلق ومقيد في قوله تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم لأن المستثنى في الحفظ هو الأزواج والسراري ، وهو قليل بالنسبة لما عداه . فجعل كالعدم ولم يقيد به . مع أنه معلوم من الآية الأخرى . بخلاف ما يطلق فيه البصر ، فإنه يباح في أكثر الأشياء ، إلا نظر ما حرم عن قصد . فقيد (الغض به ) ومدخول (من ) التبعيضية ينبغي أن يكون أقل من الباقي . وقيل : إن الغض والحفظ عن الأجانب . وبعض الغض ممنوع بالنسبة إليهم ، وبعضه جائز : بخلاف الحفظ فلا وجه لدخول (من ) فيه . كذا في (" العناية " ) .

    الثالث : سر تقديم غض الأبصار على حفظ الفروج ، هو أن النظر بريد الزنى ورائد الفجور ، كما قال الحماسي :


    وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما ، أتعبتك المناظر


    [ ص: 4506 ] ولأن البلوى فيه أشد وأكثر . ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه . فبودر إلى منعه . ولأنه يتقدم الفجور في الواقع ، فجعل النظم على وفقه .

    الرابع : غض البصر من أجل الأدوية لعلاج أمراض القلوب . وفيه حسم لمادتها قبل حصولها . فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس . ومن أطلق لحظاته ، دامت حسراته .


    كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر


    قال الإمام ابن القيم رحمه الله في " الجواب الشافي " : في غض البصر عدة منافع :

    أحدها : امتثال أمر الله هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده . وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك و تعالى . وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة . إلا بامتثال أوامر ربه . وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره .

    الثاني : أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه ، إلى قلبه .

    الثالث : أنه يورث القلب أنسا بالله وجمعية على الله ، فإن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده من الله ، وليس على العبد شيء أضر من إلى إطلاق البصر . فإنه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه .

    الرابع : أنه يقوي القلب ويفرحه . كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه .

    الخامس : أنه يكسب القلب نورا . كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة ، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر . فقال : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ثم قال إثر ذلك : الله نور السماوات والأرض أي : مثل نوره في قلب عبده المؤمن ، الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه . وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب ، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان . فما شئت من بدعة وضلالة ، واتباع هوى واجتناب هدى ، وإعراض عن أسباب السعادة ، واشتغال [ ص: 4507 ] بأسباب الشقاوة . فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب . فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حناديس الظلام .

    السادس : أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل والصادق والكاذب . وكان شاه بن شجاع الكرماني يقول : من عمر ظاهره باتباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشهوات ، واعتاد أكل الحلال - لم تخطئ له فراسة .

    وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة ، والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله . ومن ترك شيئا لله عوضه خيرا منه ، فإذا غض بصره عن محارم الله ، عوضه بأن يطلق بصيرته عوضا عن حبسه بصره لله . ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة ، والفراسة الصادقة المصيبة التي ، إنما تنال ببصيرة القلب . وضد هذا مما وصف الله به اللوطية من العمه الذي هو ضد البصيرة . فقال تعالى : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل ، والعمه هو فساد البصيرة ، فالتعلق بالصور يوجب إفساد العقل ، وعمه البصيرة يسكر القلب ، كما قال القائل :


    سكران : سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقة من به سكران ؟


    وقال الآخر :


    قالوا : جننت بمن تهوى فقلت لهم : العشق أعظم مما بالمجانين


    العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين


    السابع : أنه يورث القلب ثباتا وشجاعة وقوة . ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة ، وسلطان القدرة والقوة ، كما في الأثر : (الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله ) . وضد هذا تجده في المتبع هواه ، من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها . [ ص: 4508 ] وما جعل الله سبحانه فيمن عصاه . كما قال الحسن : إنهم وإن طقطقت بهم البغال ، وهملجت بهم البراذين ، فإن المعصية لا تفارق رقابهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه . وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته . والذل قرين معصيته ، فقال تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وقال تعالى : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين والإيمان قول وعمل ظاهر وباطن . وقال تعالى : من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه أي : من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله وذكره ، من الكلم الطيب ، والعلم الصالح . وفي دعاء القنوت : إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت . ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه . وله من العز بحسب طاعته ، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه . وله من الذل بحسب معصيته .

    الثامن : أنه يسد على الشيطان مدخله من القلب . فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهوى في المكان الخالي ، فيمثل له صورة المنظور إليه ، يزينها ويجعلها صنما يعكف عليه القلب ، ثم يعده ويمنيه . ويوقد على القلب نار الشهوة ، ويلقي عليه حطب المعاصي ، التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة . فيصير القلب في اللهب ، فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار ، وتلك الزفرات والحرقات . فإن القلب قد أحاطت به نيران بكل جانب . فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور ، ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة ، أن جعل لهم في البرزخ تنور من نار ، وأودعت أرواحهم فيه ، إلى حشر أجسادهم ، كما أراها الله نبيه صلى الله عليه وسلم في المنام في الحديث المتفق على صحته .

    [ ص: 4509 ] التاسع : أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها . وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول عليه بينه وبينها . فتنفرط عليه أموره ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن أمر ربه ، قال تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه .

    العاشر : أن بين العين والقلب منفذا وطريقا يوجب انفعال أحدهما عن الآخر . وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده . فإذا فسد القلب فسد النظر . وإذا فسد النظر فسد القلب . وكذلك في جانب الصلاح . فإذا خربت العين وفسدت ، خرب القلب وفسد ، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ . فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه . وإنما يسكن فيه أضداد ذلك . فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر ، تطلعك على ما وراءها . انتهى .

    ثم أمر الله تعالى النساء بما أمر به الرجال . وزاد في أمرهن ، ما فرضه من رفض حالة الجاهلية المألوفة قبل لهن ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [31] وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم [ ص: 4510 ] ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون .

    وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن أي : بالتستر والتصون عن الزنى كما تقدم . قال الزمخشري : النساء مأمورات أيضا بغض الأبصار . ولا يحل للمرأة أن تنظر إلى الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبته . وإن اشتهت غضت بصرها رأسا . ولا تنظر من المرأة إلا إلى مثل ذلك . وغض بصرها من الأجانب أصلا ، أولى بها وأحسن . ومنه حديث ابن أم مكتوم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة . فأقبل ابن أم مكتوم . وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب . فدخل علينا . فقال : « احتجبا » . فقلنا : يا رسول الله ! أليس أعمى لا يبصرنا ! قال : « أفعمياوان أنتما ؟ ألستما تبصرانه ؟ » وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال الزمخشري : الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب . فما كان ظاهرا منها ، كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب ، فلا بأس بإبدائه للأجانب . وما خفي منها كالسوار والخلخال ، والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط ، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين . وذكر الزينة دون مواقعها ، للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر . لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد ، لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء . وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن . فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل لها لملابستها تلك المواقع ، بدليل أن النظر لها غير ملابسة لها ، لا مقال في حله - كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر ثابت القدم في الحرمة ، شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله في الكشف عنها.

    [ ص: 4511 ] (فإن قلت ) : لم سومح مطلقا في الزينة الظاهرة ؟ قلت : لأن سترها فيه حرج . فإن المرأة لا تجد بدا من مزاولة الأشياء بيديها ، ومن الحاجة إلى كشف وجهها ، خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح . وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها . وخاصة الفقيرات منهن . وهذا معنى قوله تعالى : إلا ما ظهر منها يعني : إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره ، والأصل فيه الظهور . انتهى .

    وقال السيوطي في (" الإكليل " ) : فسر ابن عباس قوله تعالى : إلا ما ظهر منها بالوجه والكفين ، كما أخرجه ابن أبي حاتم . فاستدل به من أباح النظر إلى وجه المرأة وكفيها ، حيث لا فتنة . ومن قال : إن عورتها ما عداهما . وفسره ابن مسعود بالثياب ، وفسر الزينة بالخاتم والسوار والقرط والقلادة والخلخال . أخرجه ابن أبي حاتم أيضا . فهو دليل لمن لم يجز النظر إلى شيء من بدنها ، وجعلها كلها عورة : وليضربن بخمرهن على جيوبهن أي : وليسترن بمقانعهن ، شعورهن وأعناقهن وقرطهن وصدورهن ، بإلقائها على جيوبهن أي : مواضعها ، وهي النحر والصدر .

    قال الزمخشري : كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها . وكن يسدلن الخمر من ورائهن ، فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من قدامهن حتى يغطينها . ويجوز أن يراد بالجيوب الصدور ، تسمية بما يليها ويلابسها ، ومنه قولهم : (ناصح الجيب ) .

    لطيفة :

    قال أبو حيان : عدي (يضربن ) بـ(على ) لتضمنه معنى الوضع . وجعله الراغب مما يتعدى بها دون تضمين . و(الخمر ) : جمع خمار يقال (لغة ) لما يستر به . وخصصه العرف بما تغطي به المرأة رأسها . ومنه (اختمرت ) المرأة و(تخمرت ) . و(الجيب ) ما جيب ، أي : قطع من أعلى القميص . وهو ما يسميه العامة طوقا . وأما إطلاقه على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها ، فليس من كلام العرب . كما ذكره ابن تيمية . كذا في (" العناية " ) ثم كرر النهي عن [ ص: 4512 ] إبداء الزينة لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه ، باعتبار الناظر بعد ما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور ، بقوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أي : فإنهم المقصودون بالزينة . ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج . لكن بكراهة على المشهور .

    وقال الإمام أبو الحسن بن القطان في كتاب (" إحكام النظر " ) : عن أصبغ ، لا بأس به ، وليس بمكروه . وروي عن مالك لا بأس أن ينظر إلى الفرج في الجماع . ثم ذكرنا أن ما روي من أن ذلك يورث العمى ، فحديث لا يصح . لأن فيه (بقية) وقد قالوا (بقية أحاديثه غير نقية ) ولم يؤثر عن العرب كراهة ذلك . وللنابغة والأعشى وأبي عبيدة وابن ميادة وعبد بني الحساس والفرزدق ، في ذلك ما هو معروف .

    وقوله تعالى : أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أي : لأن هؤلاء محارمهن الذين تؤمن الفتنة من قبلهم . فإن آباءهن أولياؤهن الذي يحفظونهن عما يسوءهن . وآباء بعولتهن يحفظون على أبنائهن ما يسوءهم . وأبناؤهن شأنهم خدمة الأمهات ، وهم منهن . وأبناء بعولتهن شأنهم خدمة الآباء وخدمة أحبابهم . وإخوانهن هم الأولياء بعد الآباء . وبنوهم أولياء بعدهم . وكذا بنو أخواتهن ، هم كبني إخوانهن في القرابة فيتعيرون بنسبة السوء إلى الخالة . تعيرهم بنسبته إلى العمة . هذا ما أشار له المهايمي .

    وأجمل ذلك الزمخشري بقوله : وإنما سومح في الزينة الخفية أولئك المذكورون ، لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالفتهم . ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفرة عن ممارسة القرائب . وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك . وقوله تعالى : أو نسائهن قيل : هن المؤمنات . أخذا من الإضافة . فليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية . وقيل : النساء كلهن . فإنهن سواء في حل نظر بعضهن إلى بعض .

    قال في (" الإكليل " ) : فيه إباحة نظر المرأة إلى المرأة كمحرم . وروى ابن أبي حاتم عن عطاء ; [ ص: 4513 ] أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما قدموا بيت المقدس ، كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات .

    وقال الرازي : القول الثاني هو المذهب وقول السلف الأول محمول على الاستحباب والأولى .

    وقوله تعالى : أو ما ملكت أيمانهن أي : لاحتياجهن إليهم . فلو منع دخولهم عليهن اضطررن . قاله المهايمي . وظاهر الآية يشمل العبيد والإماء . وإليه ذهب قوم . قالوا : لا بأس عليهن في أن يظهرن لعبيدهن من زينتهن ما يظهرن لذوي محارمهن . واحتجوا أيضا بما رواه أبو داود عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها . قال : وعلى فاطمة ثوب ، إذا قنعت به رأسها ، لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها ، لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : « إنه ليس عليك بأس . إنما هو أبوك وغلامك » .

    وجاء في (" تاريخ ابن عساكر " ) أن عبد الله بن مسعدة كان أسود شديد الأدمة . وقد كان وهبه النبي صلوات الله عليه لابنته فاطمة . فربته ثم أعتقته ، ثم كان ، بعد مع معاوية على علي . نقله ابن كثير ، فاحتمل أن يكون هو هو . والله أعلم .

    وذهب قوم إلى أنه بذلك الإماء المشركات ، وأنه يجوز لها أن تظهر زينتها إليهن وإن كن مشركات . قالوا : وسر إفراد الإماء مع شموله قوله : أو نسائهن لهن الإعلام بأن المراد من في صحبتهن من الحرائر والإماء لظهور الإضافة في نسائهن بالحرائر . كقوله : شهيدين من رجالكم فعطفن عليهن ليشاركنهن في إباحة النظر عليهن ، والقول الأول أقوى . لأن الأصل هو العمل بالعام حتى يقوم دليل على تخصيصه . لا سيما والحكمة ظاهرة فيه وهي رفع الحرج . وهذا الذي قطع به الشافعي وجمهور أصحابه .

    قال في (" الإكليل " ) : وعلى الأول استدل بإضافة اليمين على أنه ليس لعبد الزوج النظر . [ ص: 4514 ] واستدل من أباحه بقراءة : أو ما ملكت أيمانكم

    وقوله : أو التابعين أي : الخدام لأنهن في معنى العبيد : غير أولي الإربة أي : الحاجة إلى نساء : من الرجال كالشيخ الهرم والبله واستدل بهذا من أباح نظر الخصي . وقوله تعالى : أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء أي : لم يفهموا أحوالهن ، لصغرهم . فيستدل به على تحريم نظر المراهق الذي فهم ذلك كالبالغ . كما في (" الإكليل " ) .

    قال الزمخشري : (يظهروا ) إما من (ظهر على الشيء ) إذا اطلع عليه ، أي : لا يعرفون ما العورة ، ولا يميزون بينها وبين غيرها . وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر على القرآن أخذه وأطاقه أي : لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء . و(الطفل ) مفرد وضع موضع الجمع بقرينة وصفه بالجمع . ومثله (الحاج ) بمعنى : الحجاج . وقال الراغب : إنه يقع على الجمع .

    تنبيه :

    قال السيوطي في (" الإكليل " ) : استدل بعضهم بقوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا إلخ على أنه لا يباح النظر للعم والخال ، لعدم ذكرهما في الآية . أخرج ابن المنذر عن الشعبي وعكرمة ، قالا : لم يذكر العم والخال لأنهما ينعتان لأبنائهما ، ولا تضع خمارها عند العم والخال .

    وقال الرازي : القول الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر . وهو قول الحسن البصري . قال : لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب . وقال في سورة الأحزاب : لا جناح عليهن في آبائهن الآية ، ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم . وقد ذكروا ها هنا . وقد يذكر البعض لينبه على الجملة .

    ثم قال : في قول الشعبي من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهن في التستر .

    [ ص: 4515 ] ثم أشار تعالى إلى أن الزينة ، كما يجب إخفاؤها عن البصر ، يجب عن السمع ، إن كانت مما تؤثر فيه ميلا ، بقوله سبحانه :

    ولا يضربن بأرجلهن أي : الأرض : ليعلم ما يخفين أي : عن الأبصار : من زينتهن كالخلخال . وهذا نهي عن ما كان يفعله بعضهن . وذلك من ضرب أرجلهن الأرض ليتحرك خلخالهن فيعلم أنهن متحلين به . فإن ذلك مما يورث الرجال ميلا إليهن ، ويوهم أن لهن ميلا إليهم .

    قال الزمخشري : وإذا نهين عن إظهار صوت الحلي بعد ما نهين عن إظهار الحلي ، علم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ . قيل : وإذا نهي عن استماع صوت حليهن . فعن استماع صوتهن بالطريق الأولى . وهذا سد لباب المحرمات ، وتعليم للأحواض الأحسن ، لا سيما في مظان الريب وما يكون ذريعة إليها .

    تنبيه :

    قال ابن كثير : يدخل في هذا النهي كل شيء من زينتها كان مستورا ، فتحركت بحركة ، لتظهر ما خفي منها . ومن ذلك ما ورد من نهيها عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليشم الرجال طيبها . فروى الترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كل عين زانية . والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا » . يعني زانية .




  13. #473
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النُّورِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4516 الى صـ 4530
    الحلقة (472)





    قال : ومن الباب عن أبي هريرة . وهذا حديث حسن صحيح . ورواه أبو داود والنسائي . وروى الترمذي أيضا عن ميمونة بنت سعد ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الرافلة في الزينة في غير أهلها ، كمثل ظلمة يوم القيامة ، لا نور لها » . ومن ذلك أيضا ، نهيهن من المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج . فروى أبو داود عن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد ، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء : « استأخرن ، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق . عليكن بحافات الطريق » . فكانت المرأة تلصق بالجدار ، حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به . وقوله تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون أي : ارجعوا إليه بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه ، فإن مقتضى إيمانكم ذلك : لعلكم تفلحون أي : لكي تفوزوا بسعادة الدارين . ولما زجر تعالى عن السفاح ومباديه القريبة والبعيدة ، أمر بالنكاح . فإنه ، مع كونه مقصودا بالذات من حيث كونه مناطا لبقاء النوع ، خير مزجرة عن ذلك . فقال سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [32] وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم .

    وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم أي : زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر ، ومن كان فيه صلاح غلمانكم وجواريكم ، والخطاب للأولياء والسادات ، و(الأيامى ) : جمع أيم . من لا زوجة له أو لا زوج لها . يكون للرجل والمرأة يقال : آم وآمت وتأيما ، إذا لم يتزوجا ، بكرين كانا أو ثيبين .

    قال أبو السعود : واعتبار الصلاح في الأرقاء ، لأن من لا صلاح له منهم ، بمعزل من أن يكون خليقا بأن يعتني مولاه بشأنه ، ويشفق عليه ، ويتكلف في نظم مصالحه بما لا بد منه شرعا وعادة ، من بذل المال والمنافع . بل حقه ألا يستبقيه عنده . وأما عدم اعتبار الصلاح [ ص: 4517 ] في الأحرار والحرائر ، فلأن الغالب فيهم الصلاح . على أنهم مستبدون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم . فإذا عزموا النكاح ، فلا بد من مساعدة الأولياء لهم ; إذ ليس عليهم في ذلك غرامة ، حتى يعتبر في مقابلتها غنيمة عائدة إليهم . عاجلة أو آجلة : وقيل : المراد هو الصلاح للنكاح والقيام بحقوقه . وقوله تعالى : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله إزاحة لما عسى يكون وازعا من النكاح من فقر أحد الجانبين . أي : لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة . فإن في فضل الله عز وجل غنية عن المال . فإنه غاد ورائح . يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب . أو وعد منه سبحانه بالإغناء . لكنه مشروط بالمشيئة . كما في قوله تعالى : وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء والله واسع عليم أي : غني ذو سعة ، لا يرزؤه إغناء الخلائق ، إذ لا نفاذ لنعمته ولا غاية لقدرته { عليم } يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة . انتهى كلام أبي مسعود .

    تنبيهات :

    الأول : الأمر في الآية للندب . لما علم من أن النكاح أمر مندوب إليه . وقد يكون للوجوب في حق الأولياء عند طلب المرأة ذلك .

    وفي (" الإكليل " ) : استدل الشافعي بالأمر على اعتبار الولي . لأن الخطاب له ، وعدم استقلال المرأة بالنكاح . واستدل بعموم الآية من أباح نكاح الإماء بلا شرط ، ونكاح العبدة الحرة . واستدل بها من قال بإجبار السيد على نكاح عبده وأمته .

    الثاني : قدمنا أن قوله تعالى : يغنهم الله من فضله مشروط بالمشيئة . فلا يقال إنه تعالى لا يخلف الميعاد ، وكم من متزوج فقير . والتقيد بالمشيئة بدليل سمعي ، وهو الآية المتقدمة . أو إشارة قوله تعالى : { عليم حكيم } لأن مآله إلى المشيئة . أو عقلي وهو أن الحكيم لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة .

    [ ص: 4518 ] قال الناصر في (" الانتصاف " ) : ولقائل أن يقول : إذا كانت المشيئة هي المعتبرة في غنى المتزوج ، فهي أيضا المعتبرة في غنى الأعزب ، فما وجه ربط وعد الغنى بالنكاح ، مع أن حال الناكح منقسم في الغنى على حسب المشيئة . فمن مستغن به ، ومن فقير ، كما أن حال غير الناكح منقسم ؟ .

    فالجواب ، وبالله التوفيق : إن فائدة ربط الغنى بالنكاح ، أنه قد ركز في الطباع السكون إلى الأسباب والاعتماد عليها ، والغفلة عن المسبب ، جل وعلا . حتى غلب الوهم على العقل فخيل أن كثرة العيال سبب يوجب الفقر حتما ، وعدمها سبب يوجب توفير المال جزما . وأن كل واحد من هذين السببين غير مؤثر فيما ربطه الوهم به . فأريد قلع هذا الخيال المتمكن من الطبع ، بالإيذان بأن الله تعالى قد يوفر المال وينميه ، مع كثرة العيال التي هي سبب من الأوهام ، لنفاد المال . وقد يقدر الإملاق مع عدمه ، الذي هو سبب في الإكثار عند الأوهام . والواقع يشهد لذلك بلا مراء . فدل ذلك قطعا على أن الأسباب التي يتوهمها البشر ، مرتبطات بمسبباتها ، ارتباطا لا ينفك - ليست على ما يزعمونه . وإنما يقدر الغنى والفقر مسبب الأسباب . غير موقوف تقدير ذاك إلا على مشيئة خاصة . وحينئذ لا ينفر العاقل المتيقظ من النكاح . لأنه قد استقر عنده أن لا أثر له في الإقتار . وأن الله تعالى لا يمنعه ذلك من إغنائه ، ولا يؤثر أيضا الخلو عن النكاح لأجل التوفير ، لأنه قد استقر أن لا أثر له فيه ، وأن الله تعالى لا يمنعه مانع أن يقتر عليه . وأن العبد إن تعاطى سببا فلا يكن ناظرا إليه ، ولكن إلى مشيئة الله تعالى وتقدس . فمعنى قوله حينئذ : إن يكونوا فقراء الآية ، أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله . فعبر عن نفي كونه مانعا ، من الغنى ، بوجوده معه . ولا يبطل المانعية إلا وجود ما يتوهم ممنوعا مع ما يتوهم مانعا ولو في صورة من الصور على أثر ذلك . فمن هذا الوادي أمثال قوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض فإن ظاهر [ ص: 4519 ] الأمر طلب الانتشار عند انقضاء الصلاة، وليس ذلك بمراد حقيقة . ولكن الغرض تحقيق زوال المانع وهو الصلاة ، وبيان أن الصلاة متى قضيت ، فلا مانع . فعبر عن نفي المانع بالانتشار ، بما يفهم تقاضي الانتشار مبالغة في تحقيق المعنى عند السامع . والله أعلم .

    فتأمل هذا الفصل واتخذه عضدا حيث الحاجة إليه . انتهى .

    الثالثة : (" في الإكليل " ) : استدل بعضهم بهذه الآية على أنه لا يفسخ النكاح بالعجز عن النفقة ، لأنه قال : يغنهم الله ولم يفرق بينهم .

    ثم أرشد تعالى العاجزين عن أسباب النكاح ، إلى ما هو أولى لهم ، بعد بيان جواز مناكحة الفقراء ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [33] وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم .

    وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله أي : وليجتهد في العفة الذين لا يجدون نكاحا ، أي : أسبابه ، أو استطاعة نكاح أي : تزوج . فهو على المجاز ، أو تقدير المضاف . أو المراد (بالنكاح ) : ما ينكح به .

    قال الشهاب : فإن (فعالا ) يكون صفة بمعنى مفعول . ككتاب بمعنى مكتوب . واسم آلة كركاب لما يركب به . وهو كثير . كما نص عليه أهل اللغة . وقوله تعالى : حتى يغنيهم الله من فضله ترجية للمستعفين وتقدمة وعد بالتفضيل عليهم بالغنى ، ليكون انتظار ذلك [ ص: 4520 ] وتأميله ، لطفا لهم في استعفافهم ، وربطا على قلوبهم . وليظهر بذلك أن فضله أولى بالأعفاء . وأدنى من الصلحاء . وما أحسن ما رتب هذه الأوامر . حيث أمر أولا بما يعصم من الفتنة ، ويبعد من مواقعة المعصية ، وهو غض البصر ، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ، وقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام . ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء ، وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح ، إلى أن يرزق القدرة عليه . أفاده الزمخشري .

    تنبيه :

    قال في (" الإكليل " ) : في الآية استحباب الصبر عن النكاح لمن لا يقدر على مؤنته . واستدل بعضهم بهذه الآية على بطلان نكاح المتعة .

    ولما أمر تعالى للسادة بتزويج الصالحين من عبيدهم وإمائهم ، مع الرق ، رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ، ليصيروا أحرارا ; فيتصرفوا في أنفسهم كالأحرار ، فقال تعالى : والذين يبتغون الكتاب أي : الكتابة : مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم حرصا على تحريرهم الذي هو الأصل فيهم ، وحبا بتحقيق المساواة في الأخوة الجنسية . والمكاتبة أن يقول السيد : كاتبتك . أي : جعلت عتقك مكتوبا على نفسي ، بمال كذا تؤديه في نجوم كذا . ويقبل العبد ذلك ، فيصير مالكا لمكاسبه ولما يوهب له ، وإنما وجب معه الإمهال ، لأن الكسب لا يتصور بدونه . واشترط النجوم لئلا تخلو تلك المدة عن الخدمة وعوضها جميعا . وقوله تعالى : إن علمتم فيهم خيرا أي : كالأمانة ، لئلا يؤدوا النجوم من المال المسروق . والقدرة على الكسب والصلاح ، فلا يؤذي أحدا بعد العتق . وقوله تعالى : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم أمر للموالي ببذل شيء من أموالهم . وفي حكمه ، حط شيء من مال الكتابة . ولغيرهم بإعطائهم من الزكاة إعانة لهم على تحريرهم .

    تنبيه :

    قال في (" الإكليل " ) : في الآية مشروعية الكتابة . وأنها مستحبة . وقال أهل الظاهر : [ ص: 4521 ] واجبة لظاهر الآية . وأن لندبها أو وجوبها ، شرطين : طلب العبد لها وعلم الخير فيه وفسره مجاهد وغيره بالمال والحرفة والوفاء والصدق والأمانة .

    ثم نهى تعالى عن إكراه الجواري على الزنى كما اعتادوه في الجاهلية ، بقوله سبحانه : ولا تكرهوا فتياتكم أي : إماءكم ، فإنه يكنى بالفتى والفتاة ، عن العبد والأمة ، وفي الحديث : « ليقل أحدكم : فتاي وفتاتي ، ولا يقل . عبدي وأمتي » وقوله تعالى : على البغاء أي : الزنى . يقال : بغت بغيا وبغاء ، إذا عهرت . وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها . وقوله تعالى : إن أردن تحصنا ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنى ، وإخراج ما عداها من حكمه ، بل للمحافظة على عادتهم المستمرة ، حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه ، مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور ، وقصورهن في معرفة الأمور ، الداعية إلى المحاسن ، الزاجرة عن تعاطي القبائح ، انتهى كلام أبي السعود . أي : وحينئذ فلا مفهوم للشرط ، وهذا كجواب بعضهم : إن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن . والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب . كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق . ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق ، لا جرم لم يكن لقوله تعالى : فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به مفهوم . ومن هذا القبيل قوله : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا والقصر لا يختص بحال الخوف . ولكنه سبحانه أجراه على سبيل الغالب . فكذا ها هنا انتهى .

    قال أبو سعود : وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا عليه من القبائح ، ما لا يخفى . فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه حرمه من إمائه ، وفضلا [ ص: 4522 ] عن أمرهن به ، أو إكراههن عليه . لا سيما عند إرادتهن التعفف . وإيثار كلمة إن على (إذا ) مع تحقق الإرادة في مورد النص حتما ، للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه ، عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك . فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع ؟ وقوله تعالى : لتبتغوا عرض الحياة الدنيا قيد للإكراه ، لكن لا باعتبار أنه مدار للنهي عنه ، بل باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم ، كما قبله جيء به تشنيعا لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير ، لأجل النزر الحقير . أي : لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال ، الوشيك الاضمحلال . يعني من كسبهن وأولادهن .

    وقوله تعالى : ومن يكرهن جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهي وتأكيد وجوب العمل به ببيان خلاص المكرهات عن عقوبة المكره عليه عبارة ، ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارة ، أي : ومن يكرهن على ما ذكر من البغاء فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم أي : لهن . كما وقع في مصحف ابن مسعود . وعليه قراءة ابن عباس رضي الله عنهم . وكما ينبئ عنه قوله تعالى : من بعد إكراههن أي كونهن مكرهات . على أن الإكراه مصدر من المبني للمفعول فإن توسيطه بين اسم (إن ) وخبرها ، للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة . وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى ، إذا قرأ هذه الآية يقول : لهن ، والله ! لهن ، والله ! وفي تخصيصهما (بهن ) وتعيين مدارهما ، مع سبق ذكر المكرهين أيضا في الشرطية ، دلالة بينة على كونهم محرومين منهما بالكلية ، كأنه قيل : لا للمكره . ولظهور هذا التقدير ، اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط . فتجويز تعلقهما بهم بشرط التوبة استقلالا ، أو معهن ، إخلال بجزالة النظم الجليل ، وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل . وحاجتهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم ، إما باعتبار أنهن وإن كن مكرهات ، لا يخلون في تضاعيف الزنى عن شائبة مطاوعة ما يحكم الجبلة البشرية . وإما باعتبار أن الإكراه قد يكون قاصرا عن حد الإلجاء المزيل للاختيار بالمرة . وإما لغاية تهويل أمر الزنى ، وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه ، والتشديد في تحذير المكرهين ، ببيان أنهن حيث كن عرضة للعقوبة ، لولا أن تداركهن [ ص: 4523 ] المغفرة والرحمة ، مع قيام العذر في حقهن . فما حال من يكرهن في استحقاق العذاب ؟ انتهى كلام أبي السعود وقد أجاد في تحقيق المرام رحمه الله تعالى .

    تنبيه :

    قال في (" الإكليل " ) : في الآية النهي عن إكراه الإماء على الزنى . وأن المكره غير مكلف ولا آثم . وأن الإكراه على الزنى يتصور . وإن مهر البغي حرام . وفيه رد على من أوجب الحد على المكره له .

    ثم حذر سبحانه من مخالفة ما نهى عنه ، مما بينه أشد البيان ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [34] ولقد أنـزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين .

    ولقد أنـزلنا إليكم آيات مبينات أي : واضحات أو مفسرات لكل ما تهم حاجتكم إليه من عبادات ومعاملات وآداب . ومنه ما ذكر قبل ، من النهي عن الإكراه . فلا يخفى المراد منها : ومثلا من الذين خلوا من قبلكم أي : خبرا عظيما عن الأمم الماضية وما حل بهم ، بظلمهم وتعديهم حدود الله : وموعظة للمتقين أي : فيتعظون به وينزجرون عما لا ينبغي لهم . كما قال تعالى : فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين أي : عبرة يعتبرون بها . وإيثار المتقين لحث المخاطبين على الانتظام في سلكهم ، فإنهم الفائزون . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [35] الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة [ ص: 4524 ] مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم .

    الله نور السماوات والأرض أي : منورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار . فهو مجاز من إطلاق الأثر على مؤثره . كما يطلق السبب على مسببه . أو مدبرهما ، من قولهم للرئيس الفائق في التدبير : (نور القوم ) لأنهم يهتدون به في الأمور فيكون مجازا . أو استعارة استعير (النور ) بمعنى : المنور ، للمدبر ، لعلاقة المشابهة في حصول الاهتداء . أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره - كما قاله الغزالي - فيكون أطلق عليه تعالى مجازا مرسلا باعتبار لازم معناه .

    قال أبو السعود : وعبر عن المنور بالنور ، تنبيها على قوة التنوير وشدة التأثير . وإيذانا بأنه تعالى ظاهر بذاته ، وكل ما سواه ظاهر بإظهاره . كما أن النور نير بذاته وما عداه مستنير به . وأضيف النور إلى : السماوات والأرض للدلالة على سعة إشراقه . أو المراد بهما العالم كله : مثل نوره أي : صفة نوره العجيبة الشأن . قال أبو السعود : أي : نوره الفائض منه تعالى على الأشياء المستنيرة به وهو القرآن المبين . كما يعرب عنه ما قبله من وصف آياته بالإنزال والتبيين . وقد صرح بكونه نورا أيضا في قوله تعالى : وأنـزلنا إليكم نورا مبينا وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما ، والحسن ، وزيد بن أسلم رحمهم الله تعالى : كمشكاة أي : كصفة كوة - طاقة - غير نافذة في الجدار ، في الإنارة والتنوير : فيها مصباح أي : سراج ضخم ثاقب - شديد الإضاءة - وقيل : المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل ، والمصباح الفتيلة المشتعلة : المصباح في زجاجة أي : قنديل من الزجاج الصافي الأزهر : الزجاجة كأنها كوكب دري أي : متلألئ وقاد شبيه بالدر في صفائه وزهرته : يوقد من شجرة مباركة أي : كثيرة المنافع ، بأن رويت فتيلته بزيتها : زيتونة لا شرقية ولا غربية [ ص: 4525 ] أي لا شرقية تقع عليها الشمس وقت الشروق فقط ، ولا غربية تقع عليها عند الغروب . ولا تصيبها في الغداة بل في مكان عليها الشمس مشرقة من أول طلوعها إلى آخر غروبها . كصحراء أو رأس جبل . فزيتها أضوأ : يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار أي : يكاد يضيء بنفسه من غير نار لصفائه ولمعانه : نور على نور أي : ذلك النور الذي عبر به عن القرآن ، ومثلت صفته العجيبة بما فضل عن صفة المشكاة . نور عظيم كائن على نور كذلك . فـ(نور ) خبر مبتدأ محذوف ، والجار متعلق بمحذوف صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة ، والجملة فذلكة للتمثيل ، وتصريح لما حصل منه ، وتمهيد لما يعقبه . وليس معنى : نور على نور نور واحد فوق آخر مثله ، ولا مجموع نورين اثنين فقط ، بل هو عبارة عن نور متضاعف كتضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر . فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة ، كان أضوأ له وأجمع لنوره . بخلاف المكان الواسع ، فإن الضوء ينبث فيه وينتشر . والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة . وكذلك الزيت وصفاؤه . وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقا ، مرتبة أخرى عادة يهدي الله لنوره من يشاء أي : لهذا النور الثاقب العظيم الشأن ، بأن يوفقهم للإيمان به وفهم دلائل حقيته .

    قال أبو السعود : وإظهاره في مقام الإضمار . لزيادة تقريره ، وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضميره عز وجل : ويضرب الله الأمثال للناس أي : ليدنو لهم المعقول من المحسوس ، توضيحا وبيانا . ولذلك مثل نوره المعبر عنه بالقرآن ، بنور المشكاة : والله بكل شيء عليم أي : فلا يخفى عليه شيء وفيه وعد ووعيد . لأن علمه تعالى ، عبارة عن مجازاته في أمثال هذه الآي .

    تنبيه :

    هذه الآية الكريمة - آية النور - من الآيات التي صنفت فيها مصنفات خاصة . منها (" مشكاة الأنوار " ) للإمام الغزالي ، وقد نقل عنه الرازي في (" تفسيره " ) هنا جملة سابغة الذيل . ورأيت [ ص: 4526 ] للإمام ابن القيم في كتابه (" الجيوش الإسلامية " ) ما يجمل إيراده ، تعزيزا للمقام واستظهارا بزيادة العلم .

    قال رحمه الله : سمى الله سبحانه وتعالى نفسه نورا وجعل كتابه نورا ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا ودينه نورا . واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نورا يتلألأ ، قال الله تعالى : الله نور السماوات والأرض وقد فسر بكونه منور السماوات والأرض ، وهادي أهل السماوات والأرض . فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض . وهذا إنما هو فعله . وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به . ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى . والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين . إضافة صفة إلى موصوفها ، وإضافة مفعول إلى فاعله . فالأول كقوله عز وجل : وأشرقت الأرض بنور ربها فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى ، إذا جاء لفصل القضاء . ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء المشهور : « أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت » . وفي الأثر الآخر : « أعوذ بوجهك - أو بنور وجهك - الذي أشرقت له الظلمات » . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم . أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله . كما أخبر تعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره .

    وفي (" معجم الطبراني " ) و (" السنة " ) له و (" كتاب عثمان الدارمي " ) وغيرها ، عن ابن مسعود رضي الله عنه . قال : ليس عند ربكم ليل ولا نهار ، نور السماوات والأرض من نور وجهه . وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية ، من قول من فسرها بأنه هادي أهل السماوات والأرض . وأما من فسرها بأنه منور السماوات والأرض ، فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود . والحق أنه نور السماوات والأرض بهذه الاعتبارات كلها . وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله [ ص: 4527 ] صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال : « إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل . حجابه النور . لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك ؟ قال : « نور ، أنى أراه » فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول : معناه كان ثمة نور ، وحال دون رؤيته نور ، فأنى أراه ؟ قال : ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة : هل رأيت ربك ؟ فقال : رأيت نورا . وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال : نوراني أراه . على أنها ياء النسب ، والكلمة كلمة واحدة . وهذا خطأ لفظا ومعنى . وإنما أوجب لهم هذا الإشكال والخطأ أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه وكان قوله : « أنى أراه » كالإنكار للرؤية ، حاروا في الحديث ، ورده بعضهم باضطراب لفظه ، وكل هذا عدول عن موجب الدليل . وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب (" الرؤية " ) له إجماع الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج . وبعضهم استثنى ابن عباس فيمن قال ذلك . وشيخنا يقول : ليس ذلك بخلاف في الحقيقة . فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه ، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال : إنه صلى الله عليه وسلم رآه عز وجل . ولم يقل بعيني رأسه . ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنهما . ويدل على صحته ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه : قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : « حجابه النور » فهذا النور ، والله أعلم . النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه « رأيت نورا » .

    ثم قال ابن القيم : وقوله تعالى : مثل نوره كمشكاة فيها مصباح هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن . كما قال أبي بن كعب وغيره : وقد اختلف في الضمير في (نوره ) فقيل : هو النبي صلى الله عليه وسلم . أي : مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : مفسره المؤمن . أي : مثل نور المؤمن .

    [ ص: 4528 ] والصحيح أن يعود على الله تعالى . والمعنى : مثل نور الله سبحانه في قلب عبده . وأعظم عباده نصيبا من هذا النور رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهذا ، مع ما تضمنه عود الضمير المذكور - وهو وجه الكلام - يتضمن التقادير الثلاثة ، وهو أتم لفظا ومعنى . وهذا النور يضاف إلى الله تعالى . إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه . ويضاف إلى العبد . إذ هو محله وقابله . فيضاف إلى الفاعل والقابل . ولهذا النور فاعل وقابل ، ومحل وحامل ، ومادة . وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل . فالفاعل وهو الله تعالى مفيض الأنوار . الهادي لنوره من يشاء . والقابل : العبد المؤمن . والمحل : قلبه . والحامل : همته وعزيمته وإرادته . والمادة : قوله وعمله . وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية ، فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن ، بما أناله من نوره ، ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم . وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان : إحداهما : طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف . وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن ، من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ، ومقابلته بجزء من المشبه به . وعلى هذا عامة أمثال القرآن . فتأمل صفة المشكاة ، وهي كوة تنفذ لتكون أجمع للضوء ، وقد وضع فيها مصباح ، ذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها . ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقودا ، من زيت شجرة في وسط القراح ، لا شرقية ولا غربية ، بحيث تصيبها الشمس في إحدى طرفي النهار ، بل هي في وسط القراح ، محمية بأطرافه تصيبها الشمس أعدل إصابة ، والآفات إلى الأطراف دونها . فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنها ، يكاد يضيء من غير أن تمسه نار . فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به . والطريقة الثانية ، طريقة التشبيه المفصل . فقيل : المشكاة صدر المؤمن ، والزجاجة قلبه . شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها . وكذلك قلب المؤمن . فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة . فهو يرحم ويحسن ويتحنن ويشفق على الخلق برقته وبصفائه . تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه . ويتباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء . وبصلابته يشتد في أمر الله تعالى ، ويتصلب [ ص: 4529 ] في ذات الله تعالى ، ويغلظ على أعداء الله تعالى . ويقوم بالحق لله تعالى . وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية ، كما قال بعض السلف : القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها . والمصباح هو نور الإيمان في قلبه . والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق . وهي مادة المصباح التي يتقد منها . والنور على النور ، نور الفطرة الصحيحة ، والإدراك الصحيح ، ونور الوحي والكتاب . فينضاف أحد النورين إلى الآخر ، فيزداد العبد نورا على نور . ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة ، قبل أن يسمع ما فيه بالأثر . ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به . فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي . فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة . بل يتصادقان ويتوافقان . فهذا علامة النور على النور . انتهى . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [36 - 38] في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب

    في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه أي : أمر أن تعظم عن اللغو ، أو ترفع بالبناء قدرا . ويتلى فيه اسمه ، ولا يعبد فيها غيره ، لأنه شيدت على اسمه جل شأنه . والظرف صفة (لمشكاة ) أو (لمصباح ) أو (لزجاجة ) أو متعلق بـ(توقد ) أو بمحذوف . أي : سبحوه في بيوت . أو بـ(يسبح ) . ولفظ (فيها ) تكرار للتوكيد .

    [ ص: 4530 ] قال أبو السعود : لما ذكر شأن القرآن الكريم في بيانه للشرائع والأحكام ، ومبادئها وغاياتها المترتبة عليها من الثواب والعقاب ، وأشير إلى كونه في غاية ما يكون من التوضيح ، حيث مثل بنور المشكاة - عقب ذلك بذكر الفريقين وتصوير بعض أعمالهم المعربة عن كيفية حالهم في الاعتداء وعدمه ، والمراد بالبيوت ، المساجد كلها : يسبح له فيها بالغدو يعني قبل طلوع الشمس : والآصال جمع أصيل وهو العشي قبل غروب الشمس : رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله أي : بالتسبيح والتحميد : وإقام الصلاة أي : إقامتها لمواقيتها من غير تأخير : وإيتاء الزكاة أي : المال الذي يتزكى مؤتيه من دنس الشح ورذيلة البخل ، وتطهر نفسه ويصفو سره : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار أي : تضطرب وتتغير من الهول والفزع . كما في قوله تعالى : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب اللام متعلقة بيسبح أو لا تلهيهم أو بمحذوف يدل عليه السوق . أي : يفعلون ما يفعلون مما ذكر ، ليجزيهم . وفي آخر الآية تقرير وتنبيه على كمال القدرة ، ونفاذ المشيئة ، وسعة الإحسان ، لأن بغير حساب كناية عن السعة . والمراد أنه لا يدخل تحت حساب الخلق وعدهم .

    تنبيه :

    قال السيوطي في (" الإكليل " ) : في هذه الآية الأمر بتعظيم المساجد وتنزيهها عن اللغو والقاذورات . وفيها استحباب ذكر الله والصلاة في المساجد . وفي قوله : رجال إشارة إلى أن الأفضل للنساء الصلاة في قعر بيوتهن . كما صرح به الحديث ، إلا في نحو العيدين لحديث : « ليشهدن الخير ودعوة المسلمين » ، وقوله : لا تلهيهم الآية ، فيه أن التجارة [ ص: 4531 ] لا تنافي الصلاة . لأن مقصود الآية أنهم يتعاطونها ، ومع ذلك لا تلهيهم عن الصلاة وحضور الجماعة .




  14. #474
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النُّورِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4531 الى صـ 4545
    الحلقة (473)






    لأن مقصود الآية أنهم يتعاطونها ، ومع ذلك لا تلهيهم عن الصلاة وحضور الجماعة . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق ، فأقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد . فقال ابن عمر : فيكم نزلت : رجال لا تلهيهم الآية . وأخرج عن الضحاك والحسن وسالم وعطاء ومطرف مثل ذلك . انتهى . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [39] والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب .

    والذين كفروا عطف على ما ينساق إليه ما قبله . كأنه قيل : الذين آمنوا أعمالهم حالا ومآلا كما وصف ، والذين كفروا : أعمالهم أي : التي يحسبونها تنفعهم وتأخذ بيدهم من العذاب : كسراب وهو ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس ، وقت الظهيرة ، يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري : بقيعة بمعنى القاع ، وهو المنبسط من الأرض . أو جمع قاع (كجيرة ) في (جار ) : يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا أي : لا محققا ولا متوهما . كما كان يراه من قبل ، فضلا عن وجدانه ماء ، وبه تم بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل . وقوله تعالى : ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أي : وجد عقاب الله وجزاءه عند السراب ، أو العمل . وفي التعبير بذلك زيادة تهويل . وقيل : المعنى وجده محاسبا إياه . فالعندية بمعنى الحساب ، على طريق الكناية لذكر التوفية بعده . قيل : هذه الجملة معطوفة على : لم يجده ولا حاجة إلى عطفه على ما يفيده من نحو : (لم يجد ما عمله نافعا ) .

    قال الشهاب : ويحتمل أن يكون بيان لحال المشبه به ، الكافر فيعطف بحسب المعنى على التمثيل بتمامه . ولو قيل على الأول إنه من تتمة وصف السراب . والمعنى : وجد مقدوره تعالى من الهلاك بالظمأ عند السراب ، فوفاه ما كتب له ، من لا يؤخر الحساب - كان الكلام [ ص: 4532 ] متناسبا . واختار الثاني أبو السعود حيث قال : هو بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة ، لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط ، كما هو شأن الظمآن . ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر عنده للخيبة أصلا . فليست الجملة معطوفة على : لم يجده شيئا بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل ، من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم المذكورة عينا ولا أثرا . كما في قوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا فإن قيل : لم خص (الظمآن ) بالذكر ، مع أنه يتراءى لكل أحد كذلك ؟ فكان الظاهر الرائي بدله . وأجيب بأنه إنما قيده به ولم يطلقه لقوله : ووجد الله عنده إلخ ، لأنه من تتمة أحوال المشبه به . وهو أبلغ . لأن خيبة الكافر أدخل وأعرق . ونحوه : مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا إلخ ، فإن الكافرين هم الذين يذهب حرثهم بالكلية . يعني أنه شبه أعمال الكفار التي يظنونها نافعة ، ومآلها الخيبة ، برؤية الكافر الشديد العطش في المحشر ، سرابا يحسبه شرابا ، فينتظم عطف (وجد الله ) أحسن انتظام كما نوروه . كذا في (" الكشف " ) .

    الثالثة : قال الشهاب : وهذا تشبيه بليغ وقع مثله في قول مالك بن نويرة :


    لعمري إني وابن جارود كالذي أراق شعيب الماء والآل يبرق

    فلما أتاه ، خيب الله سعيه
    فأمسى يغض الطرف عيمان يشهق


    ثم أشار تعالى إلى تمثيلهم بنوع آخر ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [40] أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

    [ ص: 4533 ] أو كظلمات في بحر لجي أي : عميق كثير الماء : يغشاه موج من فوقه موج أي : متراكم بعضه على بعض : من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض أي : متكاثفة متراكمة . وهذا بيان لكمال شدة الظلمات : إذا أخرج يده أي : وجعلها بمرأى منه ، قريبة من عينه لينظر إليها : لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور أي : ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن ، فما له هداية ما . وهذا في مقابلة قوله تعالى في مثل المؤمنين : يهدي الله لنوره من يشاء والجملة تقرير للتمثيل قبل ، وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم ، إذ لم يجاهدوا لنيل ذلك ، قال تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا

    لطيفة :

    قال ابن كثير : هذان المثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار . كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين : ناريا ومائيا . وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم ، في سورة الرعد ، مثلين مائيا وناريا .

    ثم قال : أما الأول فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم أصحاب الجهل المركب الذين يحسبون أنهم على شيء . فمثلهم كالسراب . والثاني لأصحاب الجهل البسيط وهم المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم ، الذين لا يعقلون . فلا يعرف أحدهم حال من يقوده ولا يدري أين يذهب . بل كما يقال في المثل للجاهل : أين تذهب ؟ قال : معهم . قيل : فإلى أين يذهبون ؟ قال : لا أدري انتهى .

    وما ذكره مما يحتمله اللفظ الكريم ، وليس بمتعين . ومستنده في ذلك ما ذكره شيخه الإمام ابن القيم ، عليهما الرحمة والرضوان ، في (الجيوش الإسلامية ) ولا بأس بإيرادها لما اشتملت عليه من بدائع الفوائد . قال : انظر كيف انتظمت هذه الآيات طرائق بني آدم أتم [ ص: 4534 ] انتظام ، واشتملت عليه أكمل اشتمال . فإن الناس قسمان : أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه وتعالى ، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قل نصيبه من العقل والسمع أمرها ، فيظنها شيئا له حاصل فينتفع به . وهي كسراب بقيعة إلخ ، وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق ، أصحاب العلم النافع والعمل الصالح ، الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أخباره ، ولم يعارضوها بالشبهات . وأطاعوه في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات . فلا هم في عملهم ، من أهل الخوض الخراصين : الذين هم في غمرة ساهون ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم ، الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون . أضاء لهم نور الوحي المبين ، فرأوا في نوره أهل الظلمات في آرائهم يعمهون . وفي ضلالهم يتهوكون . وفي ريبهم يترددون . مغترين بظاهر السراب ، ممحلين مجدبين ما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الحكمة وفصل الخطاب : إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه أوجبه لهم اتباع الهوى ، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان .

    القسم الثاني : أهل الجهل والظلم الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به والظلم باتباع أهوائهم . الذين قال الله تعالى فيهم : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى وهؤلاء قسمان : أحدهما ، الذين يحسبون أنهم على علم وهدى ، وهم أهل الجهل والضلال . فهؤلاء أهل الجهل المركب ، الذين يجهلون الحق ويعادونه ، ويعادون أهله ، وينصرون الباطل ويوالون أهله . وهم يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون . فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه ، بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا . وهكذا هؤلاء . أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه . ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان ، كما هو حال من أم السراب فلم يجده ماء . بل انضاف إلى ذلك أنه وجد عنده أحكم الحاكمين وأعدل العادلين . سبحانه وتعالى . فحسب له ما عنده من العلم والعمل ، فوفاه إياه بمثاقيل الذر . وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه [ ص: 4535 ] فجعله هباء منثورا . إذ لم يكن خالصا لوجهه ، ولا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علوما نافعة ، كذلك هباء منثورا . فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه . و(السراب ) ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري و(القيعة ) و(القاع ) هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا فيه واد . فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله ، بسراب يراه المسافر في شدة الحر ، فيؤمه ، فيخيب ظنه ويجده نارا تلظى . فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس واشتد بهم العطش ، بدت لهم كالسراب . فيحسبونه ماء . فإذا أتوه وجدوا الله عنده ، فأخذتهم زبانية العذاب ، فعتلوهم إلى نار الجحيم فسقوا ماء حميما ، فقطع أمعاءهم . وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع ، والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله تعالى حميما سقاهم إياه . كما أن طعامهم من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة التي كانت في الدنيا كذلك لا تسمن ولا تغني من جوع وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهم الذين عنى بقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وهم الذين عنى بقوله تعالى : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار

    القسم الثاني من هذا الصنف ، أصحاب الظلمات . وهم المنغمسون في الجهل . بحيث قد أحاط بهم من كل وجه ، فهم بمنزلة الأنعام بل هم أضل سبيلا . فهؤلاء أعمالهم التي عملوها على غير بصيرة ، بل بمجرد التقليد واتباع الآباء من غير نور من الله تعالى : كظلمات جمع ظلمة وهي ظلمة الجهل وظلمة الكفر وظلمة الظلم واتباع الهوى وظلمة الشك والريب وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم . والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور . فإن المعرض عما بعث الله به تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم [ ص: 4536 ] من الهدى ودين الحق ، يتقلب في خمس ظلمات : قوله : ظلمة . وعمله ظلمة . ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره إلى ظلمة . وقلبه مظلم ووجهه مظلم وكلامه مظلم . وحاله مظلم . وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من النور ، جد في الهرب منه ، وكاد نوره يخطف بصره ، فهرب إلى ظلمات الآراء التي هي به أنسب وأولى كما قيل :


    خفافيش أعشاها النهار بضوئه ووافقها قطع من الليل مظلم


    وقوله تعالى : في بحر لجي اللجي العميق . منسوب إلى لجة البحر وهو معظمه . وقوله تعالى : يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب تصوير لحال المعرض عن وحيه . فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره ، بتلاطم أمواج ذلك البحر ، وأنهم أمواج بعضها فوق بعض . والضمير الأول في قوله : يغشاه راجع إلى البحر ، والضمير الثاني في قوله : من فوقه عائد إلى الموج . ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب . فها هنا ظلمات : ظلمة البحر اللجي ، وظلمة الموج الذي فوقه ، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله : إذا أخرج من في هذا البحر : يده لم يكد يراها واختلف في معنى ذلك . فقال كثير من النحاة : هو نفي لمقاربة رؤيتها . وهو أبلغ من نفيه الرؤية . وإنه قد ينفي وقوع الشيء ولا تنفى مقاربته . فكأنه قال : لم يقارب رؤيتها بوجه .

    قال هؤلاء : (كاد ) من أفعال المقاربة . لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات . فإذا قيل : كاد يفعل ، فهو إثبات مقاربة الفعل . وإذا قيل : لم يكد يفعل ، فهو نفي لمقاربة الفعل .

    وقالت طائفة أخرى : بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد . وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر ، لأجل تلك الظلمات : قالوا : لأن (كاد ) لها شأن ليس لغيرها من الأفعال . فإنها إذا أثبتت نفت . وإذا نفت أثبتت . فإذا قلت : (ما كدت أصل إليك ) فمعناه : وصلت إليك بعد الجهد والشدة . فهذا إثبات للوصول . وإذا قلت : (كاد زيد يقوم ) فهي نفي لقيامه . كما قال تعالى : وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا

    [ ص: 4537 ] ومنه قوله تعالى : وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم وأنشد بعضهم في ذلك لغزا :


    أنحوي هذا العصر ! ما هي لفظة جرت في لساني جرهم وثمود ؟


    إذا استعملت في صورة النفي أثبتت وإن أثبتت قامت مقام جحود


    وقالت فرقة ثالثة ، منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره : إن استعمالها مثبتة ، يقتضي نفي خبرها . كقولك كاد زيد يقوم واستعمالها منفية يقتضي نفيه بطريق الأولى ، فهي عنده تنفي الخبر . سواء كانت منفية أو مثبتة . (فلم يكد زيد يقوم ) أبلغ عنده في النفي من (لم يقم ) واحتج بأنها إذا نفيت - وهي من أفعال المقاربة - فقد نفيت مقاربة الفعل . وهو أبلغ من نفيه . وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها . وذلك يدل على عدم وقوعه . واعتذر عن مثل قوله تعالى : فذبحوها وما كادوا يفعلون وعن مثل قوله : (وصلت إليك وما كدت أصل ) و(سلمت وما كدت أسلم ) بأن هذا وارد على كلامين متباينين . أي : فعلت كذا بعد أن لم أكن مقاربا له ، فالأول يقتضي وجود العمل ، والثاني يقتضي أنه لم يكن مقاربا له ، بل كان آيسا منه . فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان .

    وذهبت فرقة رابعة إلى الفرقة بين ماضيها ومستقبلها . فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل . سواء كانت بصيغة الماضي أو المستقبل . وإن كانت في طرف النفي ، فإن كانت بصيغة المستقبل ، كانت لنفي الفعل ومقاربته . نحو قوله : لم يكد يراها وإن كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات نحو قوله : فذبحوها وما كادوا يفعلون فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة .

    والصحيح أنها فعل يقتضي المقاربة . ولها حكم سائر الأفعال . ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها . فإنها لم توضع لنفيه . وإنما استفيد من لوازم معناها . فإنها إذا اقتضت [ ص: 4538 ] مقاربة الفعل ، لم يكن واقعا ، فيكون منفيا باللزوم . وأما إذا استعملت منفية ، فإن كانت في كلام واحد ، فهي لنفي المقاربة . كما إذا قلت : (لا يكاد البطال يفلح ) و(لا يكاد البخيل يسود ) و(لا يكاد الجبان يفرح ) ونحو ذلك . وإن كانت في كلامين ، اقتضت وقوع الفعل ، بعد أن لم يكن مقاربا . كما قال ابن مالك : فهذا التحقيق في أمرها .

    والمقصود إن قوله : لم يكد يراها إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة ، وهو الأظهر . فإذا كان لا يقارب رؤيتها ، فكيف يراها ؟ قال ذو الرمة :


    إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى في حب مية يبرح


    أي لم يقارب البراح . وهو الزوال ، فكيف يزول ؟ فشبه سبحانه أعمالهم أولا ، في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم ، بسراب خداع يخدع رائيه من بعيد . فإذا جاءه وجده عنده عكس ما أمله ورجاه . شبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها ، لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان ، بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج : الذي قد غشيه السحاب من فوقه . فيا له تشبيها ما أبدعه ! وأشد مطابقته بحال أهل البدع والضلال ! وحال من عبد الله سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه ! وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح ، ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم . وكل واحد من السراب والظلمات ، مثل لمجموع علومهم وأعمالهم . فهي سراب لا حاصل لها ، وظلمات لا نور فيها . وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه ، التي تلقاها من مشكاة النبوة . فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد . ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة . ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع ، لأوليائه وأعدائه . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى .
    ثم أشار تعالى إلى تعديل الدلائل على ربوبيته ووحدانيته في ألوهيته ، وظهور أمره وجلالته ، بقوله سبحانه :

    [ ص: 4539 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [41] ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون .

    ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض أي : ينزهه ويقدسه وحده ، أهلوهما : والطير صافات أي : يصففن أجنحتهن في الهواء : كل قد علم صلاته وتسبيحه أي : كل واحد مما ذكر ، قد هدي وأرشد إلى طريقته ومسلكه ، في عبادة الله عز وجل . فالضمير في (علم ) لكل . أو للفظ الجلالة ، كالضمير في صلاته وتسبيحه .

    قال الزمخشري : ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه ، كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها .

    وتقدم في سورة الإسراء كلام في تسبيح الجمادات ، فارجع إليه : والله عليم بما يفعلون
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [42] ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير .

    ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير أي : هو الإله الحاكم المتصرف فيهما ، الذي لا تنبغي العبادة فيهما إلا له ، وإليه يوم القيامة ، مصير الخلائق ، فيحكم بينهم ، ويجزي الذين أساءوا بما عملوا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [43] ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينـزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار .

    [ ص: 4540 ] ألم تر أن الله يزجي سحابا أي : يسوقها برفق . ومنه البضاعة المزجاة ، يزجيها كل أحد . أي : يدفعها لرغبته عنها ، أو لقدرته على سوقها وإيصالها : ثم يؤلف بينه بضم بعضه إلى بعض . فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة : ثم يجعله ركاما أي : متراكما بعضه فوق بعض : فترى الودق أي : المطر : يخرج من خلاله وهي فرجه ومخارج القطر منه : وينـزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء قال ابن كثير : يحتمل المعنى : فيصيب بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد رحمة بهم ويصرفه عن آخرين حكمة وابتلاء . ويحتمل المعنى : فيصيب بالبرد من يشاء نقمة لما فيه من نثر الثمار وإتلاف الزروع . ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم . انتهى .

    وخلاصته أن الضمير إما للأقرب ، على الثاني ، أوله ولما قبله ، على الأول .

    لطيفة :

    قد ذكرت (من ) الجارة في الآية ثلاث مرات . فالأولى ابتدائية اتفاقا . والثانية زائدة أو تبعيضية أو ابتدائية ، على جعل مدخولها بدلا مما قبله بإعادة الجار . والثالثة فيها هذه الأقوال . وتزيد برابع ، وهو أنها لبيان الجنس . والتقدير : ينزل من السماء بعض جبال ، التي هي البرد .

    يكاد سنا برقه أي : لمعانه : يذهب بالأبصار أي : يخطفها لشدته وقوته .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [44] يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .

    يقلب الله الليل والنهار أي : يأتي بكل منهما بدل الآخر خلفا له . أو يأخذ من طول أحدهما فيجعله في الآخر رحمة بالعباد ، لانتظام معايشهم : إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار
    [ ص: 4541 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [45 - 46] والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير لقد أنـزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

    والله خلق كل دابة من ماء كل حيوان يدب على الأرض من ماء ، وهو جزء مادته . أو ماء مخصوص هو النطفة ، فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل لأن من الحيوانات ما لا يتولد من نطفة . وقيل : من ماء متعلق بـ(دابة ) وليست صلة (لخلق ) : فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات . وتسمية حركتها مشيا ، مع كونها زحفا ، بطريق الاستعارة أو المشاكلة : ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء أي : مما ذكر وغيره ، على من يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والحركات : إن الله على كل شيء قدير لقد أنـزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو صراط تلك الآيات ، صراط الحق والهدى والنور . وهم المؤمنون الصادقون الذين استجابوا لله والرسول ، وإذا دعوا إلى حكمها استكانوا .

    ثم أشار إلى ما كان يقع من المنافقين من أثر النفاق ، تحذيرا من صنيعهم ، بقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [47 - 50] ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون [ ص: 4542 ] وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون .

    ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك أي : دعوى الإيمان : وما أولئك بالمؤمنين أي : في قلوبهم . ثم برهن عليه بقوله : وإذا دعوا إلى الله أي : كتابه : ورسوله أي : سنته وحكمه : ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون أي : عن المجيء إليه : وإن يكن لهم الحق أي : الحكومة لهم ، لا عليهم : يأتوا إليه مذعنين أي : مسرعين طائعين . وقوله تعالى : أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله أي في الحكم فيظلموا فيه . قال أبو السعود : إنكار واستقباح لإعراضهم المذكور . وبيان لمنشئه بعد استقصاء عدة من القبائح المحققة فيهم ، والمتوقعة منهم . وتردي المنشئية بينها . فمدار الاستفهام ليس نفس ما وليته الهمزة وأم من الأمور الثلاثة ، بل هو منشئيتها له . كأنه قيل : أذلك ، أي : إعراضهم المذكور ، لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم ، أم لأنهم ارتابوا في أمر نبوته عليه السلام ، مع ظهور حقيتها ؟ أم لأنهم يخافون الحيف ممن يستحيل عليه ذلك ؟ إشارة إلى استجماعهم تلك الأوصاف الذميمة ، التي كل واحد منها كفر ونفاق .

    ثم بين اتصافهم مع ذلك بالوصف الأسوأ وهو الظلم ، بقوله تعالى : بل أولئك هم الظالمون أي : الذين رسخ فيهم خلق الظلم لأنفسهم ولغيرهم . فالإضراب انتقالي .

    والمعنى : دع هذا كله ، فإنهم هم الكاملون في الظلم ، الجامعون لتلك الأوصاف .
    [ ص: 4543 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [51 - 52] إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون .

    إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون

    قال السيوطي في (" الإكليل " ) : فيها وجوب الحضور على من دعي لحكم الشرع ، وتحريم الامتناع ، واستحباب أن يقول : سمعنا وأطعنا . انتهى .

    ثم أشير إلى حكاية شيء من أحوال أولئك المنافقين الممتنعين عن قبول حكمه ، وذلك إقسامهم الكاذب ، ليستدل به على إيمانهم الباطن ، بقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [53] وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون .

    وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم أي : بالخروج من ديارهم وأموالهم وأهليهم : ليخرجن أي : مجاهدين . و(جهد ) منصوب على الحالية . أو هو مصدر (لأقسموا ) من معناه . وهو مستعار من (جهد نفسه ) إذا بلغ وسعها . أي : أكدوا الأيمان وشددوها : قل لا تقسموا طاعة معروفة أي : لا تقسموا على ذلك وتشددوا لترضونا . فإن الأمر المطلوب منكم طاعة معروفة ، لا تنكرها النفس . إذ لا حرج فيها . فأطيعوا بالمعروف من غير حلف ، كما يطيع المؤمنون . وقيل : معناه طاعتكم طاعة معروفة . أي : أنها قول بلا عمل . [ ص: 4544 ] إذ عرف كذبكم في أيمانكم . كما قال تعالى : يحلفون لكم لترضوا عنهم الآية ، وقال تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة الآية ، فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه ، كما قال تعالى : ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون وقوله تعالى : إن الله خبير بما تعملون أي : من الأعمال الظاهرة والباطنة ، التي منها الأيمان الكاذبة ، وما تضمرونه من النفاق ومخادعة المؤمنين ، التي لا تخفى على من يعلم السر وأخفى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [54] قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين .

    قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا أي : تولوا عن الإطاعة : فإنما عليه ما حمل أي : كلفه من أداء الرسالة . فإذا أدى فقد خرج من عهدة تكليفه .

    وعليكم ما حملتم أي : ما أمرتم به من الطاعة والتلقي بالقبول والإذعان والقيام بمقتضاه : وإن تطيعوه تهتدوا أي : لأنه يدعوكم إلى الصراط المستقيم . فإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى . وإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه : وما على الرسول إلا البلاغ المبين أي : التبليغ البين بنفسه ، أو الموضح لما أمرتم به .

    [ ص: 4545 ] ولما تضمن قوله تعالى : { تهتدوا } إشارة إلى وعد كريم ومستقبل فخيم ، استأنف التصريح به تقريرا له ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [55] وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون .

    وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض أي : يورثهم الأرض ويجعلهم فيها خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم . أو خلفاء من الذين لم يكونوا على حالهم من الإيمان والأعمال الصالحة : كما استخلف الذين من قبلهم أي : من الأمم المؤمنة برسلها . التي أهلك الله عدوها ، وأورثها أرضها وديارها . كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم فلسطين ، بعد إهلاك الجبابرة : وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم أي : فليجعلن دينهم ثابتا مقررا ، مرفوع اللواء ، ظاهرا على غيره ، قاهرا لمن ناوأه .

    قال أبو السعود : وفي إضافة الدين إليهم . وهو دين الإسلام ، ثم وصفه بارتضائه لهم ، تأليف لقلوبهم ومزيد ترغيب فيه ، وفضل تثبيت عليه : وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك أي : بعد هذا الوعد الكريم الموجب لتحصيل ما تضمنه من السعادتين : فأولئك هم الفاسقون أي : الكاملون في فسقهم . حيث كفروا تلك النعمة العظيمة . وجسروا على غمطها .

    [ ص: 4546 ] تنبيه :

    في هذه الآية من الدلالة على صحة النبوة للإخبار بالغيب على ما هو عليه قبل وقوعه - ما لا يخفى . فقد أنجز الله وعده ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وافتتحوا بعد بلاد المشرق والمغرب . ومزقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا ، وصاروا إلى حال يخافهم كل من عداهم .






  15. #475
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النُّورِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4546 الى صـ 4560
    الحلقة (474)






    القول في تأويل قوله تعالى :

    [56 - 57] وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير .

    وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة معطوف على أطيعوا الله وما اعترض بينهما كان تأكيدا ، أو على مقدر يستدعيه السوق . أي : فآمنوا واعملوا صالحا وأقيموا . أو فلا تكفروا وأقيموا . إلخ . ثم كرر طاعة الرسول ، تأكيدا لوجوبها ، بقوله : وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض أي : معجزين لله تعالى ، بل مدركون : ومأواهم النار ولبئس المصير

    ثم أشير إلى تتمة الأحكام السابقة ، إثر تمهيد ما يجب امتثاله من الأحكام ، ومن الترغيب والترهيب ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [58] يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين [ ص: 4547 ] تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم .

    يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم أي : من العبيد والجواري : والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم أي : هي ثلاث عورات لكم . إشارة إلى علة وجوب الاستئذان بأنهن أوقات يختل فيها التستر عادة ، ويكون النوم فيها مع الأهل غالبا . فالهجوم على أهل البيت في هذه الأحوال ، مما تأباه النفوس وتكرهه أشد الإباء والكراهة : ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم أي : ليس عليكم جناح في ترك نهيهم عن الدخول بلا إذن . ولا عليهم جناح من الدخول بدونه ، بعد هذه الأوقات ، وإن احتمل فيها الإخلال بالتستر لندرته . وذلك لأنهم طوافون عليكم ، فيعسر عليهم الاستئذان في كل مرة : بعضكم على بعض أي : بعضكم طائف على بعض طوافا كثيرا . أو بعضكم يطوف على بعض .

    قال الزمخشري : يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة ، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام . فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأدى إلى الحرج كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم يشرع ما فيه الحكمة وصلاح الحال وانتظام الشأن .

    تنبيه :

    في الآية إقرار ما جرت به العادة من أن النوم وقته بعد العشاء وقبل الفجر ووقت الظهيرة . وقد يستدل بها على أن كشف العورة في الخلوة جائز . كذا في (" الإكليل " ) . [ ص: 4548 ] وقال الرازي : الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين : أحدهما بقوله تعالى : ثلاث عورات لكم والثاني بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة ، وبين ما عداها ، بأنه ليس ذاك إلا لعلة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة ، وإنه لا يؤمن وقوع التكشف فيها وليس كذلك ما عدا هذه الأوقات .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [59] وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم .

    وإذا بلغ الأطفال أي : الذين رخص لهم في ترك الاستئذان في غير الأوقات المذكورة : منكم أي : من الأحرار ، دون المماليك ، فإنهم باقون على الرخصة : الحلم أي : حد البلوغ بالاحتلام ، و بالسن الذي هو مظنة الاحتلام : فليستأذنوا أي : في سائر الأوقات أيضا : كما استأذن الذين من قبلهم أي : الذين بلغوا الحلم من قبلهم ، وهم الرجال أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا

    والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن ، إلا في العورات الثلاثة . فإذا اعتاد الأطفال ذلك ، ثم خرجوا عن حد الطفولة ، بأن يحتلموا أو يبلغوا السن التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة ، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات ، كما يستأذن الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن .

    وهذا مما الناس منه في غفلة . وهو عندهم كالشريعة المنسوخة . وعن ابن عباس : آية لا يؤمن بها أكثر الناس : آية الإذن . وإني لآمر جارتي أن تستأذن علي .

    [ ص: 4549 ] وسأله عطاء : أستأذن على أختي ؟ قال : نعم ، وإن كانت في حجرك تمونها . وتلا هذه الآية .

    وعنه : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله . وقوله : إن أكرمكم عند الله أتقاكم فقال ناس : أعظمكم بيتا . وقوله : وإذا حضر القسمة كذا في (" الكشاف " ) .

    تنبيه :

    قال في (" الإكليل " ) : في الآية أن التكليف إنما يكون بالبلوغ . وأن البلوغ يكون بالاحتلام . وأن الأولاد البالغين لا يدخلون على والديهم إلا بالاستئذان ، كالأجانب . انتهى .

    وقال التقي السبكي في " إبراز الحكم في شرح حديث رفع القلم " : أجمع العلماء على أن الاحتلام يحصل به البلوغ في حق الرجل . ويدل لذلك قوله تعالى : وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : « وعن الصبي حتى يحتلم » . وهي رواية ابن أبي السرح عن ابن عباس . قال : والآية أصرح . فإنها ناطقة بالأمر بعد الحلم . وورد أيضا عن علي رضي الله عنه ، رفعه : « لا يتم بعد احتلام ، ولا صمات يوم إلى الليل » رواه أبو داود . والمراد بالاحتلام خروج المني . سواء كان في اليقظة أم في المنام ، بحلم أو غير حلم . ولما كان في الغالب لا يحصل إلا في النوم بحلم ، أطلق عليه الحلم والاحتلام ، ولو وجد الاحتلام من غير خروج مني ، فلا حلم له .

    ثم قال : وقوله في الحديث : « حتى يحتلم » دليل البلوغ بذلك . وهو إجماع . وهو [ ص: 4550 ] حقيقة في خروج المني بالاحتلام ، ومجاز في خروجه بغير احتلام يقظة أو مناما . أو منقول فيما هو أعم من ذلك ، ويخرج منه الاحتلام بغير خروج مني ، إن أطلقناه عليه منقولا عنه . ولكونه فردا من أفراد الاحتلام . انتهى .

    وفي (" القاموس " ) : الحلم (بالضم ) والاحتلام : الجماع في النوم . والاسم الحلم كعنق . انتهى .

    وقال الراغب : سمي البلوغ حلما ، لكون صاحبه جديرا بالحلم : أي : الأناة والعقل .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [60] والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم .

    والقواعد من النساء أي : اللاتي قعدن عن الحيض والولد ، لكبرهن : اللاتي لا يرجون نكاحا أي : لا يطمعن فيه ، لرغبة الأنفس عنهن : فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن أي : الظاهرة مما لا يكشف العورة ، لدى الأجانب . أي : يتركن التحفظ في التستر بها . فلا يلقين عليهن جلابيبهن ولا يحتجبن : غير متبرجات بزينة أي : مظهرات لزينة خفية . يعني الحلي في مواضعه المذكورة في قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو المعنى غير قاصدات بالوضع ، التبرج . ولكن التخفف إذا احتجبن إليه : وأن يستعففن أي : من وضع تلك الثياب : خير لهن لأنه أبلغ في الحياء وأبعد من التهمة والمظنة . ولذا يلزمهن ، عند المظنة ، ألا يضعن ذلك . كما يلزم مثله في الشابة : والله [ ص: 4551 ] سميع عليم أي : فيسمع مقالهن مع الأجانب ، ويعلم مقاصدهن من الاختلاط ووضع الثياب . وفيه من الترهيب ما لا يخفى . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [61] ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون .

    ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج أي : في القعود عن الغزو ، لضعفهم وعجزهم . وهذه الآية كالتي في سورة الفتح وكآية براءة : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله وهذا ما ذهب إليه عطاء وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وزعم أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده ، مردود بأن المراد أن كلا من الطائفتين منفي عنه الحرج . ومثال هذا - كما قال الزمخشري - أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان . وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر . قلت له : ليس على المسافر حرج أن يفطر ، ولا عليك ، يا حاج أن تقدم [ ص: 4552 ] الحلق عن النحر . يعني أنه إذا كان في العطف غرابة ، لبعد الجامع في بادئ النظر ، وكان الغرض بيان حكم حوادث تقاربت في الوقوع ، والسؤال عنها والاحتياج إلى البيان لكونها في معرض الاستفتاء ، والإفتاء كان ذلك جامعا بينها ، محسنا للعطف ، وإن تباينت .

    قال الشهاب : وبهذا يظهر الجواب عن زعم أنه لا يلائم ما قبله ولا ما بعده .

    لأن ملاءمته لما بعده قد عرف وجهها . وأما ملاءمته لما قبله فغير لازمة ، إذا لم يعطف عليه . انتهى .

    وقيل : كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم ، وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم ، فيطعمونهم منها . فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك . وخافوا أن يلحقهم فيه حرج . وكرهوا أن يكون أكلا بغير حق ، لقوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل فقيل لهم : ليس على الضعفاء ، ولا على أنفسكم ، يعني عليكم ، وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين ، حرج في ذلك .

    وقيل : كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومواكلتهم ، لما عسى يؤدي إلى الكراهة من قبلهم . ولأن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت عين أكيله إليه وهو لا يشعر . والأعرج يتفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه ، فيضيق على جليسه . والمريض لا يخلو عن حالة تؤنف .

    وقيل : كانوا يخرجون إلى الغزو ، ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ، ويدفعون إليهم المفاتيح ، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم . فكانوا يتحرجون . فقيل : ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه ، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت .

    هذا ما ذكروه . ولا يخفى صدق الآية على جميع ذلك ، ونفي الحرج عنه كله .

    ولا يستلزم نفي الحرج عن مواكلة المريض على هذه الأوجه الأخر ، أن يشرك أكيله الصحيح في غمس يده من إنائه مما حظر منه الطب ، وغدت الأنفس تعافه . بل يراد به حضوره مع [ ص: 4553 ] الصحيح على مائدة واختصاصه بقصعة على حدة . وما أحسن عادة الانفراد بالقصاع ، مما تطيب معه نفس المرضى والأصحاء في الاجتماع . وقوله تعالى : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أي : بيوت أزواجكم وعيالكم . أضافه إليهم ، لأن بيت المرأة كبيت الزوج وهذا قول الفراء .

    وقال ابن قتيبة : أراد بيوت أولادهم . فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء ، لأن الولد كسب والده ، ماله كماله . قال صلى الله عليه وسلم : « إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وأن ولده من كسبه » .

    قال : والدليل على هذا ، أنه تعالى عدد الأقارب ولم يذكر الأولاد . لأنه إذا كان سبب الرخصة هو القرابة ، كان الذي هو أقرب منهم أولى . انتهى .

    وعليه ، لا يقال إنه ليس في أكل الإنسان من بيت نفسه حرج ، فما فائدة ذكره بأن المراد بالأنفس من هو بمنزلتها من العيال والأولاد ، كما في قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم

    وفي (" الكشف " ) : فائدة إقحام النفس ، أن المراد به ليس على الضعفاء المطعمين ، ولا على الذاهبين إلى بيوت القرابات ، أو من هو في مثل حالهم وهم الأصدقاء - حرج .

    وقيل إنه على ظاهره . والمراد إظهار التسوية بينه وبين قرنائه .

    قال الشهاب : وهو حسن . ولا يراد عليه أنه حينئذ لم يذكر فيه الأكل من بيوت الأزواج والأولاد ، لأنه داخل في قوله : من بيوتكم انتهى .

    أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه يعني أموال المرء ، إذا كان له عليها قيم ووكيل يحفظها له ، أن [ ص: 4554 ] يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته . وملك المفتاح كونها في يده وحفظه : أو صديقكم أي : أو بيوت أصدقائكم . والصديق يكون واحدا وجمعا . وكذلك الخليط والقطين والعدو . كذا في (" الكشاف " ) .

    قال الناصر : وقد قال الزمخشري : إن سر إفراده في قوله تعالى : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم دون الشافعين ، والتنبيه على قلة الأصدقاء ، ولا كذلك الشافعون فإن الإنسان قد يحمي له ، ويشفع في حقه من لا يعرفه ، فضلا عن أن يكون صديقا .

    ويحتمل في الآيتين ، أن يكون المراد به الجمع . فلا كلام . ويحتمل أن يراد الإفراد ، فيكون سره ذلك . والله أعلم .

    قال الزمخشري : يحكى عن الحسن أنه دخل داره . وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره ، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة ، وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورا ، وضحك وقال : هكذا وجدناهم ، هكذا وجدناهم . يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين رضي الله عنهم .

    وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب ، فيسأل جاريته كيسه ، فيأخذ منه ما شاء . فإذا حضر مولاها فأخبرته ، أعتقها سرورا بذلك .

    وعن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما : من عظم حرمة الصديق ، أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة ، بمنزلة النفس والأب والأخ والابن .

    وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الصديق أكبر من الوالدين . إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات . فقالوا : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم وقالوا : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك ، قام ذلك مقام الإذن الصريح . وربما سمج الاستئذان وثقل . كمن قدم إليه طعام ، فاستأذن صاحبه في الأكل منه . انتهى .

    [ ص: 4555 ] ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا أي : مجتمعين أو متفرقين . روي أن قوما من الأنصار إذا نزل بهم ضيف ، لا يأكلون إلا مع ضيفهم . وإن قوما كانوا تحرجوا من الاجتماع على الطعام ، لاختلاف الناس في الأكل ، وزيادة بعضهم على بعض . فأبيح لهم ذلك .

    وقال قتادة : كان هذا الحي من بني كنانة ، يرى أحدهم ; أن مخزاة عليه ، أن يأكل وحده في الجاهلية . حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحقل وهو جائع ، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه . واشتهر هذا عن حاتم لقوله :


    إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست آكله وحدي


    قال الشهاب : وفي الحديث : « شر الناس من أكل وحده ، وضرب عبده ، ومنع رفده » والنهي في الحديث لاعتياده بخلا بالقرى ، ونفي الحرج عن وقوعه أحيانا ، بيان لأنه لا إثم فيه ، ولا يذم به شرعا ، كما ذمت به الجاهلية .

    فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم أي : إذا دخلتم بيتا من هذه البيوت لتأكلوا ، فابدأوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ، قرابة ودينا . قاله الزمخشري .

    أشار رحمه الله ، إلى أن المراد بالأنفس من هم بمنزلتها ، لشدة الاتصال كقوله : ولا تقتلوا أنفسكم ويحتمل أن المسلم ، إذا ردت تحيته عليه ، فكأنه سلم على نفسه . كما أن القاتل لاستحقاقه القتل بفعله ، كأنه قاتل نفسه . وأما إبقاؤه على ظاهره ; إذا لم يكن في البيت أحد ، يسره أن يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . كما روي عن ابن عباس - فبعيد غير مناسب لعموم الآية . كذا في (" الشهاب " ) .

    [ ص: 4556 ] وقال الناصر : في التعبير عنهم ، بالأنفس ، تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من هذه البيوت المعدودة ، وأن ذلك إنما كان ، لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه ، لاتحاد القرابة . . فليطب نفسا بانبساط فيها : تحية من عند الله أي : ثابتة بأمر ، مشروعة من لدنه : مباركة أي : مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامها : طيبة أي : تطيب بها نفس المستمع : كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون أي : ما فيها من الأحكام أو الآداب القائدة إلى سعادة الدارين .

    ولما أمر تعالى بالاستئذان عند الدخول ، أرشد إلى الاستئذان عند الانصراف من مجلسه صلوات الله عليه ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [62] إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم .

    إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم

    قال الزمخشري : أراد عز وجل أن يريهم عظم الجناية ذهاب الذاهب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه . فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ، ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله . وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره . وذلك مع تصدير الجملة (بإنما ) وإيقاع المؤمنين مبتدأ [ ص: 4557 ] مخبرا عنه بموصول ، أحاطت صلته بذكر الإيمانين . ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا ، حيث أعاده على أسلوب آخر ، وهو قوله : إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله وضمنه شيئا آخر . وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين ، وعرض بحال المؤمنين وتسللهم لواذا . ومعنى قوله : لم يذهبوا حتى يستأذنوه لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم ، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استوصوا بأن يأذن له .

    والأمر الجامع : الذي يجمع له الناس . فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز . وذلك نحو مقاتلة عدو ، أو تشاور في خطب مهم ، أو تضام لإرهاب مخالف ، أو تسامح في حلف وغير ذلك . أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه وقرئ : أمر جميع . وفي قوله : وإذا كانوا معه على أمر جامع أنه خطب جلل ، لا بد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوي رأي وقوة ، يظاهرونه عليه ويعاونونه ، ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم ، في كفايته . فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال ، مما يشق على قلبه ، ويشعث عليه رأيه فمن ثم غلظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان ، مع العذر المبسوط ، ومساس الحاجة إليه ، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم ، وذلك قوله : لبعض شأنهم وذكر الاستغفار للمستأذنين ، دليل على أن الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ، ولا يستأذنوا فيه .

    وقيل : نزلت في حفر الخندق . وكان قوم يتسللون بغير إذن . وقالوا : كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدمهم في الدين والعلم ، يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ، ولا يتفرقون عنهم ، والأمر في الإذن مفوض إلى الإمام . إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن . على حسب ما اقتضاه رأيه .

    تنبيه :

    استدل بالآية على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه صلى الله عليه وسلم . وتسمى هذه المسألة مسألة التفويض . وهي مبسوطة في الأصول ، وقوله تعالى :
    [ ص: 4558 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [63] لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .

    لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا أي : إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر ، فدعاكم ، فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه . ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا . ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي ، قاله الزمخشري .

    وكذا قال ابن الأثير في (" المثل السائر " ) أي : إذا حضرتم في مجلسه ، فلا يكن حضوركم كحضوركم في مجالسكم . أي : لا تفارقوا مجلسه إلا بإذنه ، والزموا معه الأدب .

    وذهب قوم إلى أن المراد بالدعاء الأمر . منهم ابن أبي الحديد حيث قال في " الفلك الدائر " : إن المعنى المتقدم ، وإن دلت عليه قرينة متقدمة ، كما قال ابن الأثير - ففي الآية قرينة أخرى متأخرة تقتضي حمله على محمل آخر غير هذا . ولعله الأصح . وهي أن يراد بالدعاء الأمر . يقال : دعا فلان قومه إلى كذا ، أي : أمرهم به وندبهم إليه وقال سبحانه : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم أي : ندبكم . وقال سبحانه : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم أي : أمرتهم وندبتهم ، والقرينة المتأخرة قوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره انتهى . وكذا قال المهايمي : أي : لا تجعلوا أمره بينكم كأمركم بينكم يجاب تارة دون أخرى . لأنه واجب الطاعة . لا يسقط بالانسلال عن جملة المدعو .

    قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا أي : ينسلون قليلا قليلا . و(اللواذ ) : الملاوذة ، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا . يعني ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة ، واستتار بعضهم ببعض . و (لواذا ) حال . أي : ملاوذين .

    [ ص: 4559 ] هذا ، وقيل معنى الآية : لا تجعلوا نداءه وتسميته ، كنداء بعضكم باسمه ورفع الصوت به ، والنداء وراء الحجرة . ولكن بلقبه المعظم . مثل : يا نبي الله ! ويا رسول الله ! مع التوقير والتواضع وخفض الصوت .

    وضعف بأنه لا يلائم السياق واللحاق . وتكلف بعضهم لربطه بما قبله ، بأن الاستئذان يكون بقولهم : يا رسول الله ! إنا نستأذنك . ولأن من معه في أمر جامع يخاطبه ويناديه . والأول أظهر وأولى كما في (" العناية " ) .

    نعم ، في التنزيل عدة آيات ، في إيجاب مشافهته صلوات الله عليه بالأدب ومخاطبته بالتوقير ، جعله من ضرورة الإيمان ومقتضاه . كآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا الآية ، و : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إلى قوله : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون فليحذر الذين يخالفون عن أمره أي : يعرضون عنه ولا يأتون به . فضمن (المخالفة ) معنى الإعراض والصد . أو عن صلته . وقيل : إذا تعدى (خالف ) بـ(عن ) ضمن الخروج . وأصل معنى المخالفة أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله ، كما قاله الراغب : أن تصيبهم فتنة أي : محنة في الدنيا : أو يصيبهم عذاب أليم أي : في الآخرة أو فيهما .

    تنبيه :

    استدل به على وجوب وزن الأمور بميزان شريعته وسنته ، وأصول دينه . فما وافق قبل ، وما خالف رد على قائله وفاعله ، كائنا من كان . كما ثبت في الصحيحين عنه صلوات الله [ ص: 4560 ] عليه وسلامه : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » واستدل بالآية أيضا أن الأمر للوجوب . فإنه يدل على أن ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين . قيل : هذا إنما يتم إذا أريد بالأمر الطلب لا الشأن كما في قوله : على أمر جامع وقد جوزا فيه مع إرادتهما معا . وتفصيل البحث في (" الرازي " ) .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [64] ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم .

    ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه أيها المكلفون من المخالفة والموافقة ، والنفاق والإخلاص . وإنما أكد علمه بـ(قد ) لتأكيد الوعيد ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم أي : فلا يخفى عليه خافية . لأن الكل خلقه وملكه . فيحيط علمه به ضرورة ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير

    * * *




  16. #476
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْفُرْقَانِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4561 الى صـ 4575
    الحلقة (475)






    سُورَةُ الْفُرْقَانِ

    الجمهور على أنها مكية . وعن الضحاك : مدنية . وعن بعضهم : مكية إلا ثلاث آيات (والذين لا يدعون ) إلى (رحيما ) .

    قال المهايمي : سميت بالفرقان لاشتمالها على أنه ظهر كثرة خيرات الحق بالفرقان ، الذي هو التمييز بين الحق والباطل . والأظهر أنه لذكره فيها بمعانيه الآتية المتسع لها اللفظ لا خصوص ما ذكره ، وآياتها سبع وسبعون .

    [ ص: 4562 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [1] تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا .

    تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا يحمد تعالى نفسه الكريمة ويثني عليها ، لما أنزله من الفرقان ، كما قال : الحمد لله الذي أنـزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات

    قال الزمخشري : (البركة ) : كثرة الخير وزيادته . ومنها : تبارك الله وفيه معنيان : تزايد خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه ، في صفاته وأفعاله . و : { الفرقان } مصدر فرق بين الشيئين ، إذا فصل بينهما . وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل . أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ، ولكن مفروقا مفصلا بعضه عن بعض في الإنزال .

    ألا ترى إلى قوله : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونـزلناه تنـزيلا انتهى .

    قال الناصر : والأظهر ها هنا هو المعنى الثاني . لأنه في أثناء السورة بعد آيات : وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة قال الله تعالى : كذلك أي : أنزلناه مفرقا كذلك : لنثبت به فؤادك فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة - والله أعلم - . كالمقدمة والتوطئة لما يأتي بعد . انتهى .

    قال أبو السعود : وإيراده صلى الله عليه وسلم بذلك العنوان ، لتشريفه والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية ، والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل ; ردا [ ص: 4563 ] على النصارى ، والكناية في (ليكون ) للعبد أو للفرقان . و(النذير ) صفة بمعنى منذر ، أو مصدر بمعنى الإنذار ، كالنكر مبالغة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [2] الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا .

    الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا أي : أحدثه إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية لما أريد منه . كخلق الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المفيدة . وكذلك كل حيوان وجماد خلق على الصورة المقدرة . بأمثلة الحكمة والتدبير لأمر ما ، ومصلحته مطابقا لما قدر له ، غير متجاف عنه .

    ولما تضمن هذا إثبات التوحيد والنبوة ، تأثره بالبرهنة عليهما ، وتضليل المخالفين فيهما ، بقوله سبحانه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [3] واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا .

    واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا أي : لا يملكون دفع ضر ولا جلب نفع ولا إماتة أحد وإحياءه أولا وبعثه ثانيا . ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهية ، لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها . وفيه تنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على البعث والجزاء . أفاده القاضي .

    [ ص: 4564 ] قال الشهاب : قدم الموت لمناسبته للضر المتقدم وفسر الموت والحياة بالإماتة والإحياء والإنشار ، إما بيانا لحاصل المعنى ، لأن ملك الموت له القدرة على الإماتة ، أو إشارة إلى أنه بمعنى الأفعال . كما في قوله : أنبتكم من الأرض نباتا
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [4 - 5] وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا

    وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما أي : بجعل الصدق إفكا ، والبريء عن الإعانة معينا : وزورا أي : باطلا لا مصداق له ، يعلمون من أنفسهم أنه باطل وبهتان : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها أي : ما سطروه ، كتبها لنفسه وأخذها : فهي تملى عليه أي : تلقى عليه ليحفظها : بكرة وأصيلا أي : دائما .

    قال ابن كثير : وهذا الكلام ، لسخافته وكذبه وبهته منهم ، يعلم كل أحد بطلانه . فإنه قد علم بالضرورة : أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يعاني شيئا من الكتابة ، لا في أول عمره ولا في آخره . وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده ، إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة ، وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه وبره ونزاهته وأمانته . وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الردية ، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره ، وإلى أن بعث (بالأمين ) لما يعلمون من صدقه وبره . فلما أكرمه الله بما أكرمه به ، نصبوا له العداوة ، ورموه بهذه الأقوال ، التي يعلم كل عاقل براءته منها . وحاروا بما يقذفونه به ، فتارة من إفكهم يقولون : ساحر . وتارة يقولون : شاعر . وتارة يقولون : مجنون . وتارة يقولون كذاب ، قال الله تعالى : انظر [ ص: 4565 ] كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا وقال تعالى في جواب ما افتروه هنا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [6] قل أنـزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما .

    قل أنـزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض أي : الخفي فيهما . إشارة إلى علمه تعالى بحالهم بالأولى . ومن مقتضاه رحمته إياهم بإنزاله ، لزيادة حاجتهم وافتقار أمثالهم إلى إخراجهم من الظلمات بأنواره . وفي طيه ترهيب لهم بأن ما يسرونه من الكيد للنبي عليه الصلاة والسلام ، مع ما يتقولونه ويفترونه ، لا يعزب عن علمه . فسيجزيهم عليه بزهوق باطلهم ومحو أثرهم ، وسموق حقه وظهور أمره : إنه كان غفورا رحيما تعليل لما هو مشاهد من تأخير عقوبتهم ، مع استيجابهم إياها . أي : فهو يمهل ولا يعاجل لمغفرته ورحمته . أو الوصفان كناية عن كمال قدرته على الانتقام منهم . لأنه لا يوصف بالمغفرة إلا القادر . هذا ما يستفاد من (" الكشاف " ) ومن تابعه ، لبيانه مطابقة ذلك لما قبله .

    وقال ابن كثير : قوله تعالى : إنه كان غفورا رحيما دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة ، وأن حلمه عظيم ، وأن من تاب إليه تاب عليه . فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم ، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا ، يدعوهم سبحانه إلى التوبة ، والإقلاع عما هم فيه ، إلى الإسلام والهدى . كما قال تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم وقال تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم [ ص: 4566 ] ولهم عذاب الحريق قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود . قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة .

    ثم أشار تعالى إلى تعنتهم بخصوص المنزل عليه ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [7] وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنـزل إليه ملك فيكون معه نذيرا .

    وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام أي : كما نأكل : ويمشي في الأسواق أي : يتردد فيها لشؤونه كما نمشي . قال الزمخشري : يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش . أي : فيخالف حاله حالنا . قال أبو السعود : وهل هو إلا لعمههم وركاكة عقولهم ، وقصور أنظارهم على المحسوسات . فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية ، وإنما هو بأمور نفسانية . كما أشير إليه بقوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا ، إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك حتى يتساندا في الإنذار فقالوا : لولا أنـزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ثم نزلوا أيضا إلى اقتراح أن يرفد بكنز ، إن لم يرفد بملك ، فقالوا :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [8] أو يلقى إليه كنـز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا .

    أو يلقى إليه كنـز أي : من السماء يستظهر به ، ولا يحتاج إلى طلب المعاش ، ويكون دليلا على صدقه . ثم نزلوا فاقتنعوا باقتراح ما هو أيسر منه ، فقالوا : أو تكون له [ ص: 4567 ] جنة يأكل منها أي : بستان يرتزق منه : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أي : مغلوبا على عقله . وقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [9] انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا .

    انظر كيف ضربوا لك الأمثال استعظام للأباطيل التي اجترأوا على التفوه بها . والتعجب منها . أي : انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقوال الخارجة عن العقول : فضلوا فلا يستطيعون سبيلا أي : القدح في نبوتك ، بأن يجدوا قولا يستقرون عليه ، أو فضلوا عن الحق فلا يجدون طريقا إليه .

    قال ابن كثير : كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال ، حيثما توجه ، لأن الحق واحد ، ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضا .

    ثم نبه تعالى على أنه إن شاء آتاه خيرا مما يقترحون ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [10] تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا .

    تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا أي : إن شاء جعل لك خيرا مما قالوا . وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور . ولكن قضت حكمته ذلك ليكون الرضوخ للحق لا للمال . وليصدع بأن الأمر مبني على النظر والاستدلال ، لا ما يلهي المشاعر والخيال . مما يتطرق إلى الشغب فيه والجدال ، فسبحان الحكيم المتعال . وقوله تعالى .
    [ ص: 4568 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [11] بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا .

    بل كذبوا بالساعة إضراب انتقالي عن توبيخهم بحكاية جنايتهم السابقة ، وانتقال منه إلى توبيخهم بحكاية جنايتهم الأخرى ، للتخلص إلى بيان ما لهم في الآخرة بسببها ، من فنون العذاب ، بقوله : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا أي : نارا شديدة الاستعار ، أي : التوقد والالتهاب .

    وقيل : هذا الإضراب عطف على ما حكى عنهم وهو : وقالوا مال هذا الرسول على معنى : بل أتوا بأعجب من ذلك كله ، وهو تكذيبهم بالساعة . والحال أنا قد أعتدنا لكل من كذب بها سعيرا . فإن جراءتهم على التكذيب بها ، وعدم خوفهم مما أعد لمن كذب بها ، أعجب من القول السابق .

    ويجوز أن يتصل بما يليه ، كأنه قيل : بل كذبوا بالساعة ، فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ؟ وكيف يصدقون بتعجيل ما وعدك الله في الآخرة وهم لا يؤمنون بها ؟ . ثم وصف تعالى السعير بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [12] إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا .

    إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا أي : إذا كانت بمرأى منهم : (أي : قريبة منهم ) ونسبة الرؤية إليها لا إليهم ، للإيذان بأن التغيظ والزفير منها ، لهيجان غضبها عليهم عند رؤيتها إياهم ، حقيقة أو تمثيلا . و(من ) في قوله : من مكان بعيد إشعار بأن بعد ما بينها وبينهم من المسافة ، حين رأتهم ، خارج عن حدود البعد المعتاد في المسافات المعهودة . فيه مزيد تهويل لأمرها . أفاده أبو السعود . و(التغيظ ) : [ ص: 4569 ] إظهار الغيظ وهو أشد الغضب ، وقد يكون مع صوت كما هنا . شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره ، وهو صوت يسمع من جوفه ، تصريحا أو مكنيا أو تمثيلا .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [13 - 14] وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا .

    وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين أي : قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل : دعوا هنالك ثبورا أي : هلاكا . أي : نادوه نداء المتمني الهلاك . ليسلموا مما هو أشد منه . كما قيل : أشد من الموت ما يتمنى معه الموت . فيقال لهم : لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا لكثرة أنواعه المتوالية . فإن عذاب جهنم ألوان وأفانين . أو كثرته باعتبار تجدد أفراده وإن كان متحدا . أو كثرته كناية عن دوامه . لأن الكثير شأنه ذلك كما قيل في ضده : وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وقيل : وصف الثبور بالكثرة ، لكثرة الدعاء أو المدعو به .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [15 - 16] قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا .

    قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا أي : حقيقا أن يسأل ويطلب ويتنافس فيه . وما في (على ) من معنى الوجوب ، لامتناع الخلف في وعده تعالى .
    [ ص: 4570 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [17 - 18] ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا .

    ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أي : الله تعالى للمعبودين ، تقريعا لعبدتهم : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل أي : عن السبيل بأنفسهم ، لإخلالهم بالنظر الصحيح ، وإعراضهم عن المرشد : قالوا سبحانك تعجبا مما قيل لهم . لأنهم إما ملائكة معصومون أو جمادات لا قدرة لها على شيء . أو تنزيها له عن الأنداد : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء أي : نعبدهم فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ وليا غيرك ، أو (من أولياء ) أي : أتباعا للعبادة : ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر استدراك مسوق لبيان أنهم هم الضالون ، بعد بيان تنزههم عن إضلالهم . وقد نعى عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسبابا للضلالة . أي : ما أضللناهم . ولكن متعتهم وآباءهم بأنواع النعم ، ليعرفوا حقها ويشكروها . فانهمكوا في الشهوات حتى نسوا الذكر ، أي : ذكرك . أو التذكر في آلائك ، والتدبر في آياتك ، فجعلوا أسباب الهداية ، بسوء اختيارهم ، ذريعة إلى الغواية - أفاده أبو السعود : وكانوا قوما بورا أي : هالكين . ثم أشار تعالى لاحتجاجه على عبدتهم وإلزامهم ما يبكتهم ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [19] فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا .

    [ ص: 4571 ] فقد كذبوكم أي : المعبودون ، أيها الكفرة : بما تقولون أي : في قولكم إنهم آلهة . أو في قولكم هؤلاء أضلونا : فما تستطيعون أي : ما تملكون : صرفا أي : دفعا للعذاب عنكم بوجه ما : ولا نصرا أي : لأنفسكم من البوار : ومن يظلم منكم أيها المكلفون ، كدأب هؤلاء : نذقه عذابا كبيرا ثم أجاب عن شبههم السابقة ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [20] وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا .

    وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق أي : ليحتاجون إلى التغذي بالطعام ويتجولون في الأسواق للتكسب والتجارة . وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم . فإنه تعالى جعل لهم من السمات الحسنة ، والصفات الجميلة ، والأقوال الفاضلة ، والأعمال الكاملة ، والخوارق الباهرة ، والأدلة القاهرة ، ما يستدل به كل ذي لب به كل سليم وبصيرة مستقيمة ، على صدق ما جاءوا به من الله . ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وقوله : وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام

    تنبيه :

    قال السيوطي في (" الإكليل " ) : في الآية إباحة دخول الأسواق للعلماء وأهل الصلاح خلافا لمن كرهها لهم .

    [ ص: 4572 ] وقوله تعالى : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا قال الزمخشري : هذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق . بعدما احتج عليهم بسائر الرسل . يقول : وجرت عادتي وموجب حكمتي على ابتلاء بعضكم ، أيها الناس ، ببعض . والمعنى أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم . وبمناصبتهم لهم العداوة . وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف ، وأنواع أذاهم ، وطلب منهم الصبر الجميل . ونحوه : ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وفي قوله تعالى : وكان ربك بصيرا زيادة تسلية وعدة جليلة . أي : هو عالم فيما يبتلى به وغيره ، فلا يضق صدرك . فإن في صبرك سعادة وفوزا في الدارين .
    ثم أشار إلى نوع آخر من أقاويلهم الباطلة ، وإبطالها ، بقوله تعالى :

    القول في تأويل قوله تعالى :

    وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنـزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا .

    وقال الذين لا يرجون لقاءنا أي : الرجوع إليه بالبعث والحشر : لولا أنـزل علينا الملائكة أي : للرسالة ، أو لتخبرنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم : أو نرى ربنا أي : فيخبرنا بذلك : لقد استكبروا في أنفسهم أي : في شأنها حتى تفوهوا بمثل هذه العظيمة : وعتوا أي : تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان : عتوا كبيرا أي : بالغا أقصى غايته حيث أملوا رتبة التكليم الرباني من غير توسط الرسول والملك . ولم يكتفوا بهذا الذكر الحكيم والخارق العظيم .
    [ ص: 4573 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [22] يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا .

    يوم يرون الملائكة أي : عند الموت أو في القيامة : لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا أي : كما كانوا يقولون عند لقاء العدو وشدة النازلة : حجرا أي : أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا و : محجورا تأكيد لـ : حجرا وقيل هو من قول الملائكة ومعناه حراما محرما عليكم الغفران والجنة والبشرى ، أي : جعل الله ذلك حراما عليكم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [23] وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا .

    وقدمنا إلى ما عملوا من عمل أي : مما كانوا يراءون به ابتغاء السمعة والشهرة ، ويرونه من مكارمهم : فجعلناه هباء منثورا أي : مثل الغبار المنثور في الجو ، في حقارته وعدم نفعه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [24 - 25] أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ويوم تشقق السماء بالغمام ونـزل الملائكة تنـزيلا .

    أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ويوم تشقق السماء بالغمام أي : ينصدع نظامها فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما يرى اليوم . فيخرب العالم بأسره . و(الباء ) بمعنى : (مع ) أي : مع السحب الجوية أو بمعنى : (عن ) أي : تنفطر عن الغمام الذي يسود الجو ويظلمه ، ويغم القلوب مرآه : ونـزل الملائكة تنـزيلا فيحيطون بالخلائق في المحشر .
    [ ص: 4574 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [26 - 29] الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا .

    الملك يومئذ الحق للرحمن أي : فلا يدعيه ثم غيره . ويكون له سبحانه السلطة القاهرة الشاملة : وكان يوما على الكافرين عسيرا ويوم يعض الظالم على يديه أي : تشتد حسراته وتتصاعد زفراته : يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا يعني من أضله عن الذكر ، وصده عن سبيل الله : لقد أضلني عن الذكر أي : القرآن ، أو موعظة الرسول : إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا أي : مبالغا في إضلاله ، يعده ويمنيه في الدنيا ، ما يحسره عليه في العقبى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [30] وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا .

    وقال الرسول أي : إثر ما شاهد من عتوهم وعنادهم : يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا أي : متروكا ، معرضا عنه . وجملة : وقال الرسول عطف على : وقال الذين لا يرجون وما بينهما اعتراض ، سيقت لانتظام ما قالوه ، وطلب النصر عليهم واستنزال الفرج الإلهي مما أضاقوا به الصدور ، وجلبوه من الكدور ، وللإشارة إلى ما يحيق بهم من شقاء الدارين .

    [ ص: 4575 ] تنبيه :

    الآية ، وإن كانت في المشركين ، وإعراضهم هو عدم إيمانهم ، إلا أن نظمها الكريم مما يرهب عموم المعرضين عن العمل به ، والأخذ بآدابه . الذي هو حقيقة الهجر . لأن الناس إنما تعبدوا منه بذلك . إذ لا تؤثر تلاوته إلا لمن تدبرها . ولا يتدبرها إلا من يقوم بها ويتمسك بأحكامها .

    ومن (فوائد ) الإمام ابن القيم رحمه الله . قوله في هذه الآية : هجر القرآن أنواع :

    أحدها : هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه .

    والثاني : هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه ، وإن قرأه وآمن به .

    والثالث : هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه ، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين ، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم .

    والرابع : هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها . فيطلب شفاء دائه من غيره ، ويهجر التداوي به .

    قال : وكل هذا داخل في هذه الآية ، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض . انتهى .

    وفي (" الإكليل " ) : إن في الآية إشارة إلى التحذير من هجر المصحف وعدم تعاهد بالقراءة فيه . وكذا قال أبو السعود : فيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن ، كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم . ثم قال : وفيه من التحذير ما لا يخفى . فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم ، عجل لهم العذاب ولم ينظروا .




  17. #477
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْفُرْقَانِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4576 الى صـ 4590
    الحلقة (476)








    القول في تأويل قوله تعالى :



    وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا أي : إلى ما يبلغك ما تتمناه : ونصيرا أي : لك على كل من يناوئك . ثم أشار تعالى إلى مقترح خاص بالتنزيل الكريم ، بقوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [32 - 33] وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا .

    وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة أي : دفعة واحدة في وقت واحد . وقد بين سبحانه بطلان هذه المماراة والحمقاء بقوله : كذلك لنثبت به فؤادك أي : نقويه به على القيام بأعباء الرسالة ، والنهوض لنشر الحق بين قادة الجهالة . فإن ما يتواتر إنزاله لذلك ، أبعث للهمة وأثبت للعزيمة وأنهض للدعوة ، من نزوله مرة واحدة : ورتلناه ترتيلا أي : فصلناه تفصيلا بديعا ، لا يلحق شأوه ولا يدرك أمده .

    قال القاشاني : الترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر ، مدة يمكن فيها ترسخه في قلبه ، وأن يصير ملكة لا حالا : ولا يأتونك بمثل أي : بصفة عجيبة من باطلهم في قدح أو مقترح : إلا جئناك بالحق أي : الذي يقمع تلك الصفة . كما قال : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه وأحسن تفسيرا أي : بيانا وهداية ، عناية بك وبما أرسلت من أجله ، وخذلانا لأعداء الحق وخصوم الرشاد .

    تنبيه :

    يذكر المفسرون ها هنا أن الآية رد على الكفرة في طلبهم نزول القرآن جملة ، كنزول بقية الكتب جملة . ويرون أن القول بنزول بقية الكتب دفعة ، صحيح . فيأخذون لأجله في سر مفارقة التنزيل له . والحال أن القول بنزولها دفعة واحدة لا أصل له ، وليس عليه أثارة من علم ، ولا يصححه عقل . فإن تفريق الوحي وتمديد مدته بديهي الثبوت . لمقدار مكث النبي . إذ ما دام بين ظهراني قومه ، فالوحي يتوارد تنزله ضرورة . ومن راجع التوراة والإنجيل الموجودين ، يتجلى له ذلك واضحا لا مرية فيه . وعذر القائل به ظنه أن الآية تعريض بنزول غيره كذلك . وما كل كلام معرض به . وإنما الآية حكاية لاقتراح خاص ، وتعنت متفنن فيه . والله أعلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [32 - 33] وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا .

    وقال الذين كفروا لولا نـزل عليه القرآن جملة واحدة أي : دفعة واحدة في وقت واحد . وقد بين سبحانه بطلان هذه المماراة والحمقاء بقوله : كذلك لنثبت به فؤادك أي : نقويه به على القيام بأعباء الرسالة ، والنهوض لنشر الحق بين قادة الجهالة . فإن ما يتواتر إنزاله لذلك ، أبعث للهمة وأثبت للعزيمة وأنهض للدعوة ، من نزوله مرة واحدة : ورتلناه ترتيلا أي : فصلناه تفصيلا بديعا ، لا يلحق شأوه ولا يدرك أمده .

    قال القاشاني : الترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر ، مدة يمكن فيها ترسخه في قلبه ، وأن يصير ملكة لا حالا : ولا يأتونك بمثل أي : بصفة عجيبة من باطلهم في قدح أو مقترح : إلا جئناك بالحق أي : الذي يقمع تلك الصفة . كما قال : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه وأحسن تفسيرا أي : بيانا وهداية ، عناية بك وبما أرسلت من أجله ، وخذلانا لأعداء الحق وخصوم الرشاد .

    تنبيه :

    يذكر المفسرون ها هنا أن الآية رد على الكفرة في طلبهم نزول القرآن جملة ، كنزول بقية الكتب جملة . ويرون أن القول بنزول بقية الكتب دفعة ، صحيح . فيأخذون لأجله في سر مفارقة التنزيل له . والحال أن القول بنزولها دفعة واحدة لا أصل له ، وليس عليه أثارة من علم ، ولا يصححه عقل . فإن تفريق الوحي وتمديد مدته بديهي الثبوت . لمقدار مكث النبي . إذ ما دام بين ظهراني قومه ، فالوحي يتوارد تنزله ضرورة . ومن راجع التوراة والإنجيل الموجودين ، يتجلى له ذلك واضحا لا مرية فيه . وعذر القائل به ظنه أن الآية تعريض بنزول غيره كذلك . وما كل كلام معرض به . وإنما الآية حكاية لاقتراح خاص ، وتعنت متفنن فيه . والله أعلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [34 - 36] الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا .

    الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا وهم فرعون وقومه . والآيات الخوارق التسع . أي : فذهبا إليهم . فأرياهموها فكذبوها : فدمرناهم تدميرا أي : بالإغراق في البحر .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [37 - 39] وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا .

    وقوم نوح لما كذبوا الرسل يعني نوحا . وجمع تعظيما لرسالته . أو هو ومن تقدمه عليهم السلام : أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا يعني قوم هود : وثمود بالصرف وعدمه . قراءتان . على معنى الحي أو القبيلة : وأصحاب الرس اسم بئر . ونبيهم قيل : شعيب ، وقيل غيره . ويروي هنا بعضهم آثارا منكرة لا تصح . كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله . فلا يحل الجراءة على روايتها ، ولا تنزيل الآية عليها . لأنه من قفو ما ليس للمرء به علم . ومثله يحظر الخوض فيه وقرونا أي : أقواما : بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال أي : الأنباء التي تزجر عن الكفر والفساد : وكلا تبرنا تتبيرا أي : إهلاكا عظيما .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [40] ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا .

    ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أي : أهلكت بالحجارة وهي قرى قوم لوط : أفلم يكونوا يرونها أي : في مرورهم ، ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله ؟ وفيه توبيخ لهم على تركهم الذكر ، عند مشاهدة ما يوجبه : بل كانوا لا يرجون نشورا أي : كفرة ، لا يتوقعون عاقبة وجزاء .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [41 - 42] وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا .

    وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا أي : يستهزئون قائلين ذلك . والإشارة للاستحقار . لأن كلمة (هذا ) تستعمل له . وعائد الموصول محذوف . أي : بعثه . و (رسولا ) حال منه : إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها أي : أنه كاد ليصرفنا عن عبادتها صرفا كليا ، لولا أن ثبتنا عليها .

    قال الزمخشري : فيه دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم ، وبذل قصارى الوسع والطاعة في استعطافهم ، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم ، حتى شارفوا بزعمهم ، أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام ، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم : وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا جواب منه تعالى لآخر كلامهم . وفيه وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال . ولا بد للوعيد أن يلحقهم ، فلا يغرنهم التأخير .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [43] أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا .

    أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا تعجيب للنبي صلوات الله عليه من شناعة حالهم ، بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال .

    قال الزمخشري : من كان في طاعة الهوى في دينه ، يتبعه في كل ما يأتي ويذر ، ولا يتبصر دليلا ، ولا يصغي إلى برهان ، فهو عابد هواه وجاعله إلهه . فيقول تعالى لرسوله : هذا الذي لا يرى معبودا إلا هواه ، فكيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى ؟ أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام ؟ وتقول : لا بد أن تسلم ، شئت أو أبيت . ولا إكراه في الدين . وهكذا كقوله : وما أنت عليهم بجبار لست عليهم بمصيطر
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [44] أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا .

    أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا أي : منهم . لأن الأنعام تصرف قواها إلى طلب ما ينفعها ، والنفرة مما يضرها . وهؤلاء عطلوا قواهم وهي العقول التي يهتدى بها للحق ، ويميز بها بين الخير والشر . ثم أشار تعالى إلى بعض دلائل التوحيد ، وما فيها من النعم العظمى الجديرة بأن تتلقى بالشكر لا بالكفر ، كحال هؤلاء الكفرة بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [45] ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا .

    ألم تر إلى ربك كيف مد الظل أي : عجيب صنعه أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس : ولو شاء لجعله ساكنا أي : ثابتا على حاله ، من الطول والامتداد . من السكنى أو غير متقلص من (السكون ) بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد فلم ينتفع به أحد : ثم جعلنا الشمس عليه دليلا أي : علامة يستدل بأحوالها في مسيرها على أحوال الظل ، من كونه ثابتا في مكان ، زائلا ومتسعا ومتقلصا . فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه ، على حسب ذلك .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [46 - 47] ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا .

    ثم قبضناه إلينا أي : أنزلناه بعد ما أنشأناه ممتدا ، ومحوناه بمحض قدرتنا ومشيئتنا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه : قبضا يسيرا أي : على مهل ، قليلا قليلا حسب ارتفاع دليله على وتيرة معينة مطردة مستتبعة لمصالح المخلوقات ومرافقتها . وفي هذا القبض اليسير ، شيئا بعد شيء ، من المنافع ما لا يعد ولا يحصر . ولو قبض دفعة واحدة ، لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا وهو الذي جعل لكم الليل لباسا أي : ساترا كاللباس : والنوم سباتا أي : راحة للأبدان تستعيض به ما خسرته من قواها : وجعل النهار نشورا أي : زمان انتشار لطلب المعاش .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [48 - 49] وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنـزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا .

    وهو الذي أرسل الرياح بشرا أي : ناشرات للسحاب وفي قراءة بشرا بضم الموحدة بدل النون وسكون الشين ، أي : مبشرات : بين يدي رحمته أي : قدام المطر . وهي استعارة بديعة . استعيرت الرحمة للمطر ثم رشحت . كقوله : يبشرهم ربهم برحمة منه وجعلها بين يديه تتمة لها . لأن البشير يتقدم المبشر به . ويجوز أن تكون تمثيلية . و (بشرا ) من تتمة الاستعارة ، داخل في جملتها . ومن قرأ (نشرا ) كان تجريدا لها .

    لأن النشر يناسب السحاب : وأنـزلنا من السماء ماء طهورا أي : مطهرا ، لقوله : ليطهركم به وهذه الآية أصل في الطهارة بالماء .

    قال القاضي : وتوصيف الماء به إشعار بالنعمة فيه ، وتتميم للمنة فيما بعده . فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته . وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها ، فبواطنهم بذلك أولى : لنحيي به بلدة ميتا أي : بإنبات النبات : ونسقيه أي : ذلك الماء : مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا قال الكرخي : خص الأنعام بالذكر ، لأنها ذخيرتنا ومدار معاش أكثر أهل المدر . ولذلك قدم سقيها على سقيهم ، كما قدم عليها إحياء الأرض . فإنها سبب لحياتها وتعيشها ، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [50 - 52] ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا .

    ولقد صرفناه أي : كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر : بينهم ليذكروا أي : ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا : فأبى أكثر الناس إلا كفورا أي : كفران النعمة وجحودها : ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا أي : نبيا ينذر أهله فيخف عليك أعباء النبوة . لكن لم نشأ ذلك ، فلم نفعله . بل قصرنا الأمر عليك حسبما ينطق به قوله تعالى : ليكون للعالمين نذيرا إجلالا لك وتعظيما ، وتفضيلا لك على سائر الرسل .

    وقال المهايمي : أي : لكن لم نشأ . لأنه يقتضي تفرق الأمم ، وتكثر الاختلافات .

    فجعلنا الواحد نذيرا للكل ليطيعوه أو يقاتلهم . والكفار يريدون أن يطيعهم الرسل أو يتركوهم على ما هم عليه : فلا تطع الكافرين أي : فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق والتشدد والتصبر . ولا تطعهم فيما يريدونك عليه . وأراد بهذا النهي ، تهييجه وتهييج المؤمنين ، وتحريكهم . أي : إثارة غيرته وغيرتهم . وإلا فإطاعته لهم غير متصورة .

    وقال أبو السعود : كأنه نهي له ، عليه الصلاة والسلام ، عن المداراة معهم ، والتلطف معهم . أي : لأن في ذلك إضعافا للحق وتغشية عليه . وطول أمد في سريانه . ولذا قال : وجاهدهم به أي : بالقرآن وما نزل إليك من الحق : جهادا كبيرا أي : لا يخالطه فتور ، بأن تلزمهم بالحجج والآيات ، وتدعوهم إلى النظر في سائر الآنات ، لتتزلزل عقائدهم ، وتسمج في أعينهم عوائدهم . وهذه الآية من أصرح الأدلة في وجوب مجادلة المبطلين ، ودعوتهم إلى الحق بقوة ، والتفنن في محاجتهم بأفانين الأدلة . فإن الحق يتضح بالأدلة . كما أن الشهور تشتهر بالأهلة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [53] وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا .

    وهو الذي مرج البحرين أرسلهما متجاورين متلاصقين ، بحيث لا يتمازجان : هذا عذب فرات أي : شديد العذوبة قامع للظمأ : وهذا ملح أجاج أي : بليغ الملوحة : وجعل بينهما برزخا أي : حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر : وحجرا محجورا أي : منعا من وصول أثر أحدهما إلى الآخر ، وامتزاجه به ، حتى بعد دخول أحدهما في الآخر مسافة .

    لطيفة :

    تلطف هنا المهايمي في تأويل الآية ، بمعنى يصلها بالآية قبلها ، في أسلوب غريب .

    قال رحمه الله في قوله تعالى : وجاهدهم به جهادا كبيرا يؤثر في بواطنهم فيكون : { كبيرا } يفوق ما يؤثر في الظواهر (و ) إن زعموا أنه كيف يجاهد بالدلائل من يورد شبهات تجاورها ؟ قيل : غاية أمرها أن يكونا كالبحرين المختلفين المتجاورين . وقد رفع الله الالتباس بينهما بعد ما جاور بينهما وهما محسوسان ، فكيف لا يرفع الالتباس بين البحرين المعقولين إذ : وهو الذي مرج أي : جاور : البحرين اللذين بينهما غاية الخلاف إذ : هذا عذب فرات أي : قاطع للعطش وهو مثل بحر الدلائل المفيدة للذوق ، القاطعة عطش الطلب : وهذا ملح أجاج أي : مبالغ في الملوحة . وهو مثل بحر الشبهات الموجبة للنفرة جدا لأهل الذوق وأما لأهل النظر فقد : وجعل بينهما برزخا أي : مانعا من الخلط . وهو النظر في مواد المقدمات وصورها ليعلم بذلك صحة الدلائل (و ) أما فساد الشبهات فيعلم بالاعتراضات التي لا جواب عنها ، كما أنه جعل بينهما : حجرا أي : منعا من وصول أثر أحدهما إلى الآخر : محجورا أي : ممنوعا أن يمنع . وإن زعموا أن كل فرقة ترى ممسكاته تفيده الذوق وتقطع عنه الطلب ويتنفر عن متمسكات صاحبه أشد من التنفر عن الملح الأجاج ، قيل : ليس هذا بالنظر إلى نفس الدلائل ، بل بواسطة التعصب من جهة الآباء والمشايخ والأصحاب . وقد أوجد الله لإزالة العذر عنه مثالا ، في قوله :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [54] وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا .

    وهو الذي خلق من الماء بشرا أي : كما أخرج من المقدمات نتائج العلوم : فجعله أي : البشر : نسبا أي : أصلا أو فرعا أو حاشية لقوم : وصهرا أي : لآخرين يتعصب من أجل نسبه وصهره ، فيعتقد باطلهم حقا . كذلك أهل الشغب يتعصبون لآبائهم ومشايخهم : وكان ربك قديرا أي : وهو وإن صعب إزالته ، فإن ربك الذي أمرك بالجهاد الكبير ، قدير على إزالته . كما قدر في النسب والصهر . فلا يبالي المؤمنون لهما . انتهى كلام المهايمي رحمه الله .

    وهو منزع في باب الإشارة غريب ، أثرناه عنه للطافته . وأما معنى الآية في عظيم اقتداره سبحانه ، حيث خلق البشر وقسمهم من نطفة واحدة قسمين ذوي نسب ، أي : ذكورا ينسب إليهم ، فيقال : فلان بن فلان وفلانة بنت فلان . وذوات صهر أي : إناثا يصاهر بهن ، فظاهر . ونظيره قوله تعالى : فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [55] ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا .

    ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا أي : معينا للشيطان على عصيان ربه . والمراد بالكافر الجنس ، فهو إظهار في مقام الإضمار ، لنفي كفرهم عليهم ، ولرعاية الفواصل الكريمة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [56 - 57] وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا .

    وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسألكم عليه أي : على تبليغ الرسالة المفهوم من : أرسلناك من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا أي : يتقرب إليه بالإيمان والطاعة . أي : إلى رحمته أو جنابه . فاتخاذ السبيل ، مراد به لازم معناه . لأن من سلك طريق شيء ، قرب إليه ، بل وصل .

    قال الزمخشري : مثال : إلا من شاء والمراد : إلا فعل من شاء . واستثنائه عن .

    الأجر قول ذي شفقة عليك ، قد سعى لك في تحصيل مال : (ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت ، إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه ) . فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب . ولكن صوره هو بصورة الثواب وسماه باسمه ، فأفاد فائدتين : إحداهما : قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله . كأنه يقول لك : إن كان حفظك لمالك ثوابا ، فإني أطلب الثواب .

    والثانية : إظهار الشفقة البالغة ، وأنك إن حفظت مالك اعتد بحفظك ثوابا ورضي به ، كما يرضى المثاب بالثواب .

    ولعمري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه . انتهى .

    والاستثناء على هذا متصل ادعاء .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [58] وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا .

    وتوكل على الحي الذي لا يموت أي : في دفع شرهم ومكرهم : وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا أي : عليما لا يعزب عنه منها شيء ، فيجزيهم عليها .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [59] الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا .

    الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام أي : من أيامه تعالى ، أو أيام الخلق ، قولان للسلف : ثم استوى على العرش أي : علا فوقه علوا يليق بجلاله المقدس . وتقدم تفسيره : الرحمن مرفوع على المدح . أي : هو الرحمن ، وهو في الحقيقة وصف آخر للحي ، كما قرئ بالجر . وقيل : الموصول مبتدأ والرحمن خبره . وقيل : الرحمن بدل من المستكن في : { استوى } وقوله تعالى : فاسأل به خبيرا فيه أوجه : منها (الباء ) في به صلة (اسأل ) ومنها أنها صلة (خبيرا ) و (خبيرا ) مفعول (اسأل ) أي : فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته . أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته . وعليه ففائدة سؤاله هو تصدقه وتأييده .

    قال الشهاب : ويصح تنازعهما - أي : اسأل وخبيرا - في الباء . وفيه حينئذ نوع من البديع غريب يسمى المتجاذب . وهو كون لفظ واحد بين جملتين يصح جعله من الأولى والثانية . وقد ذكره السعد في أواخر (" شرح المفتاح " ) وهذا مما غفل عنه أصحاب البديعيات . انتهى . ومنها أن الباء للتجريد . كقولك رأيت به أسدا . أي : برؤيته . أي : اسأل بسؤاله خبيرا والمعنى : إن سألته وجدته خبيرا .

    قال في (" الكشف " ) : وهو أوجه ، ليكون كالتتميم لقوله : الذي خلق إلخ فإنه لإثبات القدرة ، مدمجا فيه العلم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [60] وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا .

    وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أي : من المسمى به ؟ لأنهم ما كانوا يعرفونه تعالى بهذا الاسم ولا يطلقونه عليه . أو الاستفهام للتعجب والاستغراب ، تفننا في الإباء . أي : وما هذه الأسماء والأعلام التي تصدعنا بها ، وتقرع آذاننا بالإذعان لها أنسجد لما تأمرنا وزادهم أي : الأمر بالسجود ، المراد به الإذعان بالإيمان : نفورا أي : استكبارا عن الإيمان .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [61] تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا .

    تبارك الذي جعل في السماء بروجا أي : نجوما أو هي البروج الاثنا عشر ، التي ترى صورها في الأشكال الحاصلة من اجتماع بعض الكواكب على نسب خاصة ، وتنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية وجعل فيها سراجا وهي الشمس : وقمرا منيرا أي : مضيئا بالليل .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [62] وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا .

    وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة أي : ذوي عقبة يعقب كل منهما الآخر : لمن أراد أن يذكر أي : يتفكر فيستدل بذلك على عظم قدرته : أو أراد شكورا أي : يشكر على النعمة فيهما ، من السكون بالليل والتصرف بالنهار . ويكون فيهما بما يقتضيه ما خلقا له .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [63 - 64] وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما .

    وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا أي : هينين . أو مشيا هينا . أي : بسكينة وتواضع . لا يضربون بأقدامهم ، ولا يخفقون تبعا لهم أشرا وبطرا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما أي : إذا خاطبهم السفهاء بالقول السيئ لم يقابلوهم بمثله ، بل قالوا كلاما فيه سلام من الإيذاء والإثم . سواء كان بصيغة السلام كقولهم : (سلام عليكم ) ، أو غيرها مما فيه لطف في القول أو عفو أو صفح . وكظم للغيظ . دفعا بالتي هي أحسن : والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما أي : يكون لهم في الليل فضل صلاة وإنابة ، كما قال تعالى : كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وقوله : تتجافى جنوبهم عن المضاجع الآية ، وقوله : أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون و(البيتوتة ) لغة : الدخول في الليل . يقال : بات يفعل كذا يبيت ويبات ، إذا فعله ليلا . وقد تستعار البيتوتة للكينونة مطلقا . إلا أن الحقيقة أولى ، لكثرة ما ورد في معناها مما تلونا . ولذلك قال السلف : في الآية مدح قيام الليل والثناء على أهله . وفي قوله : لربهم إشارة إلى الإخلاص في أدائها وابتغاء وجهه الكريم . لما أن ذلك هو الذي يستتبع أثرها من العمل الصالح وفعل الخير وحفظ حدود الله : وقياما جمع قائم أو مصدر أجري مجراه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [65 - 66] والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما .

    والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما أي : هلاكا دائما . والمراد من قولهم ذلك ، فزعهم منها ، ووجلهم الشديد المستتبع لتمسكهم بالتقوى ، واعتصامهم بالسبب الأقوى . لا مجرد قلقلة اللسان ، بلا تأثر من الجنان . فإنهم لم يبتهلوا إلى المولى ، ويتعوذوا به من سعيرها ، إلا لعلمهم بسوء حالها . ومقتضى العلم بالشيء إيفاؤه حقه والعمل بموجبه . ولذا قال تعالى : إنها ساءت مستقرا ومقاما أي : موضع استقرار وإقامة .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [67] والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما .

    والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما أي : لم يجاوزوا الحد في الإنفاق ، ولم يضيقوا على أنفسهم وأهليهم وما يعروهم بخلا ولؤما . بل كانوا في ذلك متوسطين ، وخير الأمور أوسطها .

    قال الزمخشري : وصفهم الله بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير . وبمثله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من فقه الرجل رفقه في معيشته » وأخرج أيضا عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما عال من اقتصد » وروى البزار عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أحسن القصد في الغنى ، وما أحسن القصد في الفقر ، وما أحسن القصد في العبادة » .





  18. #478
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4591 الى صـ 4600
    الحلقة (477)





    القول في تأويل قوله تعالى :

    [68 - 70] والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا [ ص: 4591 ] إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما .

    والذين لا يدعون مع الله إلها آخر أي : لا يشركون بعبادة ربهم أحدا ، فالدعاء بمعنى العبادة : ولا يقتلون النفس التي حرم الله أي : حرمها بمعنى حرم قتلها . ومنه الوأد وغيره : إلا بالحق أي : المزيل لحرمتها وعصمتها : ولا يزنون ومن يفعل ذلك أي : ما ذكر من هذه القبائح العظام : يلق أثاما أي : يجد في الآخرة جزاء إثمه : يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا أي : ذليلا محتقرا جامعا لعذابي الجسم والروح : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما أي : لمن تاب وآمن وعمل صالحا .

    قال الحافظ ابن كثير : وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل . ولا تعارض بين هذه وآية النساء : ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية ، فإن هذه ، وإن كانت مدنية ، إلا أنها مطلقة . فتحمل على من لم يتب . لأن هذه مقيدة بالتوبة . ثم قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية ، وقد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل . كما ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته ، وغير ذلك من الأحاديث . ثم قال : وفي معنى قوله تعالى : يبدل الله سيئاتهم حسنات قولان :

    أحدهما : أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، في هذه الآية : هم المؤمنون . كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن السيئات . فحولهم إلى الحسنات ، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات . وكذا قال سعيد بن جبير : أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن ، [ ص: 4592 ] وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين . وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات . وكذا قال الحسن : أبدلهم بالعمل السيئ العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصا ، وبالفجور إحصانا ، وبالكفر إسلاما .

    القول الثاني : إن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح ، حسنات . وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى ، ندم واسترجع واستغفر . فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار . انتهى .

    ولابن القيم رحمه الله تعالى في (" طريق الهجرتين " ) في هذا المقام بسط حسن وتناظر متقن ، لا بأس بإيراده ، لعظم فائدته .

    قال رحمه الله (بعد شرحه لحديث فرح الله بتوبة عبده ما مثاله ) : وها هنا مسألة ، هذا الموضع أخص المواقع ببيانها . وهي أن التائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحا ، فهل تمحى تلك السيئات وتذهب ، لا له ولا عليه ، أو إذا محيت أثبت له مكان كل سيئة حسنة ؟ هذا مما اختلف الناس فيه ، من المفسرين وغيرهم ، قديما وحديثا . فقال الزجاج : ليس يجعل مكان السيئة الحسنة لكن يجعل مكان السيئة التوبة ، والحسنة مع التوبة . قال ابن عطية : يجعل أعمالهم ، بدل معاصيهم الأولى طاعة . فيكون ذلك سببا لرحمة الله إياهم ، قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن . ورد على من قال هو في يوم القيامة . قال : وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي ذر يقتضي أن الله سبحانه يوم القيامة ، يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحدين ، بدل سيئاته حسنات . وذكره الترمذي والطبري . وهذا تأويل سعيد بن المسيب في هذه الآية .

    قال ابن عطية : وهو معنى كرم العفو . انتهى .

    وسيأتي ذكر الحديث والكلام عليه .

    وقال الثعلبي : قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد : يبدل الله سيئاتهم حسنات يبدلهم الله تقبيح أعمالهم في الشرك ، محاسن الأعمال في الإسلام . فيبدلهم بالشرك وبقتل المؤمنين ، قتل المشركين . وبالزنى ، عفة وإحصانا .

    [ ص: 4593 ] وقال آخرون : يعني يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم ، حسنات يوم القيامة وأصل القولين ، أن هذا التبديل هل هو في الدنيا أو يوم القيامة ؟ فمن قال إنه في الدنيا ، قال : هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها . وهي حسنات ، وهذا تبديل حقيقة . والذين نصروا هذا القول احتجوا بأن السيئة تنقلب حسنة ، بل غايتها أن تمحى وتكفر ويذهب أثرها ، فأما أن تنقلب حسنة فلا . فإنها لم تكن طاعة ، وإنما كانت بغيضة مكروهة للرب ، فكيف تنقلب محبوبة مرضية ؟

    قالوا : وأيضا فالذي دل عليه القرآن إنما هو تكفير السيئات ومغفرة الذنوب ، كقوله : ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وقوله : ويعفو عن السيئات وقوله : إن الله يغفر الذنوب جميعا والقرآن مملوء من ذلك وفي الصحيح من حديث قتادة عن صفوان بن محرز قال : قال رجل لابن عمر : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ قال : سمعته يقول : « يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه ، فيقرره بذنوبه فيقول : هل تعرف ؟ فيقول : رب ! أعرف قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم . فيعطى صحيفة حسناته » .

    وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على الله عز وجل .

    فهذا الحديث المتفق عليه ، والذي تضمن العناية بهذا العبد ، إنما فيه ستر ذنوبه عليه في الدنيا ومغفرتها له يوم القيامة . ولم يقل له : وأعطيتك بكل سيئة منها حسنة . فدل على أن غاية السيئات مغفرتها وتجاوز الله عنها .

    [ ص: 4594 ] وقد قال الله في حق الصادقين : ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون فهؤلاء خيار الخلق . وقد أخبر عنهم أنه يكفر عنهم سيئات أعمالهم ويجزيهم بأحسن ما يعملون . وأحسن ما عملوا إنما هو الحسنات لا السيئات ، فدل على أن الجزاء بالحسنى إنما يكون على الحسنات وحدها . وأما السيئات ، أن تلغى ويبطل أثرها . قالوا : وأيضا ، فلو انقلبت السيئات أنفسها حسنات في حق التائب ، لكان أحسن حالا من الذي لم يرتكب منها شيئا . وأكثر حسنات منه ، لأنه إذا أساء شاركه في حسناته التي فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات ، ثم انقلبت له حسنات ترجح عليه . وكيف يكون صاحب السيئات أرجح من لا سيئة له ؟ قالوا : وأيضا فكما أن العبد ، إذا فعل حسنات ثم أتى بما يحبطها ، فإنها لا تنقلب سيئات يعاقب عليها ، بل يبطل أثرها ويكون لا له ولا عليه ، وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها . فهكذا من فعل سيئات ثم تاب منها ، فإنها لا تنقلب حسنات فإن قلتم : وهكذا التائب يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته ، لم ننازعكم في هذا . وليس هذا معنى الحسنة فإن الحسنة تقتضي ثوابا وجوديا . واحتجت الطائفة الأخرى التي قالت : هو تبديل السيئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة ، بأن قالت : حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيئة . وهذا إنما يكون في السيئة المحققة . وهي التي قد فعلت ووقعت . فإذا بدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأثبت مكانها حسنة . قالوا : ولهذا قال تعالى : سيئاتهم حسنات فأضاف السيئات إليهم ، لكونهم باشروها واكتسبوها . ونكر الحسنات ولم يضفها إليهم ، لأنها من غير صنعهم وكسبهم ، بل هي مجرد فضل الله وكرمه قالوا : وأيضا ، فالتبديل في الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات ، ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم . فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها ، كما قال تعالى : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم وأما ما كان من غير الفاعل ، فإنه يجعله من تبديله هو ، كما قال تعالى : وبدلناهم بجنتيهم جنتين فلما أخبر سبحانه أنه هو الذي يبدل سيئاتهم حسنات ، دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم ، لا أنهم فعلوه من تلقاء [ ص: 4595 ] أنفسهم . وإن كان سببه منهم وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح .

    قالوا : ويدل عليه ما رواه ( مسلم ) في صحيحه عن أبي ذر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة . وآخر أهل النار خروجا منها . رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها . فتعرض عليه صغار ذنوبه . فيقال : عملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا . وعملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا فيقول : نعم . لا يستطيع أن ينكر ، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له : فإن لك مكان كل سيئة حسنة » قالوا : وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة . فإنهم إنما سموا أبدالا لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة ، بالأعمال الحسنة ، فبدل الله سيئاتهم التي عملوا حسنات .

    قالوا : وأيضا فالجزاء من جنس العمل . فكما بدلوا هم أعمالهم السيئة بالحسنة ، بدلها الله من صحف الحفظة ، حسنات جزاء وفاقا .

    قالت الطائفة الأولى : كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبي ذر ، على صحة قولكم ، وهو صريح في أن هذا الذي قد بدلت سيئاته حسنات ، قد عذب عليها في النار ، حتى كان آخر أهلها خروجا منها فهذا قد عوقب على سيئاته . فزال أثرها بالعقوبة . فبدل مكان كل سيئة منها حسنة . وهذا حكم غير ما نحن فيه . فإن الكلام في التائب من السيئات ، لا فيمن مات مصرا عليها غير تائب . فأين أحدهما من الآخر ؟

    قالوا : وأما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيئة ، فحق . وكذلك نقول : إن الحسنة المفعولة صارت في مكان السيئة ، التي لولا الحسنة لحلت محلها .

    قالوا : وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم ، وذلك يقتضي أن تكون هي السيئات الواقعة وتنكير الحسنات وهو يقتضي أن تكون حسنات من فضل الله ، فهو حق بلا ريب . ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها ، مقارنا لكسبهم إياها بفضله ؟ .

    قالوا : وأما قولكم إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم ، وذلك يقتضي أنه هو الذي بدلها من الصحف ، لأنهم هم الذين بدلوا الأعمال بأضدادها ، فهذا لا دليل لكم . فإن الله خالق [ ص: 4596 ] أفعال العباد . فهو المبدل للسيئات حسنات خلقا وتكوينا ، وهم المبدلون لها فعلا وكسبا .

    قالوا : وأما احتجاجكم بأن الجزاء من جنس العمل ، فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم أبدلها الله كذلك في صحف الأعمال . فهذا حق ، وبه نقول ، وإنه بدلت السيئات التي كانت مهيأة ومعدة أن تحل في الصحف ، بحسنات جعلت موضعها . فهذا منتهى إقدام الطائفتين ، ومحط نظر الفريقين . وإليك أيها المنصف الحكم بينهما . فقد أدلى كل منهما بحجته ، وأقام بينته . والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما . فأرشد الله من أعان على هدى ، فنال به درجة الداعين إلى الله ، القائمين ببيان حججه ودينه . أو عذر طالبا منفردا في طريق مطلبه ، قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق . فغاية أمنيته أن يخلى بينه وبين سيره ، وألا يقطع عليه طريقه . فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه ، فقد رضي بالدون . وحصل على صفقة المغبون . ومن شمر إليه ورام ألا يعارضه معارض ، ولا يتصدى له ممانع ، فقد منى نفسه المحال ، وإن صبر على لأوائها وشدتها ، فهو والله الفوز المبين ، والحظ الجزيل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .

    فالصواب ، إن شاء الله في هذه المسألة ، أن يقال : لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة . والحسنة إنما هي أمر وجودي يقتضي ثوابا ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن موافقة المنهي . وذلك الكف والحبس أمر وجودي وهو متعلق الثواب . وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلا ، ولم يحدث به نفسه ، فهذا كيف يثاب على تركه ؟ ولو أثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب ، لكان مثابا على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى فإن الترك مستصحب معه ، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط ، فهل يثاب على ذلك كله ؟ وهذا مما لا يتوهم . وإذا كانت الحسنة لا بد أن تكون أمرا وجوديا ، فالتائب من الذنوب التي عملها ، قد قارن كل ذنب منها ، ندما عليه ، وكف نفسه عنه ، وعزم على ترك معاودته . وهذه حسنات بلا ريب . وقد محت التوبة أثر الذنب ، وخلفه هذا الندم والعزم ، وهو حسنة ، قد بدلت تلك السيئة حسنة . وهذا معنى قول بعض [ ص: 4597 ] المفسرين : يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة . فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها ، فتوبته منها حسنة حلت مكانها . فهذا معنى التبديل . لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة .

    وقال بعض المفسرين في هذه الآية : يعطيهم بالندم على كل سيئة أساءوها حسنة . وعلى هذا ، فقد زال بحمد الله الإشكال . واتضح الصواب . وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة .

    وأما حديث أبي ذر ، وإن كان التبديل فيه حق المصر الذي عذب على سيئاته ، فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته . فإن الذنوب التي عذب عليها المصر ، لما أزال أثرها بالعقوبة ، بقيت كأن لم تكن ، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة ، لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها ، مع العقوبة ، لا يقتضي زوال أثره وتبديلها حسنات . فزوال أثرها بالتوبة النصوح ، أعظم من زوال أثرها بالعقوبة . فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة ، حسنات ، فلأن تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات ، أولى وأحرى . وتأثير التوبة في هذا المحو والتبديل أقوى من تأثير العقوبة . لأن التوبة فعل اختياري أتى به العبد طوعا ومحبة لله وفرقا منه ، وأما العقوبة ، فالتكفير بها من جنس التفكير بالمصائب التي تصيبه بغير اختياره ، بل يفعل الله . ولا ريب أن تأثير الأفعال الاختيارية التي يحبها الله ويرضاها في محو الذنوب ، أعظم من تأثير المصائب التي تناله بغير اختياره .

    انتهى كلامه رحمه الله . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [71] ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا .

    ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا أي : ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح ، فإنه بذلك تائب إلى الله متابا مرضيا عنده ، مكفرا للخطايا ، محصلا للثواب . قرره الزمخشري .

    والآية صريحة في أن العمل الصالح والمثابرة عليه قولا وفعلا ، شرط في صحة التوبة وقبولها وأنه لا اعتداد بها بدون العمل الصالح . فليتفطن لمعنى هذا الآية من يتوهم أن التوبة استغفار بلسان ، أو تخشع بأركان ، ولا عمل صالح له يرضي الرحمن .
    [ ص: 4598 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [72 - 73] والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا .

    والذين لا يشهدون الزور أي : لا يحضرون الباطل . يقال : (شهد كذا ) أي : حضره . فـ(الزور ) : مفعول به بتقدير مضاف أي : محاله . و(يشهدون ) من الشهادة . فالزور منصوب على المصدر أو بنزع الخافض أي : شهادة الزور أو بالزور . وقد أشار الزمخشري للوجهين بقوله : يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين ، فلا يحضرونها ولا يقربونها ، تنزها عن مخالطة الشر وأهله وصيانة لدينهم عما يثلمه . لأن مشاهدة الباطل شركة فيه . ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة (هم شركاء فاعلية في الإثم ) لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به ، وسبب وجوده ، والزيادة فيه لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ، ورغبتهم في النظر إليه . ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور . انتهى وهي الكذب متعمدا على غيره .

    قال المبرد في (" الكامل " ) : ويروى عن ابن عباس في هذه الآية : والذين لا يشهدون الزور قال : أعياد المشركين . وقال ابن مسعود : الزور الغناء . فقيل لابن عباس : أو ما هذا في الشهادة بالزور ؟ فقال : لا ، إنما آية شهادة الزور : ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا وإذا مروا باللغو مروا كراما أي : اتفق مرورهم بأهل اللغو ، وهو كل ما ينبغي ويطرح ، مروا معرضين عنهم ، مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم كقوله تعالى : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ويدخل في ذلك الإغضاء عن الفواحش ، والصفح عن الذنوب ، والكناية عما يستهجن التصريح به وذلك لأن كراما : جمع كريم بمعنى مكرم لنفسه وغيره بالصفح ونحوه : والذين إذا ذكروا بآيات ربهم أي وعظوا بها وخوفوا : لم يخروا عليها صما وعميانا أي : بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية ، مجتلين لها [ ص: 4599 ] بعيون راعية . وإنما عبر بنفي الضد ، تعريضا لما يفعله الكفرة والمنافقون من شدة الإعراض والإباء والنفرة ، المستعار لها الخرور على تلك الحالة استعارة بديعة . لما فيهم من إسقاطهم من الإنسانية إلى البهيمية ، بل إلى أدنى منها ، لأنها تسمع وتبصر ، وقد نفينا عنهم .

    وفي التنزيل الكريم من توصيف المؤمنين بوجل قلوبهم لذكره تعالى ، وزيادة إيمانهم إذا تلي عليهم الذكر الحكيم ، آيات عديدة . ولذا قال قتادة فيهم : هم قوم عقلوا عن الله ، وانتفعوا بما سمعوا من كتابه ويرحم الله الحسن البصري ، فقد قال : كم من رجل يقرؤها ، ويخر عليها أصم أعمى .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما [74] .

    والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين أي : أولادا وحفدة ، تقر بهم العيون وتسر بمكانهم الأنفس ، لحيازتهم الفضائل واتصافهم بأحسن الشمائل . وقرة العين إما من القر وهو البرد . لأن دمعة السرور باردة ، لذا قيل في ضده : أسخن الله عينه أو من القرار لعدم النظر لغيره ، وجوز في من أن تكون ببيانه وعليه قول كثير من أن فيه الدعاء بصلاح الزوجات . وقوله تعالى : واجعلنا للمتقين إماما أي : أئمة . اكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ، مع رعاية الفواصل . أي : يقتدى بنا في الخير . أو هداة دعاة إلى الخير . فإن ذلك أكثر ثوابا وأحسن مآبا . قال في " الإكليل " : في الآية طلب الإمام في الخير . وفي " العجائب "للكرماني : قال القفال وغيره من المفسرين : في الآية دليل على أن طلب الرياسة في الدين واجب . انتهى .

    وكذا قال الزمخشري ، عن بعضهم : إن فيه ما يدل على أن الرياسة في الدين ، يجب أن تطلب ويرغب فيها . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما [ ص: 4600 ] خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما [75 - 77] .

    أولئك إشارة إلى المتصفين بما ذكر . خبر لعباد الرحمن أو مبتدأ خبره : يجزون الغرفة بما صبروا أي : على مشاق المجاهدات في الدعوة إلى الخيرات ، والدأب على الخيرات ، واجتناب المحظورات . والغرفة الدرجة العليا من المنازل في الجنة : ويلقون فيها تحية وسلاما أي : تحييهم الملائكة وتسلم عليهم . أو يحيي بعضهم بعضا ويسلم عليه . والقصد أنهم يلقون فيها التوقير والاحترام ، فلهم السلام وعليهم السلام : خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما لسلامة أهلها عن الآفات ، وخلودهم أبد الآباد .

    قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم أي : لا يبالي بكم ولا يبقيكم إلا إذا عبدتموه وآمنتم به وحده . فالدعاء بمعنى العبادة ، كما مر .

    ثم أشار إلى أنه كيف يمكن العبء بهم ، أو يتصور ، وقد وجد منهم ما ينافيه ، بقوله تعالى : فقد كذبتم أي : بما جاءكم من الحق . أي : وقد تلي عليكم سنة من كذب وأصر : فسوف يكون لزاما اللزام : مصدر مؤول باسم الفاعل أتى به للمبالغة . أي : فسوف يكون هذا النبأ أو الذكر الحكيم ، أو الأمر الجليل ، أمر الرسالة ، لازما وثابتا . يفتح من الحق رتاجا . وتدخل الناس في دين الله أفواجا . ولقد صدق الله وعده . ونصر عبده وأعز جنده . هزم الأحزاب وحده . نسأله تعالى خير ما عنده .

    تم هذا الجزء بحمده تعالى ، ضحوة السبت في 8 صفر الخير ، في سدة جامع السنانية بدمشق عام 1325 بيد جامعه الفقير محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح ، القاسمي الدمشقي عفا عنه مولاه . آمين
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    26- سُورَةُ الشُّعَرَاءِ


    وهي مكية، إلا قوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون إلى آخرها. وقوله: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل فقد روي أنهما نزلتا بالمدينة، وكان شعراؤه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حسان وكعب بن مالك وابن رواحة، رضي الله عنهم.

    وقال الداني : روي بسند صحيح أنها نزلت في شاعرين تهاجيا في الجاهلية، مع كل واحد منهم جماعة. فالسورة على هذا كلها مكية. انتهى.

    وقال المهايمي: سميت هذه السورة بها، لاختصاصها بتمييز الرسل عن الشعراء، لأن الشاعر، إن كان كاذبا فهو رئيس الغواة لا يتصور منه الهداية، وإن كان صادقا لا يتصور منه الافتراء على الله تعالى، وهذا من أعظم مقاصد القرآن، انتهى.

    يشير إلى أن ذكر الشعراء فيها، لبيان أنهم في معزل عن الرسالة وتبرئة مقام الرسول صلوات الله عليه. عما افتروا عليه من أنه شاعر، فالسورة على هذا كلها مكية، ردا لفريتهم.

    ولما كان لفظ (الشعراء) عاما، جاز حمله على ما حكوه لشموله له، لا أنه نزل فيه خاصة دون غيره. وسيأتي، إن شاء الله تعالى، إيضاح ذلك وهي مائتان وسبع وعشرون آية. قال ابن كثير : وقع في تفسير مالك المروي عنه، تسميتها (الجامعة).

    [ ص: 4605 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [1] طسم .

    "طسم" سبق في سورة البقرة الأقوال في هذه الفواتح، وأن الأكثر على أنها اسم للسورة، فمحله الرفع على أنه خبر لمحذوف، وهو أظهر من رفعه على الابتداء، أو النصب بتقدير: اقرأ ونحوه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [2] تلك آيات الكتاب المبين

    تلك آيات الكتاب المبين الإشارة إلى السورة، وما فيها من معنى البعد للتفخيم، ومحله الرفع على الابتداء، خبره ما بعده أو بدل مما قبله. والمراد بـ(الكتاب) القرآن. و بـ(المبين) الظاهر إعجازه وآيته وبرهانه. ومن (أبان) بمعنى: بان - أو المبين للحق من الباطل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [3] لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين .

    لعلك باخع أي: قاتل: نفسك ألا يكونوا مؤمنين أي: لعدم إيمانهم. و(لعل) للإشفاق. أي: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على عدم إيمانهم.




  19. #479
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْشعراء
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4605 الى صـ 4620
    الحلقة (478)




    القول في تأويل قوله تعالى:

    [4] إن نشأ ننـزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين

    إن نشأ ننـزل عليهم من السماء آية أي: ملجئة لهم إلى الإيمان، قاسرة عليه: فظلت [ ص: 4606 ] أعناقهم لها خاضعين أي: منقادين، والجملة مستأنفة لتعليل ما يفهم من الكلام من النهي عن التحسر المذكور، ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به مشيئة الله تعالى حتما، فلا وجه للطمع فيه، والتألم من فواته. قاله أبو السعود.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [5] وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين

    وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين أي: مكذبين، استهزاء وإصرار على ما كانوا عليه من الكفر. وتقدم نظير الآية في أول سورة الأنبياء، وتحقيق معنى قوله تعالى: "محدث" فتذكر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [6] فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون

    فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون أي: أحواله الباهرة وشؤونه القاهرة، وظهور أعلامه، وبقاء أيامه، وفيه وعيد لهم بحلول الذل بهم، ونزول الصغار وقتئذ بدارهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [7] أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم .

    أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم أي: صنف مرضي كثير المنافع.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [8] إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين

    [ ص: 4607 ] إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين لصرفهم اختيارهم إلى جانب الكفر، في هذه الآيات.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [9] وإن ربك لهو العزيز الرحيم

    وإن ربك لهو العزيز الرحيم أي: فهو القادر على الانتقام منهم بلا ممانع، والرحيم بإمهاله وحلمه عنهم، فلينتبهوا قبل أن يحل بهم ما حل بفرعون وقومه، ولذا استأنف نبأ موسى عليه السلام معه، بقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [10 - 13] وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون

    وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني أي: في أداء الرسالة، في بسطة من المقال: فأرسل إلى هارون أي: ليوازرني ويشد به عضدي. والمفعول محذوف، أي: ملكا أو جبريل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [14 - 15] ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون

    [ ص: 4608 ] ولهم علي ذنب وهو قتل القبطي، المبسوط في غير هذه السورة: فأخاف أن يقتلون قال كلا أي: لا تخف إنك من الآمنين: فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون مزيد تسلية لهما، بكمال الحفظ والنصرة.

    قال أبو السعود: مثل حاله تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجري بينهم، ليمد أولياءه ويظهرهم على أعدائهم، مبالغة في الوعيد بالإعانة. انتهى.

    ولو قيل هو كناية عن ذلك، كان أولى. لجواز بقاء المعنى الحقيقي معها، وهو هنا كذلك فهو تعالى مستمع لهما وحافظ وناصر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [16 - 17] فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل

    فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل ليتحرروا من عبوديتك وعذابك المهين.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [18 - 19] قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين .

    قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت يعني قتل القبطي وأنت من الكافرين أي: بنعمتي.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [20] قال فعلتها إذا وأنا من الضالين

    [ ص: 4609 ] قال فعلتها إذا وأنا من الضالين أي: الجاهلين بكون الوكزة مفضية إلى القتل. أو الذاهبين عن صواب الحلم والعفو والدفع بالأحسن.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [21] ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين

    ففررت منكم لما خفتكم أي: تقتلوني على القتل الخطأ، فنجاني الله منكم، وزادني إنعاما: فوهب لي ربي حكما أي: حكمة أو نبوة: وجعلني من المرسلين أي: لإبطال دعواك الربوبية، واستئصال شبه ما عليه قومك من الوثنية. وطلب إرسال قومي إلى مواطنهم الأصلية، وقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [22] وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل

    وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل إبطال لمنته عليه في التربية، ببيان أنها في الحقيقة نقمة. لأنه كان اتخذ بني إسرائيل عبيدا مسخرين في شؤونه، مذللين لأموره، مقهورين لعسفه. وموسى عليه السلام، وإن لم ينله من ذلك ما نالهم، إلا أنه لما كان منهم، فكأنه وصل إليه، وحل به، كما قيل: (وظلم الجار إذلال المجير) أي: لا يفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسأت إلى مجموعهم، وما أنا إلا عضو منهم. وفي فحواها تقريعه بالكبرياء المتناهية، والقسوة البالغة، والسلطة الغالية التي من ورائها الفرج القريب، والمخرج العجيب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [23 - 25] قال فرعون وما رب العالمين [ ص: 4610 ] قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون

    قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون أي: لهذا النبأ العجيب، وهو توحيد المعبود.

    وإنما عده جديرا بأن يتعجبوا منه، لنهم، على ما حققه المؤرخون، غلوا في عبادة الأصنام وتعديد الآلهة غلوا أربوا على كل من سواهم في الضلال. فكانوا يسجدون للشمس والقمر، والنجوم، والأشخاص البشرية، والحيوانات، حتى الهوام، وأدنى حشرات الأرض.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [26 - 28] قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون

    قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون أي: لكونه يدعو إلى خلاف ما عقل عن الآباء.

    قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون أي: شيئا ما، أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلته. وفيه إيذان بغاية وضوح الأمر، بحيث لا يشتبه على من له عقل في الجملة، وتلويح بأنهم بمعزل من دائرة العقل، وإنهم المتصفون بما رموه عليه السلام به من الجنون.

    تنبيه:

    ذهب بعض المفسرين إلى أن فرعون كان من المعطلة، لا يقر بخالق، ولا يعترف بمعبود [ ص: 4611 ] لظاهر قوله: ما علمت لكم من إله غيري وأن قومه كانوا لا يؤلهون سواه.

    قال ابن كثير : ومن زعم من أهل المنطق أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط. فإنه لم يكن مقرا بالصانع، حتى يسأل عن الماهية، بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر. انتهى.

    وقدمنا أنه حقق الاكتشاف الصحيح والتاريخ الوثيق، أنه كان من الوثنيين الغالين. وأن له ولقومه عدة معبودين علويين وسفليين.

    وعليه فمعنى قوله: ما علمت لكم من إله غيري أي: مطاع عظيم، وكانوا لا يتحاشون من إطلاق الإله على الجبار المسيطر. فبقي سؤاله بما يحتمل أن يكون على نهج القاعدة المنطقية، من طلب الاكتناه، وتعجبه من جوابه، ثم رميه بالجنون، ثانيا، لعدوله عن الكنه إلى الأثر. ويحتمل أن يكون لتعرفه من جهة وحدته في ربوبيته التي ادعاها موسى، وأن تعجبه لما شاهد من الجد في الدعوة والثبات عليها، والصدع بما يؤلم عظمته، ويغمز جبروته; وهذا هو الذي أذهب إليه، فإن القوم بمعزل عن أن يعجبوا لكون الجواب كان بالرسم لا بالحد، إذ هو اصطلاح لفئة خاصة، ومع هذا فالنظم يحتمله ولا يأباه. وقد عول عليه كثير من أهل النظر، ولا بأس بأن نأثر شيئا من لطائفهم فيه.

    قال الرازي: السؤال بـ(ما) طلب لتعريف حقيقة الشيء. وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة، أو بشيء من أجزائها، أو بأمر خارج عنها، أو بما يتركب من الداخل والخارج. أما تعريفها بنفسها فمحال; لأن المعرف معلوم قبل المعرف. فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوما قبل أن يكون معلوما، وهو محال. وأما تعريفها بالأمور الداخلية فيها، فهاهنا في حق واجب الوجود محال، لأن التعريف بالأمور الداخلة، لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركبا، وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركبا; لأن كل مركب، فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه. وكل واحد من أجزائه فهو غيره; فكل مركب محتاج إلى غيره. وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته. وكل مركب فهو ممكن، فما ليس بممكن يستحيل أن [ ص: 4612 ] يكون مركبا. فواجب الوجود ليس بمركب، وإذا لم يكن مركبا استحال تعريفه بأجزائه. ولما بطل هذان القسمان، ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود، إلا بلوازمه وآثاره.

    ثم إن اللوازم قد تكون خفية، وقد تكون جلية. ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية، بل لا بد من تعريفها باللوازم الجلية. وأظهر آثار ذات واجب الوجود وهو هذا العالم المحسوس، وهو السماوات والأرض وما بينهما.

    فقد ثبت أنه لا جواب البتة لقول فرعون: وما رب العالمين إلا ما قاله موسى عليه السلام، وهو أنه رب السماوات والأرض وما بينهما. فأما قوله: إن كنتم موقنين فمعناه إن كنتم موقنين باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته. لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته، وثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق، وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره. وثبت أن تلك الآثار لا بد وأن تكون أظهر آثاره وأبعدها عن الخفاء، وما ذاك إلا السماوات والأرض وما بينهما. فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال، إلا هذا الجواب.

    ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق، قال فرعون لمن حوله: ألا تستمعون وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى، يعني أنا أطلب منه الماهية، وخصوصية الحقيقة، وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية.

    وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها، لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية، وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء أنه الذي يلزمه اللازم الفلاني، فهذا المذكور، إما أن يكون معرفا لمجرد كونه أمرا ما يلزمه ذلك اللازم. أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزومية والأول محال. لأن كونه أمرا يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفا. فلو كان المكشوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معرفا لنفسه، وهو محال. والثاني محال، لأن العلم بأنه أمر ما، يلزمه اللازم الفلاني، لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزمة، لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك [ ص: 4613 ] الماهيات المختلفة في لوازم متساوية. فثبت أن التعريف بالوصف الخارجي، لا يفيد معرفة نفس الحقيقة فلم يكن كونه ربا للسموات والأرض وما بينهما جوابا عن قوله: وما رب العالمين فأجاب موسى عليه السلام بأن قال: قال ربكم ورب آبائكم الأولين وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض، إلى التعريف بكونه تعالى خالقا لنا ولآبائنا. وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السماوات والأرضين، واجبة لذواتها، فهي غنية عن الخالق والمؤثر. ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده، كونهم واجبين لذواتهم. لما أن المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم، ثم عدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجبا لذاته. وما لم يكن واجبا لذاته، استحال وجوده إلا لمؤثر. فكان التعريف بهذا الأثر أظهر، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول، إليه. فقال فرعون: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون يعني المقصود من سؤال (ما) طلب الماهية، وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون، لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه.

    فقال موسى عليه السلام: قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني، وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار، وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار، والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب، لا يتم إلا بتدبير مدبر، وأما قوله: إن كنتم تعقلون فكأنه عليه السلام قال: إن كنت من العقلاء، عرفت أنه لا جواب عن سؤالك، إلا ما ذكرت، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته بنفس حقيقته. وقد ثبت أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته. فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته. وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته، فقد ثبت أن كل من كان عاقلا، يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته.

    ثم قال الرازي: وقد بينا في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: وهو القاهر [ ص: 4614 ] فوق عباده أن حقيقة الإله سبحانه من حيث هي هي غير معقولة للبشر، انتهى.

    وقال الإمام ابن حزم في (الملل والنحل) في الكلام في المائية: ذهب طوائف من المعتزلة إلى أن الله تعالى لا مائية له. وذهب أهل السنة وضرار بن عمرو ، إلى أن لله تعالى مائية. قال ضرار: لا يعلمها غيره. قال ابن حزم: والذي نقول به، وبالله تعالى التوفيق، أن له مائية هي إنيته نفسها، وإنه لا جواب لمن سأل: ما هو البارئ، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام; إذ سأله فرعون: وما رب العالمين ونقول إنه لا جواب هاهنا لا في علم الله تعالى ولا عندنا، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام. لأن الله تعالى حمد ذلك منه وصدق فيه. ولو لم يكن جوابا صحيحا تاما لا نقص فيه، لما حمده الله تعالى.

    ثم قال: ههنا نقف ولا نعلم أكثر. ولا ههنا أيضا شيء غير هذا، إلا ما علمنا ربنا تعالى، من سائر أسمائه، كالعليم والقدير والمؤمن والمهيمن وسائر أسمائه.

    قال تعالى: ولا يحيطون به علما إذ كل ما أحاط به العلم فهو متناه محدود وهذا منفي عن الله عز وجل، وواجب في غيره، لوقوع العدد المحاط به في أعراض كل ما دونه تعالى، ولا يحاط بما لا حدود له ولا عدد له. فصح يقينا أننا نعلم الله عز وجل حقا، ولا نحيط به علما. انتهى ملخصا.

    ولما سمع فرعون تلك المقالات المبنية على أساس الحكم البالغة، وشاهد شدة حزم موسى عليه السلام وقوة عزمه على دعوته، عدل عن خطة الإنصاف إلى الاعتساف، بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [29 - 39] قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين [ ص: 4615 ] فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونـزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون

    قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونـزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه قرئ بهمز وبدونه، وهما لغتان. يقال أرجأته وأرجيته إذا أخرته. والمعنى أخرهما ومناظرتهما لوقت اجتماع السحرة: وابعث في المدائن حاشرين أي: شرطا يحشرون السحرة، أي: يجمعونهم عندك: يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون أي: لرؤية ما يعارض معجزة موسى. وكان خامر فؤادهم عجب منها واندهاش. والاستفهام مجاز عن الحث والاستعجال.
    [ ص: 4616 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [40 - 46] لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين .

    لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون أي: تبتلع ما موهوا به إفكا وزورا: فألقي السحرة ساجدين أي: على وجوههم منقادين له بالإيمان، لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر. وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لا حقيقة له، التبحر في كل فن نافع وإن لم يكن من العلوم الشرعية، فإن هؤلاء السحرة لتبحرهم في علم السحر، علموا حقيقة ما أتى به موسى عليه السلام، وأنه معجزة. فانتقلوا بزيادة علمهم الذي أداهم إلى الاعتراف بالحق والإيمان، لفرقهم بين المعجزة والسحر. قاله القاضي شهاب.
    [ ص: 4617 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [47 - 51] قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين

    قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر أي: فعلمكم شيئا دون شيء، ولذلك غلبكم. أو فواعدكم ذلك وتواطأتم عليه. أراد به التلبيس على قومه; كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق.

    فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف أي: جانبين متخالفين: ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون أي: لا ضرر علينا في ذلك، بل لنا فيه أعظم النفع، لأنا بفعلك هذا وصبرنا عليه، شهادة على حقيته، إلى ثوابه ورحمته راجعون، فننقلب خير منقلب، شهداء سعداء: إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن أي: لأن: كنا أول المؤمنين أي: من أظهر الإيمان كفاحا، مجاهرة بالحق بلا تقية. ثم أشار تعالى إلى خروج موسى بقومه من مصر بإيحائه إليه. وكان إذن فرعون له بذلك بعد ما أراه الآيات البينات ثم ندم عليه، فأتاه الإذن الإلهي به، كما قال تعالى:
    [ ص: 4618 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [52] وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون .

    وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون أي: سر بهم ليلا، فإنه إذا وصل خبر سيركم إلى فرعون، لا بد أن يتبعكم بجنوده لإرجاعكم، إلا أنكم تتقدمونه ولا يدرككم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [53] فأرسل فرعون في المدائن حاشرين .

    فأرسل فرعون أي: حين أخبر بسراهم: في المدائن حاشرين أي: جامعين لعسكره، قائلين ما يقلل به الأعداء في أعين الجنود:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [54 - 58] إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم .

    إن هؤلاء أي: بني إسرائيل الخارجين: لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون أي: يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا من مخالفة أمرنا والخروج بغير إذن منا: وإنا لجميع حاذرون أي: من مكرهم وسعيهم بالفساد في الأرض: فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم يعني: المنازل الحسنة والمجالس البهية.
    [ ص: 4619 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [59] كذلك وأورثناها بني إسرائيل

    كذلك إشارة إلى مصدر، أي: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم، فهو في محل نصب صفة لمصدر مقدر، أو هو خبر محذوف، أي: كذلك.

    قال الشهاب: وإذا قدر الأمر كذلك فالمراد تقريره وتحقيقه، والجملة معترضة حينئذ كالتي بعدها وأورثناها بني إسرائيل قال الشهاب: هو استعارة; أي: ملكناها لهم تمليك الإرث بعد زمان. وكأن العاقبة، لما كانت لهم، صاروا كأنهم ملكوها حين خروج أربابها منها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [60] فأتبعوهم مشرقين

    فأتبعوهم مشرقين أي: لحقوهم وقت شروق الشمس.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [61 - 63] فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم

    فلما تراءى الجمعان أي: تقاربا رأى واحد منهما الآخر: قال أصحاب موسى إنا لمدركون أي: لملحقون: قال كلا أي: لن يدركوكم فإن الله وعدكم بالخلاص منهم: إن معي ربي سيهدين أي: لطريق النجاة منهم فأوحينا إلى موسى أن [ ص: 4620 ] اضرب بعصاك البحر فانفلق أي: فضربه فانفلق: فكان كل فرق كالطود العظيم أي: كل جزء متفرق منه كالجبل الكبير.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [64 - 68] وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم .

    وأزلفنا أي: قربنا: ثم أي: حيث انفلق البحر: الآخرين يعني فرعون، أي: قدمناهم إلى البحر حتى دخلوا على أثر بني إسرائيل: وأنجينا موسى ومن معه أجمعين أي: بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا ثم أغرقنا الآخرين أي: بإطباقه عليهم: إن في ذلك لآية أي: لعبرة: وما كان أكثرهم مؤمنين أي: مع مشاهدة هذه الآية العظمى التي توجب تصديقه بعدها في كل ما جاء به. منهم من بقي على كفره كبقية القبط. ومنهم من عصاه واقترح عليه ما اقترح كبعض بني إسرائيل. وفيه تسلية للنبي صلوات الله عليه. ووعد له ووعيد لمن عصاه.



  20. #480
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4621 الى صـ 4635
    الحلقة (479)





    القول في تأويل قوله تعالى:

    [69 - 74] واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون .

    واتل عليهم أي: على مشركي العرب: نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون أي: ما الذي تدعونه وتلجئون إليه. وكان عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام، ولكنه سألهم ليريهم، أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء: قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين أي: مقيمين على عبادتها لا نتخطاها إلى غيرها قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون أي: مثل عبادتنا، فقلدناهم.

    قال أبو السعود: اعترفوا بأنها بمعزل مما ذكر من السمع والمنفعة والمضرة بالمرة. واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [75 - 81] قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين .

    [ ص: 4622 ] قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي أي: أفأبصرتم، أو أتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدونه وسلفكم. فإنهم بغضائي: إلا رب العالمين أي: لكن رب العالمين ليس كذلك، فإنه ولي في الدنيا والآخرة، لا أعبد غيره ثم برهن على موجب قصر عبادته عليه تعالى بقوله: الذي خلقني فهو يهدين أي: إلى كل ما يهمني من أمور الدين والدنيا، فإنه تعالى وحده يهدي كلا لم خلق له. والموصول صفة لـ(رب) وجعله مبتدأ وما بعده خبرا - غير حقيق بجزالة التنزيل. قاله أبو السعود.

    والذي هو يطعمني ويسقين أي: يرزقني بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المزن، وأنزل الماء وأحيى به الأرض وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد، وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه مما خلق أنعاما وأناسي كثيرا.

    وإذا مرضت فهو يشفين أي: إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما قدره من الأسباب الموصلة إليه. وإنما نسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى، مع أنهما منه، لمراعاة حسن الأدب معه تعالى. بتخصيصه بنسبة الشفاء الذي هو نعمة ظاهرة إليه تعالى كما قال الخضر: فأردت أن أعيبها وقال: فأراد ربك أن يبلغا أشدهما وكقول الجن في آية: أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ولأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم.

    والذي يميتني ثم يحيين فإنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، لا يقدر على ذلك أحد سواه. فإن قيل إن الموت قد يكون بتفريط الإنسان، وقد أضافه تعالى إلى نفسه، فما الفرق بين نسبة الموت ونسبة المرض في مقتضى الأدب؟ أجيب كما في (الانتصاف): بأن الموت قد علم به بأنه قضاء محتوم من الله تعالى على سائر البشر، وحكم عام لا يخص، ولا كذلك المرض فكم من معافى منه قد بغته الموت; فالتأسي بعموم الموت لعله يسقط أثر كونه بلاء، فيسوغ في الأدب نسبته إلى الله تعالى. وأما المرض، فلما كان مما يخص به بعض البشر دون بعض، كان بلاء محققا. فاقتضى العلو في الأدب مع الله تعالى، أن ينسبه الإنسان إلى نفسه، باعتبار ذلك السبب الذي لا يخلو منه. ويؤيد ذلك أن كل ما ذكره مع المرض، أخبر عن وقوعه بتا وجزما، لأنه أمر لا بد منه. وأما المرض، فلما يتفق وقد لا، أورده مقرونا بشرط إذا فقال: وإذا مرضت وكان ممكنا أن يقول والذي يمرضني فيشفيني، كما في غيره فما عدل عن المطابقة المجانسة المأثورة، إلا لذلك. انتهى.

    قال أبو السعود: وأما الإماتة، فحيث كانت من معظم خصائصه تعالى كالإحياء، بدءا وإعادة، وقد نيطت أمور الآخرة جميعا بها وبما بعدها من البعث نظمها في سمط واحد في قوله تعالى: والذي يميتني ثم يحيين على أن الموت، لكونه ذريعة إلى نيله عليه الصلاة والسلام للحياة الأبدية، بمعزل من أن يكون غير مطموع عنده عليه الصلاة والسلام.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [82] والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين .

    والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين أي: الجزاء. وخطيئته ما كان يراها هو صلوات الله عليه ويعدها بالنسبة لمقامه الكريم.

    قال أبو السعود: ذكره عليه الصلاة والسلام هضما لنفسه وتعليما للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر وطلب مغفرة لما يفرط منهم وتلافيا لما عسى يندر منه عليه السلام من الصغائر، وتنبيها لأبيه وقومه على أن يتأملوا في أمرهم فيقفوا على أنهم من سوء الحال في درجة لا يقادر قدرها، فإن حاله عليه السلام، مع كونه في طاعة الله تعالى وعبادته، في الغاية القاصية، حيث كانت بتلك المثابة. فما ظنك بحال أولئك المغمورين في الكفر، وفنون المعاصي والخطايا؟.

    وتعليق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، مع أنها إنما تغفر في الدنيا، لأن أثرها يومئذ يتبين، ولأن في ذلك تهويلا له وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه، إن لم تغفر، وبعد أن ذكر عنايته تعالى به من مبدأ خلقه إلى بعثه، حمله ذلك على مناجاته، فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [83 - 84] رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين .

    رب هب لي حكما أي: حكمة، أو حكما بين الناس بالحق، أو نبوة، لأن النبي ذو حكم وحكمة وألحقني بالصالحين أي: وفقني لأنتظم في سلكهم، لأكون من الذين جعلتهم سببا لصلاح العالم وكمال الخلق واجعل لي لسان صدق في الآخرين أي ذكرا جميلا بعدي، أذكر به ويقتدى بي في الخير كما قال تعالى: وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين

    قال القتيبي: وضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون به، وقد تكني العرب به عن الكلمة. وعليها حمل قول الأعشى:


    إني أتتني لسان لا أسر بــهـــا من علو، لا عجب منها ولا سخر


    وجوز أن يكون المعنى: واجعل لي صادقا من ذريتي، يجدد أصل ديني ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد. وهو النبي صلى الله عليه وسلم. ولذا قال صلى الله عليه وسلم: « أنا دعوة [ ص: 4625 ] أبي إبراهيم » ، فالكلام بتقدير مضاف. أي: صاحب لسان صدق. أو مجاز بإطلاق الجزء على الكل، لأن الدعوة باللسان.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [85 - 86] واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين

    واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي أي: بهدايته وتوفيقه للإيمان. كما يلوح به تعليله بقوله: إنه كان من الضالين أي: طريق الحق.

    قال الحافظ ابن كثير . قوله: واغفر لأبي إلخ.. كقوله: ربنا اغفر لي ولوالدي وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه إلى قوله: إن إبراهيم لأواه حليم وقد قطع تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه، فقال تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إلى قوله: وما أملك لك من الله من شيء
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [87 - 89] ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم

    ولا تخزني يوم يبعثون أي: لا تلحق بي ذلا وهوانا يومئذ: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. ولا بنوه، وإن كانوا غاية في القوة. فإن الأمر ثمة ليس كما يعهدون [ ص: 4626 ] في الدنيا، بل لا ينفع إلا الموافاة بقلب سليم من مرض الكفر والنفاق والخصال المذمومة والملكات المشؤومة.

    قال الزمخشري : وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أولا عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم. ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع. وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة، فضلا أن يكون حجة. ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عز وعلا، فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وإنشائه، إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته. ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوابين. ثم وصله بذكر يوم القيامة، وثواب الله وعقابه، وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.

    ثم بين سبحانه أن الجنة تكون قريبة من موقف السعداء، ينظرون إليها ويغتبطون [ ص: 4627 ] بأنهم المحشورون إليها. والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم، يتحسرون على أنهم المسوقون إليها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [90 - 94] وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون فكبكبوا فيها هم والغاوون .

    وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين أي: الضالين عن طريق الحق الذي هو الإيمان والتقوى. وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع وتقرره وقيل لهم توبيخا على شركهم: أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون أي: يدفعون العذاب عنكم، أو يدفعونه عن أنفسهم، لأنهم وآلهتهم وقود النار. وهو قوله تعالى: فكبكبوا فيها هم أي: الآلهة: والغاوون أي: وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم.

    قال الزمخشري : والكبكبة تكرير الكب -وهو الإلقاء على الوجه- جعل التكرير في اللفظ على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [95 - 98] وجنود إبليس أجمعون [ ص: 4628 ] قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين .

    وجنود إبليس أي: متبعوه من العصاة: أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين أي: في العبادة، مع أنكم أعجز مخلوقاته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [99] وما أضلنا إلا المجرمون

    وما أضلنا إلا المجرمون أي: رؤساؤهم، كما في آية: ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [100 - 101] فما لنا من شافعين ولا صديق حميم

    فما لنا من شافعين ولا صديق حميم أي: من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله. وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس. فما أغنوا عنهم شيئا. كما قال تعالى: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين قال الزمخشري : و(الحميم) من الاحتمام وهو الاهتمام، وهو الذي يهمه ما يهمك. أو من (الحامة): بمعنى الخاصة. وهو الصديق الخاص. وفيه معنى الحدة والسخونة. كأنه يحتد [ ص: 4629 ] ويحمى، لحماية خليله ورعايته، والقيام بمهماته. وهذا هو الذي قيل: إنه أعز من بيض الأنوق وإنه اسم بلا مسمى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [102 - 104] فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم .

    فلو أن لنا كرة أي: رجعة إلى رجعة إلى الدنيا: فنكون من المؤمنين إن في ذلك أي فيما ذكر من نبأ إبراهيم: لآية أي: لحجة وعظة أراد أن يستبصر بها ويعتبر. وتقدم ما قاله الزمخشري في بديع سياقها: وما كان أكثرهم أي: أكثر قوم إبراهيم: مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم أي: بإنزال الكتب وإرسال الرسل، لدعوة خلقه إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [105 - 111] كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون [ ص: 4630 ] قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون

    كذبت قوم نوح المرسلين لأن تكذيب واحد كتكذيب الكل، لاتفاقهم في أصول الشرائع. وهو نفي الشريك وإثبات البارئ وتوحيده. أو لأن المراد بالجمع الواحد: إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون يعنون من كان وضيع النسب قليل النصيب من الدنيا. فإن الشرف لديهم بالمال والنشب، والحسب والنسب، لا بالأخلاق الفاضلة. والملكات الكاملة. التي تحمل على تعرف الحق والتوجه إليه. ثم اعتناقه والمحافظة عليه. وأكثر ما تكون الأخلاق في مثل المستضعفين. إذا قام عليهم ناصح أمين. إذ لا مال يطغيهم. ولا جاه يلهيهم. وذلك من العناية الربانية فيهم.

    قال الزمخشري : وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما زالت أتباع الأنبياء كذلك، حتى صارت من سماتهم وأماراتهم. ألا ترى إلى هرقل حين سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قال: (ضعفاء الناس)، قال: (ما زالت أتباع الأنبياء كذلك). وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [112] قال وما علمي بما كانوا يعملون

    قال وما علمي بما كانوا يعملون جواب عما أشير إليه من قولهم إنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة. أي: وما علي إلا الظاهر والله يتولى السرائر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [113 - 118] إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون [ ص: 4631 ] وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين .

    إن حسابهم إلا على ربي أي: ما حسابهم على أعمالهم، إلا على ربي المطلع على ضمائرهم: لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين أي: المشتومين أو المرميين بالحجارة: قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا أي: احكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا.

    قال الزمخشري : الفتاحة: الحكومة. والفتاح: الحاكم . لأنه يفتح المستغلق. كما سمي فيصلا لأنه يفصل بين الخصومات. وفي (التهذيب): الفتح أن تحكم بين قوم يختصمون إليك. قال الأشعر الجعفي :


    ألا من مبلغ عمرا رسولا فإني عن فتاحتكم غني


    ونجني ومن معي من المؤمنين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [119 - 128] فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ ص: 4632 ] وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع آية تعبثون .

    فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية أي: فيما فعلنا بهم لعبرة وعظة لمن بعدهم: وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت عاد وهم قوم هود عليه السلام: المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع أي: مكان مرتفع، بكسر الراء وفتحها: آية أي: علامة: تعبثون أي: ببنائها لا للحاجة إليها. بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة. ولهذا أنكر عليهم ذلك. لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة. واشتغال بما هم في غنى عنه. وبما في الشغف به انصراف عن الجد في العمل، وصرف للأموال في غير ما خلقت له، من النظر للنفس والأهل والدين.
    القول في تأويل قوله تعالى:





الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •