تناقض دعاة التغريب

حسن عبدالحي


في الوَقت الذي يخرُج فيه علينا دُعاة التَّغرِيب من أصحاب رايات العلمانيَّة، والليبراليَّة، والديمقراطيَّة، والتنوير... إلخ، ممَّن يهدفون جميعًا لغايةٍ واحدة، وهي الدعوة لتبنِّي الأنظِمَة الغربية كمنهج حياة للمُسلِمين، في هذا الوقت الذي يَخرُج فيه علينا دُعاة التغريب بمبادئ وقَوانين يُحاكِمون إليها غيرَهم، إذا بهم يُخالِفونها جَهرَةً، ويُناقِضونها صَراحةً!

ليُرسخوا فينا من جديدٍ أنَّ ما يَدعُوننا إلى التِزامِه من مَبادِئهم إنما هي تزيينات لفظيَّة فحسب، من لَوازِم بَهْر الأسماع، وإنما هي أهواءٌ أُرِيدَ بها العبث بنا، وتضليلنا عن مَنهَج ديننا، واتِّباعنا للغَرْبِ الذي بهرهم من قبل.

والمتدبِّر لحال هؤلاء التغريبيِّين يَلحَظ لأوَّل وَهْلةٍ تناقُضَهم الصريح فيما يَدعُون الآخَرين إليه في العِلم، وفي المنهج العلمي والموضوعي، وكلمتي الآتية مِثالٌ أو أمثلة مُختَصرة على ذلك التناقُض العجيب لدُعاة التغريب في البِلاد المسلمة.

رفض التعدِّي على التخصُّصات:
من أصول الحجر على العُلَماء والمشايخ والدُّعاة عند دُعاة التغريب: التغنِّي بمبدأ "احتِرام التخصُّص"، وهم - كما هو معلوم من حالهم - إنما يُعمِلون هذا الأصل - الذي نُوافِق عليه إجمالاً - في حجب الدِّين عن الدُّنيا، والعِلم الشرعي عن العلم الإنساني، فليس لعُلَماء الشَّرع أنْ يتكلَّموا فيما جدَّ من مُعامَلات أو ابتِكارات حديثة؛ وذلك - عندهم - لأنَّه خارج تخصُّصهم!

وبطبيعة الحال، فإنَّ العُلَماء والدُّعاة إنما يَتناوَلون ما جَدَّ على حَياة الناس من مُنطَلق واسِع وكبير، وهو عدَم مُخالَفة القَواعِد الشرعيَّة المُندَرِج تحتَها آلاف الآلاف من المسائل المستجدَّة؛ مثل: بيوع الغرر، بأيِّ شكلٍ وقع حُرِّم، أو مخالفة الأحكام الشرعيَّة الثابتة؛ مثل: تحريم الربا، لكن رد الواقع بقَضاياه للشرع ممَّا يَغِيظ التغريبيِّين حَدِيثًا، كما غاظَ المنافقين قديمًا.

ثُمَّ سرعان ما يَنسَى التغريبيُّون تلك القاعِدة التي يُعمِلونها لطَمْسِ الدِّين عن الواقع وعن الناس، فنَراهُم يتبجَّحون غايَةَ التبجُّح ويتكلَّمون في العلوم والأحكام الشرعيَّة بِمَحضِ عقولهم وأهوائهم، ويُطلِقون الأحكام، فيُحِلُّون ما وافَق هَواهُم، ويُحرِّمون ما خالَف هَواهم، ولا يحترمون التخصص وأهله!

فأيُّ الفريقين أحقُّ بالكلام عن رفْض التعدِّي على التخصُّص واحترامه؟

الاهتمام بالظاهر:
وعلى جانِبٍ آخَر، جانِب حديث التغريبيِّين عن المَظهَر وانشِغال الدُّعاة الإسلاميِّين به، ننظُر فنرى عجبًا، نرى التناقُض أوضح من الشَّمس في رابعة النهار؛ نرى التغريبيين هم أكثر الناس اهتِمامًا بالحديث عن المَظهَر الخارجي، هم الذين يَلمِزون الحجاب والنِّقاب، هم الذين يتأذَّون من أيِّ مظهر إسلامي.

فإذا كان المَظهَرُ من القشور كما يدَّعِي التغريبيُّون، فعَلامَ كلُّ هذه الاستِماتَة في رفْض النِّقاب، ولَمْز اللِّحية وتَقصِير الثِّياب؟

أمَّا إذا كان الحديثُ حديثًا دعويًّا عن ترك التشبُّه بغير المسلمين، وأخْذ الإسلام جملة واحدة، في الظاهر والباطن، في المظهر والمضمون، فعندئذٍ تعلُو الأصوات بأنَّنا نتمسَّك بالقشور والمظاهر، فهو حَلال لهم مُحارَبة الظاهر، حَرام علينا الكلامُ فيه!

فأيُّ الفريقَيْن أحقُّ بالحديث عن ترْك المَظهَر، والتمسُّك بالجوهر؟

التعدُّدية وقبول الآخَر:
ليلَ نهار نَسمَع دُعاة التغريب يتحدَّثون عن التعدُّدية وقبول الآخَر، ويعنون بهذا الرُّكون إلى الغَرْبِ، ومُوالاته مُوالاة المسلم للمسلم، فمِن قبول الآخَر مُساوَاة الكافر بالمسلم، والفاسق بالتَّقي، ورفْض إنكار المنكر؛ لأنَّ الآخَر له حريَّة التصرُّف والاختِيار، وإنْ كان تصرُّفه واختِياره مُخالِفًا للأديان والأعراف!

والإسلام لا يُحاسِب أحدًا بِمُقتَضى مُخالَفته لأحدٍ من البشَر، وإنما بِمُقتَضَى مُخالَفته لخالِق البشر، فدُعاة الإسلام إنما يُنكِرون ما أوجَبَ الله إنكاره، وما أوجَبَه الله على العَبِيد حَقٌّ ثابت لا تُزَحزِحه شعارات التغريبيِّين، كما أنَّ المساواة فيما فرَّق الله مُحادَّة لله - تعالى -: ﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين َ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [القلم: 35 - 36].

وعلى الرغم من كلِّ هذا، لا يَقبَل التغريبيُّون بالتعدُّدية ولا بوُجُود الآخَر، فتَراهُم دائمي الإنكار على دُعاة الله، فيَصِفُونهم بالمُنغَلِقين والجامدين و.... وهو عين التناقُض فيما يَدعونَنا إليه من قبول الآخَر واحتِرام التعدُّدية.

فأيُّ الفريقين أحقُّ بالحديث عن قبول الآخَر واحترام التعدُّدية؟


الدعوة إلى المنهج العلمي الموضوعي:
وتلك حيلةٌ تغريبيَّة أخرى، يُقصَد بها تعظيم وقبول الناس للنتائج البحثيَّة التي يصل لها التغريبيُّون، حتى الشرعيَّة منها، والدَّعوة للمنهج العلمي الموضوعي عند التغريبيِّين مجرَّد إعلان يُقصَد به إنفاق سلعة كاسدة فاسدة.

فنجد التغريبي يتكلَّم بلا منهجٍ علمي أو موضوعي يُناسِب عقلَ القارئ البسيط، فضلاً عن المثقَّف أو المتخصِّص، وليس أدلّ على هذا من الأعمال التغريبيَّة ونتائجها التي يُخالِف فيها أصحابُها الأسس والأصول المنهجيَّة الأولى للعلم والمنهج، كما أنكَرَ بعضهم ضِمنًا قصص إبراهيم - عليه السلام - في القُرآن، ولعلَّه رجَع بعد ذلك فيما رجع، وكما يَفعَل التغريبيُّون إلى يومنا هذا من إنكار مُسَلَّمات قرآنيَّة بحكاوي تاريخيَّة لا تَثبُت صحَّتها بالسند المُعتَبَر، والقُرآن ثابتٌ بالتواتُر، وهو كلام ربِّ البشر، فأيُّ منهجٍ علمي يجرُّ إلى مُخالَفة المتواتر بالمظنون، وما لا يرتَقِي أصلاً إلى المَظنُون؟

في حين أنَّ التغريبيِّين هم أكثَرُ الناس رَدًّا للأحكام الثابتة بأخبار الآحَاد بزَعْمِ مخالفتها للمُتَواتِر القرآني، أو حتى من غير مُخالَفتها للمتواتر؛ فقط لكونها غير متواترة!

فأيُّ تناقُض في المنهج العلمي والموضوعي هذا التناقُض الذي يُخالِف المتواتر تارَةً بالضعيف وما لا يَثبُت، ويُرد به الأحكام الشرعيَّة تارَةً أخرى لأنَّها غير مُتَواتِرة كالقرآن؟

وتلك أمثلة على تناقُض المنهج التغريبي، سَواء فيما يَدعو إليه المنهج في ذاته، أو فيما يُقَيِّم به المناهج الأخرى.

والمنهج لا تثبُت صحَّته إلاَّ بانتِفاء التناقُض عنه وعن أصوله، قال الله - تعالى -: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، فكلُّ منهجٍ بشريٍّ يعتَرِيه التناقُض والاختِلاف، بعَكْسِ منهج الله - تعالى - الثابت والواحد؛ ذلك أنَّ شرطَ انتِفاء التناقض انتفاءُ الأهواء، والبشر لا يُمكِن أنْ تنتفي أهواؤهم؛ لحاجتهم المستمرَّة والدائمة، بِخِلاف الله القيُّوم والغني.

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.