تفسير سورة عبس
يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
سُورَةُ (عَبَسَ): سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ[1]، وَآيُهَا ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ آيَةً[2].
أَسْمَاءُ السُّورَةِ:
وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ أَسْمَائِهَا: سُورَةُ الصَّاخَّةِ، سُورَةُ السَّفَرَةِ، سُورَةُ الْأَعْمَى، وَسُورَةُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ[3].
الْمَقاصِدُ الْعَامَّةُ مِنَ السُّورَةِ:
حَوَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَقاصِدِ وَالمَعَانِي الْعَظِيمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ[4]:
• بَيَانُ حَالِ الْأَعْمَى.
• ذِكْرُ شَرَفِ الْقُرْآنِ.
• إِقَامَةُ الْأَدِلَّةِ وَالْبَراهِينِ عَلَى الْبَعْثِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَاسْتِفَادَتُه ُ مِنْ حَالِ النَّبَاتِ.
• حَالُ أَهْلِ الدَّرَجَاتِ وَالدَّرَكَاتِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
سَبَبُ النُّزُولِ:
جَاءَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: حَدِيثٌ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أُنْزِلَ: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، أَتَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرْشِدْنِي، وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَقُولُ: أَتَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا؟ فَيَقُولُ: لَا، فَفِي هَذَا أُنْزِلَ»[5].
شَرْحُ الآيَاتِ:
قَوْلُهُ: ﴿ عَبَسَ ﴾، أَيْ: ظَهَرَ أَثَرُ التَّغَيُّرِ وَالْعُبوسِ في وَجْهِهِ صلى الله عليه وسلم ، ﴿ وَتَوَلَّى ﴾، أَيْ: أَعْرَضَ لِأَجْلِ ﴿ أَن جَاءهُ الأَعْمَى ﴾، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُوم رضي الله عنه[6].
قَوْلُهُ: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ ﴾، أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ عَالِمًا بِحالِهِ[7]، ﴿ ﱊﱋﱌ ﴾، ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾أَيْ: يَتَطَهَّرُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ[8].
قَوْلُهُ: ﴿ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ﴾، أَيْ: أَوْ يَتَّعِظُ فتنفعه الْمَوْعِظَةُ[9].
قَوْلُهُ: ﴿ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ﴾عَنِ الْإِسْلَامِ، ﴿ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ﴾، أَيْ: تَتَعَرَّضُ لَهُ وَتُقْبِلُ عَلَيْهِ رَغْبَةً في إِسْلَامِهِ[10].
قَوْلُهُ: ﴿ وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ﴾، أَيْ: لَا إِثْمَ عَلَيْكَ إِنْ لَمْ يَتَطَهَّرْ وَيُسْلِمْ وَيَهْتَدِي، فَإِنْ عَلَيْكَ إلَّا الْبَلاغُ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ [سورة الأنعام:52][11].
قَوْلُهُ: ﴿ وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى ﴾، أَيْ: وَأَمَّا الَّذِي جَاءَكَ مُسْرِعًا بِالْمَجِيءِ طَالِبًا لِلْخَيْرِ[12]، ﴿ وَهُوَ يَخْشَى ﴾ اللَّهَ وَيَخَافُ عَذَابَهُ، ﴿ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴾، أَيْ: تَتَشاغَلُ[13].
قَوْلُهُ: ﴿ كَلاَّ ﴾ رَدْعٌ وَزَجْرٌ، أَيْ: لَا تَعُدْ إِلى مِثْلِهِ، ﴿ إِنَّهَا ﴾، يَعْنِي: هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ أَوْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، ﴿ تَذْكِرَة ﴾، أَيْ: مَوْعِظَةٌ وَتَذْكِيرٌ لِلْمُتَّقِينَ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِين ﴾ [سورة آل عمران:138][14].
قَوْلُهُ: ﴿ فَمَن شَاء ذَكَرَه ﴾، أَيْ: فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَيَتَّعِظَ بِهِ قَرَأَهُ وَاتَّعَظَ بِهِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾[سورة الإنسان:29][15].
قَوْلُهُ: ﴿ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَة ﴾، أَيْ: هَذَا الْقُرْآنَ فِي صُحُفٍ مُعَظَّمَةٍ عِنْدَ اللَّهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين ﴾[سورة المائدة:15][16].
قَوْلُهُ: ﴿ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَة ﴾، أَيْ: مرفوعة بِالذِّكْرِ وَالْقَدْرِ[17]، مُطَهَّرة مُنَزَّهَة مِنْ كُلِّ دَنَسٍ، وَسَالِمَةٍ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَالتَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد ﴾ [سورة فصلت:42][18].
قَوْلُهُ: ﴿ بِأَيْدِي سَفَرَة ﴾، أَيْ: كَتَبَةٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ سُفَرَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُسُلِهِ[19].
قَوْلُهُ: ﴿ كِرَامٍ ﴾عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، ﴿ بَرَرَة ﴾، أَيْ: أَتْقِياءَ أَطْهَارًا، لَا يُقَارِفُونَ ذَنْبًا، مُطِيعِينَ للهِ، صَادِقِينَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون ﴾ [سورة التحريم:6][20].
قَوْلُهُ: ﴿ قُتِلَ الإِنسَانُ ﴾، أَيْ: لُعِنَ الْكَافِر، ﴿ مَا أَكْفَرَه ﴾: تَعَجُّبٌ مِنْ كُفْرِهِمْ، أَيْ: مَا أَشَدَّ كُفْره بِرَبِّهِ!! كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار ﴾ [سورة إبراهيم:34]، وَقَالَ: ﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُور ﴾ [سورة الحج: 66][21].
قَوْلُهُ: ﴿ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَه ﴾اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ[22]، ثُمَّ بَيَّنَهُ فَقَالَ:﴿ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ ﴾، أَيْ: خَلَقَهُ اللهُ مِنْ مَاءِ مَهِينٍ، وَهُوَ الْمَنِيُّ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾ [سورة القيامة:37-40]. ﴿ فَقَدَّرَه ﴾، أَيْ: قَدَّرَهُ أطْوَارًا إِلى أَنْ أتَمَّ خِلْقَتهُ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِين * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِين * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين ﴾ [سورة المؤمنون: 12-14][23].
قَوْلُهُ: ﴿ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَه ﴾، أَيْ: ثُمَّ طَرِيقَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ[24] يَسَّرهُ وَسَهَّلَهُ، وَقِيلَ: أَيْ: بَيَّنَ لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [سورة الإنسان:3][25].
قَوْلُهُ: ﴿ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَه ﴾، أَيْ: ثُمَّ قَبَضَ رُوْحَهُ وجَعَلَهُ ذَا قَبْرٍ يُوَارَى فِيهِ لَا كَالبَهَائِمِ[26].
قَوْلُهُ: ﴿ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَه ﴾، أَيْ: ثُمَّ إذَا شاءَ اللهُ أَحْيَاهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، يُقَالُ: أَنْشَرَ اللهُ الْمَيِّتَ، بِمَعْنَىْ: أَحْيَاهُ[27].
قَوْلُهُ: ﴿ كَلاَّ ﴾: رَدْعٌ وَزَجْرٌ لِلْإنْسَانِ عَنِ الْكُفْرِ، ﴿ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَه ﴾، أَيْ: أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ وَلَمْ يُؤَدِّ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ مِنَ الْإِيمَانِ[28].
قَوْلُهُ: ﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِه ﴾، أي: فلْيَنْظُر نَظَرَ اعْتِبَارٍ وَتَفَكُّرٍ وَتَأَمُّلٍ إِلِىْ طَعَامِهِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ حَيَاتِهِ كَيْفَ قُدِّرَ وَدُبِّرَ لَهُ؟[29].
قَوْلُهُ: ﴿ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ﴾، أَيْ: أَنْزَلْنَا الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ بِقُوَّةٍ وَغَزَارَةٍ[30].
قَوْلُهُ: ﴿ ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا ﴾، أَيْ: ثُمَّ فَتَقْنَا الْأَرْضَ فَصَدَّعْنَاهَا بِالنَّبَاتِ[31].
قَوْلُهُ: ﴿ فَأَنبَتْنَا فِيهَا ﴾، أَيْ: في الْأَرْضِ، ﴿ حَبًّا ﴾، الْحَبُّ هُوَ: كُلُّ مَا حُصِدَ كَالحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أَنْوَاعًا مِنَ النَّبَاتِ وَذَكَرَ الْحَبَّ أَوَّلَها لِأَنَّهُ أَهَمُّهَا، إِذْ هُوَ الْأَصْلُ فِي قُوتِ الإِنْسَانِ[32].
قَوْلُهُ: ﴿ وَعِنَبًا ﴾، الْعِنَب: مَعْرُوْفٌ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ وَأَنْفَعِ النَّباتِ؛ لِأنَّهُ غِذَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَفَاكِهَةٌ مِنْ وَجْهٍ[33]، ﴿ وَقَضْبًا ﴾، أَيْ: وَعَلَفًا لِلدَّوَابِّ؛ سمي بذلك لأنه يقضب ويقطع مرة بعد مرة[34].
قَوْلُهُ: ﴿ وَزَيْتُونًا ﴾، أَيْ: وَأَنْبَتْنَا لَكُمْ فِي الْأَرْضِ زَيْتُونًا تَأْكُلُونَهُ وَتَدَّهِنُونَ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَشْجَارِ وَأَكْثَرِهَا بَرَكَةً، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ [سورة النور:35][35]. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُوا الزَّيْتَ، وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ»[36].
قَوْلُهُ: ﴿ وَنَخْلاً ﴾، وَهِيَ شَجَرَةٌ عَظِيمَةُ الْبَرَكَةِ كَثِيرَةُ النَّفْعِ[37]، كَمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِيَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا بِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هِيَ النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي، فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا»[38].
قَوْلُهُ: ﴿ وَحَدَائِقَ غُلْبًا ﴾، أَيْ: وَبَسَاتِينَ عَظيمَةً، كَثِيرَةَ الْأَشْجَارِ[39].
قَوْلُهُ: ﴿ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ﴾، الفَاكِهَةُ: مَا يُؤْكَلُ مِن ثِمَارِ الأشْجَارِ، والْأَبُّ: الْعَلَفُ الَّذِي تَأْكُلُهُ الْبَهَائِمُ[40].
قَوْلُهُ: ﴿ مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُم ﴾، أَيْ: لِتَنْعَمُوا بِهِ أَنْتُمْ وَأَنْعَامُكُمْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَنْعَامِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ تَعَالَى وَسَخَّرَهَا لَكُمْ[41].
قَوْلُهُ: ﴿ فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّة ﴾، أَيْ: إِذَا جَاءَتْ صَيْحَةُ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ الصَّيْحَةُ الْعَظيمَةُ الَّتِي تُصَمُّ مِن هَوْلِهَا وَشِدَّتِهَا الْأَسْماعُ، وَالَّتِي يَكُونُ بِهَا قِيَامُ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ[42].
قَوْلُهُ: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ ﴾، أَيْ:يَهْرُبُ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيه * وَأُمِّهِ وَأَبِيه ﴾، أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَشْفَقِهِمْ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: ﴿ وَصَاحِبَتِهِ ﴾، أَيْ: زَوْجَتِهِ، ﴿ وَبَنِيه ﴾.
قَوْلُهُ: ﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه ﴾، أَيْ: لِكُلِّ إنْسانِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْرٌ يَشْغَلُهُ عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَيَصْرِفُهُ عَنْهُمْ[43]، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّه! الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ؟ قَالَ: يَا عَائِشَةُ! الأَمرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَلِكَ»[44]، وفي روايةٍ: «الأَمْرُ أَهَمُّ مِن أَنْ يَنْظُرَ بَعضُهُمْ إِلى بَعْضٍ»[45].
قَوْلُهُ: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ﴾، أَيْ: مُضِيئَةً[46]، ﴿ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَة ﴾، أَيْ: مَسْرُورَةٌ فرحةٌ لِمَا تَرى مِنَ النَّعِيمِ، وَهَؤُلاءِ هُمُ السُّعَدَاءُ[47].
قَوْلُهُ:﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ﴾، أَيْ: غُبَارٌ، ﴿ تَرْهَقُهَا ﴾، أَيْ: تَغْشَاهَا، ﴿ قَتَرَة ﴾، أَيْ: سَوَادٌ وَظُلْمَةٌ وَذِلَّةٌ لِمَا تَرَى مِنَ الْكَرْبِ الشَّديدِ، وَالْهَمِّ الْعَظيمِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-[48].
قَوْلُهُ: ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَة ﴾، أَيْ: الَّذِينَ جَمَعُوا إِلَى الْكُفْرِ الْفُجُورَ، وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ في وُجُوهِهِمْ بَيْنَ السَّوادِ وَالْغَبَرَةِ، كَمَا جَمَعُوا بَيْنَ الكُفْرِ وَالْفُجُورِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-[49].
بَعْضُ الْفَوَائِدِ الْمُسْتَخْلَصَ ةِ مِنَ الْآيَاتِ:
مُعَاتَبَةُ اللهِ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:
فِيْ قَوْلِهِ تَعَالَىْ: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾: عَاتَبَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم ، وَهُوَ أَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيِهِ، وَأَفْضَلُهُمْ عِنْدَهُ؛ بَعْدَ هَذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي حَدَثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ رضي الله عنه، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَشْغُولًا بِدَعْوَةِ صَنادِيدِ قُرَيْشٍ، فَأَتَاهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ رَجُلٌ أَعْمَى، وَقَالَ: «أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلِّمْنِي مِمّا عَلَّمَكَ اللَّهُ»، وَكَرَّرَ ذَلِكَ فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ وَمَا هُوَ مُشْتَغِلٌ بِهِ صلى الله عليه وسلم ، وَمَا يَرْجُوهُ مِمّا هُوَ أَعْظَمُ، فَعَبَسَ وَتَوَلّى عَنْهُ مُنْصَرِفًا لِمَا هُوَ مُشْتَغِلٌ بِهِ[50].
تنبيهٌ: وَمَا حَصَلَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَتَنَافَى مَعَ مَا جَاءَ فِي حُسْنِ خُلُقِهِ، وَالْأَمْرِ بِالاقْتِدَاءِ بِهِ، فَهُوَ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنُ النَّاسِ خُلُقًا، وَهُوَ وَحْدَهُ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ، لَكِنَّهُ بَشَرٌ يَعْتَرِيهِ مَا يَعْتَرِي الْبَشَرَ مِنَ الْأَعْرَاضِ كَالْغَضَبِ وَالسُّرُورِ وَالْمَرَضِ وَالصِّحَةِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ عَلَى جَسَدِهِ وَمَلَامِحِ وَجْهِهِ، فَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ عِنْدَمَا يَرَى مَا يَكْرَهُ، وَيَظْهَرُ عَلَيْهِ السُّرُورُ عِنْدَمَا يَرَى مَا يُحِبُّ.
وَسَبَبُ عُبُوسِ وَجْهِهِ صلى الله عليه وسلم إِلْحَاحُابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ،وَهُو َ مَعْذُورٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى حَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَانْشِغَالَهُ عَنْهُ.
حُسْنُ عِتَابِ اللهِ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:
فِيْ قَوْلِهِ تَعَالَىْ: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾: أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَاتَبَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِمُنْتَهَى التَّكْرِيمِ وَالتَّعْظيمِ وَاللُّطْفِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى وَجَّهَ كَلَامَهُ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِصِيغَةِ الْغَائِبِ، وَكَأَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ إِلَى غَيْرِهِ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾، وَلَمْ يَقُلْ: عَبَسْتَ وَتَوَلَّيْتَ أَنْ جَاءَكَ الْأَعْمَى، لَكِنْ صَرَفَ الْخِطَابَ عَنْهُ إِلَى مَجْهُولٍ، أَيْ: عَبَسَ الرَّجُلُ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى[51].
وَنَسْتَفِيدُ مِنَ هَذَا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَلِّمُنَا كَيْفِيَّةَ الْعِتَابِ لِمَنْ نُحِبُّ، فَإِذَا عَاتَبْتَ حَبِيبًا فَتَلَطَّفْ فِي الْعِتَابِ، وَعَامِلْهُ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ، وَصَحِّحِ الْخَطَأَ دُونَ أَنْ يَشْعُرَ بِالْحَرَجِ.
حِرْصُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الدَّعْوَةِ:
فِي الْآيَاتِ الْأُولَى يَظْهَرُ حِرْصُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الدَّعْوَةِ لِلْإِسْلَامِ بِشَتَّى الطُّرُقِ وَالْوَسَائِلِ، حَيْثُ إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْذُلُ كُلَّ مَا في وُسْعِهِ مِنْ أَجْلِ هِدَايَةِ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَصَدَقَ اللهُ تَعَالَى الْقَائِلُ: ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِين َ رَؤُوفٌ رَّحِيم ﴾ [سورة التوبة:128][52].
لا يَنْبَغِيْ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَدْعُوِّينَ إِلَى اللهِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ﴾: بَيَانُ أَنَّ عَلَى الدَّاعِيَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْ لَا يُمَيِّزَ فِي الدَّعْوَةِ بَيْنَ فَقِيرٍ وَغَنِيٍّ، وَرَئِيسٍ وَمَرْؤُوسٍ. قَالَ الزُّرْقَانِيُّ رحمه الله: "فَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى التَّرْحِيبِ بِالْفُقَراءِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ فِي مَجَالِسِ الْعِلْمِ، وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَعَدَمِ إِيثَارِ الْأَغْنِيَاءِ عَلَيْهِمْ"[53].
الْحَذَرُ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُؤْمِنِ فِي الدَّعْوَةِ:
فِيْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾: إِشَارَةٌ إِلَى الحَذَرِ مِنَ الإِعْرَاضِ عَنِ الْمُؤْمِنِ فِي الدَّعْوَةِ مَهْمَا كَانَتْ حَالُهُ، فَلَعَلَّ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ التَّزْكِيَةِ وَالنَّصْرِ وَالرِّفْعَةِ لِلْإِسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِين َ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ، فَكَمْ جَعَلَ اللهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ فِي أُنَاسٍ لَا يُؤْبَهُ لَهُمْ، وَكَفَى شَرًّا أَنْ يُحَقّر مُسْلْمٌ كَائِنًا مَنْ كَانِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الاِحْتِقَارُ فِي الدَّعْوَةِ إِلى اللهِ تَعَالَى؟
عِزَّةُ الإِسْلَامِ فِي عَدَمِ الْحِرْصِ عَلَى هِدَايَةِ الْمُعْرِضينَ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ﴾: دَرْسٌ عَظِيمٌ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الله تَعَالَى، يَسْتَفِيدُ مِنْهُ الدُّعَاةُ إِلَى اللهِ تَعَالَى في بَيَانِ عِزَّةِ هَذَا الدِّينِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْرَضُ عَلَى مَنْ لَمْ يَطْلُبْهُ إِلَّا عَرْضًا عَزِيزًا، دُونَ إِلْحَاحٍ أَوْ جَرْيٍ وَرَاءَ الْمَدْعُوِّ، أَمَّا مَنْ جَاءَ يَسْعَى وَيَطْلُبُ لِنَفْسِهِ، فَهَذَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ الدَّاعِيَةُ، وَيَسْتَجيبُ لِمَا أَرَادَ، فَهَذَا جَاءَ مَفْتُوحَ الْقَلْبِ مُسْتَعِدًّا لِلاِسْتِجَابَة ِ.
مِنْ أَدْلَّةِ صِدْقِ رِسَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم:
في هَذِهِ الْآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ رِسَالَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَأَنَّهُ -كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ-لَوْ كَتَمَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَاتِ[54].
الْإِقْبَالُ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ الْحَرِيصِينَ عَلَى الدَّعْوَةِ:
في قِصَّةِ عِتَابِ اللهِ تَعَالَىْ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيْ شأْنِ إعراضِهِ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ: أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ هُوَ أَوْلَى بِالدَّعْوَةِ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ؛ وَلِذَلِكَ جَاءَ الْعِتَابُ مِنْ أَجْلِ إِرْشَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يَهْتَمَّ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُتَحَقِّقَة ِ، وَأَلَّا يَنْشَغِلَ عَنْهَا بِمَصْلَحَةٍ مُتَوَهَّمَةٍ، حَيْثُ إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ رضي الله عنه كَانَ إِسْلَامُهُ صَحِيحًا، بَيْنَمَا مَنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَاوِلُ دَعْوَتَهُمْ لِلْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ إِذَا كَانُوا سَيَهْتَدَوْنَ أَمْ لَا. قَالَ السَّعْدِيُّ رحمه الله: "فَدَلَّ هَذَا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ: (لَا يُتْرَكُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ، وَلَا مَصْلَحَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ لِمَصْلَحَةٍ مُتَوَهَّمَةٍ)، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي الْإِقْبَالُ عَلَى طالِبِ الْعِلْمِ، الْمُفْتَقِرِ إِلَيْهِ، الْحَريصِ عَلَيْهِ؛ أَزْيَدَ مِنْ غَيْرِهِ"[55].
مَشْرُوعِيَّةُ التَّذْكيرِ مِنْ غَيْرِ جَبْرٍ عَلَى الاِهْتِدَاءِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَة * فَمَن شَاء ذَكَرَه ﴾: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الدَّاعِيَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى التَّبْلِيغُ وَالتَّذْكيرُ فَقَطْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبرَ النَّاسَ عَلَى الْهِدَايَةِ. قَالَ السَّعْدِيُّ رحمه الله: "وَهَذِهِ فَائِدَةٌ كَبِيرَةٌ، هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَوَعْظِ الْوُعَّاظِ، وَتَذْكيرِ الْمُذَكِّرِينَ ، فَإِقْبَالُكَ عَلَى مَنْ جَاءَ بِنَفْسِهِ مُفْتَقِرًا لِذَلِكَ مِنْكَ، هُوَ الْأَلْيَقُ الْوَاجِبُ، وَأَمَّا تَصَدِّيكَ وَتَعَرُّضُكَ لِلْغَنِّي الْمُسْتَغْنِي، الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَلَا يَسْتَفْتِي لِعَدَمِ رَغِبَتِهِ فِي الْخَيْرِ، مَعَ تَرْكِ مَنْ هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ لَا يَزَّكَّى، فَلَوْ لَمْ يَتَزَكَّ فَلَسْتَ بِمُحَاسَبٍ عَلَى مَا عَمِلَهُ مِنَ الشَّرِّ"[56].
الاتِّعَاظُ بِالْقُرْآنِ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ تَوْفِيقٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى:
في قَوْلِهِ تَعَالَىْ: ﴿ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَة * فَمَن شَاء ذَكَرَه ﴾أَمْرَانِ:
الأول: بَيَانُ أَنَّ الاِنْتِفَاعَ وَالاِتِّعَاظَ بِالْقُرْآنِ الْعَظيمِ إِلْهَامٌ وَتَوْفِيقٌ وَمِنَّةٌ وَاصْطِفَاءٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
الثاني: أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظيمَ مَوْعِظَةٌ لِلنَّاسِ؛ فَمَنْ أَرَادَ الاِتِّعَاظَ وَالاِنْتِفَاعَ بِهِ اتَّعَظَ وَانْتَفَعَ بِهِ[57].
حِفْظُ اللهِ لِلْقُرْآنِ مِنَ التَّحْريفِ وَالتَّبْدِيلِ:
في قَوْلِهِ تَعَالَىْ: ﴿ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَة * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَة ﴾: أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظيمَ مَحْفُوظٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى مِنَ التَّبْديلِ وَالتَّحْريفِ وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون ﴾ [سورة الحجر:9]. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: "قَوْلُهُ: ﴿ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَة * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَة ﴾: أَيْ: هَذِهِ السُّورَةُ أَوِ الْعِظَةُ، وَكِلَاهُمَا مُتَلَازِمٌ، بَلْ جَميعُ الْقُرْآنِ ﴿ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَة ﴾، أَيْ: مُعَظَّمَةٍ مُوَقَّرَةٍ، ﴿ مَّرْفُوعَةٍ ﴾، أَيْ: عَالِيَةِ الْقَدْرِ، ﴿ مُّطَهَّرَة ﴾، أَيْ: مِنَ الدَّنَسِ وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ"[58].
يتبع