تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 26 من 27 الأولىالأولى ... 161718192021222324252627 الأخيرةالأخيرة
النتائج 501 إلى 520 من 530

الموضوع: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

  1. #501
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (501)
    صــ 96 إلى صــ 110






    القول في تأويل قوله ( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة " ، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، على القاعدين من أولي الضرر ، درجة واحدة يعني فضيلة واحدة وذلك بفضل جهاده بنفسه ، فأما فيما سوى ذلك ، فهما مستويان ، كما : - [ ص: 96 ]

    10252 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك : أنه سمع ابن جريج يقول في : " فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة " ، قال : على أهل الضرر .
    القول في تأويل قوله ( وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ( 95 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : " وكلا وعد الله الحسنى " ، وعد الله الكل من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، والقاعدين من أهل الضرر الحسنى ويعني جل ثناؤه : ب الحسنى الجنة ، كما : -

    10253 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "وكلا وعد الله الحسنى" ، وهي الجنة ، والله يؤتي كل ذي فضل فضله .

    10254 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : الحسنى الجنة .

    وأما قوله : " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما " ، فإنه يعني : وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر ، أجرا عظيما ، كما : -

    10255 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، [ ص: 97 ] عن ابن جريج : " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة " ، قال : على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر .
    القول في تأويل قوله ( درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ( 96 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : "درجات منه" ، فضائل منه ومنازل من منازل الكرامة .

    واختلف أهل التأويل في معنى "الدرجات" التي قال جل ثناؤه : درجات منه .

    فقال بعضهم بما : -

    10256 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " درجات منه ومغفرة ورحمة " ، كان يقال : الإسلام درجة ، والهجرة في الإسلام درجة ، والجهاد في الهجرة درجة ، والقتل في الجهاد درجة .

    وقال آخرون بما : -

    10257 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سألت ابن زيد عن قول الله تعالى : " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه " "الدرجات" هي السبع التي ذكرها في "سورة براءة" : ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ) فقرأ حتى بلغ : [ ص: 98 ] ( أحسن ما كانوا يعملون ) [ سورة التوبة : 120 - 121 ] . قال : هذه السبع الدرجات . قال : وكان أول شيء ، فكانت درجة الجهاد مجملة ، فكان الذي جاهد بماله له اسم في هذه ، فلما جاءت هذه الدرجات بالتفصيل أخرج منها ، فلم يكن له منها إلا النفقة ، فقرأ : ( لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ) ، وقال : ليس هذا لصاحب النفقة . ثم قرأ : ( ولا ينفقون نفقة ) ، قال : وهذه نفقة القاعد .

    وقال آخرون : عنى بذلك درجات الجنة .

    ذكر من قال ذلك .

    10258 - حدثنا علي بن الحسن الأزدي قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن هشام بن حسان ، عن جبلة بن سحيم . عن ابن محيريز في قوله : " وفضل الله المجاهدين على القاعدين " ، إلى قوله : درجات قال : الدرجات سبعون درجة ، ما بين الدرجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بتأويل قوله : "درجات منه" ، أن يكون معنيا به درجات الجنة ، كما قال ابن محيريز . لأن قوله تعالى ذكره : "درجات منه" : ترجمة وبيان عن قوله : "أجرا عظيما" ، ومعلوم أن "الأجر" ، إنما هو الثواب والجزاء . [ ص: 99 ] وإذ كان ذلك كذلك ، وكانت "الدرجات والمغفرة والرحمة" ترجمة عنه ، كان معلوما أن لا وجه لقول من وجه معنى قوله : "درجات منه" ، إلى الأعمال وزيادتها على أعمال القاعدين عن الجهاد ، كما قال قتادة وابن زيد : وإذ كان ذلك كذلك ، وكان الصحيح من تأويل ذلك ما ذكرنا ، فبين أن معنى الكلام : وفضل الله المجاهدين في سبيل الله على القاعدين من غير أولي الضرر ، أجرا عظيما ، وثوابا جزيلا وهو درجات أعطاهموها في الآخرة من درجات الجنة ، رفعهم بها على القاعدين بما أبلوا في ذات الله .

    ومغفرة يقول : وصفح لهم عن ذنوبهم ، فتفضل عليهم بترك عقوبتهم عليها

    ورحمة يقول : ورأفة بهم وكان الله غفورا رحيما يقول : ولم يزل الله غفورا لذنوب عباده المؤمنين ، يصفح لهم عن العقوبة عليها "رحيما" بهم ، يتفضل عليهم بنعمه ، مع خلافهم أمره ونهيه ، وركوبهم معاصيه .
    [ ص: 100 ] القول في تأويل قوله ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ومن ( 99 ) ( 97 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " إن الذين توفاهم الملائكة " ، إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة "ظالمي أنفسهم" ، يعني : مكسبي أنفسهم غضب الله وسخطه .

    وقد بينا معنى "الظلم" فيما مضى قبل .

    "قالوا فيم كنتم" ، يقول : قالت الملائكة لهم : "فيم كنتم" ، في أي شيء كنتم من دينكم " قالوا كنا مستضعفين في الأرض " ، يعني : قال الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم : " كنا مستضعفين في الأرض " ، يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم ، فيمنعونا من الإيمان بالله ، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، معذرة ضعيفة وحجة واهية " قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " ، يقول : فتخرجوا من أرضكم ودوركم ، وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، إلى الأرض التي [ ص: 101 ] يمنعكم أهلها من سلطان أهل الشرك بالله ، فتوحدوا الله فيها وتعبدوه ، وتتبعوا نبيه؟ يقول الله جل ثناؤه : " فأولئك مأواهم جهنم " ، أي : فهؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم "مأواهم جهنم" ، يقول : مصيرهم في الآخرة جهنم ، وهي مسكنهم " وساءت مصيرا " ، يعني : وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها "مصيرا" ومسكنا ومأوى .

    ثم استثنى جل ثناؤه المستضعفين الذين استضعفهم المشركون " من الرجال والنساء والولدان " ، وهم العجزة عن الهجرة بالعسرة ، وقلة الحيلة ، وسوء البصر والمعرفة بالطريق من أرضهم أرض الشرك إلى أرض الإسلام ، من القوم الذين أخبر جل ثناؤه أن مأواهم جهنم : أن تكون جهنم مأواهم ، للعذر الذي هم فيه ، على ما بينه تعالى ذكره .

    ونصب "المستضعفين" على الاستثناء من "الهاء" و "الميم" اللتين في قوله : "فأولئك مأواهم جهنم" .

    يقول الله جل ثناؤه : " فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم " ، يعني هؤلاء المستضعفين ، يقول : لعل الله أن يعفو عنهم ، للعذر الذي هم فيه وهم مؤمنون ، فيفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة ، إذ لم يتركوها اختيارا ولا إيثارا [ ص: 102 ] منهم لدار الكفر على دار الإسلام ، ولكن للعجز الذي هم فيه عن النقلة عنها "وكان الله عفوا غفورا" يقول : ولم يزل الله "عفوا" يعني : ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده ، بتركه العقوبة عليها "غفورا" ساترا عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها .

    وذكر أن هاتين الآيتين والتي بعدهما ، نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسوله ، وتخلفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر ، وعرض بعضهم على الفتنة فافتتن ، وشهد مع المشركين حرب المسلمين ، فأبى الله قبول معذرتهم التي اعتذروا بها ، التي بينها في قوله خبرا عنهم : " قالوا كنا مستضعفين في الأرض " .

    ذكر الأخبار الواردة بصحة ما ذكرنا : من نزول الآية في الذين ذكرنا أنها نزلت فيهم .

    10259 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال : حدثنا ابن فضيل قال : حدثنا أشعث ، عن عكرمة : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " ، قال : كان ناس من أهل مكة أسلموا ، فمن مات منهم بها هلك ، قال الله : " فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان " إلى قوله : "عفوا غفورا" قال ابن عباس : فأنا منهم وأمي منهم . قال عكرمة : وكان العباس منهم .

    10260 - حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم [ ص: 103 ] المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون : "كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ، وأكرهوا" فاستغفروا لهم ، فنزلت : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم " الآية ، قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية ، لا عذر لهم . قال : فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة ، فنزلت فيهم : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله ) [ سورة العنكبوت : 10 ] ، إلى آخر الآية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فحزنوا وأيسوا من كل خير ، ثم نزلت فيهم : ( إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) ، [ سورة النحل : 110 ] ، فكتبوا إليهم بذلك : "إن الله قد جعل لكم مخرجا" ، فخرجوا فأدركهم المشركون ، فقاتلوهم حتى نجا من نجا ، وقتل من قتل .

    10261 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني حيوة أو : ابن لهيعة ، الشك من يونس ، عن أبي الأسود : أنه سمع مولى لابن عباس يقول عن ابن عباس : إن ناسا مسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم ، فيأتي السهم يرمى به ، فيصيب أحدهم [ ص: 104 ] فيقتله ، أو يضرب فيقتل ، فأنزل الله فيهم : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " حتى بلغ "فتهاجروا فيها" .

    10262 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال : أخبرنا حيوة قال : أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي قال : قطع على أهل المدينة بعث إلى اليمن ، فاكتتبت فيه ، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس . فنهاني عن ذلك أشد النهي ، ثم قال : أخبرني ابن عباس أن ناسا مسلمين كانوا مع المشركين ثم ذكر مثل حديث يونس ، عن ابن وهب .

    10263 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي [ ص: 105 ] قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " ، هم قوم تخلفوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتركوا أن يخرجوا معه ، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ضربت الملائكة وجهه ودبره .

    10264 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم " ، إلى قوله : "وساءت مصيرا" ، قال : نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبي العاص بن منبه بن الحجاج وعلي بن أمية بن خلف . قال : لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة ، خرجوا معهم شباب كارهين ، [ ص: 106 ] كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد ، فقتلوا ببدر كفارا ، ورجعوا عن الإسلام ، وهم هؤلاء الذين سميناهم ، قال ابن جريج ، وقال مجاهد : نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم بدر من الضعفاء من كفار قريش ، قال ابن جريج ، وقال عكرمة : لما نزل القرآن في هؤلاء النفر إلى قوله : " وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان " ، قال : يعني الشيخ الكبير والعجوز والجواري الصغار والغلمان .





  2. #502
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (502)
    صــ 111 إلى صــ 125





    10265 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " إلى قوله : "وساءت مصيرا" ، قال : لما أسر العباس وعقيل ونوفل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : افد نفسك وابني أخيك . قال : يا رسول الله ، ألم نصل قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال : يا عباس ، إنكم خاصمتم فخصمتم! ثم تلا هذه الآية : " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا " ، فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر ، فهو كافر حتى يهاجر ، إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، حيلة في المال ، و "السبيل" الطريق . قال ابن عباس : كنت أنا منهم ، من الولدان .

    10266 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : سمعت عكرمة يقول : كان ناس بمكة قد شهدوا أن لا إله إلا الله ، فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم معهم ، فقتلوا ، فنزلت فيهم : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " إلى قوله : " فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا" ، فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة [ ص: 107 ] إلى المسلمين الذين بمكة . قال : فخرج ناس من المسلمين ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق طلبهم المشركون ، فأدركوهم ، فمنهم من أعطى الفتنة ، فأنزل الله فيهم : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ) [ سورة العنكبوت : 10 ] ، فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين بمكة ، وأنزل الله في أولئك الذين أعطوا الفتنة : ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا ) إلى ( غفور رحيم ) [ سورة النحل : 110 ]

    قال ابن عيينة : أخبرني محمد بن إسحاق في قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة " ، قال : هم خمسة فتية من قريش : علي بن أمية ، وأبو قيس بن الفاكه ، وزمعة بن الأسود ، وأبو العاص بن منبه ، ونسيت الخامس .

    10267 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " الآية ، حدثنا أن هذه الآية أنزلت في أناس تكلموا بالإسلام من أهل مكة ، فخرجوا مع عدو الله أبي جهل ، فقتلوا يوم بدر ، فاعتذروا بغير عذر ، فأبى الله أن يقبل منهم . وقوله : " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " ، أناس من أهل مكة عذرهم الله فاستثناهم ، فقال : " فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا " قال : وكان ابن عباس يقول : كنت أنا وأمي من الذين [ ص: 108 ] لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا .

    10268 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " الآية ، قال : هم أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يخرجوا معه إلى المدينة ، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر ، فأصيبوا يومئذ فيمن أصيب ، فأنزل الله فيهم هذه الآية .

    10269 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سألته يعني ابن زيد عن قول الله : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " فقرأ حتى بلغ : " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان " ، فقال : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وظهر ، ونبع الإيمان ، نبع النفاق معه . فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال فقالوا : يا رسول الله ، لولا أنا نخاف هؤلاء القوم يعذبوننا ، ويفعلون ويفعلون ، لأسلمنا ، ولكنا نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله . فكانوا يقولون ذلك له . فلما كان يوم بدر ، قام المشركون فقالوا : لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره واستبحنا ماله! فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبي صلى الله عليه وسلم معهم ، فقتلت طائفة منهم وأسرت طائفة . قال : فأما الذين قتلوا ، فهم الذين قال الله فيهم : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " ، الآية كلها" ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " ، وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم" فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا " . قال : ثم عذر الله أهل الصدق فقال : " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " ، يتوجهون له ، لو خرجوا لهلكوا"فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم" ، إقامتهم بين ظهري المشركين . وقال الذين أسروا : يا رسول الله ، إنك [ ص: 109 ] تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وأن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفا! فقال الله : ( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم ) ، صنيعكم الذي صنعتم بخروجكم مع المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم ( وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل ) خرجوا مع المشركين ( فأمكن منهم والله عليم حكيم ) [ سورة الأنفال : 70 ، 71 ] .

    10270 - حدثني محمد بن خالد بن خداش قال : حدثني أبي ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن ابن عباس أنه قال : كنت أنا وأمي ممن عذر الله : " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " .

    10271 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان " ، قال ابن عباس : أنا من المستضعفين .

    10272 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم " ، قال : من قتل من ضعفاء كفار قريش يوم بدر . [ ص: 110 ]

    10273 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .

    10274 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال : سمعت ابن عباس يقول : كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان .

    10275 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد ، عن علي بن زيد ، عن عبد الله - أو : إبراهيم بن عبد الله القرشي - عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر : "اللهم خلص الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين ، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا" .

    10276 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " ، قال : مؤمنون مستضعفون بمكة ، فقال فيهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : [ ص: 111 ] هم بمنزلة هؤلاء الذين قتلوا ببدر ضعفاء مع كفار قريش . فأنزل الله فيهم : " لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " ، الآية .

    10277 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .

    وأما قوله : " لا يستطيعون حيلة " ، فإن معناه كما : -

    10278 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة في قوله : " لا يستطيعون حيلة " ، قال : نهوضا إلى المدينة " ولا يهتدون سبيلا " ، طريقا إلى المدينة .

    10279 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا يهتدون سبيلا " ، طريقا إلى المدينة .

    10280 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    10281 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "الحيلة" ، المال و "السبيل" ، الطريق إلى المدينة .

    وأما قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة " ، ففيه وجهان :

    أحدهما : أن يكون "توفاهم" في موضع نصب ، بمعنى المضي ، لأن "فعل" منصوبة في كل حال . [ ص: 112 ]

    والآخر : أن يكون في موضع رفع بمعنى الاستقبال ، يراد به : إن الذين تتوفاهم الملائكة ، فتكون إحدى "التاءين" من "توفاهم" محذوفة وهي مرادة في الكلمة ، لأن العرب تفعل ذلك ، إذا اجتمعت تاءان في أول الكلمة ، ربما حذفت إحداهما وأثبتت الأخرى ، وربما أثبتتهما جميعا .
    القول في تأويل قوله ( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ( 100 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ومن يهاجر في سبيل الله " ، ومن يفارق أرض الشرك وأهلها هربا بدينه منها ومنهم ، إلى أرض الإسلام وأهلها المؤمنين في سبيل الله يعني في منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه ، وذلك الدين القيم يجد في الأرض مراغما كثيرا يقول : يجد هذا المهاجر في سبيل الله مراغما كثيرا وهو المضطرب في البلاد والمذهب .

    يقال منه : "راغم فلان قومه مراغما ومراغمة" ، مصدرا ، ومنه قول نابغة بني جعدة :


    كطود يلاذ بأركانه عزيز المراغم والمهرب
    [ ص: 113 ]

    وقوله : وسعة فإنه يحتمل السعة في أمر دينهم بمكة ، وذلك منعهم إياهم - كان - من إظهار دينهم وعبادة ربهم علانية .

    ثم أخبر جل ثناؤه عمن خرج مهاجرا من أرض الشرك فارا بدينه إلى الله وإلى رسوله ، إن أدركته منيته قبل بلوغه أرض الإسلام ودار الهجرة فقال : من كان كذلك فقد وقع أجره على الله وذلك ثواب عمله وجزاء هجرته وفراق وطنه وعشيرته إلى دار الإسلام وأهل دينه . يقول جل ثناؤه : ومن يخرج مهاجرا من داره إلى الله وإلى رسوله ، فقد استوجب ثواب هجرته إن لم يبلغ دار هجرته باخترام المنية إياه قبل بلوغه إياها على ربه وكان الله غفورا رحيما يقول : ولم يزل الله تعالى ذكره غفورا يعني ساترا ذنوب عباده المؤمنين بالعفو لهم عن العقوبة عليها رحيما بهم رفيقا .

    وذكر أن هذه الآية نزلت بسبب بعض من كان مقيما بمكة وهو مسلم ، [ ص: 114 ] فخرج لما بلغه أن الله أنزل الآيتين قبلها ، وذلك قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " إلى قوله : " وكان الله عفوا غفورا " ، فمات في طريقه قبل بلوغه المدينة .

    ذكر الأخبار الواردة بذلك :

    10282 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله " ، قال : كان رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص - أو : العيص بن ضمرة بن زنباع - قال : فلما أمروا بالهجرة كان مريضا ، فأمر أهله أن يفرشوا له على سريره ويحملوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : ففعلوا ، فأتاه الموت وهو بالتنعيم ، فنزلت هذه الآية .

    10283 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قال : نزلت هذه الآية : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله في ضمرة بن العيص بن الزنباع أو فلان بن ضمرة بن العيص بن الزنباع حين بلغ التنعيم مات ، فنزلت فيه .

    10284 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم ، عن العوام التيمي ، بنحو حديث يعقوب ، عن هشيم ، قال : وكان رجلا من خزاعة . [ ص: 115 ]

    10285 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة " ، الآية ، قال : لما أنزل الله هؤلاء الآيات ، ورجل من المؤمنين يقال له : " ضمرة " بمكة ، قال : "والله إن لي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها ، وإني لأهتدي! أخرجوني" ، وهو مريض حينئذ ، فلما جاوز الحرم قبضه الله فمات ، فأنزل الله تبارك وتعالى : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله " ، الآية .

    10286 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : لما نزلت : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " ، قال رجل من المسلمين يومئذ وهو مريض : "والله ما لي من عذر ، إني لدليل بالطريق ، وإني لموسر ، فاحملوني" ، فحملوه ، فأدركه الموت بالطريق ، فنزل فيه " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله " .

    10287 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : سمعت عكرمة يقول : لما أنزل الله : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " الآيتين ، قال رجل من بني ضمرة ، وكان مريضا : "أخرجوني إلى الروح" ، فأخرجوه ، حتى إذا كان بالحصحاص [ ص: 116 ] مات ، فنزل فيه : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله " ، الآية .

    10288 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن المنذر بن ثعلبة ، عن علباء بن أحمر اليشكري قوله : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " ، قال : نزلت في رجل من خزاعة .

    10289 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عامر قال : حدثنا قرة ، عن الضحاك في قول الله جل وعز : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " ، قال : لما سمع رجل من أهل مكة أن بني كنانة قد ضربت وجوههم وأدبارهم الملائكة ، قال لأهله : "أخرجوني" ، وقد أدنف للموت . قال : فاحتمل حتى انتهى إلى عقبة قد سماها ، فتوفي ، فأنزل الله : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله " ، الآية .

    10290 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما سمع هذه يعني : بقوله : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " إلى قوله : " وكان الله عفوا غفورا " ضمرة بن جندب [ ص: 117 ] الضمري ، قال لأهله ، وكان وجعا : "أرحلوا راحلتي ، فإن الأخشبين قد غماني!" يعني : جبلي مكة "لعلي أن أخرج فيصيبني روح"! فقعد على راحلته ، ثم توجه نحو المدينة ، فمات بالطريق ، فأنزل الله : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " . وأما حين توجه إلى المدينة فإنه قال : "اللهم إني مهاجر إليك وإلى رسولك" .

    10291 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قال : لما نزلت هذه الآية يعني قوله : " إن الذين توفاهم الملائكة " ، قال جندب بن ضمرة الجندعي . "اللهم أبلغت في المعذرة والحجة ، ولا معذرة لي ولا حجة"! قال : ثم خرج وهو شيخ كبير ، فمات ببعض الطريق ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مات قبل أن يهاجر ، فلا ندري أعلى ولاية أم لا! فنزلت : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " .

    10292 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول : لما أنزل الله في الذين قتلوا مع مشركي قريش ببدر : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " الآية ، سمع بما أنزل الله فيهم رجل من بني ليث كان على دين النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة ، وكان ممن عذر الله ، كان شيخا كبيرا وصبا ، فقال لأهله : "ما أنا ببائت الليلة بمكة !" ، فخرج به ، حتى إذا بلغ التنعيم من طريق المدينة أدركه [ ص: 118 ] الموت ، فنزل فيه "ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله" الآية .

    10293 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة " ، قال : وهاجر رجل من بني كنانة يريد النبي صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق ، فسخر به قومه واستهزءوا به وقالوا : لا هو بلغ الذي يريد ، ولا هو أقام في أهله يقومون عليه ويدفن! قال : فنزل القرآن : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " .

    10294 - حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " ، فكان بمكة رجل يقال له " ضمرة " ، من بني بكر ، وكان مريضا ، فقال لأهله : "أخرجوني من مكة ، فإني أجد الحر" . فقالوا : أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو المدينة ، فنزلت هذه الآية : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله " إلى آخر الآية .

    10295 - حدثني الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا عبد العزيز بن أبان قال : حدثنا قيس ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت هذه الآية : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر " ، قال : رخص فيها قوم من المسلمين ممن بمكة من أهل الضرر ، حتى نزلت فضيلة المجاهدين على القاعدين ، فقالوا : قد بين الله فضيلة المجاهدين على القاعدين ، ورخص لأهل الضرر! حتى نزلت : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " إلى قوله : وساءت مصيرا قالوا : هذه موجبة! حتى نزلت : " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " ، فقال ضمرة بن العيص [ ص: 119 ] الزرقي ، أحد بني ليث ، وكان مصاب البصر : "إني لذو حيلة ، لي مال ولي رقيق ، فاحملوني" . فخرج وهو مريض ، فأدركه الموت عند التنعيم ، فدفن عند مسجد التنعيم ، فنزلت فيه هذه الآية : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت " الآية .

    واختلف أهل التأويل في تأويل "المراغم" .

    فقال بعضهم : هو التحول من أرض إلى أرض .

    ذكر من قال ذلك :

    10296 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "مراغما كثيرا" ، قال : المراغم ، التحول من الأرض إلى الأرض .

    10297 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : "مراغما كثيرا" ، يقول : متحولا .

    10298 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي [ ص: 120 ] جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : يجد في الأرض مراغما كثيرا قال : متحولا .

    10299 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الحسن أو قتادة : "مراغما كثيرا" ، قال : متحولا .

    10300 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " يجد في الأرض مراغما كثيرا " ، قال : مندوحة عما يكره .

    10301 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : "مراغما كثيرا" ، قال : مزحزحا عما يكره .

    10302 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : "مراغما كثيرا" ، قال : متزحزحا عما يكره .

    وقال آخرون : مبتغى معيشة .

    ذكر من قال ذلك :

    10303 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يجد في الأرض مراغما كثيرا " ، يقول : مبتغى للمعيشة .

    وقال آخرون : "المراغم" ، المهاجر .

    ذكر من قال ذلك :



    10304 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في [ ص: 121 ] قوله : "مراغما" ، المراغم ، المهاجر .

    قال أبو جعفر : وقد بينا أولى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى قبل .

    واختلفوا أيضا في معنى : "السعة" التي ذكرها الله في هذا الموضع ، فقال : وسعة فقال بعضهم : هي : السعة في الرزق .

    ذكر من قال ذلك :

    10305 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " مراغما كثيرا وسعة " ، قال : السعة في الرزق .

    10306 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : مراغما كثيرا وسعة قال : السعة في الرزق .

    10307 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : "وسعة" ، يقول : سعة في الرزق .

    وقال آخرون في ذلك ما : -

    10308 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة " ، إي والله ، من الضلالة إلى الهدى ، ومن العيلة إلى الغنى . [ ص: 122 ]

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أن من هاجر في سبيله يجد في الأرض مضطربا ومتسعا . وقد يدخل في "السعة" السعة في الرزق ، والغنى من الفقر ، ويدخل فيه السعة من ضيق الهم والكرب الذي كان فيه أهل الإيمان بالله من المشركين بمكة ، وغير ذلك من معاني "السعة" ، التي هي بمعنى الروح والفرج من مكروه ما كره الله للمؤمنين بمقامهم بين ظهري المشركين وفي سلطانهم . ولم يضع الله دلالة على أنه عنى بقوله : وسعة بعض معاني "السعة" التي وصفنا . فكل معاني "السعة" التي هي بمعنى الروح والفرج مما كانوا فيه من ضيق العيش ، وغم جوار أهل الشرك ، وضيق الصدر بتعذر إظهار الإيمان بالله وإخلاص توحيده وفراق الأنداد والآلهة ، داخل في ذلك .

    وقد تأول قوم من أهل العلم هذه الآية أعني قوله : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " أنها في حكم الغازي يخرج للغزو ، فيدركه الموت بعد ما يخرج من منزله فاصلا فيموت ، أن له سهمه من المغنم ، وإن لم يكن شهد الوقعة ، كما : -

    10309 - حدثني المثنى قال : حدثنا يوسف بن عدي قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب : أن أهل المدينة يقولون : "من خرج فاصلا وجب سهمه" ، وتأولوا قوله تبارك وتعالى : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله " .
    [ ص: 123 ] القول في تأويل قوله ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ( 101 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإذا ضربتم في الأرض " ، وإذا سرتم أيها المؤمنون في الأرض ، فليس عليكم جناح يقول : فليس عليكم حرج ولا إثم أن تقصروا من الصلاة يعني : أن تقصروا من عددها ، فتصلوا ما كان لكم عدده منها في الحضر وأنتم مقيمون أربعا ، اثنتين ، في قول بعضهم .

    وقيل : معناه : لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقل عددها في حال ضربكم في الأرض أشار إلى واحدة ، في قول آخرين .

    وقال آخرون : معنى ذلك : لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة . " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " ، يعني : إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم . وفتنتهم إياهم فيها : حملهم عليهم وهم فيها ساجدون حتى يقتلوهم أو يأسروهم ، فيمنعوهم من إقامتها وأدائها ، ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له .

    ثم أخبرهم جل ثناؤه عما عليه أهل الكفر لهم فقال : " إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا " ، يعني : الجاحدين وحدانية الله كانوا لكم عدوا مبينا [ ص: 124 ] يقول : عدوا قد أبانوا لكم عداوتهم بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله ، وترككم عبادة ما يعبدون من الأوثان والأصنام ، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة .

    واختلف أهل التأويل في معنى : "القصر" الذي وضع الله الجناح فيه عن فاعله . فقال بعضهم : في السفر ، من الصلاة التي كان واجبا إتمامها في الحضر أربع ركعات ، وأذن في قصرها في السفر إلى اثنتين .

    ذكر من قال ذلك :

    10310 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابيه ، عن يعلى بن منية قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم " ، وقد أمن الناس! فقال : عجبت مما عجبت منه ، حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته . [ ص: 125 ]

    10311 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابيه ، عن يعلى بن أمية ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

    10312 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن ابن جريج قال : سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار يحدث ، عن عبد الله بن بابيه يحدث ، عن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب : أعجب من قصر الناس الصلاة وقد أمنوا ، وقد قال الله تبارك وتعالى : " أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا "! فقال عمر : عجبت مما عجبت منه ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته .

    10313 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا هشام بن عبد الملك قال : حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن أبي العالية قال : سافرت إلى مكة ، فكنت أصلي ركعتين ، فلقيني قراء من أهل هذه الناحية ، فقالوا : كيف تصلي؟ قلت ركعتين . قالوا : أسنة أو قرآن؟ قلت : كل سنة وقرآن ، [ فقد ] صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين . قالوا : إنه كان في حرب! قلت : قال الله : ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون ) [ ص: 126 ] [ سورة الفتح : 27 ] ، وقال : " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " ، فقرأ حتى بلغ : "فإذا اطمأننتم" .





  3. #503
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (503)
    صــ 126 إلى صــ 140





    10314 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : أخبرنا سيف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي قال : سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي؟ فأنزل الله : " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " ، ثم انقطع الوحي . فلما كان بعد ذلك بحول ، غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم ، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في إثرها! فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين : " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك " إلى قوله : " إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا " ، فنزلت صلاة الخوف . [ ص: 127 ]

    قال أبو جعفر : وهذا تأويل للآية حسن ، لو لم يكن في الكلام "إذا" ، و "إذا" تؤذن بانقطاع ما بعدها عن معنى ما قبلها . ولو لم يكن في الكلام "إذا" ، كان معنى الكلام - على هذا التأويل الذي رواه سيف عن أبي روق : إن خفتم ، أيها المؤمنون ، أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم ، وكنت فيهم ، يا محمد ، فأقمت لهم الصلاة ، "فلتقم طائفة منهم معك" الآية . وبعد ، فإن ذلك فيما ذكر في قراءة أبي بن كعب : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا ) .

    10315 - حدثني بذلك الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا الثوري ، عن واصل بن حيان ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن أبي بن كعب ، أنه كان يقرأ : ( أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا ) ، ولا يقرأ : "إن خفتم" .

    10316 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا بكر بن شرود عن الثوري ، عن واصل الأحدب ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي بن كعب أنه قرأ : ( أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم ) ، قال بكر : وهي في "الإمام" مصحف عثمان رحمة الله عليه : " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " . [ ص: 128 ]

    وهذه القراءة تنبئ على أن قوله : " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " ، مواصل قوله : " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " ، وأن معنى الكلام : وإذا ضربتم في الأرض ، فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ، وأن قوله : وإذا كنت فيهم قصة مبتدأة غير قصة هذه الآية .

    وذلك أن تأويل قراءة أبي هذه التي ذكرناها عنه : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن لا يفتنكم الذين كفروا ، فحذفت "لا" لدلالة الكلام عليها ، كما قال جل ثناؤه : ( يبين الله لكم أن تضلوا ) ، [ سورة النساء : 176 ] ، بمعنى : أن لا تضلوا .

    ففيما وصفنا دلالة بينة على فساد التأويل الذي رواه سيف ، عن أبي روق .

    وقال آخرون : بل هو القصر في السفر ، غير أنه إنما أذن جل ثناؤه به للمسافر في حال خوفه من عدو يخشى أن يفتنه في صلاته .

    ذكر من قال ذلك :

    10317 - حدثني أبو عاصم عمران بن محمد الأنصاري قال : حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد قال : حدثني محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال : سمعت أبي يقول : سمعت عائشة تقول في السفر : أتموا صلاتكم . فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر ركعتين؟ [ ص: 129 ] فقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حرب ، وكان يخاف ، هل تخافون أنتم؟ .

    10318 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا ابن أبي فديك قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد : أنه قال لعبد الله بن عمر : إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ، ولا نجد قصر صلاة المسافر؟ فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به .

    10319 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أن عائشة كانت تصلي في السفر ركعتين .

    10320 - حدثنا سعيد بن يحيى قال : حدثني أبي قال : حدثنا ابن جريج قال : قلت لعطاء : أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتم الصلاة في السفر؟ قال : عائشة وسعد بن أبي وقاص . [ ص: 130 ]

    وقال آخرون : بل عنى بهذه الآية قصر صلاة الخوف ، في غير حال المسايفة . قالوا : وفيها نزل .

    ذكر من قال ذلك :

    10321 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " ، قال : يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان ، والمشركون بضجنان ، فتواقفوا ، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين أو : أربعا ، شك أبو عاصم ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا ، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم ، فأنزل الله عليه : " فلتقم طائفة منهم معك " ، فصلى العصر ، فصف أصحابه صفين ، ثم كبر بهم جميعا ، ثم سجد الأولون سجدة ، والآخرون قيام ، [ ص: 131 ] ثم سجد الآخرون حين قام النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كبر بهم وركعوا جميعا ، فتقدم الصف الآخر واستأخر الأول ، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أول مرة ، وقصر العصر إلى ركعتين .

    10322 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان ، فتواقفوا ، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين ، ركوعهم وسجودهم وقيامهم جميعا ، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم ، فأنزل الله تبارك وتعالى : " فلتقم طائفة منهم معك " ، فصلى بهم صلاة العصر ، فصف أصحابه صفين ، ثم كبر بهم جميعا ، ثم سجد الأولون لسجوده ، والآخرون قيام لم يسجدوا ، حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كبر بهم وركعوا جميعا ، فتقدم الصف الآخر واستأخر الصف المقدم ، فتعاقبوا السجود كما دخلوا أول مرة ، وقصرت صلاة العصر إلى ركعتين .

    10323 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، وعلى المشركين خالد بن الوليد . قال : فصلينا الظهر ، فقال المشركون : لقد كانوا على حال ، لو أردنا لأصبنا غرة ، لأصبنا غفلة . فأنزلت آية القصر بين الظهر والعصر ، فأخذ الناس السلاح وصفوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلي القبلة والمشركون مستقبلهم ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبروا جميعا ، ثم ركع وركعوا جميعا ، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعا ، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه ، وقام الآخرون يحرسونهم . فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء ، ثم نكص الصف الذي يليه وتقدم الآخرون ، فقاموا في مقامهم ، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم فركعوا جميعا ، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعا ، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه ، وقام الآخرون يحرسونهم . فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء الآخرون ، ثم استووا معه ، فقعدوا جميعا ، ثم سلم عليهم جميعا ، فصلاها بعسفان ، وصلاها يوم بني سليم .

    10324 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن شيبان النحوي ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي وعن إسرائيل ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، ثم ذكر نحوه . [ ص: 132 ]

    10325 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن سليمان اليشكري : أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة : أي يوم أنزل؟ أو : أي يوم هو؟ فقال جابر : انطلقنا نتلقى عير قريش آتية من الشأم ، حتى إذا كنا بنخل ، جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ! قال : نعم . قال : هل تخافني؟ قال : لا! قال : فمن يمنعك مني؟ قال : الله يمنعني منك! قال : فسل السيف ، ثم هدده وأوعده ، ثم نادى بالرحيل وأخذ السلاح ، ثم نودي بالصلاة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى يحرسونهم ، فصلى بالذين يلونه ركعتين ، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصاف أصحابهم ، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم ، ثم سلم . فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، وللقوم ركعتين ركعتين ، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح .

    وقال آخرون : بل عني بها قصر صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف ، [ ص: 133 ] إلا أنه عني به القصر في صلاة السفر لا في صلاة الإقامة . قالوا : وذلك أن صلاة السفر في غير حال الخوف ركعتان ، تمام غير قصر ، كما أن صلاة الإقامة أربع ركعات في حال الإقامة . قالوا : فقصرت في السفر في حال الأمن غير الخوف عن صلاة المقيم ، فجعلت على النصف ، وهي تمام في السفر . ثم قصرت في حال الخوف في السفر عن صلاة الأمن فيه ، فجعلت على النصف ، ركعة .

    ذكر من قال ذلك :

    10326 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا " ، إلى قوله : عدوا مبينا إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهو تمام . والتقصير لا يحل ، إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة . والتقصير ركعة : يقوم الإمام ويقوم جنده جندين ، طائفة خلفه ، وطائفة يوازون العدو ، فيصلي بمن معه ركعة ، ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم ، وتلك المشية القهقرى . ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام ركعة أخرى ، ثم يجلس الإمام فيسلم ، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة ، ثم يرجعون إلى صفهم ، ويقوم الآخرون فيضيفون إلى ركعتهم ركعة . والناس يقولون : لا بل [ ص: 134 ] هي ركعة واحدة ، لا يصلي أحد منهم إلى ركعته شيئا ، تجزئه ركعة الإمام . فيكون للإمام ركعتان ، ولهم ركعة . فذلك قول الله : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " إلى قوله : وخذوا حذركم .

    10327 - حدثني أحمد بن الوليد القرشي قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن سماك الحنفي قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان تمام غير قصر ، إنما القصر صلاة المخافة . فقلت : وما صلاة المخافة؟ قال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء مكان هؤلاء ، ويجيء هؤلاء مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة .

    10328 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى قال : حدثنا سفيان ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال : كيف تكون قصرا وهم يصلون ركعتين؟ إنما هي ركعة .

    10329 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال : حدثنا بقية قال : حدثنا المسعودي قال : حدثني يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله قال : صلاة الخوف ركعة .

    10330 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال : حدثني عمي عبد الله بن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث قال : حدثني بكر بن سوادة : أن زياد بن نافع حدثه عن كعب وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قطعت يده يوم اليمامة : أن صلاة الخوف لكل طائفة ركعة وسجدتان . [ ص: 135 ]

    واعتل قائلو هذه المقالة من الآثار بما : -

    10331 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا سفيان قال : حدثني أشعث بن أبي الشعثاء ، عن الأسود بن هلال ، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي قال : كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال : أيكم يحفظ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف؟ فقال حذيفة : أنا . فأقامنا خلفه صفا ، وصفا موازي العدو ، فصلى بالذين يلونه ركعة ، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف أولئك ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة .

    10332 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا : حدثنا [ ص: 136 ] سفيان ، عن الركين بن الربيع ، عن القاسم بن حسان قال : سألت زيد بن ثابت عنه فحدثني ، بنحوه .

    10333 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن الأشعث ، عن الأسود بن هلال ، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي ، عن حذيفة بنحوه .

    10334 - حدثنا ابن بشار قال : حدثني يحيى قال : حدثنا سفيان قال : حدثني أبو بكر بن أبي الجهم ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قرد ، فصف الناس خلفه صفين ، صفا خلفه ، وصفا موازي العدو ، فصلى بالذين خلفه ركعة ، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، وجاء أولئك ، فصلى بهم ركعة . ولم يقضوا . [ ص: 137 ]

    10335 - حدثنا تميم بن المنتصر قال : أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن أبي بكر بن صخير ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس مثله .

    10336 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا أبو عوانة ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم عليه السلام في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة .

    10337 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا أبو عوانة ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس مثله .

    10338 - حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال : حدثنا المحاربي ، عن أيوب بن عائذ الطائي ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس مثله .

    10339 - حدثنا يعقوب بن ماهان قال : حدثنا القاسم بن مالك ، عن أيوب بن عائذ الطائي ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس مثله . [ ص: 138 ]

    10340 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف ، فقام صف بين يديه وصف خلفه ، فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين ، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقام أصحابهم ، وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين ، ثم سلم ، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ، ولهم ركعة .

    10341 - حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال : حدثني عمي عبد الله بن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث : أن بكر بن سوادة حدثه ، عن زياد بن نافع حدثه ، عن أبي موسى : أن جابر بن عبد الله حدثهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف يوم محارب وثعلبة ، لكل طائفة ركعة وسجدتين .

    10342 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال : حدثنا عبد الصمد قال : حدثنا سعيد بن عبيد الهنائي قال : حدثنا عبد الله بن شقيق قال : حدثنا أبو هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان ، فقال المشركون : إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأبكارهم ، وهي العصر ، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة . وإن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقسم [ ص: 139 ] أصحابه شطرين ، فيصلي ببعضهم ، وتقوم طائفة أخرى وراءهم فيأخذوا حذرهم وأسلحتهم ، ثم يأمر الأخرى فيصلوا معه ، ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم ، فتكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين .

    وقال آخرون : عنى به القصر في السفر ، إلا أنه عنى به القصر في شدة الحرب وعند المسايفة ، فأبيح عند التحام الحرب للمصلي أن يركع ركعة إيماء برأسه حيث توجه بوجهه . قالوا : فذلك معنى قوله : " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " .

    ذكر من قال ذلك :

    10343 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وإذا ضربتم في الأرض الآية ، قصر الصلاة ، إن لقيت العدو وقد حانت الصلاة : أن تكبر الله ، وتخفض رأسك إيماء ، راكبا كنت أو ماشيا .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية ، قول من قال : "عنى بالقصر فيها ، القصر من حدودها . وذلك ترك إتمام ركوعها وسجودها ، وإباحة أدائها كيف أمكن أداؤها ، مستقبل القبلة فيها ومستدبرها ، وراكبا وماشيا ، [ ص: 140 ] وذلك في حال السلة والمسايفة والتحام الحرب وتزاحف الصفوف ، وهي الحالة التي قال الله تبارك وتعالى : ( فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ) ، [ سورة البقرة : 239 ] ، وأذن بالصلاة المكتوبة فيها راكبا ، إيماء بالركوع والسجود ، على نحو ما روي عن ابن عباس من تأويله ذلك .

    وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بقوله : " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " ، لدلالة قول الله تعالى : " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " ، على أن ذلك كذلك . لأن إقامتها : إتمام حدودها من الركوع والسجود وسائر فروضها ، دون الزيادة في عددها التي لم تكن واجبة في حال الخوف .

    فإن ظن ظان أن ذلك أمر من الله بإتمام عددها الواجب عليه في حال الأمن بعد زوال الخوف ، فقد يجب أن يكون المسافر في حال قصره صلاته عن صلاة المقيم ، غير مقيم صلاته ، لنقص عدد صلاته من الأربع اللازمة كانت له في حال إقامته إلى الركعتين . وذلك قول إن قاله قائل ، مخالف لما عليه الأمة مجمعة : من أن المسافر لا يستحق أن يقال له إذا أتى بصلاته بكمال حدودها المفروضة عليه فيها ، وقصر عددها عن أربع إلى اثنتين : "إنه غير مقيم صلاته" . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله تعالى قد أمر الذي أباح له أن يقصر صلاته خوفا من عدوه أن يفتنه ، أن يقيم صلاته إذا اطمأن وزال الخوف ، كان معلوما أن الذي فرض عليه من إقامة ذلك في حال الطمأنينة ، عين الذي كان أسقط عنه في حال الخوف . وإذ كان الذي فرض عليه في حال الطمأنينة : إقامة [ ص: 141 ] صلاته ، فالذي أسقط عنه في غير حال الطمأنينة : ترك إقامتها . وقد دللنا على أن ترك إقامتها ، إنما هو ترك حدودها ، على ما بينا .





  4. #504
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (504)
    صــ 141 إلى صــ 155






    القول في تأويل قوله ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإذا كنت في الضاربين في الأرض من أصحابك ، يا محمد ، الخائفين عدوهم أن يفتنهم فأقمت لهم الصلاة يقول : فأقمت لهم الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها ، ولم تقصرها القصر الذي أبحت لهم أن يقصروها في حال تلاقيهم وعدوهم وتزاحف بعضهم على بعض ، من ترك إقامة حدودها وركوعها وسجودها وسائر فروضها فلتقم طائفة منهم معك يعني : فلتقم فرقة من أصحابك الذين تكون أنت فيهم معك في صلاتك وليكن سائرهم في وجوه العدو .

    وترك ذكر ما ينبغي لسائر الطوائف غير المصلية مع النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله ، لدلالة الكلام المذكور على المراد به ، والاستغناء بما ذكر عما ترك ذكره وليأخذوا أسلحتهم . [ ص: 142 ] واختلف أهل التأويل في الطائفة المأمورة بأخذ السلاح .

    فقال بعضهم : هي الطائفة التي كانت تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم . قال : ومعنى الكلام : وليأخذوا يقول : ولتأخذ الطائفة المصلية معك من طوائفهم أسلحتهم ، والسلاح الذي أمروا بأخذه عندهم في صلاتهم ، كالسيف يتقلده أحدهم ، والسكين ، والخنجر يشده إلى درعه وثيابه التي هي عليه ، ونحو ذلك من سلاحه .

    وقال آخرون : بل الطائفة المأمورة بأخذ السلاح منهم : الطائفة التي كانت بإزاء العدو ، دون المصلية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك قول ابن عباس .

    10344 - حدثني بذلك المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : فإذا سجدوا يقول : فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتك تصلي بصلاتك ففرغت من سجودها فليكونوا من ورائكم يقول : فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم خلفكم مصافي العدو في المكان الذي فيه سائر الطوائف التي لم تصل معك ، ولم تدخل معك في صلاتك .

    ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم " .

    فقال بعضهم : تأويله : فإذا صلوا ففرغوا من صلاتهم ، فليكونوا من ورائكم .

    ثم اختلف أهل هذه المقالة .

    فقال بعضهم : إذا صلت هذه الطائفة مع الإمام ركعة ، سلمت وانصرفت [ ص: 143 ] من صلاتها ، حتى تأتي مقام أصحابها بإزاء العدو ، ولا قضاء عليها . وقالوا : هم الذين عنى الله بقوله : " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " ، أن تجعلوها - إذا خفتم الذين كفروا أن يفتنوكم - ركعة ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بطائفة صلاة الخوف ركعة ، ولم يقضوا ، وبطائفة أخرى ركعة ولم يقضوا .

    وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى ، وفيما ذكرنا كفاية عن استيعاب ذكر جميع ما فيه .

    وقال آخرون منهم : بل الواجب كان على هذه الطائفة التي أمرها الله بالقيام مع نبيها إذا أراد إقامة الصلاة بهم في حال خوف العدو ، وإذا فرغت من ركعتها التي أمرها الله أن تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم على ما أمرها به في كتابه أن تقوم في مقامها الذي صلت فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتصلي لأنفسها بقية صلاتها وتسلم ، وتأتي مصاف أصحابها ، وكان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبت قائما في مقامه حتى تفرغ الطائفة التي صلت معه الركعة الأولى من بقية صلاتها ، إذا كانت صلاتها التي صلت معه مما يجوز قصر عددها عن الواجب الذي على المقيمين في أمن ، وتذهب إلى مصاف أصحابها ، وتأتي الطائفة الأخرى التي كانت مصافة عدوها ، فيصلي بها ركعة أخرى من صلاتها .

    ثم هم في حكم هذه الطائفة الثانية مختلفون .

    فقالت فرقة من أهل هذه المقالة : كان على النبي صلى الله عليه وسلم إذا [ ص: 144 ] فرغ من ركعتيه ورفع رأسه من سجوده من ركعته الثانية ، أن يقعد للتشهد ، وعلى الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية ولم تدرك معه الركعة الأولى لاشتغالها بعدوها ، أن تقوم فتقضي ركعتها الفائتة مع النبي صلى الله عليه وسلم . وعلى النبي صلى الله عليه وسلم انتظارها قاعدا في تشهده حتى تفرغ هذه الطائفة من ركعتها الفائتة وتتشهد ، ثم يسلم بهم .

    وقالت فرقة أخرى منهم : بل كان الواجب على الطائفة التي لم تدرك معه الركعة الأولى إذا قعد النبي صلى الله عليه وسلم للتشهد ، أن تقعد معه للتشهد فتتشهد بتشهده . فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من تشهده سلم . ثم قامت الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية حينئذ فقضت ركعتها الفائتة . وكل قائل من الذين ذكرنا قولهم ، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبارا بأنه كما قال فعل .

    ذكر من قال : انتظر النبي صلى الله عليه وسلم الطائفتين حتى قضت [ كل طائفة ] صلاتها ، ولم يخرج من صلاته إلا بعد فراغ الطائفتين من صلاتهما .

    10345 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني مالك ، عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات ، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع : أن طائفة صفت معه ، وطائفة وجاه العدو . فصلى بالذين معه ركعة ، ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم . ثم جاءت [ ص: 145 ] الطائفة الأخرى فصلى بهم ، ثم ثبت جالسا فأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم . [ ص: 146 ]

    10346 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثني عبيد الله بن معاذ قال : حدثنا أبي قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في خوف ، فجعلهم خلفه صفين ، فصلى بالذين يلونه ركعة ثم قام ، فلم يزل قائما حتى صلى الذين خلفه ركعة ، ثم تقدموا وتخلف الذين كانوا قدامهم ، فصلى بهم ركعة ، ثم جلس حتى صلى الذين تخلفوا ركعة ، ثم سلم .

    10347 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا روح قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صلاة الخوف : تقوم طائفة بين يدي الإمام وطائفة خلفه ، فيصلي بالذين خلفه ركعة وسجدتين ، ثم يقعد مكانه حتى يقضوا ركعة وسجدتين ، ثم يتحولون إلى مكان أصحابهم . ثم يتحول أولئك إلى مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة وسجدتين ، ثم يقعد مكانه حتى يصلوا ركعة وسجدتين ، ثم يسلم .

    ذكر من قال : "كانت الطائفة الثانية تقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يفرغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته ، ثم تقضي ما بقي عليها بعد" .

    10348 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الوهاب قال : سمعت يحيى بن سعيد قال سمعت القاسم قال : حدثني صالح بن خوات بن جبير : أن سهل [ ص: 147 ] بن أبي حثمة حدثه : أن صلاة الخوف : أن يقوم الإمام إلى القبلة يصلي ومعه طائفة من أصحابه ، وطائفة أخرى مواجهة العدو ، فيصلي . فيركع الإمام بالذين معه ويسجد ، ثم يقوم ، فإذا استوى قائما ركع الذين وراءه لأنفسهم ركعة وسجدتين ، ثم سلموا فانصرفوا ، والإمام قائم ، فقاموا إزاء العدو ، وأقبل الآخرون فكبروا مكان الإمام ، فركع بهم الإمام وسجد ثم سلم ، فقاموا فركعوا لأنفسهم ركعة وسجدتين ، ثم سلموا .

    10349 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد : أن صالح بن خوات أخبره ، عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف ، ثم ذكر نحوه .

    10350 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد وسأله قال : حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح ، عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف قال : يقوم الإمام مستقبل القبلة ، وتقوم طائفة منهم معه ، وطائفة من قبل العدو وجوههم إلى العدو ، فيركع بهم ركعة ، ثم يركعون لأنفسهم ويسجدون سجدتين في مكانهم ، ويذهبون إلى مقام أولئك ، ويجيء أولئك فيركع بهم ركعة ويسجد سجدتين ، فهي له ركعتان ولهم واحدة . ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين .

    10351 - قال بندار : سألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث ، فحدثني عن شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يحيى بن سعيد ، [ ص: 148 ] وقال لي : اكتبه إلى جنبه ، فلست أحفظه ، ولكنه مثل حديث يحيى بن سعيد .

    10352 - حدثنا نصر بن علي قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا عبيد الله ، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر ، عن صالح بن خوات : أن الإمام يقوم فيصف صفين ، طائفة مواجهة العدو ، وطائفة خلف الإمام . فيصلي الإمام بالذين خلفه ركعة ، ثم يقومون فيصلون لأنفسهم ركعة ، ثم يسلمون ، ثم ينطلقون فيصفون . ويجيء الآخرون فيصلي بهم ركعة ثم يسلم ، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة .

    10353 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا معتمر بن سليمان قال : سمعت عبيد الله ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صلاة الخوف : أن تقوم طائفة من خلف الإمام وطائفة يلون العدو ، فيصلي الإمام بالذين خلفه ركعة ويقوم قائما ، فيصلي القوم إليها ركعة أخرى ، ثم يسلمون فينطلقون إلى أصحابهم ، ويجيء أصحابهم والإمام قائم ، فيصلي بهم ركعة ، فيسلم . ثم يقومون فيصلون إليها ركعة أخرى ، ثم ينصرفون . قال عبيد الله : فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف بشيء هو أحسن عندي من هذا .

    10354 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، [ ص: 149 ] عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك " ، فهذا عند الصلاة في الخوف ، يقوم الإمام وتقوم معه طائفة منهم ، وطائفة يأخذون أسلحتهم ويقفون بإزاء العدو . فيصلي الإمام بمن معه ركعة ، ثم يجلس على هيئته ، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية والإمام جالس ، ثم ينصرفون حتى يأتوا أصحابهم ، فيقفون موقفهم . ثم يقبل الآخرون فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ، ثم يسلم ، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية . فهكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بطن نخلة .

    وقال آخرون : بل تأويل قوله : " فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم " ، فإذا سجدت الطائفة التي قامت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل في صلاته فدخلت معه في صلاته ، السجدة الثانية من ركعتها الأولى فليكونوا من ورائكم يعني : من ورائك ، يا محمد ، ووراء أصحابك الذين لم يصلوا بإزاء العدو . قالوا : وكانت هذه الطائفة لا تسلم من ركعتها إذا هي فرغت من سجدتي ركعتها التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنها تمضي إلى موقف أصحابها بإزاء العدو ، عليها بقية صلاتها . قالوا : وكانت تأتي الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدو حتى تدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقية صلاته ، فيصلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم الركعة التي كانت قد بقيت عليه . قالوا : وذلك معنى قول الله عز ذكره : ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم .

    ثم اختلف أهل هذه المقالة في صفة قضاء ما كان تبقى على كل طائفة من هاتين الطائفتين من صلاتها ، بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته وسلامه من صلاته ، على قول قائلي هذه المقالة ومتأولي هذا التأويل . [ ص: 150 ]

    فقال بعضهم : كانت الطائفة الثانية التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية من صلاتها ، إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قامت فقضت ما فاتها من صلاتها مع النبي صلى الله عليه وسلم في مقامها ، بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته ، والطائفة التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى بإزاء العدو بعد لم تتم . فإذا هي فرغت من بقية صلاتها التي فاتتها مع النبي صلى الله عليه وسلم ، مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدو ، وجاءت الطائفة الأولى التي صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى إلى مقامها التي كانت صلت فيه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضت بقية صلاتها .

    ذكر الرواية بذلك :

    10355 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد قال : حدثنا خصيف قال : حدثنا أبو عبيدة بن عبد الله قال : قال عبد الله : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فقامت طائفة منا خلفه ، وطائفة بإزاء أو مستقبلي العدو ، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالذين خلفه ركعة ، ثم نكصوا فذهبوا إلى مقام أصحابهم . وجاء الآخرون فقاموا خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة ، ثم سلم رسول الله ، ثم قام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم ذهبوا فقاموا مقام أصحابهم مستقبلي العدو ، ورجع الآخرون إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة . [ ص: 151 ]

    10356 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا ابن فضيل قال : حدثنا خصيف ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فذكر نحوه .

    10357 - حدثنا تميم بن المنتصر قال : أخبرنا إسحاق قال : أخبرنا شريك ، عن خصيف ، عن أبي عبيدة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه .

    وقال آخرون : بل كانت الطائفة الثانية التي صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية لا تقضي بقية صلاتها بعد ما يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته ، ولكنها كانت تمضي قبل أن تقضي بقية صلاتها ، فتقف موقف أصحابها الذين صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى ، وتجيء الطائفة الأولى إلى موقفها الذي صلت فيه ركعتها الأولى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتقضي ركعتها التي كانت بقيت عليها من صلاتها ، فقال بعضهم : كانت تقضي تلك الركعة بغير قراءة . وقال آخرون : بل كانت تقضي بقراءة ، فإذا قضت ركعتها الباقية عليها هناك وسلمت ، مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدو ، وأقبلت الطائفة التي صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية إلى مقامها الذي صلت فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية من [ ص: 152 ] صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضت الركعة الثانية من صلاتها بقراءة ، فإذا فرغت وسلمت ، انصرفت إلى أصحابها .

    ذكر من قال ذلك :

    10358 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم في صلاة الخوف ، قال : يصف صفا خلفه ، وصفا بإزاء العدو في غير مصلاه ، فيصلي بالصف الذي خلفه ركعة ، ثم يذهبون إلى مصاف أولئك ، وجاء أولئك الذين بإزاء العدو ، فصلى بهم ركعة ، ثم سلم عليهم ، وقد صلى هو ركعتين ، وصلى كل صف ركعة . ثم قام هؤلاء الذين سلم عليهم إلى مصاف أولئك الذين بإزاء العدو ، فقاموا مقامهم ، وجاءوا فقضوا الركعة ، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك الذين بإزاء العدو ، وجاء أولئك فصلوا ركعة قال سفيان : فتكون لكل إنسان ركعتين ركعتين .

    10359 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا مهران وحدثني علي قال : حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان قال : كان إبراهيم يقول في صلاة الخوف ، فذكر نحوه .

    10360 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه مثل ذلك . [ ص: 153 ]

    وقال آخرون : بل كل طائفة من الطائفتين تقضي صلاتها على ما أمكنها ، من غير تضييع منهم بعضها .

    ذكر من قال ذلك :

    10361 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن : أن أبا موسى الأشعري صلى بأصحابه صلاة الخوف بأصبهان إذ غزاها . قال : فصلى بطائفة من القوم ركعة ، وطائفة تحرس . فنكص هؤلاء الذين صلى بهم ركعة ، وخلفهم الآخرون فقاموا مقامهم ، فصلى بهم ركعة ثم سلم ، فقامت كل طائفة فصلت ركعة .

    10362 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا يونس ، عن الحسن ، عن أبي موسى ، بنحوه .

    10363 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن أبي العالية ويونس بن جبير قالا : صلى أبو موسى الأشعري بأصحابه بالدير من أصبهان ، وما بهم يومئذ خوف ، ولكنه أحب أن يعلمهم صلاتهم . فصفهم بصفين : صفا خلفه ، وصفا مواجهة العدو مقبلين على عدوهم . فصلى بالذين يلونه ركعة ، ثم ذهبوا إلى مصاف أصحابهم . وجاء أولئك ، فصفهم خلفه ، فصلى بهم ركعة ثم سلم . فقضى هؤلاء ركعة ، وهؤلاء ركعة ، ثم سلم بعضهم على بعض . فكانت للإمام ركعتان في جماعة ، ولهم ركعة ركعة . [ ص: 154 ]

    10364 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي العالية ، عن أبي موسى ، بمثله .

    10365 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه قال في صلاة الخوف : يصلي بطائفة من القوم ركعة ، وطائفة تحرس . ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم ، ثم يجيء أولئك فيصلي بهم ركعة ، ثم يسلم . فتقوم كل طائفة فتصلي ركعة .

    10366 - حدثنا نصر بن علي قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، بنحوه .

    10367 - حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال : حدثنا يحيى بن صالح قال : حدثنا ابن عياش قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه صلى صلاة الخوف ، فذكر نحوه .

    10368 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثني أبي قال : حدثنا ابن جريج قال : أخبرني الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر : أنه كان يحدث أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه .

    10369 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .

    10370 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير ، عن عبد الله بن نافع ، [ ص: 155 ] عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف : يقوم الأمير وطائفة من الناس فيسجدون سجدة واحدة ، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو ، ثم ذكر نحوه .

    10371 - حدثنا محمد بن هارون الحربي قال : حدثنا أبو المغيرة الحمصي قال : حدثنا الأوزاعي ، عن أيوب بن موسى ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة ، ثم ذكر نحوه .

    10372 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " إلى قوله : " فليصلوا معك " ، فإنه كانت تأخذ طائفة منهم السلاح ، فيقبلون على العدو ، والطائفة الأخرى يصلون مع الإمام ركعة ، ثم يأخذون أسلحتهم فيستقبلون العدو ، ويرجع أصحابهم فيصلون مع الإمام ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ، ولسائر الناس ركعة واحدة ، ثم يقضون ركعة أخرى . وهذا تمام الصلاة .





  5. #505
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (505)
    صــ 156 إلى صــ 170





    وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في صلاة الخوف والعدو يومئذ في ظهر القبلة بين المسلمين وبين القبلة ، فكانت الصلاة التي صلى بهم يومئذ النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، إذ كان العدو بين الإمام والقبلة . [ ص: 156 ]

    ذكر الأخبار المنقولة بذلك :

    10373 - حدثنا أبو كريب قال : حدثني يونس بن بكير ، عن النضر أبي عمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ، فلقي المشركين بعسفان ، فلما صلى الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه ، قال بعضهم لبعض يومئذ : كان فرصة لكم ، لو أغرتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم! قال قائل منهم : فإن لهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أهلهم وأموالهم ، فاستعدوا حتى تغيروا عليهم فيها . فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " إلى آخر الآية ، وأعلمه ما ائتمر به المشركون . فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر وكانوا قبالته في القبلة ، فجعل المسلمين خلفه صفين ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا جميعا ، ثم ركع وركعوا معه جميعا . فلما سجد سجد معه الصف الذين يلونه ، وقام الصف الذين خلفهم مقبلين على العدو ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سجوده وقام ، سجد الصف الثاني ثم قاموا ، وتأخر الذين يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم الآخرون ، فكانوا يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما ركع ركعوا معه جميعا ، ثم رفع فرفعوا معه ، ثم سجد فسجد معه الذين يلونه ، وقام الصف الثاني مقبلين على العدو ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سجوده وقعد الذين يلونه ، سجد الصف المؤخر ، ثم قعدوا فتشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا ، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم عليهم جميعا . فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعض ينظر إليهم ، قالوا : لقد أخبروا بما أردنا! [ ص: 157 ]

    10374 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا الحكم بن بشير قال : حدثنا عمر بن ذر قال : حدثني مجاهد قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان والمشركون بضجنان بالماء الذي يلي مكة ، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فرأوه سجد وسجد الناس ، قالوا : إذا صلى صلاة بعد هذه أغرنا عليه! فحذره الله ذلك . فقام النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فكبر وكبر الناس معه ، فذكر نحوه .

    10375 - حدثني عمران بن بكار قال : حدثنا يحيى بن صالح قال : حدثنا ابن عياش قال : أخبرني عبيد الله بن عمرو ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقينا المشركين بنخل ، فكانوا بيننا وبين القبلة . فلما حضرت صلاة الظهر ، صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جميع . فلما فرغنا ، تذامر المشركون ، فقالوا : لو كنا حملنا عليهم وهم يصلون! فقال بعضهم : فإن لهم صلاة ينتظرونها تأتي الآن ، هي أحب إليهم من أبنائهم ، فإذا صلوا فميلوا عليهم . قال : فجاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليهما بالخبر ، وعلمه كيف يصلي . فلما حضرت العصر ، قام نبي الله صلى الله عليه وسلم مما يلي العدو ، وقمنا خلفه صفين ، فكبر نبي الله وكبرنا معه جميعا ، ثم ذكر نحوه . [ ص: 158 ]

    10376 - حدثني محمد بن معمر قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، عن هشام بن أبي عبد الله ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .

    10377 - حدثنا مؤمل بن هشام قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن هشام ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .

    10378 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر ، وعلى المشركين خالد بن الوليد . فقال المشركون : لقد أصبنا منهم غرة ، ولقد أصبنا منهم غفلة!! فأنزل الله صلاة الخوف بين الظهر والعصر ، فصلى [ ص: 159 ] بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ، [ ففرقنا ] يعني فرقتين ، فرقة تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وفرقة تصلي خلفهم يحرسونهم . ثم كبر فكبروا جميعا ، وركعوا جميعا ، ثم سجد الذين يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قام فتقدم الآخرون فسجدوا ، ثم قام فركع بهم جميعا ، ثم سجد بالذين يلونه ، حتى تأخر هؤلاء فقاموا في مصاف أصحابهم ، ثم تقدم الآخرون فسجدوا ، ثم سلم عليهم . فكانت لكلهم ركعتين مع إمامهم . وصلى مرة أخرى في أرض بني سليم .

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية ، على قول هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ورووا هذه الرواية : وإذا كنت يا محمد ، فيهم يعني : في أصحابك خائفا" فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك " ، يعني : ممن دخل معك في صلاتك فإذا سجدوا يقول : فإذا سجدت هذه الطائفة بسجودك ، ورفعت رءوسها من سجودها فليكونوا من ورائكم يقول : فليصر من خلفك خلف الطائفة التي حرستك وإياهم إذا سجدت بهم وسجدوا معك ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا يعني الطائفة الحارسة التي صلت معه ، غير أنها لم تسجد بسجوده . فمعنى قوله : لم يصلوا على مذهب هؤلاء : لم يسجدوا بسجودك فليصلوا معك [ ص: 160 ] يقول : فليسجدوا بسجودك إذا سجدت ، ويحرسك وإياهم الذين سجدوا بسجودك في الركعة الأولى وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم يعني الحارسة .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية ، قول من قال : معنى ذلك : فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتها فليكونوا من ورائكم يعني : من خلفك وخلف من يدخل في صلاتك ممن لم يصل معك الركعة الأولى بإزاء العدو ، وبعد فراغها من بقية صلاتها ولتأت طائفة أخرى وهي الطائفة التي كانت بإزاء العدو لم يصلوا يقول : لم يصلوا معك الركعة الأولى فليصلوا معك يقول : فليصلوا معك الركعة التي بقيت عليك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ، لقتال عدوهم ، بعد ما يفرغون من صلاتهم .

    وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه فعله يوم ذات الرقاع ، والخبر الذي روى سهل بن أبي حثمة .

    وإنما قلنا : ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الله عز ذكره قال : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " ، وقد دللنا على أن "إقامتها" ، إتمامها بركوعها وسجودها ، ودللنا مع ذلك على أن قوله : " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " ، إنما هو إذن بالقصر من ركوعها وسجودها في حال شدة الخوف .

    فإذ صح ذلك ، كان بينا أن لا وجه لتأويل من تأول ذلك : أن الطائفة الأولى إذا سجدت مع الإمام فقد انقضت صلاتها ، لقوله : " فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم " ، [ ص: 161 ] لاحتمال ذلك من المعاني ما ذكرت قبل ، ولأنه لا دلالة في الآية على أن القصر الذي ذكر في الآية قبلها ، عني به القصر من عدد الركعات .

    وإذ كان لا وجه لذلك ، فقول من قال : "أريد بذلك التقدم والتأخر في الصلاة ، على نحو صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان " ، أبعد . وذلك أن الله جل ثناؤه يقول : ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وكلتا الطائفتين قد كانت صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعته الأولى في صلاته بعسفان . ومحال أن تكون التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم هي التي لم تصل معه .

    فإن ظن ظان أنه أريد بقوله : لم يصلوا لم يسجدوا فإن ذلك غير الظاهر المفهوم من معاني "الصلاة" ، وإنما توجه معاني كلام الله جل ثناؤه إلى الأظهر والأشهر من وجوهها ، ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له .

    وإذ كان ذلك كذلك ولم يكن في الآية أمر من الله تعالى ذكره للطائفة الأولى بتأخير قضاء ما بقي عليها من صلاتها إلى فراغ الإمام من بقية صلاته ، ولا على المسلمين الذين بإزاء العدو في اشتغالها بقضاء ذلك ضرر لم يكن لأمرها بتأخير ذلك ، وانصرافها قبل قضاء باقي صلاتها عن موضعها ، معنى .

    غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإنا نرى أن من صلاها من الأئمة فوافقت صلاته بعض الوجوه التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلاها ، فصلاته مجزئة عنه تامة ، لصحة الأخبار بكل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه [ ص: 162 ] وسلم ، وأنه من الأمور التي علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ، ثم أباح لهم العمل بأي ذلك شاءوا .

    قال أبو جعفر : وأما قوله : " ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم " ، فإنه يعني : تمنى الذين كفروا بالله لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم : يقول : لو تشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم التي تقاتلونهم بها ، وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها . فيميلون عليكم ميلة واحدة يقول : فيحملون عليكم وأنتم مشاغيل بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم حملة واحدة ، فيصيبون منكم غرة بذلك ، فيقتلونكم ويستبيحون عسكركم .

    يقول جل ذكره : فلا تفعلوا ذلك بعد هذا ، فتشتغلوا جميعكم بصلاتكم إذا حضرتكم صلاتكم وأنتم مواقفو العدو ، فتمكنوا عدوكم من أنفسكم وأسلحتكم وأمتعتكم ، ولكن أقيموا الصلاة على ما بينت لكم ، وخذوا من عدوكم حذركم وأسلحتكم .
    [ ص: 163 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ( 102 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ولا جناح عليكم " ، ولا حرج عليكم ولا إثم " إن كان بكم أذى من مطر " ، يقول : إن نالكم [ أذى ] من مطر تمطرونه وأنتم مواقفو عدوكم " أو كنتم مرضى " ، يقول : أو كنتم جرحى أو أعلاء " أن تضعوا أسلحتكم " ، إن ضعفتم عن حملها ، ولكن إن وضعتم أسلحتكم من أذى مطر أو مرض ، فخذوا من عدوكم حذركم يقول : احترسوا منهم أن يميلوا عليكم وأنتم عنهم غافلون غارون " إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا " ، يعني بذلك : أعد لهم عذابا مذلا يبقون فيه أبدا ، لا يخرجون منه . وذلك هو عذاب جهنم .

    وقد ذكر أن قوله : " أو كنتم مرضى " نزل في عبد الرحمن بن عوف ، وكان جريحا . [ ص: 164 ]

    ذكر من قال ذلك :

    10379 - حدثنا عباس بن محمد قال : حدثنا حجاج قال : قال ابن جريج ، أخبرني يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى " ، عبد الرحمن بن عوف ، كان جريحا .
    القول في تأويل قوله ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإذا فرغتم ، أيها المؤمنون ، من صلاتكم وأنتم مواقفو عدوكم التي بيناها لكم ، فاذكروا الله على كل أحوالكم قياما وقعودا ومضطجعين على جنوبكم ، بالتعظيم له ، والدعاء لأنفسكم بالظفر على عدوكم ، لعل الله أن يظفركم وينصركم عليهم . وذلك نظير قوله : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) [ سورة الأنفال : 45 ] ، وكما : -

    10380 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " واذكروا الله كثيرا " ، يقول : لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما ، ثم عذر أهلها في حال عذر ، غير الذكر ، فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه ، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله ، فقال : " فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم " ، بالليل والنهار ، في البر والبحر ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسر والعلانية ، وعلى كل حال . [ ص: 165 ]

    وأما قوله : " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله .

    فقال بعضهم : معنى قوله : " فإذا اطمأننتم " ، فإذا استقررتم في أوطانكم وأقمتم في أمصاركم فأقيموا يعني : فأتموا الصلاة التي أذن لكم بقصرها في حال خوفكم في سفركم وضربكم في الأرض .

    ذكر من قال ذلك :

    10381 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد في قوله : " فإذا اطمأننتم " ، قال : الخروج من دار السفر إلى دار الإقامة .

    10382 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " فإذا اطمأننتم " ، يقول : إذا اطمأننتم في أمصاركم ، فأتموا الصلاة .

    وقال آخرون : معنى ذلك : فإذا استقررتم فأقيموا الصلاة أي : فأتموا حدودها بركوعها وسجودها .

    ذكر من قال ذلك :

    10383 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فإذا اطمأننتم " ، قال : فإذا اطمأننتم بعد الخوف .

    10384 - وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " ، قال : فإذا اطمأننتم فصلوا الصلاة ، لا تصلها راكبا ولا ماشيا ولا قاعدا . [ ص: 166 ]

    10385 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " ، قال : أتموها .

    10386 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بتأويل الآية ، تأويل من تأوله : فإذا زال خوفكم من عدوكم وأمنتم ، أيها المؤمنون ، واطمأنت أنفسكم بالأمن فأقيموا الصلاة فأتموا حدودها المفروضة عليكم ، غير قاصريها عن شيء من حدودها .

    وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية ، لأن الله تعالى ذكره عرف عباده المؤمنين الواجب عليهم من فرض صلاتهم بهاتين الآيتين في حالين :

    إحداهما : حال شدة خوف ، أذن لهم فيها بقصر الصلاة ، على ما بينت من قصر حدودها عن التمام .

    والأخرى : حال غير شدة الخوف ، أمرهم فيها بإقامة حدودها وإتمامها ، على ما وصفه لهم جل ثناؤه ، من معاقبة بعضهم بعضا في الصلاة خلف أئمتهم ، وحراسة بعضهم بعضا من عدوهم . وهي حالة لا قصر فيها ، لأنه يقول جل ثناؤه : لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الحال : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " . فمعلوم بذلك أن قوله : " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " ، إنما هو : فإذا اطمأننتم من الحال التي لم تكونوا مقيمين فيها صلاتكم ، فأقيموها . وتلك حالة شدة الخوف ، لأنه قد أمرهم بإقامتها في حال غير شدة الخوف بقوله : " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " الآية .
    [ ص: 167 ] القول في تأويل قوله ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ( 103 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : معناه : إن الصلاة كانت على المؤمنين فريضة مفروضة .

    ذكر من قال ذلك :

    10387 - حدثني أبو السائب قال : حدثنا ابن فضيل ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي في قوله : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " ، قال : مفروضا .

    10388 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " ، قال : مفروضا "الموقوت" المفروض .

    10389 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : أما " كتابا موقوتا " ، فمفروضا .

    10390 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : " كتابا موقوتا " ، قال : مفروضا . [ ص: 168 ]

    وقال آخرون : معنى ذلك : إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضا واجبا .

    ذكر من قال ذلك :

    10391 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن في قوله : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " ، قال : كتابا واجبا .

    10392 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " كتابا موقوتا " ، قال : واجبا .

    10393 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    10394 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن معمر بن سام ، عن أبي جعفر في قوله : " كتابا موقوتا " ، قال : موجبا . [ ص: 169 ]

    10395 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " ، و "الموقوت" ، الواجب .

    10396 - حدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا معمر بن يحيى قال : سمعت أبا جعفر يقول : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " ، قال : وجوبها .

    وقال آخرون : معنى ذلك : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ، منجما يؤدونها في أنجمها .

    ذكر من قال ذلك :

    10397 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " ، قال : قال ابن مسعود : إن للصلاة وقتا كوقت الحج .

    10398 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن زيد بن أسلم في قوله : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " ، قال : منجما ، كلما مضى نجم جاء نجم آخر . يقول : كلما مضى وقت جاء وقت آخر .

    10399 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 170 ] أبي جعفر الرازي ، عن زيد بن أسلم ، بمثله .

    قال أبو جعفر : وهذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض . لأن ما كان مفروضا فواجب ، وما كان واجبا أداؤه في وقت بعد وقت فمنجم .

    غير أن أولى المعاني بتأويل الكلمة ، قول من قال : "إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضا منجما" ، لأن "الموقوت" إنما هو "مفعول" من قول القائل : "وقت الله عليك فرضه فهو يقته" ، ففرضه عليك "موقوت" ، إذا أخرته ، جعل له وقتا يجب عليك أداؤه . فكذلك معنى قوله : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " ، إنما هو : كانت على المؤمنين فرضا وقت لهم وقت وجوب أدائه ، فبين ذلك لهم .




  6. #506
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (506)
    صــ 171 إلى صــ 185




    القول في تأويل قوله ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ولا تهنوا ولا تضعفوا .

    من قولهم : "وهن فلان في هذا الأمر يهن وهنا ووهونا" .

    وقوله : " في ابتغاء القوم " ، يعني : في التماس القوم وطلبهم ، و "القوم" [ ص: 171 ] هم أعداء الله وأعداء المؤمنين من أهل الشرك بالله " إن تكونوا تألمون " ، يقول : إن تكونوا أيها المؤمنون تيجعون مما ينالكم من الجراح منهم في الدنيا ، " فإنهم يألمون كما تألمون " ، يقول : فإن المشركين ييجعون مما ينالهم منكم من الجراح والأذى مثل ما تيجعون أنتم من جراحهم وأذاهم فيها وترجون أنتم أيها المؤمنون من الله من الثواب على ما ينالكم منهم " ما لا يرجون " هم على ما ينالهم منكم . يقول : فأنتم إذ كنتم موقنين من ثواب الله لكم على ما يصيبكم منهم ، بما هم به مكذبون ، أولى وأحرى أن تصبروا على حربهم وقتالهم ، منهم على قتالكم وحربكم ، وأن تجدوا من طلبهم وابتغائهم ، لقتالهم على ما يهنون فيه ولا يجدون ، فكيف على ما جدوا فيه ولم يهنوا؟

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    10400 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون " ، يقول : لا تضعفوا في طلب القوم ، فإنكم إن تكونوا تيجعون ، فإنهم ييجعون كما تيجعون ، وترجون من الله من الأجر والثواب ما لا يرجون . [ ص: 172 ]

    10401 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون " ، قال يقول : لا تضعفوا في طلب القوم ، فإن تكونوا تيجعون الجراحات ، فإنهم ييجعون كما تيجعون .

    10402 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولا تهنوا في ابتغاء القوم " ، لا تضعفوا .

    10403 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولا تهنوا " ، يقول : لا تضعفوا .

    10404 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ولا تهنوا في ابتغاء القوم " ، قال يقول : لا تضعفوا عن ابتغائهم إن تكونوا تألمون القتال " فإنهم يألمون كما تألمون " . وهذا قبل أن تصيبهم الجراح - إن كنتم تكرهون القتال فتألمونه - " فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " ، يقول : فلا تضعفوا في ابتغائهم بمكان القتال .

    10405 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " إن تكونوا تألمون " ، توجعون .

    10406 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج " إن تكونوا تألمون " ، قال : توجعون لما يصيبكم منهم ، فإنهم يوجعون [ ص: 173 ] كما توجعون ، وترجون أنتم من الثواب فيما يصيبكم ما لا يرجون .

    10407 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا حفص بن عمر قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما كان قتال أحد ، وأصاب المسلمين ما أصاب ، صعد النبي صلى الله عليه وسلم الجبل ، فجاء أبو سفيان فقال : "يا محمد ، ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ الحرب سجال ، يوم لنا ويوم لكم" . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : أجيبوه . فقالوا : "لا سواء ، لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار" . فقال أبو سفيان : "عزى لنا ولا عزى لكم" ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا له : "الله مولانا ولا مولى لكم" . قال أبو سفيان : "اعل هبل ، اعل هبل"! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا له : "الله أعلى وأجل"! فقال أبو سفيان : "موعدنا وموعدكم بدر الصغرى" ، ونام المسلمون وبهم الكلوم وقال عكرمة : وفيها أنزلت : ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ) [ سورة آل عمران : 140 ] ، وفيهم أنزلت : " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما " .

    10408 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون " ، [ ص: 174 ] قال : ييجعون كما تيجعون .

    وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يتأول قوله : " وترجون من الله ما لا يرجون " ، وتخافون من الله ما لا يخافون ، من قول الله : ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) [ سورة الجاثية : 14 ] ، بمعنى : لا يخافون أيام الله .

    وغير معروف صرف "الرجاء" إلى معنى "الخوف" في كلام العرب ، إلا مع جحد سابق له ، كما قال جل ثناؤه : ( ما لكم لا ترجون لله وقارا ) [ سورة نوح : 13 ] ، بمعنى : لا تخافون لله عظمة ، وكما قال الشاعر :


    لا ترتجي حين تلاقي الذائدا أسبعة لاقت معا أم واحدا


    وكما قال أبو ذؤيب الهذلي :


    إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل
    [ ص: 175 ]

    وهي فيما بلغنا - لغة لأهل الحجاز يقولونها ، بمعنى : ما أبالي ، وما أحفل .
    القول في تأويل قوله ( وكان الله عليما حكيما ( 104 ) )

    يعني بذلك جل ثناؤه : ولم يزل الله "عليما" بمصالح خلقه "حكيما" ، في تدبيره وتقديره . ومن علمه ، أيها المؤمنون ، بمصالحكم عرفكم - عند حضور صلاتكم وواجب فرض الله عليكم ، وأنتم مواقفو عدوكم - ما يكون به وصولكم إلى أداء فرض الله عليكم ، والسلامة من عدوكم . ومن حكمته بصركم ما فيه تأييدكم وتوهين كيد عدوكم .
    القول في تأويل قوله ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ( 105 ) ) ( واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ( 106 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " إنا أنزلنا إليك يا محمد الكتاب يعني : القرآن لتحكم بين الناس لتقضي بين الناس فتفصل بينهم بما أراك الله [ ص: 176 ] يعني : بما أنزل الله إليك من كتابه ولا تكن للخائنين خصيما يقول : ولا تكن لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله خصيما تخاصم عنه ، وتدفع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه واستغفر الله يا محمد ، وسله أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان مالا لغيره إن الله كان غفورا رحيما يقول : إن الله لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنين ، بتركه عقوبتهم عليها إذا استغفروه منها رحيما بهم .

    فافعل ذلك أنت ، يا محمد ، يغفر الله لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن .

    وقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خاصم عن الخائن ، ولكنه هم بذلك ، فأمره الله بالاستغفار مما هم به من ذلك .

    وذكر أن الخائنين الذين عاتب الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم في خصومته عنهم : بنو أبيرق .

    واختلف أهل التأويل في خيانته التي كانت منه ، فوصفه الله بها .

    فقال بعضهم : كانت سرقة سرقها .

    ذكر من قال ذلك :

    10409 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " إلى قوله : " ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله " ، فيما بين ذلك ، في ابن أبيرق ، ودرعه من حديد ، من يهود ، التي سرق ، [ ص: 177 ] وقال أصحابه من المؤمنين للنبي : "اعذره في الناس بلسانك" ، ورموا بالدرع رجلا من يهود بريئا .

    10410 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .

    10411 - حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني قال : حدثنا محمد بن سلمة قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أبيه ، عن جده قتادة بن النعمان قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق : بشر وبشير ، ومبشر ، وكان بشير رجلا منافقا ، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ينحله إلى بعض العرب ، ثم يقول : "قال فلان كذا" ، و "قال فلان كذا" ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث! فقال :


    أوكلما قال الرجال قصيدة أضموا وقالوا : ابن الأبيرق قالها!


    قال : وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس [ ص: 178 ] إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشأم بالدرمك ، ابتاع الرجل منها فخص به نفسه . فأما العيال ، فإنما طعامهم التمر والشعير . فقدمت ضافطة منالشأم ، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك ، فجعله في مشربة له ، وفي المشربة سلاح له : درعان وسيفاهما وما يصلحهما . فعدي عليه من تحت الليل ، فنقبت المشربة ، وأخذ الطعام والسلاح . فلما أصبح ، أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه ، فنقبت مشربتنا ، فذهب بسلاحنا وطعامنا! قال : فتحسسنا في الدار ، وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم .

    قال : وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار : والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل ! رجلا منا له صلاح وإسلام . فلما سمع بذلك لبيد ، اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال : والله ليخالطنكم هذا السيف ، أو لتبينن هذه [ ص: 179 ] السرقة . قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فوالله ما أنت بصاحبها! فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ، فقال عمي : يا ابن أخي ، لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له!

    قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت : يا رسول الله ، إن أهل بيت منا أهل جفاء ، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه ، فليردوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنظر في ذلك . فلما سمع بذلك بنو أبيرق ، أتوا رجلا منهم يقال له : " أسير بن عروة " ، فكلموه في ذلك . واجتمع إليه ناس من أهل الدار ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت .

    قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته ، فقال : عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت!! قال : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك . فأتيت عمي رفاعة ، فقال : يا ابن أخي ، ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان!

    فلم نلبث أن نزل القرآن : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما " ، يعني : بني أبيرق واستغفر الله أي : مما قلت لقتادة " إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " [ ص: 180 ] أي : بني أبيرق إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس إلى قوله : " ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " ، أي : إنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم " ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " ، قولهم للبيد " ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك " ، يعني : أسيرا وأصحابه" وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة " إلى قوله : " فسوف نؤتيه أجرا عظيما " .

    فلما نزل القرآن ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة . قال قتادة : فلما أتيت عمي بالسلاح ، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية ، وكنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي ، هو في سبيل الله . قال : فعرفت أن إسلامه كان صحيحا . فلما نزل القرآن ، لحق بشير بالمشركين ، فنزل على سلافة ابنة سعد بن شهيد ، فأنزل الله فيه : [ ص: 181 ] ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ) إلى قوله : ( ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ) . فلما نزل على سلافة ، رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر ،

    فأخذت رحله فوضعته على رأسها ، ثم خرجت فرمت به في الأبطح ، ثم قالت : أهديت إلي شعر حسان ! ما كنت تأتيني بخير
    ! [ ص: 182 ]

    10412 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " ، يقول : بما أنزل الله عليك وبين لك " ولا تكن للخائنين خصيما " ، فقرأ إلى قوله : " إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما " . ذكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق ، وفيما هم به نبي الله صلى الله عليه وسلم من عذره ، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق ، ووعظ نبيه وحذره أن يكون للخائنين خصيما .

    وكان طعمة بن أبيرق رجلا من الأنصار ، ثم أحد بني ظفر ، سرق درعا لعمه كانت وديعة عنده ، ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم ، يقال له : " زيد بن السمين " . فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يهنف ، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر ، جاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم ، [ ص: 183 ] وكان نبي الله عليه السلام قد هم بعذره ، حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل ، فقال : " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " إلى قوله : " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة " ، يعني بذلك قومه " ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " ، وكان طعمة قذف بها بريئا . فلما بين الله شأن طعمة ، نافق ولحق بالمشركين بمكة ، فأنزل الله في شأنه :

    ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا )
    .

    10413 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما " ، وذلك أن نفرا من الأنصار غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فسرقت درع لأحدهم ، فأظن بها رجلا من الأنصار ، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي . فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما رأى السارق ذلك ، عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء ، وقال لنفر من عشيرته : إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان ، وستوجد عنده . فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا : يا نبي الله ، إن صاحبنا بريء ، وإن سارق الدرع فلان ، وقد أحطنا بذلك علما ، فاعذر صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه ، فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك! فقام رسول الله صلى الله [ ص: 184 ] عليه وسلم فبرأه وعذره على رءوس الناس ، فأنزل الله : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما " ، يقول : احكم بينهم بما أنزل الله إليك في الكتاب واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم الآية . ثم قال للذين أتوا رسول الله عليه السلام ليلا" يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله " إلى قوله : " أم من يكون عليهم وكيلا " ، يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائن ثم قال : " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب ثم قال : " ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " ، يعني السارق والذين يجادلون عن السارق .

    10414 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " الآية ، قال : كان رجل سرق درعا من حديد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وطرحه على يهودي ، فقال اليهودي : والله ما سرقتها يا أبا القاسم ، ولكن طرحت علي! وكان للرجل الذي سرق جيران يبرئونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون : يا رسول الله ، إن هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به! قال : حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض القول ، فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله " بما قلت لهذا اليهودي إن الله كان غفورا رحيما ثم أقبل على جيرانه فقال : " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا " فقرأ حتى بلغ " أم من يكون عليهم وكيلا " . قال : ثم عرض التوبة فقال : [ ص: 185 ] " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه " ، فما أدخلكم أنتم أيها الناس ، على خطيئة هذا تكلمون دونه " وكان الله عليما حكيما ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا " ، وإن كان مشركا " فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " ، فقرأ حتى بلغ : " لا خير في كثير من نجواهم " ، فقرأ حتى بلغ : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى " . قال : أبى أن يقبل التوبة التي عرض الله له ، وخرج إلى المشركين بمكة فنقب بيتا يسرقه ، فهدمه الله عليه فقتله . فذلك قول الله تبارك وتعالى " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى " ، فقرأ حتى بلغ وساءت مصيرا ويقال : هو طعمة بن أبيرق ، وكان نازلا في بني ظفر .

    وقال آخرون : بل الخيانة التي وصف الله بها من وصفه بقوله : " ولا تكن للخائنين خصيما " ، جحوده وديعة كان أودعها .

    ذكر من قال ذلك :





  7. #507
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (507)
    صــ 186 إلى صــ 200



    10415 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما " ، قال : أما ما أراك الله فما أوحى الله إليك . قال : نزلت في طعمة بن أبيرق ، استودعه رجل من اليهود درعا ، فانطلق بها إلى داره ، فحفر لها اليهودي ثم دفنها . فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها . فلما جاء اليهودي يطلب درعه ، كافره عنها ، فانطلق إلى ناس من [ ص: 186 ] اليهود من عشيرته فقال : انطلقوا معي ، فإني أعرف موضع الدرع . فلما علم بهم طعمة ، أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مليل الأنصاري . فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها ، وقع به طعمة وأناس من قومه فسبوه ، وقال : أتخونونني! فانطلقوا يطلبونها في داره ، فأشرفوا على بيت أبي مليل ، فإذا هم بالدرع . وقال طعمة : أخذها أبو مليل ! وجادلت الأنصار دون طعمة ، وقال لهم : انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له ينضح عني ويكذب حجة اليهودي ، فإني إن أكذب كذب على أهل المدينة اليهودي! فأتاه أناس من الأنصار فقالوا : يا رسول الله ، جادل عن طعمة وأكذب اليهودي . فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ، فأنزل الله عليه : " ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله " مما أردت " إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما " ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه فقال : " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول " ، يقول : يقولون ما لا يرضى من القول " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة " ثم دعا إلى التوبة فقال : " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " ثم ذكر قوله حين قال : "أخذها أبو مليل " فقال : " ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه " " ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " ثم ذكر الأنصار وإتيانها إياه : أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه ، فقال : " لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة " ، يقول : النبوة ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون [ ص: 187 ] أن يكذبوا عن طعمة ، فقال : " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " . فلما فضح الله طعمة بالمدينة بالقرآن ، هرب حتى أتى مكة ، فكفر بعد إسلامه ، ونزل على الحجاج بن علاط السلمي ، فنقب بيت الحجاج ، فأراد أن يسرقه ، فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقعة جلود كانت عنده ، فنظر فإذا هو بطعمة فقال : ضيفي وابن عمي وأردت أن تسرقني!! فأخرجه ، فمات بحرة بني سليم كافرا ، وأنزل الله فيه : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى " إلى" وساءت مصيرا " .

    10416 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : استودع رجل من الأنصار طعمة بن أبيرق مشربة له فيها درع ، وخرج فغاب . فلما قدم الأنصاري فتح مشربته ، فلم يجد الدرع ، فسأل عنها طعمة بن أبيرق ، فرمى بها رجلا من اليهود يقال له زيد بن السمين : فتعلق صاحب الدرع بطعمة في درعه . فلما رأى ذلك قومه ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكلموه ليدرأ عنه ، فهم بذلك ، فأنزل الله تبارك وتعالى : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " ، يعني : طعمة بن أبيرق وقومه [ ص: 188 ] " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا " ، محمد صلى الله عليه وسلم وقوم طعمة " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " ، محمد وطعمة وقومه قال : " ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه " الآية ، طعمة " ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا " ، يعني زيد بن السمين " فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " ، طعمة بن أبيرق " ولولا فضل الله عليك ورحمته " يا محمد " لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء " ، قوم طعمة بن أبيرق " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما " يا محمد " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف " ، حتى تنقضي الآية للناس عامة " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين " الآية . قال : لما نزل القرآن في طعمة بن أبيرق ، لحق بقريش ورجع في دينه ، ثم عدا على مشربة للحجاج بن علاط البهزي ثم السلمي ، حليف لبني عبد الدار ، فنقبها ، فسقط عليه حجر فلحج . فلما أصبح أخرجوه من مكة . فخرج فلقي ركبا من بهراء من قضاعة ، فعرض لهم فقال : ابن سبيل منقطع به! فحملوه ، حتى إذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ، ثم انطلق . فرجعوا في طلبه فأدركوه ، فقذفوه بالحجارة حتى مات . قال ابن جريج : فهذه الآيات كلها فيه نزلت إلى قوله : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ، أنزلت في طعمة بن أبيرق ويقولون : إنه رمى بالدرع في دار أبي مليل [ ص: 189 ] بن عبد الله الخزرجي ، فلما نزل القرآن لحق بقريش ، فكان من أمره ما كان .

    10417 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " لتحكم بين الناس بما أراك الله " ، يقول : بما أنزل عليك وأراكه في كتابه . ونزلت هذه الآية في رجل من الأنصار استودع درعا فجحد صاحبها ، فخونه رجال من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فغضب له قومه ، وأتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : خونوا صاحبنا ، وهو أمين مسلم ، فاعذره يا نبي الله وازجر عنه! فقام نبي الله فعذره وكذب عنه ، وهو يرى أنه بريء ، وأنه مكذوب عليه ، فأنزل الله بيان ذلك فقال : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " إلى قوله : " أم من يكون عليهم وكيلا " ، فبين الله خيانته ، فلحق بالمشركين من أهل مكة وارتد عن الإسلام ، فنزل فيه : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى " إلى قوله : " وساءت مصيرا " .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بما دل عليه ظاهر الآية ، قول من قال : كانت خيانته التي وصفه الله بها في هذه الآية ، جحوده ما أودع ، لأن ذلك هو المعروف من معاني "الخيانات" في كلام العرب . وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيل ، أولى من غيره .
    [ ص: 190 ] القول في تأويل قوله ( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ( 107 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولا تجادل يا محمد ، فتخاصم " عن الذين يختانون أنفسهم " ، يعني : يخونون أنفسهم ، يجعلونها خونة بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه ماله ، وهم بنو أبيرق . يقول : لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم وما خانوه فيه من أموالهم " إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما " ، يقول : إن الله لا يحب من كان من صفته خيانة الناس في أموالهم ، وركوب الإثم في ذلك وغيره مما حرمه الله عليه .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل : وقد تقدم ذكر الرواية عنهم .

    10418 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " ، قال : اختان رجل عما له درعا ، فقذف بها يهوديا كان يغشاهم ، فجادل عم الرجل قومه ، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عذره . ثم لحق بأرض الشرك ، فنزلت فيه : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى " الآية .
    [ ص: 191 ] القول في تأويل قوله ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ( 108 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يستخفون من الناس " ، يستخفي هؤلاء الذين يختانون أنفسهم ما أتوا من الخيانة ، وركبوا من العار والمعصية من الناس الذين لا يقدرون لهم على شيء ، إلا ذكرهم بقبيح ما أتوا من فعلهم ، وشنيع ما ركبوا من جرمهم إذا اطلعوا عليه ، حياء منهم وحذرا من قبيح الأحدوثة " ولا يستخفون من الله " الذي هو مطلع عليهم ، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، وبيده العقاب والنكال وتعجيل العذاب ، وهو أحق أن يستحى منه من غيره ، وأولى أن يعظم بأن لا يراهم حيث يكرهون أن يراهم أحد من خلقه وهو معهم يعني : والله شاهدهم " إذ يبيتون ما لا يرضى من القول " ، يقول : حين يسوون ليلا ما لا يرضى من القول ، فيغيرونه عن وجهه ، ويكذبون فيه .

    وقد بينا معنى "التبييت" في غير هذا الموضع ، وأنه كل كلام أو أمر أصلح ليلا .

    وقد حكي عن بعض الطائيين أن "التبييت" في لغتهم : التبديل ، وأنشد للأسود بن عامر بن جوين الطائي في معاتبة رجل :

    [ ص: 192 ]
    وبيت قولي عبد المليك قاتلك الله عبدا كنودا!!


    بمعنى : بدلت قولي .

    وروي عن أبي رزين أنه كان يقول في معنى قوله : "يبيتون" ، يؤلفون .

    10419 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي رزين : " إذ يبيتون ما لا يرضى من القول " ، قال : يؤلفون ما لا يرضى من القول .

    10420 - حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال : حدثنا أبو يحيى الحماني ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي رزين بنحوه .

    10421 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي رزين ، مثله .

    قال أبو جعفر : وهذا القول شبيه المعنى بالذي قلناه . وذلك أن "التأليف" هو التسوية والتغيير عما هو به ، وتحويله عن معناه إلى غيره .

    وقد قيل : عنى بقوله : " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله " ، الرهط الذين مشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة المدافعة عن ابن أبيرق والجدال عنه ، على ما ذكرنا قبل فيما مضى عن ابن عباس وغيره .

    " وكان الله بما يعملون محيطا " يعني جل ثناؤه : وكان الله بما يعمل هؤلاء [ ص: 193 ] المستخفون من الناس ، فيما أتوا من جرمهم ، حياء منهم ، من تبييتهم ما لا يرضى من القول ، وغيره من أفعالهم محيطا محصيا لا يخفى عليه شيء منه ، حافظا لذلك عليهم ، حتى يجازيهم عليه جزاءهم .
    القول في تأويل قوله ( ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ( 109 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا " ، ها أنتم الذين جادلتم ، يا معشر من جادل عن بني أبيرق في الحياة الدنيا و "الهاء والميم" في قوله : "عنهم" من ذكر الخائنين .

    " فمن يجادل الله عنهم " ، يقول : فمن ذا يخاصم الله عنهم يوم القيامة أي : يوم يقوم الناس من قبورهم لمحشرهم ، فيدافع عنهم ما الله فاعل بهم ومعاقبهم به . وإنما يعني بذلك : إنكم أيها المدافعون عن هؤلاء الخائنين أنفسهم ، وإن دافعتم عنهم في عاجل الدنيا ، فإنهم سيصيرون في آجل الآخرة إلى من لا يدافع عنهم عنده أحد فيما يحل بهم من أليم العذاب ونكال العقاب .

    وأما قوله : " أم من يكون عليهم وكيلا " ، فإنه يعني : ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلا يوم القيامة أي : ومن يتوكل لهم في خصومة ربهم عنهم يوم القيامة .

    وقد بينا معنى : "الوكالة" ، فيما مضى ، وأنها القيام بأمر من توكل له .
    [ ص: 194 ] القول في تأويل قوله ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ( 110 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ومن يعمل ذنبا ، وهو "السوء" أو يظلم نفسه بإكسابه إياها ما يستحق به عقوبة الله ثم يستغفر الله يقول : ثم يتوب إلى الله بإنابته مما عمل من السوء وظلم نفسه ، ومراجعته ما يحبه الله من الأعمال الصالحة التي تمحو ذنبه وتذهب جرمه يجد الله غفورا رحيما يقول : يجد ربه ساترا عليه ذنبه بصفحه له عن عقوبة جرمه ، رحيما به .

    واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية .

    فقال بعضهم : عنى بها الذين وصفهم الله بالخيانة بقوله : " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " .

    وقال آخرون : بل عنى بها الذين كانوا يجادلون عن الخائنين ، الذين قال الله لهم : " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا " ، وقد ذكرنا قائلي القولين كليهما فيما مضى .

    قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا : أنه عنى بها كل من عمل سوءا أو ظلم نفسه ، وإن كانت نزلت في أمر الخائنين والمجادلين عنهم الذين ذكر الله أمرهم في الآيات قبلها . [ ص: 195 ]

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    10422 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن عاصم ، عن أبي وائل قال : قال عبد الله : كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه . وإذا أصاب البول شيئا منه ، قرضه بالمقراض . فقال رجل : لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا! فقال عبد الله : ما آتاكم الله خير مما آتاهم ، جعل الله الماء لكم طهورا وقال : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ) [ سورة آل عمران : 135 ] ، وقال : " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " .

    10423 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا ابن عون ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاءت امرأة إلى عبد الله بن مغفل ، فسألته عن امرأة فجرت فحبلت ، فلما ولدت قتلت ولدها؟ فقال ابن مغفل : ما لها؟ لها النار! فانصرفت وهي تبكي ، فدعاها ثم قال : ما أرى أمرك إلا أحد أمرين : " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " ، قال : فمسحت عينها ثم مضت .

    10424 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " [ ص: 196 ] ، قال : أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه ، وسعة رحمته ومغفرته ، فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرا ، ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ، ولو كانت ذنوبه أعظم من السماوات والأرض والجبال .
    القول في تأويل قوله ( ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ( 111 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ومن يأت ذنبا على عمد منه له ومعرفة به ، فإنما يجترح وبال ذلك الذنب وضره وخزيه وعاره على نفسه ، دون غيره من سائر خلق الله . يقول : فلا تجادلوا ، أيها الذين تجادلون ، عن هؤلاء الخونة ، فإنكم - وإن كنتم لهم عشيرة وقرابة وجيرانا - برآء مما أتوه من الذنب ومن التبعة التي يتبعون بها ، وإنكم متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم ، كنتم مثلهم ، فلا تدافعوا عنهم ولا تخاصموا .

    وأما قوله : وكان الله عليما حكيما فإنه يعني : وكان الله عالما بما تفعلون ، أيها المجادلون عن الذين يختانون أنفسهم ، في جدالكم عنهم وغير ذلك من أفعالكم وأفعال غيركم ، وهو يحصيها عليكم وعليهم ، حتى يجازي جميعكم بها حكيما يقول : وهو حكيم بسياستكم وتدبيركم وتدبير جميع خلقه .

    وقيل : نزلت هذه الآية في بني أبيرق . وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى قبل .
    [ ص: 197 ] القول في تأويل قوله ( ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ( 112 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : من يعمل خطيئة وهي الذنب أو إثما وهو ما لا يحل من المعصية .

    وإنما فرق بين "الخطيئة والإثم" ، لأن "الخطيئة" ، قد تكون من قبل العمد وغير العمد ، و "الإثم" لا يكون إلا من العمد ، ففصل جل ثناؤه لذلك بينهما فقال : ومن يأت "خطيئة" على غير عمد منه لها "أو إثما" على عمد منه .

    " ثم يرم به بريئا " ، يعني : ثم يضيف ما له من خطئه أو إثمه الذي تعمده "بريئا" مما أضافه إليه ونحله إياه " فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " يقول : فقد تحمل بفعله ذلك فرية وكذبا وإثما عظيما يعني ، وجرما عظيما ، على علم منه وعمد لما أتى من معصيته وذنبه .

    واختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله : "بريئا" ، بعد إجماع جميعهم على أن الذي رمى البريء من الإثم الذي كان أتاه ، ابن أبيرق الذي وصفنا شأنه قبل . [ ص: 198 ]

    فقال بعضهم : عنى الله عز وجل بالبريء ، رجلا من المسلمين يقال له : " لبيد بن سهل " .

    وقال آخرون : بل عنى رجلا من اليهود يقال له : " زيد بن السمين " ، وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى .

    وممن قال : "كان يهوديا" ، ابن سيرين .

    10425 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا غندر ، عن شعبة ، عن خالد الحذاء ، عن ابن سيرين : ثم يرم به بريئا قال : يهوديا .

    10426 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا بدل بن المحبر قال : حدثنا شعبة ، عن خالد ، عن ابن سيرين ، مثله .

    وقيل : " يرم به بريئا " ، بمعنى : ثم يرم بالإثم الذي أتى هذا الخائن ، من هو بريء مما رماه به ، ف "الهاء" في قوله : به عائدة على "الإثم" . ولو جعلت كناية من ذكر "الإثم" و "الخطيئة" ، كان جائزا ، لأن الأفعال وإن اختلفت العبارات عنها ، فراجعة إلى معنى واحد بأنها فعل .

    وأما قوله : " فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " ، فإن معناه : فقد تحمل - هذا الذي رمى بما أتى من المعصية وركب من الإثم والخطيئة ، من هو بريء مما رماه به [ ص: 199 ] من ذلك - بهتانا وهو الفرية والكذب وإثما مبينا يعني وزرا مبينا يعني أنه يبين عن أمر متحمله وجراءته على ربه ، وتقدمه على خلافه فيما نهاه عنه لمن يعرف أمره .
    القول في تأويل قوله ( ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ( 113 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ولولا فضل الله عليك ورحمته " ، ولولا أن الله تفضل عليك ، يا محمد ، فعصمك بتوفيقه وتبيانه لك أمر هذا الخائن ، فكففت لذلك عن الجدال عنه ، ومدافعة أهل الحق عن حقهم قبله " لهمت طائفة منهم " يقول : لهمت فرقة منهم ، يعني من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم أن يضلوك يقول : يزلوك عن طريق الحق ، وذلك لتلبيسهم أمر الخائن عليه صلى الله عليه وسلم ، وشهادتهم للخائن عنده بأنه بريء مما ادعي عليه ، ومسألتهم إياه أن يعذره ويقوم بمعذرته في أصحابه ، فقال الله تبارك وتعالى : وما يضل هؤلاء الذين هموا بأن يضلوك عن الواجب من الحكم في أمر هذا الخائن درع جاره ، إلا أنفسهم . [ ص: 200 ]

    فإن قال قائل : ما كان وجه إضلالهم أنفسهم؟

    قيل : وجه إضلالهم أنفسهم : أخذهم بها في غير ما أباح الله لهم الأخذ بها فيه من سبله . وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان تقدم إليهم فيما تقدم في كتابه على لسان رسوله إلى خلقه ، بالنهي عن أن يتعاونوا على الإثم والعدوان ، والأمر بالتعاون على الحق . فكان من الواجب لله فيمن سعى في أمر الخائنين الذين وصف الله أمرهم بقوله : " ولا تكن للخائنين خصيما " ، معاونة من ظلموه ، دون من خاصمهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب حقه منهم . فكان سعيهم في معونتهم ، دون معونة من ظلموه ، أخذا منهم في غير سبيل الله . وذلك هو إضلالهم أنفسهم الذي وصفه الله فقال : " وما يضلون إلا أنفسهم " .

    " وما يضرونك من شيء " ، وما يضرك هؤلاء الذين هموا لك أن يزلوك عن الحق في أمر هذا الخائن من قومه وعشيرته من شيء لأن الله مثبتك ومسددك في أمورك ، ومبين لك أمر من سعوا في إضلالك عن الحق في أمره وأمرهم ، ففاضحه وإياهم .





  8. #508
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (508)
    صــ 201 إلى صــ 215




    وقوله : " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة " ، يقول : ومن فضل الله عليك ، يا محمد ، مع سائر ما تفضل به عليك من نعمه ، أنه أنزل عليك الكتاب وهو القرآن الذي فيه بيان كل شيء وهدى وموعظة والحكمة يعني : وأنزل عليك مع الكتاب الحكمة ، وهي ما كان في الكتاب مجملا ذكره ، من حلاله وحرامه ، وأمره ونهيه ، وأحكامه ، ووعده ووعيده " وعلمك ما لم تكن تعلم " من خبر الأولين والآخرين ، وما كان وما هو كائن ، فكل ذلك من فضل الله عليك ، يا محمد ، مذ خلقك ، فاشكره على ما أولاك من إحسانه إليك ، بالتمسك بطاعته ، [ ص: 201 ] والمسارعة إلى رضاه ومحبته ، ولزوم العمل بما أنزل إليك في كتابه وحكمته ، ومخالفة من حاول إضلالك عن طريقه ومنهاج دينه ، فإن الله هو الذي يتولاك بفضله ، ويكفيك غائلة من أرادك بسوء وحاول صدك عن سبيله ، كما كفاك أمر الطائفة التي همت أن تضلك عن سبيله في أمر هذا الخائن . ولا أحد دونه ينقذك من سوء إن أراد بك ، إن أنت خالفته في شيء من أمره ونهيه ، واتبعت هوى من حاول صدك عن سبيله .

    وهذه الآية تنبيه من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على موضع خطئه ، وتذكير منه له الواجب عليه من حقه .
    القول في تأويل قوله ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ( 114 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " لا خير في كثير من نجواهم " لا خير في كثير من نجوى الناس جميعا إلا من أمر بصدقة أو معروف و "المعروف" ، هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البر والخير ، " أو إصلاح بين الناس " ، وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين ، بما أباح الله الإصلاح بينهما ، [ ص: 202 ] ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة ، على ما أذن الله وأمر به .

    ثم أخبر جل ثناؤه بما وعد من فعل ذلك فقال : " ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما " ، يقول : ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر ، أو يصلح بين الناس " ابتغاء مرضاة الله " ، يعني : طلب رضا الله بفعله ذلك " فسوف نؤتيه أجرا عظيما " ، يقول : فسوف نعطيه جزاء لما فعل من ذلك عظيما ، ولا حد لمبلغ ما سمى الله "عظيما" يعلمه سواه .

    واختلف أهل العربية في معنى قوله : " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة " . فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : لا خير في كثير من نجواهم ، إلا في نجوى من أمر بصدقة ، كأنه عطف ب "من" على "الهاء والميم" التي في "نجواهم" . وذلك خطأ عند أهل العربية ، لأن "إلا" لا تعطف على "الهاء والميم" في مثل هذا الموضع ، من أجل أنه لم ينله الجحد .

    وقال بعض نحويي الكوفة : قد تكون "من" في موضع خفض ونصب . أما الخفض ، فعلى قولك : لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة . فتكون "النجوى" على هذا التأويل ، هم الرجال المناجون ، كما قال جل ثناؤه : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) [ سورة المجادلة : 7 ] ، وكما قال ( وإذ هم نجوى ) [ سورة الإسراء : 47 ] . [ ص: 203 ]

    وأما النصب ، فعلى أن تجعل "النجوى" فعلا فيكون نصبا ، لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعا ، لأن "من" خلاف "النجوى" ، فيكون ذلك نظير قول الشاعر .


    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وما بالربع من أحد إلا أواري لأيا ما أبينها
    . . . . . . . . . . . . . . .


    وقد يحتمل "من" على هذا التأويل أن يكون رفعا ، كما قال الشاعر :
    وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
    [ ص: 204 ]

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك ، أن تجعل "من" في موضع خفض ، بالرد على "النجوى" وتكون "النجوى" بمعنى جمع المتناجين ، خرج مخرج "السكرى" و "الجرحى" و "المرضى" . وذلك أن ذلك أظهر معانيه .

    فيكون تأويل الكلام : لا خير في كثير من المتناجين ، يا محمد ، من الناس ، إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ، فإن أولئك فيهم الخير .
    القول في تأويل قوله ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ( 115 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ومن يشاقق الرسول " ، ومن يباين الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ، معاديا له ، فيفارقه على العداوة له " من بعد ما تبين له الهدى " ، يعني : من بعد ما تبين له أنه رسول الله ، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم " ويتبع غير سبيل المؤمنين " ، يقول : ويتبع طريقا غير طريق أهل التصديق ، ويسلك منهاجا غير [ ص: 205 ] منهاجهم ، وذلك هو الكفر بالله ، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم " نوله ما تولى " ، يقول : نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام ، وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئا ، ولا تنفعه ، كما : -

    10427 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " نوله ما تولى " ، قال : من آلهة الباطل .

    10428 - حدثني ابن المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    " ونصله جهنم " ، يقول : ونجعله صلاء نار جهنم ، يعني : نحرقه بها .

    وقد بينا معنى "الصلى" فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

    " وساءت مصيرا " ، يقول وساءت جهنم "مصيرا" ، موضعا يصير إليه من صار إليه .

    ونزلت هذه الآية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله : " ولا تكن للخائنين خصيما " ، لما أبى التوبة من أبى منهم ، وهو طعمة بن الأبيرق ، ولحق بالمشركين من عبدة الأوثان بمكة مرتدا ، مفارقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه .
    [ ص: 206 ] القول في تأويل قوله ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ( 116 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الله لا يغفر لطعمة إذ أشرك ومات على شركه بالله ، ولا لغيره من خلقه بشركهم وكفرهم به " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ، يقول : ويغفر ما دون الشرك بالله من الذنوب لمن يشاء . يعني بذلك جل ثناؤه : أن طعمة لولا أنه أشرك بالله ومات على شركه ، لكان في مشيئة الله على ما سلف من خيانته ومعصيته ، وكان إلى الله أمره في عذابه والعفو عنه وكذلك حكم كل من اجترم جرما ، فإلى الله أمره ، إلا أن يكون جرمه شركا بالله وكفرا ، فإنه ممن حتم عليه أنه من أهل النار إذا مات على شركه ، فأما إذا مات على شركه ، فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار .

    وقال السدي في ذلك بما : -

    10429 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ، يقول : من يجتنب الكبائر من المسلمين .

    وأما قوله : " ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا " ، فإنه يعني : ومن يجعل لله في عبادته شريكا ، فقد ذهب عن طريق الحق وزال عن قصد السبيل ، [ ص: 207 ] ذهابا بعيدا وزوالا شديدا ، وذلك أنه بإشراكه بالله في عبادته قد أطاع الشيطان وسلك طريقه ، وترك طاعة الله ومنهاج دينه . فذاك هو الضلال البعيد والخسران المبين .
    القول في تأويل قوله ( إن يدعون من دونه إلا إناثا )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : معنى ذلك : إن يدعون من دونه إلا اللات والعزى ومناة ، فسماهن الله "إناثا" ، بتسمية المشركين إياهن بتسمية الإناث .

    ذكر من قال ذلك :

    10430 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : " إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، قال : اللات والعزى ومناة ، كلها مؤنث .

    10431 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك بنحوه إلا أنه قال : كلهن مؤنث .

    10432 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، يقول : يسمونهم "إناثا" : لات ومناة وعزى .

    10433 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، قال : آلهتهم ، اللات والعزى ويساف [ ص: 208 ] ونائلة ، إناث ، يدعونهم من دون الله . وقرأ : " وإن يدعون إلا شيطانا مريدا " .

    وقال آخرون : معنى ذلك : إن يدعون من دونه إلا مواتا لا روح فيه .

    ذكر من قال ذلك :

    10434 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، يقول : ميتا .

    10435 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، أي : إلا ميتا لا روح فيه .

    10436 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن : " إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، قال : و "الإناث" كل شيء ميت ليس فيه روح : خشبة يابسة أو حجر يابس ، قال الله تعالى : " وإن يدعون إلا شيطانا مريدا " إلى قوله : "فليبتكن آذان الأنعام" .

    وقال آخرون : عنى بذلك أن المشركين كانوا يقولون : "الملائكة بنات الله" .

    ذكر من قال ذلك :

    10437 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا [ ص: 209 ] جويبر ، عن الضحاك في قوله : " إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، قال : الملائكة ، يزعمون أنهم بنات الله .

    وقال آخرون : معنى ذلك : أن أهل الأوثان كانوا يسمون أوثانهم "إناثا" ، فأنزل الله ذلك كذلك .

    ذكر من قال ذلك :

    10438 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن نوح بن قيس ، عن أبي رجاء ، عن الحسن قال : كان لكل حي من أحياء العرب صنم ، يسمونها "أنثى بني فلان" ، فأنزل الله " إن يدعون من دونه إلا إناثا " .

    10439 - حدثني المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا نوح بن قيس قال : حدثنا محمد بن سيف أبو رجاء الحداني قال : سمعت الحسن يقول : كان لكل حي من العرب ، فذكر نحوه .

    وقال آخرون : "الإناث" في هذا الموضع ، الأوثان .

    ذكر من قال ذلك :

    10440 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "إناثا" قال : أوثانا . [ ص: 210 ]

    10441 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    10442 - حدثنا سفيان قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : كان في مصحف عائشة : "إن يدعون من دونه إلا أوثانا" .

    قال أبو جعفر : روي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : "إن يدعون من دونه إلا أثنا" بمعنى جمع "وثن" فكأنه جمع "وثنا" "وثنا" ، ثم قلب الواو همزة مضمومة ، كما قيل : "ما أحسن هذه الأجوه" ، بمعنى الوجوه وكما قيل : ( وإذا الرسل أقتت ) [ سورة المرسلات : 11 ] ، بمعنى : وقتت .

    وذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك : "إن يدعون من دونه إلا أنثا" كأنه أراد جمع "الإناث" فجمعها "أنثا" ، كما تجمع "الثمار" "ثمرا" .

    قال أبو جعفر : والقراءة التي لا نستجيز القراءة بغيرها ، قراءة من قرأ : ( إن يدعون من دونه إلا إناثا ) ، بمعنى جمع "أنثى" ، لأنها كذلك في مصاحف المسلمين ، ولإجماع الحجة على قراءة ذلك كذلك .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرت بتأويل ذلك ، إذ كان الصواب عندنا من القراءة ما وصفت ، تأويل من قال : عني بذلك الآلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله ويسمونها الإناث من الأسماء ، كاللات والعزى ونائلة ومناة ، وما أشبه ذلك . [ ص: 211 ]

    وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الأظهر من معاني "الإناث" في كلام العرب ، ما عرف بالتأنيث دون غيره . فإذ كان ذلك كذلك ، فالواجب توجيه تأويله إلى الأشهر من معانيه .

    وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، يقول : ما يدعو الذين يشاقون الرسول ويتبعون غير سبيل المؤمنين شيئا من دون الله بعد الله وسواه ، إلا إناثا يعني : إلا ما سموه بأسماء الإناث كاللات والعزى وما أشبه ذلك . يقول جل ثناؤه : فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله ، وعبدوا ما عبدوا من دونه من الأوثان والأنداد ، حجة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل ، أنهم يعبدون إناثا ويدعونها آلهة وأربابا ، والإناث من كل شيء أخسه ، فهم يقرون للخسيس من الأشياء بالعبودة ، على علم منهم بخساسته ، ويمتنعون من إخلاص العبودة للذي له ملك كل شيء ، وبيده الخلق والأمر .
    القول في تأويل قوله ( وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ( 117 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإن يدعون إلا شيطانا مريدا " ، وما يدعو هؤلاء الذين يدعون هذه الأوثان الإناث من دون الله بدعائهم إياها [ ص: 212 ] " إلا شيطانا مريدا " ، يعني : متمردا على الله في خلافه فيما أمره به ، وفيما نهاه عنه ، كما : -

    10443 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإن يدعون إلا شيطانا مريدا " ، تمرد على معاصي الله .
    القول في تأويل قوله ( لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ( 118 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : لعنه الله أخزاه وأقصاه وأبعده .

    ومعنى الكلام : " وإن يدعون إلا شيطانا مريدا " ، قد لعنه الله وأبعده من كل خير .

    وقال لأتخذن يعني بذلك : أن الشيطان المريد قال لربه إذ لعنه : " لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا " .

    يعني ب "المفروض" ، المعلوم ، كما : -

    10444 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن جويبر ، عن الضحاك : " نصيبا مفروضا " ، قال : معلوما .

    فإن قال قائل : وكيف يتخذ الشيطان من عباد الله نصيبا مفروضا .

    قيل : يتخذ منهم ذلك النصيب ، بإغوائه إياهم عن قصد السبيل ، ودعائه [ ص: 213 ] إياهم إلى طاعته ، وتزيينه لهم الضلال والكفر حتى يزيلهم عن منهج الطريق ، فمن أجاب دعاءه واتبع ما زينه له ، فهو من نصيبه المعلوم ، وحظه المقسوم .

    وإنما أخبر جل ثناؤه في هذه الآية بما أخبر به عن الشيطان من قيله : " لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا " ، ليعلم الذين شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ، أنهم من نصيب الشيطان الذي لعنه الله ، المفروض ، وأنهم ممن صدق عليهم ظنه .

    وقد دللنا على معنى "اللعنة" فيما مضى ، فكرهنا إعادته .
    القول في تأويل قوله ( ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : مخبرا عن قيل الشيطان المريد الذي وصف صفته في هذه الآية : " ولأضلنهم " ، ولأصدن النصيب المفروض الذي أتخذه من عبادك عن محجة الهدى إلى الضلال ، ومن الإسلام إلى الكفر "ولأمنينهم" ، يقول : لأزيغنهم - بما أجعل في نفوسهم من الأماني - عن طاعتك وتوحيدك ، إلى طاعتي والشرك بك ، " ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " ، يقول : ولآمرن النصيب المفروض لي من عبادك ، بعبادة غيرك من الأوثان والأنداد [ ص: 214 ] حتى ينسكوا له ، ويحرموا ويحللوا له ، ويشرعوا غير الذي شرعته لهم ، فيتبعوني ويخالفونك .

    و "البتك" القطع ، وهو في هذا الموضع : قطع أذن البحيرة ليعلم أنها بحيرة .

    وإنما أراد بذلك الخبيث أنه يدعوهم إلى البحيرة ، فيستجيبون له ، ويعملون بها طاعة له .

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    10445 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فليبتكن آذان الأنعام " ، قال : البتك في البحيرة والسائبة ، كانوا يبتكون آذانها لطواغيتهم .

    10446 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : قوله : " ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " ، أما"يبتكن آذان الأنعام" ، فيشقونها ، فيجعلونها بحيرة .

    10447 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني القاسم بن أبي بزة ، عن عكرمة : " فليبتكن آذان الأنعام " ، قال : دين شرعه لهم إبليس ، كهيئة البحائر والسيب .
    [ ص: 215 ] القول في تأويل قوله ( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى قوله : " فليغيرن خلق الله " .

    فقال بعضهم : معنى ذلك : ولآمرنهم فليغيرن خلق الله من البهائم ، بإخصائهم إياها .

    ذكر من قال ذلك :

    10448 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس : أنه كره الإخصاء وقال : فيه نزلت : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " .

    10449 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الله بن داود قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أنس : أنه كره الإخصاء وقال : فيه نزلت : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " .

    10450 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أنس بن مالك قال : هو الإخصاء ، يعني قول الله : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " .




  9. #509
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (509)
    صــ 216 إلى صــ 230







    10451 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف قال : [ ص: 216 ] حدثني رجل ، عن ابن عباس قال : إخصاء البهائم مثلة! ثم قرأ : ولآمرنهم فليغيرن خلق الله .

    10452 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : من تغيير خلق الله الإخصاء .

    10453 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا جعفر بن سليمان قال : أخبرني شبيل : أنه سمع شهر بن حوشب قرأ هذه الآية : " فليغيرن خلق الله " ، قال : الخصاء ، قال : فأمرت أبا التياح فسأل الحسن عن خصاء الغنم ، فقال : لا بأس به .

    10454 - حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا عمي وهب بن نافع ، عن القاسم بن أبي بزة قال : أمرني مجاهد أن أسأل عكرمة عن قوله : " فليغيرن خلق الله " ، فسألته ، فقال : هو الخصاء .

    10455 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثني أبي ، عن عبد الجبار بن ورد ، عن القاسم بن أبي بزة قال : قال لي مجاهد : سل عنها عكرمة : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، فسألته فقال : الإخصاء ، قال مجاهد : ما له ، لعنه الله! فوالله لقد علم أنه غير الإخصاء ثم قال : سله ، فسألته فقال عكرمة : ألم تسمع إلى قول الله تبارك وتعالى : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) . [ ص: 217 ] [ سورة الروم : 30 ] ؟ قال : لدين الله ، فحدثت به مجاهدا فقال : ما له أخزاه الله! .

    10456 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا حفص ، عن ليث قال : قال عكرمة : " فليغيرن خلق الله " ، قال : الإخصاء .

    10457 - حدثني المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا هارون النحوي قال : حدثنا مطر الوراق قال : سئل عكرمة عن قوله : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : هو الإخصاء .

    10458 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، قال : الإخصاء .

    10459 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : سمعت أنس بن مالك يقول في قوله : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : منه الخصاء .

    10460 - حدثنا عمرو قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، بمثله .

    10461 - حدثنا ابن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس ، بمثله .

    10462 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثني أبي ، [ ص: 218 ] عن قتادة ، عن عكرمة : أنه كره الإخصاء ، قال : وفيه نزلت : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " .

    وقال آخرون : معنى ذلك : ولآمرنهم فليغيرن دين الله .

    ذكر من قال ذلك :

    10463 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله .

    10464 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن وأبو أحمد قالا : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن إبراهيم : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله .

    10465 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا سفيان قال : حدثني قيس بن مسلم ، عن إبراهيم ، مثله .

    10466 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن إبراهيم ، مثله .

    10467 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .

    10468 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا عمي ، عن القاسم بن أبي بزة قال : أخبرت مجاهدا بقول عكرمة في قوله : " فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله .

    10469 - حدثني المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا هارون النحوي قال : حدثنا مطر الوراق قال : ذكرت لمجاهد قول عكرمة في قوله : [ ص: 219 ] " فليغيرن خلق الله " ، فقال : كذب العبد!" ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله .

    10470 - حدثنا ابن وكيع وعمرو بن علي قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد وعكرمة قالا : دين الله .

    10471 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا المحاربي وحفص ، عن ليث ، عن مجاهد قال : دين الله . ثم قرأ : ( ذلك الدين القيم ) ، [ سورة الروم : 30 ] .

    10472 - حدثنا محمد بن عمرو وعمرو بن علي قالا : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " فليغيرن خلق الله " ، قال : الفطرة دين الله .

    10473 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فليغيرن خلق الله " ، قال : الفطرة ، الدين .

    10474 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، أخبرني عبد الله بن كثير : أنه سمع مجاهدا يقول : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله .

    10475 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، أي : دين الله ، في قول الحسن وقتادة .

    10476 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله .

    10477 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الملك ، عن عثمان بن الأسود ، عن القاسم بن أبي بزة في قوله : " فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله . [ ص: 220 ]

    10478 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : أما "خلق الله" ، فدين الله .

    10479 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله ، وهو قول الله : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) ، [ سورة الروم : 30 ] ، يقول : لدين الله .

    10480 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله . وقرأ : ( لا تبديل لخلق الله ) ، قال : لدين الله .

    10481 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا قيس بن مسلم ، عن إبراهيم : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله .

    10482 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا معاذ بن معاذ قال : حدثنا عمران بن حدير ، عن عيسى بن هلال قال : كتب كثير مولى ابن سمرة إلى الضحاك بن مزاحم يسأله عن قوله : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، فكتب : "إنه دين الله" .

    وقال آخرون : معنى ذلك : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " بالوشم .

    ذكر من قال ذلك :

    10483 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : [ ص: 221 ] حدثنا حماد بن سلمة ، عن يونس ، عن الحسن في قوله : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : الوشم .

    10484 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يزيد ، عن نوح بن قيس ، عن خالد بن قيس ، عن الحسن : " فليغيرن خلق الله " ، قال : الوشم .

    10485 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني هشيم قال : أخبرنا يونس بن عبيد أو غيره ، عن الحسن : " فليغيرن خلق الله " ، قال : الوشم .

    10486 - حدثنا أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا أبو هلال الراسبي قال : سأل رجل الحسن : ما تقول في امرأة قشرت وجهها؟ قال : ما لها ، لعنها الله! غيرت خلق الله!

    10487 - حدثني أبو السائب قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : قال عبد الله : لعن الله المتفلجات والمتنمصات والمستوشمات المغيرات خلق الله .

    10488 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : لعن الله الواشرات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله .

    10489 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، [ ص: 222 ] عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : لعن الله المتنمصات والمتفلجات - قال شعبة : وأحسبه قال : المغيرات خلق الله .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، قول من قال : معناه : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، قال : دين الله . وذلك لدلالة الآية الأخرى على أن ذلك معناه ، وهي قوله : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) ، [ سورة الروم : 30 ] .

    وإذا كان ذلك معناه ، دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه : من خصاء ما لا يجوز خصاؤه ، ووشم ما نهى عن وشمه ووشره ، وغير ذلك من المعاصي ودخل فيه ترك كل ما أمر الله به . لأن الشيطان لا شك أنه يدعو إلى جميع معاصي الله وينهى عن جميع طاعته . فذلك معنى أمره نصيبه المفروض من عباد الله ، بتغيير ما خلق الله من دينه .

    قال أبو جعفر : فلا معنى لتوجيه من وجه قوله : " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " ، إلى أنه وعد الآمر بتغيير بعض ما نهى الله عنه دون بعض ، أو بعض ما [ ص: 223 ] أمر به دون بعض . فإن كان الذي وجه معنى ذلك إلى الخصاء والوشم دون غيره ، إنما فعل ذلك لأن معناه كان عنده أنه عنى به تغيير الأجسام ، فإن في قوله جل ثناؤه إخبارا عن قيل الشيطان : " ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " ، ما ينبئ أن معنى ذلك على غير ما ذهب إليه . لأن تبتيك آذان الأنعام من تغيير خلق الله الذي هو أجسام . وقد مضى الخبر عنه أنه وعد الآمر بتغيير خلق الله من الأجسام مفسرا ، فلا وجه لإعادة الخبر عنه به مجملا ، إذ كان الفصيح في كلام العرب أن يترجم عن المجمل من الكلام بالمفسر ، وبالخاص عن العام ، دون الترجمة عن المفسر بالمجمل ، وبالعام عن الخاص . وتوجيه كتاب الله إلى الأفصح من الكلام أولى من توجيهه إلى غيره ، ما وجد إليه السبيل .
    [ ص: 224 ] القول في تأويل قوله ( ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( 120 ) ( 119 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ثناؤه ، عن حال نصيب الشيطان المفروض الذين شاقوا الله ورسوله من بعد ما تبين لهم الهدى . يقول الله : ومن يتبع الشيطان فيطيعه في معصية الله وخلاف أمره ، ويواليه فيتخذه وليا لنفسه ونصيرا من دون الله " فقد خسر خسرانا مبينا " ، يقول : فقد هلك هلاكا ، وبخس نفسه حظها فأوبقها بخسا "مبينا" يبين عن عطبه وهلاكه ، لأن الشيطان لا يملك له نصرا من الله إذا عاقبه على معصيته إياه في خلافه أمره ، بل يخذله عند حاجته إليه . وإنما حاله معه ما دام حيا ممهلا بالعقوبة ، كما وصفه الله جل ثناؤه بقوله : " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " ، يعني بذلك جل ثناؤه : يعد الشيطان المريد أولياءه الذين هم نصيبه المفروض أن يكون لهم نصيرا ممن أرادهم بسوء ، وظهيرا لهم عليه ، يمنعهم منه ويدافع عنهم ، ويمنيهم الظفر على من حاول مكروههم والفلج عليهم .

    ثم قال : " وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " يقول : وما يعد الشيطان أولياءه الذين اتخذوه وليا من دون الله إلا غرورا يعني : إلا باطلا .

    وإنما جعل عدته إياهم جل ثناؤه ما وعدهم "غرورا" ، لأنهم كانوا يحسبون [ ص: 225 ] أنهم في اتخاذهم إياه وليا على حقيقة من عداته الكذب وأمانيه الباطلة ، حتى إذا حصحص الحق ، وصاروا إلى الحاجة إليه ، قال لهم عدو الله : ( إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل ) ، [ سورة إبراهيم : 22 ] . وكما قال للمشركين ببدر ، وقد زين لهم أعمالهم : ( لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان ) ، وحصحص الحق ، وعاين جد الأمر ونزول عذاب الله بحزبه : ( نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب ) ، [ سورة الأنفال : 48 ] ، فصارت عداته ، عدو الله إياهم عند حاجتهم إليه غرورا ( كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه ) . [ سورة النور : 39 ] .
    القول في تأويل قوله ( أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ( 121 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "أولئك" ، هؤلاء الذين اتخذوا الشيطان وليا من دون الله" مأواهم جهنم " ، يعني : مصيرهم الذين يصيرون إليه جهنم ، [ ص: 226 ] " ولا يجدون عنها محيصا " ، يقول : لا يجدون عن جهنم - إذا صيرهم الله إليها يوم القيامة - معدلا يعدلون إليه .

    يقال منه : "حاص فلان عن هذا الأمر يحيص حيصا وحيوصا" إذا عدل عنه .

    ومنه خبر ابن عمر أنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيهم ، فلقينا المشركين فحصنا حيصة ، وقال بعضهم : "فجاضوا جيضة" . و "الحيص" و "الجيض" ، متقاربا المعنى .
    القول في تأويل قوله ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ( 122 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " ، والذين صدقوا الله ورسوله ، وأقروا له بالوحدانية ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالنبوة وعملوا الصالحات يقول : وأدوا فرائض الله التي فرضها عليهم " سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار " ، يقول : سوف ندخلهم يوم القيامة إذا صاروا إلى الله ، جزاء بما عملوا في الدنيا من الصالحات جنات يعني : [ ص: 227 ] بساتين " تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا " ، يقول : باقين في هذه الجنات التي وصفها أبدا دائما .

    وقوله : " وعد الله حقا " ، يعني : عدة من الله لهم ذلك في الدنيا حقا يعني : يقينا صادقا ، لا كعدة الشيطان الكاذبة التي هي غرور من وعدها من أوليائه ، ولكنها عدة ممن لا يكذب ولا يكون منه الكذب ، ولا يخلف وعده .

    وإنما وصف جل ثناؤه وعده بالصدق والحق في هذه ، لما سبق من خبره جل ثناؤه عن قول الشيطان الذي قصه في قوله : " وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " ، ثم قال جل ثناؤه : " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " ، ولكن الله يعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنه سيدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، وعدا منه حقا ، لا كوعد الشيطان الذي وصف صفته .

    فوصف جل ثناؤه الوعدين والواعدين ، وأخبر بحكم أهل كل وعد منهما ، تنبيها منه جل ثناؤه خلقه على ما فيه مصلحتهم وخلاصهم من الهلكة والمعطبة ، لينزجروا عن معصيته ويعملوا بطاعته ، فيفوزوا بما أعد لهم في جنانه من ثوابه .

    ثم قال لهم جل ثناؤه : " ومن أصدق من الله قيلا " ، يقول : ومن أصدق ، أيها الناس ، من الله قيلا أي : لا أحد أصدق منه قيلا! فكيف تتركون العمل بما وعدكم على العمل به ربكم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، وتكفرون به وتخالفون أمره ، وأنتم تعلمون أنه لا أحد أصدق منه قيلا وتعملون [ ص: 228 ] بما يأمركم به الشيطان رجاء لإدراك ما يعدكم من عداته الكاذبة وأمانيه الباطلة ، وقد علمتم أن عداته غرور لا صحة لها ولا حقيقة ، وتتخذونه وليا من دون الله ، وتتركون أن تطيعوا الله فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، فتكونوا له أولياء؟

    ومعنى "القيل" و "القول" واحد .
    القول في تأويل قوله ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " .

    فقال بعضهم : عني بقوله : " ليس بأمانيكم " ، أهل الإسلام .

    ذكر من قال ذلك :

    10490 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : تفاخر النصارى وأهل الإسلام ، فقال هؤلاء : نحن أفضل منكم! وقال هؤلاء : نحن أفضل منكم! قال : فأنزل الله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " .

    10491 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : لما نزلت : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، قال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء! فنزلت هذه الآية : " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " .

    10492 - حدثني أبو السائب وابن وكيع قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن [ ص: 229 ] الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق في قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، قال : احتج المسلمون وأهل الكتاب ، فقال المسلمون : نحن أهدى منكم! وقال أهل الكتاب : نحن أهدى منكم! فأنزل الله : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب قال : ففلج عليهم المسلمون بهذه الآية : " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " ، إلى آخر الآيتين .

    10493 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونحن أولى بالله منكم! وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ، نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله! فأنزل الله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " ، إلى قوله : " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا " ، فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان .

    10494 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " ، قال : التقى ناس من اليهود والنصارى ، فقالت اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ، ديننا قبل دينكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن على دين إبراهيم ، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا! وقالت النصارى مثل ذلك ، فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ، ونبينا بعد نبيكم ، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم ، فنحن خير منكم ، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا! فرد الله عليهم قولهم فقال : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " ، ثم فضل الله [ ص: 230 ] المؤمنين عليهم فقال : " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا " .

    10495 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " ، تخاصم أهل الأديان ، فقال أهل التوراة : كتابنا أول كتاب وخيرها ، ونبينا خير الأنبياء! وقال أهل الإنجيل نحوا من ذلك ، وقال أهل الإسلام : لا دين إلا دين الإسلام ، وكتابنا نسخ كل كتاب ، ونبينا خاتم النبيين ، وأمرنا أن نعمل بكتابنا ونؤمن بكتابكم! فقضى الله بينهم فقال : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " ، ثم خير بين أهل الأديان ففضل أهل الفضل فقال : " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن " إلى قوله : " واتخذ الله إبراهيم خليلا " .

    10496 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، إلى : ولا نصيرا تحاكم أهل الأديان ، فقال أهل التوراة : كتابنا خير الكتب ، أنزل قبل كتابكم ، ونبينا خير الأنبياء! وقال أهل الإنجيل مثل ذلك ، وقال أهل الإسلام : لا دين إلا الإسلام ، كتابنا نسخ كل كتاب ، ونبينا خاتم النبيين ، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ، ونعمل بكتابنا! فقضى الله بينهم فقال : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " ، وخير بين أهل الأديان فقال : " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا . "





  10. #510
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (510)
    صــ 231 إلى صــ 245






    10497 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا يعلى بن عبيد [ ص: 231 ] وأبو زهير ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح قال : جلس أناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الإيمان ، فقال هؤلاء : نحن أفضل! وقال هؤلاء : نحن أفضل! فأنزل الله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " . ثم خص الله أهل الإيمان فقال : " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " .

    10498 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح قال : جلس أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الزبور فتفاخروا فقال هؤلاء : نحن أفضل! وقال هؤلاء : نحن أفضل! وقال هؤلاء : نحن أفضل! فأنزل الله : " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا " .

    10499 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، قال : افتخر أهل الأديان ، فقالت اليهود : كتابنا خير الكتب وأكرمها على الله ، ونبينا أكرم الأنبياء على الله ، موسى كلمه الله قبلا وخلا به نجيا ، وديننا خير الأديان! وقالت النصارى : عيسى ابن مريم خاتم الرسل ، وآتاه الله التوراة والإنجيل ، ولو أدركه موسى لاتبعه ، وديننا خير الأديان! وقالت المجوس وكفار العرب : ديننا أقدم الأديان وخيرها! وقال المسلمون : محمد نبينا خاتم النبيين [ ص: 232 ] وسيد الأنبياء ، والفرقان آخر ما أنزل من الكتب من عند الله ، وهو أمين على كل كتاب ، والإسلام خير الأديان! فخير الله بينهم فقال : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " .

    وقال آخرون : بل عنى الله بقوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، أهل الشرك به من عبدة الأوثان .

    ذكر من قال ذلك :

    10500 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، قال : قريش ، قالت : "لن نبعث ولن نعذب" .

    10501 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ليس بأمانيكم " ، قال : قالت قريش : "لن نبعث ولن نعذب" ، فأنزل الله : " من يعمل سوءا يجز به " .

    10502 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " ، قال : قالت العرب : "لن نبعث ولن نعذب" ، وقالت اليهود والنصارى : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ سورة البقرة : 111 ] ، أو قالوا : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، [ سورة البقرة : 80 ] شك أبو بشر .

    10503 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، قريش [ ص: 233 ] وكعب بن الأشرف " من يعمل سوءا يجز به " .

    10504 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " إلى آخر الآية ، قال : جاء حيي بن أخطب إلى المشركين فقالوا له : يا حيي ، إنكم أصحاب كتب ، فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ فقال : نحن وأنتم خير منه! فذلك قوله : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ) إلى قوله : ( ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ) [ سورة النساء : 51 ، 52 ] . ثم قال للمشركين : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، فقرأ حتى بلغ : " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " ، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا قال : ووعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم ، ولم يعد أولئك ، وقرأ : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ) [ سورة العنكبوت : 7 ] .

    10505 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " ، قال : قالت قريش : "لن نبعث ولن نعذب"! [ ص: 234 ]

    وقال آخرون : عني به أهل الكتاب خاصة .

    ذكر من قال ذلك :

    10506 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان قال : سمعت الضحاك يقول : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " الآية ، قال : نزلت في أهل الكتاب حين خالفوا النبي صلى الله عليه وسلم .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، ما قال مجاهد : من أنه عنى بقوله : " ليس بأمانيكم " ، مشركي قريش .

    وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله : " ليس بأمانيكم " ، وإنما جرى ذكر أماني نصيب الشيطان المفروض ، وذلك في قوله : " ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام " ، وقوله : " يعدهم ويمنيهم " ، فإلحاق معنى قوله جل ثناؤه : " ليس بأمانيكم " بما قد جرى ذكره قبل ، أحق وأولى من ادعاء تأويل فيه ، لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا إجماع من أهل التأويل .

    وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية إذا : ليس الأمر بأمانيكم ، يا معشر أولياء الشيطان وحزبه ، التي يمنيكموها وليكم عدو الله ، من إنقاذكم ممن أرادكم بسوء ، ونصرتكم عليه وإظفاركم به ، ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارا بالله وبحلمه عنهم : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) و ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، فإن الله مجازي كل عامل منكم جزاء عمله ، من يعمل منكم سوءا ، ومن غيركم ، يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة . [ ص: 235 ]

    ومما يدل أيضا على صحة ما قلنا في تأويل ذلك ، وأنه عني بقوله : " ليس بأمانيكم " مشركو العرب ، كما قال مجاهد ، أن الله وصف وعد الشيطان ما وعد أولياءه وأخبر بحال وعده ، ثم أتبع ذلك بصفة وعده الصادق بقوله : "والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا " ، وقد ذكر جل ثناؤه مع وصفه وعد الشيطان أولياءه ، تمنيته إياهم الأماني بقوله : " يعدهم ويمنيهم " ، كما ذكر وعده إياهم . فالذي هو أشبه أن يتبع تمنيته إياهم من الصفة ، بمثل الذي أتبع عدته إياهم به من الصفة .

    وإذ كان ذلك كذلك ، صح أن قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " الآية ، إنما هو خبر من الله عن أماني أولياء الشيطان ، وما إليه صائرة أمانيهم مع سيئ أعمالهم من سوء الجزاء ، وما إليه صائرة أعمال أولياء الله من حسن الجزاء . وإنما ضم جل ثناؤه أهل الكتاب إلى المشركين في قوله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، لأن أماني الفريقين من تمنية الشيطان إياهم التي وعدهم أن يمنيهموها بقوله : " ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم " .

    القول في تأويل قوله ( من يعمل سوءا يجز به )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : عنى ب "السوء" كل معصية لله . وقالوا : معنى الآية : من يرتكب صغيرة أو كبيرة من مؤمن أو كافر من معاصي الله ، يجازه الله بها .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 236 ]

    10507 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن الربيع بن زياد سأل أبي بن كعب عن هذه الآية : " من يعمل سوءا يجز به " ، فقال : ما كنت أراك إلا أفقه مما أرى! النكبة والعود والخدش .

    10508 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا غندر ، عن هشام الدستوائي قال : حدثنا قتادة ، عن الربيع بن زياد قال : قلت لأبي بن كعب : قول الله تبارك وتعالى : " من يعمل سوءا يجز به " ، والله إن كان كل ما عملنا جزينا به هلكنا! قال : والله إن كنت لأراك أفقه مما أرى! لا يصيب رجلا خدش ولا عثرة إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ، حتى اللدغة والنفحة .

    10509 - حدثنا القاسم بن بشر بن معروف قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن حجاج الصواف ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب قال : دخلت على عائشة كي أسألها عن هذه الآية : [ ص: 237 ] " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " ، قالت : ذاك ما يصيبكم في الدنيا .

    10510 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني خالد : أنه سمع مجاهدا يقول في قوله : " من يعمل سوءا يجز به " ، قال : يجز به في الدنيا . قال قلت : وما تبلغ المصيبات؟ قال : ما تكره .

    وقال آخرون : معنى ذلك : من يعمل سوءا من أهل الكفر ، يجز به .

    ذكر من قال ذلك :

    10511 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن : " من يعمل سوءا يجز به " ، قال : الكافر ، ثم قرأ : ( وهل نجازي إلا الكفور ) [ سورة سبأ : 17 ] ، قال : من الكفار . [ ص: 238 ]

    10512 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا سهل ، عن حميد ، عن الحسن ، مثله .

    10513 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو همام الأهوازي ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن : أنه كان يقول : " من يعمل سوءا يجز به " ، و ( وهل نجازي إلا الكفور ) ، [ سورة سبأ : 17 ] ، يعني بذلك الكفار ، لا يعني بذلك أهل الصلاة .

    10514 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا مبارك ، عن الحسن في قوله : " من يعمل سوءا يجز به " ، قال : والله ما جازى الله عبدا بالخير والشر إلا عذبه . قال : ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) ، [ سورة النجم : 31 ] . قال : أما والله لقد كانت لهم ذنوب ، ولكنه غفرها لهم ولم يجازهم بها ، إن الله لا يجازي عبده المؤمن بذنب ، إذا توبقه ذنوبه .

    10515 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : " من يعمل سوءا يجز به " ، قال : وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم ، ولم يعد أولئك يعني المشركين .

    10516 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن الحسن : " من يعمل سوءا يجز به " ، قال : إنما ذلك لمن أراد الله هوانه ، فأما من أراد كرامته ، فإنه من أهل الجنة : ( وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) ، [ سورة الأحقاف : 16 ]

    10517 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : " من يعمل سوءا يجز به " ، يعني بذلك : اليهود والنصارى [ ص: 239 ] والمجوس وكفار العرب" ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا " .

    وقال آخرون : معنى "السوء" في هذا الموضع : الشرك . قالوا : وتأويل قوله : " من يعمل سوءا يجز به " ، من يشرك بالله يجز بشركه " ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " .

    ذكر من قال ذلك :

    10518 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " من يعمل سوءا يجز به " ، يقول : من يشرك يجز به وهو "السوء"" ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " ، إلا أن يتوب قبل موته فيتوب الله عليه .

    10519 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير : " من يعمل سوءا يجز به " ، قال : الشرك .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرناها بتأويل الآية ، التأويل الذي ذكرناه عن أبي بن كعب وعائشة : وهو أن كل من عمل سوءا صغيرا أو كبيرا من مؤمن أو كافر ، جوزي به .

    وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية لعموم الآية كل عامل سوء ، من غير أن يخص أو يستثنى منهم أحد . فهي على عمومها ، إذ لم يكن في الآية دلالة على خصوصها ، ولا قامت حجة بذلك من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم .

    فإن قال قائل : وأين ذلك من قول الله : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) . [ سورة النساء : 31 ] ؟ وكيف يجوز أن يجازي على ما قد وعد تكفيره؟ [ ص: 240 ]

    قيل : إنه لم يعد بقوله : " نكفر عنكم سيئاتكم " ، ترك المجازاة عليها ، وإنما وعد التكفير بترك الفضيحة منه لأهلها في معادهم ، كما فضح أهل الشرك والنفاق . فأما إذا جازاهم في الدنيا عليها بالمصائب ليكفرها عنهم بها ، ليوافوه ولا ذنب لهم يستحقون المجازاة عليه ، فإنما وفى لهم بما وعدهم بقوله : " نكفر عنكم سيئاتكم " ، وأنجز لهم ما ضمن لهم بقوله : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) ، [ سورة النساء : 122 ] .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك : تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    ذكر الأخبار الواردة بذلك :

    10520 - حدثنا أبو كريب وسفيان بن وكيع ونصر بن علي وعبد الله بن أبي زياد القطواني قالوا ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن محيصن ، عن محمد بن قيس بن مخرمة ، عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية : " من يعمل سوءا يجز به " ، شقت على المسلمين ، وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قاربوا وسددوا ، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة ، حتى النكبة ينكبها ، أو الشوكة يشاكها .





  11. #511
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (511)
    صــ 241 إلى صــ 260





    10521 - حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور الرمادي قالا : حدثنا زيد بن حباب قال : حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي قال : حدثنا [ ص: 241 ] محمد بن زيد بن قنفذ ، عن عائشة ، عن أبي بكر قال : لما نزلت : " من يعمل سوءا يجز به " ، قال أبو بكر : يا رسول الله ، كل ما نعمل نؤاخذ به؟ فقال : يا أبا بكر ، أليس يصيبك كذا وكذا؟ فهو كفارته .

    10522 - حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن زياد الجصاص ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد قال : حدثني عبد الله بن عمر : أنه سمع أبا بكر يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من يعمل سوءا يجز به في الدنيا .

    10523 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن إسماعيل ، عن أبي بكر بن أبي زهير ، عن أبي بكر الصديق أنه قال : يا نبي الله ، كيف الصلاح بعد [ ص: 242 ] هذه الآية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أية آية؟ قال يقول الله : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " ، فما عملناه جزينا به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : غفر الله لك يا أبا بكر ! ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ قال : فهو ما تجزون به!

    10524 - حدثنا يونس قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد قال : أظنه عن أبي بكر الثقفي ، عن أبي بكر قال : لما نزلت هذه الآية : " من يعمل سوءا يجز به " ، قال أبو بكر : كيف الصلاح؟ ثم ذكر نحوه ، إلا أنه زاد فيه : ألست تنكب؟

    10525 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي بكر بن أبي زهير : أن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم : كيف الصلاح؟ فذكر مثله .

    10526 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال : حدثنا أبو مالك الجنبي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، فذكر نحوه إلا أنه قال : فكل سوء عملناه جزينا به؟ وقال أيضا : ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس تصيبك اللأواء؟ قال : بلى ، قال : هو ما تجزون به!

    10527 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي خالد ، عن [ ص: 243 ] أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال : لما نزلت هذه الآية : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " ، قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، وإنا لنجزى بكل شيء نعمله؟ قال : يا أبا بكر ، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فهذا مما تجزون به .

    10528 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا ابن أبي خالد قال : حدثني أبو بكر بن أبي زهير الثقفي ، عن أبي بكر ، فذكر مثله .

    10529 - حدثنا أبو السائب وسفيان بن وكيع قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، ما أشد هذه الآية : " من يعمل سوءا يجز به "؟ قال : يا أبا بكر ، إن المصيبة في الدنيا جزاء . [ ص: 244 ]

    10530 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا أبو عامر الخزاز ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة قالت ، قلت : إني لأعلم أي آية في كتاب الله أشد . فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : أي آية؟ فقلت : " من يعمل سوءا يجز به "! قال : "إن المؤمن ليجازى بأسوأ عمله في الدنيا" ، ثم ذكر أشياء منهن المرض والنصب ، فكان آخره أنه ذكر النكبة ، فقال : "كل ذي يجزى به بعمله ، يا عائشة ، إنه ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا يعذب" . فقلت : أليس يقول الله : ( فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) ، [ سورة الانشقاق : 8 ] ؟ فقال : ذاك عند العرض ، إنه من نوقش الحساب عذب ، وقال بيده على إصبعه ، كأنه ينكته . [ ص: 245 ]

    10531 - حدثني القاسم بن بشر بن معروف قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أمية قالت : سألت عائشة عن هذه الآية : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) ، [ سورة البقرة : 284 ] ، و " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " . قالت : ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها [ ص: 246 ] فقال : يا عائشة ، ذاك مثابة الله للعبد بما يصيبه من الحمى والكبر ، والبضاعة يضعها في كمه فيفقدها ، فيفزع لها فيجدها في كمه ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير .

    10532 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا أبو عامر الخزاز قال : حدثنا ابن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله ، إني لأعلم أشد آية في القرآن! فقال : ما هي يا عائشة؟ قلت : هي هذه الآية يا رسول الله : من يعمل سوءا يجز به فقال : هو ما يصيب العبد المؤمن ، حتى النكبة ينكبها .

    10533 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن الربيع بن صبيح ، عن عطاء قال : لما نزلت : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " [ ص: 247 ] قال أبو بكر : يا رسول الله ، ما أشد هذه الآية؟ قال : يا أبا بكر ، إنك تمرض ، وإنك تحزن ، وإنك يصيبك أذى ، فذاك بذاك .

    10534 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني عطاء بن أبي رباح قال : لما نزلت قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هي المصيبات في الدنيا .
    القول في تأويل قوله ( ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ( 123 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولا يجد الذي يعمل سوءا من معاصي الله وخلاف ما أمره به من دون الله يعني من بعد الله ، وسواه وليا يلي أمره ، ويحمي عنه ما ينزل به من عقوبة الله ولا نصيرا يعني ولا ناصرا ينصره مما يحل به من عقوبة الله وأليم نكاله .
    [ ص: 248 ] القول في تأويل قوله ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ( 124 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه الذين قال لهم : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ، يقول الله لهم : إنما يدخل الجنة وينعم فيها في الآخرة ، من يعمل من الصالحات من ذكوركم وإناثكم ، وذكور عبادي وإناثهم ، وهو مؤمن بي وبرسولي محمد ، مصدق بوحدانيتي وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عندي لا أنتم أيها المشركون بي ، المكذبون رسولي ، فلا تطمعوا أن تحلوا - وأنتم كفار - محل المؤمنين بي ، وتدخلوا مداخلهم في القيامة ، وأنتم مكذبون برسولي ، كما : -

    10535 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " ، قال : أبى أن يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح ، وأبى أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان .

    وأما قوله : " ولا يظلمون نقيرا " ، فإنه يعني : ولا يظلم الله هؤلاء الذين يعملون الصالحات من ثواب عملهم ، مقدار النقرة التي تكون في ظهر النواة في القلة ، فكيف بما هو أعظم من ذلك وأكثر؟ وإنما يخبر بذلك جل ثناؤه عباده أنه لا يبخسهم من جزاء أعمالهم قليلا ولا كثيرا ، ولكن يوفيهم ذلك كما وعدهم . [ ص: 249 ]

    وبالذي قلنا في معنى "النقير" قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    10536 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : " ولا يظلمون نقيرا " ، قال : النقير ، الذي يكون في ظهر النواة .

    10537 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو عامر قال : حدثنا قرة ، عن عطية قال : النقير ، الذي في وسط النواة .

    فإن قال لنا قائل : ما وجه دخول : "من" في قوله : " ومن يعمل من الصالحات " ، ولم يقل : "ومن يعمل الصالحات"؟

    قيل : لدخولها وجهان :

    أحدهما : أن يكون الله قد علم أن عباده المؤمنين لن يطيقوا أن يعملوا جميع الأعمال الصالحات ، فأوجب وعده لمن عمل ما أطاق منها ، ولم يحرمه من فضله بسبب ما عجزت عن عمله منها قوته .

    والآخر منهما : أن يكون تعالى ذكره أوجب وعده لمن اجتنب الكبائر وأدى الفرائض ، وإن قصر في بعض الواجب له عليه ، تفضلا منه على عباده المؤمنين ، إذ كان الفضل به أولى ، والصفح عن أهل الإيمان به أحرى .

    وقد تقول قوم من أهل العربية ، أنها أدخلت في هذا الموضع بمعنى الحذف ، [ ص: 250 ] ويتأوله : ومن يعمل الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن .

    وذلك عندي غير جائز ، لأن دخولها لمعنى ، فغير جائز أن يكون معناها الحذف .
    القول في تأويل قوله ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا )

    قال أبو جعفر : وهذا قضاء من الله جل ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلها ، يقول الله : " ومن أحسن دينا " أيها الناس ، وأصوب طريقا ، وأهدى سبيلا" ممن أسلم وجهه لله ، يقول : ممن استسلم وجهه لله فانقاد له بالطاعة ، مصدقا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه وهو محسن يعني : وهو عامل بما أمره به ربه ، محرم حرامه ومحلل حلاله " واتبع ملة إبراهيم حنيفا " ، يعني بذلك : واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن ، وأمر به بنيه من بعده وأوصاهم به حنيفا يعني : مستقيما على منهاجه وسبيله .

    وقد بينا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في معنى "الحنيف" والدليل على الصحيح من القول في ذلك بما أغنى عن إعادته . [ ص: 251 ]

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل :

    وممن قال ذلك أيضا الضحاك .

    10538 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : فضل الله الإسلام على كل دين فقال : " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن " إلى قوله : " واتخذ الله إبراهيم خليلا " ، وليس يقبل فيه عمل غير الإسلام ، وهي الحنيفية .
    القول في تأويل قوله ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ( 125 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : واتخذ الله إبراهيم وليا .

    فإن قال قائل : وما معنى "الخلة" التي أعطيها إبراهيم؟

    قيل : ذلك من إبراهيم عليه السلام : العداوة في الله والبغض فيه ، والولاية في الله والحب فيه ، على ما يعرف من معاني "الخلة" . وأما من الله لإبراهيم ، فنصرته على من حاوله بسوء ، كالذي فعل به إذ أراده نمرود بما أراده به من الإحراق بالنار فأنقذه منها ، أو على حجته عليه إذ حاجه ، وكما فعل بملك مصر إذ أراده عن أهله ، وتمكينه مما أحب ، وتصييره إماما لمن بعده من عباده ، وقدوة لمن خلفه في طاعته وعبادته . فذلك معنى مخالته إياه .

    وقد قيل : سماه الله "خليلا" ، من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جدب ، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل وقال بعضهم : من أهل مصر في امتيار طعام لأهله من قبله ، فلم يصب عنده حاجته . فلما قرب من أهله مر بمفازة ذات رمل ، فقال : لو ملأت غرائري من هذا الرمل ، لئلا أغم أهلي برجوعي إليهم [ ص: 252 ] بغير ميرة ، وليظنوا أني قد أتيتهم بما يحبون! ففعل ذلك ، فتحول ما في غرائره من الرمل دقيقا ، فلما صار إلى منزله نام . وقام أهله ، ففتحوا الغرائر ، فوجدوا دقيقا ، فعجنوا منه وخبزوا . فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا ، فقالوا : من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك! فعلم ، فقال : نعم! هو من خليلي الله! قالوا : فسماه الله بذلك "خليلا" .
    القول في تأويل قوله تعالى ( ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ( 126 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " واتخذ الله إبراهيم خليلا " ، لطاعته ربه ، وإخلاصه العبادة له ، والمسارعة إلى رضاه ومحبته ، لا من حاجة به إليه وإلى خلته . وكيف يحتاج إليه وإلى خلته ، وله ما في السموات وما في الأرض من قليل وكثير ملكا ، والمالك الذي إليه حاجة ملكه ، دون حاجته إليه؟ يقول : فكذلك حاجة إبراهيم إليه ، لا حاجته إليه فيتخذه من أجل حاجته إليه خليلا ، ولكنه اتخذه خليلا لمسارعته إلى رضاه ومحبته . يقول : فكذلك فسارعوا إلى رضاي ومحبتي لأتخذكم لي أولياء " وكان الله بكل شيء محيطا " ، ولم يزل الله محصيا لكل ما هو فاعله عباده من خير وشر ، عالما بذلك ، لا يخفى عليه شيء منه ، ولا يعزب عنه منه مثقال ذرة .
    [ ص: 253 ] القول في تأويل قوله ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ويستفتونك في النساء " ، ويسألك ، يا محمد ، أصحابك أن تفتيهم في أمر النساء ، والواجب لهن وعليهن ، فاكتفى بذكر "النساء" من ذكر شأنهن ، لدلالة ما ظهر من الكلام على المراد منه .

    " قل الله يفتيكم فيهن " ، قل لهم : يا محمد ، الله يفتيكم فيهن ، يعني : في النساء " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن " .

    واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " وما يتلى عليكم في الكتاب " .

    فقال بعضهم : يعني بقوله : " وما يتلى عليكم ، قل الله يفتيكم فيهن ، وفيما يتلى عليكم . قالوا : والذي يتلى عليهم ، هو آيات الفرائض التي في أول هذه السورة .

    ذكر من قال ذلك :

    10539 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب " ، قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر ، ولا يورثون المرأة . فلما كان الإسلام ، قال : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب " في أول [ ص: 254 ] السورة في الفرائض اللاتي لا تؤتونهن ما كتب الله لهن .

    10540 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " ، قالت : هذا في اليتيمة تكون عند الرجل ، لعلها أن تكون شريكته في ماله ، وهو أولى بها من غيره ، فيرغب عنها أن ينكحها ويعضلها لمالها ، ولا ينكحها غيره كراهية أن يشركه أحد في مالها .

    10541 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير قال : كانوا لا يورثون في الجاهلية النساء والفتى حتى يحتلم ، فأنزل الله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء " ، في أول "سورة النساء" من الفرائض .

    10542 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن شعبة قال : كانوا في الجاهلية لا يورثون اليتيمة ، ولا ينكحونها ويعضلونها ، فأنزل الله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن " إلى آخر الآية .

    10543 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : أخبرني الحجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني عبد الله بن كثير : أنه سمع سعيد بن جبير يقول في قوله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " [ ص: 255 ] الآية ، قال : كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ ، لا يرث الرجل الصغير ولا المرأة . فلما نزلت آية المواريث في "سورة النساء" ، شق ذلك على الناس وقالوا : يرث الصغير الذي لا يعمل في المال ولا يقوم فيه ، والمرأة التي هي كذلك ، فيرثان كما يرث الرجل الذي يعمل في المال! فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء ، فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا : لئن تم هذا ، إنه لواجب ما منه بد! ثم قالوا : سلوا . فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب " في أول السورة " في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " . قال سعيد بن جبير : وكان الولي إذا كانت المرأة ذات جمال ومال رغب فيها ونكحها واستأثر بها ، وإذا لم تكن ذات جمال ومال أنكحها ولم ينكحها .

    10544 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " ، قال : كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها ، وحبسوها عن التزويج حتى تموت ، فيرثوها . فأنزل الله هذا .

    10545 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن " ، قال : كان الرجل منهم تكون له اليتيمة بها الدمامة والأمر الذي يرغب عنها فيه ، ولها مال . قال : فلا يتزوجها ولا يزوجها ، حتى تموت فيرثها . قال : فنهاهم الله عن ذلك .

    10546 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، [ ص: 256 ] عن السدي ، عن أبي مالك : " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " ، قال : كانت المرأة إذا كانت عند ولي يرغب عنها ، حبسها إن لم يتزوجها ، ولم يدع أحدا يتزوجها .

    10547 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن " ، قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئا ، كانوا يقولون : لا يغزون ولا يغنمون خيرا! ففرض الله لهن الميراث حقا واجبا ليتنافس أو : لينفس الرجل في مال يتيمته إن لم تكن حسنة .

    10548 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .

    10549 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثنا أبي قال : حدثنا عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب " ، يعني الفرائض التي افترض في أمر النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن قال : كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل فيرغب أن ينكحها أو يجامعها ، ولا يعطيها مالها ، رجاء أن تموت فيرثها . وإن مات لها حميم لم تعط من الميراث شيئا . وكان ذلك في الجاهلية ، فبين الله لهم ذلك . [ ص: 257 ]

    10550 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن " حتى بلغ " وترغبون أن تنكحوهن " ، فكان الرجل تكون في حجره اليتيمة بها دمامة ، ولها مال ، فكان يرغب عنها أن يتزوجها ، ويحبسها لمالها ، فأنزل الله فيه ما تسمعون .

    10551 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن " ، قال : كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل فيها دمامة ، فيرغب عنها أن ينكحها ، ولا ينكحها رغبة في مالها .

    10552 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " ، إلى قوله : بالقسط قال : كان جابر بن عبد الله الأنصاري ثم السلمي له ابنة عم عمياء ، وكانت دميمة ، وكانت قد ورثت عن أبيها مالا فكان جابر يرغب عن نكاحها ، ولا ينكحها رهبة أن يذهب الزوج بمالها ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وكان ناس في حجورهم جوار أيضا مثل ذلك ، فجعل جابر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم : أترث الجارية إذا كانت قبيحة عمياء؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : نعم!! فأنزل الله فيهن هذا .

    وقال آخرون : معنى ذلك : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب ، في آخر "سورة النساء" ، وذلك قوله : ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) إلى آخر السورة [ سورة النساء : 176 ] . [ ص: 258 ]

    ذكر من قال ذلك :

    10553 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سلام بن سليم ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون الولدان حتى يحتلموا ، فأنزل الله : " ويستفتونك في النساء " ، إلى قوله" فإن الله كان به عليما " . قال : ونزلت هذه الآية : ( إن امرؤ هلك ليس له ولد ) ، [ سورة النساء : 176 ] ، الآية كلها .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب يعني : في أول هذه السورة ، وذلك قوله : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [ سورة النساء : 3 ]

    ذكر من قال ذلك :

    10554 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير : أنه سأل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) ، قالت : يا ابن أختي ، هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وليها ، تشاركه في ماله ، فيعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره . فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق . وأمروا [ ص: 259 ] أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن . قال عروة : قالت عائشة : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " . قالت : والذي ذكر الله أنه يتلى في الكتاب : الآية الأولى التي قال فيها : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) .

    10555 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة مثله .

    قال أبو جعفر : فعلى هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها "ما" التي في قوله : وما يتلى عليكم في موضع خفض بمعنى العطف على "الهاء والنون" التي في قوله : يفتيكم فيهن فكأنهم وجهوا تأويل الآية : قل الله يفتيكم ، أيها الناس ، في النساء ، وفيما يتلى عليكم في الكتاب .

    وقال آخرون : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم من أصحابه ، سألوه عن أشياء من أمر النساء ، وتركوا المسألة عن أشياء أخر كانوا يفعلونها ، فأفتاهم الله فيما سألوا عنه ، وفيما تركوا المسألة عنه .

    ذكر من قال ذلك :

    10556 - حدثنا محمد بن المثنى وسفيان بن وكيع - قال سفيان : حدثنا عبد الأعلى - وقال ابن المثنى ، حدثني عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن [ ص: 260 ] محمد بن أبي موسى في هذه الآية : " ويستفتونك في النساء " ، قال : استفتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم في النساء ، وسكتوا عن شيء كانوا يفعلونه ، فأنزل الله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب " ، ويفتيكم فيما لم تسألوا عنه . قال : كانوا لا يتزوجون اليتيمة إذا كان بها دمامة ، ولا يدفعون إليها مالها فتنفق ، فنزلت : " قل الله يفتيكم في النساء وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن " ، قال : " والمستضعفين من الولدان " ، قال : كانوا يورثون الأكابر ولا يورثون الأصاغر . ثم أفتاهم فيما سكتوا عنه فقال : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " ولفظ الحديث لابن المثنى .

    قال أبو جعفر : فعلى هذا القول : "الذي يتلى علينا في الكتاب" ، الذي قال الله جل ثناؤه : " قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم " : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، الآية . والذي سأل القوم فأجيبوا عنه في يتامى النساء : اللاتي كانوا لا يؤتونهن ما كتب الله لهن من الميراث عمن ورثته عنه .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرناها عنه بالصواب ، وأشبهها بظاهر التنزيل ، قول من قال : معنى قوله : " وما يتلى عليكم في الكتاب " وما يتلى عليكم من آيات الفرائض في أول هذه السورة وآخرها .




  12. #512
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (512)
    صــ 261 إلى صــ 275



    وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الصداق ليس مما كتب للنساء إلا بالنكاح ، فما لم تنكح فلا صداق لها قبل أحد . وإذا لم يكن ذلك لها قبل أحد ، لم يكن مما كتب لها . وإذا لم يكن مما كتب لها ، لم يكن لقول قائل : عنى بقوله : " وما يتلى عليكم في الكتاب " ، الإقساط في صدقات يتامى النساء - وجه . لأن الله قال في سياق الآية مبينا عن الفتيا التي وعدنا أن يفتيناها : " في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن " ، فأخبر أن بعض الذي يفتينا فيه من أمر النساء ، أمر اليتيمة المحول بينها وبين ما كتب الله لها . والصداق قبل عقد النكاح ، ليس مما كتب الله لها على أحد . فكان معلوما بذلك أن التي عنيت بهذه الآية ، هي التي قد حيل بينها وبين الذي كتب لها مما يتلى علينا في كتاب الله . فإذا كان ذلك كذلك ، كان معلوما أن ذلك هو الميراث الذي يوجبه الله لهن في كتابه .

    فأما الذي ذكر عن محمد بن أبي موسى ، فإنه مع خروجه من قول أهل التأويل ، بعيد مما يدل عليه ظاهر التنزيل . وذلك أنه زعم أن الذي عنى الله بقوله : " وما يتلى عليكم في الكتاب " ، هو : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " . وإذا وجه الكلام إلى المعنى الذي تأوله ، صار الكلام مبتدأ من قوله : " في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن " ، ترجمة بذلك عن قوله : "فيهن" ، ويصير معنى الكلام : قل الله يفتيكم فيهن ، في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ، ولا دلالة [ ص: 262 ] في الآية على ما قاله ، ولا أثر عمن يعلم بقوله صحة ذلك ، وإذ كان ذلك كذلك ، كان وصل معاني الكلام بعضه ببعض أولى ، ما وجد إليه سبيل . فإذ كان الأمر على ما وصفنا ، فقوله : " في يتامى النساء " ، بأن يكون صلة لقوله : " وما يتلى عليكم " ، أولى من أن يكون ترجمة عن قوله : " قل الله يفتيكم فيهن " ، لقربه من قوله : " وما يتلى عليكم في الكتاب " ، وانقطاعه عن قوله : " يفتيكم فيهن " .

    وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : ويستفتونك في النساء ، قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في كتاب الله الذي أنزله على نبيه في أمر يتامى النساء اللاتي لا تعطونهن ما كتب لهن ، يعني ما فرض الله لهن من الميراث عمن ورثنه ، كما : -

    10557 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " لا تؤتونهن ما كتب لهن " ، قال : لا تورثونهن .

    10558 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قوله : " لا تؤتونهن ما كتب لهن " ، قال : من الميراث . قال : كانوا لا يورثون النساء . وترغبون أن تنكحوهن .

    واختلف أهل التأويل في معنى قوله : " وترغبون أن تنكحوهن " . فقال بعضهم : معنى ذلك : وترغبون عن نكاحهن . وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك ، وسنذكر قول آخرين لم نذكرهم .

    10559 - حدثنا حميد بن مسعدة السامي قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا عبيد الله بن عون ، عن الحسن : وترغبون أن تنكحوهن قال : ترغبون عنهن . [ ص: 263 ]

    10560 - حدثنا يعقوب وابن وكيع قالا : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن الحسن ، مثله .

    10561 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن عروة قال : قالت عائشة في قول الله : " وترغبون أن تنكحوهن " ، رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم عنهن .

    10562 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله يعني ابن صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني يونس ، عن ابن شهاب قال : قال عروة ، قالت عائشة ، فذكر مثله .

    وقال آخرون : معنى ذلك : وترغبون في نكاحهن . وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك قبل ، ونحن ذاكرو قول من لم نذكر منهم .

    10563 - حدثنا حميد بن مسعدة قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا ابن عون ، عن محمد ، عن عبيدة : " وترغبون أن تنكحوهن " ، قال : وترغبون فيهن . [ ص: 264 ]

    10564 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد قال : قلت لعبيدة : وترغبون أن تنكحوهن قال : ترغبون فيهن .

    10565 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : " في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ، فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه ، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا . فإن كانت جميلة وهويها ، تزوجها وأكل مالها . وإن كانت دميمة منعها الرجل أبدا حتى تموت ، فإذا ماتت ورثها . فحرم الله ذلك ونهى عنه .

    قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الآية ، قول من قال : معنى ذلك : "وترغبون عن أن تنكحوهن" . لأن حبسهم أموالهن عنهن مع عضلهم إياهن ، إنما كان ليرثوا أموالهن ، دون زوج إن تزوجن . ولو كان الذين حبسوا عنهن أموالهن ، إنما حبسوها عنهن رغبة في نكاحهن ، لم يكن للحبس عنهن وجه معروف ، لأنهم كانوا أولياءهن ، ولم يكن يمنعهم من نكاحهن مانع ، فيكون به حاجة إلى حبس مالها عنها ، ليتخذ حبسها عنها سببا إلى إنكاحها نفسها منه .
    القول في تأويل قوله ( والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب وفي المستضعفين من الولدان وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط .

    وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله من الصحابة والتابعين فيما مضى ، والذين [ ص: 265 ] أفتاهم في أمر المستضعفين من الولدان أن يؤتوهم حقوقهم من الميراث ، لأنهم كانوا لا يورثون الصغار من أولاد الميت ، وأمرهم أن يقسطوا فيهم ، فيعدلوا ويعطوهم فرائضهم على ما قسم الله لهم في كتابه ، كما : -

    10566 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " والمستضعفين من الولدان " ، كانوا لا يورثون جارية ولا غلاما صغيرا ، فأمرهم الله أن يقوموا لليتامى بالقسط . و "القسط" : أن يعطى كل ذي حق منهم حقه ، ذكرا كان أو أنثى ، الصغير منهم بمنزلة الكبير .

    10567 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن " ، قال : لا تورثوهن مالا" وأن تقوموا لليتامى بالقسط " ، قال : فدخل النساء والصغير والكبير في المواريث ، ونسخت المواريث ذلك الأول .

    10568 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وأن تقوموا لليتامى بالقسط " ، أمروا لليتامى بالقسط ، بالعدل .

    10569 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

    10570 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك : " والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط " ، قال : كانوا لا يورثون إلا الأكبر فالأكبر .

    10571 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " والمستضعفين من الولدان " ، فكانوا في الجاهلية [ ص: 266 ] لا يورثون الصغار ولا البنات ، فذلك قوله : " لا تؤتونهن ما كتب لهن " ، فنهى الله عن ذلك ، وبين لكل ذي سهم سهمه ، فقال : ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) [ سورة النساء : 11 ، 176 ] ، صغيرا كان أو كبيرا .

    10572 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : " والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط " ، وذلك أنهم كانوا لا يورثون الصغير والضعيف شيئا ، فأمر الله أن يعطى نصيبه من الميراث .

    10573 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم : أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه ولي اليتيمة ، فإن كانت حسنة غنية قال له عمر : زوجها غيرك ، والتمس لها من هو خير منك . وإذا كانت بها دمامة ولا مال لها ، قال : تزوجها فأنت أحق بها!

    10574 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا يونس بن عبيد ، عن الحسين بن الفرج قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : يا أمير المؤمنين ، ما أمري وما أمر يتيمتي؟ قال : في أي بالكما؟ قال : ثم قال علي : أمتزوجها أنت غنية جميلة؟ قال : نعم ، والإله! قال : فتزوجها دميمة لا مال لها! ثم قال علي : خر لها ، فإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير . [ ص: 267 ]

    قال أبو جعفر : فقيامهم لليتامى بالقسط ، كان العدل فيما أمر الله فيهم .
    القول في تأويل قوله ( وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ( 127 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ومهما يكن منكم ، أيها المؤمنون ، من عدل في أموال اليتامى ، التي أمركم الله أن تقوموا فيهم بالقسط ، والانتهاء إلى أمر الله في ذلك وفي غيره وإلى طاعته فإن الله كان به عليما لم يزل عالما بما هو كائن منكم ، وهو محص ذلك كله عليكم ، حافظ له ، حتى يجازيكم به جزاءكم يوم القيامة .
    القول في تأويل قوله ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن خافت امرأة من بعلها ، يقول : علمت من زوجها "نشوزا" ، يعني : استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها ، [ ص: 268 ] أثرة عليها ، وارتفاعا بها عنها ، إما لبغضة ، وإما لكراهة منه بعض أسبابها إما دمامتها ، وإما سنها وكبرها ، أو غير ذلك من أمورها أو إعراضا يعني : انصرافا عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه " فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا " ، يقول : فلا حرج عليهما ، يعني على المرأة الخائفة نشوز بعلها أو إعراضه عنها " أن يصلحا بينهما صلحا " ، وهو أن تترك له يومها ، أو تضع عنه بعض الواجب لها من حق عليه ، تستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله ، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح يقول : " والصلح خير " ، يعني : والصلح بترك بعض الحق استدامة للحرمة ، وتماسكا بعقد النكاح ، خير من طلب الفرقة والطلاق .

    وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    10575 - حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة : أن رجلا أتى عليا رضي الله عنه يستفتيه في امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ، فقال : قد تكون المرأة عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها أو سوء خلقها أو فقرها ، فتكره فراقه . فإن وضعت له من [ ص: 269 ] مهرها شيئا حل له ، وإن جعلت له من أيامها شيئا فلا حرج .

    10576 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن خالد بن عرعرة قال : سئل علي رضي الله عنه : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا " ، قال : المرأة الكبيرة أو الدميمة أو لا يحبها زوجها ، فيصطلحان .

    10577 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم ، عن سماك بن حرب ، عن خالد بن عرعرة ، عن علي رضي الله عنه ، بنحوه .

    10578 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة : أن رجلا سأل عليا رضي الله عنه عن قوله : " فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا " ، قال : تكون المرأة عند الرجل دميمة ، فتنبو عينه عنها من دمامتها أو كبرها ، فإن جعلت له من أيامها أو مالها شيئا فلا جناح عليه .

    10579 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا : حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن ابن سيرين قال : جاء رجل إلى عمر فسأله عن آية ، فكره ذلك وضربه بالدرة ، فسأله آخر عن هذه الآية : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، فقال : عن مثل هذا فسلوا! ثم قال : هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها ، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها ، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز .

    10580 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا عمران بن عيينة قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : [ ص: 270 ] " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، قال : هي المرأة تكون عند الرجل حتى تكبر ، فيريد أن يتزوج عليها ، فيتصالحان بينهما صلحا ، على أن لها يوما ، ولهذه يومان أو ثلاثة .

    10581 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عمران ، عن عطاء ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، بنحوه إلا أنه قال : حتى تلد أو تكبر وقال أيضا : فلا جناح عليهما أن يصالحا على ليلة والأخرى ليلتين .

    10582 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير قال : هي المرأة تكون عند الرجل قد طالت صحبتها وكبرت ، فيريد أن يستبدل بها ، فتكره أن تفارقه ، ويتزوج عليها فيصالحها على أن يجعل لها أياما ، وللأخرى الأيام والشهر .

    10583 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد ، عن ابن عباس : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، قال : هي المرأة تكون عند الرجل فيريد أن يفارقها ، فتكره أن يفارقها ، ويريد أن يتزوج فيقول : "إني لا أستطيع أن أقسم لك بمثل ما أقسم لها" ، فتصالحه على أن يكون لها في الأيام يوم ، فيتراضيان على ذلك ، فيكونان على ما اصطلحا عليه .

    10584 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " [ ص: 271 ] قالت : هذا في المرأة تكون عند الرجل ، فلعله أن يكون يستكبر منها ، ولا يكون لها ولد ويكون لها صحبة ، فتقول : لا تطلقني ، وأنت في حل من شأني .

    10585 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج بن المنهال قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة في قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، قالت : هذا الرجل يكون له امرأتان : إحداهما قد عجزت ، أو هي دميمة وهو لا يستكثر منها ، فتقول : لا تطلقني ، وأنت في حل من شأني .

    10586 - حدثني المثنى قال : حدثنا حبان بن موسى قال : أخبرنا ابن [ ص: 272 ] المبارك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة بنحوه غير أنه قال : فتقول : أجعلك من شأني في حل! فنزلت هذه الآية في ذلك .

    10587 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، فتلك المرأة تكون عند الرجل ، لا يرى منها كبير ما يحب ، وله امرأة غيرها أحب إليه منها ، فيؤثرها عليها . فأمره الله إذا كان ذلك ، أن يقول لها : "يا هذه ، إن شئت أن تقيمي على ما ترين من الأثرة ، فأواسيك وأنفق عليك فأقيمي ، وإن كرهت خليت سبيلك!" ، فإن هي رضيت أن تقيم بعد أن يخيرها فلا جناح عليه ، وهو قوله : والصلح خير وهو التخيير .

    10588 - حدثنا الربيع بن سليمان وبحر بن نصر قالا : حدثنا ابن وهب قال : حدثني ابن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أنزل الله هذه الآية في المرأة إذا دخلت في السن ، فتجعل يومها لامرأة أخرى . قالت ففي ذلك أنزلت : " فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا " .

    10589 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة قال : سألته عن قول الله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، قال : هي المرأة تكون مع زوجها ، فيريد أن يتزوج [ ص: 273 ] عليها ، فتصالحه من يومها على صلح . قال : فهما على ما اصطلحا عليه . فإن انتقضت به ، فعليه أن يعدل عليها ، أو يفارقها .

    10590 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان يقول ذلك .

    10591 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا حجاج ، عن مجاهد : أنه كان يقول ذلك .

    10592 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة في قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " إلى آخر الآية ، قال : يصالحها على ما رضيت دون حقها ، فله ذلك ما رضيت . فإذا أنكرت أو قالت : "غرت" ، فلها أن يعدل عليها ، أو يرضيها ، أو يطلقها .

    10593 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن أيوب ، عن محمد قال : سألت عبيدة عن قول الله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، قال : هو الرجل تكون له امرأة قد خلا من سنها ، فتصالحه عن حقها على شيء ، فهو له ما رضيت . فإذا كرهت ، فلها أن يعدل عليها ، أو يرضيها من حقها ، أو يطلقها .

    10594 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير ، عن هشام ، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا " ، فذكر نحو ذلك إلا أنه قال : فإن سخطت ، فله أن يرضيها ، أو يوفيها حقها كله ، أو يطلقها . [ ص: 274 ]

    10595 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة قال : قال إبراهيم : إذا شاءت كانت على حقها ، وإن شاءت أبت فردت الصلح ، فذاك بيدها . فإن شاء طلقها ، وإن شاء أمسكها على حقها .

    10596 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما " ، قال قال علي : تكون المرأة عند الرجل الزمان الكثير ، فتخاف أن يطلقها ، فتصالحه على صلح ما شاء وشاءت ، يبيت عندها في كذا وكذا ليلة ، وعند أخرى ، ما تراضيا عليه ، وأن تكون نفقتها دون ما كانت . وما صالحته عليه من شيء فهو جائز .

    10597 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن عبد الملك ، عن أبيه ، عن الحكم : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، قال : هي المرأة تكون عند الرجل ، فيريد أن يخلي سبيلها . فإذا خافت ذلك منه ، فلا جناح عليهما أن يصطلحا بينهما صلحا ، تدع من أيامها إذا تزوج .

    10598 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، إلى قوله : " والصلح خير " ، وهو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة ، فينكح عليها المرأة الشابة ، فيكره أن يفارق أم ولده ، فيصالحها على عطية من ماله ونفسه ، فيطيب له ذلك الصلح .

    10599 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن [ ص: 275 ] قتادة قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، فقرأ حتى بلغ " فإن الله كان بما تعملون خبيرا " ، وهذا في الرجل تكون عنده المرأة قد خلا من سنها ، وهان عليه بعض أمرها ، فيقول : "إن كنت راضية من نفسي ومالي بدون ما كنت ترضين به قبل اليوم!" فإن اصطلحا من ذلك على أمر ، فقد أحل الله لهما ذلك ، وإن أبت ، فإنه لا يصلح له أن يحبسها على الخسف .

    10600 - حدثت عن الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار : أن رافع بن خديج كان تحته امرأة قد خلا من سنها ، فتزوج عليها شابة ، فآثر الشابة عليها . فأبت امرأته الأولى أن تقيم على ذلك ، فطلقها تطليقة . حتى إذا بقي من أجلها يسير قال : إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة ، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك! قالت : بل راجعني وأصبر على الأثرة! فراجعها ، ثم آثر عليها ، فلم تصبر على الأثرة ، فطلقها أخرى وآثر عليها الشابة . قال : فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله أنزل فيه : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا " .





  13. #513
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (513)
    صــ 276 إلى صــ 290





    10601 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، قال : قول الرجل لامرأته : "أنت كبيرة ، وأنا أريد أن أستبدل امرأة شابة وضيئة ، فقري على ولدك ، فلا أقسم لك من نفسي شيئا" . فذلك الصلح بينهما ، وهو أبو السنابل بن بعكك .

    10602 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح : " من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، ثم ذكر نحوه . قال شبل : فقلت له : فإن كانت لك امرأة فتقسم لها ولم تقسم لهذه؟ قال : إذا صالحت على ذلك ، فليس عليه شيء .

    10603 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر قال : سألت عامرا عن الرجل تكون عنده المرأة يريد أن يطلقها ، فتقول : "لا تطلقني ، واقسم لي يوما ، وللتي تزوج يومين" ، قال : لا بأس به ، هو صلح .

    10604 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " ، قال : المرأة ترى [ ص: 277 ] من زوجها بعض الحط ، وتكون قد كبرت ، أو لا تلد ، فيريد زوجها أن ينكح غيرها ، فيأتيها فيقول : "إني أريد أن أنكح امرأة شابة أشب منك ، لعلها أن تلد لي وأوثرها في الأيام والنفقة" ، فإن رضيت بذلك ، وإلا طلقها ، فيصطلحان على ما أحبا .

    10605 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، قال : نشوزا عنها ، غرض بها . الرجل تكون له المرأتان أو إعراضا بتركها فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا إما أن يرضيها فتحلله ، وإما أن ترضيه فتعطفه على نفسها .

    10606 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، يعني : البغض .

    10607 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، فهو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة ، فيتزوج عليها المرأة الشابة ، فيميل إليها ، وتكون أعجب إليه من الكبيرة ، فيصالح الكبيرة على أن يعطيها من ماله ويقسم لها من نفسه نصيبا معلوما .

    10608 - حدثنا عمرو بن علي وزيد بن أخزم قالا حدثنا أبو داود قال : [ ص: 278 ] حدثنا سليمان بن معاذ ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا تطلقني على نسائك ، ولا تقسم لي . ففعل ، فنزلت : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " .

    واختلفت القرأة في قراءة قوله : " أن يصلحا بينهما صلحا "

    فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة بفتح "الياء" وتشديد "الصاد" ، بمعنى : أن يتصالحا بينهما صلحا ، ثم أدغمت "التاء" في"الصاد" ، فصيرتا "صادا" مشددة .

    وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة : ( أن يصلحا بينهما صلحا ) ، بضم "الياء" وتخفيف"الصاد" ، بمعنى : أصلح الزوج والمرأة بينهما . [ ص: 279 ]

    قال أبو جعفر : وأعجب القراءتين في ذلك إلي قراءة من قرأ : "أن يصالحا بينهما صلحا" ، بفتح "الياء" وتشديد "الصاد" ، بمعنى : يتصالحا . لأن "التصالح" في هذا الموضع أشهر وأوضح معنى ، وأفصح وأكثر على ألسن العرب من "الإصلاح" . و "الإصلاح" في خلاف "الإفساد" أشهر منه في معنى "التصالح" .

    فإن ظن ظان أن في قوله : "صلحا" ، دلالة على أن قراءة من قرأ ذلك ( يصلحا ) بضم"الياء" أولى بالصواب ، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن . وذلك أن "الصلح" اسم وليس بفعل ، فيستدل به على أولى القراءتين بالصواب في قوله : "يصلحا بينهما صلحا" .
    القول في تأويل قوله ( وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ( 128 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : معناه : وأحضرت أنفس النساء الشح على أنصبائهن من أنفس أزواجهن وأموالهم .

    ذكر من قال ذلك :

    10609 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وأحضرت الأنفس الشح " ، قال : نصيبها منه .

    10610 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو أحمد وحدثنا ابن وكيع قال : [ ص: 280 ] حدثنا ابن يمان قالا جميعا : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : " وأحضرت الأنفس الشح " ، قال : في الأيام .

    10611 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء : " وأحضرت الأنفس الشح " ، قال : في الأيام والنفقة .

    10612 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن مهدي وابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : في النفقة .

    10613 - حدثنا ابن وكيع . . قال : حدثنا روح ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : في النفقة .

    10614 - وحدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء : " وأحضرت الأنفس الشح " ، قال : في الأيام .

    10615 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية : " وأحضرت الأنفس الشح " ، قال : نفس المرأة على نصيبها من زوجها ، من نفسه وماله .

    10616 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، بمثله .

    10617 - حدثني المثنى قال : حدثنا حبان بن موسى قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، مثله .

    10618 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير : في النفقة . [ ص: 281 ]

    10619 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن بكير بن الأخنس ، عن سعيد بن جبير قال : في الأيام والنفقة .

    10620 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن سعيد بن جبير قال : في الأيام والنفقة .

    10621 - حدثني المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : " وأحضرت الأنفس الشح " ، قال : المرأة تشح على مال زوجها ونفسه .

    10622 - حدثنا المثنى قال : أخبرنا حبان بن موسى قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير قال : جاءت المرأة حين نزلت هذه الآية : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، قالت : "إني أريد أن تقسم لي من نفسك"! وقد كانت رضيت أن يدعها فلا يطلقها ولا يأتيها ، فأنزل الله : " وأحضرت الأنفس الشح " .

    10623 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وأحضرت الأنفس الشح " ، قال : تطلع نفسها إلى زوجها وإلى نفقته . قال : وزعم أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سودة بنت زمعة : كانت قد كبرت ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلقها ، فاصطلحا على أن يمسكها ، ويجعل يومها لعائشة ، فشحت بمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وقال آخرون : معنى ذلك : وأحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة ، الشح بحقه قبل صاحبه .

    ذكر من قال ذلك :

    10624 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد [ ص: 282 ] يقول في قوله : " وأحضرت الأنفس الشح " ، قال : لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئا فتحلله ، ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئا من مالها فتعطفه عليها .

    قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : عنى بذلك : أحضرت أنفس النساء الشح بأنصبائهن من أزواجهن في الأيام والنفقة .

    و "الشح" : الإفراط في الحرص على الشيء ، وهو في هذا الموضع : إفراط حرص المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها .

    فتأويل الكلام : وأحضرت أنفس النساء أهواءهن ، من فرط الحرص على حقوقهن من أزواجهن والشح بذلك على ضرائرهن .

    وبنحو ما قلنا في معنى "الشح" ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول :

    10625 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " وأحضرت الأنفس الشح " ، والشح ، هواه في الشيء يحرص عليه .

    وإنما قلنا : هذا القول أولى بالصواب ، من قول من قال : "عني بذلك : وأحضرت أنفس الرجال والنساء الشح" ، على ما قاله ابن زيد لأن مصالحة الرجل امرأته بإعطائه إياها من ماله جعلا على أن تصفح له عن القسم لها ، غير جائزة . وذلك أنه غير معتاض عوضا من جعله الذي بذله لها . والجعل لا يصح إلا على عوض : إما عين ، وإما منفعة . والرجل متى جعل للمرأة جعلا على أن تصفح له عن يومها وليلتها ، فلم يملك عليها عينا ولا منفعة . وإذ كان ذلك كذلك ، كان ذلك من معاني أكل المال بالباطل . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنه لا وجه لقول من قال : "عنى بذلك الرجل والمرأة" . [ ص: 283 ]

    فإن ظن ظان أن ذلك إذ كان حقا للمرأة ، ولها المطالبة به ، فللرجل افتداؤه منها بجعل ، فإن شفعة المستشفع في حصة من دار اشتراها رجل من شريك له فيها حق ، له المطالبة بها ، فقد يجب أن يكون للمطلوب افتداء ذلك منه بجعل . وفي إجماع الجميع على أن الصلح في ذلك على عوض غير جائز ، إذ كان غير معتاض منه المطلوب في الشفعة عينا ولا نفعا ما يدل على بطول صلح الرجل امرأته على عوض ، على أن تصفح عن مطالبتها إياه بالقسمة لها .

    وإذا فسد ذلك ، صح أن تأويل الآية ما قلنا . وقد أبان الخبر الذي ذكرناه عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن قوله : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ، الآية : نزلت في أمر رافع بن خديج وزوجته ، إذ تزوج عليها شابة ، فآثر الشابة عليها ، فأبت الكبيرة أن تقر على الأثرة ، فطلقها تطليقة وتركها . فلما قارب انقضاء عدتها خيرها بين الفراق والرجعة والصبر على الأثرة ، فاختارت الرجعة والصبر على الأثرة . فراجعها وآثر عليها ، فلم تصبر ، فطلقها . ففي ذلك دليل واضح على أن قوله : " وأحضرت الأنفس الشح " ، إنما عني به : وأحضرت أنفس النساء الشح بحقوقهن من أزواجهن ، على ما وصفنا .

    قال أبو جعفر : وأما قوله " وإن تحسنوا وتتقوا " ، فإنه يعني : وإن تحسنوا ، أيها الرجال ، في أفعالكم إلى نسائكم ، إذا كرهتم منهن دمامة أو خلقا أو بعض ما تكرهون منهن بالصبر عليهن ، وإيفائهن حقوقهن ، وعشرتهن بالمعروف وتتقوا يقول : وتتقوا الله فيهن بترك الجور منكم عليهن فيما يجب لمن كرهتموه منهن عليكم ، من القسمة له والنفقة والعشرة بالمعروف [ ص: 284 ] " فإن الله كان بما تعملون خبيرا " ، يقول : فإن الله كان بما تعملون في أمور نسائكم ، أيها الرجال ، من الإحسان إليهن والعشرة بالمعروف ، والجور عليهن فيما يلزمكم لهن ويجب خبيرا يعني : عالما خابرا ، لا يخفى عليه منه شيء ، بل هو به عالم ، وله محص عليكم ، حتى يوفيكم جزاء ذلك : المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
    القول في تأويل قوله ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء " ، لن تطيقوا ، أيها الرجال ، أن تسووا بين نسائكم وأزواجكم في حبهن بقلوبكم حتى تعدلوا بينهن في ذلك ، فلا يكون في قلوبكم لبعضهن من المحبة إلا مثل ما لصواحبها ، لأن ذلك مما لا تملكونه ، وليس إليكمولو حرصتم يقول : ولو حرصتم في تسويتكم بينهن في ذلك ، كما : -

    10626 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " ، قال : واجب ، أن لا تستطيعوا العدل بينهن .

    " فلا تميلوا كل الميل " ، يقول : فلا تميلوا بأهوائكم إلى من لم تملكوا محبته منهن كل الميل ، حتى يحملكم ذلك على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب لهن عليكم من حق في القسم لهن والنفقة عليهن ، والعشرة بالمعروف [ ص: 285 ] " فتذروها كالمعلقة " يقول : فتذروا التي هي سوى التي ملتم بأهوائكم إليها كالمعلقة يعني كالتي لا هي ذات زوج ، ولا هي أيم .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ما قلنا في قوله : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " .

    10627 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " ، قال : بنفسه في الحب والجماع .

    10628 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن يونس ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " ، قال : بنفسه .

    10629 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا حفص ، عن أشعث وهشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة قال : سألته عن قوله : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " ، فقال : في الجماع

    10630 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة قال : في الحب والجماع .

    10631 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا سهل ، عن عمرو ، عن الحسن : في الحب .

    10632 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة قال : في الحب والجماع .

    10633 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : قال أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة في قوله : " تعملون خبيرا ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " ، قال : في المودة ، كأنه يعني الحب .

    10634 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " ، يقول : لا تستطيع أن تعدل بالشهوة فيما بينهن ولو حرصت .

    10635 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وحدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول : اللهم أما قلبي فلا أملك! وأما سوى ذلك ، فأرجو أن أعدل!

    10636 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " ، يعني : في الحب والجماع .

    10637 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية وحدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الوهاب قالا جميعا : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك . [ ص: 287 ]

    10638 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن ابن أبي مليكة قال : نزلت هذه الآية في عائشة : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء " .

    10639 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : في الشهوة والجماع .

    10640 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : في الجماع .

    10641 - حدثنا علي بن سهل قال : حدثنا زيد بن أبي الزرقاء قال : قال سفيان في قوله : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " ، قال : في الحب والجماع .

    10642 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " ، قال : ما يكون من بدنه وقلبه ، فذلك شيء لا يستطيع يملكه .

    ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله : " فلا تميلوا كل الميل " .

    10643 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا [ ص: 288 ] ابن علية قال : حدثنا ابن عون ، عن محمد قال : قلت لعبيدة : " فلا تميلوا كل الميل " ، قال : بنفسه .

    10644 - حدثنا سفيان قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد ، عن عبيدة ، مثله .

    10645 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة : " فلا تميلوا كل الميل " - قال هشام : أظنه قال : في الحب والجماع .

    10646 - حدثني المثنى قال : حدثنا حبان بن موسى قال : أخبرنا ابن المبارك قال : أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة في قوله : " كل الميل " ، قال : بنفسه .

    10647 - حدثنا بحر بن نصر الخولاني قال : حدثنا بشر بن بكر قال : أخبرنا الأوزاعي ، عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن قول الله : " فلا تميلوا كل الميل " ، قال : بنفسه .

    10648 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن : " فلا تميلوا كل الميل " ، قال : في الغشيان والقسم .

    10649 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فلا تميلوا كل الميل " ، لا تعمدوا الإساءة .

    10650 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    10651 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج [ ص: 289 ] قال : بلغني عن مجاهد : " فلا تميلوا كل الميل " ، قال : يتعمد أن يسيء ويظلم .

    10652 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    10653 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " فلا تميلوا كل الميل " ، قال : هذا في العمل في مبيته عندها ، وفيما تصيب من خيره .

    10654 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فلا تميلوا كل الميل " ، يقول : يميل عليها ، فلا ينفق عليها ، ولا يقسم لها يوما .

    10655 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال مجاهد : " فلا تميلوا كل الميل " ، قال : يتعمد الإساءة ، يقول : لا تميلوا كل الميل قال : بلغني أنه الجماع .

    10656 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ، ويقول : اللهم هذه قسمتي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك!

    10657 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله . [ ص: 290 ]

    10658 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى ، جاء يوم القيامة أحد شقيه ساقط .

    ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله : " فتذروها كالمعلقة " .

    10659 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فتذروها كالمعلقة " ، قال : تذروها لا هي أيم ، ولا هي ذات زوج .





  14. #514
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (514)
    صــ 291 إلى صــ 305





    10660 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر [ ص: 291 ] ، عن سعيد بن جبير : " فتذروها كالمعلقة " ، قال : لا أيما ولا ذات بعل .

    10661 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن يمان ، عن مبارك ، عن الحسن : " فتذروها كالمعلقة " ، قال : لا مطلقة ولا ذات بعل .

    10662 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن ، مثله .

    10663 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فتذروها كالمعلقة " ، أي كالمحبوسة ، أو كالمسجونة .

    10664 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فتذروها كالمعلقة " ، قال : كالمسجونة .

    10665 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن أبي جعفر ، عن الربيع في قوله : " فتذروها كالمعلقة " ، يقول : لا مطلقة ولا ذات بعل .

    10666 - حدثني المثنى قال : حدثني إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس في قوله : " فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " ، لا مطلقة ولا ذات بعل .

    10667 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج قال : بلغني عن مجاهد : " فتذروها كالمعلقة " ، قال : لا أيما ولا ذات بعل . [ ص: 292 ]

    10668 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح : " فتذروها كالمعلقة " ، ليست بأيم ولا ذات زوج .

    10669 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا المحاربي وأبو خالد وأبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : لا تدعها كأنها ليس لها زوج .

    10670 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فتذروها كالمعلقة " ، قال : لا أيما ولا ذات بعل .

    10671 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " فتذروها كالمعلقة " ، قال : "المعلقة" ، التي ليست بمخلاة ونفسها فتبتغي لها ، وليست متهيئة كهيئة المرأة من زوجها ، لا هي عند زوجها ، ولا مفارقة ، فتبتغي لنفسها . فتلك "المعلقة" .

    قال أبو جعفر : وإنما أمر الله جل ثناؤه بقوله : " فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " الرجال بالعدل بين أزواجهن فيما استطاعوا فيه العدل بينهن من القسمة بينهن ، والنفقة ، وترك الجور في ذلك بإرسال إحداهن على الأخرى فيما فرض عليهم العدل بينهن فيه ، إذ كان قد صفح لهم عما لا يطيقون العدل فيه بينهن مما في القلوب من المحبة والهوى .
    القول في تأويل قوله ( وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ( 129 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وإن تصلحوا أعمالكم ، أيها الناس ، فتعدلوا في قسمكم بين أزواجكم ، وما فرض الله لهن عليكم من النفقة والعشرة بالمعروف ، فلا تجوروا في ذلك وتتقوا يقول : وتتقوا الله في الميل الذي نهاكم [ ص: 293 ] عنه ، بأن تميلوا لإحداهن على الأخرى ، فتظلموها حقها مما أوجبه الله لها عليكم فإن الله كان غفورا يقول : فإن الله يستر عليكم ما سلف منكم من ميلكم وجوركم عليهن قبل ذلك ، بتركه عقوبتكم عليه ، ويغطي ذلك عليكم بعفوه عنكم ما مضى منكم في ذلك قبل رحيما يقول : وكان رحيما بكم ، إذ تاب عليكم ، فقبل توبتكم من الذي سلف منكم من جوركم في ذلك عليهن ، وفي ترخيصه لكم الصلح بينكم وبينهن ، بصفحهن عن حقوقهن لكم من القسم على أن لا يطلقن .
    القول في تأويل قوله ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ( 130 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فإن أبت المرأة التي قد نشز عليها زوجها - إذ أعرض عنها بالميل منه إلى ضرتها لجمالها أو شبابها ، أو غير ذلك مما تميل النفوس له إليها - الصلح بصفحها لزوجها عن يومها وليلتها ، وطلبت حقها منه من القسم والنفقة ، وما أوجب الله لها عليه وأبى الزوج الأخذ عليها بالإحسان الذي ندبه الله إليه بقوله : " وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " ، وإلحاقها في القسم لها والنفقة والعشرة بالتي هو إليها مائل ، فتفرقا [ ص: 294 ] بطلاق الزوج إياها " يغن الله كلا من سعته " ، يقول : يغن الله الزوج والمرأة المطلقة من سعة فضله . أما هذه ، فبزوج هو أصلح لها من المطلق الأول ، أو برزق أوسع وعصمة . وأما هذا ، فبرزق واسع وزوجة هي أصلح له من المطلقة ، أو عفة وكان الله واسعا يعني : وكان الله واسعا لهما في رزقه إياهما وغيرهما من خلقه حكيما فيما قضى بينه وبينها من الفرقة والطلاق ، وسائر المعاني التي عرفناها من الحكم بينهما في هذه الآيات وغيرها ، وفي غير ذلك من أحكامه وتدبيره وقضاياه في خلقه .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    10672 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " ، قال : الطلاق .

    10673 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
    [ ص: 295 ] القول في تأويل قوله ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ( 131 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولله جميع ملك ما حوته السماوات السبع والأرضون السبع من الأشياء كلها . وإنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله : " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " ، تنبيها منه خلقه على موضع الرغبة عند فراق أحدهم زوجته ، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوحشة بفراق سكنه وزوجته وتذكيرا منه له أنه الذي له الأشياء كلها ، وأن من كان له ملك جميع الأشياء ، فغير متعذر عليه أن يغنيه وكل ذي فاقة وحاجة ، ويؤنس كل ذي وحشة .

    ثم رجع جل ثناؤه إلى عذل من سعى في أمر بني أبيرق وتوبيخهم ، ووعيد من فعل ما فعل المرتد منهم ، فقال " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم " ، يقول : ولقد أمرنا أهل الكتاب ، وهم أهل التوراة والإنجيل وإياكم يقول : وأمرناكم وقلنا لكم ولهم : اتقوا الله يقول : احذروا الله أن تعصوه وتخالفوا أمره ونهيه وإن تكفروا يقول : وإن تجحدوا وصيته إياكم ، أيها المؤمنون ، فتخالفوها فإن لله ما في السماوات وما في الأرض يقول : فإنكم لا تضرون بخلافكم وصيته غير أنفسكم ، ولا تعدون في كفركم ذلك أن تكونوا أمثال اليهود والنصارى ، في نزول عقوبته بكم ، وحلول غضبه عليكم ، كما حل بهم إذ بدلوا عهده ونقضوا ميثاقه ، فغير بهم ما كانوا فيه من خفض [ ص: 296 ] العيش وأمن السرب ، وجعل منهم القردة والخنازير . وذلك أن له ملك جميع ما حوته السموات والأرض ، لا يمتنع عليه شيء أراده بجميعه وبشيء منه ، من إعزاز من أراد إعزازه ، وإذلال من أراد إذلاله ، وغير ذلك من الأمور كلها ، لأن الخلق خلقه ، بهم إليه الفاقة والحاجة ، وبه قواهم وبقاؤهم ، وهلاكهم وفناؤهم ، وهو "الغني" الذي لا حاجة تحل به إلى شيء ، ولا فاقة تنزل به تضطره إليكم ، أيها الناس ، ولا إلى غيركم "والحميد" الذي استوجب عليكم أيها الخلق الحمد بصنائعه الحميدة إليكم ، وآلائه الجميلة لديكم . فاستديموا ذلك ، أيها الناس ، باتقائه والمسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، كما :

    10674 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : أخبرنا سيف ، عن أبي روق ، عن علي رضي الله عنه : " وكان الله غنيا حميدا " ، قال : غنيا عن خلقه حميدا قال : مستحمدا إليهم .
    [ ص: 297 ] القول في تأويل قوله ( ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ( 132 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ولله ملك جميع ما حوته السموات والأرض ، وهو القيم بجميعه ، والحافظ لذلك كله ، لا يعزب عنه علم شيء منه ، ولا يئوده حفظه وتدبيره ، كما : -

    10675 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة : " وكفى بالله وكيلا " ، قال : حفيظا .

    فإن قال قائل : وما وجه تكرار قوله : " ولله ما في السماوات وما في الأرض " في آيتين ، إحداهما في إثر الأخرى؟

    قيل : كرر ذلك لاختلاف معنى الخبرين عما في السموات والأرض في الآيتين . وذلك أن الخبر عنه في إحدى الآيتين : ذكر حاجته إلى بارئه ، وغنى بارئه عنه - وفي الأخرى : حفظ بارئه إياه ، وعلمه به وبتدبيره .

    فإن قال : أفلا قيل : "وكان الله غنيا حميداوكفى بالله وكيلا" ؟

    قيل : إن الذي في الآية التي قال فيها : " وكان الله غنيا حميدا " ، مما صلح أن يختم ما ختم به من وصف الله بالغنى وأنه محمود ، ولم يذكر فيها ما يصلح أن يختم بوصفه معه بالحفظ والتدبير . فلذلك كرر قوله : " ولله ما في السماوات وما في الأرض " .
    [ ص: 298 ] القول في تأويل قوله ( إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ( 133 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن يشأ الله ، أيها الناس ، يذهبكم أي : يذهبكم بإهلاككم وإفنائكم ويأت بآخرين يقول : ويأت بناس آخرين غيركم لمؤازرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ونصرته " وكان الله على ذلك قديرا " ، يقول : وكان الله على إهلاككم وإفنائكم واستبدال آخرين غيركم بكم قديرا يعني : ذا قدرة على ذلك .

    وإنما وبخ جل ثناؤه بهذه الآيات ، الخائنين الذين خانوا الدرع التي وصفنا شأنها ، الذين ذكرهم الله في قوله : ( ولا تكن للخائنين خصيما ) [ سورة النساء : 105 ] وحذر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مثلهم ، وأن يفعلوا فعل المرتد منهم في ارتداده ولحاقه بالمشركين ، وعرفهم أن من فعل فعله منهم ، فلن يضر إلا نفسه ، ولن يوبق بردته غير نفسه ، لأنه المحتاج - مع جميع ما في السموات وما في الأرض - إلى الله ، والله الغني عنهم . ثم توعدهم في قوله : " إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين " ، بالهلاك والاستئصال ، إن هم فعلوا فعل ابن أبيرق طعمة المرتد وباستبدال آخرين غيرهم بهم ، لنصرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته ومؤازرته على دينه ، كما قال في الآية الأخرى : ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) ، [ سورة محمد : 38 ] . [ ص: 299 ]

    وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لما نزلت ، ضرب بيده على ظهر سلمان فقال : "هم قوم هذا" ، يعني عجم الفرس ، كذلك : -

    10676 - حدثت عن عبد العزيز بن محمد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

    وقال قتادة في ذلك بما : -

    10677 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله " إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا " ، قادر والله ربنا على ذلك : أن يهلك من يشاء من خلقه ، ويأتي بآخرين من بعدهم .
    القول في تأويل قوله ( من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا ( 134 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : من كان يريد ممن أظهر الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل النفاق ، الذين يستبطنون الكفر [ ص: 300 ] وهم مع ذلك يظهرون الإيمان ثواب الدنيا يعني : عرض الدنيا ، بإظهاره ما أظهر من الإيمان بلسانه . " فعند الله ثواب الدنيا " ، يعني : جزاؤه في الدنيا منها وثوابه فيها ، وهو ما يصيب من المغنم إذا شهد مع النبي مشهدا ، وأمنه على نفسه وذريته وماله ، وما أشبه ذلك . وأما ثوابه في الآخرة ، فنار جهنم .

    فمعنى الآية : من كان من العاملين في الدنيا من المنافقين يريد بعمله ثواب الدنيا وجزاءها من عمله ، فإن الله مجازيه به جزاءه في الدنيا من الدنيا ، وجزاءه في الآخرة من الآخرة من العقاب والنكال . وذلك أن الله قادر على ذلك كله ، وهو مالك جميعه ، كما قال في الآية الأخرى : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ) [ سورة هود : 15 - 16 ] .

    وإنما عنى بذلك جل ثناؤه : الذين تتيعوا في أمر بني أبيرق ، والذين وصفهم في قوله : ( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ) [ سورة النساء : 107 ، 108 ] ، ومن كان من نظرائهم في أفعالهم ونفاقهم . [ ص: 301 ]

    وقوله : " وكان الله سميعا بصيرا " ، يعني : وكان الله سميعا لما يقول هؤلاء المنافقون الذين يريدون ثواب الدنيا بأعمالهم ، وإظهارهم للمؤمنين ما يظهرون لهم إذا لقوا المؤمنين ، وقولهم لهم : "آمنا" "بصيرا" ، يعني : وكان ذا بصر بهم وبما هم عليه منطوون للمؤمنين ، فيما يكتمونه ولا يبدونه لهم من الغش والغل الذي في صدورهم لهم .
    القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا )

    وهذا تقدم من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله أن يفعلوا فعل الذين سعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بني أبيرق أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه ، وذبهم عنهم ، وتحسينهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر ، يقول الله لهم : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط " ، يقول : ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط يعني : بالعدل"شهداء لله" .

    و"الشهداء" جمع"شهيد" .

    [ ص: 302 ]

    ونصبت"الشهداء" على القطع مما في قوله : "قوامين" من ذكر"الذين آمنوا" ، ومعناه : قوموا بالقسط لله عند شهادتكم أو حين شهادتكم .

    " ولو على أنفسكم " ، يقول : ولو كانت شهادتكم على أنفسكم ، أو على والدين لكم أو أقربيكم ، فقوموا فيها بالقسط والعدل ، وأقيموها على صحتها بأن تقولوا فيها الحق ، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير ، ولا لفقير لفقره على غني ، فتجوروا ؛ فإن الله الذي سوى بين حكم الغني والفقير فيما ألزمكم أيها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل"أولى بهما" ، وأحق منكم ، لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم ، فهو أعلم بما فيه مصلحة كل واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم ، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليهما" فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " ، يقول : فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها - لغني على فقير ، أو لفقير على غني - إلا أحد الفريقين ، فتقولوا غير الحق ، ولكن قوموا فيه بالقسط ، وأدوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها ، بالعدل لمن شهدتم له وعليه .

    فإن قال قائل : وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهد بالقسط ؟ وهل يشهد الشاهد على نفسه ؟

    قيل : نعم ، وذلك أن يكون عليه حق لغيره فيقر له به ، فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه .

    قال أبو جعفر : وهذه الآية عندي تأديب من الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا ، وخيانتهم ما خانوا [ ص: 303 ] ممن ذكرنا قبل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشهادتهم لهم عنده بالصلاح . فقال لهم : إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه ، فقولوا فيها بالعدل ، ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم ، ولا يحملنكم غنى من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحمه منكم ، على الشهادة له بالزور ، ولا على ترك الشهادة عليه بالحق وكتمانها .

    وقد قيل إنها نزلت تأديبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

    ذكر من قال ذلك :

    10678 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " ، قال : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم ؛ واختصم إليه رجلان : غني وفقير ، وكان ضلعه مع الفقير ، يرى أن الفقير لا يظلم الغني ، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير فقال : " إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " ، الآية .

    وقال آخرون : في ذلك نحو قولنا : إنها نزلت في الشهادة ، أمرا من الله المؤمنين أن يسووا - في قيامهم بشهاداتهم - لمن قاموا بها ، بين الغني والفقير .

    [ ص: 304 ]

    ذكر من قال ذلك :

    10679 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين " ، قال : أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم ، ولا يحابوا غنيا لغناه ، ولا يرحموا مسكينا لمسكنته ، وذلك قوله : " إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " ، فتذروا الحق ، فتجوروا .

    10680 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة قال : كان ذلك فيما مضى من السنة في سلف المسلمين ، وكانوا يتأولون في ذلك قول الله : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما " الآية ، فلم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده ، ولا الولد لوالده ، ولا الأخ لأخيه ، ولا الرجل لامرأته ، ثم دخل الناس بعد ذلك ، فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتهم ، إذا كانت من أقربائهم . وصار ذلك من الولد والوالد ، والأخ والزوج والمرأة ، لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان .

    10681 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " إلى آخر الآية ، قال : لا يحملك فقر هذا على أن ترحمه فلا تقيم عليه الشهادة . قال : يقول هذا للشاهد . [ ص: 305 ]

    10682 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " الآية ، هذا في الشهادة . فأقم الشهادة ، يا ابن آدم ، ولو على نفسك ، أو الوالدين ، أو على ذوي قرابتك ، أو شرف قومك . فإنما الشهادة لله وليست للناس ، وإن الله رضي العدل لنفسه ، والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض ، به يرد الله من الشديد على الضعيف ، ومن الكاذب على الصادق ، ومن المبطل على المحق . وبالعدل يصدق الصادق ، ويكذب الكاذب ، ويرد المعتدي ويرنخه ، تعالى ربنا وتبارك . وبالعدل يصلح الناس ، يا ابن آدم" إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما " ، يقول : أولى بغنيكم وفقيركم . قال : وذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام قال : "يا رب ، أي شيء وضعت في الأرض أقل ؟ " ، قال : "العدل أقل ما وضعت في الأرض" . فلا يمنعك غنى غني ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم ، فإن ذلك عليك من الحق ، وقال جل ثناؤه : " فالله أولى بهما " .

    وقد قيل : " إن يكن غنيا أو فقيرا " الآية ، أريد : فالله أولى بغنى الغني وفقر الفقير . لأن ذلك منه لا من غيره ، فلذلك قال : "بهما" ، ولم يقل"به" .

    وقال آخرون : إنما قيل : "بهما" ، لأنه قال : " إن يكن غنيا أو فقيرا " ، فلم يقصد فقيرا بعينه ولا غنيا بعينه ، وهو مجهول . وإذا كان مجهولا جاز الرد منه بالتوحيد والتثنية والجمع .





  15. #515
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (515)
    صــ 306 إلى صــ 320





    [ ص: 306 ]

    وذكر قائلو هذا القول ، أنه في قراءة أبي : ( فالله أولى بهم ) .

    وقال آخرون : "أو" بمعنى"الواو" في هذا الموضع .



    وقال آخرون : جاز تثنية قوله : "بهما" ، لأنهما قد ذكرا ، كما قيل .

    ( وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما ) [ سورة النساء : 12 ] .

    وقيل : جاز ، لأنه أضمر فيه"من" ، كأنه قيل : إن يكن من خاصم غنيا أو فقيرا بمعنى : غنيين أو فقيرين" فالله أولى بهما " .

    وتأويل قوله : " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " أي : عن الحق ، فتجوزوا بترك إقامة الشهادة بالحق . ولو وجه إلى أن معناه : فلا تتبعوا أهواء أنفسكم هربا من أن تعدلوا عن الحق في إقامة الشهادة بالقسط ، لكان وجها .

    وقد قيل : معنى ذلك : فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا كما يقال : "لا تتبع هواك لترضي ربك" ، بمعنى : أنهاك عنه ، كما ترضي ربك بتركه .
    القول في تأويل قوله ( وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ( 135 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : عنى : "وإن تلووا" أيها الحكام في الحكم لأحد الخصمين [ ص: 307 ] على الآخر" أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " .

    ووجهوا معنى الآية إلى أنها نزلت في الحكام ، على نحو القول الذي ذكرنا عن السدي من قوله : إن الآية نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا قبل .

    ذكر من قال ذلك :

    10683 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قول الله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، قال : هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي ، فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر .

    وقال آخرون : معنى ذلك : وإن تلووا ، أيها الشهداء ، في شهاداتكم فتحرفوها ولا تقيموها أو تعرضوا عنها فتتركوها .

    ذكر من قال ذلك :

    10684 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، يقول : إن تلووا بألسنتكم بالشهادة ، أو تعرضوا عنها .

    10685 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " إلى قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، يقول : تلوي [ ص: 308 ] لسانك بغير الحق ، وهي اللجلجة ، فلا تقيم الشهادة على وجهها . و"الإعراض" ، الترك .

    10686 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإن تلووا " ، أي تبدلوا الشهادة" أو تعرضوا " ، قال : تكتموها .

    10687 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن تلووا ، قال : بتبديل الشهادة ، و"الإعراض" كتمانها .

    10688 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، قال : إن تحرفوا أو تتركوا .

    10689 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإن تلووا أو تعرضوا ، قال : تلجلجوا ، أو تكتموا . وهذا في الشهادة .

    10690 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، أما "تلووا" ، فتلوي للشهادة فتحرفها حتى لا تقيمها وأما "تعرضوا" فتعرض عنها فتكتمها ، وتقول : ليس عندي شهادة!

    10691 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " وإن تلووا " ، فتكتموا الشهادة ، يلوي ببعض منها أو يعرض عنها فيكتمها ، فيأبى أن يشهد عليه ، يقول : أكتم عنه لأنه مسكين أرحمه! فيقول : لا أقيم الشهادة عليه . ويقول : هذا غني أبقيه وأرجو ما قبله ، فلا أشهد عليه! فذلك قوله : " إن يكن غنيا أو فقيرا " . [ ص: 309 ]

    10692 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن تلووا ، تحرفوا" أو تعرضوا " ، تتركوا .

    10693 - حدثنا محمد بن عمارة قال : حدثنا حسن بن عطية قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : " وإن تلووا " ، قال : إن تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها" أو تعرضوا " ، قال : تتركوها .

    10694 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، قال : إن تلووا في الشهادة ، أن لا تقيمها على وجهها " أو تعرضوا ، قال : تكتموا الشهادة .

    10695 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال : حدثنا شيبان ، عن قتادة : أنه كان يقول : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، يعني : تلجلجوا"أو تعرضوا" ، قال : تدعها فلا تشهد .

    10696 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، أما"تلووا" ، فهو أن يلوي الرجل لسانه بغير الحق . يعني : في الشهادة .

    قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، تأويل من تأوله ، أنه لي الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه ، وذلك تحريفه إياها بلسانه ، وتركه إقامتها ، ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له ، وعمن شهد عليه .

    [ ص: 310 ]

    وأما إعراضه عنها ، فإنه تركه أداءها والقيام بها ، فلا يشهد بها .

    وإنما قلنا : هذا التأويل أولى بالصواب ، لأن الله جل ثناؤه قال : " كونوا قوامين بالقسط شهداء الله " ، فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء . وأظهر معاني"الشهداء" ، ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة .

    واختلفت القرأة في قراءة قوله : "وإن تلووا" .

    فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار سوى الكوفة : ( وإن تلووا ) بواوين ، من : "لواني الرجل حقي ، والقوم يلوونني ديني" وذلك إذا مطلوه"ليا" .

    وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة : ( وإن تلوا ) بواو واحدة .

    ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان :

    أحدهما : أن يكون قارئها أراد همز "الواو" لانضمامها ، ثم أسقط الهمز ، فصار إعراب الهمز في اللام إذ أسقطه ، وبقيت واو واحدة . كأنه أراد : "تلؤوا" ثم حذف الهمز . وإذا عنى هذا الوجه ، كان معناه معنى من قرأ : "وإن تلووا" ، بواوين ، غير أنه خالف المعروف من كلام العرب . وذلك أن"الواو" الثانية من قوله : "تلووا" واو جمع ، وهي علم لمعنى ، فلا يصح همزها ، ثم حذفها بعد همزها ، فيبطل علم المعنى الذي له أدخلت "الواو" المحذوفة .

    والوجه الآخر : أن يكون قارئها كذلك ، أراد : أن"تلوا" من"الولاية" ، فيكون معناه : وأن تلوا أمور الناس وتتركوا . وهذا معنى إذا وجه القارئ قراءته على ما وصفنا ، إليه خارج عن معاني أهل التأويل ، وما وجه إليه أصحاب رسول الله صلى [ ص: 311 ] الله عليه وسلم والتابعون ، تأويل الآية .

    قال أبو جعفر : فإذ كان فساد ذلك واضحا من كلا وجهيه ، فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا : ( وإن تلووا أو تعرضوا ) ، بمعنى : "اللي" الذي هو مطل .

    فيكون تأويل الكلام : وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيام له بها ، فتغيروها وتبدلوا ، أو تعرضوا عنها فتتركوا القيام له بها ، كما يلوي الرجل دين الرجل فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلا منه له ، كما قال الأعشى :


    يلوينني ديني النهار ، وأقتضي ديني إذا وقذ النعاس الرقدا


    وأما تأويل قوله : " فإن الله كان بما تعملون خبيرا " ، فإنه أراد : " فإن الله كان بما تعملون " ، من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها ، وإعراضكم عنها [ ص: 312 ] بكتمانكموها" خبيرا " ، يعني ذا خبرة وعلم به ، يحفظ ذلك منكم عليكم ، حتى يجازيكم به جزاءكم في الآخرة ، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته . يقول : فاتقوا ربكم في ذلك .
    القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ( 136 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : " يا أيها الذين آمنوا " ، بمن قبل محمد من الأنبياء والرسل ، وصدقوا بما جاءوهم به من عند الله"آمنوا بالله ورسوله" ، يقول : صدقوا بالله وبمحمد رسوله ، أنه لله رسول ، مرسل إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم" والكتاب الذي نزل على رسوله " ، يقول : وصدقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نزله الله عليه ، وذلك القرآن" والكتاب الذي أنزل من قبل " ، يقول : وآمنوا بالكتاب الذي أنزل الله من قبل الكتاب الذي نزله على محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو التوراة والإنجيل .

    فإن قال قائل : وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكتبه ، وقد سماهم "مؤمنين" ؟

    قيل : إنه جل ثناؤه لم يسمهم "مؤمنين" ، وإنما وصفهم بأنهم "آمنوا" ، وذلك وصف لهم بخصوص من التصديق . وذلك أنهم كانوا صنفين : أهل توراة مصدقين [ ص: 313 ] بها وبمن جاء بها ، وهم مكذبون بالإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما وصنف أهل إنجيل ، وهم مصدقون به وبالتوراة وسائر الكتب ، مكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان ، فقال جل ثناؤه لهم : "يا أيها الذين آمنوا" ، يعني : بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل "آمنوا بالله ورسوله" محمد صلى الله عليه وسلم " والكتاب الذي نزل على رسوله " ، فإنكم قد علمتم أن محمدا رسول الله ، تجدون صفته في كتبكم وبالكتاب الذي أنزل من قبل الذي تزعمون أنكم به مؤمنون ، فإنكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذبون ، لأن كتابكم يأمركم بالتصديق به وبما جاءكم به ، فآمنوا بكتابكم في اتباعكم محمدا ، وإلا فأنتم به كافرون . فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به ، بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله : "يا أيها الذين آمنوا" .

    وأما قوله : " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر " ، فإن معناه : ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوته فقد ضل ضلالا بعيدا .

    وإنما قال تعالى ذكره : " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر " ، ومعناه : ومن يكفر بمحمد وبما جاء به من عند الله لأن جحود شيء من [ ص: 314 ] ذلك بمعنى جحود جميعه ، ولأنه لا يصح إيمان أحد من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به ، والكفر بشيء منه كفر بجميعه ، فلذلك قال : " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر " ، بعقب خطابه أهل الكتاب وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، تهديدا منه لهم ، وهم مقرون بوحدانية الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر ، سوى محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الفرقان .

    وأما قوله : " فقد ضل ضلالا بعيدا " ، فإنه يعني : فقد ذهب عن قصد السبيل ، وجار عن محجة الطريق ، إلى المهالك ذهابا وجورا بعيدا . لأن كفر من كفر بذلك ، خروج منه عن دين الله الذي شرعه لعباده . والخروج عن دين الله ، الهلاك الذي فيه البوار ، والضلال عن الهدى هو الضلال .
    القول في تأويل قوله ( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ( 137 ) )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

    فقال بعضهم : تأويله : إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا به ، ثم آمنوا يعني : النصارى بعيسى ثم كفروا به ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد "لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " .

    [ ص: 315 ]

    ذكر من قال ذلك :

    10697 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا " ، وهم اليهود والنصارى . آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت ، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت . وكفرهم به : تركهم إياه ثم ازدادوا كفرا بالفرقان وبمحمد صلى الله عليه وسلم . فقال الله : " لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " ، يقول : لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريق هدى ، وقد كفروا بكتاب الله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم .

    10698 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " إن الذين آمنوا ثم كفروا " ، قال : هؤلاء اليهود ، آمنوا بالتوراة ثم كفروا . ثم ذكر النصارى ، ثم قال : "ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا" ، يقول : آمنوا بالإنجيل ثم كفروا به ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم .

    وقال آخرون : بل عنى بذلك أهل النفاق ، أنهم آمنوا ثم ارتدوا ، ثم آمنوا ثم ارتدوا ، ثم ازدادوا كفرا بموتهم على الكفر .

    ذكر من قال ذلك :

    10699 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا " ، قال : كنا نحسبهم المنافقين ، ويدخل في ذلك من كان مثلهم" ثم ازدادوا كفرا " ، قال : تموا على كفرهم حتى ماتوا .

    [ ص: 316 ]

    10700 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ثم ازدادوا كفرا " ، قال : ماتوا .

    10701 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "ثم ازدادوا كفرا " ، قال : حتى ماتوا .

    10702 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " إن الذين آمنوا ثم كفروا " الآية ، قال : هؤلاء المنافقون ، آمنوا مرتين ، وكفروا مرتين ، ثم ازدادوا كفرا بعد ذلك .

    وقال آخرون : بل هم أهل الكتابين ، التوراة والإنجيل ، أتوا ذنوبا في كفرهم فتابوا ، فلم تقبل منهم التوبة فيها ، مع إقامتهم على كفرهم .

    ذكر من قال ذلك :

    10703 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو خالد ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية : " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا " ، قال : هم اليهود والنصارى ، أذنبوا في شركهم ثم تابوا ، فلم تقبل توبتهم . ولو تابوا من الشرك لقبل منهم .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، قول من قال عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة ، ثم كذبوا بخلافهم إياه ، ثم أقر من أقر منهم بعيسى والإنجيل ، ثم كذب به بخلافه إياه ، ثم كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان فازداد بتكذيبه به كفرا على كفره .

    وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب في تأويل هذه الآية ، لأن الآية قبلها في قصص [ ص: 317 ] أهل الكتابين أعني قوله : " يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله " ولا دلالة تدل على أن قوله : " إن الذين آمنوا ثم كفروا " ، منقطع معناه من معنى ما قبله ، فالحاقه بما قبله أولى ، حتى تأتي دلالة دالة على انقطاعه منه .

    وأما قوله : " لم يكن الله ليغفر لهم " ، فإنه يعني : لم يكن الله ليستر عليهم كفرهم وذنوبهم ، بعفوه عن العقوبة لهم عليه ، ولكنه يفضحهم على رؤوس الأشهاد" ولا ليهديهم سبيلا " يقول : ولم يكن ليسددهم لإصابة طريق الحق فيوفقهم لها ، ولكنه يخذلهم عنها ، عقوبة لهم على عظيم جرمهم ، وجرأتهم على ربهم .

    وقد ذهب قوم إلى أن المرتد يستتاب ثلاثا ، انتزاعا منهم بهذه الآية ، وخالفهم على ذلك آخرون .

    ذكر من قال : يستتاب ثلاثا .

    10704 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا حفص ، عن أشعث ، عن الشعبي ، عن علي عليه السلام قال : إن كنت لمستتيب المرتد ثلاثا . ثم قرأ هذه الآية : " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا " .

    10705 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، عن علي رضي الله عنه : يستتاب المرتد ثلاثا . ثم قرأ : " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا " ، .

    10706 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عبد الكريم ، عن رجل ، عن ابن عمر قال : يستتاب المرتد ثلاثا .



    وقال آخرون : يستتاب كلما ارتد .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 318 ]

    10707 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عمن سمع إبراهيم قال : يستتاب المرتد كلما ارتد .

    قال أبو جعفر : وفي قيام الحجة بأن المرتد يستتاب المرة الأولى ، الدليل الواضح على أن حكم كل مرة ارتد فيها عن الإسلام حكم المرة الأولى ، في أن توبته مقبولة ، وأن إسلامه حقن له دمه . لأن العلة التي حقنت دمه في المرة الأولى إسلامه ، فغير جائز أن توجد العلة التي من أجلها كان دمه محقونا في الحالة الأولى ، ثم يكون دمه مباحا مع وجودها ، إلا أن يفرق بين حكم المرة الأولى وسائر المرات غيرها ، ما يجب التسليم له من أصل محكم ، فيخرج من حكم القياس حينئذ .
    القول في تأويل قوله ( بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ( 138 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " بشر المنافقين " ، أخبر المنافقين .

    وقد بينا معنى"التبشير" فيما مضى بما أغنى عن إعادته .

    " بأن لهم عذابا أليما " ، يعني : بأن لهم يوم القيامة من الله على نفاقهم"عذابا أليما" ، وهو الموجع ، وذلك عذاب جهنم
    [ ص: 319 ] القول في تأويل قوله ( الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ( 139 ) )

    قال أبو جعفر : أما قوله جل ثناؤه : " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " ، فمن صفة المنافقين . يقول الله لنبيه : يا محمد ، بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني"أولياء" يعني : أنصارا وأخلاء "من دون المؤمنين" ، يعني : من غير المؤمنين "أيبتغون عندهم العزة" ، يقول : أيطلبون عندهم المنعة والقوة ، باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي ؟" فإن العزة لله جميعا " ، يقول : فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزة عندهم ، هم الأذلاء الأقلاء ، فهلا اتخذوا الأولياء من المؤمنين ، فيلتمسوا العزة والمنعة والنصرة من عند الله الذي له العزة والمنعة ، الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء ، فيعزهم ويمنعهم ؟ .

    وأصل"العزة" ، الشدة . ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة ، "عزاز" . وقيل : "قد استعز على المريض" ، إذا اشتد مرضه وكاد يشفى . ويقال : "تعزز اللحم" ، إذا اشتد . ومنه قيل : "عز علي أن يكون كذا وكذا" ، بمعنى : اشتد علي .
    [ ص: 320 ] القول في تأويل قوله ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ( 140 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : "بشر المنافقين" الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، " وقد نزل عليكم في الكتاب " ، يقول : أخبر من اتخذ من هؤلاء المنافقين الكفار أنصارا وأولياء بعد ما نزل عليهم من القرآن ، " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره " ، يعني : بعد ما علموا نهي الله عن مجالسة الكفار الذين يكفرون بحجج الله وآي كتابه ويستهزئون بها" حتى يخوضوا في حديث غيره " ، يعني بقوله : "يخوضوا" ، يتحدثوا حديثا غيره"بأن لهم عذابا أليما" .

    وقوله : " إنكم إذا مثلهم " ، يعني : وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون ، فأنتم مثله يعني : فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال ، مثلهم في فعلهم ، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله . فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتوه منها ، فأنتم إذا مثلهم في ركوبكم معصية الله ، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه .





  16. #516
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (516)
    صــ 321 إلى صــ 335





    وفي هذه الآية ، الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع ، من المبتدعة والفسقة ، عند خوضهم في باطلهم .

    وبنحو ذلك كان جماعة من الأئمة الماضين يقولون ، تأولا منهم هذه الآية أنه مراد بها النهي عن مشاهدة كل باطل عند خوض أهله فيه .

    ذكر من قال ذلك :

    10708 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبي وائل ، قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكذب ليضحك بها جلساءه ، فيسخط الله عليهم . قال : فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي ، فقال : صدق أبو وائل ، أو ليس ذلك في كتاب الله : " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم " ؟

    10709 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن العلاء بن المنهال ، عن هشام بن عروة قال : أخذ عمر بن عبد العزيز قوما على شراب فضربهم ، وفيهم صائم ، فقالوا : إن هذا صائم! فتلا" فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم " .

    10710 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها " ، وقوله : ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، [ سورة الأنعام : 153 ] ، وقوله : ( أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) [ سورة الشورى : 13 ] ، ونحو هذا من القرآن . قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف [ ص: 322 ] والفرقة ، وأخبرهم : إنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين الله .

    وقوله : " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا " ، يقول : إن الله جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار ، فموفق بينهم في عقابه في جهنم وأليم عذابه ، كما اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين ، وتوازروا على التخذيل عن دين الله وعن الذي ارتضاه وأمر به وأهله .

    واختلفت القرأة في قراءة قوله : " وقد نزل عليكم في الكتاب " .

    فقرأ ذلك عامة القرأة بضم "النون" وتثقيل"الزاي" وتشديدها ، على وجه ما لم يسم فاعله .

    وقرأ بعض الكوفيين بفتح"النون" وتشديد"الزاي" ، على معنى : وقد نزل الله عليكم .

    وقرأ بعض المكيين : ( وقد نزل عليكم ) بفتح "النون" ، وتخفيف"الزاي" ، بمعنى : وقد جاءكم من الله أن إذا سمعتم .

    قال أبو جعفر : وليس في هذه القراءات الثلاث وجه يبعد معناه مما يحتمله الكلام . غير أن الذي أختار القراءة به ، قراءة من قرأ : ( وقد نزل ) بضم "النون" وتشديد "الزاي" ، على وجه ما لم يسم فاعله . لأن معنى الكلام فيه التقديم على ما وصفت قبل ، على معنى : " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين "" وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها " إلى قوله : "حديث غيره" " أيبتغون عندهم العزة " . فقوله : " فإن العزة لله جميعا " ، يعني التأخير ، [ ص: 323 ] فلذلك كان ضم "النون" من قوله : "نزل" أصوب عندنا في هذا الموضع .

    وكذلك اختلفوا في قراءة قوله " والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل " .

    فقرأه بفتح ( نزل ) و ( أنزل ) أكثر القرأة ، بمعنى : والكتاب الذي نزل الله على رسوله ، والكتاب الذي أنزل من قبل .

    وقرأ ذلك بعض قرأة البصرة بضمه في الحرفين كليهما ، بمعنى ما لم يسم فاعله .

    وهما متقاربتا المعنى . غير أن الفتح في ذلك أعجب إلي من الضم ، لأن ذكر الله قد جرى قبل ذلك في قوله : " آمنوا بالله ورسوله " .
    القول في تأويل قوله ( الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ( 141 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " الذين يتربصون بكم " ، الذين ينتظرون ، أيها المؤمنون ، بكم" فإن كان لكم فتح من الله " ، يعني : فإن فتح الله [ ص: 324 ] عليكم فتحا من عدوكم ، فأفاء عليكم فيئا من المغانم"قالوا" لكم"ألم نكن معكم" ، نجاهد عدوكم ونغزوهم معكم ، فأعطونا نصيبا من الغنيمة ، فإنا قد شهدنا القتال معكم" وإن كان للكافرين نصيب " ، يعني : وإن كان لأعدائكم من الكافرين حظ منكم ، بإصابتهم منكم "قالوا" ، يعني : قال هؤلاء المنافقون للكافرين" ألم نستحوذ عليكم " ، ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين" ونمنعكم " منهم ، بتخذيلنا إياهم ، حتى امتنعوا منكم فانصرفوا"فالله يحكم بينكم يوم القيامة " ، يعني : فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة ، فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل ، بإدخال أهل الإيمان جنته ، وأهل النفاق مع أوليائهم من الكفار ناره" ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، يعني : حجة يوم القيامة .

    وذلك وعد من الله المؤمنين أنه لن يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة ، ولا المؤمنين مدخل المنافقين ، فيكون بذلك للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم ، إن أدخلوا مدخلهم : ها أنتم كنتم في الدنيا أعداءنا ، وكان المنافقون أولياءنا ، وقد اجتمعتم في النار ، فجمع بينكم وبين أوليائنا! فأين الذين كنتم تزعمون أنكم تقاتلوننا من أجله في الدنيا ؟ فذلك هو"السبيل" الذي وعد الله المؤمنين أن لا يجعلها عليهم للكافرين .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    10711 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " فإن كان لكم فتح من الله " . قال : المنافقون يتربصون بالمسلمين" فإن كان لكم فتح " ، قال : إن أصاب المسلمون من عدوهم غنيمة [ ص: 325 ] قال المنافقون : " ألم نكن معكم " ، قد كنا معكم فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون"وإن كان للكافرين نصيب" ، يصيبونه من المسلمين ، قال المنافقون للكافرين : " ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين " ، قد كنا نثبطهم عنكم .

    واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " ألم نستحوذ عليكم " .

    فقال بعضهم : معناه : ألم نغلب عليكم .

    ذكر من قال ذلك :

    10712 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " ألم نستحوذ عليكم " ، قال : نغلب عليكم .

    وقال آخرون : معنى ذلك : ألم نبين لكم أنا معكم على ما أنتم عليه .

    ذكر من قال ذلك :

    10713 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ألم نستحوذ عليكم " ، ألم نبين لكم أنا معكم على ما أنتم عليه .

    قال أبو جعفر : وهذان القولان متقاربا المعنى . وذلك أن من تأوله بمعنى : "ألم نبين لكم" ، إنما أراد - إن شاء الله - : ألم نغلب عليكم بما كان منا من البيان لكم أنا معكم .

    وأصل "إلاستحواذ" في كلام العرب ، فيما بلغنا ، الغلبة ، ومنه قول الله جل ثناؤه : ( استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ) ، [ سورة المجادلة : 19 ] ، بمعنى : غلب عليهم . يقال منه : "حاذ عليه واستحاذ ، يحيذ ويستحيذ ، وأحاذ [ ص: 326 ] يحيذ" . ومن لغة من قال : "حاذ" ، قول العجاج في صفة ثور وكلب :


    يحوذهن وله حوذي


    وقد أنشد بعضهم :


    يحوزهن وله حوزي


    وهما متقاربا المعنى . ومن لغة من قال"أحاذ" ، قول لبيد في صفة عير وأتن :


    إذا اجتمعت وأحوذ جانبيها وأوردها على عوج طوال


    يعني بقوله : "وأحوذ جانبيها" ، غلبها وقهرها حتى حاذ كلا جانبيها ، فلم يشذ منها شيء .

    وكان القياس في قوله : ( استحوذ عليهم الشيطان ) أن يأتي : "استحاذ عليهم" ، لأن"الواو" إذا كانت عين الفعل وكانت متحركة بالفتح وما قبلها ساكن ، جعلت العرب حركتها في"فاء" الفعل قبلها ، وحولوها"ألفا" ، متبعة حركة ما قبلها ، كقولهم : "استحال هذا الشيء عما كان عليه" ، من"حال يحول" و"استنار [ ص: 327 ] فلان بنور الله" ، من"النور" و"استعاذ بالله" من"عاذ يعوذ" . وربما تركوا ذلك على أصله كما قال لبيد : "وأحوذ" ، ولم يقل"وأحاذ" ، وبهذه اللغة جاء القرآن في قوله : ( استحوذ عليهم الشيطان ) .

    وأما قوله : " فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، فلا خلاف بينهم في أن معناه : ولن يجعل الله للكافرين يومئذ على المؤمنين سبيلا .

    ذكر الخبر عمن قال ذلك :

    10714 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن ذر ، عن يسيع الحضرمي قال : كنت عند علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، أرأيت قول الله : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون ؟ قال له علي : ادنه ، ادنه! ثم قال : " فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، يوم القيامة .

    10715 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن ذر ، عن يسيع الكندي في قوله : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : كيف هذه الآية : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ؟ فقال علي : ادنه ، " فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله " ، يوم القيامة ، " للكافرين على المؤمنين سبيلا " .

    10716 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن ذر ، عن يسيع الحضرمي ، عن علي بنحوه .

    10717 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا غندر ، عن شعبة قال : سمعت [ ص: 328 ] سليمان يحدث ، عن ذر ، عن رجل ، عن علي رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، قال : في الآخرة .

    10718 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، يوم القيامة .

    10719 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، قال : ذاك يوم القيامة .

    وأما"السبيل" ، في هذا الموضع ، فالحجة ، كما : -

    10720 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، قال : حجة .
    القول في تأويل قوله ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ( 142 ) )

    قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى قبل على معنى"خداع المنافق ربه " ، ووجه"خداع الله إياهم" ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، مع اختلاف المختلفين في ذلك .

    فتأويل ذلك : إن المنافقين يخادعون الله ، بإحرازهم بنفاقهم دماءهم وأموالهم ، والله خادعهم بما حكم فيهم من منع دمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان ، مع علمه بباطن ضمائرهم واعتقادهم الكفر ، استدراجا منه لهم في الدنيا ، حتى يلقوه في الآخرة ، فيوردهم بما استبطنوا من الكفر نار جهنم ، كما : -

    10721 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " ، قال : يعطيهم يوم القيامة نورا يمشون به مع المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا ، ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه ، فيقومون في ظلمتهم ، ويضرب بينهم بالسور .

    10722 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " ، قال : نزلت في عبد الله بن أبي ، وأبي عامر بن النعمان ، وفي المنافقين" يخادعون الله وهو خادعهم" ، قال : مثل قوله في"البقرة" : ( هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم ) [ سورة البقرة : 9 ] . قال : وأما قوله : " وهو خادعهم " ، فيقول : في النور الذي يعطى المنافقون مع المؤمنين ، فيعطون النور ، فإذا بلغوا السور سلب ، وما ذكر الله من قوله ( انظرونا نقتبس من نوركم ) [ سورة الحديد : 13 ] . قال قوله : " وهو خادعهم " .

    10723 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحسن : أنه كان إذا قرأ : " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " ، قال : يلقى على كل مؤمن ومنافق نور يمشون به ، حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، ومضى المؤمنون بنورهم ، فينادونهم : ( انظرونا نقتبس من نوركم ) إلى قوله : ( ولكنكم فتنتم أنفسكم ) [ سورة الحديد : 13 ، 14 ] . قال الحسن : فذلك خديعة الله إياهم .

    وأما قوله : " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس " ، فإنه يعني : أن المنافقين لا يعملون شيئا من الأعمال التي فرضها الله على المؤمنين على وجه التقرب بها إلى الله ، لأنهم غير موقنين بمعاد ولا ثواب ولا عقاب ، وإنما يعملون ما عملوا [ ص: 331 ] من الأعمال الظاهرة إبقاء على أنفسهم ، وحذارا من المؤمنين عليها أن يقتلوا أو يسلبوا أموالهم . فهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة ، قاموا كسالى إليها ، رياء للمؤمنين ليحسبوهم منهم وليسوا منهم ، لأنهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم ، فهم في قيامهم إليها كسالى ، كما : -

    10724 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى " ، قال : والله لولا الناس ما صلى المنافق ، ولا يصلي إلا رياء وسمعة .

    10725 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس " ، قال : هم المنافقون ، لولا الرياء ما صلوا .

    وأما قوله : " ولا يذكرون الله إلا قليلا " ، فلعل قائلا أن يقول : وهل من ذكر الله شيء قليل ؟ .

    قيل له : إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت : ولا يذكرون الله إلا ذكر رياء ، ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلب الأموال ، لا ذكر موقن مصدق بتوحيد الله ، مخلص له الربوبية . فلذلك سماه الله"قليلا" ، لأنه غير مقصود به الله ، ولا مبتغى به التقرب إلى الله ، ولا مراد به ثواب الله وما عنده . فهو ، وإن كثر ، من وجه نصب عامله وذاكره ، في معنى السراب الذي له ظاهر بغير حقيقة ماء .

    [ ص: 332 ]

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    10726 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي الأشهب قال : قرأ الحسن : " ولا يذكرون الله إلا قليلا " ، قال : إنما قل لأنه كان لغير الله .

    10727 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا يذكرون الله إلا قليلا " ، قال : إنما قل ذكر المنافق ، لأن الله لم يقبله . وكل ما رد الله قليل ، وكل ما قبل الله كثير .
    القول في تأويل قوله ( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ( 143 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "مذبذبين" ، مرددين .

    وأصل "التذبذب" ، التحرك والاضطراب ، كما قال النابغة :


    ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب


    وإنما عنى الله بذلك : أن المنافقين متحيرون في دينهم ، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحة ، فهم لا مع المؤمنين على بصيرة ، ولا مع المشركين على جهالة ، ولكنهم حيارى بين ذلك ، فمثلهم المثل الذي ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي : - [ ص: 333 ]

    10728 - حدثنا به محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرة ، وإلى هذه مرة ، لا تدري أيهما تتبع!

    10729 - وحدثنا به محمد بن المثنى مرة أخرى ، عن عبد الوهاب ، فوقفه على ابن عمر ، ولم يرفعه قال : حدثنا عبد الوهاب مرتين كذلك .

    10730 - حدثني عمران بن بكار قال : حدثنا أبو روح قال : حدثنا ابن عياش قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

    [ ص: 334 ]

    وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    10731 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " ، يقول : ليسوا بمشركين فيظهروا الشرك ، وليسوا بمؤمنين .

    10732 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " ، يقول : ليسوا بمؤمنين مخلصين ، ولا مشركين مصرحين بالشرك . قال : وذكر لنا أن نبي الله عليه السلام كان يضرب مثلا للمؤمن والمنافق والكافر ، كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر ، فوقع المؤمن فقطع ، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر : أن هلم إلي ، فإني أخشى عليك! وناداه المؤمن : أن هلم إلي ، فإن عندي وعندي! يحصي له ما عنده . فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى عليه آذي فغرقه . وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة ، حتى أتى عليه الموت وهو كذلك . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين ، رأت غنما على نشز [ ص: 335 ] فأتتها فلم تعرف ، ثم رأت غنما على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف .

    10733 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " مذبذبين " ، قال : المنافقون .

    10734 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " ، يقول : لا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا إلى هؤلاء اليهود .

    10735 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " مذبذبين بين ذلك " ، قال : لم يخلصوا الإيمان فيكونوا مع المؤمنين ، وليسوا مع أهل الشرك .

    10736 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " مذبذبين بين ذلك " ، بين الإسلام والكفر "لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " .

    وأما قوله : " ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا " ، فإنه يعني : من يخذله الله عن طريق الرشاد ، وذلك هو الإسلام الذي دعا الله إليه عباده . يقول : من يخذله الله عنه فلم يوفقه له "فلن تجد له" ، يا محمد "سبيلا" ، يعني : طريقا يسلكه إلى الحق غيره . وأي سبيل يكون له إلى الحق غير الإسلام ؟ وقد أخبر الله جل ثناؤه : أنه من يبتغ غيره دينا فلن يقبل منه ، ومن أضله الله عنه فقد غوى فلا هادي له غيره .




  17. #517
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (517)
    صــ 336 إلى صــ 350






    القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ( 144 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا نهي من الله عباده المؤمنين أن يتخلقوا بأخلاق المنافقين ، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، فيكونوا مثلهم في ركوب ما نهاهم عنه من موالاة أعدائه .

    يقول لهم جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، لا توالوا الكفار فتؤازروهم من دون أهل ملتكم ودينكم من المؤمنين ، فتكونوا كمن أوجبت له النار من المنافقين . ثم قال جل ثناؤه : متوعدا من اتخذ منهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، إن هو لم يرتدع عن موالاته ، وينزجر عن مخالته أن يلحقه بأهل ولايتهم من المنافقين الذين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتبشيرهم بأن لهم عذابا أليما : "أتريدون" ، أيها المتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ممن قد آمن بي وبرسولي" أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا " ، يقول : حجة ، باتخاذكم الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، فتستوجبوا منه ما استوجبه أهل النفاق الذين وصف لكم صفتهم ، وأخبركم بمحلهم عنده"مبينا" ، يعني : يبين عن صحتها وحقيقتها . يقول : لا تعرضوا لغضب الله ، بإيجابكم الحجة على أنفسكم في تقدمكم على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهل الكفر به .

    [ ص: 337 ]

    وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    10737 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا " ، قال : إن لله السلطان على خلقه ، ولكنه يقول : عذرا مبينا .

    10738 - حدثني المثنى قال : حدثنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن عكرمة قال : ما كان في القرآن من"سلطان" ، فهو حجة .

    10739 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " سلطانا مبينا " ، قال : حجة .

    10740 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
    القول في تأويل قوله تعالى ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ( 145 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " ، إن المنافقين في الطبق الأسفل من أطباق جهنم .



    [ ص: 338 ]

    وكل طبق من أطباق جهنم : "درك" . وفيه لغتان ، "درك" ، بفتح"الراء" و"درك" بتسكينها . فمن فتح"الراء" ، جمعه في القلة"أدراك" ، وإن شاء جمعه في الكثرة"الدروك" . ومن سكن"الراء" قال : "ثلاثة أدرك" ، وللكثير" الدروك " .

    وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك :

    فقرأته عامة قرأة المدينة والبصرة ( في الدرك ) بفتح"الراء" .

    وقرأته عامة قرأة الكوفة بتسكين"الراء" .

    قال أبو جعفر : وهما قراءتان معروفتان ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، لاتفاق معنى ذلك ، واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في قرأة الإسلام . غير أني رأيت أهل العلم بالعربية يذكرون أن فتح"الراء" منه في العرب ، أشهر من تسكينها . وحكوا سماعا منهم : "أعطني دركا أصل به حبلي" ، وذلك إذا سأل ما يصل به حبله الذي قد عجز عن بلوغ الركية .

    وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    10741 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن خيثمة ، عن عبد الله : " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " ، قال : في توابيت من حديد مبهمة عليهم .

    10742 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، [ ص: 339 ] عن سلمة ، عن خيثمة ، عن عبد الله قال : إن المنافقين في توابيت من حديد مقفلة عليهم في النار .

    10743 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن ذكوان ، عن أبي هريرة : " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " ، قال : في توابيت ترتج عليهم .

    10744 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " ، يعني : في أسفل النار .

    10745 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال لي عبد الله بن كثير قوله : " في الدرك الأسفل من النار " ، قال : سمعنا أن جهنم أدراك : منازل .

    10746 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن خيثمة ، عن عبد الله : " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " ، قال : توابيت من نار تطبق عليهم .

    وأما قوله : " ولن تجد لهم نصيرا " ، فإنه يعني : ولن تجد لهؤلاء المنافقين ، يا محمد ، من الله إذا جعلهم في الدرك الأسفل من النار ناصرا ينصرهم منه ، فينقذهم من عذابه ، ويدفع عنهم أليم عقابه .

    [ ص: 340 ]
    القول في تأويل قوله ( إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ( 146 ) )

    قال أبو جعفر : وهذا استثناء من الله جل ثناؤه ، استثنى التائبين من نفاقهم إذا أصلحوا ، وأخلصوا الدين لله وحده ، وتبرءوا من الآلهة والأنداد ، وصدقوا رسوله ، أن يكونوا مع المصرين على نفاقهم حتى توافيهم مناياهم - في الآخرة ، وأن يدخلوا مداخلهم من جهنم . بل وعدهم جل ثناؤه أن يحلهم مع المؤمنين محل الكرامة ، ويسكنهم معهم مساكنهم في الجنة . ووعدهم من الجزاء على توبتهم الجزيل من العطاء فقال : " وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما " .

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية : "إلا الذين تابوا" ، أي : راجعوا الحق ، وأبوا إلا الإقرار بوحدانية الله وتصديق رسوله وما جاء به من عند ربه من نفاقهم "وأصلحوا" ، يعني : وأصلحوا أعمالهم ، فعملوا بما أمرهم الله به ، وأدوا فرائضه ، وانتهوا عما نهاهم عنه ، وانزجروا عن معاصيه "واعتصموا بالله" ، يقول : وتمسكوا بعهد الله .

    [ ص: 341 ]

    وقد دللنا فيما مضى قبل على أن"الاعتصام" التمسك والتعلق . فالاعتصام بالله : التمسك بعهده وميثاقه الذي عهد في كتابه إلى خلقه ، من طاعته وترك معصيته .

    " وأخلصوا دينهم لله " ، يقول : وأخلصوا طاعتهم وأعمالهم التي يعملونها لله ، فأرادوه بها ، ولم يعملوها رئاء الناس ، ولا على شك منهم في دينهم ، وامتراء منهم في أن الله محص عليهم ما عملوا ، فمجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ولكنهم عملوها على يقين منهم في ثواب المحسن على إحسانه ، وجزاء المسيء على إساءته ، أو يتفضل عليه ربه فيعفو متقربين بها إلى الله ، مريدين بها وجه الله . فذلك معنى : "إخلاصهم لله دينهم" .

    ثم قال جل ثناؤه : " فأولئك مع المؤمنين " ، يقول : فهؤلاء الذين وصف صفتهم من المنافقين بعد توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله وإخلاصهم دينهم أي : مع المؤمنين في الجنة ، لا مع المنافقين الذين ماتوا على نفاقهم ، الذين أوعدهم الدرك الأسفل من النار .

    ثم قال : " وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما " ، يقول : وسوف يعطي الله هؤلاء الذين هذه صفتهم ، على توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله وإخلاصهم دينهم له ، وعلى إيمانهم ، ثوابا عظيما وذلك : درجات في الجنة ، كما أعطى الذين ماتوا على النفاق منازل في النار ، وهي السفلى منها . لأن الله جل ثناؤه وعد عباده المؤمنين أن يؤتيهم على إيمانهم ذلك ، كما أوعد المنافقين على نفاقهم [ ص: 342 ] ما ذكر في كتابه .

    وهذا القول هو معنى قول حذيفة بن اليمان ، الذي : -

    10747 - حدثنا به ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : قال حذيفة : ليدخلن الجنة قوم كانوا منافقين! فقال عبد الله : وما علمك بذلك ؟ فغضب حذيفة ، ثم قام فتنحى . فلما تفرقوا ، مر به علقمة فدعاه فقال : أما إن صاحبك يعلم الذي قلت! ثم قرأ : " إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما " .
    القول في تأويل قوله ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ( 147 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم " ، ما يصنع الله ، أيها المنافقون ، بعذابكم ، إن أنتم تبتم إلى الله ورجعتم إلى الحق الواجب لله عليكم ، فشكرتموه على ما أنعم عليكم من نعمه في أنفسكم وأهاليكم وأولادكم ، بالإنابة إلى توحيده ، والاعتصام به ، وإخلاصكم أعمالكم لوجهه ، وترك رياء الناس بها ، وآمنتم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم فصدقتموه ، وأقررتم بما جاءكم به من عنده فعملتم به ؟

    يقول : لا حاجة بالله أن يجعلكم في الدرك الأسفل من النار ، إن أنتم أنبتم إلى طاعته ، وراجعتم العمل بما أمركم به ، وترك ما نهاكم عنه . لأنه لا يجتلب بعذابكم إلى نفسه نفعا ، ولا يدفع عنها ضرا ، وإنما عقوبته من عاقب من خلقه ، جزاء منه له على جرأته عليه ، وعلى خلافه أمره ونهيه ، وكفرانه شكر نعمه عليه . فإن [ ص: 343 ] أنتم شكرتم له على نعمه ، وأطعتموه في أمره ونهيه ، فلا حاجة به إلى تعذيبكم ، بل يشكر لكم ما يكون منكم من طاعة له وشكر ، بمجازاتكم على ذلك بما تقصر عنه أمانيكم ، ولم تبلغه آمالكم "وكان الله شاكرا" لكم ولعباده على طاعتهم إياه ، بإجزاله لهم الثواب عليها ، وإعظامه لهم العوض منها"عليما" بما تعملون ، أيها المنافقون ، وغيركم من خير وشر ، وصالح وطالح ، محص ذلك كله عليكم ، محيط بجميعه ، حتى يجازيكم جزاءكم يوم القيامة ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته . وقد : -

    10748 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما " ، قال : إن الله جل ثناؤه لا يعذب شاكرا ولا مؤمنا .
    القول في تأويل قوله ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ( 148 ) )

    قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأته عامة قرأة الأمصار بضم "الظاء" .

    وقرأه بعضهم : ( إلا من ظلم ) ، بفتح"الظاء" .



    ثم اختلف الذين قرءوا ذلك بضم "الظاء" في تأويله .

    فقال بعضهم : معنى ذلك : لا يحب الله - تعالى ذكره - أن يجهر أحدنا بالدعاء على أحد ، وذلك عندهم هو " الجهر بالسوء إلا من ظلم" ، يقول : إلا من ظلم فيدعو على ظالمه ، فإن الله جل ثناؤه لا يكره له ذلك ، لأنه قد رخص له في ذلك .

    [ ص: 344 ]

    ذكر من قال ذلك :

    10749 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول " ، يقول : لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد ، إلا أن يكون مظلوما ، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه ، وذلك قوله : "إلا من ظلم" ، وإن صبر فهو خير له .

    10750 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " ، فإنه يحب الجهر بالسوء من القول .

    10751 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما " ، عذر الله المظلوم كما تسمعون : أن يدعو .

    10752 - حدثني الحارث قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن قال : هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ، ولكن ليقل : "اللهم أعني عليه ، اللهم استخرج لي حقي ، اللهم حل بينه وبين ما يريد" ، ونحوه من الدعاء .

    ف"من" ، على قول ابن عباس هذا ، في موضع رفع . لأنه وجهه إلى أن الجهر بالسوء في معنى الدعاء ، واستثنى المظلوم منه . فكان معنى الكلام على قوله : لا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول ، إلا المظلوم ، فلا حرج عليه في الجهر به .

    وهذا مذهب يراه أهل العربية خطأ في العربية . وذلك أن"من" لا يجوز [ ص: 345 ] أن يكون رفعا عندهم ب "الجهر" ، لأنها في صلة "أن" ولم ينله الجحد ، فلا يجوز العطف عليه . من خطأ عندهم أن يقال : "لا يعجبني أن يقوم إلا زيد" .

    وقد يحتمل أن تكون"من" نصبا ، على تأويل قول ابن عباس ، ويكون قوله : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول " ، كلاما تاما ، ثم قيل : "إلا من ظلم فلا حرج عليه" ، فيكون "من" استثناء من الفعل ، وإن لم يكن قبل الاستثناء شيء ظاهر يستثنى منه ، كما قال جل ثناؤه : ( لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر ) ، [ سورة الغاشية : 22 - 23 ] ، وكقولهم : "إني لأكره الخصومة والمراء ، اللهم إلا رجلا يريد الله بذلك" ، ولم يذكر قبله شيء من الأسماء .

    و"من" ، على قول الحسن هذا ، نصب ، على أنه مستثنى من معنى الكلام ، لا من الاسم ، كما ذكرنا قبل في تأويل قول ابن عباس ، إذا وجه"من" ، إلى النصب ، وكقول القائل : "كان من الأمر كذا وكذا ، اللهم إلا أن فلانا جزاه الله خيرا فعل كذا وكذا" .

    وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ، إلا من ظلم فيخبر بما نيل منه .

    ذكر من قال ذلك :

    10753 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو معاوية ، عن محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته ، فيخرج من عنده فيقول : أساء ضيافتي ولم يحسن!

    10754 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 346 ] ابن جريج ، عن مجاهد : " إلا من ظلم " ، قال : إلا من أثر ما قيل له .

    10755 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا حماد ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " ، قال : هو الضيف المحول رحله ، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول .

    وقال آخرون : عنى بذلك ، الرجل ينزل بالرجل فلا يقريه ، فينال من الذي لم يقره .

    ذكر من قال ذلك :

    10756 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إلا من ظلم " ، قال : إلا من ظلم فانتصر ، يجهر بالسوء .

    10757 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، مثله .

    10758 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن إبراهيم بن أبي بكر ، عن مجاهد وعن حميد الأعرج ، عن مجاهد : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " ، قال : هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن إليه ، فقد رخص الله له أن يقول فيه .

    [ ص: 347 ]

    10759 - وحدثني أحمد بن حماد الدولابي قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن إبراهيم بن أبي بكر ، عن مجاهد ، " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " ، قال : هو في الضيافة ، يأتي الرجل القوم ، فينزل عليهم ، فلا يضيفونه . رخص الله له أن يقول فيهم .

    10760 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا المثنى بن الصباح ، عن مجاهد في قوله : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول " الآية ، قال : ضاف رجل رجلا فلم يؤد إليه حق ضيافته ، فلما خرج أخبر الناس ، فقال : "ضفت فلانا فلم يؤد حق ضيافتي"! فذلك جهر بالسوء إلا من ظلم ، حين لم يؤد إليه ضيافته .

    10761 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : إلا من ظلم فانتصر ، يجهر بسوء . قال مجاهد : نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاة من الأرض فلم يضفه ، فنزلت : "إلا من ظلم" ، ذكر أنه لم يضفه ، لا يزيد على ذلك .

    وقال آخرون : معنى ذلك : إلا من ظلم فانتصر من ظالمه ، فإن الله قد أذن له في ذلك .

    [ ص: 348 ]

    ذكر من قال ذلك :

    10762 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " ، يقول : إن الله لا يحب الجهر بالسوء من أحد من الخلق ، ولكن من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم ، فليس عليه جناح .

    ف"من" ، على هذه الأقوال التي ذكرناها ، سوى قول ابن عباس ، في موضع نصب على انقطاعه من الأول . والعرب من شأنها أن تنصب ما بعد"إلا" في الاستثناء المنقطع .

    فكان معنى الكلام على هذه الأقوال ، سوى قول ابن عباس : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ، ولكن من ظلم فلا حرج عليه أن يخبر بما نيل منه ، أو ينتصر ممن ظلمه .

    وقرأ ذلك آخرون بفتح"الظاء" : ( إلا من ظلم ) ، وتأولوه : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ، إلا من ظلم فلا بأس أن يجهر له بالسوء من القول .

    ذكر من قال ذلك :

    10763 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : كان أبي يقرأ : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) ، قال ابن زيد : يقول : إلا من أقام على ذلك النفاق ، فيجهر له بالسوء حتى ينزع . قال : وهذه مثل : ( ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق ) ، أن تسميه بالفسق ( بعد الإيمان ) ، بعد إذ كان مؤمنا ( ومن لم يتب ) ، من ذلك العمل الذي قيل له ( فأولئك هم الظالمون ) ، [ سورة الحجرات : 11 ] ، قال : هو شر ممن قال ذلك .

    [ ص: 349 ]

    10764 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " ، فقرأ : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) حتى بلغ ( وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ) . ثم قال بعد ما قال : هم في الدرك الأسفل من النار ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ) ، ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) ، قال : لا يحب الله أن يقول لهذا : "ألست نافقت ؟ ألست المنافق الذي ظلمت وفعلت وفعلت ؟" ، من بعد ما تاب"إلا من ظلم" ، إلا من أقام على النفاق . قال : وكأن أبي يقول ذلك له ، ويقرأها : ( إلا من ظلم ) .

    ف"من" على هذا التأويل نصب لتعلقه ب "الجهر" .

    وتأويل الكلام ، على قول قائل هذا القول : لا يحب الله أن يجهر أحد لأحد من المنافقين بالسوء من القول ، إلا من ظلم منهم فأقام على نفاقه ، فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول .

    قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : ( إلا من ظلم ) بضم"الظاء" ، لإجماع الحجة من القرأة وأهل التأويل على صحتها ، وشذوذ قراءة من قرأ ذلك بالفتح .

    فإذ كان ذلك أولى القراءتين بالصواب ، فالصواب في تأويل ذلك : لا يحب الله ، أيها الناس ، أن يجهر أحد لأحد بالسوء من القول"إلا من ظلم" ، بمعنى : إلا من ظلم ، فلا حرج عليه أن يخبر بما أسيء عليه .

    وإذا كان ذلك معناه ، دخل فيه إخبار من لم يقر ، أو أسيء قراه ، أو نيل بظلم [ ص: 350 ] في نفسه أو ماله غيره من سائر الناس . وكذلك دعاؤه على من ناله بظلم أن ينصره الله عليه ، لأن في دعائه عليه إعلاما منه لمن سمع دعاءه عليه بالسوء له .

    وإذ كان ذلك كذلك ، ف"من" في موضع نصب ، لأنه منقطع عما قبله ، وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها ، فهو نظير قوله : ( لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر ) [ سورة الغاشية : 22 - 23 ] .

    وأما قوله : "وكان الله سميعا عليما" ، فإنه يعني : "وكان الله سميعا" ، لما تجهرون به من سوء القول لمن تجهرون له به ، وغير ذلك من أصواتكم وكلامكم "عليما" ، بما تخفون من سوء قولكم وكلامكم لمن تخفون له به فلا تجهرون له به ، محص كل ذلك عليكم ، حتى يجازيكم على ذلك كله جزاءكم ، المسيء بإساءته ، والمحسن بإحسانه .





  18. #518
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (518)
    صــ 351 إلى صــ 365






    القول في تأويل قوله ( إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ( 149 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه "إن تبدوا" أيها الناس" خيرا " ، يقول : إن تقولوا جميلا من القول لمن أحسن إليكم ، فتظهروا ذلك شكرا منكم له على ما كان منه من حسن إليكم ، "أو تخفوه" ، يقول : أو تتركوا إظهار ذلك [ ص: 351 ] فلا تبدوه "أو تعفوا عن سوء" ، يقول : أو تصفحوا لمن أساء إليكم عن إساءته ، فلا تجهروا له بالسوء من القول الذي قد أذنت لكم أن تجهروا له به" فإن الله كان عفوا " ، يقول : لم يزل ذا عفو عن خلقه ، يصفح عمن عصاه وخالف أمره "قديرا" ، يقول : ذا قدرة على الانتقام منهم .

    وإنما يعني بذلك : أن الله لم يزل ذا عفو عن عباده ، مع قدرته على عقابهم على معصيتهم إياه .

    يقول : فاعفوا ، أنتم أيضا ، أيها الناس ، عمن أتى إليكم ظلما ، ولا تجهروا له بالسوء من القول ، وإن قدرتم على الإساءة إليه ، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته على عقابكم ، وأنتم تعصونه وتخالفون أمره .

    وفي قوله جل ثناؤه : " إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا " ، الدلالة الواضحة على أن تأويل قوله : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " ، بخلاف التأويل الذي تأوله زيد بن أسلم ، في زعمه أن معناه : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لأهل النفاق ، إلا من أقام على نفاقه ، فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول . وذلك أنه جل ثناؤه قال عقيب ذلك : " إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء " ، ومعقول أن الله جل ثناؤه لم يأمر المؤمنين بالعفو عن المنافقين على نفاقهم ، ولا نهاهم أن يسموا من كان منهم معلن النفاق"منافقا" . بل العفو عن ذلك ، مما لا وجه له معقول . لأن"العفو" المفهوم ، [ ص: 352 ] إنما هو صفح المرء عما له قبل غيره من حق . وتسمية المنافق باسمه ليس بحق لأحد قبله ، فيؤمر بعفوه عنه ، وإنما هو اسم له . وغير مفهوم الأمر بالعفو عن تسمية الشيء بما هو اسمه .
    القول في تأويل قوله ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ( 150 ) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ( 151 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " إن الذين يكفرون بالله ورسله " ، من اليهود والنصارى " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله " ، بأن يكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه بوحيه ، ويزعموا أنهم افتروا على ربهم . وذلك هو معنى إرادتهم التفريق بين الله ورسله ، بنحلتهم إياهم الكذب والفرية على الله ، وادعائهم عليهم الأباطيل" ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض" ، يعني أنهم يقولون : "نصدق بهذا ونكذب بهذا" ، كما فعلت اليهود من تكذيبهم عيسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم ، وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم . وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم" ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا " ، يقول : ويريد المفرقون بين الله ورسله ، الزاعمون أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، أن يتخذوا بين أضعاف [ ص: 353 ] قولهم : "نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض""سبيلا" ، يعني : طريقا إلى الضلالة التي أحدثوها ، والبدعة التي ابتدعوها ، يدعون أهل الجهل من الناس إليه .

    فقال جل ثناؤه لعباده ، منبها لهم على ضلالتهم وكفرهم : " أولئك هم الكافرون حقا " ، يقول : أيها الناس ، هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم ، هم أهل الكفر بي ، المستحقون عذابي والخلود في ناري حقا . فاستيقنوا ذلك ، ولا يشككنكم في أمرهم انتحالهم الكذب ، ودعواهم أنهم يقرون بما زعموا أنهم به مقرون من الكتب والرسل ، فإنهم في دعواهم ما ادعوا من ذلك كذبة . وذلك أن المؤمن بالكتب والرسل ، هو المصدق بجميع ما في الكتاب الذي يزعم أنه به مصدق ، وبما جاء به الرسول الذي يزعم أنه به مؤمن . فأما من صدق ببعض ذلك وكذب ببعض ، فهو لنبوة من كذب ببعض ما جاء به جاحد ، ومن جحد نبوة نبي فهو به مكذب . وهؤلاء الذين جحدوا نبوة بعض الأنبياء ، وزعموا أنهم مصدقون ببعض ، مكذبون من زعموا أنهم به مؤمنون ، لتكذيبهم ببعض ما جاءهم به من عند ربهم ، فهم بالله وبرسله الذين يزعمون أنهم بهم مصدقون ، والذين يزعمون أنهم بهم مكذبون كافرون ، فهم الجاحدون وحدانية الله ونبوة أنبيائه حق الجحود ، المكذبون بذلك حق التكذيب . فاحذروا أن تغتروا بهم وببدعتهم ، فإنا قد أعتدنا لهم عذابا مهينا .

    وأما قوله : " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " ، فإنه يعني : "وأعتدنا" لمن جحد بالله ورسوله جحود هؤلاء الذين وصفت لكم ، أيها الناس ، أمرهم من أهل الكتاب ، ولغيرهم من سائر أجناس الكفار "عذابا" ، في الآخرة"مهينا" ، [ ص: 354 ] يعني : يهين من عذب به بخلوده فيه .

    وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    10765 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " ، أولئك أعداء الله اليهود والنصارى . آمنت اليهود بالتوراة وموسى ، وكفروا بالإنجيل وعيسى . وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى ، وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم . فاتخذوا اليهودية والنصرانية ، وهما بدعتان ليستا من الله ، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله .

    10766 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله " ، يقولون : محمد ليس برسول لله! وتقول اليهود : عيسى ليس برسول لله! فقد فرقوا بين الله وبين رسله"ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض" ، فهؤلاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض .

    10767 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج قوله : " إن الذين يكفرون بالله ورسله " إلى قوله : "بين ذلك سبيلا" ، قال : اليهود والنصارى . آمنت اليهود بعزير وكفرت بعيسى ، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بعزير . وكانوا يؤمنون بالنبي ويكفرون بالآخر"ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا" ، قال : دينا يدينون به الله .
    [ ص: 355 ] القول في تأويل قوله ( والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما ( 152 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : والذين صدقوا بوحدانية الله ، وأقروا بنبوة رسله أجمعين ، وصدقوهم فيما جاءوهم به من عند الله من شرائع دينه"ولم يفرقوا بين أحد منهم" ، يقول : ولم يكذبوا بعضهم ويصدقوا بعضهم ، ولكنهم أقروا أن كل ما جاءوا به من عند ربهم حق "أولئك" ، يقول : هؤلاء الذين هذه صفتهم من المؤمنين بالله ورسله"سوف يؤتيهم" ، يقول : سوف يعطيهم "أجورهم" ، يعني : جزاءهم وثوابهم على تصديقهم الرسل في توحيد الله وشرائع دينه ، وما جاءت به من عند الله "وكان الله غفورا" ، يقول : ويغفر لمن فعل ذلك من خلقه ما سلف له من آثامه ، فيستر عليه بعفوه له عنه ، وتركه العقوبة عليه ، فإنه لم يزل لذنوب المنيبين إليه من خلقه غفورا"رحيما" ، يعني ولم يزل بهم رحيما ، بتفضله عليهم بالهداية إلى سبيل الحق ، وتوفيقه إياهم لما فيه خلاص رقابهم من النار .
    [ ص: 356 ] القول في تأويل قوله ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ( 153 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : "يسألك" يا محمد "أهل الكتاب" ، يعني بذلك : أهل التوراة من اليهود "أن تنزل عليهم كتابا من السماء" .

    واختلف أهل التأويل في "الكتاب" الذي سأل اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم من السماء .

    فقال بعضهم : سألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا ، كما جاء موسى بني إسرائيل بالتوراة مكتوبة من عند الله .

    ذكر من قال ذلك :

    10768 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " ، قالت اليهود : إن كنت صادقا أنك رسول الله ، فآتنا كتابا مكتوبا من السماء ، كما جاء به موسى .

    10769 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي قال : جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن موسى جاء بالألواح من عند الله ، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك! فأنزل الله : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " ، إلى قوله : " وقولهم على مريم بهتانا عظيما " .

    [ ص: 357 ]

    وقال آخرون : بل سألوه أن ينزل عليهم كتابا ، خاصة لهم .

    ذكر من قال ذلك :

    10770 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " ، أي كتابا ، خاصة" فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة " .

    وقال آخرون : بل سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا بالأمر بتصديقه واتباعه .

    ذكر من قال ذلك :

    10771 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج قوله : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " ، وذلك أن اليهود والنصارى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : "لن نتابعك على ما تدعونا إليه ، حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنك رسول الله ، وإلى فلان بكتاب أنك رسول الله"! قال الله جل ثناؤه : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة " .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن أهل التوراة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، آية معجزة جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها ، شاهدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق ، آمرة لهم باتباعه .

    وجائز أن يكون الذي سألوه من ذلك كتابا مكتوبا ينزل عليهم من السماء إلى جماعتهم وجائز أن يكون ذلك كتبا إلى أشخاص بأعينهم . بل الذي هو أولى [ ص: 358 ] بظاهر التلاوة ، أن تكون مسألتهم إياه ذلك كانت مسألة لتنزيل الكتاب الواحد إلى جماعتهم ، لذكر الله تعالى في خبره عنهم"الكتاب" بلفظ الواحد بقوله : "يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء" ، ولم يقل"كتبا" .

    وأما قوله : " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " ، فإنه توبيخ من الله جل ثناؤه سائلي الكتاب الذي سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزله عليهم من السماء ، في مسألتهم إياه ذلك وتقريع منه لهم . يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، لا يعظمن عليك مسألتهم ذلك ، فإنهم من جهلهم بالله وجراءتهم عليه واغترارهم بحلمه ، لو أنزلت عليهم الكتاب الذي سألوك أن تنزله عليهم ، لخالفوا أمر الله كما خالفوه بعد إحياء الله أوائلهم من صعقتهم ، فعبدوا العجل واتخذوه إلها يعبدونه من دون خالقهم وبارئهم الذي أراهم من قدرته وعظيم سلطانه ما أراهم ، لأنهم لن يعدوا أن يكونوا كأوائلهم وأسلافهم .

    ثم قص الله من قصتهم وقصة موسى ما قص ، يقول الله : " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " ، يعني : فقد سأل أسلاف هؤلاء اليهود وأوائلهم موسى عليه السلام ، أعظم مما سألوك من تنزيل كتاب عليهم من السماء ، فقالوا له : " أرنا الله جهرة " ، أي : عيانا نعاينه وننظر إليه .

    وقد أتينا على معنى"الجهرة" ، بما في ذلك من الرواية والشواهد على صحة ما قلنا في معناه فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

    وقد ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في ذلك ، بما : - [ ص: 359 ]

    10772 - حدثني به الحارث قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج ، عن هارون بن موسى ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن معاوية ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : إنهم إذا رأوه فقد رأوه ، إنما قالوا جهرة : "أرنا الله" . قال : هو مقدم ومؤخر .

    وكان ابن عباس يتأول ذلك : أن سؤالهم موسى كان جهرة .

    وأما قوله : " فأخذتهم الصاعقة " ، فإنه يقول : "فصعقوا"" بظلمهم " أنفسهم . وظلمهم أنفسهم ، كان مسألتهم موسى أن يريهم ربهم جهرة ، لأن ذلك مما لم يكن لهم مسألته .

    وقد بينا معنى : "الصاعقة" ، فيما مضى باختلاف المختلفين في تأويلها ، والدليل على أولى ما قيل فيها بالصواب .

    وأما قوله : " ثم اتخذوا العجل " ، فإنه يعني : ثم اتخذ هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوه من رؤية ربهم جهرة ، بعد ما أحياهم الله فبعثهم من صعقتهم العجل الذي كان السامري نبذ فيه ما نبذ من القبضة التي قبضها من أثر فرس جبريل عليه السلام إلها يعبدونه من دون الله .

    وقد أتينا على ذكر السبب الذي من أجله اتخذوا العجل ، وكيف كان أمرهم وأمره ، فيما مضى بما فيه الكفاية .

    [ ص: 360 ]

    وقوله : " من بعد ما جاءتهم البينات " ، يعني : من بعد ما جاءت هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوا ، البينات من الله ، والدلالات الواضحات بأنهم لن يروا الله عيانا جهارا .

    وإنما عنى ب "البينات" : أنها آيات تبين عن أنهم لن يروا الله في أيام حياتهم في الدنيا جهرة . وكانت تلك الآيات البينات لهم على أن ذلك كذلك : إصعاق الله إياهم عند مسألتهم موسى أن يريهم ربه جهرة ، ثم إحياؤه إياهم بعد مماتهم ، مع سائر الآيات التي أراهم الله دلالة على ذلك .

    يقول الله مقبحا إليهم فعلهم ذلك ، وموضحا لعباده جهلهم ونقص عقولهم وأحلامهم : ثم أقروا للعجل بأنه لهم إله ، وهم يرونه عيانا ، وينظرون إليه جهارا ، بعد ما أراهم ربهم من الآيات البينات ما أراهم : أنهم لا يرون ربهم جهرة وعيانا في حياتهم الدنيا ، فعكفوا على عبادته مصدقين بألوهته!!

    وقوله : " فعفونا عن ذلك " ، يقول : فعفونا لعبدة العجل عن عبادتهم إياه ، وللمصدقين منهم بأنه إلههم بعد الذي أراهم الله أنهم لا يرون ربهم في حياتهم من الآيات ما أراهم عن تصديقهم بذلك ، بالتوبة التي تابوها إلى ربهم بقتلهم أنفسهم ، وصبرهم في ذلك على أمر ربهم" وآتينا موسى سلطانا مبينا " ، يقول : وآتينا موسى حجة تبين عن صدقه ، وحقيقة نبوته ، وتلك الحجة هي : الآيات البينات التي آتاه الله إياها .
    [ ص: 361 ] القول في تأويل قوله ( ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ( 154 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ورفعنا فوقهم الطور " ، يعني : الجبل ، وذلك لما امتنعوا من العمل بما في التوراة وقبول ما جاءهم به موسى فيها "بميثاقهم" ، يعني : بما أعطوا الله الميثاق والعهد : لنعملن بما في التوراة " وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا " ، يعني"باب حطة" ، حين أمروا أن يدخلوا منه سجودا ، فدخلوا يزحفون على أستاههم "وقلنا لهم لا تعدوا في السبت" ، يعني بقوله : "لا تعدوا في السبت" ، لا تتجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم إلى ما لم يبح لكم ، كما :

    10773 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا " ، قال : كنا نحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس .

    "وقلنا لهم لا تعدوا في السبت" ، أمر القوم أن لا يأكلوا الحيتان يوم السبت ولا يعرضوا لها ، وأحل لهم ما وراء ذلك .

    [ ص: 362 ]

    واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

    فقرأته عامة قرأة أمصار الإسلام : ( لا تعدوا في السبت ) ، بتخفيف"العين" من قول القائل : "عدوت في الأمر" ، إذا تجاوزت الحق فيه ، "أعدو عدوا وعدوا وعدوانا وعداء" .

    وقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة : ( وقلنا لهم لا تعدوا ) بتسكين"العين" وتشديد"الدال" ، والجمع بين ساكنين ، بمعنى : تعتدوا ، ثم تدغم "التاء" في"الدال" فتصير"دالا" مشددة مضمومة ، كما قرأ من قرأ ( أم من لا يهدي ) [ سورة يونس : 35 ] ، بتسكين "الهاء" .

    وقوله : " وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " ، يعني : عهدا مؤكدا شديدا ، بأنهم يعملون بما أمرهم الله به ، وينتهون عما نهاهم الله عنه ، مما ذكر في هذه الآية ، ومما في التوراة .

    وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله كانوا أمروا بدخول الباب سجدا ، وما كان من أمرهم في ذلك وخبرهم وقصتهم وقصة السبت ، وما كان اعتداؤهم فيه ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
    [ ص: 363 ] القول في تأويل قوله ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ( 155 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : فبنقض هؤلاء الذين وصفت صفتهم من أهل الكتاب"ميثاقهم" ، يعني : عهودهم التي عاهدوا الله أن يعملوا بما في التوراة "وكفرهم بآيات الله" ، يقول : وجحودهم"بآيات الله" ، يعني : بأعلام الله وأدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله وحقيقة ما جاءوهم به من عنده "وقتلهم الأنبياء بغير حق" ، يقول : وبقتلهم الأنبياء بعد قيام الحجة عليهم بنبوتهم"بغير حق" ، يعني : بغير استحقاق منهم ذلك لكبيرة أتوها ، ولا خطيئة استوجبوا القتل عليها "وقولهم قلوبنا غلف" ، يعني : وبقولهم" قلوبنا غلف " ، يعني : يقولون : عليها غشاوة وأغطية عما تدعونا إليه ، فلا نفقه ما تقول ولا نعقله .

    وقد بينا معنى "الغلف" ، وذكرنا ما في ذلك من الرواية فيما مضى قبل .

    " بل طبع الله عليها بكفرهم " ، يقول جل ثناؤه : كذبوا في قولهم : " قلوبنا غلف " ، ما هي بغلف ، ولا عليها أغطية ، ولكن الله جل ثناؤه جعل عليها طابعا بكفرهم بالله .

    [ ص: 364 ]

    وقد بينا صفة "الطبع على القلب" ، فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته .

    " فلا يؤمنون إلا قليلا " ، يقول : فلا يؤمن - هؤلاء الذين وصف الله صفتهم ، لطبعه على قلوبهم ، فيصدقوا بالله ورسله وما جاءتهم به من عند الله - إلا إيمانا قليلا يعني : تصديقا قليلا وإنما صار "قليلا" ، لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به ، ولكن صدقوا ببعض الأنبياء وببعض الكتب ، وكذبوا ببعض . فكان تصديقهم بما صدقوا به قليلا لأنهم وإن صدقوا به من وجه ، فهم به مكذبون من وجه آخر ، وذلك من وجه تكذيبهم من كذبوا به من الأنبياء وما جاءوا به من كتب الله ، ورسل الله يصدق بعضهم بعضا . وبذلك أمر كل نبي أمته . وكذلك كتب الله يصدق بعضها بعضا ، ويحقق بعض بعضا . فالمكذب ببعضها مكذب بجميعها ، من جهة جحوده ما صدقه الكتاب الذي يقر بصحته . فلذلك صار إيمانهم بما آمنوا من ذلك قليلا .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك :

    10774 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " فبما نقضهم ميثاقهم " ، يقول : فبنقضهم ميثاقهم لعناهم"وقولهم قلوبنا غلف" ، أي لا نفقه ، "بل طبع الله عليها بكفرهم" ، ولعنهم حين فعلوا ذلك .

    [ ص: 365 ]

    واختلف في معنى قوله : " فبما نقضهم " ، الآية ، هل هو مواصل لما قبله من الكلام ، أو هو منفصل منه .

    فقال بعضهم : هو منفصل مما قبله ، ومعناه : فبنقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وقولهم قلوبنا غلف ، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم .

    ذكر من قال ذلك :

    10775 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فلا يؤمنون إلا قليلا " ، لما ترك القوم أمر الله ، وقتلوا رسله ، وكفروا بآياته ، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم ، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم .

    وقال آخرون : بل هو مواصل لما قبله . قالوا : ومعنى الكلام : فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فبنقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وبقتلهم الأنبياء بغير حق ، وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة . قالوا : فتبع الكلام بعضه بعضا ، ومعناه : مردود إلى أوله . وتفسير"ظلمهم" ، الذي أخذتهم الصاعقة من أجله ، بما فسر به تعالى ذكره ، من نقضهم الميثاق ، وقتلهم الأنبياء ، وسائر ما بين من أمرهم الذي ظلموا فيه أنفسهم .





  19. #519
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (519)
    صــ 366 إلى صــ 380






    قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن قوله : " فبما نقضهم ميثاقهم " وما بعده ، منفصل معناه من معنى ما قبله ، وأن معنى الكلام : فبما نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وبكذا وبكذا ، لعناهم وغضبنا عليهم فترك ذكر"لعناهم " ، [ ص: 366 ] لدلالة قوله : " بل طبع الله عليها بكفرهم " ، على معنى ذلك . إذ كان من طبع على قلبه ، فقد لعن وسخط عليه .

    وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الذين أخذتهم الصاعقة ، إنما كانوا على عهد موسى والذين قتلوا الأنبياء ، والذين رموا مريم بالبهتان العظيم ، وقالوا : "قتلنا المسيح" ، كانوا بعد موسى بدهر طويل . ولم يدرك الذين رموا مريم بالبهتان العظيم زمان موسى ، ولا من صعق من قومه .

    وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الذين أخذتهم الصاعقة ، لم تأخذهم عقوبة لرميهم مريم بالبهتان العظيم ، ولا لقولهم : " إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم " . وإذ كان ذلك كذلك ، فبين أن القوم الذين قالوا هذه المقالة غير الذين عوقبوا بالصاعقة . وإذ كان ذلك كذلك ، كان بينا انفصال معنى قوله : " فبما نقضهم ميثاقهم " ، من معنى قوله : " فأخذتهم الصاعقة بظلمهم " .
    القول في تأويل قوله ( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ( 156 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وبكفر هؤلاء الذين وصف صفتهم" وقولهم على مريم بهتانا عظيما " ، يعني : بفريتهم عليها ، ورميهم إياها بالزنا ، وهو"البهتان العظيم" ، لأنهم رموها بذلك ، وهي مما رموها به بغير ثبت ولا برهان بريئة ، فبهتوها بالباطل من القول .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 367 ]

    10776 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " وقولهم على مريم بهتانا عظيما " ، يعني : أنهم رموها بالزنا .

    10777 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " وقولهم على مريم بهتانا عظيما " ، حين قذفوها بالزنا .

    10778 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن جويبر في قوله : " وقولهم على مريم بهتانا عظيما " ، قال : قالوا : "زنت" .
    القول في تأويل قوله ( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : وبقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله . ثم كذبهم الله في قيلهم ، فقال : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " ، يعني : وما قتلوا عيسى وما صلبوه ولكن شبه لهم .

    واختلف أهل التأويل في صفة التشبيه الذي شبه لليهود في أمر عيسى .

    فقال بعضهم : لما أحاطت اليهود به وبأصحابه ، أحاطوا بهم وهم لا يثبتون معرفة عيسى بعينه ، وذلك أنهم جميعا حولوا في صورة عيسى ، فأشكل على الذين كانوا يريدون قتل عيسى ، عيسى من غيره منهم ، وخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى ، فقتلوه وهم يحسبونه عيسى .

    ذكر من قال ذلك : [ ص: 368 ]

    10779 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن هارون بن عنترة ، عن وهب بن منبه قال : أتي عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت ، وأحاطوا بهم . فلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى ، فقالوا لهم : سحرتمونا! لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا! فقال عيسى لأصحابه : من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة ؟ فقال رجل منهم : أنا! فخرج إليهم ، فقال : أنا عيسى وقد صوره الله على صورة عيسى ، فأخذوه فقتلوه وصلبوه . فمن ثم شبه لهم ، وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك .

    وقد روي عن وهب بن منبه غير هذا القول ، وهو ما : -

    10780 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهبا يقول : إن عيسى ابن مريم عليه السلام لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا ، جزع من الموت وشق عليه ، فدعا الحواريين فصنع لهم طعاما ، فقال : احضروني الليلة ، فإن لي إليكم حاجة . فلما اجتمعوا إليه من الليل ، عشاهم وقام يخدمهم . فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ، ويمسح أيديهم بثيابه ، فتعاظموا ذلك وتكارهوه ، فقال : ألا من رد علي شيئا الليلة مما أصنع ، فليس مني ولا أنا منه! فأقروه ، حتى إذا فرغ من ذلك قال : أما ما صنعت بكم الليلة ، مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي ، فليكن لكم بي أسوة ، فإنكم ترون أني خيركم ، فلا يتعظم بعضكم على بعض ، وليبذل بعضكم لبعض نفسه ، كما بذلت نفسي لكم . وأما حاجتي التي استعنتكم عليها ، فتدعون لي الله وتجتهدون في الدعاء : أن يؤخر أجلي . فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا ، أخذهم النوم حتى [ ص: 369 ] لم يستطيعوا دعاء . فجعل يوقظهم ويقول : سبحان الله! ما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها! قالوا : والله ما ندري ما لنا! لقد كنا نسمر فنكثر السمر ، وما نطيق الليلة سمرا ، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه! فقال : يذهب بالراعي وتتفرق الغنم! وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى به نفسه . ثم قال : الحق ، ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات ، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة ، وليأكلن ثمني! فخرجوا فتفرقوا ، وكانت اليهود تطلبه ، فأخذوا شمعون أحد الحواريين ، فقالوا : هذا من أصحابه! فجحد وقال : ما أنا بصاحبه! فتركوه ، ثم أخذه آخرون فجحد كذلك . ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه ، فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال : ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح ؟ فجعلوا له ثلاثين درهما ، فأخذها ودلهم عليه . وكان شبه عليهم قبل ذلك ، فأخذوه فاستوثقوا منه ، وربطوه بالحبل ، فجعلوا يقودونه ويقولون له : أنت كنت تحيي الموتى ، وتنتهر الشيطان ، وتبرئ المجنون ، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل ؟! ويبصقون عليه ، ويلقون عليه الشوك ، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها ، فرفعه الله إليه ، وصلبوا ما شبه لهم ، فمكث سبعا .

    ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون ، جاءتا تبكيان حيث المصلوب ، فجاءهما عيسى فقال : علام تبكيان ؟ قالتا : عليك! فقال : إني قد رفعني الله إليه ، ولم يصبني إلا خير ، وإن هذا شيء شبه لهم ، [ ص: 370 ] فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا . فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر . وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود ، فسأل عنه أصحابه ، فقالوا : إنه ندم على ما صنع ، فاختنق وقتل نفسه . فقال : لو تاب لتاب الله عليه! ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له : يحنى فقال : هو معكم ، فانطلقوا ، فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم ، فلينذرهم وليدعهم .

    وقال آخرون : بل سأل عيسى من كان معه في البيت أن يلقى على بعضهم شبهه ، فانتدب لذلك رجل ، فألقي عليه شبهه ، فقتل ذلك الرجل ، ورفع عيسى ابن مريم عليه السلام .

    ذكر من قال ذلك :

    10781 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه " إلى قوله : "وكان الله عزيزا حكيما" ، أولئك أعداء الله اليهود ائتمروا بقتل عيسى ابن مريم رسول الله ، وزعموا أنهم قتلوه وصلبوه . وذكر لنا أن نبي الله عيسى ابن مريم قال لأصحابه : أيكم يقذف عليه شبهي ، فإنه مقتول ؟ فقال رجل من أصحابه : أنا ، يا نبي الله! فقتل ذلك الرجل ، ومنع الله نبيه ورفعه إليه .

    10782 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " ، قال : ألقي شبهه على رجل من الحواريين فقتل . وكان عيسى ابن مريم عرض ذلك عليهم ، فقال : أيكم ألقي شبهي عليه ، وله الجنة ؟ فقال رجل : علي .

    [ ص: 371 ]

    10783 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلا من الحواريين في بيت ، فقال عيسى لأصحابه : من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة ؟ فأخذها رجل منهم ، وصعد بعيسى إلى السماء . فلما خرج الحواريون أبصروهم تسعة عشر ، فأخبروهم أن عيسى عليه السلام قد صعد به إلى السماء ، فجعلوا يعدون القوم فيجدونهم ينقصون رجلا من العدة ، ويرون صورةعيسى فيهم ، فشكوا فيه . وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى وصلبوه . فذلك قول الله تبارك وتعالى : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " ، إلى قوله : " وكان الله عزيزا حكيما " .

    10784 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن القاسم بن أبي بزة : أن عيسى ابن مريم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ؟ فقال رجل من أصحابه : أنا ، يا رسول الله! فالقي عليه شبهه فقتلوه . فذلك قوله : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " .

    10785 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله ، رجلا منهم يقال له داود . فلما أجمعوا لذلك منه ، لم يفظع عبد من عباد الله بالموت فيما ذكر لي فظعه ، ولم يجزع منه جزعه ، ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءه ، حتى إنه ليقول ، فيما يزعمون : "اللهم إن كنت صارفا هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني!" ، وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصد دما . فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه ، وهم ثلاثة عشر بعيسى . فلما أيقن أنهم داخلون عليه ، قال لأصحابه من الحواريين وكانوا اثني عشر رجلا [ ص: 372 ] فطرس ، ويعقوب بن زبدي ، ويحنس أخو يعقوب ، وأندراييس ، وفيلبس ، وأبرثلما ، ومتى ، وتوماس ، ويعقوب بن حلفيا ، وتداوسيس ، وقنانيا ، ويودس زكريا يوطا .

    قال ابن حميد ، قال سلمة ، قال ابن إسحاق : وكان فيهم ، فيما ذكر لي ، رجل اسمه سرجس ، فكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى ، جحدته النصارى ، وذلك أنه هو الذي شبه لليهود مكان عيسى . قال : فلا أدري ما هو ؟ من هؤلاء الاثني عشر ، أم كان ثالث عشر ، فجحدوه حين أقروا لليهود بصلب عيسى ، وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الخبر عنه . فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى أربعة عشر ، وإن كانوا اثني عشر ، فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى ثلاثة عشر .

    حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني رجل كان نصرانيا فأسلم : أن عيسى حين جاءه من الله : " إني رافعك إلي " قال : يا معشر الحواريين ، أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة ، على أن يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه مكاني ؟ فقال سرجس : أنا ، يا روح الله! قال : فاجلس في مجلسي .

    [ ص: 373 ] فجلس فيه ، ورفع عيسى صلوات الله عليه . فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه ، فكان هو الذي صلبوه وشبه لهم به . وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة ، قد رأوهم وأحصوا عدتهم . فلما دخلوا عليه ليأخذوه ، وجدوا عيسى فيما يرون وأصحابه ، وفقدوا رجلا من العدة ، فهو الذي اختلفوا فيه ، وكانوا لا يعرفون عيسى ، حتى جعلوا ليودس زكريا يوطا ثلاثين درهما على أن يدلهم عليه ويعرفهم إياه ، فقال لهم : إذا دخلتم عليه ، فإني سأقبله ، وهو الذي أقبل ، فخذوه . فلما دخلوا عليه وقد رفع عيسى ، رأى سرجس في صورة عيسى ، فلم يشكك أنه هو عيسى ، فأكب عليه فقبله ، فأخذوه فصلبوه . ثم إن يودس زكريا يوطا ندم على ما صنع ، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه . وهو ملعون في النصارى ، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه . وبعض النصارى يزعم أن يودس زكريا يوطا هو الذي شبه لهم ، فصلبوه وهو يقول : "إني لست بصاحبكم! أنا الذي دللتكم عليه"! والله أعلم أي ذلك كان .

    10786 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : بلغنا أن عيسى ابن مريم قال لأصحابه : أيكم ينتدب فيلقى عليه شبهي فيقتل ؟ فقال رجل من أصحابه : أنا ، يا نبي الله . فالقي عليه شبهه فقتل ، ورفع الله نبيه إليه .

    10787 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "شبه لهم" ، قال : صلبوا رجلا غير عيسى ، يحسبونه إياه .

    10788 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ولكن شبه لهم" ، فذكر نحوه .

    [ ص: 374 ]

    10789 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : صلبوا رجلا شبهوه بعيسى ، يحسبونه إياه ، ورفع الله إليه عيسى حيا .

    قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب ، أحد القولين اللذين ذكرناهما عن وهب بن منبه : من أن شبه عيسى ألقي على جميع من كان في البيت مع عيسى حين أحيط به وبهم ، من غير مسألة عيسى إياهم ذلك . ولكن ليخزي الله بذلك اليهود ، وينقذ به نبيه عليه السلام من مكروه ما أرادوا به من القتل ، ويبتلي به من أراد ابتلاءه من عباده في قيله في عيسى ، وصدق الخبر عن أمره . أو : القول الذي رواه عبد الصمد عنه .

    وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب ، لأن الذين شهدوا عيسى من الحواريين ، لو كانوا في حال ما رفع عيسى وألقي شبهه على من ألقي عليه شبهه ، كانوا قد عاينوا وهو يرفع من بينهم ، وأثبتوا الذي القي عليه شبهه ، وعاينوه متحولا في صورته بعد الذي كان به من صورة نفسه بمحضر منهم ، لم يخف ذلك من أمر عيسى وأمر من ألقي عليه شبهه عليهم ، مع معاينتهم ذلك كله ، ولم يلتبس ولم يشكل عليهم ، وإن أشكل على غيرهم من أعدائهم من اليهود أن المقتول والمصلوب كان غير عيسى ، وأن عيسى رفع من بينهم حيا .

    وكيف يجوز أن يكون كان أشكل ذلك عليهم ، وقد سمعوا من عيسى مقالته : "من يلقى عليه شبهي ، ويكون رفيقي في الجنة" ، إن كان قال لهم ذلك ، وسمعوا [ ص: 375 ] جواب مجيبه منهم : "أنا" ، وعاينوا تحول المجيب في صورة عيسى بعقب جوابه ؟ ولكن ذلك كان إن شاء الله على نحو ما وصف وهب بن منبه : إما أن يكون القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت الذي رفع منه من حواريه ، حولهم الله جميعا في صورة عيسى حين أراد الله رفعه ، فلم يثبتوا عيسى معرفة بعينه من غيره لتشابه صور جميعهم ، فقتلت اليهود منهم من قتلت وهم يرونه بصورة عيسى ، ويحسبونه إياه ، لأنهم كانوا به عارفين قبل ذلك . وظن الذين كانوا في البيت مع عيسى مثل الذي ظنت اليهود ، لأنهم لم يميزوا شخص عيسى من شخص غيره ، لتشابه شخصه وشخص غيره ممن كان معه في البيت . فاتفقوا جميعهم يعني : اليهود والنصارى من أجل ذلك على أن المقتول كان عيسى ، ولم يكن به ، ولكنه شبه لهم ، كما قال الله جل ثناؤه : " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " .

    أو يكون الأمر في ذلك كان على نحو ما روى عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه : أن القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت ، تفرقوا عنه قبل أن يدخل عليه اليهود ، وبقي عيسى ، وألقي شبهه على بعض أصحابه الذين كانوا معه في البيت بعد ما تفرق القوم غير عيسى ، وغير الذي ألقي عليه شبهه . ورفع عيسى ، فقتل الذي تحول في صورة عيسى من أصحابه ، وظن أصحابه واليهود أن الذي قتل وصلب هو عيسى ، لما رأوا من شبهه به ، وخفاء أمر عيسى عليهم . لأن رفعه وتحول المقتول في صورته ، كان بعد تفرق أصحابه عنه ، وقد كانوا سمعوا عيسى من الليل ينعى نفسه ، ويحزن لما قد ظن أنه نازل به من الموت ، فحكوا ما كان عندهم حقا ، والأمر عند الله في الحقيقة بخلاف ما حكوا . فلم يستحق الذين حكوا ذلك من حوارييه أن يكونوا كذبة ، إذ حكوا ما كان حقا عندهم في الظاهر ، [ ص: 376 ] وإن كان الأمر كان عند الله في الحقيقة بخلاف الذي حكوا .
    القول في تأويل قوله ( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا ( 157 ) )

    قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وإن الذين اختلفوا فيه " ، اليهود الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله . وذلك أنهم كانوا قد عرفوا عدة من في البيت قبل دخولهم ، فيما ذكر . فلما دخلوا عليهم ، فقدوا واحدا منهم ، فالتبس أمر عيسى عليهم بفقدهم واحدا من العدة التي كانوا قد أحصوها ، وقتلوا من قتلوا على شك منهم في أمر عيسى .

    وهذا التأويل على قول من قال : لم يفارق الحواريون عيسى حتى رفع ودخل عليهم اليهود .

    وأما تأويله على قول من قال : تفرقوا عنه من الليل ، فإنه : "وإن الذين اختلفوا" ، في عيسى ، هل هو الذي بقي في البيت منهم بعد خروج من خرج منهم من العدة التي كانت فيه ، أم لا ؟"لفي شك منه" ، يعني : من قتله ، لأنهم كانوا أحصوا من العدة حين دخلوا البيت أكثر ممن خرج منه ومن وجد فيه ، فشكوا في الذي قتلوه : هل هو عيسى أم لا ؟ من أجل فقدهم من فقدوا من العدد الذي كانوا أحصوه ، ولكنهم قالوا : "قتلنا عيسى " ، لمشابهة المقتول عيسى في الصورة . يقول الله جل ثناؤه : " ما لهم به من علم " ، يعني : أنهم قتلوا من قتلوه على شك منهم فيه واختلاف ، هل هو عيسى أم هو غيره ؟ من غير أن يكون لهم [ ص: 377 ] بمن قتلوه علم ، من هو ؟ هو عيسى أم هو غيره ؟ " إلا اتباع الظن " ، يعني جل ثناؤه : ما كان لهم بمن قتلوه من علم ، ولكنهم اتبعوا ظنهم فقتلوه ، ظنا منهم أنه عيسى ، وأنه الذي يريدون قتله ، ولم يكن به" وما قتلوه يقينا " ، يقول : وما قتلوا - هذا الذي اتبعوه في المقتول الذي قتلوه وهم يحسبونه عيسى - يقينا أنه عيسى ولا أنه غيره ، ولكنهم كانوا منه على ظن وشبهة .



    وهذا كقول الرجل للرجل : "ما قتلت هذا الأمر علما ، وما قتلته يقينا" ، إذا تكلم فيه بالظن على غير يقين علم . ف"الهاء" في قوله : "وما قتلوه" ، عائدة على"الظن" .

    وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

    ذكر من قال ذلك .

    10790 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وما قتلوه يقينا " ، قال : يعني لم يقتلوا ظنهم يقينا .

    10791 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن جويبر في قوله : " وما قتلوه يقينا " ، قال : ما قتلوا ظنهم يقينا .

    وقال السدي في ذلك ما : -

    10792 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وما قتلوه يقينا " ، وما قتلوا أمره يقينا أن الرجل هو عيسى ، "بل رفعه الله إليه" .
    [ ص: 378 ] القول في تأويل قوله ( بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ( 158 ) )

    قال أبو جعفر : أما قوله جل ثناؤه : " بل رفعه الله إليه " ، فإنه يعني : بل رفع الله المسيح إليه . يقول : لم يقتلوه ولم يصلبوه ، ولكن الله رفعه إليه فطهره من الذين كفروا .

    وقد بينا كيف كان رفع الله إياه إليه فيما مضى ، وذكرنا اختلاف المختلفين في ذلك ، والصحيح من القول فيه بالأدلة الشاهدة على صحته ، بما أغنى عن إعادته .

    وأما قوله : " وكان الله عزيزا حكيما " ، فإنه يعني : ولم يزل الله منتقما من أعدائه ، كانتقامه من الذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم ، وكلعنه الذين قص قصتهم بقوله : "فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله""حكيما" ، يقول : ذا حكمة في تدبيره وتصريفه خلقه في قضائه . يقول : فاحذروا أيها السائلون محمدا أن ينزل عليكم كتابا من السماء ، من حلول عقوبتي بكم ، كما حل بأوائلكم الذين فعلوا فعلكم ، في تكذيبهم رسلي وافترائهم على أوليائي ، وقد : -

    10793 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا محمد بن إسحاق بن أبي سارة الرؤاسي ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " وكان الله عزيزا حكيما " ، قال : معنى ذلك : أنه كذلك .
    [ ص: 379 ] القول في تأويل قوله ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته )

    قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك :

    فقال بعضهم : معنى ذلك : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به " ، يعني : بعيسى "قبل موته" ، يعني : قبل موت عيسى يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال ، فتصير الملل كلها واحدة ، وهي ملة الإسلام الحنيفية ، دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم .

    [ ص: 380 ]

    ذكر من قال ذلك :

    10794 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : قبل موت عيسى ابن مريم .

    10795 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : قبل موت عيسى .

    10796 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : " إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : ذلك عند نزول عيسى ابن مريم ، لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به .

    10797 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن قال : "قبل موته" ، قال : قبل أن يموت عيسى ابن مريم .

    10798 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : قبل موت عيسى . والله إنه الآن لحي عند الله ، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون .

    10799 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، يقول : قبل موت عيسى .





  20. #520
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء التاسع
    تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
    الحلقة (520)
    صــ 381 إلى صــ 395





    10800 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : قبل موت عيسى . [ ص: 381 ]

    10801 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : قبل موت عيسى ، إذا نزل آمنت به الأديان كلها .

    10802 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن قال : قبل موت عيسى .

    10803 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عوف ، عن الحسن : " إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال عيسى ، ولم يمت بعد .

    10804 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن حصين ، عن أبي مالك قال : لا يبقى أحد منهم عند نزول عيسى إلا آمن به .

    10805 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حصين ، عن أبي مالك قال : قبل موت عيسى .

    10806 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : إذا نزل عيسى ابن مريم فقتل الدجال ، لم يبق يهودي في الأرض إلا آمن به . قال : فذلك حين لا ينفعهم الإيمان .

    10807 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، يعني : أنه سيدرك أناس من أهل الكتاب حين يبعث عيسى ، فيؤمنون به ، "ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا" .

    10808 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن أنه قال في هذه الآية : " [ ص: 382 ] وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال أبو جعفر : أظنه إنما قال : إذا خرج عيسى آمنت به اليهود .

    وقال آخرون : يعني بذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى ، قبل موت الكتابي . يوجه ذلك إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل ، لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه .

    [ ذكر من قال ذلك ] :

    10809 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى .

    10810 - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : لا تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى ، وإن غرق ، أو تردى من حائط ، أو أي ميتة كانت .

    10811 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إلا ليؤمنن به قبل موته " ، كل صاحب كتاب ليؤمنن به ، بعيسى ، قبل موته ، موت صاحب الكتاب .

    10812 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ليؤمنن به" ، كل صاحب كتاب ، يؤمن بعيسى [ ص: 383 ] "قبل موته" ، قبل موت صاحب الكتاب قال ابن عباس : لو ضربت عنقه ، لم تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى .

    10813 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله ، ولو عجل عليه بالسلاح .

    10814 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : هي في قراءة أبي : ( قبل موتهم ) ، ليس يهودي يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى . قيل لابن عباس : أرأيت إن خر من فوق بيت ؟ قال : يتكلم به في الهوي . فقيل : أرأيت إن ضرب عنق أحد منهم ؟ قال : يلجلج بها لسانه .

    10815 - حدثني المثنى قال : حدثني أبو نعيم الفضل بن دكين قال : حدثنا سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ابن مريم . قال : وإن ضرب بالسيف ، يتكلم به . قال : وإن هوى ، يتكلم به وهو يهوي .

    10816 - وحدثني ابن المثنى قال : حدثني محمد بن جعفر قال : حدثنا [ ص: 384 ] شعبة ، عن أبي هارون الغنوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : لو أن يهوديا وقع من فوق هذا البيت ، لم يمت حتى يؤمن به يعني : بعيسى .

    10817 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا عبد الصمد قال : حدثنا شعبة ، عن مولى لقريش قال : سمعت عكرمة يقول : لو وقع يهودي من فوق القصر ، لم يبلغ إلى الأرض حتى يؤمن بعيسى .

    10818 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم الرماني ، عن مجاهد : " ليؤمنن به قبل موته " ، قال : وإن وقع من فوق البيت ، لا يموت حتى يؤمن به .

    10819 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن منصور ، عن مجاهد : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " . قال : لا يموت رجل من أهل الكتاب حتى يؤمن به ، وإن غرق ، أو تردى ، أو مات بشيء .

    10820 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : لا تخرج نفسه حتى يؤمن به . [ ص: 385 ]

    10821 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : لا يموت أحدهم حتى يؤمن به يعني : بعيسى وإن خر من فوق بيت ، يؤمن به وهو يهوي .

    10822 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : ليس أحد من اليهود يخرج من الدنيا حتى يؤمن بعيسى .

    10823 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن فرات القزاز ، عن الحسن في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : لا يموت أحد منهم حتى يؤمن بعيسى صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت [ يعني : اليهود والنصارى ] .

    10824 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا إسرائيل ، عن فرات ، عن الحسن في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : لا يموت أحد منهم حتى يؤمن بعيسى قبل أن يموت .

    10825 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا الحكم بن عطية ، عن محمد بن سيرين : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : موت الرجل من أهل الكتاب .

    10826 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : قال ابن عباس : ليس من يهودي [ يموت ] حتى يؤمن بعيسى ابن مريم .

    [ ص: 386 ] فقال له رجل من أصحابه : كيف ، والرجل يغرق ، أو يحترق ، أو يسقط عليه الجدار ، أو يأكله السبع ؟ فقال : لا تخرج روحه من جسده حتى يقذف فيه الإيمان بعيسى .

    10827 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، قال : لا يموت أحد من اليهود حتى يشهد أن عيسى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    10828 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا يعلى ، عن جويبر في قوله : " ليؤمنن به قبل موته " ، قال : في قراءة أبي : ( قبل موتهم ) .

    وقال آخرون : معنى ذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قبل موت الكتابي .

    ذكر من قال ذلك :

    10829 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا حماد ، عن حميد قال : قال عكرمة : لا يموت النصراني واليهودي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم يعني في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " .

    قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصحة والصواب ، قول من قال : تأويل ذلك : "وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى " .

    وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال ، لأن الله جل ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بحكم أهل الإيمان ، في الموارثة والصلاة عليه ، [ ص: 387 ] وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة . فلو كان كل كتابي يؤمن بعيسى قبل موته ، لوجب أن لا يرث الكتابي إذا مات على ملته إلا أولاده الصغار ، أو البالغون منهم من أهل الإسلام ، إن كان له ولد صغير أو بالغ مسلم . وإن لم يكن له ولد صغير ولا بالغ مسلم ، كان ميراثه مصروفا حيث يصرف مال المسلم يموت ولا وارث له ، وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغسله وتقبيره . لأن من مات مؤمنا بعيسى ، فقد مات مؤمنا بمحمد وبجميع الرسل . وذلك أن عيسى صلوات الله عليه ، جاء بتصديق محمد وجميع المرسلين صلوات الله عليهم ، فالمصدق بعيسى والمؤمن به ، مصدق بمحمد وبجميع أنبياء الله ورسله . كما أن المؤمن بمحمد ، مؤمن بعيسى وبجميع أنبياء الله ورسله . فغير جائز أن يكون مؤمنا بعيسى من كان بمحمد مكذبا .

    فإن ظن ظان أن معنى إيمان اليهودي بعيسى الذي ذكره الله في قوله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، إنما هو إقراره بأنه لله نبي مبعوث ، دون تصديقه بجميع ما أتى به من عند الله فقد ظن خطأ .

    وذلك أنه غير جائز أن يكون منسوبا إلى الإقرار بنبوة نبي ، من كان له مكذبا في بعض ما جاء به من وحي الله وتنزيله . بل غير جائز أن يكون منسوبا إلا الإقرار بنبوة أحد من أنبياء الله ، لأن الأنبياء جاءت الأمم بتصديق جميع أنبياء الله ورسله . فالمكذب بعض أنبياء الله فيما أتى به أمته من عند الله ، مكذب جميع أنبياء الله فيما دعوا إليه من دين الله عباد الله . وإذ كان ذلك كذلك وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أن كل كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله [ ص: 388 ] عليه وما جاء به من عند الله ، محكوم له بحكم الملة التي كان عليها أيام حياته ، غير منقول شيء من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته ، عما كان عليه في حياته دل الدليل على أن معنى قول الله : " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " ، إنما معناه : إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ، وأن ذلك في خاص من أهل الكتاب ، ومعني به أهل زمان منهم دون أهل كل الأزمنة التي كانت بعد عيسى ، وأن ذلك كائن عند نزوله ، كالذي : -

    10830 - حدثني بشر بن معاذ قال : حدثني يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبد الرحمن بن آدم ، عن أبي هريرة : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : الأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد . وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم ، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي . وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، فإنه رجل مربوع الخلق ، إلى الحمرة والبياض ، سبط الشعر ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، بين ممصرتين ، فيدق الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام ، ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذاب الدجال ، وتقع الأمنة في الأرض في زمانه ، حتى ترتع الأسود مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، وتلعب الغلمان أو : الصبيان بالحيات ، لا يضر بعضهم بعضا . ثم يلبث في الأرض ما شاء الله وربما قال : أربعين سنة ثم يتوفى ، [ ص: 389 ] ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه .

    وأما الذي قال : عنى بقوله : " ليؤمنن به قبل موته " ، ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي - فمما لا وجه له مفهوم ، لأنه مع فساده من الوجه الذي دللنا على فساد قول من قال : "عنى به : ليؤمنن بعيسى قبل موت الكتابي" يزيده فسادا أنه لم يجر لمحمد عليه السلام في الآيات التي قبل ذلك ذكر ، فيجوز صرف"الهاء" التي في قوله : "ليؤمنن به" ، إلى أنها من ذكره . وإنما قوله : "ليؤمنن به" ، في سياق ذكر عيسى وأمه واليهود . فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره ، إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل ، أو خبر عن الرسول تقوم به حجة . فأما الدعاوى ، فلا تتعذر على أحد .

    قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذ كان الأمر على ما وصفنا : وما من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن بعيسى ، قبل موت عيسى وحذف"من" بعد"إلا" ، لدلالة الكلام عليه ، فاستغنى بدلالته عن إظهاره ، كسائر ما قد تقدم من أمثاله التي قد أتينا على البيان عنها .
    [ ص: 390 ] القول في تأويل قوله ( ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ( 159 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ويوم القيامة يكون عيسى على أهل الكتاب"شهيدا" ، يعني : شاهدا عليهم بتكذيب من كذبه منهم ، وتصديق من صدقه منهم ، فيما أتاهم به من عند الله ، وبإبلاغه رسالة ربه ، كالذي : -

    10831 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " ، أنه قد أبلغهم ما أرسل به إليهم .

    10832 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " ، يقول : يكون عليهم شهيدا يوم القيامة على أنه قد بلغ رسالة ربه ، وأقر بالعبودية على نفسه .
    القول في تأويل قوله ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ( 160 ) وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ( 161 ) )

    قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فحرمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم ، وكفروا بآيات الله ، وقتلوا أنبياءهم ، وقالوا البهتان على مريم ، وفعلوا ما وصفهم الله في كتابه طيبات من المآكل وغيرها ، كانت لهم [ ص: 391 ] حلالا عقوبة لهم بظلمهم ، الذي أخبر الله عنهم في كتابه ، كما : -

    10833 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم " الآية ، عوقب القوم بظلم ظلموه وبغي بغوه ، حرمت عليهم أشياء ببغيهم وبظلمهم .

    وقوله : " وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " ، يعني : وبصدهم عباد الله عن دينه وسبله التي شرعها لعباده ، صدا كثيرا . وكان صدهم عن سبيل الله : بقولهم على الله الباطل ، وادعائهم أن ذلك عن الله ، وتبديلهم كتاب الله ، وتحريف معانيه عن وجوهه . وكان من عظيم ذلك جحودهم نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وتركهم بيان ما قد علموا من أمره لمن جهل أمره من الناس .

    وبنحو ذلك كان مجاهد يقول :

    10834 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثني أبو عاصم قال : حدثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " ، قال : أنفسهم وغيرهم عن الحق .

    10835 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

    وقوله : " وأخذهم الربا " ، وهو أخذهم ما أفضلوا على رءوس أموالهم ، لفضل تأخير في الأجل بعد محلها ، وقد بينت معنى"الربا" فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته .

    [ ص: 392 ]

    "وقد نهوا عنه" يعني : عن أخذ الربا .

    وقوله : " وأكلهم أموال الناس بالباطل " ، يعني ما كانوا يأخذون من الرشى على الحكم ، كما وصفهم الله به في قوله : ( وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ) [ سورة المائدة : 62 ] . وكان من أكلهم أموال الناس بالباطل ، ما كانوا يأخذون من أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم ، ثم يقولون : "هذا من عند الله" ، وما أشبه ذلك من المآكل الخسيسة الخبيثة . فعاقبهم الله على جميع ذلك ، بتحريمه ما حرم عليهم من الطيبات التي كانت لهم حلالا قبل ذلك .

    وإنما وصفهم الله بأنهم أكلوا ما أكلوا من أموال الناس كذلك بالباطل ، لأنهم أكلوه بغير استحقاق ، وأخذوا أموالهم منهم بغير استيجاب .

    وقوله : " وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما " ، يعني : وجعلنا للكافرين بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من هؤلاء اليهود ، العذاب الأليم وهو الموجع من عذاب جهنم عنده ، يصلونها في الآخرة ، إذا وردوا على ربهم ، فيعاقبهم بها .
    [ ص: 393 ] القول في تأويل قوله ( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ( 162 ) )

    قال أبو جعفر : هذا من الله جل ثناؤه استثناء ، استثنى من أهل الكتاب من اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآيات التي مضت ، من قوله : " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " .

    ثم قال جل ثناؤه لعباده ، مبينا لهم حكم من قد هداه لدينه منهم ووفقه لرشده : ما كل أهل الكتاب صفتهم الصفة التي وصفت لكم ، " لكن الراسخون في العلم منهم " ، وهم الذين قد رسخوا في العلم بأحكام الله التي جاءت بها أنبياؤه ، وأتقنوا ذلك ، وعرفوا حقيقته .

    وقد بينا معنى"الرسوخ في العلم" ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

    "والمؤمنون" يعني : والمؤمنون بالله ورسله ، هم يؤمنون بالقرآن الذي أنزل الله إليك ، يا محمد ، وبالكتب التي أنزلها على من قبلك من الأنبياء والرسل ، ولا يسألونك كما سألك هؤلاء الجهلة منهم : أن تنزل عليهم كتابا من السماء ، لأنهم قد علموا بما قرءوا من كتب الله وأتتهم به أنبياؤهم ، أنك لله رسول ، واجب عليهم اتباعك ، لا يسعهم غير ذلك ، فلا حاجة بهم إلى أن يسألوك آية معجزة ولا دلالة غير الذي قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم من إخبار أنبيائهم إياهم [ ص: 394 ] بذلك ، وبما أعطيتك من الأدلة على نبوتك ، فهم لذلك من علمهم ورسوخهم فيه ، يؤمنون بك وبما أنزل إليك من الكتاب ، وبما أنزل من قبلك من سائر الكتب ، كما : -

    10836 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " ، استثنى الله أثبية من أهل الكتاب ، وكان منهم من يؤمن بالله وما أنزل عليهم ، وما أنزل على نبي الله ، يؤمنون به ويصدقون ، ويعلمون أنه الحق من ربهم .

    ثم اختلف في"المقيمين الصلاة" ، أهم الراسخون في العلم ، أم هم غيرهم ؟ .

    فقال بعضهم : هم هم .

    ثم اختلف قائلو ذلك في سبب مخالفة إعرابهم إعراب"الراسخون في العلم" وهما من صفة نوع من الناس .

    فقال بعضهم : ذلك غلط من الكاتب ، وإنما هو : لكن الراسخون في العلم منهم والمقيمون الصلاة .

    ذكر من قال ذلك :

    10837 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن الزبير قال : قلت لأبان بن عثمان بن عفان : ما شأنها كتبت : [ ص: 395 ] " لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة" ؟ قال : إن الكاتب لما كتب : "لكن الراسخون في العلم منهم" ، حتى إذا بلغ قال : ما أكتب ؟ قيل له : اكتب : "والمقيمين الصلاة" ، فكتب ما قيل له .

    10838 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أنه سأل عائشة عن قوله : " والمقيمين الصلاة " ، وعن قوله : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ) [ سورة المائدة : 69 ] ، وعن قوله : ( إن هذان لساحران ) [ سورة طه : 63 ] ، فقالت : يا ابن أختي ، هذا عمل الكاتب ، أخطئوا في الكتاب .

    وذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود : ( والمقيمون الصلاة ) .

    وقال آخرون ، وهو قول بعض نحويي الكوفة والبصرة : "والمقيمون الصلاة" ، من صفة"الراسخين في العلم" ، ولكن الكلام لما تطاول ، واعترض بين"الراسخين في العلم" ، "والمقيمين الصلاة" ما اعترض من الكلام فطال ، نصب"المقيمين" على وجه المدح . قالوا : والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد ونعته ، إذا تطاولت بمدح أو ذم ، خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه أحيانا ، ثم رجعوا بآخره إلى إعراب أوله . وربما أجروا إعراب آخره على إعراب أوسطه . وربما أجروا ذلك على نوع واحد من الإعراب . واستشهدوا لقولهم ذلك بالآيات التي ذكرتها في قوله : ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء ) [ سورة البقرة : 177 ] .




الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •