تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 17 من 17

الموضوع: السنن الإلهية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي السنن الإلهية

    السنن الإلهية (1)


    صاحبي خريج علوم سياسية، ومتابع للمحللين السياسيين في كثير من القنوات العربية والأجنبية، ويقارن، وينتقد، ويبدي آراءه وتوقعاته في القادم من الأحداث. - هل تعلم ما الذي ينقص المتخصصين في العلوم السياسية؟ - كلا، نورنا بما لديك. - ينقصهم العلم الشرعي في السنن الإلهية. استغرب صاحبي.
    - وما علاقة السنن الإلهية بالعلوم السياسية؟! - هذا ما أردت بيانه، ذلك أن كثيرا من المسلمين لا يعرف السنن الإلهية ولا يتعلمها، بل ربما يغفل وجودها رغم أن الكون كله، يسير وفق السنن الإلهية، تظهر أمم وتختفي أخرى وفق السنن الإلهية، وربما يسعد الفرد ويشقى، ويعز ويذل، وفق السنن الإلهية.
    بقي صاحبي منصتا، كأنه يسمع أحجية غريبة، تابعت حديثي: - كلنا نقرأ كتاب الله -تعالى-: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب:62)، {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} (الإسراء:77)، {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر:44).
    وآيات أخرى تبين أن لله -عز وجل- سننا، وهذه السنن، -ولك أن تسميها قوانين، وقواعد، في الأمم والأفراد، والكون- ثابتة مستغرقة، لا تتبدل ولا تتحول ولا تتوقف، وهي بلا شك أثبت من النظريات البشرية في السياسة والاقتصاد. كنت وصاحبي في جلسة هادئة، مساء الأربعاء بعد صلاة العشاء أخذنا مجلسا خارجيا في أحد المقاهي المطلة على البحر. - ولماذا لا يتحدث العلماء عن هذه السنن وينشرونها لعامة الناس حتى يتفقه الناس بها، ويتعلموها، ولاسيما أصحاب الاختصا؟. - أما أصحاب الاختصاص فإنهم يكتفون بالنظريات العلمية التي درسوها والأوراق العلمية التي تنشر، ولا ينظرون للشريعة الإسلامية أنها من الممكن أن تمدهم بشيء في تخصصاتهم السياسية أو الاقتصادية، قصروا الشريعة على العبادة، وأما عامة الناس فينظرون إلى السنن الإلهية إلى أنها من نافلة العلم، ولا يحتاجون إليها في حياتهم اليومية، مع أنها جزء من عقيدة المسلم.
    - كيف هي جزء من عقيدة المسلم؟ - إن السنن الإلهية تبين القواعد التي وضعها الله لكل شيء في الكون والأمم والأفراد، تبين عظمة الله -عز وجل-، وحكمة الله -عز وجل- اقتضت وضع هذه القوانين، وكل شيء يحدث وفق هذه القوانين، فهي قوانين إلهية ثابتة منذ خلق الله الكون وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وإذا عرف العبد هذه القوانين، فإنه يطمئن إلى وعد الله، إن كان مظلوما، يعلم أن الله سينصره، وإن كان وقع له كيد سيئ، يعلم أن الكيد سيرجع على أهله، إن كان رزقه حلالا، يعلم أن الله سيزيده، وهكذا في الأفراد، وفي الأمم.
    والعالِم يعلم بسنن الله، متى وكيف يأتي نصر الله؟ ومتى تعز الأمة؟ ومتى يتخلف نصر الله؟ ومتى تسقط الأمة؟ ولا يغتر، بما يظهر بأنه خلاف سنة الله، وذلك أن وعد الله حق، والله لا يخلف الميعاد، فالعالم بهذه السنن مع بعض العلوم الدنيوية، في الاقتصاد والسياسة، يستطيع أن يستقرأ المستقبل ويرسم خارطة طريق للأمة حتى تنهض وتستقر وتتمكن في الأرض.
    - بصراحة، الكلام جميل، ولكن أشعر أنه نظري، وأقرب إلى الخيال! - لا تقل هذه الكلام، لمجرد أنك لم تطلع على سنن الله ولم تدرس الشريعة، هذه حقائق أثبت من النظريات السياسية والاقتصادية؛ فمشكلة كثير من الناس أنهم لا يؤمنون بهذه السنن؛ لأنهم لا يرونها تقع أمام أعينهم، وذلك أن سنن الله لا تقاس بأعمار البشر، بل بأيام الله -عز وجل-:
    {وَيَسْتعجلونك بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج:٤٧)، فمن أراد أن يعرف سنن الله فلينظر على امتداد آلاف السنين؛ لذلك يقول الله -تعالى-: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (آل عمران:137)، سنن الله ماضية في المؤمنين والكافرين والمكذبين والظالمين، لا تتخلف أبدا، وينبهنا الله -عز وجل- إلى مصير الأمم السابقة، والذي يريد معرفة سنن الله في دمار الحضارات، وازدهارها، ينظر على مدى آلاف السنين، لا عشرات ومئات السنين فحسب، وهذا الأمر، أعني أن سنن الله تقع في فترات زمنية طويلة تجعل الغافل لا ينتبه لها، بل ربما يهملها تماما، إذا لم تكن لديه خلفية في العقيدة.
    - استدرك على صاحبي: - نحن نقرأ في كتب التاريخ مثل كتب ابن خلدون وغيره، ولدينا قاعدة (بأن التاريخ يعيد نفسه)، ولم يخطر ببالي فكرة (السنن الإلهية). - مقولة (التاريخ يعيد نفسه) خطأ، والصواب (أن التاريخ يعيده الله)، فهو الأحداث التي تحدث وفق قوانين ثابتة وضعها الله -عز جل- اسمها (السنن الإلهية)، ثابتة لا تتغير، مستغرقة، لا تختلف، دائمة لا تتوقف، شاملة لا تستثني، هذه هي سنن الله -عز وجل-، من عرفها كان علمه حقا ثابتا، ومن غفل عنها، إنما تخبط خبط عشواء في تحليله واستقرائه.



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (2)


    في زيارة قصيرة إلى الرياض، عاصمة المملكة، استقبلني صاحبي في المطار، وكعادته لم يترك لي المجال أن أنزل إلا في بيته، وهكذا اعتدنا منذ أكثر من خمس عشرة سنة، إذا زار الكويت فمكانه منزلي وإذا زرت الرياض مكاني منزله، وصلت بين صلاة العصر والمغرب، وكنت قد جمعت صلاتي الظهر والعصر قبل الصعود للطائرة. - سوف تتفاجأ وتنبهر لما ستراه من تغير في مدينتنا.
    - إيجابا أم سلبا؟ - لا يخلو أمر في الدنيا من هذين، ولكن أظن الإيجابيات أكثر من السلبيات، أخبرني عن آخر مشاريعك الكتابية؟ - انتهيت -بفضل الله- من (أعمال القلوب، والطاعات والذنوب)، وبدأت أكتب عن (السنن الإلهية).
    - ما شاء الله! اختيارك للعناوين جميل جدا، يلفت الانتباه، ويشوق القارئ لمعرفة المحتوى، لقد اطلعت على (أعمال القلوب)، من خلال موقعك على الشبكة العنكبوتية، واستمتعت بكثير من المواضيع بل واستفدت كثيرا. وماذا في (السنن الإلهية)؟ - سنن الله -سبحانه وتعالى- وقوانينه الثابتة في الكون، والأمم، والأفراد، قوانين العزة والتمكين، قوانين الهلاك والعذاب، قوانين النذر، قوانين الرزق، وهكذا، كانت الطريق سالكة، بالقرب من المطار، ولكنها أخذت في الازدحام كلما اقتربنا من مركز المدينة، وظهرت مشاريع البناء والطرق والمباني الجديدة.
    تابعنا حديثنا بعد التعليق على هذه المشاريع وتفاصيلها. - ولماذا سميتها (سنن إلهية) وليس (سنن ربانية)؟ - الله -سبحانه وتعالى- وصفها بذلك، يقول -تعالى-: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُون َ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب).
    ويقول -تعالى-: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الفتح).
    ويقول -تعالى-: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّون َكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} (الإسراء).
    ويقول -عز وجل-: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر). قاطعني (أبو محمد).
    - إن لم تخني الذاكرة، كلمة سنة، تكتب في المصحف بتاء مفتوحة وتاء مربوطة، هل من سبب لذلك؟ مع أنها في الإملاء ينبغي أن تكون بتاء مربوطة.
    - أحسنت أبا محمد، نعم لقد لفت نظري هذا الأمر منذ فترة، وبحثته في الكتب التي تناولت الرسم العثماني للقرآن، وإن لم تخني الذاكرة هناك ثلاث عشرة كلمة وردت بهذا الشكل، وهي: (رحمة - رحمت) (نعمة - نعمت) (سنة - سنت) (امرأة- امرأت) (ابنة - ابنت) (لعنة - لعنت) (شجرة - شجرت) (جنة - جنت) (معصية - معصيت) (فطرة - فطرت) (قرة - قرت) (بقية -بقيت) (كلمة - كلمت).
    والسبب -كما قال أهل الاختصاص-: إن التاء المربوطة تأتي إذا كان الأمر عاما ولا يتعلق بمخصوص، وتأتي بالتاء المفتوحة إذا كانت مرتبطة بشخص أو فئة، أو مكان أو حدث محدد، ودعني أوضح لك بأمثلة.
    قوله -تعالى-: {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه} (الزمر:53)، شاملة عامة لجميع الذين أسرفوا، بل للبشر جميعا، وقوله -تعالى-: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (هود:73)، جاءت لإبراهيم وزوجه عندما بشر بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب -عليهم السلام-، فهذه خاصة بهم، ولو رجعنا إلى موضوعنا، (سنة الله)، تأتي بالتاء المربوطة، إذا كانت عامة، لا تحدد فئة، كما في قوله -تعالى-: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب)، وتأتي بالتاء المفتوحة إذا كانت في فئة: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر:43)، هذه خاصة بعذاب أهل المكر السيء.
    ووردت (سنت) بالتاء المفتوحة خمس مرات في كتاب الله. - أول مرة أعرف هذه المعلومة الدقيقة عن رسم القرآن. - علوم القرآن لا يحيط بها أحد، وإنما يجتهد العلماء في دراستها وفهمها وشرحها، هذا كلام الله -عز وجل-، المعجزة، الحجة على البشر جميعا، بكل ما فيه من أخبار، ووعد، ووعيد، وبيان، وهداية، بعد الرسل وآخرهم رسول الله محمد بن عبدالله -[-، حجة الله على الخلق، كتابه العزيز: {لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(فصلت:42).



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (3) قوانين ثابتة لا تتغير ولا تخطئ


    في اجتماعنا المعتاد بعد صلاة الجمعة، سألت صاحبي: - إلى أين وصلت في بحثك عن (السنن الإلهية)؟ اعتدل في جلسته. - الموضوع أهم مما كنت أعتقد، وأعمق مما كنت أظن، السنن الإلهية جزء مهم جدا في العقيدة، وفي معرفة ما يتعلق بالله -عز وجل-، وجزء لم يأخذ حقه عند المسلمين، لا ترى العلماء يلقون المحاضرات العامة في هذا الموضوع، ولا تجد التركيز عليه في خطب الجمعة أو الدورات الإسلامية أو حلقات المساجد، مع أن له ارتباطا مباشرا بمصير الأفراد والأمم، من عزة وذل، ورفعة وتمكين ونصر، ورزق ورغد عيش وأمان، وبقاء وهلاك، وكذلك بالنسبة للأفراد، استغربت حماس صاحبي، وتركيزه في كلامه! - السنن الإلهية تعطي نتائج يقينية أشبه بالمعادلات الرياضية والفيزيائية وربما أدق، فيمكنك معرفة الضرر قبل وقوعه، فتجتنبه، ويمكن معرفة الهزيمة قبل حدوثها، فتتفاداها، ويمكنك معرفة الهلاك قبل تحققه فتمنعه، ذلك أن سسن الله ترتكز على السببية والتعليل والشرط والجزاء. قاطعته: - هذه الجملة الأخيرة تحتاج مزيدا من التفصيل: - السنن الإلهية جعلت لكل شيء سببا، فلا شيء يحدث عبثا أو دون أسباب، وموقف البشر من الأسباب والمسببات يكون شركا، أو عبودية، أو عبثا وإليك التفصيل.
    أما المؤمن، فيبذل الأسباب ولا يتعلق بها، وإنما يتعلق قلبه بالله بعد بذل الأسباب، وهذه هي العبودية الصحيحة. والمشرك يتعلق بالأسباب دون النظر إلى المسبب، ويظن أن الأسباب تؤدي إلى النتائج، بصرف النظر فهو لا يؤمن بأن الله هو الذي يأتي بالنتائج. والثالث، يترك الأسباب ويضع الحبل على الغارب وينتظر النتائج، وهذا عبث وقدح في العقل والشرع، ويمكن تلخيص هذه القاعدة بقول النبي -[-: «اعقلها وتوكل»، صحيح الترمذي (اعقلها) بذل الأسباب، و(توكل)، تعلق القلب بالله لا بالأسباب. أعجبني شرح صاحبي! - أحسنت يا أبا عبدالله. ذكر صاحبي وضيفنا بالمكسرات والمرطبات الموجودة أمامهما.
    تابع صاحبي حديثه: - ولو تدبرنا كتاب الله، ويجب علينا أن نتدبره، لوجدنا أن الله -تبارك وتعالى- يذكر في آيات كثيرة: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (آل عمران:137)، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} (النمل:69)، وهذا السير سواء كان حقيقيا أو اعتباريا هدفه النظر في عواقب الأمور، عاقبة المجرمين، عاقبة المكذبين، عاقبة الظالمين، عاقبة المفسدين، أمما كانوا أم أفراد، وذلك أن ما أصاب أؤلئك، سيصيب كل من سار على نهجهم، وارتكب خطأهم، هذه القوانين ثابتة نافذة، لا تحابي أحدا، ولا تتخلف عن أحد.
    ويصوغ العلماء ذلك بقولهم: إن الله «لا يفرق بين المتماثلات ولا يساوي بين المختلفات»، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين َ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم:35-36). {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِين َ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص:28)، {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} (القمر:43).
    {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن:60). {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} (ق:14)، وذلك بعد أن ذكر قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعادا وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع.
    أخذ صاحبي رشفة ماء واسترخى قليلا مسندا ظهره. - وهل هذه السنن، أو القوانين، يسير بها الكون، أعني الشمس والقمر، والأجرام السماوية، وغيرها؟ - نعم، وهناك تفصيل في هذا الأمر، سنن الله في الكون قهرية، لا دخل لأحد فيها: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس:40)، ولا يمنع نظامها إلا الله -عز وجل-؛ لإظهار معجزة أو نهاية العالم، فالنار تحرق، هكذا خلقت، أوقف الله هذه السنة لأجل (إبراهيم) -عليه السلام-، فجعلها بردا وسلاما، والشمس تشرق كل يوم من المشرق، وستبقى كذلك إلى أن يشاء الله ليوم القيامة، تطلع من المغرب، والعبد لا يبني حياته على المعجزات، بل على الأسباب والمسببات، هذه السنن الكونية وضعها الله -عز وجل-؛ لتستقيم حياة البشر جميعا، أما السنن والقوانين المتعلقة بالبشر، فإنها متعلقة بالأسباب وإرادة الإنسان، بمعنى افعل كذا، يحصل كذا، وذلك أن البشر لهم إرادة واختيار أما الكون فلا، الشمس والقمر والنجوم مسخرات مأمورات لا إرادة لهن ولا اختيار.
    وسنن الله في البشر مبنية على وعده ووعيده وأمره ونهيه -سبحانه وتعالى-، فالعبد المؤمن على يقين بأن الله لا يهلك أمة وأهلها مصلحون. هذه قاعدة وردت في قوله الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}(هود :117).
    والعبد المؤمن على يقين أن التمكين في الأرض يكون بأسباب، والنصر يكون بأسباب، والعزة تكون بأسباب، وكذلك الخذلان يكون لأسباب، والذلة تكون لأسباب، وهذه الأسباب هي اختيار الأفراد والأمم، وسنن الله تجري على الجميع.
    - سؤال أخير، هل هذه الأمة أعني أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - تميزت عن غيرها بشيء؟ - نعم بشيء واحد لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها -أو قال من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا» (مسلم).



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (4) في القرآن


    صاحبي متخصص في علوم اللغة، أستمتع بحديثه إذا شرح آية من كتاب الله -عز وجل-، قد تستمع إليه لأكثر من خمسين دقيقة وهو يتناول تفسير (سورة الكوثر)، ثلاث آيات فقط! اجتمعنا في المكتبة، الرواد الدائمون للمسجد، بعد صلاة العصر، وكنا صياما، بدأ الدكتور زياد حديثه.
    - القرآن كتاب الله -عز وجل-، فيه الهدى والبيان، لكل ما يحتاجه العبد، فصّل ما يحتاج إلى تفصيل، وأوجز ما لا حاجة إلى زيادة بيان، في العقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق، والعلاقات البشرية، كتاب كامل لا نقص فيه ولا عيب ولا زيغ، كما قال -تعالى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (النحل:89). أخذ المصحف الذي كان أمامه، وقد وضع فيه قصاصات ليصل إلى الآيات التي يريد الاستشهاد بها.
    - لو تتبعنا مادة (السنن) في كتاب الله، لوجدناها ترد في سياقين {سنة الأولين} (الأنفال:38 - الحجر:3- الكهف:55- فاطر:43)، و{سنة الله} (الإسراء:77- الأحزاب:62- فاطر:43- الفتح:23)، وكلام التعبيرين مترادفان؛ لأنهما يشيران إلى ما أنزل الله من العذاب بالأمم السابقة، ممن كذبوا أو استهزؤوا بالأنبياء، ولو تتبعنا بدقة كلمة (سنة)، لوجدنا أن هذا اللفظ ورد في ستة عشر موضعا، منها أربعة عشر موضعا بالإفراد، وموضع فيه بالجمع، وبتفصيل آخر، تسعة مواضع مضافة إلى الله -عز وجل- وموضع واحد مضاف إلى الرسل وأربعة مواضع مضافة إلى الأولين، وموضع واحد مضاف إلى (الذين من قبل)، وجاء في موضع واحد نكرة مجردا عن الإضافة بصيغة الجمع.
    قطع حديثه الجاد مازحا. - هل تتابعون الأرقام، حتى تتأكدوا أن المجموع ستة عشر أم أن الصيام أتعبكم وتريدون الاستماع دون تركيز؟! أجبته: - بل كنت أجمع الأرقام: (14+2) و(9+1+1+4+1). - كنت أمزح معكم، لنرجع إلى موضوعنا (سنن الله).
    - هذه الكلمة توزعت في عشر سور، خمس منها مكية، وهي: (الحجر والإسراء والكهف وفاطر وغافر)، وخمس مدنية، وهي: (آل عمران، والنساء، والأنفال، والأحزاب، والفتح)، وهي الآيات التي وضعت القصاصات عندها في هذا المصحف. ولو أردنا أن نلخص محور هذه الآيات يمكن أن نقول: إنها أخبار عن نهوض الأمم وسقوطها، وربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالنتائح بطريقة أشبه ما يكون بالمعادلات الرياضية التي تحكم عالم المادة، هذه الآيات تحض المؤمنين على السير في الأرض -سيرا حسيا أو معنويا، للتفكر في أحوال هذه الأمم، وفيها حض للتفكر وإعمال العقل، ليلتفت إلى السنن التي توجه الأحداث. وغاية هذه الآيات الإيمان بالسنن الإلهية والعمل بمقتضاها، أفرادا ومجتمعات وأمما، وإليكم بعض الآيات، وأنصح بقراءة تفسيرها: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} (الأنفال:38).
    {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} (فاطر). {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّون َكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلً} (الإسراء). {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب).
    {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُون َ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلً} (الأحزاب). {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلً} (الفتح). {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } (آل عمران).
    {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء). ومن الآيات التي ذكرت سننا إلهية دون استخدام (سنن): {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران:160). {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم:7).
    {لَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج). {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة:21). وغيرها كثير في كتاب الله فلنتدبرها.



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (5)

    كألف سنة مما تعدون



    صاحبي من محبي السفر بالمركبة، لدى (صندوق السفر)، يحتوي على كل ما يحتاجه للطريق، متقاعد غير مرتبط بأي شيء، يتخذ قرار السفر آنيا، مجرد أن يجد من يرافقه، وبالطبع لديه المرافق الدائم (أبو أحمد).
    - بعد عمرتنا الآخرة، ذهبنا إلى مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، صلينا الظهر في مسجد قباء، ثم العصر والمغرب والعشاء والفجر في المسجد النبوي، بعد الإفطار اقترح علي صاحبي، أن نرى مدينة «العلا»، لكثرة ما تذكر هذه الأيام، وبالفعل توكلنا على الله، بعد أن أخذنا الأسباب، وعرفنا المسافة والطريق، المسافة قريبة، ثلاثمائة كيلو مترا، قطعنا بساعتين ونصف الساعة، مدينة فيها الكثير من الآثار والتضاريس الجبلية الجميلة، زرنا متحف مرايا ومجمع الفريد الذهبي، وقررنا المبيت في (باينان ترى العلا)، في اليوم التالي، زرنا السوق الشعبي بالعلا القديمة، وجبل الفيل، ومحطة سكة حديد الحجاز، وبعدها ديار ثمود قوم صالح.
    - وماذا رأيتم في ديار ثمود قوم صالح؟ كان صاحبي يحدثني باستمتاع؛ لأنها المرة الأولى التي يرى فيها ديار ثمود، ويظن أنه رأى الجبل الذي خرجت منه الناقة.
    - قضينا أربع ساعات نتجول في هذه المناطق، ونرى كيف أصبحت بعد أن كانت مركزا لحضارة عظيمة يوما ما. عقبت على شرح صاحبي المسهب. - يقول الله -تعالى-: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُو نَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج:45-47).
    في تفسير هذه الآيات: {كأين} عدد كبير من القرى الظالمة أهلكها الله، وهذه سنة من سنن الله في خلقه، إهلاك القرى الظالمة، وإبقاء القرى المصلحة.
    {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:117)، وهذه السنة الإلهية لا يلتفت إليها الناس؛ لأنها تقع على مدى زمني طويل يمتد لمئات السنين فلا يراها الفرد، ولكن يراها من يتدبر التاريخ الممتد، وقوله -تعالى-: {أفلم يسيروا في الأرض}، أمر بالسير الحسي أو المعنوي، ولكن ينبغي أن يكون سيرا بقلوب تعقل وآذان تسمع، وإلا فإنهم لن يعتبروا بهذا المسير، وذلك أن هذه السنة (إهلاك الأمة الظالمة)، -ولاسيما إذا كان ظلمها الكفر بأنبياء الله- سنة ماضية إلى يوم القيامة، ولذلك ختم الله هذه الآيات بقوله: {ويستعجلونك بالعذاب}، والله -عز وجل- (حليم) لا ينزل عذابه لأجل عناد الظالمين، كما قال -تعالى-: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (الأنفال). وبين -سبحانه- أن إهلاكه للأمم إنما يكون بأيام الله، التي هي كألف سنة مما يعد البشر.
    - هل هذه سنة دائمة وقانون ثابت لله -عز وجل- في الأمم الظالمة؟ - نعم، دون شك، هذه سنة إلهية لا تتوقف ولا تتبدل ولا تحابي أحدا، المرء قد يرى هلاك الظالمين (الأفراد)، كهلاك فرعون، وقارون، وأبي جهل، ونمرود، فتكون ميتتهم عبرة للظالمين جميعا، وآية لجميع الخلق، حتى لا يتطاول العبد على الله -عز وجل-، فيكون هلاكهم بعد خمسين سنة أو مئة أو أكثر، ولكن الظالم يهلكه الله، والقرية الظالمة يهلكها الله، ولا شك أن أعظم الظلم قتل الأنبياء والشرك بالله برد دعوتهم، كما في الحديث عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله -عز وجل- يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}» (متفق عليه).
    - بعض المفردات تحتاج إلى مزيد بيان، مثلا (خاوية على عروشها) (بئر معطلة) (قصر مشيد). (بئر معطلة)، نابعة الماء ولا ينتفع بها؛ لأن أهلها هلكوا، وقيل دفنت لهلاك أهلها. (قصر مشيد)، بناء مبني بالحجارة والجص، خلا من سكانه.



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (6) سنة الله في الرزق


    - في طريق رجوعي إلى البيت، فاجأتني حفرة لم أستطع تفاديها؛ مما أدى إلى إتلاف إطار مركبتي الخلفي، توقفت على جانب الطريق السريع، حمدت الله أن الأمر مر بسلام دون حادث مروري. بحثت في هاتفي وفيه أرقام طوارئ الماء والكهرباء وخدمة الطريق والأعطال الصحية والكهربائية وغيرها، الرقم الأول كان مفصولا عن الخدمة، والثاني لا يرد، والثالث خطأ، شاء الله أن تمر بي الشاحنة التي تنقل المركبات المتعطلة، ونسميها في الكويت (سطحة)، صاحبها يقودها دون تخطيط مسبق، ينتظر إلى أن يرزقه الله بمركبة متعطلة على قارعة الطريق.
    بعد أن استوت مركبتي على (السطحة)، وأخذت مكاني بجانب السائق، فتحت معه الحوار: - اتصلت قبل أن تصل بخمس جهات، لم أوفق معها، رد علي: - لقد كان مقدرا لك، أن تكون سببا لرزقي دون غيري، قالها مبتسما، أبو زياد، تابع حديثه: - للتو أنزلت مركبة وكنت في طريقي إلى مركز الانتظار، ورأيتك وسوف أوصلك إلى مكان تغيير الإطارات، ثم أمضي، واليوم هو آخر يوم عمل لي؛ حيث حجزت للسفر غدا لرؤية أبنائي الذين لم أرهم منذ أربع سنوات، لمشكلات إدارية بين الشركة والجهات الحكومية.
    - سهل الله لك أمرك، ورزقك وبارك لك. - عملنا فيه من التوكل على الله، ما لم أكن أدركه من قبل، أخرج في الصباح، ولا أعلم كم سأجني، أسعى في الطرقات، أنتظر رنة الهاتف، من الصباح الباكر إلى الساعة العاشرة ليلا، ربما أرتاح ساعة بعد صلاة الظهر، حين تزدحم الطرقات، أحيانا يمضي نصف اليوم دون أن أرزق بدينار واحد، وأحيانا لا أكاد أتوقف عن نقل مركبات متعطلة، وأجني أكثر من مئة دينار، في يوم واحد، أيقنت أن على العبد السعي، وعلى الله الرزق، كما قال -تعالى-: {وفي السماء رزقكم}. لم يكمل أبو زيادة الآية.
    - صدقت يحتاج العبد أن يذكر نفسه أن الرزق بيد الله وأن رزقه سيناله لا محالة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب؛ فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم» (صحيح ابن ماجه)، وفي الحديث عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله» (صحيح الجامع). قاطعني أبو زياد.
    - سبحان الله، هذه أول مرة أسمع هذا الحديث، فالجميع يعلم أن الأجل آت في موعده دون تقديم أو تأخير، الرزق أشد طلبا للعبد من رزقه؟ سبحان الله. - نعم، هو كذلك. قاطع أبو زياد تعليقه، وهو يناولني ورقة.
    - لو سمحت اكتب لي نص هذا الحديث. - فعلت، ووضع الورقة بجانبه.
    - سأطبع هذا الحديث وأعلقه أمامي.
    وإليك حديث آخر.
    عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أن ضيفا نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إلى أزواجه يبتغي عندهن طعاما لضيفه، فلم يجد عند واحدة منهن شيئا، فقال: «اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك فإنه لا يمكلها إلا أنت»، قال: فأهدي إليه شاة مصلية (مشوية)، فقال: «هذه من فضل الله ونحن ننتظر الرحمة» (السلسلة الصحيحة).
    - أحاديث جميلة تريح القلب، مع أن بعض زملائي في هذه المهنة، يتذمرون إذا مر يوم، ولم يجن ما كان يرجو من المال، وأنا أقول لهم دائما {وفي السماء رزقكم}.
    - هذه سنة الله في الرزق، أن العبد يبذل ما يستطيع في السعي لنيل الرزق الحلال، ويترك الأمر لله، موقنا بأن الله سيرزقه، فيكون بهذا المبدأ، يؤمن بأن الرزق مكتوب مقدر، قبل خلق السماوات والأرض، وأنه ينزل بأسبابه، فسنة الله قائمة على السببية والتعليل، وأن زيادة الرزق أو نقصانه إنما هو بحكمة الله -عز وجل-، كما قال -تعالى-: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (العنكبوت:62). وتذييل هذه الآية بقوله -سبحانه-: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، تغني العبد عن أي اعتراض.



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (4) في القرآن


    صاحبي متخصص في علوم اللغة، أستمتع بحديثه إذا شرح آية من كتاب الله -عز وجل-، قد تستمع إليه لأكثر من خمسين دقيقة وهو يتناول تفسير (سورة الكوثر)، ثلاث آيات فقط! اجتمعنا في المكتبة، الرواد الدائمون للمسجد، بعد صلاة العصر، وكنا صياما، بدأ الدكتور زياد حديثه.
    - القرآن كتاب الله -عز وجل-، فيه الهدى والبيان، لكل ما يحتاجه العبد، فصّل ما يحتاج إلى تفصيل، وأوجز ما لا حاجة إلى زيادة بيان، في العقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق، والعلاقات البشرية، كتاب كامل لا نقص فيه ولا عيب ولا زيغ، كما قال -تعالى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (النحل:89). أخذ المصحف الذي كان أمامه، وقد وضع فيه قصاصات ليصل إلى الآيات التي يريد الاستشهاد بها.
    - لو تتبعنا مادة (السنن) في كتاب الله، لوجدناها ترد في سياقين {سنة الأولين} (الأنفال:38 - الحجر:3- الكهف:55- فاطر:43)، و{سنة الله} (الإسراء:77- الأحزاب:62- فاطر:43- الفتح:23)، وكلام التعبيرين مترادفان؛ لأنهما يشيران إلى ما أنزل الله من العذاب بالأمم السابقة، ممن كذبوا أو استهزؤوا بالأنبياء، ولو تتبعنا بدقة كلمة (سنة)، لوجدنا أن هذا اللفظ ورد في ستة عشر موضعا، منها أربعة عشر موضعا بالإفراد، وموضع فيه بالجمع، وبتفصيل آخر، تسعة مواضع مضافة إلى الله -عز وجل- وموضع واحد مضاف إلى الرسل وأربعة مواضع مضافة إلى الأولين، وموضع واحد مضاف إلى (الذين من قبل)، وجاء في موضع واحد نكرة مجردا عن الإضافة بصيغة الجمع.
    قطع حديثه الجاد مازحا. - هل تتابعون الأرقام، حتى تتأكدوا أن المجموع ستة عشر أم أن الصيام أتعبكم وتريدون الاستماع دون تركيز؟! أجبته: - بل كنت أجمع الأرقام: (14+2) و(9+1+1+4+1). - كنت أمزح معكم، لنرجع إلى موضوعنا (سنن الله).
    - هذه الكلمة توزعت في عشر سور، خمس منها مكية، وهي: (الحجر والإسراء والكهف وفاطر وغافر)، وخمس مدنية، وهي: (آل عمران، والنساء، والأنفال، والأحزاب، والفتح)، وهي الآيات التي وضعت القصاصات عندها في هذا المصحف.
    ولو أردنا أن نلخص محور هذه الآيات يمكن أن نقول: إنها أخبار عن نهوض الأمم وسقوطها، وربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالنتائح بطريقة أشبه ما يكون بالمعادلات الرياضية التي تحكم عالم المادة، هذه الآيات تحض المؤمنين على السير في الأرض -سيرا حسيا أو معنويا، للتفكر في أحوال هذه الأمم، وفيها حض للتفكر وإعمال العقل، ليلتفت إلى السنن التي توجه الأحداث.
    وغاية هذه الآيات الإيمان بالسنن الإلهية والعمل بمقتضاها، أفرادا ومجتمعات وأمما، وإليكم بعض الآيات، وأنصح بقراءة تفسيرها: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} (الأنفال:38).
    {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} (فاطر).
    {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّون َكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلً} (الإسراء).
    {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب).
    {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُون َ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلً} (الأحزاب).
    {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلً} (الفتح). {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } (آل عمران). {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء).
    ومن الآيات التي ذكرت سننا إلهية دون استخدام (سنن): {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران:160). {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم:7).
    {لَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج).
    {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة:21).
    وغيرها كثير في كتاب الله فلنتدبرها.



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (8) سنة التغيير


    - يقول -تعالى-: {لهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد:11)، ويقول -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال:53).
    هذه سنة أخرى من سنن الله في الأفراد والمجتمعات، (قانون التغيير)، كان محدثنا أحد طلبة العلم، حديث التخرج من الجامعة الإسلامية في المدينة، حصل على الدكتوراه بأطروحة عنوانها: (سنن الله في كتاب الله)، لم يكن الحضور كثيرا، ربما مئة أو أقل، وذلك أن المحتوى علمي، والحضور من طلبة الشيخ في المعهد.
    تابع الشيخ حديثه. - التغيير هو الانتقال من حال إلى حال، وهذا يشمل الأفراد والأمم وآية الرعد وردت في معرض التحذير والتهديد، وذلك يشمل تغيير العز إلى ذل، والتمكين إلى التشريد، والرخاء إلى شقاء، والخوف إلى أمن، والقلق إلى اطمئنان، إذا أراد العبد أن يغير الله حاله، لابد أن يتغير، والآية فيها تهديد للكفار، ألا يسترسلوا في غيهم، ويقولوا: «إذا رأينا العذاب آمنا»؛ فإن عذاب الله إذا جاء (فلا مرد له)، وهذا كقوله -عز وجل-: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُم ْ إِلَى حِينٍ} (يونس:98)، وهذه الآية حجة على من كان على ضلال، بزعم أن الله لو هداني لاهتديت، كما قال الله -عز وجل- عن المشركين: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} (إبراهيم:21).
    فالعبد الذي يريد الهداية يبذل أسبابها، وسيهديه الله، ومن كان على ضلال، يجب أن يغير حاله، حتى يغيره الله، فالبداءة من العبد، والتوفيق بعد ذلك من الله، كما في الحديث: «ومن تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة..» (البخاري)، وهكذا الأمم، إن كانت بعيدة عن الله، فإن الله يتركها على ما هي فيه بعد أن يقيم عليها الحجة، سابقا، بإرسال الرسل، والآن الحجة قائمة، بكتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فالأمة التي تريد أن يتغير حالها من الذل إلى العزة، يجب أن تتغير إلى ما يريد الله -تعالى-، والتي تريد الأمن والاستقرار بعد الخوف والتشرذم، يجب أن تتغير حتى يغير الله حالها، وهكذا هذه سنة كونية نافذة: (من أراد تغيير حاله، يجب أن يبدأ بالتغيير في ذاته).
    أما آية سورة الأنفال، فقد وردت في معرض بيان حال النعمة وأتت هذه الآية بعد ذكر مصير آل فرعون والذين من قبلهم، يقول -تعالى-: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (آل عمران:11)، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الآنفال:53)، ثم ذكر آل فرعون: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُ م بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} (الآنفال:54)؛ فهي آية بين آيتين عن آل فرعون والذين كفروا. في التفسير: «وأن قوم فرعون والذين من قبلهم كانوا من جملة الأقوام الذين أنعم الله عليهم، فتسببوا بأنفسهم في زوال النعمة، كما قال -تعالى-: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (القصص:58)، وهذا إنذار لقريش، يحل بهم ما حل بغيرهم من الأمم الذين بطروا النعمة» (التحرير والتنوير) وفي تفسير السعدي.
    {ذلك} العذاب الذي أوقعه الله بالأمم المكذبين، وأزال عنهم ما هم فيه من النعم والنعيم، بسبب ذنوبهم وتغييرهم ما بأنفسهم، فإن الله لم يكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم من نعم الدين والدنيا، بل يبقيها ويزيدهم منها، إن ازدادوا له شكرا، {حتى يغيروا ما بأنفسهم} من الطاعة إلى المعصية فيكفروا نعمة الله ويبدلوها كفرا، فيسلبهم إياها ويغيرها عليهم كما غيروا ما بأنفسهم.
    ولله الحكمة في ذلك والعدل والإحسان إلى عباده؛ حيث لم يعاقبهم إلا بظلمهم؛ وحيث جذب قلوب أوليائه إليه، بما يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره.
    {وأن الله سميع عليم} يسمع جميع ما نطق به الناطقون، سواء من أسر القول ومن جهر به، ويعلم ما تنطوي عليه الضمائر، وتخفيه السرائر، فيجري على عباده من الأقدار ما اقتضاه علمه وجرت به مشيئته.



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (9) الأسباب والمسببات


    - نعم، الله قادر على أن يرزقك مليون دينار، وبين يوم وليلة تصبح ثريا واسع الثراء، تملك كل ما يخطر على بالك، ولكن أفعال الله -عز وجل- ليست عشوائية، فهو الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه الصحيح، العليم الذي يفعل كل شيء وفق علم محيط بكل شيء؛ ولذلك جعل لكل أحداث الحياة أسبابا، خلق قانون الأسباب والمسببات، مع تذكيره عباده ألا ينسوا الله، وهم يتعاملون مع هذا القانون. أخي الأصغر (جابر) يحلم بأمور كثيرة، أصفها بأنها مجرد (أماني)، أحلامه تتطلب أمورا كثيرة لا يملكها، ولا يملك الجهد ليبذله من أجل تحصيلها.
    - الماديون يؤمنون بالأسباب والمسببات مطلقا، بمعنى تفعل كذا يحصل كذا، وهذه النظرة المادية، يجب أن تكون عند المؤمن، مع إضافة الاستعانة بالله والتوكل عليه لتحقيق الأهداف، مثلا: إذا اجتمعت ظروف معينة، يتكون السحاب في السماء، وإذا أضيفت لها ظروف أخرى، نزل المطر، ولكن وراء كل ذلك، إرادة الله، كما قال -تعالى-: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} (فاطر:9)، ويقول -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف:57). كان (جابر) ينصت إنصات التلميذ الذي يحاول أن يفهم شرح الدروس من معلمه.
    - فالإنسان يتعلم هذه الأسباب حتى يتمكن بتنبؤ الأحوال الجوية، وعلم البشر محدود، مهما تقدموا؛ فالله -عز وجل- يعلم بسقوط كل قطرة ماء، متى وكيف؟ ولله المثل الأعلى، فعلم الأرصاد الجوية ليس من علم الغيب، وإنما من الأسباب والمسببات، وكلما عرف البشر تفاصيل الأسباب كان تنبؤهم أدق.
    - دعنا من الظواهر الكونية، نعلم أنها كلها أسباب ومسببات من عند الله، الليل والنهار، الصيف والشتاء، الشمس والقمر، ماذا عن الأمور التي تخص البشر؟ الرزق مثلا.
    - الأهم من الرزق، الهداية، وذلك أن كثيرا من الناس يحتج بآيات من كتاب الله بأن الهداية من الله، ولا دخل للإنسان فيها، وهذا خطأ فادح، وذلك: «أن من طلب الهداية بصدق وبذل أسبابها الصحيحة، ينال الهداية»، بتوفيق الله مع بالأسباب.
    قاطعني: - ولكن آيات كثيرة، عن كتاب الله ورد فيها: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (البقرة:272). {لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (النور:46).
    أخذ صاحبي يبحث في هاتفه، وهذه آيات أخرى: {إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (فاطر:8). {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} (المدثر:31).
    {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (إبراهيم:4). استوقفته.. - هذه الآيات وغيرها التي تذكر مشيئة الله، (من يشاء)، تحمل على مشيئة الله (ليست عشوائية)، وضع عشرة خطوط تحت هذه (ليست عشوائية)، بل بحكمة وعلم ولطف ورحمة، العبد الذي يبذل أسباب الهداية، وهي الإخلاص والصدق واتباع الرسول وتطبيق أوامر الله، يهديه الله، والذي يعرض عن الصلاة والقرآن وأوامر الله، يتركه الله لما اختار، وهذا معنى (يضله الله)، أسباب الهداية، تؤدي للهداية، وأسباب الضلال تؤدي إلى الضلال، وهذه الآيات تشبه الآيات الأخرى التي تذكر مشيئة الله، مثل قوله -تعالى-: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة:40)، فهل يعذب الله الصالحين، المؤمنين، التائبين، كلا، وهل يغفر للمشركين، كلا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء:48). الله خلق الأسباب والمسببات، أمرنا أن نأخذ بها دون أن ننسى خالق الأسباب والمسببات، هذه هي العقيدة الصحيحة، أما التعلق المادي التام بالأسباب، فإنه إلحاد، وإن كان يؤدي إلى التقدم والرفعة والتمكن في الحياة الدنيا، وإما إلغاء الأسباب والمسببات والتقاعس، فإنه يؤدي إلى الهلاك والضلال والضياع في الدنيا والآخرة، كما قال الله -تعالى- عن المشركين: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}(الأ نعام:148).
    وكذلك: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النحل:35). خلاصة الأمر يا (أبا جراح)، أن الله جعل لهذا الكون وللمجتمعات وللأفراد قانونا وسنة إلهية هي الأسباب والمسببات، إذا توفرت الأسباب تحققت النتائج، في الظواهر الكونية، البشر يتعلمونها ليتأهلوا للاستعداد لما سيأتي، وفي المجتمعات والأفراد، ينبغي أن يأخذ المرء بالأسباب حتى يعيش كما يرضى الله، ويموت على ما يرضي الله، إن كان يريد الخير لنفسه ولمجتمعه.



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (10) سنة المدافعة


    في مجلس خاص جمعني وثلاثة من الأصدقاء القدامى، زملاء الدراسة في المرحلة الجامعية الأولى، طرحت موضوع السنن الإلهية.
    - هل تصنفه ضمن مواضيع العقيدة؟ - نعم، ولست أنا الذي يصنف، وإنما هكذا تكلم عنه العلماء المختصون؛ وذلك أنه يتعلق بالله -عز وجل-، سنن الله في الكون والأفراد والمجتمعات.
    - لا نسمع كثيرا من يتحدث عنه، ولا نرى كتبا تشرحه كما في أبواب العقيدة الأخرى، مثل التوحيد والشرك والأسماء والصفات والنفاق والتوسل والشفاعة، وغيرها.
    - أظنك أصبت يا (أبا فهد)، رغم أهمية الموضوع، من درسه حق دراسته يستطيع أن يستشرف النتائج قبل وقوعها، وإذا عرفها المؤمن يطمئن قلبه ويعلم أن الله -عز وجل- (بالغ أمره)، ويرى حكمة الله وعدله في البشر، دون محاباة، وذلك أن سنة الله ثابتة ومنها: عدم التفرقة بين المتماثلات وعدم التسوية بين المختلفات كما قال -تعالى-: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين }.
    كان مضيفنا هو أبو عبدالله (أنور)، وأبو عبدالله (علي) رابعنا، كان الحوار هادئا هادفا مفيدا، كعادتنا في هذه المجموعة. تدخل أبو فهد (عبدالرحمن): - أسمع عن سنة (التدافع)، ولم أبحث أو أقرأ عنها، فهل لك أن تبينها، إن كنت بحثتها؟ - نعم، (سنة التدافع) هي من قول الله -تعالى-: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251)، وتسمى (سنة المدافعة)، أو الصراع بين الحق والباطل، وهي سنة ماضية إلى يوم القيامة، تكون بالحجة والكلام والسلاح، وبكل أنواع المدافعة والصراع، يقول الله -تعالى-: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا} (الكهف:56)، وفعل المضارع (يجادل) يدل على الاستمرارية والدوام، ويذكر الله -عز وجل- نتيجة هذه المجادلة في الأمم السابقة في سورة غافر: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} (غافر:5).
    وفي سورة الحج يقول -تعالى-: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40).
    - دعوني أقرأ لكم ما ظهر لي في الهاتف بعد البحث وأنت تتناقشون. أخذ (أبو عبدالله) يقرأ من هاتفه: - في لسان العرب، الدفع: الإزالة بقوة، وتدافع القوم: دفع بعضهم بعضا، والمدافعة: المزاحمة، والاندفاع: المضي في الأمر، أما في سنن الله، التدافع بين الحق والباطل، لا بد منه لأنهما ضدان، والمقصود التدافع بين أهل الحق وأهل الباطل وذلك أن وجود أحدهما يستلزم إزالة الآخر؛ فلا يتصور أن يعيش أهل الحق وأهل الباطل في سلم من دون غلبة أحدهما على الآخر إلا لعلة، كضعف أصحابهما أو جهلهم أو ضعف تأثير علمهم عليهم.
    - كلام جميل! وهنا يجب أن نبين أن للباطل قوة، لذلك لا بد للحق من قوة تحميه وتنصره، كما قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَه َا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (الأنفال:36)، والحق لا ينتصر لمجرد أنه حق، بل يجب أن تكون له قوة مادية، وأسباب دنيوية تنصره على الباطل، فإذا بذل أهل الحق الأسباب، انتصروا وإلا فلا نصر، وقول الله - عز وجل-: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء:81)، هذا بعد بذل الأسباب، وليس من فراغ، كما في قوله -تعالى-: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء:18). في تفسير الزمخشري: «ومن سنة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق بكلماته أي بوحيه أو بقضائه».
    وفي التحرير والتنوير: معنى الآية: أنه لولا وقوع دفع بعض الناس بعضاً بتكوين الله وإيداعه قوة الدفع وبواعثه في الدافع لفسدت الأرض، أي من على الأرض، واختل نظام ما عليها، ذلك أن الله -تعالى- لما خلق الموجودات التي على الأرض من أجناس وأنواع وأصناف، خلقها قابلة للاضمحلال، وأودع في أفرادها سننا دلت على أن مراد الله بقاؤها إلى أمد أراده، ثم إنه -تعالى- جعل لكل نوع من الأنواع، أو فرد من الأفراد خصائص فيها منافع لغيره ولنفسه ليحرص كل على إبقاء الآخر، فهذا ناموس عام، وجعل الإنسان بما أودعه من العقل هو المهيمن على بقية الأنواع.
    وأعظم مظاهر هذا الدفاع هو الحروب؛ فبالحرب الجائرة يطلب المحارب غصب منافع غيره، وبالحرب العادلة ينتصف المحق من المبطل.
    والآية مسوقة مساق الامتنان، فلذلك قال -تعالى-: {لفسدت الأرض} لأنا لا نحب فساد الأرض؛ إذ في فسادها بمعنى فساد ما عليها اختلالُ نظامنا وذهاب أسباب سعادتنا، ولذلك عقبه بقوله: {ولكن الله ذو فضل على العالمين}.
    وأما قوله -تعالى-: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ هَدِّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ وصلوات ومساجد يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّه مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. اعتراض بين جملة {أذن للذين يقاتلون} (الحج: 39) إلخ، وبين قوله: {الذين إن مكناهم في الأرض} (الحج:41) إلخ، فلما تضمنت جملة: {أذن للذين يقاتلون} (الحج:39) إلخ، الإذن للمسلمين بدفاع المشركين عنهم أتبع ذلك ببيان الحكمة في هذا الإذن بالدفاع ، مع التنويه بهذا الدفاع ، والمتولين له بأنه دفاع عن الحق والدين ينتفع به جميع أهل أديان التوحيد من اليهود والنصارى والمسلمين، وليس هو دفاعاً لنفع المسلمين خاصة.



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (11) سنة الله في المكر والماكرين (قانون المكر)


    يصفني صاحبي بـ(البيتوني)، قلما تجدني خارج المنزل بعد صلاة العشاء، إلا لتلبية دعوة زفاف، أو قضاء حاجة ضرورية، أو مع الخواص بين فترة وأخرى.
    دعاني للعشاء بمناسبة منزله الجديد، كانت دعوة خاصة مع صديق مشترك بيننا، ورابع لم ألتقه من قبل (أبو وائل)، بعد التعارف والمعتاد من الأحاديث، سألني: - أنا من المتابعين لكتاباتك، وأكثر ما أحببت كلامك عن الأسماء والصفات؛ حيث كنت من المتخوفين من الخوض في هذا الباب؛ لأنه يتعلق بالله -عز وجل-، تعرف الشعور بأنك ترغب أن تتعلم وفي الوقت نفسه تخاف أن تقرأ شيئا وتفهمه بطريقة خطأ، فتوقف؟.. هكذا كان موقفي من هذا الباب، بصراحة.
    أعجبني صدق أبى وائل، مع أنني لم ألتقه من قبل، تابع حديثه، بينما كنا أنا وأبو أحمد وأبو سعد نستمع: - مثلا، قوله -تعالى-: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال:30)، وقوله -تعالى-: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (آل عمران:54)، كنت أتوقف عند هاتين الآيتين وأمثالها، و(أخاف) أن أقرأ تفسيرها، فأتركها وأؤمن بها، مع أن في النفس شيئا.
    سكت قليلا، ينتظر تعليقنا، كان مضيفنا (أبو أحمد)، أول المعلقين.
    - لقد اطلعت على ما قبل في هذه الآية، من سورة الأنفال، وذلك أن أولها: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
    في اللغة، المكر تدبر بالخفاء يفضي بالممكور به إلى ما لا يحب؛ فالكفار كانوا يخططون لأسر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قتله أو إخراجه خفية، والله محيط بما يعملون، وفي المقابل يأتي تدبير الله بحفظ نبيه ونجاته ويُسقَط في أيدي من أرادوا المكر به، فنسبة المكر لله، صفة مدح وثناء؛ لأنه يدبر لصالح أوليائه، وضد أعدائه، واستخدم اللفظ ذاته من باب المماثلة، ولا يمكر الله -عز وجل- إلا بمن يستحق ذلك؛ فهي صفة مقيدة بفئة محددة من أعداء الله.
    تدخلت هنا. - ولله -عز وجل- سنة نافذة، في المكر والماكرين، بمعنى قانون ثابت لا يتغير ويتعطل ولا يحابي، مجمل هذا القانون، {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (فاطر:43).
    طلب (أبو سعد) تفصيلا، تدخل مضيفنا.
    تابعت حديثي: - حتى نفهم الموضوع نبدأ بهاتين الآيتين وتمامهما: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر).
    وقوله -تعالى- في سورة الأنعام: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام:123). في هذه الآية يبين الله -عز وجل- أن (أكابر المجرمين) هم الذين يمكرون بالناس؛ وذلك حتى لا يظهر الحق، وحفاظا على رئاستهم ومكانتهم وجاههم وسلطانهم، كما يفعل (الملأ)، من كل قوم، ووردت كلمة (المكر) بتصريفاتها أربعا وأربعين مرة، في كتاب الله، وبتتبع الآيات نجد أن المكر وقع في الماضي، للأنبياء والصالحين، وسوف يقع دائما في المجتمعات، إلى يوم القيامة، ومكر الطغاة والظالمين بأهل الحق، ويرجع عليهم، دائما، وهذا (قانون إلهي)، {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} (النحل:26)، ويغفل هؤلاء الماكرون أن مكرهم مرصود، معلوم، ولكنهم لا يفقهون: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} (يونس:21)، فهو خزي لهم في الدنيا، وعذاب لهم يوم القيامة.
    {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر:10).
    قاطعني (أبو سعد): - أفهم من كلامك أن المكر يقوده (الأكابر) و(الملأ)، وعلية القوم الذين لهم القوة والسلطة والسطوة؟! - نعم، وذلك أنهم يريدون أن يخفوا ويغلفوا أذاهم وعذابهم للصالحين والمصالحين وأهل الحق، كما قال -تعالى-: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّه ُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (النمل:48-52)؛ فالأقوام الذين مكروا بالأنبياء أهلكهم الله، وجعلهم عبرة، وبعد ختام الأنبياء، من يمكر بأهل الحق والمصلحين من الناس، ينال جزاء مكره، (وكل مكر سيء يرجع على أهله) حتى بين عامة الأفراد! {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}! وهذه الآيات تبعث الطمأنينة في قلوب المؤمنين، أن أعداء الله يمكرون بأهل الحق، والله -عز وجل- يمكر بأعداء الحق، وشتان بين مكر الأفراد، ومكر الله، وهذا المحور يثبته الله بقوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال:30)، {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر:43)، فهو قانون ثابت نافذ إلى يوم القيامة، في تفسير المنار، للشيخ محمد رشيد رضا: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (آل عمران).
    {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} أي ومكر أولئك الذين أحس عيسى منهم الكفر به، فحاولوا قتله وأبطل الله مكرهم فلم ينجحوا فيه، وعبر عن ذلك بالمكر على طريق المشاكلة، كذا قال الجمهور.
    ولكن ورد في سورة الأعراف إضافة المكر إلى الله - تعالى - من غير مقابلة بكر الناس، قال: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، والمكر في الأصل: التدبير الخفي المفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسب، ولما كان الغالب أن يكون ذلك في السوء؛ لأن من يدبر للإنسان ما يسره وينفعه لا يكاد يحتاج إلى إخفاء تدبيره، غلب استعمال المكر في التدبير السيئ وإن كان في المكر الحسن والسيء جميعا قال -تعالى-: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، ووجه الحاجة إلى المكر الحسن أن من الناس من إذا علم بما يدبر له من الخير أفسد على الفاعل تدبيره جهله فيحتاج مربيه أو متولي شؤونه إلى أن يحتال عليه ويمكر به ليوصله إلى ما لا يصح أن يعرفه قبل الوصول؛ إذ يوجد في الماكرين الأشرار والأخيار والله خير الماكرين؛ فإن تدبيره الذي يخفى على عباده إنما يكون لإقامة سننه وإتمام حكمه، وكلها خير في نفسها، وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم.
    فالذين كانوا يمكرون السيئات لمقاومة إصلاح الرسل حرصا على رياستهم وفسقهم وفسادهم لم يكونوا يشعرون بأن عاقبة مكرهم تحيق بهم لجهلهم بسنن الله -تعالى- في خلقه، وهم جديرون بهذا الجهل، وأما قوله -تعالى-: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، فهو بيان حالتهم العامة الدائمة في معاملته - صلى الله عليه وسلم - هو ومن اتبعه من المؤمنين بعد التذكير بشر ما كان منها في مكة، ولذلك لم يقل: (ويمكرون بك) أي: وهكذا دأبهم معك، ومع من اتبعك من المؤمنين، يمكرون بكم ويمكر الله لكم بهم كما فعل من قبل؛ إذ أحبط مكرهم، وأخرج رسوله من بينهم إلى حيث مهد له في دار الهجرة، ووطن السلطان والقوة، {والله خير الماكرين}؛ لأن مكره نصر للحق، وإعزاز لأهله، وخذل للباطل، وإذلال لأهله، وإقامة للسنن، وإتمام للحكم، ومن الدعاء المرفوع: «وامكر لي ولا تمكر علي» (صحيح ابن ماجه).



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (12) سنة الابتلاء


    - هل لابد من ابتلاء المؤمن؟ ونزول المصائب عليه؟ - نعم، لا مفر من ذلك، وهذه سنة إلهية، وردت في كتاب الله -تعالى- وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم .
    كما قال -تعالى-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214)، وقال -تعالى-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:142).
    وقال -تعالى-: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } (العنكبوت:11)، أي يتحقق علم الله، ويظهر بتمييز المؤمنين عن المنافقين.
    وفي الحديث: عن مصعب بن سعد عن أبيه قال:« قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقه، خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة» (السلسلة الصحيحة).
    زميلي في العمل، من بلاد الشام، حاصل على الهوية الألمانية، والتحق بالعمل معنا منذ ثلاث سنوات، يناقشني بين فترة وأخرى في العقيدة.
    - لا أفهم هذه النقطة، المنطق يقول: إن أتباع الرسل يعيشون حياة طيبة هادئة، مريحة، والكفار ينبغي أن ينالوا الشقاء والتعب، هذا هو المنطق الذي يعيش عليه الغرب عموما.
    لم أستغرب منطقه، لطول عيشه في ألمانيا، وقلة علمه بقضايا العقيدة.
    - هذه فكرة بشرية، ينشرها بعض الناس لتجيب البشر بالتزام أوامر الله، سواء في النصرانية أو الإسلام، ولكنها فكرة لا تتفق والقوانين والسنن الإلهية التي وضعها الله لخلقه، والابتلاء لا يعني المصائب فحسب، بل يبدأ البلاء بمخالفة دواعي النفس والطبع، كالاستيقاظ لصلاة الفجر، والالتزام بأداء الصلوات في أوقاتها، وكذلك بالمرض، والخوف، كما قال -تعالى-: وَلَنَبْلُوَنَّ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة:١٥٥-١٥٧)، والعقيدة أن هذه الدنيا دار ابتلاء.
    قاطعني: - نعم دار ابتلاء، بمعنى دار اختبار وامتحان، ولكن ليس (دار مصائب).
    ابتسمت لمقولته: - الاختبار يكون بما شاء الله بالخير والشر وما يحب العبد وما يكره: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك:2)، ويقول -تعالى-: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء:35).
    بل مما يبتلي الله به عباده ما رزقهم من قدرات ذهنية أو بدنية أو مادية، ليتبين للناس مدى قيامهم بالواجبات فيما رزقهم الله -عز وجل-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام:١٦٥)، والابتلاء يكون للأفراد وللأمة، فالقانون الثابت أنه (لابد من الابتلاء)! يقول الله -تعالى-: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (آل عمران:١٨٦)، ويذكر الله لنا أمثلة كثيرة في كتابه، وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أنواع البلاء كما في قصة طالوت وجالوت: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة:249).
    بقي صاحبي منصتا، ثم علق: - دعني استوضح، هل ابتلاء المؤمنين يكون بالشدة أم بالرخاء؟! - الابتلاء يكون بكليهما، وربما يكون اختبار الرخاء أشد فتنة. كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قدم أبو عبيدة بن الجراح بمال من البحرين؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أبشروا وأملوا ما يسركم! فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» (متفق عليه).
    - ولكن الحديث الأول، حديث أشد الناس بلاء الأنبياء، يوحي بأن البلاء والمصائب والشدة تكون لأهل الدين.
    - نعم، هو كذلك، كما في حديث عن عبدالله بن مغفَّل - رضي الله عنه - قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله والله إني لأحبك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: انظر ماذا تقول؟ قال: والله إني لأحبك ثلاث مرات فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن البلايا أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه» (السلسلة الصحيحة).
    إن المصائب تزيد إيمان العبد وتعلقه بالله وترفع منزلته عند الله وتطهره من الذنوب والخطايا، بافتراض أنه يصبر على هذه المصائب، وهكذا كانت وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في بداية العدوة عندما اشتكوا له شدة ما يلاقون من كفار قريش، قالوا: «ألا تستنصر لنا؟»، ألا تدعو الله لنا؟ فجلس محمرا وجهه، فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثم يؤتى بالمنشار فيجعل على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون عظمه من لحم وعصب لا يصرفه ذلك عن دينه» (متفق عليه).
    وإليك ما جاء في تفسير بعض هذه الآيات من تفسير المنار: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:142)، كأنه يقول: قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحق فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا، ألا تصبرون مثلهم على المكاره، وتثبتون ثباتهم على الشدائد؟ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتنالوا رضوان الله -تعالى- من غير أن تفتنوا في سبيل الحق فتصبروا على ألم الفتنة وتؤذوا في الله فتصبروا على الإيذاء كما هي سنة الله -تعالى- في أنصار الحق وأهل الهداية في كل زمان؟ وقوله -عز وجل-: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران:140)، الكلام متصل بما قبله، والخطاب فيه لمن شهد وقعة (أحد) من المؤمنين فإنه -تعالى- أرشدهم في الآيات السابقة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يضعفوا أو يحزنوا، وبين لهم حكمة ما أصابهم وأنه منطبق على سنته في مداولة الأيام بين الناس وفي تمحيص أهل الحق بالشدائد، وفي ذلك من الهداية والإرشاد والتسلية ما يربي المؤمن على الصفات التي تنال بها الغلبة والسيادة بالحق، ثم بين لهم هذا أن سعادة الآخرة لا تنال أيضا إلا بالجهاد والصبر فهي كسعادة الدنيا بإقامة الحق والسيادة في الأرض فسنة الله فيهما واحدة فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214).



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (١٣) سنن الله في الظالمين



    ما حكم معرفة السنن الإلهية؟
    السنن الإلهية من فروض الكفاية، ولكن معرفتها تزيد المؤمن تعظيما لله واطمئنانا لوعده ويقينا بوعيده، وتيسر للعبد استشراف الأحداث قبل وقوعها، وذلك أن المقدمات تؤدي إلى نتائج محتومة، الماديون يتنبؤون بالنتائج بناء على معطيات مادية بحتة، أما المؤمن فهو أدق في معرفة الأحداث ونتائجها؛ لأنه أعلم بالقوانين الإلهية الثابتة والمطردة والشاملة لكل زمان ومكان ولكل الأمم والأفراد.

    صاحبي، كثير الأسئلة، يجب أن يعرف تفاصيل الأشياء، لا يكتفي بالعموميات، يزورني في المسجد مرة كل شهر بين المغرب والعشاء، أحاديثنا لا تخرج عن قضايا العقيدة والأحاديث النبوية، شرحا، وإسنادا.

    وما هي سنة الله في الظلم والظالمين؟
    أظنك تعرف الإجابة، ولكن دعني أذكر بعض آيات التي تبين هذه السنة الإلهية، يقول -تعالى-: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام:44-45)، ويقول -سبحانه-: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُ م مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (إبراهيم:13)، ويقول -عز وجل-: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود:102)، ويقول -سبحانه-: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} (الحج:45)، ويقول -عز وجل-: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} (الحج:48)؛ فهذه الآيات تبين أن الله يهلك الأمم الظالمة، وربما (يملي لها) أحيانا أي يتركها لفترة، ثم يأخذها أخذا شديدا؛ فسنة الله في الأمم الظالمة، إهلاكها، وإن كانت مسلمة، كما قال ابن تيمية -رحمه الله-: «إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة»، أما الأفراد، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن أن الظالم ينال جزاءه -في الغالب- في الدنيا قبل الآخرة، كما في الحديث عن أبي بكرة نفيع بن الحارث - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من قطيعة الرحم والبغي» (صحيح أبي داوود)، وكذلك تحذيره - صلى الله عليه وسلم - من دعوة المظلوم، عندما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن، فقال له: «اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» (البخاري).
    هذه الأحاديث يعرفها الجميع وقليل من يطبقها، وذلك أنهم يرون الظالمين يتمتعون ويمرحون، والمظلومون باقون في قهرهم ومظلمتهم.

    قاطعته: وهنا يأتي التفاوت في الإيمان واليقين، الناس درجات في إيمانهم بوعد الله ووعيده، منهم من لا يعتريه أدنى شك، أن وعد الله حق، ولا يخلف الله الميعاد، وأنه يهلك الظالم وينتصر للمظلوم، ولو بعد حين، وأن الله يمهل ولا يهمل، هذه العقيدة تضعف أحيانا عند بعض الناس إن لم يرو النتائج أمام أعينهم، أما أصحاب اليقين، فلا يشكون في أي من هذه الأمور؛ لأنها ثبتت في كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال -تعالى-: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} (الإسراء:33)، وحرم الله -عز وجل- الظالمين (الفلاح)؛ فقال -عز وجل-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام:21)، وقال -تعالى-: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (القصص:37). دخل المؤذن كعادته قبل الموعد بعشر دقائق، شاركنا المجلس ينتظر أن يحين الوقت.

    - وفي الحديث المتفق عليه عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود:102)، ومن الهدي النبوي، أن المسلم يجب عليه نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم، ومنع وقوع الظلم، كما في الحديث: عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» ( صحيح ابي داوود).

    وفي تفسير قول الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأنعام:129) نجعل بعضهم أولياء بعض، وجعل الفريقين ظالمين؛ لأنّ الذي يتولّى قوماً يصير منهم ، فإذا جعل الله فريقاً أولياء للظالمين فقد جعلهم ظالمين، قال -تعالى-: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (هود:113)، وقال: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة:51)؛ ولذلك قال المفسرون: يجوز أن يكون معنى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} نجعل بعضهم ولاة على بعض، أي نسلّط بعضهم على بعض، وقد تشمل الآية بطريق الإشارة كل ظالم، فتدل على أنّ الله سلّط على الظالم من يظلمه، ومن أجل ذلك قيل: إن لم يُقلع الظالم عن ظلمه سُلّط عليه ظالم آخر. قال الفخر: إن أراد الرّعيّةُ أن يتخلّصوا من أمير ظالم، فليتركوا الظلم.



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (14) سنن التمييز بين الطيب والخبيث


    - من القوانين الإلهية أنه -سبحانه- لا يساوي بين المختلفات، ولا يفرق بين المتماثلات.
    - هذه عبارة مجملة، صعبة الفهم، هلاّ ذكرتها بكلمات أسهل، وبأمثلة حتى يفهمها عامة الحضور. كانت هذه مقدمة درس حضرته في إحدى ديوانيات رواد المسجد، يجتمعون كل ثلاثاء بعد صلاة العشاء، ربما يقرؤون كتابا يشرحه أحدهم، أو يدعون شيخا أو متخصصا في مجال الاقتصاد أو الطب أو العلوم السياسية؛ ليلقي لهم الضوء على جونب من تخصصه. الحضور متقاعدون أغلبهم، وبعض طلبة الجامعة.
    - من الممكن أن نعطي أمثلة كثيرة من كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه القاعدة، مثل قول الله -تعالى-: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} (السجدة). وقوله -تعالى-: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين َ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم).
    وقوله -عز وجل-: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (الأنفال:37)، وقوله -سبحانه-: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت). وقوله -عز من قائل-: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } (العنكبوت:11).
    هذه الآيات وغيرها كثير تبين أن سنة الله في البشر أن يميز الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، والصالح من السيء، ومن آمن بصدق وإخلاص ومن أظهر الإيمان وأخفى غيره. وإليكم بعض ما ورد في كتب التفسير في بيان هذه السنة الإلهية والقانون الرباني. لم يجعل الله إيمان النّاس حاصلاً بخوارق العادات، ولا بتبديل خَلْق العقول، بل جعله -سبحانه- باختيار العبد وجعل للإيمان اختبارات ليميز الخبيث من الطيب وهذا هو القانون الذي بينه -سبحانه- بقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:3)، وقوله -سبحانه-: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } (العنكبوت:11)، فيكون معنى: {وليعلمن اللهُ} لِيُظْهِرَ عِلْمَهُ لِلنَّاسِ بِظُهُورِ الْمَعْلُومِ لَهُ، أَيْ يَعْلَمُ النَّاسُ ذَلِكَ وَيُميّزُونَهُ. وَجَعَلَ جَهَنَّمَ مَأْوَى لِلْكُفَّارِ وَحْدَهُمْ فِي الآخِرَةِ ; لِأَجْلِ أَنْ يُمَيِّزَ الْكُفْرَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْحَقَّ وَالْعَدْلَ مِنَ الْجُوْرِ وَالطِّغْيَانِ، فَلَنْ يَجْتَمَعَ فِي حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ الضّدَّانِ، وَلَا يَسْتَوِي فِي جَزَائِهِ النَّقِيضَانِ {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَفْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (المائدة:100) الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ الْمَعْنَوِيَّا نِ فِي حُكْمِ الْعُقَلَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، كَالْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ الْحِسَيَّيْنِ فِي حُكْمِ سَلِيمِي الْحَوَاسِ.. فَالْخَبِيثُ فِي الدُّنْيَا خَبِيثٌ فِي الْآخِرَةِ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} أَيْ وَيَجْعَلُ -سُبْحَانَهُ- الْخَبِيثَ بَعْضَهُ مُنْضَمًّا مُتَرَاكِبًا عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ -تَعَالَى- فِي اجْتِمَاعِ الْمُتَشَاكِلَا تِ، وَانْضِمَامِ الْمُتَنَاسِبَا تِ، وائتلاف الْمُتَعَارِفَا تِ، وَاخْتِلَافِ الْمُتَنَاكِرَا تِ، ومن حكمته -سبحانه- ألا يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه، فاقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب من أنواع الابتلاء والامتحان فأرسل رسله، وأمر بطاعتهم، والانقياد لهم، والإيمان بهم، ووعدهم على الإيمان والتقوى الأجر العظيم.
    فانقسم الناس بحسب اتباعهم للرسل قسمين: مطيعين وعاصين، ومؤمنين ومنافقين ومسلمين وكافرين، ليرتب على ذلك الثواب والعقاب وليظهر عدله وفضله، وحكمته لخلقه.
    وقوله -سبحانه-: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين َ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم). وإنكار جعل الفريقين متشابهين كناية عن إعطاء المسلمين جزاء الخير في الآخرة و حرمان المشركين منه؛ لأن نفي التساوي وارد في معنى التضاد في الخير والشر في القرآن وكلام العرب، قال -تعالى-: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ} (السجدة:18)، وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِين َ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص:28)، أفنجعل أيها الناس في كرامتي ونعمتي في الآخرة الذين خضعوا لي بالطاعة، وذلوا لي بالعبودية وخشعوا لأمري ونهيي كالمجرمين الذي اكتسبوا المآثم، وركبوا المعاصي، وخالفوا أمري ونهيي؟ كلا، ما الله بفاعل ذلك. فذلك معنى نفي المشابهة كقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (الرعد:16)، وقوله -عز وجل-: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (19) عن قتادة قوله: «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِنَا كَمَنْ كانَ فاسِقا لا يَسْتَوُونَ» قال: لا والله ما استووا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة».



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (15) سنن الله في المترفين


    يحرص كثير من المصلين على أداء صلاة العشاء في مسجدنا وإن لم يكن الأقرب إلى منازلهم، ذلك أن إمامنا لا يطيل الصلاة، فضلا عن حُسن تلاوته، وطيب أخلاقه.
    قرأ آيات من سورة الواقعة، بعد الصلاة صحبته واثنين من المصلين.
    - لماذا وصف الله (أصحاب الشمال) أول ما وصفهم {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} ثم قال: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} إلى آخر الآيات؟! - سؤال جميل، نعم يتساءل المرء، وهل (الترف) ذنب يستحق كل هذا العذاب؟! والجواب على ذلك في تقصي آيات الكتاب؛ حيث ورد هذا الوصف، مع الاطلاع على تفسير هذه الآيات.
    علق (أبو خالد). - حقيقة، سؤال مستحق؟ هل (الترف) ذنب؟ تابع شيخنا بيانه.
    - (الترف) لغة: التنعم، و(الترف) النعمة، و(المترف) هو الذي أبطرته النعمة وسعة العيش عن الإيمان بالله، واتباع الرسول. وهذا المعنى الأخير هو الوارد في كتاب الله، وذلك باستقصاء الآيات التي ورد فيها هذا الوصف، يقول الله -تعالى-: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء:١٦).
    والمعنى أن سبب هلاك الأمم أننا نرسل المرسلين فيأمرون الناس بمراد الله، فيكون أول من يعصي هذه الأوامر ويعترض عليها (المترفون)، ويتمادون بفسقهم، فيحق عليهم العذاب، فتُدمر تلك الأمة، وهذا كقوله -عز وجل-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام:١٢٣).
    وهكذا الحال في الآخرة يلوم العامة والضعفاء، السادة والكبراء: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ} (غافر:٤٧).
    تدخل (أبو خالد) مرة ثانية: - إذًا (المترفون)، لا تعني (الأغنياء)؛ لأنه خطر في بالي أن من الصحابة من كان عظيم الثروة، ولديه من المال ما يمكن أن يوصف هذه الأيام بالثراء الفاحش. ابتسم إمامنا: - بالتأكيد كلامك صحيح، (الغني) الذي يؤدي حق ماله له مكانته عند الله -عز وجل-، ولو تذاكرنا بعض الآيات الأخرى التي تذكر المترفين. توقفنا عند مراكبنا، قررنا الاستمرار بالحديث، الكل كان مهتما لسماع بقية الشرح. تابع إمامنا: - يقول الله -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (34-36).
    ويقول الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف:23).
    ويقول -تعالى-: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُ مْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} (المؤمنون:33).
    ففي هذه الآيات يبين الله -عز وجل- أن أهل (الترف) يرون أنهم مميزون عن غيرهم بكثرة المال والجاه والأولاد، فهم عِّلية أقوامهم، والنخبة في مجتمعاتهم، وإليهم يرجع الرأي، وبهم يقتدي عامة الناس، فجعلوا نعمة الله عليهم، من مال وولد، سببا لهم أن الله لن يعذبهم! بهذا (المنطق) الضيق والمحدود، ظنوا أنهم على حق، أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ:36)، ونتيجة خداعهم لأنفسهم، أعطوا الحق لأنفسهم أن يردوا دعوات الرسل، ويتبعوا ما أرادوا- في دينهم، ويفعلوا ما شاؤوا في أموالهم، وهذا حال المترفين في كل أمة، ويمكن أن نسميهم بـ(الملأ)، الذين هم علّية القوم من أصحاب النفوذ المالي والاجتماعي، وهؤلاء مصيرهم الهلاك في الدنيا قبل الآخرة؛ فإن الله يهلك المترفين والمسرفين، في سورة الأنبياء يقول الله -تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} (الأنبياء:11-15).
    هذه سنة الله فيمن أترفوا؛ فكان (ترفهم) سببا في رد أمر الله، فاستحقوا الهلاك، هذا قانون إلهي نافذ لا يتبدل ولا يتحول.
    وفي سورة هود يقول الله -تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (هود:116)، هذا حال (المترفين) على العموم الطغيان والظلم ورد الحق والتكبر على دعوة الرسل؛ فكان القانون الإلهي العادل في حقهم، الهلاك في الدنيا، وفي هذه السنة تحذير للمترفين إلى يوم القيامة، وتنبيه للعامة إلى يوم القيامة ألا يتبعوا المترفين؛ لأنهم لن ينفعوهم لا في الدنيا ولا في الآخرة.



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (16) سنة الاستدراج


    - لغة، استدرجه، أدناه منه على التدريج فتدرج معه، درجة بعد درجة، وفي (المفردات)، سنستدرجهم، نأخذهم درجة فدرجة، وفي (المفردات)، سنستدرجهم، نأخذهم درجة فدرجة، فلم نباغتهم، بل نجرهم إلى العذاب قليلا قليلا.
    يحتاج العبد أن تكون لديه ثوابت، لا يحيد عنها مهما تكالبت عليه المصائب وتغيرت من حوله المعطيات، ثوابت في العقيدة، بتفاصيلها كلها.
    - هل لنا بتفصيل أكثر شيخنا الفاضل؟ - في زمننا هذا يفتن كثير من الناس بما لدى الكفار والملحدين، بل والفسقة والفجرة، من متاع الدنيا، مع ما في المسلمين من ضعف، وذلة، وفقر، وتخلف؛ وذلك أن حال المسلمين نتيجة ما كسبت أيديهم، وما لدى الكافرين استدراج من الله -عز وجل-، كانت خاطرة علمية، لأحد أساتذتنا في كلية الشريعة، ألقاها دون سابق ترتيب بعد صلاة المغرب، وعادة شيخنا أنه إذا قدم للصلاة، أن يلقي خاطرة بعدها.
    - لو تتبعنا آيات الكتاب التي ذكر الله فيها الاستدراج، نجد أن الله يستدرج الكافرين والعصاة والمكذبين بالرسل، بمعنى أن الله يمهلهم، وربما وسع عليهم من أمور الدنيا، ثم إن تمادوا أخذهم فلم يفلتهم، كما في الحديث، ولنقرأ شيئا من هذه الآيات، يقول -تعالى-: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُه ُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف: 182-183)، ويقول سبحانه-: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُه ُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي هُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينُ} (القلم).
    أي: دعني والمكذبين بالقرآن العظيم فإن علي جزاءهم، ولا تستعجل لهم سَنَسْتَدْرِجُه ُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} فنمدهم بالأموال والأولاد، ونمدهم في الأرزاق والأعمال؛ ليغتروا ويستمروا على ما يضرهم فإن هذا من كيد الله لهم، وكيد الله لأعدائه، متين، قوي يبلغ من ضررهم وعذابهم فوق كل مبلغ.
    ومعنى {مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} أن استدراجهم المفضي إلى حلول العقاب بهم أحوال وأسباب لا يتفطنون إلى أنها مفضية بهم إلى الهلاك ، وذلك أجلب لقوة حسرتهم عند حلول المصائب بهم.
    {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي: أُمْهِلُهُم حتى يظنوا أنهم لا يؤخذون ولا يعاقبون، فيزدادون كفرا وطغيانا وشرا إلى شرهم وبذلك تزيد عقوبتهم، ويتضاعف عذابهم، فيضرون أنفسهم من حيث لا يشعرون، ولهذا قال: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي: قوي بليغ. ويبين الله المراد من توسعة متاع الدنيا على الكفار؛ وذلك لتثبيت المؤمنين وبيان سنة إلهية نافذة فيقول -سبحانه-: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)} (آل عمران)، ويقول -سبحانه- نافيا منطق الكفار بأنهم في سعة من عيشهم لمكانتهم عند الله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا غُلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا تُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (آل عمران : 178)، من جهلهم واغترارهم بمتاع الحياة الدنيا ظنوا أن الآخرة كالدنيا، ينعم عليهم فيها أيضاً بالمال والولد، كما أنعم عليهم في الدنيا - وجاء مبيناً في آيات أخر، كقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لي وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رَجَعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} {فصلت:50)، وقوله: {أَفَرَأَيْتَ الذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} (مريم: 77)، وقوله: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذِّبِينَ} (سبأ:35)، وفي أحوال الأمم السابقة عبرة لأولي الألباب ولا سيما عندما ردوا دعوة رسلهم وحاربوهم واستهزؤوا بما جاءت به رسلهم يقول -تعالى-: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ(32)} (الرعد).
    وقد استهزأ قوم نوح به -عليه السلام-: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} (هود:38)، واستهزأت عاد بهود -عليه السلام-: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الشعراء : 187) ، واستهزأت ثمود بصالح -عليه السلام- {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (الأعراف: 66) ، واستهزؤوا بِشُعيب -عليه السلام-: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هود:87)، واستهزأ فرعون بموسى -عليه السلام-: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الزخرف:43).
    كانت الخاطرة سلسلة مترابطة، مركزة، لم يترك أحد من المصلين مكانه حتى انتهى الشيخ من خاطرته، صاحبته، بعد الأذكار وأداء سنة المغرب.
    - هذه سنة عظيمة من سنة الله -عز وجل- يغفل عنها الناس.
    - بل يغفل عنها من لم تتمكن العقيدة من قلبه، ولم يملأ نور العلم صدره، ذلك أن الناس يرون ظاهر الحياة ويغترون بها، وسنن الله، ولاسيما في الأمم لا يراها الإنسان خلال حياته القصيرة؛ لأنها تحدث على مدى مئات السنين، كما قال -تعالى-: وَيَسْتَعْجِلُو نَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج:47)؛ فالمؤمن يجزم بما سيحدث في الأفراد والأمم، ولا يشك أن وعد الله حق، وسنته -سبحانه- نافذة، وما تأخر حدوثها إلا لحكمة ولكن الإنسان عجول!



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: السنن الإلهية

    السنن الإلهية (17) لا عذاب.. دون تبليغ


    الله -سبحانه وتعالى- له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، لا يظلم أحدا مثقال ذرة، بل يثيب المحسن فوق ما يستحق، ويمهل المقصر، ويحلم عن المسيء، فهو -سبحانه- رحمته سبقت غضبه، وعفوه سبق عقابه، وفي نهاية الأمر، لا يخلد في نار جهنم إلا من أصر على الكفر ومات على الشرك! كنت وصاحبي في رحلة علاج أولية، إلى التشيك، لم أزرها من قبل، صاحبي يتردد عليها لآلام في ظهره، وركبته.
    أدينا صلاة الجمعة، توجهنا بعدها للغداء في مطعم عراقي، لا يبعد عن المسجد. وهؤلاء البشر، الذين لا يعرفون دين الله، أعني أهل هذه البلاد وأمثالها، ما مصيرهم يوم القيامة؟ هناك سنة إلهية، وقاعدة ربانية، لا تتبدل ولا تتعطل أبدا، وهي قوله -عز وجل-: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء:15).
    بدأ حوارنا بعد أن أخذ النادل طلبنا، وكان مهتما أن يستمع لنا؛ فقلت له : - أخشى أن يحاسبك رب العمل! ابتسم: - أنا رب العمل! تابعنا حوارنا: هؤلاء الناس الذين ولدوا في هذه البلاد وغيرها، وعاشوا يهودا أو نصارى أو ملحدين، أو غير ذلك، الله أعلم بهم، هل قامت عليهم الحجة بتوحيد الله أم لا؟ هل بلغتهم رسالة التوحيد أم لا؟ والقاعدة التي ذكرناها: (أنه لا عذاب إلا بعد تبليغ). ومن ذلك قوله -تعالى-:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُم ْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام:130-131).
    وقوله -عز وجل-:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص:59). وتعلمون أن صيغة الاستثناء بعد النفي، تفيد الحصر، علق (أبو رعد صاحب المطعم).
    - أنا لا علم شرعي لدي، ولكني -بفضل الله- لا تفوتني صلاة من وقتها لا أصيلها في المسجد، إلا قليلا، ولكن لا تفوتني، والجماعة لا أفوتها على الإطلاق -بفضل الله- ولكن (هذه السنة الإلهية، متوافقة مع عدل الله ورحمته وفضله)، هل لك أن تفصل فيها. - بيان ذلك في كتب التفسير، ففي التحرير والتنوير لابن عاشور، «والمعنى أن الله -عز وجل- لا يهلك قوما في حال غفلتهم (أي عدم إنذارهم)، بل لا يهلك أحدا إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل -عليهم صلوات الله وسلامه- ومن حكمته ورحمته ألا يعذب الأمم بمجرد كفرهم قبل إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل إليهم، والحاصل: أن الله لا يعذب أحدا إلا بظلمه وبعد إقامة الحجة عليه».
    - كلام جميل، وهل نقول إن هؤلاء الناس لم تبلغهم الرسالة ولم تقم عليهم الحجة؟ أعني من عاشوا هنا، منذ ولادتهم، وسمعوا عن الإسلام مجرد سماع، ولم يتفقهوا، ولم تبلغهم، تفاصيل الدين.
    - الله أعلم بمن أقيمت عليه الحجة ومن لم تقم عليه الحجة، ولا يظلم ربك أحدا مثقال ذرة، وهناك فئة يسمون (أهل الفترة). قال الألوسي: «الفترة عند جميع المفسرين: انقطاع ما بين الرسولين». وأهل الفترة: كل من لم تبلغهم الدعوة، ولم تقم عليهم الحجة، وقال ابن تيمية: «من لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال والمجانين وأهل الفترة، فهؤلاء فيهم أقوال، أظهرها: ما جاءت به الآثار أنهم يمتحنون يوم القيامة؛ فيبعث إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب، وإن عصوه استحقوا العذاب»، ولا شك أن اختبارهم يتناسب والمشاهد العظيمة التي تكون يوم القيامة؛ ففي المسند عن الأسود بن سريع أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة، رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام ولم أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في (الفترة) فيقول رب ما أتاني لك رسول؛ فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه؛ فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفسي محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما»، قال شعيب الأرناؤوط حديث حسن، وفي زيادة: «ومن لم يدخلها سحب إليها» صحيح الجامع.
    أحضر أحد الفتيان العاملين الطعام، وكان زيادة عما طلبنا؛ ذلك أن رب العمل أوصاهم بإكرامنا وقد شاركنا مائدتنا. ويؤكد الله -عز وجل- هذه السنة الإلهية الثابتة الدائمة النافذة في آيات أخرى كثيرة منها: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء:165)، وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر:24)، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} (النحل:36)، وأشار لها في (القصص) بقوله: {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (القصص:47)، ومن ذلك أنه -تعالى- صرح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار الرسل، ولم يكتف في ذلك بنصب الأدلة الكونية والفطرية كقوله -تعالى-: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} (الملك:8-9)، وقوله -تعالى-: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُم ْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (الزمر:71)، ومعلوم أن لفظة كلما في قوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}، صيغة عموم أيضا؛ لأن الموصول يعم كل ما تشمله صلته.



    اعداد: د. أمير الحداد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •