السؤال
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقَ اللَّهُ ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾، رأيتُ هذينِ فلم أصبِرْ)، بعد أن نزل من على المنبر لما رأى الحسن والحسين رضي الله عنهما، وأخذهما، وصعد بهما المنبر.
هل يصح أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لكمال ورفعة درجته في العبودية لله رب العالمين اعتبر توقفه عن الخطبة وقتا يسيرا ونزوله من على المنبر بسبب الحسن والحسين رضي الله عنهما اعتبر ذلك نوعا من الفتنة بالولد التي هي انشغال بالولد عما هو أولى منه؟
ملخص الجواب
وجه الفتنة بالولد في الخبر هو في عدم صبره صلى الله عليه وسلم وشغفه بولديه، وهذا أمر مفطور عليه عامة البشر، وهو أمر في ذاته لا مذمة ولا نقص فيه، إلا إذا أدى إلى أمر منهي عنه.
الجواب:
الحمد لله.
روى أبو داو د (1109)، والنسائي (1413)، والترمذي (3774)، وابن ماجه (3600) عن حُسَيْن بْن وَاقِدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ الْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ رضي الله عنهما، عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ، فَنَزَلَ فَأَخَذَهُمَا، فَصَعِدَ بِهِمَا الْمِنْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ: ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ )، *رَأَيْتُ *هَذَيْنِ *فَلَمْ *أَصْبِرْ، ثُمَّ أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ .
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: ” إسناده صحيح على شرط مسلم، وكذا قال الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الترمذي: “حديث حسن [غريب] ” انتهى. “صحيح سنن أبي داود” (4/272).
وصحح إسناده الذهبي في “تاريخ الإسلام” (2/631).
والفتنة الواردة في قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ هي ما طبع عليه القلب من الشغف بهم، وعدم الصبر على الأذى الذي قد يلحق بهم، والمرء مختبر ومبتلىً بهذا الشغف بأمواله وأولاده؛ هل يراعي معه حدود الشرع، أم يهجم على المحرمات ويترك الوجبات من أجلهم؟
قال الواحدي رحمه الله تعالى:
” وهذا عام في جميع الأولاد، فإن الإنسان مفتون بولده؛ لأنه ربما عصى الله بسببه، وتناول الحرام لأجله، ووقع في العظائم إلا من عصمه الله، ويشهد لهذا ما روي: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران… ) ” انتهى. “البسيط” (21/488).
وقال ابن بطال رحمه الله تعالى:
” [حديث] حُذَيْفَةَ: ( قَالَ عُمَرُ مَنْ يَحْفَظُ حَدِيث النَّبِىِّ، عليه السلام، فِي الْفِتْنَةِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا؛ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ( فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ ). قَالَ: لَيْسَ أَسْأَلُ عَنْ ذِهِ، إِنَّمَا أَسْأَلُ عَنِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ ) الحديث.
الفتنة عند العرب: الابتلاء والاختبار، وهي في هذا الحديث: شدة حب الرجل لأهله، وشغفه بهن، كما روى عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: ( رأيت رسول الله يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران … ) ” انتهى. “شرح صحيح البخاري” (4/13).
قال ابن القيم، رحمه الله:
” ولفظ الفتنة في كتاب الله تعالى يراد بها الامتحان الذي لم يفتتن صاحبه، بل خلص من الافتتان، ويراد بها الامتحان الذي حصل معه افتتان فمن الأول: قوله تعالى لموسى عليه السلام: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40].
ومن الثاني: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39]، وقوله: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49].
ويُطلق على ما يتناول الأمرين، كقوله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 ـ 3]، ومنه قول موسى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا * مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155]، أي: امتحانك وابتلاؤك، أُضِلَّ بها من وقع فيها، وهُدِيَ من نجا منها.
وتُطلَق الفتنة على أعمَّ من ذلك، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15].
قال مقاتل: أي: بلاء وشغل عن الآخرة.
قال ابن عباس: فلا تطيعوهم في معصية الله تعالى.
وقال الزَّجَّاج: أعلَمَهُمُ الله عز وجل أن الأموال والأولاد ممَّا يُفتنون به.
وهذا عامٌّ في جميع الأولاد، فإن الإنسان مفتون بولده، لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه، وتناول الحرام لأجله، ووقع في العظائم، إلا من عَصَمه الله تعالى.
ويشهد لهذا ما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب، فجاء الحسن والحسين، وعليهما قميصان أحمران يَعْثُران، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم إليهما، فأخذهما فوضعهما في حِجْره على المنبر، وقال: (صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، رأيت هذين الصَّبيين فلم أصبر عنهما).
وقال ابن مسعود: لا يقولنّ أحدُكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم إلا وهو مُشَتمِلٌ على فتنة، لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، فأيّكم استعاذ فليَسْتَعِذْ بالله تعالى من مُضِلّات الفتن”. انتهى، من “إغاثة اللهفان” (2/791-793).
فوجه انطباق الآية على حاله صلى الله عليه وسلم: هو في عدم صبره على ما رآه من إقبال الحسن والحسين عليه وهما يعثران؛ حتى ترك ما كان فيه من أمر الخطبة، ونزل إليهما ليحتملهما، صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ عبد المحسن العباد:
” وفيه كون الإنسان عندما يتضح له ظهور النص ووضوحه يقول: ( صدق الله )؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حصل منه عدمُ الصبر، والرأفةُ بهما، والرحمة، قال عليه الصلاة والسلام: ( صدق الله: ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) )، فالله تعالى قال: ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ )، وقال: ( صدق الله )؛ لأن هذا الشيء عندما حصل سببه، وعندما حصل ذلك الشيء الذي اقتضاه: أظهر مدى حصوله وانطباقه … ” انتهى. “شرح سنن أبي داود” (139 / 11 بترقيم الشاملة).
وما ينتج عن هذا الشغف وعدم الصبر بالأولاد إنما يكون مذموما، إذا ألهى العبد عن ذكر الله تعالى.
قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ المنافقون/9.
وقد يكون محمودا إذا عامل المؤمن الفتنة بالولد بما يرضي الله تعالى.
قال الحافظ ولي الدين أبو زرعة العراقي، رحمه الله:
” والظاهر أن مبادرته عليه الصلاة والسلام إلى أخذهما لإعيائهما بالمشي وحصول المشقة لهما بالعثار فرفع تلك المشقة عنهما بحملهما ” انتهى، من “طرح التثريب” (3/290).
وشغل النبي صلى الله عليه وسلم بولديه، إنما كان برهة يسيرة من الزمن، ثم عاد إلى ما كان فيه من الأمر المهم، بعد أن دفع عن نفسه ما عرض لها من شغل بهما، وشفقة عليهما.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
” وهذا من كمال رحمته صلى الله عليه وسلم، ولطفه بالصغار، وشفقته عليهم، وهو تعليم منه للأمة الرحمة والشفقة واللطف بالصغار ” انتهى. “عدة الصابرين” (ص117).
وقد بوّب عليه أبو داود بقوله: ” بَابُ الْإِمَامِ يَقْطَعُ الْخُطْبَةَ لِلْأَمْرِ يَحْدُثُ “.
وبوّب عليه النسائي بقوله: ” نُزُولِ الْإِمَامِ عَنِ الْمِنْبَرِ، قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ، وَقَطْعِهِ كَلَامَهُ، وَرُجُوعِهِ إِلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ” انتهى.
وقال ابن خزيمة في “صحيحه” (2/355):
” بَابُ الرُّخْصَةِ لِلْخَاطِبِ فِي قَطْعِ الْخُطْبَةِ لِلْحَاجَةِ تَبْدُو لَهُ “.
وقال الحاكم في “المستدرك” (1/287): ” وَهُوَ أَصْلٌ فِي قَطْعِ الْخُطْبَةِ، وَالنُّزُولِ مِنَ الْمِنْبَرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ” انتهى.
والله أعلم.
https://islamqa.info/ar/answers/5132...87%D9%85%D8%A7