مكارم الأخلاق (1)
فضل حسن الخلق
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة:
- شأن الأخلاق عظيم ومنزلتها عالية في الدِّين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الْآخِرَةِ مَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، *وَإِنَّ *أَبْغَضَكُمْ *إِلَيَّ *وَأَبْعَدَكُمْ *مِنِّي *فِي *الْآخِرَةِ مَسَاوِئُكُمْ أَخْلَاقًا، الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُ ونَ الْمُتَشَدِّقُو نَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
- كانت الأخلاق في حياة المسلمين سببًا رئيسًا لعزتهم وقوتهم ومنعتهم وسعادتهم، فعاشوا فيما بينهم حياة يسودها الحب والتعاون، والاحترام المتبادل، وأسسوا حضارة بهرت العالم، فسادوا الدنيا من حولهم: قال -تعالى-: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110).
- المسلمون الآن يعيشون حياة الذل والضعف والهوان والتبعية؛ بسبب تنازلهم عن أخلاق الاسلام، فصاروا في ذيل الأمم: قال -تعالى-: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) (طه: 123، 124).
وقال الشاعر:
إنـما الأمـم الأخـلاق مـا بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
- حاجتنا إلى الرجوع إلى أخلاق الإسلام وتعاليمه، وإقامة نصوص الشرع التي تحض على محاسن الأخلاق وتحذر وتنفر من مساوئ الأخلاق: قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: 11).
مكانة حُسْنُ الخُلُق في القرآن الكريم:
- جعله الله من أبرز صفات أهل الجنة المتقين: قال -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 131، 132).
- جعل الله نوعًا منه -الحلم- سببًا للجزاء الأوفر من الله؛ فكيف بمن تحلى بعمومه؟ قال -تعالى-: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: 40).
- جعل الله نوعًا منه -اللين والرفق- سببًا لنجاح الإنسان في حياته مع الناس: قال -تعالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).
- أرشد الله نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والأمة من بعده الى استعمال الأخلاق الحسنة بأنواعها، وفق كل ظرف ومكان وحال، فهو سبب النجاح والفلاح وتأليف القلوب: قال -تعالى-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199).
مكانة حُسْنُ الخُلُق في السنة النبوية:
- حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على حسن الخلق، وأخبر بأن له الأثر العظيم والثواب الجزيل، الذى يعدل درجة العابد الدائم الصيام والقيام: قال -صلى الله عليه وسلم-: (*إِنَّ *الرَّجُلَ *لَيُدْرِكُ *بِحُسْنِ *خُلُقِهِ، *دَرَجَةَ *الصَّائِمِ *الْقَائِمِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
- عدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حسن الخلق من أعظم أسباب كمال الإيمان: فقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ *الْمُؤْمِنِينَ *إِيمَانًا *أَحْسَنُهُمْ *خُلُقًا) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
- وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن حسن الخلق، والتمسك به، من أعظم السبل للجنة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ: *تَقْوَى *اللهِ، *وَحُسْنُ *الْخُلُقِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
- ولذا رغب -صلى الله عليه وسلم- في بذل كل خصال حسن الخلق ولو كانت يسيرة؛ لما لها من آثار وأجور كثيرة: فقال -صلى الله عليه وسلم-: (*الْكَلِمَةُ *الطَّيِّبَةُ *صَدَقَةٌ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*تَبَسُّمُكَ *فِي *وَجْهِ *أَخِيكَ *صَدَقَةٌ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
- وبالجملة؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- حض على حسن الخلق بكل صوره وشعبه: قال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-: (أحَبُّ *النَّاسِ *إِلَى *الله *أنْفَعُهُمْ *وأحَبُّ *الأعْمَالِ *إِلَى *الله -عز وجل- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ على مُسْلِمٍ، أوْ تَكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا، ولأَنْ أمْشِيَ مَعَ أخِي المُسْلِمِ فِي حاجَةٍ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ أنْ أعْتَكِفَ فِي هَذَا المَسْجِدِ شَهْرًا) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*اتَّقِ *اللهَ *حَيْثُمَا *كُنْتَ، *وَأَتْبِعِ *السَّيِّئَةَ *الْحَسَنَةَ *تَمْحُهَا، *وَخَالِقِ *النَّاسَ *بِخُلُقٍ *حَسَنٍ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك؛ فلذلك أنزل الله -عز وجل-: (*وَإِنَّكَ *لَعَلَى *خُلُقٍ *عَظِيمٍ) (القلم: 4). وقال -تعالى-: (*لَقَدْ *كَانَ *لَكُمْ *فِي *رَسُولِ *اللَّهِ *أُسْوَةٌ *حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) (الأحزاب: 21).
مواقف نبوية في حسن الخلق:
لقد كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- كلها مواقف في حسن الخلق، وذلك بما تضمنته على جميع الجهات والمستويات.
1- موقف في الايثار:
- كان -صلى الله عليه وسلم- لا يسأله أحد من الناس شيئًا إلا بذله له ولو كان في أشد الحاجة إليه: عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-: أن امرأةَ جاءت إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِبُرْدَةٍ مَنسُوجَةٍ، فقالت: نَسَجتُها بيديَّ لأَكْسُوَكَها، فأخذها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- محتاجًا إليها، فخرجَ إلينا وإنها إزارُهُ، فقال فلانٌ: اكسُنِيها ما أحسَنَها! فقال: (نَعَمْ)، فجلسَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في المجلسِ، ثم رجع فطَوَاها، ثم أرسلَ بها إليه، فقال له القومُ: ما أحسَنتَ! لبسها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- محتاجًا إليها، ثم سألته وعَلِمتَ أنه لا يَرُدَ سائلًا، فقال: "*إِنِّي *وَاللَّهِ *مَا *سَأَلْتُهُ *لِأَلْبَسَهَا، *إِنَّمَا *سَأَلْتُهُ *لِتَكُونَ *كَفَنِي"، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. (رواه البخاري).
2- موقف في الوفاء:
- كان -صلى الله عليه وسلم- يحفظ لأم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- معروفها وحسن عشرته معه بعد أن توفاها الله -تعالى-: فقد صحَّ عنه أنه لما استأذنت عليه هالة بنت خويلد -أخت خديجة-رضي الله عنها- عرفها لتشابه صوتهما، فقال: (اللهم هالة)، وهو مرتاح لذلك، تذكرًا وحبًّا لخديجة. وكان كثيرًا ما يذكر خديجة، ويقول: "لقد كانت وكانت"، وعندما سمعت ذلك أمّ المؤمنين عائشة غارت، وقالت: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ -عز وجل- بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، قَالَ: (مَا أَبْدَلَنِي اللهُ خَيْرًا مِنْهَا؛ قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي *إِذْ *كَذَّبَنِي *النَّاسُ، *وَوَاسَتْنِي *بِمَالِهَا *إِذْ *حَرَمَنِي *النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ عز وجل وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ) (رواه البخاري ومسلم وأحمد واللفظ له).
3- موقف في الرفق والحكمة:
- كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على تعليم المسلمين باللين والحسنى، لا سيما من كان منهم حديث العهد بالإسلام: فبينما كان مع أصحابه في المسجد، إذا بأعرابيّ جاء على بعير أناخه، ثمّ اتجه إلى ناحية من نواحي المسجد وبال فيه؛ فثار الصحابة الكرام لمّا رأوا الأعرابي يبول في المسجد، فحاولوا أن ينهروه ويثنوه عن فعله؛ إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاهم عن ذلك، وبعد أن أنهى الأعرابي بوله دعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- ليأتي إليه، ثم أرشده باللين قائلًا: (*إِنَّ *هَذِهِ *الْمَسَاجِدَ *لَا *تَصْلُحُ *لِشَيْءٍ *مِنْ *هَذَا *الْبَوْلِ *وَلَا *الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ)، ثمّ أمر أحد الصحابة فنضح البول بدلو من الماء ليزيل النجاسة، فما كان من الأعرابي إلا أن قال: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِمُحَمَّدٍ، *وَلَا *تَغْفِرْ *لِأَحَدٍ مَعَنَا!"؛ وهذا لعظيم تأثره بأخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- وعظيم مراعاته لحاله.
4- موقف في العفو والرحمة:
- في السنة الثامنة من الهجرة نصره الله -تعالى- على كفار قريش، ودخل -صلى الله عليه وسلم- مكة فاتحًا منتصرًا، وأمام الكعبة المشرفة وقف جميع أهل مكة، وقد امتلأت قلوبهم رعبًا وهلعًا، وهم يفكرون فيما سيفعله معهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن تمكن منهم، ونصره الله عليهم، وهم الذين آذوه، وأهالوا التراب على رأسه، وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حتى أكل هو ومن معه ورق الشجر، بل وتآمروا عليه بالقتل -صلى الله عليه وسلم-، وعذبوا أصحابه أشد العذاب، وسلبوا أموالهم وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم، ومع كل ذلك قابل -صلى الله عليه وسلم- كل تلك الإساءات بموقف أخلاقي كريم في العفو -يليق بمن أرسله الله رحمة للعالمين-، فقال لهم: "ما ترون أني فاعل بكم؟! قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء" (رواه البيهقي). ولما قال رجل من المسلمين: اليوم يوم الملحمة، قال -صلى الله عليه وسلم- له: "بل اليوم يوم المرحمة!".
خاتمة:
- ومع كل هذه الأخلاق الكريمة، كان -صلى الله عليه وسلم- يسأل الله -تعالى- حسن الخلق! فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: (*اللهمَّ *كَمَا *حَسّنْتَ *خَلْقِي *فَحَسّنْ *خُلقِي) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي دعاء الاستفتاح الطويل كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: (*وَاهْدِنِي *لِأَحْسَنِ *الْأَخْلاقِ، *لَا *يَهْدِي *لِأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلا أَنْتَ)، فمن أحوج إلى ذلك عباد الله؟!
- نحن والله أحوج الى السؤال والتحلي بحسن الخلق، ومكارم الأخلاق؛ لا سيما في هذه الأيام التي ذهبت فيها كثير من مكارم الأخلاق عند كثير من الناس! نحن والله أحوج إلى نشر الأخلاق الحسنة، والترغيب في التحلي بها.
- ومن هذا الباب: ستكون لنا كلمات وعظية حول بعض الأخلاقيات التي ننشدها في حياتنا ومجتمعاتنا، نقف في كل موعظة منها على خُلُق من الأخلاق الكريمة بالبيان والترغيب؛ عسى الله أن يرزقنا والمسلمين حسن الخلق.
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.