تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: هل الحكم على “دعاء غير الله” بأنه شرك، بدعةٌ وهابيَّة؟

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2024
    المشاركات
    582

    افتراضي هل الحكم على “دعاء غير الله” بأنه شرك، بدعةٌ وهابيَّة؟

    هل الحكم على “دعاء غير الله” بأنه شرك، بدعةٌ وهابيَّة؟

    أمر الله سبحانه وتعالى بدعائه والتوجُّه إليه والتَّعلق به، وبيَّن أنَّه هو وحده قاضي الحاجات ومالك الخزائن كلها، والدعاء في الشريعة الإسلاميَّة عبادة من أرقى العبادات وأجلِّها، وهو جزء لا يتجزَّأ من عبودية الإنسان لخالقه وافتقاره إليه وتذلُّلِـهِ له، وقد ذكر الله الدعاء في آيات كثيرة من كتابه فقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، يقول الطبري رحمه الله: “يعني -تعالى ذكره- بذلك: {وَإِذَا سَأَلَكَ} يا محمد {عِبَادِي عَنِّي}: أين أنا؟ {فَإِنِّي قَرِيبٌ} منهم أسمع دعاءهم، وأجيب دعوة الدَّاعي منهم”([1])، ويقول تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62]، يقول ابن كثير رحمه الله: “ينبِّه تعالى أنَّه هو المدعو عند الشدائد، المرجوّ عند النوازل، كما قال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، وقال تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]، وهكذا قال هاهنا: {أَمَّنْ يُجيِبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} أي: من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضرَّ المضرورين سواه”([2]).
    والنُّصوص في هذا الباب كثيرة، والذي نريد بيانه هو أنَّ الدعاء من أجلِّ العبادات، سواء كان دعاءَ تنسّك وتعبّد، أو دعاءَ طلب ومسألة.
    تمهيد:
    بينَّا أنَّ الدعاء من العبادات التي شرعها الله سبحانه وتعالى، بل هو من أرقى وأوضح العبادات، حتى قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة»([3])، وما دام أنه عبادة فإنه لا يصرف إلا لله سبحانه وتعالى وحده، وهو مقتضى توحيد الألوهية.
    ولكونه عبادة فإنَّ صرفه لغير الله شرك، ومن المعلوم من مذهب أهل السنة والجماعة أنَّ الاستغاثة بغير الله ودعاء غيره ينقسم إلى قسمين:
    1- دعاء الحي الحاضر فيما يقدر عليه، وهذا جائز، ومنه قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15].
    2- دعاء الغائب بما لا يقدر عليه إلا الله، وقد نصّ العلماء على أن هذا شرك([4])، بيد أن القبورية لم يعجبهم هذا القول، ذلك أنهم ممن يولّون وجوهم شطرَ الأضرحة، وممن يعفّرون جباههم بعتبات المشاهد، فتوجَّهوا بدعائهم لغير الله من الأنبياء والأولياء والصالحين، بل وللدراويش ومن لا يعرف حاله، وصارت وجهاتهم هذه أجل عندهم من التَّوجه إلى الله سبحانه وتعالى، وفي سبيل الدفاع عن أنفسهم والحجاج عن موقفهم يشنِّعون على دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب بأنَّ الإمام وأتباعه يكفِّرون الناس بالحكم على صرف الدعاء لغير الله بأنه شرك، فصار هذا القول بزعمهم بدعة وهابية!
    يقول محسن الأمين العاملي: “الفصل الثاني: في دعاء غير الله تعالى والاستغاثة والاستعانة به وطلب الحوائج منه. وهذا مما صرح الوهابية وقدوتهم ابن تيمية بأنه موجب للشرك والكفر([5]).
    ويقول: “وصرح محمد بن عبد الوهاب في كلامه السابق في الباب الثاني بأنَّ دعاء غير الله والاستغاثة بغير الله موجب للارتداد عن الدين والدخول في عداد المشركين وعبدة الأصنام، واستحلال المال والدم إلا مع التوبة”([6]).
    ويقول عثمان النابلسي: “الوهابية يرون أنَّ مجرد الدعاء بصرف النَّظر عن قصد الداعي شرك مخرجٌ من الملة لأنه عبادة، مع أن ما كان عبادة ذاتية لا يختلف أداؤه لحي أو ميت لقادر أو عاجز“([7]).
    ويقول: “أما القول بأنَّ دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة فليس بسديد، إذ عندما تبرهن للوهابيَّة أنَّ الآيات التي يتوهّمونها إنَّما جاءت في دعاء العبادة لا في دعاء المسألة بادروك بالقول بأنَّ دعاء المسألة متضمّن لدعاء العبادة ليتمّ لهم الحكم بالشرك على من استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بطلب دعائه أو شفاعته“([8]).
    ويقول أحمد زيني دحلان: “وممَّا يعتقده هؤلاء المنكرون للزيارة والتوسل [يقصد محمد بن عبد الوهاب وأتباعه] منع النداء للميت والجماد، ويقولون: إن ذلك كفر وإشراك وعبادة لغير الله تعالى، وهذا أيضا باطل ومردود ولا مستند لهم فيه”([9]).
    ويقول علوي الحداد: “وغاية شبهته [أي: الإمام محمد بن عبد الوهاب] في نسبة الشرك إلى غير أتباعه -وهي التي بنى عليها أساس بدعته وزندقته وجميع قبائحه- أنه ادعى أنهم يعظّمون مشاهد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ومشاهد الأولياء -نفعنا الله بهم- تعظيما بليغا حتى صاروا يطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله… وزعم النَّجدي الفاسد أنهم جعلوها شركاء مع الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا([10]).
    ونحن في هذ الورقة سنبين حقيقة القول في دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ونرى هل الحكم على هذا الفعل بأنه شرك بدعة وهابية، أم سنة سلفية، بل حقيقة شرعية؟
    دعاء المسألة:
    يقول فيه الخطابي: “معنى الدعاء: استدعاء العبد ربه عز وجل العناية واستمداده إياه المعونة. وحقيقته: إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوَّة، وهو سمة العبوديَّة، واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله عز وجل، وإضافة الجود، والكرم إليه”([11]).
    وقد ورد الدعاء في القرآن بمعنى التعبّد والتنسّك، وذلك في مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]، وقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106].
    كما جاء بمعنى الطلب والمسألة، وذلك في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13].
    وموطن الخلاف بين أهل السنة والقبورية هو في دعاء المسألة وليس في دعاء العبادة؛ إذ إنَّ دعاء العبادة يجمع الجميع على أنَّ صرفه لغير الله شرك، ولذلك نجدهم -في النصوص التي نقلتها- يركّزون كثيرًا على دعاء المسألة، وأنَّ الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه وأصحاب مدرسته قد أخطؤوا في الحكم على صرفه لغير الله بأنه شرك.
    وفي بيان تقسيم الدعاء إلى النَّوعين يقول الشيخ العثيمين رحمه الله: “واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة؛ فدعاء المسألة هو دعاء الطلب، أي: طلب الحاجات، وهو عبادة إذا كان من العبد لربه، لأنَّه يتضمن الافتقار إلى الله تعالى واللجوء إليه، واعتقاد أنَّه قادر كريم واسع الفضل والرحمة، ويجوز إذا صدر من العبد لمثله من المخلوقين إذا كان المدعو يعقل الدعاء ويقدر على الإجابة، كما سبق في قول القائل: يا فلان أطعمني.
    وأمَّا دعاء العبادة فأن يتعبَّد به للمدعو طلبًا لثوابه وخوفًا من عقابه، وهذا لا يصح لغير الله، وصرفه لغير الله شرك أكبر مخرج من الملة، وعليه يقع الوعيد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]”([12]).
    وقد بين الإمام محمد بن عبد الوهاب في كثيرٍ من رسائله وتقريراته بأنَّ صرف الدعاء لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك([13])، ومثل هذا كثير جدّا في كلامه، إذ إنه أحد الموضوعات الكبرى التي عالجها الإمام، وجادل وناقش من أجلها، فلا شكَّ أنها حاضرة في كتبه كثيرًا، ولأجل تبيين ذلك وتوضيحه نجد أنه يفصّل فيها تفصيلا واضحا كثيرا، ففي كتاب التوحيد ذكر باب الاستعاذة بغير الله، والاستغاثة بغير الله، ودعاء غير الله، وباب الشفاعة، وبث ذلك في كتب أخرى.
    يقول رحمه الله: “فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة، فقل له: أنت تقر أنَّ الله فرض عليك إخلاص العبادة لله وهو حقّه عليك.
    فإذا قال: نعم، فقل له: بين لي هذا الذي فرض عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده وهو حقّه عليك، فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له بقولك: قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، فإذا أعلمته بهذا، فقل له: هل علمت هذا عبادة الله؟ فلا بد أن يقول: نعم. والدعاء مخ العبادة.
    فقل له: إذا أقررت أنها عبادة ودعوت الله ليلا ونهارا خوفا وطمعا ثم دعوت في تلك الحاجة نبيا أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره؟ فلا بد أن يقول: نعم.
    فقل له: فإذا عملت بقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] وأطعت الله ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم.
    فقل له: فإن نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلا بد أن يقر ويقول: نعم.
    وقل له أيضا: المشركون الذين نزل فيهم القرآن، هل كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟ فلا بد أن يقول: نعم.
    فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك؟ وإلا فهم مقرون أنهم عبيده وتحت قهره، وأن الله هو الذي يدبر الأمر، ولكن دَعَوهم والتجؤوا إليهم للجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جدا”([14]).
    وهو ممَّا اتفق عليه علماء نجد وعلماء مكة، فقد جاء في بيان علماء مكة قولهم: “ونعتقد أنَّ عبادة غير الله شرك أكبر، وأنَّ دعاء غير الله من الأموات والغائبين وحبّه كحب الله، وخوفه ورجائه، ونحو ذلك شرك أكبر، وسواء دعاه دعاء عبادة أو دعاء استعانة في شدة أو رخاء، فإن الدعاء هو العبادة، وسواء دعاه لجلب النفع أو دفع الضر، أو دعاه لطلب الشفاعة، أو ليقربه إلى الله، أو دعاه تقليدا لآبائه أو أسلافه أو لغيرهم”([15]).
    ولا نريد إطالة الكلام في تقرير مذهب الإمام محمد بن عبد الوهاب في هذه القضية، فمذهبه ليس خاصًّا به، بل هو ما قررته الأدلة الشرعية الصريحة، وهو ما سار عليه علماء الأمة، وقرروه في كتبهم ومقالاتهم.
    الشواهد على أنَّ دعاء المسألة عبادة:
    دعاء المسألة لا شك عند أهل السنة والجماعة أنَّه عبادة من العبادات، وأنه ليس مجرد دعاء ونداء، والأدلَّة على هذا كثيرة متضافرة، ومن أهمِّ أصول هذه الأدلة ما يلي:
    1- أنَّ الله سبحانه وتعالى أمر بالدعاء، وحثَّ عليه، وأمر بإخلاصه له وحده، فالمأمور بهذا الحال عبادةٌ بلا ريب، والأدلة كثيرة على أنَّ الدعاء مأمورٌ به، من أصرحها قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، يقول الطبري: “يقول تعالى ذكره: {ادْعُوا} أيها الناس {رَبَّكُمْ} وحده، فأخلصوا له الدعاء، دون ما تدعون من دونه من الآلهة والأصنام”([16]).
    2- التصريح بأنَّ الدعاء عبادة؛ ومن أصرح الأدلة الدالة على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: «الدعاء هو العبادة»([17])، يقول الملا الهروي القاري في تقرير ذلك، وكذلك بيان أن الدعاء مأمورٌ به، وأن المأمور به عبادة: “«الدعاء هو العبادة» أي: هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمّى عبادة لدلالته على الإقبال على الله، والإعراض عمَّا سواه، بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه، قائمًا بوجوب العبودية، معترفًا بحق الربوبية، عالمًا بنعمة الإيجاد، طالبًا لمدد الإمداد على وفق المراد وتوفيق الإسعاد، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قيل: استدل بالآية على أن الدعاء عبادة؛ لأنه مأمور به والمأمور به عبادة”([18]).
    ومن الأحاديث الصريحة في بيان أن الدعاء عبادة من العبادات قوله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء مخّ العبادة»([19])، يقول الملا القاري: “ومعناه أنَّ الدعاء معظم العبادة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»، أي: معظم أركان الحج الوقوف بعرفة، أو المعنى: أن الدعاء هو العبادة سواء استجيب أو لم يستجب؛ لأنَّه إظهار العبد العجز والاحتياج من نفسه، والاعتراف بأنَّ الله تعالى قادر على إجابته، كريم لا بخل له ولا فقر، ولا احتياج له إلى شيء حتى يدّخر لنفسه ويمنعه عن عباده، وهذه الأشياء هي العبادة بل مخّها”([20]).
    ويقول الخطابي: “وقوله: «الدعاء هو العبادة» معناه: أنَّه معظم العبادة، أو أفضل العبادة، كقولهم: الناس بنو تميم، والمال الإبل، يريدون: أنهم أفضل الناس، أو أكثرهم عددًا أو ما أشبه ذلك، وأن الإبل أفضل أنواع الأموال وأنبلها. وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»، يريد: أن معظم الحجّ الوقوف بعرفة، وذلك لأنه إذا أدرك عرفة فقد أمن فوات الحج. ومثله في الكلام كثير”([21]).
    3- أن الله سبحانه وتعالى جعل دعاء الطلب والمسألة من معالم الإيمان، فقد ذكر أن المشركين حين الشدّة واليأس يدعون الله مخلصين له، يقول تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]، فمن معالم الإيمان إخلاص الدعاء لله جل وعلا، والاستغاثة به في الشدائد، ولا شك أنَّ الاستغاثة دعاء، يقول الطبري: “يقول تعالى ذكره: فإذا ركب هؤلاء المشركون السَّفينة في البحر، فخافوا الغرق والهلاك فيه {دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس: 22] يقول: أخلَصوا لله عند الشدة التي نزلت بهم التوحيد، وأفردوا له الطاعة، وأذعنوا له بالعبودة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم، ولكن بالله الذي خلقهم {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ} [العنكبوت: 65] يقول: فلما خلّصهم مما كانوا فيه وسلمهم، فصاروا إلى البر، إذا هم يجعلون مع الله شريكا في عبادتهم، ويدعون الآلهة والأوثان معه أربابا”([22]).
    ويوضّح البيضاوي بأنَّ الدعاء من معالم الإيمان، وأن هؤلاء المشركين يكونون في حال الشدّة كحال المؤمنين من إخلاص الدعاء لله، يقول رحمه الله: “{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ}، متصل بما دل عليه شرح حالهم، أي: هم على ما وصفوا به من الشرك، فإذا ركبوا البحر {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} كائنين في صورة من أخلص دينه من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله، ولا يدعون سواه؛ لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} فاجؤوا المعاودة إلى الشرك”([23]).
    4- أن الدعاء بمعنى الطلب جعله الله أيضا من معالم المشركين، وهذا واضح في الآية السابقة، وكذلك في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40، 41]، والمراد أنهم في حال الرخاء إنما يدعون آلهتهم، والمراد هنا دعاء المسألة لقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ}، يقول الطبري: “يقول تعالى ذكره مكذبًا لهؤلاء العادلين به الأوثان: ما أنتم أيها المشركون بالله الآلهة والأنداد، {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} بمستجيرين بشيء غير الله في حال شدة الهول النازل بكم من آلهة ووثن وصنم، بل تدعون هناك ربكم الذي خلقكم، وبه تستغيثون، وإليه تفزعون، دون كل شيء غيره، {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ}، يقول: فيفرج عنكم عند استغاثتكم به وتضرعكم إليه عظيمَ البلاء النازل بكم {إِنْ شَاءَ} أن يفرج ذلك عنكم؛ لأنه القادر على كل شيء، ومالك كل شيء، دون ما تدعونه إلها من الأوثان والأصنام”([24]).
    ومن أصرح الأدلة على هذا المعنى وأقواها قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5]، وقد ذكرها الإمام محمد بن عبد الوهاب وساقها للاحتجاج على أن دعاء المسألة عبادة من العبادات في “باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره” من كتاب التوحيد، وحاصل كلام المفسرين في هذه الآية أنه لا أحد أضلّ ممن يدعو غير الله دعاء مسألة، فلا يستجيب له هذا المدعو.
    يقول الطبري رحمه الله: “يقول تعالى ذكره: وأي عبد أضل من عبد {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ} آلهة لا تستجيب له {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} يقول: لا تجيب دعاءه أبدا؛ لأنها حجر أو خشب أو نحو ذلك. وقوله: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} يقول تعالى ذكره: وآلهتهم التي يدعونهم عن دعائهم إياهم في غفلة؛ لأنها لا تسمع ولا تنطق ولا تعقل، وإنَّما عنى بوصفها بالغفلة تمثيلها بالإنسان الساهي عمَّا يقال له؛ إذ كانت لا تفهم مما يقال لها شيئًا، كما لا يفهم الغافل عن الشيء ما غفل عنه. وإنَّما هذا توبيخ من الله لهؤلاء المشركين لسوء رأيهم، وقبح اختيارهم في عبادتهم من لا يعقل شيئا ولا يفهم، وتركهم عبادة من جميع ما بهم من نعمته، ومن به استغاثتهم عندما ينزل بهم من الحوائج والمصائب”([25]).
    ويقول ابن كثير رحمه الله: “وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5]، أي: لا أضل ممن يدعو أصنامًا، ويطلب منها ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة، وهي غافلة عمَّا يقول، لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش؛ لأنها جماد حجارة صم”([26]).
    الحكم على دعاء المسألة أنه شرك ليس بدعة وهابية:
    إذا كان دعاء المسألة عبادة من العبادات، فإنَّ السلفية متّسقة في منهجها في أنَّ صرف العبادة لغير الله شرك، فما دام أن دعاء المسألة عبادة فصرفه لغير الله شرك، وهذا التقرير -أعني الحكم على هذا الفعل بأنه شرك- ليس خاصًّا بالوهابية، فهو ليس من ابتداع الإمام محمد بن عبد الوهاب كما يشنّع به البعض، بل هو قول الشّرع، وعليه العلماء على مرّ العصور، فقد أكّدوا وبيّنوا ووضحوا بأنَّ صرف دعاء المسألة لغير الله شرك.
    يقول ابن خزيمة رحمه الله: “هل سمعتم عالمًا يجيز أن يقول الداعي: أعوذ بالكعبة من شر خَلقِ الله، أو يجيز أن يقول: أعوذ بالصفا والمروة، أو أعوذ بعرفات ومنى من شر ما خلق الله؟! هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلمٌ يعرف دين الله، محالٌ أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلقه”([27]). والاستعاذة بغير الله دعاء لغير الله.
    ويقول ابن عقيل: “لما صعبت التَّكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاعٍ وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم كفار عندي بهذه الأوضاع؛ مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى الشرع عنه من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالألواح وكتب الرقاع فيها: يا مولاي، افعل بي كذا وكذا”([28]).
    ويقول البركوي الحنفي: “ومنها أنَّ الذي شرعه النَّبي عليه السلام عند زيادة القبور إنَّما هو تذكّر الآخرة والاتعاظ والاعتبار بحال المزور، والإحسان إليه بالدعاء له والترحم عليه، حتى يكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فَقَلَب هؤلاء الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءَه وسؤاله الحوائج واستنزال البركات منه ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت([29]).
    ويقول الفتَّني الحنفي: “فإنَّ منهم من قصد بزيارة قبور الأنبياء والصلحاء أن يصلي عند قبورهم، ويدعو عندها، ويسألهم الحوائج، وهذا لا يجوز عند أحدٍ من علماء المسلمين، فإنَّ العبادة وطلب الحوائج والاستعانة حق لله وحده([30]).
    ويقول الألوسي مفتي الحنفية: “النَّاس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل: يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوّه بذلك وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده أناس من العلماء شركًا، وإن لا يَكُنْه فهو قريب منه، ولا أرى أحدًا ممَّن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحيّ الغائب أو الميت المغيّب يعلم الغيب أو يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه ولا فتح فاه، وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم”([31]).
    ويقول السهسواني: “المانعون لنداء الميت والجماد وكذا الغائب إنما يمنعونه بشرطين:
    الأول: أن يكون النداء حقيقيًّا لا مجازيًّا.
    والثاني: أن يقصد ويطلب به من المنادى ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب النفع وكشف الضر. مثلًا يقال: يا سيدي فلان، اشف مريضي وارزقني ولدًا. ولا مرية أنَّ هذا النداء هو الدعاء، والدعاء هو العبادة، فكيف يشك مسلم في كونه كفرًا وإشراكًا وعبادة لغير الله؟!”([32])، ويقول: “أقول: إنما نكفّر بالنداء الحقيقي الذي يطلب فيه من الأموات والجمادات ما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا شيء لم يثبت بعد [أي: مشروعيته كما ادَّعى المخالفون] بالبراهين، بل قام الدليل على كونه كفرًا”([33]).
    ويقول الشهرستاني الشافعي: “لكن القوم لما عكفوا على التوجّه إليها كان عكوفهم ذلك عبادة، وطلبهم الحوائج منها إثبات إلهية لها، وعن هذا كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]”([34]).
    ويقول القرطبي المالكي: “ولا خفاء أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك”([35]).
    ويقول ابن عبد الهادي الحنبلي: “فزيارة القبور للدعاء للميت من جنس الصلاة على الجنائز يقصد فيها الدعاء لهم، لا يقصد فيها أن يدعو مخلوقًا من دون الله… ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به كان هذا شركًا محرمًا بإجماع المسلمين”([36]).
    وقد نقل ابن تيمية رحمه الله الإجماع على ذلك، فقال رحمه الله: “فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين”([37]).
    فهذا كلام جملةٍ من العلماء ممَّن ينصُّون على أنَّ دعاء غير الله شرك، وأن الاستعانة بغيره شرك، والاستعاذة بغيره شرك، وقد مرَّ بنا التأصيل الشرعي لدعاء المسألة وأنَّه عبادة من العبادات، فأهل السنَّة والجماعة متَّسقون مع قاعدتهم في أنَّ صرف العبادة لغير الله شرك، وأنه لا يشترط في ذلك اعتقاد الربوبية، فلم يكن ما جاء به الإمام محمد بن عبد الوهاب بدعًا من القول، وإنَّما سار على ما سار عليه السلف.
    فإن كان هناك من يرى أن الحكم على دعاء غير الله بالشرك بدعةٌ وهابية، فدونه هذه المعاني:
    هذ الفعل مناقضٌ مناقضة تامة لمقاصد الشريعة في تعليق الناس بالله سبحانه وتعالى، وتخليص الناس من التعلق بغيره، ومناقض للعزة التي جاءت بها الشريعة حين يتخلص الإنسان من ربقة التعلُّق بالقبور والأصنام والجمادات وغيرها، ويتذلل لها بما لا يتذلل به لله، وقد أكدت على هذه المقاصد نصوص كثيرة في كتاب الله تعالى.
    هذا الفعل مناقضٌ للنصوص التي تصرح بأنَّ الدعاء عبادة، وأن العبادة لا تصرف إلا لله سبحانه وتعالى، وقد مر بنا ذكر ذلك.
    هذا الفعل مناقضٌ لحال الأنبياء وعملهم، فالله سبحانه وتعالى قد ذكر عددا من الأنبياء ممن توجهوا إلى الله بالدعاء، وأصابتهم الملمَّات، فكان توجههم خالصًا لله وحده، ولم يذكر عنهم أنهم توجهوا إلى رسل قبلهم رغم فضلهم وعظم مكانتهم ومعرفة الأنبياء بهم.
    هذا الفعل مناقضٌ لفعل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فقد نزلت بهم نوازل، وحلت بهم كربات، فمتى رأيتهم استغاثوا بالأموات؟! بل حتى بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته؟!
    يقول ابن تيمية رحمه الله: “سؤال الميت والغائب -نبيًّا كان أو غيره- من المحرَّمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحدٌ من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحسنه أحدٌ من أئمة المسلمين، وهذا ممَّا يعلم بالاضطرار من دين المسلمين، فإن أحدًا منهم ما كان يقول إذا نزلت به تِرة أو عرضت له حاجة لميت: يا سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال، ويشتدّ البأس بهم ويظنون الظنون، ومع هذا لم يستغث أحد منهم بنبي ولا غيره من المخلوقين، بل ولا أقسموا بمخلوق على الله أصلًا، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها”([38]).
    فهذه نصوص شرعية، وتقريرات للعلماء، ومناقضات صريحة لعدد من المعاني الشريفة، كلها تؤكد أن ما جاء به الإمام محمد بن عبد الوهاب لم يكن من تلقاء نفسه، ولم يكن بدعةً ابتدعها، بل هو سائر على منهج السلف الصالح، ومنهج علماء الأمة.
    وأخيرًا: فقول الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه في هذه المسألة دقيق، وليس كما يشنّع به عليه البعض بأنه يكفّر بكل تعلُّق بالقبور، أو بالتوسل الذي لا يصل إلى الكفر، بل الصحيح أنهم يفرقون بين القضايا هذه كلّها، ويبيّنون أن منها ما هو شرك، ومنها ما هو بدعة ومحرم.
    يقول عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: “وأعظم من الفتنة بهذه الأنصاب فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عباد الأصنام كما ذكر الله في سورة نوح في قوله: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، ذكر السلف في تفسيرها أنَّ هؤلاء أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلمَّا ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوَّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، وتعظيم الصَّالحين إنَّما هو باتباع ما دعوا إليه دون اتخاذ قبورهم أعيادًا وأوثانًا، فأعرضوا عن المشروع واشتغلوا بالبدع. ومن أصغى إلى كلامه وتفهَمه أغناه عن البدع والآراء، ومن بعُد عنه فلا بد أن يتعوّض بما لا ينفعه؛ كما أنَّ من عمر قلبه بمحبة الله وخشيته والتوكل عليه أغناه عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه، فالمعرض عن التوحيد مشركٌ شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله عبد الصور شاء أم أبى.
    وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع، أبعدها عن الشرع أن يسأل الميتَ حاجته كما يفعله كثير، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام؛ ولهذا يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر وتقبيله والتمسح به.
    النوع الثاني: أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا.
    النوع الثالث: أن يظنّ أنَّ الدعاء عنده مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك. فهذا أيضًا من المنكرات إجماعا، وما علمتُ فيه نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعله.
    وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلّص منها إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم. وعبادتها في الأرض من قبل نوح، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها والكتب المصنفة في عبادتها طبق الأرض”([39]).
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
    (المراجع)
    ([1]) تفسير الطبري (3/ 480).
    ([2]) تفسير ابن كثير (6/ 203).
    ([3]) أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، وابن ماجه (3828)، وأحمد (18391)، وصححه النووي في الأذكار (478)، وحسنه ابن حجر في الفتح (1/ 64).
    ([4]) هذا هو الأصل في المسألة، ولا يخرجها عن هذا الأصل وقوع الخلاف في صور نادرة من صور الدعاء لغير الله، وليس هذا موضع التفصيل في ذلك، وإنما غرضنا في هذه الورقة بيان أن الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه لم ينفردوا بتقرير هذا الأصل.
    ([5]) كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب (ص: 228).
    ([6]) المرجع السابق (ص: 230).
    ([7]) الرؤية الوهابية للتوحيد وأقسامه (ص: 209).
    ([8]) المرجع السابق (ص: 230).
    ([9]) الدرر السنية في الرد على الوهابية (ص: 33- 34).
    ([10]) مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام (ص: 8).
    ([11]) شأن الدعاء (1/ 4).
    ([12]) شرح ثلاثة الأصول للعثيمين (ص: 56).
    ([13]) حينما نقول في هذه الورقة: دعاء غير الله، فإننا نقصد به دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ووجب التنبيه حتى لا نكرر العبارة في كل مرة.
    ([14]) كشف الشبهات (ص: 20-23).
    ([15]) البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد (ص: 5).
    ([16]) تفسير الطبري (12/ 485).
    ([17]) أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، وابن ماجه (3828)، وأحمد (18391)، وصححه النووي في الأذكار (478)، وحسنه ابن حجر في الفتح (1/ 64).
    ([18]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1527).
    ([19]) أخرجه الترمذي (3371)، وضعفه.
    ([20]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1527).
    ([21]) شأن الدعاء (1/ 5-6).
    ([22]) تفسير الطبري (18/ 441).
    ([23]) تفسير البيضاوي (4/ 199).
    ([24]) تفسير الطبري (11/ 353-354).
    ([25]) تفسير الطبري (22/ 95).
    ([26]) تفسير ابن كثير (7/ 275).
    ([27]) التوحيد (1/ 401).
    ([28]) ينظر: تلبيس إبليس (ص: 354).
    ([29]) زيارة القبور (ص: 18).
    ([30]) مجمع بحار الأنوار (2/ 444).
    ([31]) تفسير الألوسي (3/ 297-298).
    ([32]) صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان (ص: 366).
    ([33]) صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان (ص: 399).
    ([34]) الملل والنحل (3/ 104).
    ([35]) تفسير القرطبي (19/ 10).
    ([36]) الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص: 325).
    ([37]) الواسطة بين الحق والخلق (ص: 22).
    ([38]) الاستغاثة في الرد على البكري (ص: 221-222).
    ([39]) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (3/ 416-417).



    تحريم الاستغاثة بالحي فيما لا يقدر عليه إلا الله ليس بدعة تيمية

    مِن نافلة القول أن يُقال: إنّ دعاء الله هو الأصل في الدعاء، فلا يكاد مسلمٌ يقرأ آية من القرآن إلا دفعت بهذه الحقيقة في وجهه مقرِّرة لها بالأدلة الشرعية بقسميها العقليّ والنقلي.
    ومع ذلك ظلّ بعضُ المتأخِّرين يجادل في هذه الحقيقة بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، حتى جعلوا دعاءَ غيرِ الله وسؤالَه هو الأصل، بل أوهموا الناس أنّ الإنسان لا يكاد يُستجاب له دعاء ما لم يدعُ صالحا ويستغِثْ به من دون الله، وجعلوا دعاء الحي الغائب ودعاء الميت فيما لا يقدر عليه إلا الله من قبيل التوسل مع التصريح بندائه ودعائه في أمر لا يقدر عليه، وجعلوا اشتراط القدرة بدعَة تيميّة، ولبيان هذا الأمر وتجليتِه يجب تبيين عدّة مسائل:
    أولا: أن أسماء الله عز وجل كثيرة، وهذه الكثرة حِكمتها أن يُدعى بكل اسم بما يناسب حاجة الإنسان، قال الله: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الأعراف: 180]، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة»([1]).
    ثانيا: الأصل هو حرمة دعاء ما سوى الله عز وجل نبيًّا كان أو ملَكًا أو صالحًا أو غير ذلك، وهذا ما نصّت عليه الآيات القرآنية الكثيرة، ومن أصرحها في ذلك قول الله عز وجل: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]. قال ابن عباس: “كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة وعُزَيرًا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح وعُزيرصا”([2]).
    ثالثا: نزلت بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه كرب كثيرة، فكلُّ ما أُثِر فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم هو دعاء الله، وكذلك أصحابه، ومن أمثلة ذلك ما وقع في بدر، فلم يُؤثر عنهم إلا دعاء الله، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِين} [الأنفال: 9].
    وفي الصحيحين من حديث أنس: *أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، *فَادْعُ *اللهَ *يُغِيثُنَا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا». قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاللهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةً وَلَا شَيْئًا، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ. قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: وَاللهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا. ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُمْسِكْهَا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالْجِبَالِ وَالْآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ». قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ. قَالَ شَرِيكٌ: فَسَأَلْتُ أَنَسًا: أَهُوَ الرَّجُلُ الْأَوَّلُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي([3]).
    وما من مناسبة إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم دعاء يخصّها، مثل أدعية الكرب والحزن وخوف العدو، وغيرها من الأدعية المشروعة، وليس في شيء من ألفاظ هذه الأدعية إحالة إلى أن يدعَى مخلوق من دون الله أو مع الله.
    فإذا تقرَّر هذا بقي لنا أن نورد ما يتعلّق بالمسألة التي نحن بصدد مناقشتها فنقول: إن الاصطلاحات لا تغيّر حقائق العقل ولا الشرع، فمن سمى دعاء الغائب أو الميت توسُّلا، وجعل ذلك اصطلاحًا له، وحاكم إليه الشرائع؛ فإن ذلك لن يغير من الحقائق شيئا:
    فالملح للسكَّر لن ينقلبا *** إن لفظ سكَّر عليه كُتبَا
    ولن يغيّر النحاس من ذهب *** يقول للناس نحاسي ذهبَا
    وهذا الاصطلاح هو من جنس ما حكى الله عز وجل عن المشركين في افترائهم على الله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [الأعراف: 28].
    ونحن نبين بعون الله أن منع الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ليس خاصًّا بابن تيمية، بل هو مسبوق إليه، وقال به خلق لا يحصَون من مخالفيه، فهذا الفخر الرازي وهو ممن ألهى القومَ التكاثرُ به ينصّ على حرمة دعاء غير الله، فقد قال عند قول الله سبحانه: {قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون} [الأعراف: 138]: “واعلم *أن *من *المستحيل أن يقول العاقل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وخالقًا ومدبرًا؛ لأن الذي يحصل بجعل موسى وتقديره لا يمكن أن يكون خالقًا للعالم ومدبرًا له، ومن شك في ذلك لم يكن كامل العقل، والأقرب أنهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يعيّن لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [الزُّمَرِ: 3]. إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول: لم كان هذا القول كفرًا؟ فنقول: أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى؛ لأن العبادة نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام”([4]).
    وقال أيضا في معرض كلامه عن كيفية عبادة المشركين: “إنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى. ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظّموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله”([5]).
    وقال القرطبي أبو عبد الله عند قول الله: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير} [فاطر: 14]: “أي: يجحدون أنكم عبدتموهم، ويتبرؤون منكم. *ثم *يجوز *أن *يرجع *هذا *إلى *المعبودين *مما *يعقل كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين، أي: يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقًّا، وأنهم أمروكم بعبادتهم، كما أخبر عن عيسى بقوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116]، ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضا، أي: يحييها الله حتى تخبر أنها ليست أهلا للعبادة”([6]).
    وقال ابن عقيل: “لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم كفار عندي بهذه الأوضاع، مثل: تعظيم القبور وإكرامها بما نهى الشرع عنه، ومن إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالألواح، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ التراب تبركًا”([7]).
    وقال** قوام السنة الأصبهاني: “ومن أسمائه: الوهاب، يهب العافية، ولا يقدر المخلوق أن يهبها، ويهب القوة ولا يقدر المخلوق أن يهبها، تقول: يا رب هب لي العافية، ولا تسأل مخلوقا ذلك، وإن سألته لم يقدر عليه، وتقول عند ضعفك: يا رب هب لي قوة، والمخلوق لا يقدر على ذلك”([8]).
    وهذا الإمام النووي يجلّي المسألة ويوضّحها؛ فيقول في شرحه لحديث: «إذا سألت فاسأل الله»: “إشارة إلى أنّ العبد لا ينبغي أن يعلّق سرّه بغير الله، بل يتوكّل عليه في سائر أموره، ثم إن كانت الحاجة التي يسألها لم تجر العادة بجريانها على أيدي خلقه كطلب الهداية والعلم والفهم في القرآن والسنة وشفاء المرض وحصول العافية من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة سأل ربه ذلك، وإن كانت الحاجة التي يسألها جرت العادة أن الله سبحانه وتعالى يجريها على أيدي خلقة، كالحاجات المتعلقة بأصحاب الحرف والصنائع وولاة الأمور، سأل الله تعالى أن يعطف عليه قلوبهم فيقول: اللهم أحنن علينا قلوب عبادك وإمائك، وما أشبه ذلك”([9]).
    والقرافي رحمه الله من المالكية قد عقد فصلا في الفروق تكلّم فيه عن الأدعية المكفّرة، وجعل منها: “أن تعظم حماقة الداعي وتجرّؤه فيسأل الله تعالى أن يفوّض إليه من أمور العالم ما هو مختصّ بالقدرة والإرادة الربانية من الإيجاد والإعدام والقضاء النافذ المحتم، وقد دلّ القاطع العقلي على استحالة ثبوت ذلك لغير الله تعالى، فيكون طلب ذلك طلبا للشركة مع الله تعالى في الملك، وهو كفر، وقد وقع ذلك لجماعة من جهال الصوفية، فيقولون: فلان أُعطِي كلمة (كن) ويسألون أن يُعطوا كلمة (كن) التي في قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، وما يعلمون معنى هذه الكلمة في كلام الله تعالى، ولا يعلمون ما معنى إعطائها إن صح أنها أعطيت، وهذه أغوار بعيدة الرَّوم على العلماء المحصلين، فضلا عن الصوفية المتخرّصين، فيهلكون من حيث لا يشعرون، ويعتقدون أنهم إلى الله تعالى متقربون، وهم عنه متباعدون، عصمنا الله تعالى من الفتن وأسبابها والجهالات وشبهها”([10]).
    وقال الحافظ ابن عبد الهادي: “*ولو *جاء *إنسان *إلى *سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به كان هذا شركًا محرمًا بإجماع المسلمين، ولو ندبه وناح لكان أيضًا محرّمًا”([11]).
    والسيوطي يرى أن مجرد الدعاء عند القبر ذريعة للشرك، ومحادّة لله ورسوله، ومخالَفة للشرع وابتداع، فكيف بدعاء صاحب القبر من دون الله؟!([12]).
    ولو تتبعنا هذا الأمر عند الفقهاء والمحدثين لخرجنا بأسفار تنوء بها العصبة أولو القوة، لكن حسبنا أن نذكر ما يستدلّ به على غيره، ويفهم منه المراد، وفيه كفاية لمن أراد الله له الهداية. والحمد لله رب العالمين.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
    (المراجع)
    ([1]) رواه البخاري (2585)
    ([2]) تفسير الطبري (14/ 471).
    ([3]) رواه البخاري (1013)، ومسلم (897).
    ([4]) تفسير الرازي (14/ 310).
    ([5]) تفسير الرازي (17/ 287).
    ([6]) تفسير القرطبي (14/ 336).
    ([7]) ينظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص: 455).
    ([8]) الحجة في بيان المحجة (1/ 156).
    ([9]) شرح الأربعين النووية (ص: 63).
    ([10]) الفروق (4/ 263).
    ([11]) الصارم المنكي (ص: 325).
    ([12]) كتاب الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي (ص: 118).

    منقول موقع مركز السلف

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Apr 2024
    المشاركات
    582

    افتراضي رد: هل الحكم على “دعاء غير الله” بأنه شرك، بدعةٌ وهابيَّة؟

    دعوى: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يسبقه أحدٌ نبَّه على شرك القبور ..عرض ونقاش


    تمهيد:
    إنَّ من أعظم ما يُثيره المناوئون تجاهَ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنَّ الشيخَ لم يسبقه أحد من العلماء المُتأخرين قد حذَّر من شرك القبور أو أسماه شركًا، خلا شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن العصور المُتأخرة قد تصالحت مع فكرة تعظيم القباب والأضرحة ودعاء غير الله منذ دهور طويلة، ثم يوردون سؤالًا: هل كان المسلمون في ضلال حتى ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟!
    وما سبق أقربُ للمغالطات المنطقية منه إلى البحث العلمي، ففضلًا عن مغالطة تقليد العصور المتأخِّرة دون نظر أو افتراض صحَّة الوضع القديم، ودون تأمل في الظروف والمُسببات واعتبارية قدرة العلماء على التغيير، ففيه أيضًا الوقوع في مغالطة الاستقراء الناقص، فصاحب هذه الشبهة قد سارع في افتراض أن جميع المتأخرين قد تصالحوا مع هذه الأوضاع الشركية، وهذا الفرض ينقصه الاستقراء التام.
    بل نحن نقول: إن هذه الفرضية القائلة بأن المتأخرين قد تصالحوا مع شرك القبور هي فرضية لا أساسَ لها من الصحَّة، فلا تزال طائفة من الأمّة بالحقّ ظاهرين، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وهم في كل عصرٍ ومصر لا يخلو منهم زمان، حتى وإن استفحل الباطل في زمن المتأخرين؛ فلا ريب في وجود طائفة كبيرة من العلماء ينكرون ذلك -على تفاوت فيما بينهم-، ويُبيِّنون التوحيد الخالصَ، وينهون الناس عن الممارسات الشركية.
    وهذا يشمل أيضًا الحقبة التي سبقت دعوة الشيخ؛ إذ لا يخلو زمان من قائمٍ لله بحجة، والشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يعتدّ بمتأخري المذاهب ويحتج بهم على مخالفيه.
    ففي رسالته إلى عبد الرحمن السويدي قال: “قلت لهم: أنا أخاصم الحنفيَّ بكلام المتأخِّرين من الحنفيّة والمالكيَّ والشافعيَّ والحنبليَّ كلّ أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم، فلما أبوا ذلك نقلتُ لهم كلام العلماء من كل مذهب، وذكرتُ ما قالوا بعدما حدثت الدعوة عند القبور والنذر لها، فصرفوا ذلك وتحقَّقوه ولم يزدهم إلا نفورا”([1]).
    ويُفهم من ذلك أنَّ الشيخ محمدَ بن عبد الوهاب لا يعتبر التوحيدَ مذهبَ ابن تيمية وحده، بل يتترس بمتأخِّري علماء المذاهب، حتى وإن وُجد عندهم نوع من البدع، فلا يُهدرهم -كما يظن البعض- فضلًا عن أن يُكفِّرهم.
    وقبل أن نشرعَ في ذكر السابقين للدعوة نبدأ بالعلماء الثقات الذين عاصروا الشيخ تاريخًا ولم يلتقوا به، ولم يتأثَّروا بالدعوة الوهابية، بل كانوا على منوال السابقين.
    أولا: بعض أقوال من عاصروا الدعوة في إنكار شرك القبور:
    1- الشاه ولي الله الدهلوي أحمد بن عبد الرحيم الحنفي (1114-1176هـ):
    يقول: “كل من ذهب إلى بلدة أجمير، أو إلى قبر سالار مسعود([2]) أو ما ضاهاها لأجل حاجة يطلبها، فإنه آثمٌ إثمًا أكبر من القتل والزنى، ليس مَثَلُه إلا مثل من كان يعبد المصنوعات، أو مثل من كان يدعو اللات والعزى”([3]).
    2- محمد بن أحمد السفَّاريني الحنبلي (1114-1188هـ):
    يقول رحمه الله: “أما من كان قصده بالزيارة أن يطلبَ حوائجه من الميت، فهذا لا يشك عاقل في قُبحه وتحريمه، إذ الحوائج منوطة لخالقها، فليس إلا الله يقضي حاجة، ومن شكَّ في هذا طغى وتمرد، وأما إذا كان قصده الدعاء عند قبر الميت والتوسل به فليس بمُحرَّم، نعم إنِ اعتقد أن الدعاءَ عند القبور أفضلُ منه في نحو المساجد أو أنه لا يُجاب إلا ثَمَّ كان هذا قبيحًا”([4]).
    ثم نقل السفاريني عن ابن تيمية وابن القيم ما يُفيد شركيةَ هذه الممارسات مُحتجًّا بهما؛ ما يدلّ على أنه يوافقهما على ذلك([5]).

    3- الشاه إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي (1193-1246هـ) حفيد ولي الله:
    يقول: “وقال اللَّه تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: ٥]، وقد دلت هذه الآية على أن المشركين قد أمعنوا في السفاهة، فقد عدلوا عن اللَّه القادر العليم إلى أناس لا يسمعون دعاءهم، وإن سمعوا ما استجابوا لهم، وهم لا يقدرون على شيء، فظهر من ذلك أن الذين يستغيثون ويظنون أنهم ما أشركوا، فإنهم ما طلبوا منهم قضاء الحاجة، وإنما طلبوا منهم الدعاء، وإن لم يشركوا عن طريق طلب قضاء الحاجة، فإنهم أشركوا عن طريق النداء، فقد ظنوا أنهم يسمعون نداءهم عن بعد، كما يسمعون نداءهم عن قرب”([6]).
    4- عبد الله باسودان الكِندي الدوعني الشافعي (1178-1266هـ) شيخ الصوفية:
    قال تحت فصل (اعتقادات العامة في الأولياء): “فلما اعتقدوا نفعهم وضرَّهم حلفوا بهم من دون الله، ونذروا لهم من دون الله، واستسقوا بهم من دون الله… ويقع من هؤلاء في زيارة قبور الأولياء كثير من الجهالات، ولا شك أن أهل الجرأة من هؤلاء ممن لا يُبالون بجريمة الكفر يخرجون بذلك من الإسلام، وأما العامة الذين لم يبلغوا هذه الدرجة فهم آثمون، لكنهم لا يخرجون من الإسلام”([7]).
    وقال تحت فصل (آداب الزيارة): “… وبمراعاة آداب الزيارة من ترك التمسح بالقبور وعدم الصلاة عند القبر للتبرك، وإن كان عليه مسجد للنهي عن ذلك”([8]).
    5– شهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي الحنفي المفسِّر (1217-1270هـ):
    قال عند قوله تعالى: {ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ}: “وفي الآية ما يدل على أنّ صنيع أكثر العوام اليوم من الجؤار إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم -بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا- عند إصابة الضر لهم، وإعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية سفهٌ عظيم وضلال جديد، لكنه أشد من الضلال القديم. ومما تقشعر منه الجلود وتصعر له الخدود الكفرة أصحاب الأخدود، فضلًا عن المؤمنين باليوم الموعود أن بعض المتشيِّخين قال لي وأنا صغير: إياك ثم إياك أن تستغيث بالله تعالى إذا خطْبٌ دهاك، فإنّ الله تعالى لا يعجل في إغاثتك ولا يهمّه سوء حالتك، وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين، فإنهم يعجِّلون في تفريج كربك ويهمّهم سوء ما حلّ بك، فمجّ ذلك سمعي، وهمى دمعي، وسألتُ الله أن يعصمني والمسلمين من أمثال هذا الضلالِ المبين، ولكثير من المتشيِّخين اليوم كلمات مثل ذلك”([9]).
    ثانيا: بعض أقوال من سبقوا الدعوة في إنكار شرك القبور:
    1- أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي (513هـ):
    قال رحمه الله: “لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفارٌ بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالألواح وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا، وأخذ التراب تبركا وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها”([10]).
    وقال أيضًا: “قد سمعنا منهم أن الدعاء عند حدو الحادي وعند حضور المخدّة مجاب، وذلك أنهم يعتقدون أنه قربة يتقرب بها إلى الله تعالى، قال: وهذا كفر؛ لأن من اعتقد الحرام أو المكروه قربة كان بهذا الاعتقاد كافرًا، قال: والناس بين تحريمه وكراهيته”([11]).
    وقال: “لا يخلّق القبور بالخلوق والتزويق والتقبيل لها والطواف بها والتوسل بهم إلى الله، قال: ولا يكفيهم ذلك حتى يقولوا بالسر الذي بينك وبين الله. وأي شيء من الله يسمى سرا بينه وبين خلقه. قال: ويكره استعمال النيران والتبخير بالعود والأبنية الشاهقة الباب، سموا ذلك مشهدا، واستشفوا بالتربة من الأسقام وكتبوا إلى التربة الرقاع ودسوها في الأثقاب، فهذا يقول: جِمالي قد جَرِبت، وهذا يقول: أرضي قد أجدبت، كأنهم يخاطبون حيًّا ويدعون إلها”([12]).
    2- إسماعيل بن محمد التيمي الأصبهاني الشافعي قوام السنة (535هــ):
    قال رحمه الله مُحرمًا الاستغاثة بغير الله تعالى: “ومن أسمائه الوهاب: يهب العافية، ولا يقدر المخلوق أن يهبها، ويهب القوة ولا يقدر المخلوق أن يهبها، تقول: يا رب هب لي العافية، ولا تسأل مخلوقا ذلك، وإن سألته لم يقدر عليه، وتقول عند ضعفك: يا رب هب لي قوة، والمخلوق لا يقدر على ذلك”([13]).
    3- عبد القادر الجيلاني (561هـ):
    من وصاياه رحمه الله ما قاله لولده حين استوصاه وهو في مرض الموت: “عليك بتقوى الله وطاعته، ولا تَخَفْ أحدًا ولا ترجه، وَكِلِ الحوائج كلها إلى الله عز وجل، واطلبها منه، ولا تثق بأحد سوى الله عز وجل، ولا تعتمد إلا عليه سبحانه، التوحيد، التوحيد، التوحيد، وجماع الكل التوحيد… كل من يرى الضر والنفع من غير الله تعالى فليس بعبدٍ له، من رأى ذلك منه فهو إلى نار المقت والحجاب، وغدًا في نار جهنم إلا المتقون الموحدون المخلصون”.
    وقال أيضًا: “يا من يشكو إلى الخلق مصائبه، إيش ينفعك شكواك إلى الخلق؟! لا ينفعونك ولا يضرونك، وإذا اعتمدت عليهم وأشركت في باب الحق عز وجل يبعدونك، وفي سخطه يوقعونك، وعنه يحجبونك”([14]).
    4- السيد أحمد الرفاعي الصوفي (578هـ):
    قال رحمه الله في وصاياه: “إذا استعنتم بعباد الله وأوليائه، فلا تشهدوا المعونة والإغاثة منهم، فإن ذلك شرك، ولكن اطلبوا من الله الحوائج بمحبته لهم”([15]).
    5- فخر الدين الرازي إمام المتكلمين (606هــ):
    يقول رحمه الله تفسير قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} [يونس: 18]: “ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله”([16]).
    وقال في تفسير: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة: 22]: “ورابعها: أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه أنه مجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله، اتخذوا صنما على صورته يعبدونه، على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعا لهم يوم القيامة عند الله تعالى، على ما أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالة في قوله: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ}”([17]).
    6- أبو شامة المقدسي مجتهد الشافعية (665هـ):
    قال رحمه الله: “وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا القسم أيضًا ما قد عمّ الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرح مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها أحدا ممن اشتهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم”([18]).
    7- أبو الفداء إسماعيل بن كثير الشافعي المفسِّر (774هـ):
    قال رحمه الله معرض كلامه عن قبر السيدة نفيسة: “وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيرًا جدّا، ولا سيما عوامّ مصر، فإنهم يُطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدّي إلى الكفر والشرك، وألفاظًا كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنه لا تجوز”([19]).
    8- شهاب الدين الأذرعي الشافعي (783هــ):
    قال رحمه الله: “وأما النذر للمشاهد الذي بُنيت على قبر ولي أو نحوه، فإن قصد به الإيقاد على القبر ولو مع قصد التنوير فلا، وإن قصد به -وهو الغالب من العامة- تعظيم البقعة أو القبر أو التقرب إلى من دُفن فيها أو نُسبت إليه فهذا نذر باطل غير منعقد؛ فإنهم يعتقدون أن لهذه الأماكن خصوصيات لا تُفهم! ويرون أنّ النذر لها مما يدفع البلاء. قال: وحكم الوقف كالنذر فيما ذكرناه”. ووافقه ابن حجر الهيتمي، وقال: “لأن القُرب إنما هي لله تعالى”([20]).
    ويُستفاد من كلام الأذرعي وتعليل الهيتمي السابق أن العِلة في التحريم أن هذا الصنيع من القُرب، أي: من العبادة التي لا تصح إلا لله.
    9- السعد التفتازاني (792هــ):
    قال رحمه الله: “أما عبادة الكواكب فيمكن أنهم اعتقدوا بأنها مؤثرة في عالم العناصر مدبرة لأمور قديمة وشفعاء العباد عند الله، وأما الأصنام فلا خفاء في أن العاقل لا يعتقد فيها شيئا من ذلك، قال الإمام: لهم فيها تأويلات باطلة”.
    ثم ذكر وجوها لهذه التأويلات، ثم قال في الوجه الخامس:
    “الخامس: أنه لما مات منهم من هو كامل المرتبة عند الله تعالى اتخذوا تمثالًا على صورته وعظّموه تشفعًا إلى الله تعالى وتوسلًا”([21]).
    10- أبو زرعة العراقي (826هـ):
    قال رحمه الله: “سُئلتُ عمن يزور الصالحين من الموتى فيقول عند قبر الواحد منهم: يا سيدي فلان، أنا أستجير بك أو متوسل بك أن يحصل لي كذا وكذا…”.
    فأجاب العراقي بعد أن بيَّن أن زيارة القبور مندوبة: “ولا امتناع في التوسل بالصالحين، فإنه ورد التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبصلحاء أمته وأما قوله: (أنا أطلب منك أن يحصل لي كذا وكذا) فأمرٌ مُنكر، فالطلب إنما هو من الله تعالى، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة أو بأصحابها أحياءً وأمواتا”([22]).
    فقد فرَّق العراقي بين الاستغاثة أو الطلب من الأولياء وبين التوسل، لما جاءه السؤال مُبهمًا، ولو أنه يعلم أن فيها خلافًا معتبرًا لما نبَّه السائل ولما وصفها بالأمر المُنكر؛ وذلك أن من قواعد الفقهاء المقررة: أن المسألة التي يكون الخلاف فيها قويَّا لا يجوز الإنكار على من فعلها، فضلًا عن وصفها بالمُنكرات.

    11- تقيُّ الدين المقريزي الشافعي (845هـ):
    قال رحمه الله: “والناس في هذا الباب -أعني: زيارة القبور- على ثلاثة أقسام: قوم يزورون الموتى فيدعون لهم، وهذه هي الزّيارة الشرعيّة. وقوم يزورونهم يدعون بهم، فهؤلاء هم المشركون في الألوهيّة والمحبّة. وقوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد»، وهؤلاء هم المشركون في الربوبيّة. وقد حمى النبيّ صلى الله عليه وسلم جانب التّوحيد أعظم حماية؛ تحقيقًا لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}”([23]).
    وقال أيضًا: “وبالله إنّ الفتنة بهذا المكان([24]) والمكان الآخر من حارة برجوان الذي يعرف بجعفر الصادق لعظيمة، فإنهما صارا كالأنصاب التي كانت تتخذها مشركو العرب، يلجأ إليهما سفهاء العامّة والنساء في أوقات الشدائد، ويُنزلون بهذين الموضعين كربهم وشدائدهم التي لا يُنزلها العبد إلا بالله ربه، ويسألون في هذين الموضعين ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وحده، من وفاء الدين من غير جهة معينة، وطلب الولد ونحو ذلك، ويحملون النذور من الزيت وغيره إليهما، ظنا أن ذلك ينجيهم من المكاره، ويجلب إليهم المنافع، ولعمري إن هي إلّا كرّة خاسرة، ولله الحمد على السلامة”([25]).
    12- ابن حجر العسقلاني (852هـ):
    سُئل عن السيدة نفيسة وعن مكان قبرها، فأجاب: “وأما كونها قُبِرَت إلى آخره فهو المشهورُ، لكن ذكَرَ بعضُ أهلِ المعرفة أن خُصوصَ هذا القبر الذي يُزارُ ليس هو قبرها، لكنها دُفِنَتْ في تلك البقعة بالاتفاق، وما زال قبرُها مقصودًا بالزيارة والتبرك به، حتى اشتهر عَنْ نقل بعض العلماء أن المصريين كانوا يُسَمونَ الدعاء عندها الترياقَ المجرَّبَ وقد غلا في ذلك بعضُ العوامِّ، بل كلهم، حتى إن بعضهم يقع في الكفر وهو لا يشعُرُ، واللَّه المستعان”([26]).
    ويُستفاد من كلام ابن حجر ما يلي:
    – أن الوصف بالغلو في القبور ليس وصفًا مُستهجنًا كما يدَّعي بعض المعاصرين، فإن ابن حجر وصف جميع العوام بالغلو بقوله: (بل كلهم).
    – قول ابن حجر: (يقع في الكفر وهو لا يشعر)، ولم يقل: مهما فعلوا لن يقعوا في الكفر، ولم يستصحب “أصل الإسلام” ويجعله مانعًا، نعم قد لا يُكفَّر الجاهل حتى يُعلَّم، ولكن هذا باب آخر غير الحكم على الفِعل نفسه.
    13- بدر الدين الأهدل الصوفي الأشعري (855هـ) فقيه الشافعية في اليمن:
    قال مُنكرًا على الصوفية المتأخرين: “والاستغاثة بالمشايخ الأموات والأحياء مما أطبق عليه المتأخرون من المتصوّفة، ولم يُنقل عن السلف المتقدمين؛ لمعرفتهم بأنّ الاستغاثة بغير الله تعالى لا تجوز ولا تنفع، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا}، وغير ذلك من الآيات. ولم يُنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أذِن لأحد من الصحابة رضي الله عنهم في الاستغاثة به في شدّةٍ قطّ، وكان حاضرًا يوم أُحد فلم يملك من الأمر شيئًا كما قال الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}، وإنما يُستشفع به إلى الله تعالى في تفريج الكرب وتسهيل الشدائد، وكذا بالصالحين من عباد الله، فاعلم ذلك ولا تتبع جهالات المتأخرين”([27]).
    14- قاسم بن قطلوبغا (879هـ):
    قال رحمه الله: “وأما النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد كأن يكون لإنسان غائبٌ أو مريضٌ أو له حاجة ضرورية، فيأتي بعض الصلحاء، فيجعل ستره على رأسه فيقول: (يا سيدي فلان) إن رُدّ غائبي أو عُوفي مريضي أو قُضيت حاجتي فلك من الذهب كذا أو من الفضة كذا أو من الطعام كذا أو من الماء كذا أو من الشمع كذا أو من الزيت كذا، فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه.. منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تكون للمخلوق، ومنه أن المنذور له ميت، والميت لا يملك”.
    ونقل كلامه الطحطاوي في حاشيته ثم قال: “اللهم إلا أن يقول: يا الله إني نذرت لك إن شفيت مريضي أو رددت غائبي أو قضيت حاجتي أن أطعم الفقراء الذين بباب السيدة نفيسة أو الفقراء الذين بباب الإمام الشافعي رضي الله عنه أو الإمام الليث، أو أشتري حصرا لمساجدهم أو زيتا لوقودها أو دراهم لمن يقوم بشعائرها إلى غير ذلك مما يكون فيه نفع للفقراء، والنذر لله عز وجل([28]).
    ونقل كلامه علاء الدين الحصفكي ثم قال: “وقد ابتُلي الناس بذلك، ولا سيما في هذه الأعصار”. قال العلامة ابن عابدين: “(قوله: ولا سيما في هذه الأعصار) ولا سيما في مولد السيد أحمد البدوي”([29]).
    ويُستفاد مما سبق: أن العلة التي ذكرها العلامة قاسم قطلوبغا وتتابع عليها الأحناف في عدم صحة النذر كونه عبادة بقولهم: (يا فلان)، وأن الميت لا يملك من أمره شيئًا، وهذا هو وجه النكتة التي أقضّت مضاجع القبورية، فوصف أفعال العوام بكونها عبادة -حتى ولو أنكروا ذلك بألسنتهم- يُبطل قول القبورية أن التحريم خرج مخرج التحريم الفقهي الفروعي الخفيف، ونحو ذلك مما يذكره المخالفون.
    15- ابن حجر الهيتمي (904هــ):
    قال رحمه الله مُتحدثًا عن القبور المُشرفة والأضرحة: “فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، أو بناؤها عليها، والقول بالكراهة محمول على غير ذلك، إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي لعن فاعله، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهى عن ذلك، وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره”([30]).
    16- جلال الدين السيوطي (911هــ):
    قال رحمه الله: “الدعاء عند القبر ذريعة للشرك، ومحادّة لله ورسوله، ومخالَفة للشرع وابتداع، فكيف بدعاء صاحب القبر من دون الله؟!”([31]).
    وقال أيضا: “وهذه العلة -أي: التي من أجلها نهى الشارع- التي أوقعت الناس في الشرك الأكبر.. ولهذا تجد أقواما كثيرة من الضالين يتضرّعون عند قبور الصالحين”([32]).
    17- محيي الدين البِرْكوي الحنفي الماتريدي (926-981هـ)([33]):
    قال في رسالته في زيارة القبور: “وأمّا الزّيارة الشّرعيّة التي أَذِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فالمقصود منها شيئان: أحدهما: راجع إلى الزّائر؛ وهي: الاعتبار والاتّعاظ، والثاني: راجع إلى الميّت؛ وهو: أن يُسَلِّم عليه الزّائر، ويدعو له، ولا يطول عهده به؛ فيهجره وينساه، كما أنّه إذا ترك أحدًا من الأحياء تناسه، وإذا زاره فرح بزيارته وسُرَّ بذلك. فالميّت أولى به؛ لأنّه قد صار في دار هجر أهلها إخوانهم ومعارفهم؛ فإذا زاره أحد وأهدى إليه هبة من سلام ودعاء ازداد بذلك سروره وفرحه.
    وأمّا الزّيارة البدعيّة فزيارة القبور لأجل الصّلاة عندها، والطّواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود عليها وأخذ تُرابها، ودعاء أصحابها، والاستعانة بهم، وسؤالهم النّصر والرّزق والعافية والولد وقضاء الدّيون، وتفريج الكُربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من الحاجات التي كان عُبَّاد الأوثان يسألونها من أوثانهم، فليس شيء من ذلك مشروعًا باتّفاق أئمّة المسلمين؛ إذ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصّحابة والتّابعين وسائر أئمّة الدّين؛ بل أصل هذه الزّيارة البدعيّة الشّركيّة مأخوذة من عبادة الأصنام؛ فإنّهم قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى”.
    إلى أن قال: “وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وإقامة السدنة لها، ودعاء أصحابها، والنذر لهم، وغير ذلك من المنكرات، والله هو الذي بعث رسله وأنزل كتبه لإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم”([34]).
    فتأمل قول البركوي: (وتكفير أصحابه ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم).
    وإذا علمت أن البركوي توفي سنة ٩٨١هـ -أي: قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب بحوالي ٢٢٥ سنة- فلا شبهة بتأثره بالدعوات الإصلاحية.
    18- محمد طاهر بن علي الصديقي الهندي الفَتَّنِي (986هـ) ملك المحدِّثين:
    قال رحمه الله: “فإنّ منهم من قصد بزيارة قبور الأنبياء والصلحاء أن يصلي عند قبورهم، ويدعو عندها، ويسألهم الحوائج، وهذا لا يجوز عند أحد من علماء المسلمين؛ فإنّ العبادة وطلب الحوائج، والاستعانة حق لله وحده”([35]).
    ومن النقل السابق يُستفاد: أن العلامة ابن طاهر نقل الإجماع على حرمة الاستغاثة بالأولياء، كما وصف تلك الممارسات بالعبادة، وفيه رد على من زعم أن تحريم الفقهاء خرج مخرج التقليد الفقهي الفروعي.
    19- أحمد بن عبد الأحد السرهندي الحنفي (1034هـ):
    الصوفي النقشبندي، الموصوف عند الحنفية: بمجدد الألف بعد الهجرة.
    قال رحمه الله: “التبرِّي من الكفر هو شرط الإسلام، والاجتناب عن شائبة الشرك توحيد، والاستمداد من الأصنام والطاغوت في دفع الأمراض والأسقام كما هو شائع فيما بين جهلة أهل الإسلام هو عين الشرك والضلالة… ونشكو إلى الله تعالى شكاية عن حال أهل الضلال يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به.. وأكثر النساء مبتليات بهذا الاستمداد الممنوع عنه بواسطة كمال الجهل فيهن، يطلبن دفع البلية من هذه الأسماء الخالية عن المسميات، ومفتونات بأداء مراسم الشرك وأهل الشرك قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}، وما يفعلونه من ذبح الحيوانات عند قبور المشايخ المنذورة لهم جعله الفقهاء في الروايات الفقهية داخلًا في الشرك، ومثل ذلك يصُمن بنيَّتهم ويطلبن حوائجهن منهم بواسطة هذا الصيام، ويزعمن قضاء حوائجهن منهم! وهذا الفعل إشراك للغير في عبادة الله تعالى وطلب لقضاء الحوائج من الغير بواسطة العبادة إليه”([36]).
    20- أحمد بن محمد الأقحصاري الحنفي الخلوتي (1041هـ):
    وهو يسبق الدعوة بمائتي عام تقريبًا، وقد صنف رحمه الله كتاب (مجالس الأبرار ومسالك الأخيار ومحائق البدع ومقامع الأشرار الفجار)، وقال في سبب تصنيفه للكتاب: “وأُبيّن فيه من الاعتقادات الصحيحة والأعمال الآخرة، وأحذر عما فيه من استمداد القبور وغيره من فعل الكفرة، وأهل البدع الضالة المضلة الفجرة، لما رأيت كثيرًا من الناس في هذا الزمان جعلوا القبور كالأوثان، يصلون عندها ويذبحون القربان، ويصدر منهم أفعال وأقوال لا تليق بأهل الإيمان، فأردت أن أبين ما ورد به الشرع في هذا الشأن، حتى يتميز الحق من الباطل عند من يريد تصحيح الإيمان والخلاص من كيد الشيطان، والنجاة من عذاب النيران، والدخول في دار الجنان. والله الهادي وعليه التكلان”.
    وقال: “ومنهم من يستغيث بالمخلوق سواء كان المخلوق حيا أو ميتا، أو مسلما أو غير مسلم، ويتصور الشيطان بصورته، ويقضي حاجة من يستغيث به، فيظن أنه هو الذي استغاث به، وليس كما يظن، بل إنما هو الشيطان أضلّه لما أشرك بالله فإن الشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته… فإنه إذا أعانهم على مقاصدهم فهو يضرهم أضعاف ما ينفعهم، فإذا كان منتسبًا إلى الإسلام إذا استغاث بمن يحسن به الظن من شيوخ المسلمين، يجيء إليه الشيطان في صورة ذلك الشيخ، فإن الشيطان كثيرًا ما يجيء على صورة الصالحين، ولا يقدر أن يتمثل بصورة رسول رب العالمين”([37]).
    21- ضياء الدين صالح بن مهدي المقبلي الكوكباني الزيدي (1047-1108هـ):
    قال رحمه الله: “إذا مسَّهم الضرّ في البحر لا تسمعهم إلا يدعون المشايخ، ويهتفون بالركبان: ليدع كلٌّ منكم شيخه، فيرتجّ المركب بالأصوات بذكر الشيخ، فإذًا الكفّار كانوا خيرًا من هؤلاء؛ لأنهم كانوا إذا مسهم الضر في البحر ضلّ من يدعون إلا إياه. اللهم إنا نبرأ إليك من حال هؤلاء، ونسألك أن تكتبنا من الناهين عن ضلالهم والمناوئين لهم.
    جاءني شريف من أشراف مكة، وكان يعتقد متصوفًا وأنا أنهاه عنه، فجاءني مذعورًا يقول: ذكرتُ الله ورسوله، فغضب فلان وقال: لا أعرفُ الله ولا رسوله إنما أعرف شيخي! وزار بعضُ العقلاء ابنَ عباس فرأى غلوَّ الناس فيه، فقال لرجل من عمد مكة ومدرّسيهم ومتصوفتهم: (أهلُ الطائف لا يعرفون الله، قد اتَّخذوا ابن عباس إلهًا من دون الله)، فسقط من عين ذلك المدرس، وقال: ما كنت أظنك بهذه المنزلة من الجهل والغفلة، هم لا يعرفون الله، ولكن تكفيهم معرفة ابن عباس، وهو يعرف الله.
    ثم قد صوَّروا كذبات قالوا: مشى الجنيد في البحر وهو يقول: يا الله يا الله، وقال لتلميذه: قل أنت: يا جنيد يا جنيد. قال: مشيا ثم قال تلميذه: يا الله، فغرق، فنهره الشيخ، فتاب، وقال: يا جنيد، فمشى فوق الماء. وقالوا: جاء منكر ونكير لميت فقالا: من ربك؟ فقال: شيخي فلان، وكرروا سؤاله وهو يكرر قول: شيخي فلان، فقالوا: صدق، وذهبوا عنه راضين.
    ومن أنكر هذا قالوا: جلمود مخذول، ولا يحب الأولياء، أو نحو ذلك من عبارات لهم، فهؤلاء زادوا على من قال: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، وليس لهؤلاء من علاج غير السيف، ولكن أهل السيف الآن أجهل خلق الله، وأشدهم اغترارًا بتلك الأساليب، حيوانات مختلفة الطباع من ثعالب وسباع يعمها سلب الفلاح. والله المستعان”([38]).
    ويستفاد مما قاله العلامة المقبلي ما يلي:
    أولًا: الأحوال المزرية وانتشارها في عصره، ونقل عن عالم معاصر له قوله: (أهل الطائف لا يعرفون الله فقد اتخذوا ابن عباس إلها من دون الله)، وهو ما يؤكد صحة توصيف الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأحوال زمانه، ولا شبهة بتأثُّر المقبلي بالوهابية؛ فهو يسبقهم بقرن من الزمان.
    ثانيًا: ذكر وجوب قتالهم بالسيف في قوله: (وليس لهؤلاء من علاج غير السيف، ولكن أهل السيف الآن أجهل خلق الله).
    22- صنع الله بن صنع الله الحلبي المكي الحنفي ثم المالكي (1120هــ):
    قال رحمه الله: “وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدَّعون أنّ للأولياء تصرفاتٍ في حياتهم وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تنكشف المُهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات. وقرّرهم على ذلك من ادعى العلم بمسائل، وأمدهم بفتاوى ورسائل.. وجوّزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور. وهذا -كما ترى- كلام فيه تفريط وإفراط، وغلو في الدين بترك الاحتياط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي؛ لِما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادرة الكتاب العزيز المصدّق، ومخالف لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة. فكل بناء على غير أصولهم تلبيس، وفي غير مناهجهم مخايل إبليس”.
    إلى أن قال: “وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة، وأن يظنّ بهم أن دفع الضر وجلب النفع منهم كرامةٌ، فهذا ظنُّ أهل الأوثان كما أخبر الرحمن: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. فهل يحل لمؤمن أن يستمد بغير الله في الشدائد، أو ينتصر بغيره ويترجى منه الفوائد مع قوله جل ذكره: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}، وقوله: {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ}؟! فهل يحوم حول ذلك من استضاء بمنار القرآن أو ينطق بمثله من آمن بالله الواحد المنان؟! فما زعْمُ مَن أفتى بجواز ذلك؟! فهل على قول الله استدراك؟! كلا والله، ما هم فيه إلا في إنضاج بلا ضرام، واستسمان ذات أورام، {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}”([39]).
    23- عبد الخالق المزجاجي الحنفي الزبيدي (1100هـ-؟؟؟؟)([40]):
    قال رحمه الله: “وقد قال تعالى في إثر سماء: «أصبح من عبادي مؤمن وكافر، أما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب»، وقد ذهب العامة هذا المذهب في الأولياء، فإن مرضوا قالوا: هذا من فلان، وإن شفوا قالوا: ببركة سيدي فلان، فلما اعتقدوا ضرهم ونفعهم حلفوا بهم من دون الله، ونذروا لهم من دون الله، واستسقوهم من دون الله. فإن أجرى الله تعالى الوادي قالوا: شيء لله يا فلان، وإن قبض عنهم المطر قالوا: حمقة فلان، والله سبحانه القابض الباسط المحيي المميت، وكل شيء بيده من ملك وملكوت، ولو ذهبنا نتكلم في الكتاب والسنة من التحذير عن ذلك لكان يرى الناس قد هلكوا، ولهذا تراهم أكثر أتباع الدجال. فافهم هذه الجملة”([41]).
    ولتلخيص ما سبق نقول:
    إن قضيَّة إفراد الله بالعبادة من دعاء ونذر وتوكل واستغاثة، وكذا إنكار ما يُنافي ذلك من تعظيم القبور وسؤال أصحابها من دون الله ونحو ذلك هي قضية إيمانية في المقام الأول، نبَّه عليها علماء المسلمين بمختلف مذاهبهم في كل عصرٍ وفي كل مصر -كما مرَّ بك-، وليست هي من خصوصيات شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيِّم، ولا من خصوصيات محمد بن عبد الوهاب.
    نعم، قد تزيد المادة العلمية في قضية التوحيد عندهم أكثر من غيرهم تأصيلًا وتقعيدًا، وتوضيح الفرق بين الألوهية والربوبية وسد الأبواب وقلع الجذور الكلامية التي قد تجُر مآلًا -باللوازم- إلى تلك الشركيات، وإن لم يلتزمها أصحابها، لكن هذا لا يعني بالضرورة خصوصية ابن تيمية في وجوب سؤال الله وحده، بل الجميع يتفقون على تلك النتيجة النهائية.
    وقد بينَّا في هذا المقال بما لا يدع مجالًا للشك أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مسبوق بعلماء كبار محل تقديرٍ واحترام، أنكروا تلك البدع وسمَّوها شركًا أكبر، بل وبعضهم ذكر وجوب قتال أصحابها بالسيف.
    وما ذكرناهم مجرَّد أمثلة أردنا بهم الإشارة والتمثيل وبيان فساد دعوى المُخالف، وإلا لو رحنا نتتبع من أنكروا تلك الشركيات من أهل العلم لبلغ ذلك مجلدة، وحسبُك من القلادة ما أحاط من العنق.
    وصلِّ اللهمَّ على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
    (المراجع)
    ([1]) الرسائل الشخصية (ص: 38).
    ([2]) أحد الأضرحة بالهند.
    ([3]) التفهيمات الإلهية (2/ 45)، وتتمة البلاغ المبين (ص: 124).
    ([4]) البحور الذاخرة في علوم الآخرة (ص: 340).
    ([5]) المصدر السابق (ص: 340-341).
    ([6]) رسالة تقوية الإيمان (ص: 35).
    ([7]) ذخيرة أهل المعاد (ص: 24-25). وهو كتاب في التصوف.
    ([8]) المصدر السابق (ص: 27).
    ([9]) روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني (14/ 166).
    ([10]) ينظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص: 345)، إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 195).
    ([11]) ينظر: تلبيس إبليس (ص: 306).
    ([12]) ينظر: الفروع لابن مفلح (2/ 214).
    ([13]) الحجة في بيان المحجة (1/ 144).
    ([14]) الفتح الرباني والفيض الرحماني (ص: 373).
    ([15]) البرهان المؤيد من وصايا الرفاعي، تأليف تلميذه شرف الدين الواسطي (ص: ٦٩).
    ([16]) مفاتيح الغيب (17/ 59).
    ([17]) مفاتيح الغيب (1/ 111).
    ([18]) الباعث على إنكار البدع (ص: 25-26).
    ([19]) البداية والنهاية (١٠/ ٢٦٢-٢٦٣).
    ([20]) الفتاوى الفقهية (4/ 280).
    ([21]) المقاصد في علم الكلام (3/ 29).
    ([22]) فتاوى العراقي (ص: 168).
    ([23]) تجريد التوحيد المفيد (ص: ١٩-٢٠).
    ([24]) أي: قبر أبي تراب النخشبي.
    ([25]) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (٣/ ٩٤).
    ([26]) ينظر: الجواهر والدُرر للسخاوي (ص: 944).
    ([27]) مطالب أهل القربة في شرح دعاء أبي حربة (ص: 168).
    ([28]) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 693).
    ([29]) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (6/ 396).
    ([30]) الزواجر عن اقتراف الكبائر (ص: 213).
    ([31]) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع (ص: 118).
    ([32]) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع (ص: 124).
    ([33]) قال ابن عابدين الحنفي واصفًا البركوي: (أفضل المتأخرين الإمام العالم العامل المحقق المدقق الكامل). رسالة منهل الواردين من بحار الفيض، مجموعة رسائل ابن عابدين (1/ 67).
    ([34]) هناك خلاف في رسالة زيارة القبور هل هي للبركوي أم لأحد تلاميذه، ولكن لا خلاف تاريخي في أن البركوي يعتقد نفس الاعتقاد، وخلافه مع أهل عصره في مسألة القبور معروف مشهور. ذكره المورخون العثمانيون.
    ([35]) مجمع بحار الأنوار (2/ 444).
    ([36]) مُلخَّصًا من المنتخبات من المكتوبات، للسرهندي (3/ 45).
    ([37]) مجالس الأبرار ومسالك الأخيار ومحائق البدع ومقامع الأشرار الفجار (ص: 5-8).
    ([38]) الأبحاث المسددة في فنون متعددة (ص: 158-165).
    ([39]) سيف الله على من كذب على أولياء الله (ص: 22-51).
    ([40]) لم يُذكر تحديدًا زمن وفاة المزجاجي، لكن لا شُبهة في كونه لم يتأثر بالدعوة.
    ([41]) ينظر: فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال لأبي بكر بن خوقير المكي (ص: 145).

    منقول مركز السلف

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    الدولة
    المملكة العربية السعودية
    المشاركات
    2,056

    افتراضي رد: هل الحكم على “دعاء غير الله” بأنه شرك، بدعةٌ وهابيَّة؟

    بارك الله فيك ...

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Apr 2024
    المشاركات
    582

    افتراضي رد: هل الحكم على “دعاء غير الله” بأنه شرك، بدعةٌ وهابيَّة؟

    آمين وفيك بارك الله ياأخي

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Apr 2024
    المشاركات
    582

    افتراضي رد: هل الحكم على “دعاء غير الله” بأنه شرك، بدعةٌ وهابيَّة؟

    دعاء غير الله تعالى



    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ فالدعاء من أفضل العبادات وأعظمها، وقد سمى الله تعالى الدعاء عبادة، وتوعد من تركه – استكبارًا – بدخوله جهنم ذليلًا حقيرًا، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: " إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]"[1].
    وقد أمر الله تعالى بدعائه وسؤاله وحده لا شريك له، ونهى عن دعاء غيره، قال سبحانه: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } [الشعراء: 213] وقال صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو من دون الله ندًا دخل النار"[2].
    فإذا علمت أن الدعاء عبادة يجب صرفها لله وحده، فإن من دعاء أو استغاث بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فقد كفر وخرج من الملة، سواء كان هذا الغير نبيًا أم وليًا أم ملكًا أم جنيًا، أم غير ذلك من المخلوقات.
    دعاء الله وحده إيمان وتوحيد، ودعاء غيره كفر وشرك، فمن استغاث بغير الله – كمن يطلب حوائجه من الموتى – فقد اتخذ مع الله ندًا، وقد قال الله تعالى في وصف هؤلاء في كتابه الكريم: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8]
    ولقد سمى الله تعالى دعاء غيره شركًا، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13، 14]
    والعجب من ذي عقل سليم يستغيث بالأموات، ويدعو أرباب القبور، ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت، ولا يدعو من بيده النفع والضر سبحانه وتعالى، فعلى المسلم أن لا يسأل إلا الله وحده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"[3].
    فإن الدعاء يجمع أنواعًا من العبادات:
    - كالرغبة إلى الله تعالى وحده.
    - والخضوع له.
    - والتوكل عليه.
    - والتعلق به وحده.
    - والتذلل والافتقار إليه.
    كما أن في التضرع إلى الله تعالى من حلاوة الأنس بالله تعالى ولذة المناجاة ما لا يمكن التعبير عنه.

    https://www.e7saan.com/article/details/594

    قلت نحن أهل السنة عندنا أدلتنا من القرآن والسنة لا نتعصب لأحد من الأشخاص إلا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافا لأهل البدع والأهواء الذين يخالفون القرآن والستة ويتعصبون لفلان وقلان وهذا واضح والحمد لله

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •