الإمام ابن جرير الطَّبريُّ (1/2)
شريف عبدالعزيز
إمام المفسِّرين ورائد المدرسة التَّقليديَّة في التَّاريخ
حياته وعطاؤه العلميُّ ومنهجه وآراؤه ومحنته
التَّعريف به:
هو الإمام العلم العلامة, المجتهد المطلق, شيخ الإسلام, إمام المفسرين, ورائد المؤرِّخين, كبير المصنِّفين, البحر الزخَّار, الموسوعيُّ الكبير, جامع العلوم, والحائز على الفنون, الإمام أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن غالب بن كثير بن غالب الطَّبريُّ.
وُلد الإمام الطبريُّ سنة 224هـ على الأرجح، ببلدة أمل عاصمة إقليم طبرستان في شمالِ غربِ خُراسانَ، وهي مدينة كبيرة واسعةٌ عامرةٌ بالسُّكان, وكان الطَّبريُّ أسمرَ اللون، واسع العينين, نحيفَ الجسد, مديد القامة, فصيح اللسان, أسودَ الشعر وبقي السَّواد في شعر رأسه ولحيته إلى حين وفاته على الرغم من تجاوزه الثمانين.
طلبه للعلم:
كعادة طلاب العلم في ذلك الزمان، بدأ الطبريُّ في طلب العلم صغيرا , فأتمَّ حفظ القرآن وهو في سنِّ السَّابعة, حتى إنَّه كان يؤُمُّ بالناس وهو في سنِّ الثامنة، من جودة حفظه وجمال صوته، بدأ في سماع الحديث وكتابته وهو في سنِّ التاسعة, وكان أبوه صالحا , فلمَّا رأى نبوغَ ولده محمد, نذره للعلم والدرس, ودفعه إلى حِلَقِ العلم, وكان أبوه قد رأى في النوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسير ومحمد ولده بين يديه، يحمل مِخْلاةً مملوءة حجارة يرمي بين يديه, فسأل أحدَ المعبِّرين فقال: إنْ كبُرَ هذا الولد نصح في دينه وذبَّ عن شريعته.
عندما بلغ الطبريُّ سنَّ المراهقة بدأ في رحلته العلميَّة, فخرج من طَبَرستان ودخل المراكز العلمية في خراسان مثل بخارَىْ ومَرْوَ ونَيْسَابورَ, ثم دخل بغداد والناس يُصلُّون الجنازة على الإمام أحمد, فلم يتسنَّ له أن يسمعَ منه, فجلسَ إلى علماءِ بغدادَ وشيوخِها ثم انتقل إلى الحجازِ ثمَّ اليمنِ ثمَّ الحجازِ مرَّةً أخرى ومنه إلى الشامِ ثم مصر، ولم يترك إقليما ولا بلداً معروفاٌ بالعلم والعلماء إلا دخله وجلس إلى شيوخه وعلمائه.
ملكاتُه العلمية:
يُعتبر الإمام الطبريُّ من أكثر علماء الإسلام تصنيفاً وتأليفاً, ولا يُنازعُه في هذه الدرجة سوى بحرِ العلوم الإمامِ ابن حزمٍ الظاهريِّ, وهذه المنزلة لم يكن للطبريِّ أن يتبوِّأها لولا مِنَّةُ الرحمن عليه بخصالٍ ومواهبَ ومَلَكَاتٍ علمية فذة وفريدة, وكانت أدواتِ نبوغه وأسبابِ تقدُّمه وتفرده, من أهمِّ الملكات:
• همَّة قويَّة وعزيمة حديديَّة:
هذه الملكة كانت أهمَّ ما يميز الإمامَ الطبري, فلقد كان ذا عزيمة تُناطحُ قمم الجبال، وهمَّةٍ تُحَلِّقُ في السَّحَاب, فلقد مكث أربعين سنة, يكتب في كلِّ يومٍ أربعينَ ورقةً, وقد أراد أن يكتب تفسير القرآنِ في ثلاثينَ ألفَ ورقةٍ, فأبى عليه تلاميذُه والكتبةُ فاختصره في ثلاثةِ آلافِ ورقة, وكذلك فعل مع التاريخ، وقال لتلاميذه: إنا لله, ماتت الهممُ!
هذه الهمَّة الفريدة جعلت الطَّبريَّ متفرغاً لطلب العلم, مُنكبَّاً علي تحصيله, ورحل في سبيله, وقضى معظم شبابه في السفر والترحال من بلد إلى آخر, ولم يستقر في بلد, ثم في بغداد إلا بعد الكهولة, ومن شدَّة انشغاله في طلب العلم والتفرغ له, لم يتزوج قط, واستعاض بمتعة العلم ولذة البحث والتأليف عن متع الدنيا والزواج, وأنس بالمعارف والعلوم, وصاحب الكتب والمجلدات والمخططات, من أجل ذلك كثر إنتاجه وازداد عطاؤه, وغزُر علمه, حتى صار من أكثر علماء الأمة تصنيفا وتأليفا , قال عنه تلميذُه مسلمة بن قاسم: "كان أبو جعفر الطبري حَصوراً, لا يَعرف النِّساء, شغله طلبُ العلم, وهو ابنُ عشرة سنينَ, ولم يزل طالباً للعلم, مولعاً به إلى أن مات".
• حافظةٌ عجيبةٌ وذكاءٌ فريد:
- كان الطَّبريُّ موهوبَ الغرائز, فقد حباه الله تعالى بذكاءٍ خارق, وعقل متَّقد, وذِهنٍ حادٍّ, وحافظة نادرة, وهذا ما لاحظه فيه أبوه, فحرص على دفعه إلى طريق العلم, وهو صبيٌّ صغير, وخصَّص له موارد أرضه؛ ليُنفقها على دراسته ورحلاته العلمية, ومن قوَّة حفظه وشدة ذكائه أنَّه تعلَّم علم العَروض وهو من علوم اللغة العزيزة، حتى إنَّ إماماً كبيراً مثل الدارَقطنيِّ قد تعسَّر عليه هذا العلمُ واعترف بذلك لأقرانه، هذا الفنُّ قد تعلَّمه الطبريُّ في ليلة واحدة, وكان يحفظ الأحاديث حفظا فريدا من نوعه, ليس بمتونها وأسانيدها فحسب, ولكن باليومِ والوقت والمكان والرُّفقاء الَّذين حضروا مجلس التحديث.
- قال عنه تلميذه أبو محمد عبد العزيز الطبري: كان أبو جعفر من العقل والعلم والذكَّاء والحفظ ما لا يجهلُه أحد عرفه, لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحدٍ من هذه الأمة, ولا ظهر من كتب المصنفين, وانتشر من كتب المؤلِّفين, ما انتشر له.
اتِّباعه للسُّنة وشدَّته في الحق:
الإمام الطَّبريُّ كان سلفيّاً أثريَّاً ينتمي لمدرسة السَّلف الصَّالح, ومن يقرأ كلامه في كتابه النَّفيس "التَّبصيرُ في معالم الدين" في الصِّفات وتفسير الآيات الخاصَّة بها, يعلم مكانة الإمام وأثره, خاصَّةً وأنَّ تلك الفترة قد بدأت فيها الأفكار المخالفة للسنة تنتشر في الأوساط العلميَّة, مثلُ أفكار الأشعريِّ –قبل تراجعه عنها– وأفكارِ ابن كُلَّاب, ناهيكَ عن أفكار الاعتزالِ والتَّشيُّع التى كانت موجودةً من قبلُ.
ففي تفسير آيات الصفات قال ابنُ جرير: القولُ فيما أُدركَ علمُهُ من الصِّفاتِ خبرا , ذلك نحوُ إخباره تعالى أنه سميع بصير, وأنّ له يدين بقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) [المائدة: من الآية64], وأنَّ له وجهاً, بقوله: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن:27], وأنه يضحكُ بقوله في الحديث: "لقيَ اللهَ وهو يضحكُ إليه"، وأنَّه ينزلُ إلى السَّماء الدنيا, لخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك, إلى أن قال: فإنَّ هذه المعاني التي وصفتُ, ونظائرَها مما وصف اللهُ نفسَه ورسولُه, ما لا يثبت حقيقةُ علمهِ بالفكر والرَّوِيَّة.
كان الطبريّ ممن لا تأخذه في الله -عزَّ وجلَّ- لومةُ لائم, من عظيمِ ما يلحقه من الأذى والشَّناعاتِ من جاهلٍ وحاسدٍ وحاقدٍ, فقد كان شديدَ التَّمسُّك بالسنة وأصولها, فقد سئل يوماً عمَّن يقول: إنَّ أبا بكر وعمر ليسا بإمامَي هُدى؟ فبادر أحدُ الحاضرين فقال: "مبتدعٌ!"، فاحتدَّ الطبريُّ وأنكر بشدَّة عليه وقال: "مبتدع, مبتدع! هذا يُقتل!".
أخلاقه وعبادته:
كان الطَّبريُّ على جانب كبير رفيع من مكارم الأخلاق, ظريفاً في ظاهره, نظيفاً في باطنه, حَسَنَ العُشرة لجلسائه, متفقِّداً لأحوال أصحابه, مهذباً في جميع أحواله, جميلَ الأدب في أمور حياته كلِّها، ومن أهمِّ خصاله وأخلاقه الجميلة:
• الكرم والسَّماحة:
كان الطبريُّ سمحاً جواداً شديدَ الكرم, كثيرَ النفقة على إخوانه وأهله, كان إذا أُهديَ إليه هدية مما يمكنه المكافأةُ عليها, قبلها, وكافأ صاحبها, وإن كانت مما لا يُمكنه المكافأةُ عليها ردَّها واعتذر إلى صاحبها, وقد وجَّه إليه أبو الهيجاء بن حمدان ثلاثةَ آلافِ دينار, فلمَّا نظر إليها عَجِبَ منها, ثمَّ قال: لا أقبلُ ما لا أقدرُ على المكافأة عنه, ومن أين لي ما أُكافئُ عن هذا؟
وكان يختلفُ إليه أبو الفرج بن أبي العبَّاس الأصبهانيُّ, يقرأ عليه كتبه, فالتمس أبو جعفر حصيراً لبيته, فدخل أبو الفرج الأصبهانيُّ, وقدَّر مساحة البيت, واشترى الحصير, يقصد إهداءَهُ إلى الطبريِّ, فأصرَّ الطبريُّ على دفع ثمنها, فلمَّا رفض الأصبهانيُّ أهداه الطبريُّ أربعةَ دنانير, وقد أهدى إليه أبو المحسن المحرر جارُه فرخينِ, فأهدى إليه ثوباً.
• الزُّهدُ والورعُ:
لقد كان ابنُ جريرٍ شديدَ الزُّهد والورع, يرفضُ بشكل تامٍّ, وفي كل موطن أن يتكسَّب بعلمه, أو يسترزقَ بما فتح الله له من العلوم والفضائل, وظلَّ طَوَالَ حياتِهِ يَتقوَّتُ بما يُرسلُه له أبوه من قريته بطَبَرِستانَ, حتى إنَّه لما تأخرت عليه النفقةُ ذات مرةٍ باع بعض ملابسه, وعرض عليه الوزيرُ الخاقانيُّ أموالاً كثيرة, ولكنه رفض أخذها بشدَّة, ورضيَ أن يعملَ بالأجر في تأديب الصِّبيان, وذاتَ مرَّة أراد المكتفي العباسيُّ أن يحبس وقفاً تجتمع عليه أقاويلُ العلماء, فأُحضِرَ له ابنُ جرير, فأملى عليه كتاباً لذلك, فأُخرجت له جائزةٌ كبيرة, فامتنع عن قَبولها, فقيل له: تصدَّقْ بها, فلم يفعل, وقال لهم: أنتُم أولى بأموالكم, وأعرفُ بمن تتصدَّقون عليه, وقد طلبوه لولايةِ القضاء عدة مرات ولكنه رفض بشدةٍ, ولما عاتبه أصحابه وقالوا له: لك في هذا ثوابٌ, وتُحيي سُنَّةً درست, فانتهرهم وقال: فقد كنت أظنُّ أنِّي لو رغبتُ في ذلك, لنهيتموني عنه.
وصفه ابنُ كثير فقال: "وكان من العبادة والزِّهادة والورع, والقيام في الحقِّ بمكانٍ لا يخفى على أحدٍ من الناس"، وقال تلميذُه أبو محمد الطَّبريُّ: "وكان فيه من الزُّهد والورع, والخشوع, والأمانة, وتصفية الأعمال وصدق النية, وحقائق الأفعال, ما دلَّ عليه كتابه في آداب النفوس, وكان عازفاً عن الدنيا, تاركاً لها ولأهلها, يدفع نفسه عن التماسها".
وكان ابنُ جرير لا يسأل شيئاً لنفسه قطُّ, إنَّما سؤالاته لإخوانه وحوائج المسلمين العامة, استدعاه الخليفة المقتدر بالله العباسي يوماً ليستفتيَهُ في أمرٍ ما, فأجابه, فقال له الخليفة: سل حاجتك. فقال: لا حاجةَ لي. فقال: لا بدَّ أن تسألني حاجةً أو شيئاً, فقال: أسألُ أميرَ المؤمنين, أن يتقدم أمره إلى الشرطة؛ حتى يمنعوا السُّؤَّالَ -أي الشحَّاذين- يوم الجمعة من أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع, فأمر الخليفة بذلك, وأرسل الوزيرُ العباس بن الحسن إلى ابن جرير: "قد أحببتُ أن أنظرَ في الفقه"، وسأله أن يعمل له مختصراً, فعمل له كتاب "الخفيف", وأنفذه, فوجَّهَ إليه ألف دينار فلم يقبلها, فقيل له: تصدَّقْ بها, فلم يفعل.
• التَّواضُعُ والدُّعابة:
كان الطبريُّ شديدَ التواضع جمَّ الأدب, كامل الهيئة, ضابطاً لأحواله, منبسطاً مع إخوانه, حتى ربما داعبهم أحسنَ مداعبةٍ, وكان إذا جلس لا يكاد يُسمع له تنخُّمٌ, ولا تبصُّق, ولا يُدرَى له نُخامة, وإذا أراد أن يمسح ريقه, أخذ ذؤابةَ منديله, قال تلميذه أبو بكر بن كامل: "ولقد حرصتُ مراراً أن يستويَ لي مثلُ ما يفعله, فيتعذَّر عليَّ اعتياده", قال: "وما سمعته قطُّ لاحناً, ولا حالفاً بالله -عزَّ وجلَّ-".
وكان من تواضعه لا يُحبُّ أن يَذكر مآثره العلميَّة خاصَّةً في باب المناظرات الذي كان الطبريُّ مشهوراً فيه بقهر خصومه, فلقد هزم داود الظاهريَّ شيخ الظاهرية, وأبا بكرٍ المزَنىَّ شيخَ الشافعية في المناظرة, وأقام عليهما الحجة حتى أفحمهما، ومع ذلك كان دائم الثَّناء عليهما، على الرَّغم من كراهيَّة تلاميذ الإمامين له، وخوضِهِما في حقه بسبب ذلك.
ثناءُ أهل العلم عليه:
يُعتبر ابن جرير الطبريُّ من كبار أئمَّة الإسلام, وعلماً من أعلام الدِّين, يُحكم بقوله, ويُرجع إلى رأيه، لمعرفته وفضله, وكان قد جمع من العلوم ما لم يُشارِك فيه أحدٌ من معاصريه, فقد كان حافظاً لكتاب الله, عارفاً بالقراءات, بصيراً بالمعاني فقيهاً في أحكام القرآن, عالماً بالسنن وطرقها, صحيحِها وسقيمِها, وناسخِها ومنسوخِها, عارفاً بأقوال السلف من الصَّحابة والتابعين, بصيراً بأيام الناس وأخبارهم, وهذه طائفةٌ من ثناء العلماء عليه:
قال رفيقُه وقرينه ابنُ خزيمةَ الملقب بإمام الأئمَّة: "ما أعلمُ تحت أديم السماء أعلمَ من محمد بن جرير".
قال ابن سُرَيج الملقب بالشافعيِّ الصغير: "محمَّد بن جرير الطبريُّ فقيهُ العالم".
قال ابنُ خِلَّكان: "صاحب التفسير الكبير, والتاريخ الشهير, كان إماماً في فنون كثيرة, وله مُصَنَّفات مليحة في فنون عديدة, تَدُلُّ على سَعَة علمه, وغزارةِ فضله, وكان من الأئمَّة المجتهدين".
قال القِفطيُّ: "العالم الكامل, الفقيهُ المقرئ, النَّحويُّ اللُّغوي, الحافظُ الإخباري, جامع العلوم, لم يُرَ في فنِّه مثلُه, وصنَّف التصانيف الكبار".
قال ابن كثير: "كان أحد أئمَّةِ العلماء علماً وعملاً بكتاب الله وسنَّة رسوله -صلَّى الله عليه وسلم –".
قال ابنُ تغري بردي: "وهو أحد أئمَّة العلم, يُحكم بقوله, ويُرجع إلى رأيه, وكان متفنِّناً في علوم كثيرة, وكان واحد عصره".
قال الذَّهبيُّ: "إمامُ العلم المجتهد, عالمُ العصر أبو جعفرٍ الطَّبريُّ, صاحبُ التَّصانيف البديعة, كان من أفراد الدَّهر, عِلما , وذكاءً, وكثرةَ تصانيف, قلَّ أن ترى العيون مثله, رأسٌ في التفسير, إمامٌ في الفقه والإجماع والاختلاف, علَّامة في التاريخ وأيَّام الناس".
قال السُّبكيٌّ: "الإمام الجليل, والمجتهد المطلق, أحد أئمَّة الدنيا علماً وديناً".
مُصنَّفاتُه:
لم تقتصر علومُ الإمام الطَّبريّ وآثارُه على علمٍ واحد، بل ولج -رحمه الله- ميدان مختلف العلوم الشَّرعيَّة واللُّغويَّة، وكان في كلٍّ منها إماماً ومقدَّماً. لقد كان الطبريُّ إمامًا في السُّنة وعلوم الحديث، وعدَّه الإمام النَّوويُّ –رحمه الله– في طبقة التِّرمذيِّ والنَّسائي وكان أيضاً إمامًا في القراءات، وصنَّف في القراءات.
ودرس التَّفسير بتعمُّق، وصنَّف أعظمَ كتبه على الإطلاق في التَّفسير، كتاب "جامع البيان في تأويل آي القرآن"، الذي ضمَّ فيه علوم القرآن المختلفة، حتى اعتُبِر "إمام المفسرين" أو "شيخ المفسرين".
كما كان –رحمه الله– إماماً: في الفقه، وعلمِ الخلاف، والفقهِ المقارن، واختلافِ العلماء؛ وكان من الأئمَّة المجتهدين، وصاحبَ مذهبٍ مستقلٍّ، ولقد تبعه بعضُ الناس على مذهبه رَدْحاً من الزَّمن، وصنَّف الكتب الجيِّدة: في الفقه العام، والفقه المقارن، والفقه المذهبيّ.
ومن أعظم إنجازاته – رحمه الله– إلى جانب تفسيره العظيم، كتابُه في التاريخ الذي يُعتبر مرجعًا هامًّا وأساسيًّا، لدى كثيرٍ من الباحثين والمؤرِّخين، وهو فيما قدّم يُعتبر شيخَ المؤرِّخين بلا منازعٍ ولا مدافع، واسمُ الكتاب: "تاريخ الرُّسل والملوك".
هذا إلى جانب كتابه الأخير: "تاريخ الرِّجال من الصَّحابة والتَّابعين"، إلى شيوخه هو؛ المعروف بـ " ذيل المذبل ".
وكان أيضا –رحمه الله– من أئمَّة العربيَّة، في المعاني واللُّغة والصَّرف والعَروض والبيان، بالإضافة إلى علمه بالفلسفة والمنطق والجَدَل.
وكان عنده شيءٌ من علم الطَّبِّ والجبر والرِّياضيَّات.
وكان –رحمه الله– أيضا عالماً بأصول الدِّين والتَّوحيد، وعلم الكلام، وله كتبٌ فيها.
وكان عالماً بالحديث، وبلغ مرتبة الحافظ المحدِّث، ولقد صنَّف في علم الحديث ومصطلحه، كما التزم بمنهج المحدّثين في معظم كتبه.
وكان عالماً بأصول الفقه وقواعد الاجتهاد والاستنباط، مما أهَّله أن يكون مجتهدًا صاحبَ رأيٍ مستقل ومذهب.
وكان عالماً بآداب النَّفس وعلم الأخلاق والتَّربية، وصنَّف فيها كذلك.
قال الخراسانيُّ: "وله مصنَّفات مليحة في فنون عديدة، تدلُّ على سعة علمه، وغزارة فضله، وكان من الأئمَّة المجتهدين"، ووصفه الخطيب البغداديُّ فقال: "وكان أحد أئمَّة العلماء، يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه، لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يُشاركه فيها أحدٌ من أهل عصره؛ وكان حافظًا لكتاب الله تعالى، عارفًا بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسُّنن وطرقها، صحِيحِها وسقيمِها، ناسخِها ومنسوخِها، عارفًا بأقوال الصَّحابة والتَّابعين، ومَن بعدهم من المخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في "تاريخ الأمم والملوك" وكتابٌ في التفسير لم يصنِّفْ أحدٌ مثله، وكتابٌ سمَّاه "تهذيب الآثار" لم أرَ سواه في معناه، إلا أنَّه لم يُتِمَّه؛ وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرُّد بمسائل حُفِظت عنه". ويقول ياقوت الحمويُّ في معجم الأدباء: "كان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدّث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنَّحويِّ الذي لا يعرف إلا النَّحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب، وكان عالماً بالعبادات جامعًا للعلوم، وإذا جمعت بين كتبه وكتب غيره، وجدت لكتبه فضلًا على غيرها".
أمَّا عن أشهر وأهمِّ مصنفاته فهي:
- جامعُ البيان عن تأويل آي القرآن، المعروف بـتفسير الطبري، وقد طبع مرات عديدة.
- وتاريخ الأمم والملوك، المعروف بـتاريخ الطبري.
- واختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام.
- والخفيف في أحكام شرائع الإسلام في الفقه، وهو مختصر كتاب:
- لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام، المعروف بـاختلاف الفقهاء في علم الخلاف، وهو كتابٌ واسع اختصره في كتاب الخفيف، فإذاً: اللطيف والخفيف هما كتابان للطَّبريِّ في الفقه.
- وكتاب تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار، هذا كتاب في الحديث طبع منه أربعة مجلدات، وبقي منه بقايا، وهو من الكتب العظيمة.
- كذلك ألف كتاب: آداب القضاة، وآداب النفوس، والقراءات وتنزيل القرآن، والبصير في معالم الدين، وفضائل عليٍّ، وفضائل أبي بكر، وفضائل عمر، وفضائل العبَّاس، وكتابٌ في تعبير عبارة رؤية في الحديث، ومختصر مناسك الحج، ومختصر الفرائض، والموجز في الأصول، والرَّميُ بالنُّشَّاب حتَّى الرَّمي بالقوس وطريقة الرمي يقال: إنَّه للطبريِّ - رحمه الله -، والرسالة في أصول الفقه، والمسترشد وكتاب اختيار من أقاويل الفقهاء، هذه بعض الكتب التي ألفها صاحب القلم السَّيَّال والنَّفَس الطويل ابن جرير رحمه الله تعالى.
يقول الخطيب البغدادي راوياً: إنَّ محمد بن جرير مكث أربعين سنةً يكتب في كل يوم أربعين ورقة، وإذا ضربت أربعين سنة في إنتاج كل يومٍ أربعين ورقة يكون الناتج ستمائة ألف ورقة؛ لأنَّ الله - سبحانه وتعالى - أمدَّ في عُمره ستًّا وثمانين سنة، اطرح منها الطفولةَ والجُمَعَ والتِّرحال والرَّحَلات إلى أن استقرَّ بـبغدادَ أربعين سنةً، هذه فترة تدريس وتصنيف، كلَّ يوم يؤلف أربعين ورقةً، هذه ستمائة ألف ورقة.
يقول ياقوت الحموي: "وحدَّث عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بكتاب الصِّلة، وهو كتابٌ وصل به تاريخ ابن جرير -أي كمّل مما انتهى إليه ابن جرير في التاريخ-: أنَّ قوماً من تلاميذ ابن جرير حصّلوا أيام حياته، منذ بلغ الحلم إلى أن تُوفِّي وهو ابنُ ستٍّ وثمانين، ثم قسموا عليها أوراق مصنَّفاته، فصار منها على كلِّ يومٍ أربعَ عشرةَ ورقةً، وهذا شيءٌ لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق"، تصنيف الطبري ليس كما يقولون كلام حشو، هذا لا يأتي إلا بعد جمع غزير.