فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 299)
من صــ 181 الى صـ 195
" أحدها " أنه إذا حنث لزمه ما حلف به. " والثاني " لا يلزمه شيء. و " الثالث " يلزمه كفارة يمين. ومن العلماء من فرق بين الحلف والطلاق والعتاق وغيرها. والقول الثالث أظهر الأقوال؛ لأن الله تعالى قال: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وقال: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم}
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وعدي بن حاتم وأبي
موسى أنه قال: {ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه} وجاء هذا المعنى في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي موسى وعبد الرحمن بن سمرة وهذا يعم جميع أيمان المسلمين فمن حلف بيمين من أيمان المسلمين وحنث أجزأته كفارة يمين. ومن حلف بإيمان الشرك: مثل أن يحلف بتربة أبيه؛ أو الكعبة أو نعمة السلطان أو حياة الشيخ أو غير ذلك من المخلوقات: فهذه اليمين غير منعقدة ولا كفارة فيها إذا حنث باتفاق أهل العلم.
" والنوع الثالث " من الصيغ: أن يعلق الطلاق أو العتاق أو النذر بشرط؛ فيقول: إن كان كذا فعلي الطلاق. أو الحج. أو فعبيدي أحرار. ونحو ذلك: فهذا ينظر إلى مقصوده فإن كان مقصوده أن يحلف بذلك ليس غرضه وقوع هذه الأمور - كمن ليس غرضه وقوع الطلاق إذا وقع الشرط - فحكمه حكم الحالف؛ وهو من " باب اليمين ".
وأما إن كان مقصوده وقوع هذه الأمور: كمن غرضه وقوع الطلاق عند وقوع الشرط: مثل أن يقول لامرأته: إن أبرأتيني من طلاقك أنت طالق. فتبرئه. أو يكون عرضه أنها إذا فعلت فاحشة أن يطلقها فيقول: إذا فعلت كذا فأنت طالق؛ بخلاف من كان غرضه أن يحلف عليها ليمنعها؛ ولو فعلته لم يكن له غرض في طلاقها فإنها تارة يكون طلاقها أكره إليه من الشرط فيكون حالفا.
وتارة يكون الشرط المكروه أكره إليه من طلاقها؛ فيكون موقعا للطلاق إذا وجد ذلك الشرط فهذا يقع به الطلاق وكذلك إن قال: إن شفى الله مريضي فعلي صوم شهر فشفي فإنه يلزمه الصوم. فالأصل في هذا: أن ينظر إلى مراد المتكلم ومقصوده فإن كان غرضه أن تقع هذه الأمور وقعت منجزة أو معلقة إذا قصد وقوعها عند وقوع الشرط. وإن كان مقصوده أن يحلف بها؛ وهو يكره وقوعها إذا حنث وإن وقع الشرط فهذا حالف بها؛ لا موقع لها فيكون قوله من " باب اليمين "؛ لا من " باب التطليق والنذر " فالحالف هو الذي يلتزم ما يكره وقوعه عند المخالفة كقوله: إن فعلت كذا فأنا يهودي؛ أو نصراني ونسائي طوالق وعبيدي أحرار وعلي المشي إلى بيت الله. فهذا ونحوه يمين؛ بخلاف من يقصد وقوع الجزاء من ناذر ومطلق ومعلق فإن ذلك يقصد ويختار لزوم ما التزمه وكلاهما ملتزم؛ لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم وإن وجد الشرط الملزوم كما إذا قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني فإن هذا يكره الكفر ولو وقع الشرط: فهذا حالف.
والموقع يقصد وقوع الجزاء اللازم عند وقوع الشرط الملزوم؛ سواء كان الشرط مرادا له أو مكروها أو غير مراد له. فهذا موقع ليس بحالف. وكلاهما ملتزم معلق؛ لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم. والفرق بين هذا وهذا ثابت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكابر التابعين وعليه دل الكتاب والسنة وهو مذهب جمهور العلماء.
كالشافعي وأحمد وغيرها: في تعليق النذر. قالوا: إذا كان مقصوده النذر فقال: لئن شفى الله مريضي فعلي الحج. فهو ناذر إذا شفى الله مريضه لزمه الحج فهذا حالف تجزئه كفارة يمين ولا حج عليه.
وكذلك قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ابن عمر وابن عباس وعائشة وأم سلمة. وزينب ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم وغير واحد من الصحابة في من قال إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر. قالوا: يكفر عن يمينه. ولا يلزمه العتق. هذا مع أن العتق طاعة وقربة؛ فالطلاق لا يلزمه بطريق الأولى كما قال ابن عباس رضي الله عنه الطلاق عن وطر والعتق ما ابتغي به وجه الله. ذكره البخاري في صحيحه.
بين ابن عباس أن الطلاق إنما يقع بمن غرضه أن يوقعه؛ لا لمن يكره وقوعه كالحالف به والمكره عليه وعن عائشة أنها قالت: كل يمين وإن عظمت فكفارتها كفارة اليمين بالله. وهذا يتناول جميع الأيمان: من الحلف بالطلاق والعتاق والنذر. وغير ذلك. والقول بأن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق مذهب خلق كثير من السلف والخلف؛ لكن فيهم من لا يلزمه الكفارة: كداود وأصحابه ومنهم من يلزمه كفارة يمين: كطاووس وغيره من السلف والخلف.
والأيمان التي يحلف بها الخلق ثلاثة أنواع.
" أحدها " يمين محترمة منعقدة: كالحلف باسم الله تعالى: فهذه فيها الكفارة بالكتاب والسنة والإجماع.
" الثاني " الحلف بالمخلوقات: كالحالف بالكعبة. فهذه لا كفارة فيها باتفاق المسلمين. " والثالث " أن يعقد اليمين لله فيقول: إن فعلت كذا فعلي الحج. أو مالي صدقة. أو فنسائي طوالق.
أو فعبيدي أحرار؛ ونحو ذلك فهذه فيها الأقوال الثلاثة المتقدمة: إما لزوم المحلوف به وإما الكفارة وإما لا هذا ولا هذا. وليس في حكم الله ورسوله إلا يمينان: يمين من أيمان المسلمين ففيها الكفارة. أو يمين ليست من أيمان المسلمين: فهذه لا شيء فيها إذا حنث. فهذه الأيمان إن كانت من أيمان المسلمين ففيها كفارة؛ وإن لم تكن من أيمان المسلمين لم يلزم بها شيء.
فأما إثبات يمين يلزم الحالف بها ما التزمه ولا تجزئه فيها كفارة: فهذا ليس في دين المسلمين؛ بل هو مخالف للكتاب والسنة. والله تعالى ذكر في سورة التحريم حكم أيمان المسلمين وذكر في السورة التي قبلها حكم طلاق المسلمين فقال في سورة التحريم: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم} وقال في سورة الطلاق:
{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا} {ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} فهو سبحانه بين في هذه السورة حكم الطلاق وبين في تلك حكم أيمان المسلمين. وعلى المسلمين أن يعرفوا حدود ما أنزل الله على رسوله فيعرفوا ما يدخل في الطلاق وما يدخل في أيمان المسلمين ويحكموا في هذا بما حكم الله ورسوله ولا يتعدوا حدود الله فيجعلوا حكم أيمان المسلمين وحكم طلاقهم حكم أيمانهم؛ فإن هذا مخالف لكتاب الله وسنة رسوله.
وإن كان قد اشتبه بعض ذلك على كثير من علماء المسلمين فقد عرف ذلك غيرهم من علماء المسلمين والذين ميزوا بين هذا وهذا من الصحابة والتابعين هم أجل قدرا عند المسلمين ممن اشتبه عليه هذا وهذا وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فما تنازع فيه المسلمين وجب رده إلى الكتاب والسنة. والاعتبار - الذي هو أصح القياس وأجلاه - إنما يدل على قول من فرق بين هذا وهذا مع ما في ذلك من صلاح المسلمين في دينهم ودنياهم إذا فرقوا بين ما فرق الله ورسوله بينه فإن الذين لم يفرقوا بين هذا وهذا أوقعهم هذا الاشتباه: إما في آصار وأغلال وإما في مكر واحتيال: كالاحتيال في ألفاظ الأيمان والاحتيال بطلب إفساد النكاح والاحتيال بدور الطلاق والاحتيال بخلع اليمين والاحتيال بالتحليل.
والله أغنى المسلمين بنبيهم الذي قال الله فيه: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} أي يخلصهم من الآصار والأغلال؛ ومن الدخول في منكرات أهل الحيل. والله تعالى أعلم.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
إذا حلف الرجل يمينا من الأيمان، فالأيمان ثلاثة أقسام:
" أحدها " ما ليس من أيمان المسلمين وهو الحلف بالمخلوقات. كالكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء؛ وتربتهم ونحو ذلك: فهذه يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء؛ بل هي منهي عنها باتفاق أهل العلم والنهي نهي تحريم في أصح قوليهم. ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت} وقال {إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم} وفي السنن عنه أنه قال: {من حلف بغير الله فقد أشرك}.
" والثاني " اليمين بالله تعالى كقوله: والله لأفعلن. فهذه يمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين. وأيمان المسلمين التي هي في معنى الحلف بالله مقصود الحالف بها تعظيم الخالق - لا الحلف بالمخلوقات - كالحلف بالنذر والحرام والطلاق والعتاق كقوله: إن فعلت كذا فعلي صيام شهر أو الحج إلى بيت الله. أو الحل علي حرام لا أفعل كذا. أو إن فعلت كذا فكل ما أملكه حرام. أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا. أو لا أفعله. أو إن فعلته فنسائي طوالق وعبيدي أحرار وكل ما أملكه صدقة. ونحو ذلك فهذه الأيمان للعلماء فيها ثلاثة أقوال.
قيل إذا حنث لزمه ما علقه وحلف به. وقيل لا يلزمه شيء. وقيل: يلزمه كفارة يمين. ومنهم من قال: الحلف بالنذر يجزيه فيه الكفارة والحلف بالطلاق والعتاق يلزمه ما حلف به. وأظهر الأقوال وهو القول الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار: أنه يجزئه كفارة يمين في جميع أيمان المسلمين كما قال الله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} وقال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه} فإذا قال: الحل علي حرام لا أفعل كذا. أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا.
أو إن فعلت كذا فعلي الحج. أو مالي صدقة: أجزأه في ذلك كفارة يمين فإن كفر كفارة الظهار فهو أحسن. وكفارة اليمين يخير فيها بين العتق أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم وإذا أطعمهم أطعم كل واحد جراية من الجرايات المعروفة في بلده: مثل أن يطعم ثمان أواق أو تسع أواق بالشامي ويطعم مع ذلك إدامها؛ كما جرت عادة أهل الشام في إعطاء الجرايات خبزا وإداما. وإذا كفر يمينه لم يقع به الطلاق.
وأما إذا قصد إيقاع الطلاق على الوجه الشرعي: مثل أن ينجز الطلاق فيطلقها واحدة في طهر لم يصبها فيه: فهذا يقع به الطلاق باتفاق العلماء وكذلك إذا علق الطلاق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها: مثل أن يكون مريدا للطلاق إذا فعلت أمرا من الأمور. فيقول لها: إن فعلته فأنت طالق. قصده أن يطلقها إذا فعلته: فهذا مطلق يقع به الطلاق عند السلف وجماهير الخلف؛ بخلاف من قصده أن ينهاها ويزجرها باليمين؛ ولو فعلت ذلك الذي يكرهه لم يجز أن يطلقها؛ بل هو مريد لها وإن فعلته؛ لكنه قصد اليمين لمنعها عن الفعل؛ لا مريدا أن يقع الطلاق وإن فعلته: فهذا حلف لا يقع به الطلاق في أظهر قولي العلماء من السلف والخلف؛ بل يجزئه كفارة يمين كما تقدم.
(ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
لكن الشارع قرن بين الخمر والميسر في التحريم؛ فقال تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}؟ فوصف الأربعة بأنها رجس من عمل الشيطان؛ وأمر باجتنابها ثم خص الخمر والميسر بأنه يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة. ويهدد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} كما علق الفلاح بالاجتناب في قوله: {فاجتنبوه لعلكم تفلحون} ولهذا يقال: إن هذه الآية دلت على تحريم الخمر والميسر من عدة أوجه. ومعلوم أن " الخمر " لما أمر باجتنابها حرم مقاربتها بوجه فلا يجوز اقتناؤها ولا شرب قليلها بل كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإراقتها وشق ظروفها وكسر دنانها ونهى عن تخليلها وإن كانت ليتامى. مع أنها اشتريت لهم قبل التحريم؛ ولهذا كان الصواب الذي هو المنصوص عن أحمد وابن المبارك وغيرهما: أنه ليس في الخمر شيء محترم؛ لا خمرة الخلال ولا غيرها وأنه من اتخذ خلا فعليه أن يفسده قبل أن يتخمر: بأن يصب في العصير خلا وغير ذلك مما يمنع تخميره؛ بل كان النبي صلى الله عليه وسلم {نهى عن الخليطين} لئلا يقوى أحدهما على صاحبه فيفضي إلى أن يشرب الخمر المسكر من لا يدري. ونهى عن الانتباذ في الأوعية التي يدب السكر فيها ولا يدري ما به كالدباء والحنتم والظرف المزفت والمنقور من الخشب.
وأمر بالانتباذ في السقاء الموكى لأن السكر ينظر: إذا كان في الشراب انشق الظرف؛ وإن كان في نسخ ذلك أو بعضه نزاع ليس هذا موضع ذكره. فالمقصود سد الذرائع المفضية إلى ذلك بوجه من الوجوه.
وقال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
" الميسر " اشتمل على " مفسدتين ": مفسدة في المال. وهي أكله بالباطل. ومفسدة في العمل وهي ما فيه من مفسدة المال وفساد القلب والعقل وفساد ذات البين. وكل من المفسدتين مستقلة بالنهي فينهى عن أكل المال بالباطل مطلقا ولو كان بغير ميسر كالربا وينهى عما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء ولو كان بغير أكل مال. فإذا اجتمعا عظم التحريم: فيكون الميسر المشتمل عليهما أعظم من الربا.
ولهذا حرم ذلك قبل تحريم الربا ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر حرمها ولو كان الشارب يتداوى بها كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح. وحرم بيعها لأهل الكتاب وغيرهم وإن كان أكل ثمنها لا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ولا يوقع العداوة والبغضاء؛ لأن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه كل ذلك مبالغة في الاجتناب. فهكذا الميسر منهي عن هذا وعن هذا. والمعين على الميسر كالمعين على الخمر؛ فإن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان. وكما أن الخمر تحرم الإعانة عليها ببيع أو عصر أو سقي أو غير ذلك: فكذلك الإعانة على الميسر: كبائع آلاته والمؤجر لها والمذبذب الذي يعين أحدهما: بل مجرد الحضور عند أهل الميسر كالحضور عند أهل شرب الخمر.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم. {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر} وقد رفع إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوم يشربون الخمر فأمر بضربهم فقيل له: إن فيهم صائما. فقال ابدءوا به ثم قال: أما سمعت قوله تعالى {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} فاستدل عمر بالآية؛ لأن الله تعالى جعل حاضر المنكر مثل فاعله؛ بل إذا كان من دعا إلى دعوة العرس لا تجاب دعوته إذا اشتملت على منكر حتى يدعه مع أن إجابة الدعوة حق: فكيف بشهود المنكر من غير حق يقتضي ذلك.
(ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون (105)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
قوله - تعالى علوا كبيرا: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} لا يقتضي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا نهيا ولا إذنا كما في الحديث المشهور في السنن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه}.
وكذلك في حديث أبي ثعلبة الخشني مرفوعا في تأويلها {إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك} وهذا يفسره حديث أبي سعيد في مسلم: {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} فإذا قوي أهل الفجور حتى لا يبقى لهم إصغاء إلى البر؛ بل يؤذون الناهي لغلبة الشح والهوى والعجب سقط التغيير باللسان في هذه الحال وبقي بالقلب و " الشح " هو شدة الحرص التي توجب البخل والظلم وهو منع الخير وكراهته و " الهوى المتبع " في إرادة الشر ومحبته و " الإعجاب بالرأي " في العقل والعلم فذكر فساد القوى الثلاث التي هي العلم والحب والبغض. كما في الحديث الآخر: {ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وبإزائها الثلاث المنجيات: خشية الله في السر والعلانية والقصد في الفقر والغنى وكلمة الحق في الغضب والرضا} وهي التي سألها في الحديث الآخر: {اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى}.
فخشية الله بإزاء اتباع الهوى فإن الخشية تمنع ذلك كما قال: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} والقصد في الفقر والغنى بإزاء الشح المطاع وكلمة الحق في الغضب والرضا بإزاء إعجاب المرء بنفسه وما ذكره الصديق ظاهر؛ فإن الله قال: {عليكم أنفسكم} أي الزموها وأقبلوا عليها ومن مصالح النفس فعل ما أمرت به من الأمر والنهي. وقال: {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنما يتم الاهتداء إذا أطيع الله وأدي الواجب من الأمر والنهي وغيرهما؛ ولكن في الآية فوائد عظيمة:" أحدها " ألا يخاف المؤمن من الكفار والمنافقين فإنهم لن يضروه إذا كان مهتديا.
" الثاني " ألا يحزن عليهم ولا يجزع عليهم فإن معاصيهم لا تضره إذا اهتدى والحزن على ما لا يضر عبث وهذان المعنيان مذكوران في قوله: {واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون}. " الثالث " ألا يركن إليهم ولا يمد عينه إلى ما أوتوه من السلطان والمال والشهوات كقوله: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم} فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما عندهم في آية ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم في آية فإن الإنسان قد يتألم عليهم ومنهم إما راغبا وإما راهبا.
" الرابع " ألا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم أو نهيهم أو هجرهم أو عقوبتهم؛ بل يقال لمن اعتدى عليهم عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت كما قال: {ولا يجرمنكم شنآن قوم} الآية. وقال: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} وقال: {فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} فإن كثيرا من الآمرين الناهين قد يتعدى حدود الله إما بجهل وإما بظلم وهذا باب يجب التثبت فيه وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين.
![]()