( المسألة الثالثة ) إذا رأوا الهلال في رمضان في بلد ولم يروه في غيره ، فإن تقارب البلدان فحكمهما بلد واحد ويلزم أهل البلد الآخر الصوم بلا خلاف وإن تباعدا فوجهان مشهوران في الطريقتين ( أصحهما ) لا يجب الصوم على أهل البلد الآخر ، وبهذا قطع المصنف والشيخ أبو حامد والبندنيجي وآخرون ، وصححه العبدري والرافعي والأكثرون . ( والثاني ) يجب وبه قال الصيمري وصححه القاضي أبو الطيب والدارمي وأبو علي السنجي وغيرهم ، وأجاب هؤلاء عن حديث كريب عن ابن عباس أنه لم يثبت عنده رؤية الهلال في بلد آخر بشهادة عدلين والصحيح الأول . وفيما يعتبر بعد البعد والقرب ثلاثة أوجه ( أصحها ) وبه قطع جمهور العراقيين والصيدلاني وغيرهم أن التباعد يختلف باختلاف المطالع ، كالحجاز والعراق وخراسان ، والتقارب أن يختلف ، كبغداد والكوفة والري وقزوين ; لأن مطلع هؤلاء مطلع هؤلاء ، فإذا رآه هؤلاء فعدم رؤيته للآخرين لتقصيرهم في التأمل أو لعارض ، بخلاف مختلفي المطلع .
( والثاني ) الاعتبار باتحاد الإقليم واختلافه ، فإن اتحد فمتقاربان وإلا فمتباعدان وبهذا قال الصيمري وآخرون .
( الثالث ) أن التباعد مسافة القصر ، والتقارب دونها ، وبهذا قال الفوراني وإمام الحرمين والغزالي والبغوي وآخرون من الخراسانيين ، [ ص: 281 ] وادعى إمام الحرمين الاتفاق عليه ; لأن اعتبار المطالع يحوج إلى حساب وتحكيم المنجمين ، وقواعد الشرع تأبى ذلك . فوجب اعتبار مسافة القصر التي علق الشرع بها كثيرا من الأحكام ، وهذا ضعيف ، لأن أمر الهلال لا تعلق له بمسافة القصر . فالصحيح اعتبار المطالع كما سبق . فعلى هذا لو شك في اتفاق المطالع لم يلزم الذين لم يروا الصوم ، لأن الأصل عدم الوجوب ، ولأن الصوم إنما يجب بالرؤية للحديث ، ولم تثبت الرؤية في حق هؤلاء ، لعدم ثبوت قربهم من بلد الرؤية ، هذا الذي ذكرته هو المشهور للأصحاب في الطريقين ، وانفرد الماوردي والسرخسي بطريقين آخرين ، فقال الماوردي : إذا رأوه في بلد دون بلد فثلاثة أوجه : ( أحدها ) يلزم الذين لم يروا ، لأن فرض رمضان لا يختلف باختلاف البلاد وقد ثبت رمضان .
( والثاني ) لا يلزم لأن الطوالع والغوارب قد تختلف لاختلاف البلدان وإنما خوطب كل قوم بمطلعهم ومغربهم ، ألا ترى الفجر قد يتقدم طلوعه في بلد ويتأخر في بلد آخر ، وكذلك الشمس قد يتعجل غروبها في بلد ويتأخر في آخر ، ثم كل بلد يعتبر طلوع فجره وغروب شمسه في حق أهله فكذلك الهلال .
( الثالث ) إن كانا من إقليم لزمهم ، وإلا فلا ، هذا كلام الماوردي . وقال السرخسي : إذا رآه أهل ناحية دون ناحية ، فإن قربت المسافة لزمهم كلهم ، وضابط القرب أن يكون الغالب أنه إذا أبصره هؤلاء لا يخفى عليهم إلا لعارض ، سواء في ذلك مسافة القصر أو غيرها ، قال : فإن بعدت المسافة فثلاثة أوجه ( أحدها ) يلزم الجميع ، واختاره أبو علي السنجي ( والثاني ) لا يلزمهم ( والثالث ) إن كانت المسافة بينهما بحيث لا يتصور أن يرى ولا يخفى على أولئك بلا عارض لزمهم ، وإن كانت بحيث يتصور أن يخفى عليهم فلا . فحصل في المسألة ستة وجوه : ( أحدها ) يلزم جميع أهل الأرض برؤيته في موضع منها ( والثاني ) يلزم أهل إقليم بلد الرؤية دون غيرهم ( والثالث ) يلزم كل بلد يوافق [ ص: 282 ] بلد الرؤيا في المطلع دون غيره ، وهذا أصحها .
( والرابع ) يلزم كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض دون غيرهم وهو فيما حكاه السرخسي ( والخامس ) لا يلزم غير بلد الرؤية ، وهو فيما حكاه الماوردي ، والله أعلم .
( فرع ) في مذاهب العلماء فيما إذا رأى الهلال أهل بلد دون غيرهم قد ذكرنا تفصيل مذهبنا ، ونقل ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق بن راهويه أنه لا يلزم غير أهل بلد الرؤية ، وعن الليث والشافعي وأحمد : يلزم الجميع ، قال : ولا أعلمه إلا قول المدني والكوفي ، يعني مالكا وأبا حنيفة . |