وهذا معنى قول أهل الإثبات، الذي يذكره مثل القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما: لا خلاف بيننا وبين المعتزلة أن المصحح لكون الفاعل فاعلا هو كونه قادرا، ووجدنا كل مصحح لأمر من الأمور فإنه يستحيل ثبوت ذلك الأمر والحكم مع عدم المصحح له. (* ألا ترى أنه لما ثبت أن المصحح لكون القادر العالم كونه حيا، استحال كونه عالما قادرا مع [عدم] (1) كونه حيا وكذلك لما كان *) (2) المصحح لكون المتلون متلونا (3) وكونه متحركا كونه جوهرا، استحال كونه متلونا ومتحركا (4) وليس بجوهر.
وكذلك يستحيل كونه فاعلا في حال ليس هو فيها قادرا.
قالوا: وهذا من الأدلة المعتمدة. وهذا الدليل يقتضي أنه لا بد من وجود القدرة على الفعل، ولكن لا ينفى وجودها قبل الفعل (5) ، فإن المصحح يصح وجوده قبل وجود المشروط (6) وبدون ذلك، كما يصح وجود الحياة بدون العلم، والجوهر بدون الحركة.
وهذا مما يحتج به على الفلاسفة في مسألة (7) حدوث العالم، فإنهم إذا قالوا: العلة القديمة تحدث الدورة الثانية بشرط انقضاء الأولى.
قيل لهم: لا بد عند وجود المحدث من العلة التامة، وكون الفاعل قادرا (8)
**_________
(1) عدم: ساقط من (ن) .
(2) ما بين النجمتين ساقط من (م) فقط.
(3) ن، م: المتكون متكونا.
(4) ب: متحركا متلونا ; ن: متكونا ومتحركا ; م: مكونا ومتحركا.
(5) ب، أ، م، ن: قبل ذلك.
(6) ن، م: الشرط.
(7) ع: مسائل.
(8) ب: وكونه قادرا ; أ: وكون قادرا
============================== ===
تام القدرة مريدا تام الإرادة، فلا يكفي في الإحداث مجرد وجود شيء متقدم (1) على الإحداث، فكيف يكفي مجرد عدم شيء يتقدم عدمه على الإحداث؟ بل لا بد حين الإحداث من المؤثر التام، ثم كذلك عند حدوث المؤثر التام لا بد له من مؤثر تام، فإذا لم يكن إلا علة تامة أزلية يقارنها معلولها، لزم حدوث الحوادث بلا محدث أصلا.
وهذا يدل على أن الرب تعالى يتصف بما به يفعل الحوادث المخلوقة من الأقوال القائمة به الحاصلة بقدرته ومشيئته، (2) كما قد بسط في موضعه.
وهذا التفصيل في الإرادة والقدرة (3) ، وتقسيمها إلى نوعين، يزيل الاشتباه والاضطراب الحاصل في هذا الباب.
وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق، فإن (4) من قال: القدرة لا تكون إلا مع الفعل، يقول: كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق (5) . وليس هذا الإطلاق قول جمهور أهل السنة وأئمتهم، بل يقولون: إن الله تعالى قد أوجب الحج على المستطيع، حج أو لم يحج، وكذلك أوجب صيام الشهرين في الكفارة على المستطيع، كفر أو لم يكفر، وأوجب العبادات على القادرين دون العاجزين، فعلوا أو لم يفعلوا.
وما لا يطاق يفسر بشيئين: يفسر بما لا يطاق (6) للعجز عنه ; فهذا لم يكلفه
**_________
(1) ب، أ: مقدم.
(2) م (فقط) : من الأفعال القائمة بقدرته ومشيئته.
(3) ع: الإرادة والمشيئة.
(4) ب، أ: وأن.
(5) ع، ن، م: ما لا يطاق.
(6) ب، أ: يفسر بشيئين ما لا يطاق
==============================
الله أحدا. ويفسر بما لا يطاق (1) للاشتغال بضده ; فهذا هو الذي وقع فيه التكليف (2) كما في أمر العباد بعضهم بعضا، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف، ويأمره إذا كان قاعدا أن يقوم، ويعلم الفرق بين هذا وهذا بالضرورة.
وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع، وإنما نبهنا على نكتها بحسب ما يليق بهذا الموضع (3) .
وعلى هذا فقوله (4) : " لم يخلق فيه قدرة على الإيمان " (5) ليس [هو] (6) قول جمهور أهل السنة، بل يقولون خلق له (7) القدرة المشروطة في التكليف المصححة للأمر والنهي، كما في العباد (8) إذا أمر بعضهم بعضا، فما يوجد من (9) القدرة في ذلك الأمر، فهو موجود في أمر الله لعباده، بل تكليف الله أيسر، ورفعه (10) للحرج أعظم. والناس يكلف بعضهم بعضا أعظم مما أمرهم الله به ورسوله، ولا يقولون: إنه تكليف ما لا يطاق. ومن تأمل أحوال من يخدم الملوك والرؤساء ويسعى في طاعتهم، وجد عندهم من ذلك ما ليس عند المجتهدين في العبادة لله (11) .
**_________
(1) ب، أ: أحدا وما لا يطاق.
(2) ن: وقع بالتكليف ; م: وقع به التكليف.
(3) بهذا الموضع: ساقط من (ب) ، (أ) وفي (م) : عند الموضع، وهو تحريف.
(4) ب، أ: وعلى هذا قوله ; م: فعلى هذا قوله.
(5) على: ساقطة من (ب) ، (أ) . وفي (ن) ، (م) : للإيمان.
(6) هو: ساقطة من (ن) ، (م) .
(7) له: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(8) ع، م: العبادات.
(9) ن، م: كما يوجد في ; ع: فما يوجد في.
(10) ع، أ، ب: ودفعه.
(11) ب، أ: في عبادة الله سبحانه وتعالى
============================== =====
**[فصل كلام الرافضي على مقالة أهل السنة في القدر إفحام الأنبياء وانقطاع حجتهم والرد عليه]
(فصل) قال الرافضي (1) : " ومنها إفحام الأنبياء وانقطاع حجتهم، لأن النبي إذا قال للكافر: آمن بي وصدقني، يقول (2) قل للذي بعثك يخلق في الإيمان أو القدرة (3) المؤثرة فيه حتى أتمكن من الإيمان وأومن بك (4) ، وإلا فكيف تكلفني الإيمان ولا قدرة لي عليه؟ بل خلق في الكفر (5) ، وأنا لا أتمكن من مقاهرة (6) الله تعالى، فينقطع النبي ولا يتمكن من جوابه ".
فيقال: هذا مقام يكثر فيه خوض النفوس (7) ، فإن كثيرا من الناس إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدر، وقال: حتى يقدر الله لي (8) ذلك، أو يقدرني الله (9) على ذلك، أو حتى يقضي الله ذلك (10) ، وكذلك إذا نهي عن فعل ما حرم الله قال: الله قضى (11) علي بذلك، أي حيلة لي في هذا؟ ونحو (12) هذا الكلام.
**_________
(1) م، ن: الإمامي. والعبارات التالية في ك 86 (م) .
(2) ب، أ، ن: يقول له.
(3) م: والقدرة.
(4) بك: ليست في (ك) .
(5) ك: بل خلق الله تعالى في الكفر.
(6) ن: ما أمكن من معارفة، وهو تحريف.
(7) ب، أ، ن، م: يكثر خوض النفوس فيه.
(8) لي: زيادة في (م) ، (ن) .
(9) لفظ الجلالة ليس في (م) .
(10) ن، م: أو حتى يقضي الله له ذلك.
(11) ن، م: قضى الله.
(12) ب، أ: أي خيلة لي ونحو
============================== =======
والاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة (1) باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين، والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة إذا احتج بها في (2) ظلم ظلمه إياه، أو ترك (3) ما يجب عليه من حقوقه، بل يطلب منه (4) ما له عليه، ويعاقبه على عدوانه عليه، وإنما هو (5) من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم، فكما أنك تعلم فسادها بالضرورة، وإن كانت تعرض كثيرا لكثير من الناس (6) حتى قد يشك في وجود نفسه وغير ذلك من المعارف (7) الضرورية، فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتى يظن أنها شبهة (8) في إسقاط الصدق والعدل الواجب وغير ذلك، وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك، ولكن تعلم القلوب بالضرورة أن هذه شبهة باطلة، ولهذا لا يقبلها أحد من أحد (9) عند التحقيق، ولا يحتج بها أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله، فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة، وهو المأمور به (10) وهو الذي ينبغي فعله، لم يحتج بالقدر، وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله (11) ليس عليه أن يفعله، أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأمورا به، لم يحتج بالقدر، بل إذا كان متبعا لهواه بغير علم احتج بالقدر.
**_________
(1) داحضة: ساقطة من (ع) .
(2) ن، م: على.
(3) ب، أ: وترك.
(4) منه: ساقطة من (ع) .
(5) هو: ساقطة من (ع) .
(6) ن: وإن كانت كثيرا تعرض لكثير من الناس. والعبارة محرفة في (م) .
(7) ب (فقط) : المعارض، وهو تحريف.
(8) ن، م: أن هذا شبهة.
(9) من أحد: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(10) به: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(11) ن: أن الذي لم يفعله ; م: أن الذي لا يفعله
============================== =====
ولهذا لما قال المشركون: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} [سورة الأنعام: 148] ، قال الله تعالى: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون - قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} [سورة الأنعام: 148، 149] ، فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة باطلة (1) .
فإن أحدهم لو ظلم الآخر في ماله، أو فجر بامرأته (2) أو قتل ولده، أو كان مصرا على الظلم فنهاه الناس عن ذلك، فقال لو شاء الله لم أفعل هذا، لم يقبلوا منه هذه الحجة، ولا هو يقبلها من غيره، وإنما يحتج بها المحتج دفعا للوم بلا وجه، فقال الله لهم: هل (3) عندكم من علم فتخرجوه لنا بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله وأنه مصلحة (4) ينبغي فعله، إن تتبعون إلا الظن، فإنه لا علم عندكم، بذلك إن تظنون ذلك إلا ظنا، وإن أنتم إلا تخرصون: تحرزون (5) وتفترون، فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم، ليس عمدتكم (6) في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدره، فإن مجرد المشيئة والقدر لا يكون (7) عمدة لأحد في الفعل، ولا حجة لأحد على أحد، ولا
**_________
(1) ب، أ: وباطلة.
(2) ب، أ: لو ظلم الآخر أو حرج في ماله أو فرج امرأته، وهو تحريف.
(3) ن: قل هل. . . .
(4) مصلحة: ساقطة من (ع) .
(5) تحرزون: ساقطة من (ب) ، (أ) . وحرز الشيء يحرزه (بضم زاي المضارع وكسرها) : قدره بالحدس.
(6) ب، أ: ليس في عمدتكم.
(7) ب، أ: فإن مجرد المشيئة والقدرة لا تكون، م، ن: فإن مجرد القدر والمشيئة لا يكون
============================== ========
عذرا لأحد (1) ، إذ الناس كلهم مشتركون في القدر (2) ، فلو كان هذا حجة وعمدة، لم يحصل فرق بين العادل والظالم، والصادق والكاذب، والعالم والجاهل، والبر والفاجر، ولم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال وما يفسدهم، وما ينفعهم وما يضرهم.
وهؤلاء المشركون المحتجون (3) بالقدر على ترك ما أرسل [الله] به رسله (4) من توحيده والإيمان به، لو (5) احتج به بعضهم على بعض في إسقاط (6) حقوقه ومخالفة أمره لم يقبله منه، بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضا، ويعادي بعضهم بعضا، [ويقاتل بعضهم بعضا] (7) على فعل ما يرونه (8) تركا لحقهم أو ظلما، فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى حق الله على عباده وطاعة أمره احتجوا بالقدر، فصاروا يحتجون بالقدر على ترك حق ربهم ومخالفة أمره بما لا يقبلونه ممن ترك حقهم (9) وخالف أمرهم.
وفي الصحيحين عن معاذ [بن جبل رضي الله عنه] (10) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (11) «يا معاذ " أتدري (12) ما حق الله على عباده؟ حقه على
**_________
(1) م (فقط) : ولا عمدة لأحد.
(2) ع: إذا كان الناس كلهم مشتركين في القدر.
(3) ن، م: إنما يحتجون.
(4) ن: ما يرسل به رسله ; م: ما أرسل الله رسله.
(5) ن، م: ولو.
(6) ب، أ: سقوط.
(7) ما بين المعقوفتين ساقط من (ن) ، (م) .
(8) ب: من يريد ; أ: ما يريد.
(9) م (فقط) : ممن ترك بعضهم.
(10) ما بين المعقوفتين ساقط من (ن) ، (م) .
(11) له: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(12) ب، أ: قال: يا معاذ بن جبل أتدري ; ن: قال له: أتدري
============================== ======
عباده (1) أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ [حقهم عليه] أن لا يعذبهم» " (2) .
فالاحتجاج بالقدر حال أهل الجاهلية الذين لا علم عندهم بما يفعلون ويتركون، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون. وهم إنما يحتجون به في ترك حق ربهم ومخالفة أمره، لا في ترك ما يرونه حقا لهم [ولا في مخالفة أمرهم] (3) .
ولهذا تجد [كثيرا من] (4) المحتجين به (5) والمستندين إليه من النساك والصوفية والفقراء، والعامة والجند والفقهاء وغيرهم، يفرون إليه عند اتباع الظن وما تهوى الأنفس، فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلا، بل يعتمدون عليه لعدم الهدى والعلم (6) .
**_________
(1) ن، م: حقه عليهم.
(2) م، ن: إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم. والحديث عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - في: البخاري 8/105 (كتاب الرقاق، باب من جاهد نفسه في طاعة الله) وأوله: بينما أنا رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل فقال: " يا معاذ " قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة ثم قال: " يا معاذ " قلت: لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة، ثم قال: " يا معاذ بن جبل " قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال: " هل تدري ما حق الله على عباده. . . . الحديث. وهو أيضا في: البخاري 9/114 (كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى) ; مسلم 1/58 - 59 (كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا) ; سنن الترمذي 4/135 - 136 (كتاب الإيمان، باب افتراق هذه الأمة) ; سنن ابن ماجه 2/1435 - 1436 (كتاب الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة) ; المسند (ط. الحلبي) 3/260 - 261 (عن أنس بن مالك) .
(3) ولا في مخالفة أمرهم: هذه العبارة ساقطة من (م) ، (ن) .
(4) كثيرا من: في (ع) فقط.
(5) به: ساقطة من (أ) ، (ب) .
(6) ن، م: العلم والهدى
============================== ========