ومما يدخل في هذا الباب: تلك الكتب التي لم تصنف على غير مثالٍ سابقٍ، وكذلك أوائل الكتب في بابها، فإن هذا دالٌ على تميز صاحب الكتاب.،،
ومنها:
1 - اختراع الخُراع للصفدي.
قال الشيخ علي الطنطاوي: وإذا رجعتم إلى مجلة «الرسالة»، إلى العدد الذي صدر يوم الإثنين 23 رجب 1354هـ (أي من أربع وخمسين سنة) وجدتم مقالة لي فيها وصف لكتاب عجيب ليس له في تراثنا الفكري مثيل، لا لأنه حوى من حقائق العلم أو من طرائف الفن ما لم يَحْوِه كتاب غيره، بل لأنه جاء فيه بشيء جديد من هذا الذي سمّيته «الترف العقلي»؛ فقد تعمد أن لا يأتي فيه إلا بما هو خطأ محرَّف عن أصله، معدول به عن جادة الصواب مُمال به عن سبيل الحق، فلا بيتَ يُنسَب إلى صاحبه، ولا كتابَ يُعْزى إلى مؤلفه، ولا مسألةَ تورَد على وجهها، ولا بلدةَ توضع في موضعها ... وقد أورد ذلك كله بحذق ومهارة وفرط لباقة، حتى إنك لتتلوه فتحسّ -لحلاوة ما تقرأ- أنك تقرأ حقاً وصدقاً، وما فيه من الحق والصدق شيء!،،
ولا يقدر على الخطأ الذي لا صواب فيه إلا من يقدر على الصواب الذي لا خطأ معه؛ يحتاج كلاهما إلى علم بمواقع الخطأ ووجوه الصواب. ثم إنه حلاّه بالنكات اللغوية والمسائل النحوية والطرائف الأدبية والآراء الفلسفية، وزيّنه بالحِكَم الباهرة والأمثال السائرة، واستشهد على كل مسألة من مسائله بأقوال العرب، ولكن ذلك كله محرَّف عن الصواب.،،
هذا الكتاب اسمه «اختراع الخُراع» (والخُراع في اللغة داء يصيب الدابة في ظهرها فتبرك فلا تستطيع القيام)، ومؤلفه هو صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، أحد أئمة القلم والأدب في عصره، ومؤلف الكتاب الكبير «الوافي بالوفيات»، الذي يُعَد من أجمع كتب التراجم.،،
أول هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، قال أبو خُرافة الهدّ القشيري سامحه الله تعالى: حضرت في بعض أوطان أوطاري وأوطار أبكاري مع جماعة ... فابتدر أحد ظرفائهم فأنشدنا بيتين هما:،،
لو كنت بَكْتوت امرأة جارية الفَضْل ... وكان أكل الشعير في البرد مَلْبَسكو،،
لا بدّ من الطلوع إلى بئرك في ... الليل وظلام النهار متضحٍ اً (1)،،
قال: فأخذ الجماعة في العجب مما اتفق فيهما من اضطراب النظم، واختلال القافية، وعدم الإعراب، ومخالفة أوضاع اللغة، وتناقض المعنى وفساده، والتخبيط في التاريخ.،،ثم مضى في الشرح فقال: قال الشارح عفا الله عنه: نبدأ أولاً بما في البيتين من اللغة، وثانياً بما فيهما من الإعراب، وثالثاً بما فيهما من التاريخ وتقدير المعنى، ورابعاً بما فيهما من البديع، وخامساً في الكلام على ما يتعلق بعَروضهما، وسادساً بما يتعلق بعلم القافية.،،
القول في اللغة:،،
قوله «بَكْتوت»: هو اسم علم مركب من اللغة العربية والتركية، بَكْ بالعربي وتوت بالتركي، ومعناهما أمير توت. ومن قال إن معنى ذلك بالعربية أمير النيروز فلا يتأتى له ذلك، إلا إن كان النيروز في شهر توت، على ما ذكره السخاوي في «سمع الكيان».،،
قوله «امرأة»: المرأة مشتقة من المِرآة، وهي التي يرى الإنسان فيها وجهه إذا كانت في جيبه.،،
قوله «جارية»: فيها قولان، منهم من قال: هي السّاقية لأنها تجري من أسفل إلى فوق، ومنهم من قال هي في مقابلة المملوك.،،
قوله «الفضل»: هو كل شيء ناقص، ومنه سُمّي عبد الرحيم كاتب مروان بالفاضل لأنه كان قصيراً. وفي أمثال بُزُرْجمِهْر: «لأمرٍ ما جدع قصيرٌ أنفَه».،،
قوله «كان»: معلوم أنها للاستقبال، وسيأتي الكلام عليها في الإعراب.،،
قوله «الشعير»: معروف أنه من فواكه الآدميين، ولا يوجد إلا في جزرات الهند بالمغرب في الليل دون النهار صيفاً.
قوله «في الليل»: الليل معروف، وهو من الزوال إلى أذان العصر في العُرف، وفي اللغة من طلوع الشمس إلى غروبها ... إلخ.،،
القول في الإعراب:،،
«لو»: حرف يجرّ الاسم ويكسر الخبر على ما ذكر الرمّاني في «شرح طبيعي الشفا» والكسائي في «رموز الكنوز». هذا مذهب الكوفيين، والصحيح أنها من الأفعال الناقصة التي لا عمل لها، وإنما قلنا إنها فعل ناقص لأنها كانت في الأصل «لوى»، فنقصت حرفاً، وإنما قلنا إنها لا عمل لها لأنها متى نقصت ضعفت عن العمل، هذا الذي ذهب إليه إقليدس وأرشميدس في مخارج الحروف وبرهنّاه مستشهدين على ذلك بقول الشمّاخ في رائيّته ... إلخ.،،
«أكل»: فعل مضارع، لأن في أوله أحد الزوائد الخمسة وهو الهمزة، إنما قلنا بزيادتها لأنه لا يصحّ تجريدها، تقول: كل شيء.،،
«الشعير»: الألف واللام أصلية، وهي نكرة إن قلنا بأنها أداة التعريف، ومعرفة إذا قلنا بأصليّتها، ذكر ذلك المبرَّد في كتاب ديسقوريدوس في باب النعت، وهو ها هنا مرفوع على الحال.،،
إلى أن قال: «في»: اسم، لأنه يَحسن دخول حرف الجر عليه، تقول: انتقل من الشمس إلى فيء الظل. ودخول الألف واللام، تقول: هذه الدراهم مبلغ ألفي درهم. والإضافة، تقول: أعجبني حسن فيك. والتنوين أيضاً، تقول: هذا المال فيءٌ للمسلمين ... وعلى الجملة فما للنحاة في الأسماء كلمة تدخلها علامات الاسم كلها إلاّ «في»، وهي ممنوعة من الصرف لأنه اجتمع فيها من العلل أكثر مما اجتمع في أذربيجان ... إلخ.،،
* * *،،
والقطعة الموجودة من الكتاب كلها على هذا النمط، فيها طرافة وفيها غرابة وفيها مهارة، أكتفي بما نقلته عنها ورويته منها لأنه شيء لا يهمّ إلا الخاصة من القراء، وأعتذر إلى غيرهم من إيرادها والتطويل فيها، وأرجو أن يهتمّ أحد الطلاب الذين يُعِدّون لشهادة العالمية (الدكتوراة) بهذا الكتاب ويفتشوا عنه ويستقرئوا هذا النوع من الأدب، فهو موضوع جيد لرسالة مبتكَرة.،،
وجاء في هامش الكتاب لحفيد الشيخ الطنطاوي: لعل الله كشف للصفدي طرفاً من مستقبل الأدب، فجعله يقرأ ما يُنشَر في أيامنا من الكلام على أنه شعر، والذي لا يختلف عن هذين البيتين اللذين أوردهما! هذا الشعر الذي تعب أخونا الأستاذ الفاضل أكرم زعيتر في وضع الأسماء له. وكثرة الأسماء ليست دائماً دليلاً على شرف المسمَّى، فالقط له أكثر من خمسين اسماً، ثم لم يكن إلا قطاً، ما صار نمراً ولا أسداً، ثم قال: فكيف لو قرؤوا شعر الحداثة الذي تنشره الصحف على أنه هو الشعر لا ما رواه الرواة وأودعوه الكتب وملؤوا به الدواوين؟ ، ثم قال: حين نشر الشيخ رحمه الله هذه المقالة في صحيفة «الشرق الأوسط» سنة 1987 اقتصر منها على هذا الجزء اليسير، وفي الأصل الذي نشره في مجلة «الرسالة» سنة 1935 تطويل وزيادة، وفيها أيضاً تعليقات وضّح فيها موطن الخطأ في كل لفظة وردّها إلى الصواب ليفهم القارئ وجه الطرفة فيها. وقد أورد طرفاً من ذلك في هذه المقالة، لكنني جرّدتها منه هنا لأنها ستأتي كاملة مع تعليقاته عليها في موضع آخر من هذا الكتاب بإذن الله، فلم أجد حاجة إلى التكرار (مجاهد).
انظر: فصول في الثقافة والأدب للشيخ علي الطنطاوي، من ص 113، إلى ص 118.
2 - أصول البزدوي.
قال علاء الدين البخاري الحنفي: ثُمَّ إنَّ كِتَابَ أُصُولِ الْفِقْهِ الْمَنْسُوبَ إلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْمُعَظَّمِ، وَالْحَبْرِ الْهُمَامِ الْمُكَرَّمِ، الْعَالِمِ الْعَامِلِ الرَّبَّانِيِّ، مُؤَيِّدِ الْمَذْهَبِ النُّعْمَانِيِّ ، قُدْوَةِ الْمُحَقِّقِينَ أُسْوَةِ الْمُدَقِّقِينَ صَاحِبِ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ وَالْكَرَامَاتِ السَّنِيَّةِ مَفْخَرِ الْأَنَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَزْدَوِيِّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَأَسْكَنَهُ أَعْلَى مَنَازِلِ الْجِنَانِ، امْتَازَ مِنْ بَيْنِ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي هَذَا الْفَنِّ شَرَفًا وَسُمُوًّا، وَحَلَّ مَحَلَّهُ مَقَامَ الثُّرَيَّا مَجْدًا وَعُلُوًّا، ضَمَّنَ فِيهِ أُصُولَ الشَّرْعِ وَأَحْكَامَهُ، وَأَدْرَجَ فِيهِ مَا بِهِ نِظَامُ الْفِقْهِ وَقِوَامُهُ، وَهُوَ كِتَابٌ عَجِيبُ الصَّنْعَةِ رَائِعُ التَّرْتِيبِ، صَحِيحُ الْأُسْلُوبِ مَلِيحُ التَّرْكِيبِ، لَيْسَ فِي جَوْدَةِ تَرْكِيبِهِ وَحُسْنِ تَرْتِيبِهِ مِرْيَةٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ عَبَّادَانَ قَرْيَةٌ، لَكِنَّهُ صَعْبُ الْمَرَامِ، أَبِي الزِّمَامِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَةِ لُطْفِهِ وَغَرَائِبِهِ، وَلَا طَرِيقَ إلَى الْإِحَاطَةِ بِطُرَفِهِ وَعَجَائِبِهِ، إلَّا لِمَنْ أَقْبَلَ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى تَحْقِيقِهِ وَتَحْصِيلِهِ، وَشَدَّ حَيَازِيمَهُ لِلْإِحَاطَةِ لِجُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ، بَعْدَ أَنْ رُزِقَ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ ذِهْنًا جَلِيًّا، وَذَرْعًا مَنْ هُوَ أَجَسُّ أَضَالِيلِ الْمُنَى خَلِيًّا، وَقَدْ تَبَحَّرَ مَعَ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ وَالْفُرُوعِ، وَأَحَاطَ بِمَا جَاءَ فِيهَا مِنْ الْمَنْقُولِ وَالْمَسْمُوعِ.