ومن الأساليب المستعملة في المناظرات أيضا أن يقول لك خصمك : ( ما الضابط فيما تقول ) ؟
أو يقول لك : ( بين لي الحد الفاصل بين هذا وذا )
أو يقول لك : ( كيف نعرف كذا من كذا ) ؟
وهذه الأسئلة قد تكون صحيحة وفي صلب الموضوع ، ولكنها في كثير من الأحيان تكون لمجرد الإلزام ولا يستطيع هو نفسه أن يجيب عنها في معظم كلامه .
والأصل في جميع هذه الأمور أن الحد الفاصل لا يلزم معرفته في كل شيء ، بل قد يكون هذا الحد الفاصل من أصعب الأمور إن لم يكن مستحيل التحديد .
والمقصود أن العجز عن معرفة هذا التحديد لا يلزم منه بطلان التفريق دائما، بل يكفي في التفريق وجود بعض الصور في كل من الطرفين ، ولا يقدح بعد ذلك أن توجد بعض الصور المشتبهة .
وهذه قاعدة مهمة جدا نص عليها عدد من أهل العلم منهم الشاطبي رحمه الله في الموافقات والقرافي في الفروق .
وأصل هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات )، فنص عليه الصلاة والسلام على وجود أمور مشتبهة بين الحلال والحرام، ومع أن كثيرا من الناس لا يعلم هذه الأمور المشتبهة، إلا أن كل الناس ملزمون بالتزام الحلال واجتناب الحرام، فلو كان الالتزام بالحلال واجتناب الحرام متوقفا على معرفة الضابط العام في التفريق بينهما، لكان الحديث متناقضا، وحاشاه صلى الله عليه وسلم.
فمثلا قد يأتي بعض منكري السنة فيقولون: حددوا لنا العدد الذي تعدونه من المتواتر، أهو خمسون أهو أربعون ... إلخ؟
فالجواب أن يقال: من المعلوم أن بعض الأحاديث متواترة لا يقدح فيها إلا مجنون، ومن المعلوم كذلك أن بعض الأحاديث تفرد بها واحد، فثبت بهذا وجود الطرفين في الجملة، ولا يقدح بعد ذلك أن تختلف الأنظار في إلحاق بعض الأحاديث بأحد الطرفين.
وكذلك الإجماع يأتي من يقدح فيه فيقول : حددوا لنا كيف سنعرف المجتهد من غير المجتهد؟ وكيف سنحيط علما بجميع العلماء؟ وكيف سنعرف أنهم قد اتفقوا؟ وكيف سينقل إلينا هذا الاتفاق؟ إلى آخر هذه الاعتراضات المشهورة .
والجواب أن يقال: لا شك أن هناك مسائل متفقا عليها، ولا شك أن هناك مسائل مختلفا فيها، وبهذا يثبت الفرق في الجملة، ولا يقدح بعد ذلك في التفريق أن تختلف الأنظار في ثبوت الإجماع في مسائل بعينها، فالاختلاف في الفرع لا يصح جعله ذريعة للقدح في الأصل، كما لا يصح أن يجعل الاختلاف في تصحيح بعض الأحاديث ذريعة في رد السنة كلها كما يفعل بعض جهلة المعاصرين !
وكما لا يقدح الاختلاف في فهم بعض آيات القرآن في رد الاستدلال بالقرآن جملة !
وكذلك يأتي من لا يعرف منهج أهل اللغة في قولهم : قليل ، كثير، شاذ ، نادر ... إلخ فيقول: حددوا لي ضابط القليل وضابط الكثير! حددوا لي العدد الذي يعرف به الصحيح من الضعيف، والمعروف من الشاذ !!
فيقال لهؤلاء : لا شك أن في اللغة أشياء صحيحة متفقا عليها، وأشياء غير صحيحة بالاتفاق، فثبت بهذا وجود الفرق في الجملة، ولا يقدح بعد ذلك أن تختلف الأنظار في إلحاق بعض أفراد الألفاظ اللغوية بأحد الطرفين ، فالمراد الآن إثبات وجود الفرق، فلا يصح الاستناد إلى هذا الاختلاف في وجهات النظر في القدح في أصل التقسيم نفسه .
وينسحب هذا الكلام في كثير من المسائل والعلوم ، ومن تأمله وجده أصلا نافعا إن شاء الله .
والله تعالى أعلى وأعلم ، وبه الهداية ومنه التوفيق .