بسم الله الرّحمن الرّحيم
المقامة الحديثيّة
(الجزء الأول)
هذه المقامةُ وجدتها صدفةً في أوراقي، فأحببتُ أنْ أبيّضَهَا على صفحات
الألوكة لتُحْفَظ ولا تضيع.. فبيّضتُ جزءا منها، وعجّلتُ بنشره، ليستحثني ذلك على
تبييض ما تبقّى منها في مسودتها.. وفقني الله:
- حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الإِلَهِ الْمَسْعُودِيُّ ، قَالَ:
أَدْرَكَتْنِي حِرْفَةُ التِّجَارَةْ *وَأَنَا لَمْ أَشْبَعْ مِنْ لَعِبِ الحِْجَارَةْ (1)*وَأَلْهَانِي الصَّفْقُ
بِالْأَسْوَاقْ * عَنْ التّصْفِيقِ لِأََشْعَارِ الأَشْوَاقْ * فلمّا شَبّ عَمْرِي عَنْ الأَطْوَاقْ *
وَقَطَّعْتُ تَمَائِمَ الأَعْنَاقْ * صَارَ نَسَبِي فِي التُّجَّـارِ صَحِيحاً*وَغَدَا اسْمِي بَيْنَ
أَكَابِرِهِمْ مُعَدَّلاً غَيْرَ مَجْرُوحاً * فَرَاجَتْ تِجَارَتِي،وَرَ بَا مَالِيْ *وَفَتَرَتْ لِي الدُّنْيَا
عَنْ ثَغْرِهَا الْحَسَنِ الْمُتَلَالِي *
ثمّ سَقَانِي الدَّهْرُ بِسَمِّهِ * ونَشَبَ فِيَّ أظْفَارُهْ * وَرَمَانِي الزَّمَانُ بِـسَهْمِهِ وَشَبَّ
فِيَّ نَارُهْ * فَتَوَاتَرَتْ عَليَّ الْأَزَمَاتُ، وَالْمِحَنْ * وَ تَتَابَعَتْ عَلَيَّ الشَّدَائِدُ،وَ الإِحَنْ
* فَـانْقَطَعَتْ أَسَبَابِي، وَاضْطَرَبَتْ أَحْوَالِيْ * وَتَرَكَـنِي أَحْبَابِي بَعْدَ أَنْ ضَعُفَ
مَالِي *
فصِرْتُ مُهْمَلاً ، مَقْطُوعاً * مُنْقَطِعَ الْوَسَائِلْ * بَعْدَ أَنْ كُنْتُ عَزِيزاً ، مَرْفوعاً *
محفوظَ القَدْرِ، وَ"الشَّمَائِلْ"*وَصَارَ رِزْقِي مَوْقُوفاً عَلَى مَا يَجُودُ بِهِ أَهْلُ "الْكَرْمِ
وَالسَّخَاءْ *مُعَلَّقاً بِمَا يَصْطَنِعُهُ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ، وَالْعَطَاءْ* وَلَوْلاَ مَـاءُ الْحَيَاءِ
الَّذِي عَلاَ وَجْهِيْ* لَرَأْيْتَنِي فِي الْمَسَاجِـدِ "مُسْنِداً" ظَهْرِيْ * أَوْ فِي الطُّرُقَاتِ
نَازِلاً، مَادّاً يَدِيْ * أَتَكَفَّفُ مَا فِي أَيْدِي الْمَارَّةْ * وَأُكَفْكِفُ دُمُـوعَ الْمَرَارَةْ *
فَلَمَّا ضَاقَتْ بِيَ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ * وَلَمْ تُظِلَّنِيْ السَّمَاءُ بِمَا وَسِعَتْ *لَزِمْتُ
بَيْتِـي، وَآثَرْتُ "الْعُزَلَةَ، والانْفِرَادْ"* وَأَرْسَلْتُ دَمْعِـي ، وَ"تَعَلَّلْتُ" بِأَحْوَالِ
"الْغُرَبَاءِ"، وَ"الزُّهَادْ" * حَتَّى صِرْتُ فَـرْداً، غَرِيباً، مِنَ الْـوِحْدَانْ* مَجْهُولَ
الحَالِ، وَالْعَيْنِ* لاَ يَعْرِفُنِي الْأَصْحَابُ وَ"الْأَقْرَانْ" * فَكَأَنَّنِي وَحْشٌ مِنْ جِنْسِ
الْوَحْشِيَّاتْ * أَوْ جَانٌ مِنْ جِنِيِّ الْغَيْلاَنِيَّ اتْ *
- قَالَ الرَّاوِيّ:
وَكُنْتُ كُـلَّمَا أَرْخَىَ عَليَّ اللَّيْلُ سُدُولَهْ * وَخَيَّمَ عَلَى بَيْتِي صَمْتُهُ، وَسُكُونُهْ *
أَخَالُ نُجُومَهُ نُصُولاً يُسَدِّدُهَا إِلَى نَحْرِيْ * وَظَـلاَمَهُ سِيَاطاً يَجْلِدُ بِهَا ظَهْرِيْ *
وَبَيْنَا أَنَا فِي لَيْلَةٍ مِنْ اللَّيَالِي الْطِّوَالْ * قَـدْ عَضَلَـنِي فِيهَا النَّوْمُ ،وَشَـذَّ عَنْ
الْوِصَـالْ * كَأَنَّهَا لِطُولِ "أَطْرَافِـ"ـهَا ؛ "تَسَلْسَلَتْ" بِلَيْلِ امْـرُئِ الْقَيْسْ *
أَوْ شُدَّتْ نُجُومُهاَ بسِلْسِلَةٍ إِلىَ أَبِي قُبَيْسْ * وَأَنَا "مُدْرَجٌ" فِي لحِـاَفِ "الحُزْنِ
وَالْهَمّ "*"مُدَبَّجٌ " بِأَثْوَابِ "الذُّلِّ" وَالْغَمّ * .. فَبَيَنَمَا أَنَا "مُتَّصِلُ" الفِكْرَةِ فِي
شَأَنِي، وَشَأْنِ "الْعِيَالْ" * مُهْتَّمٌ غَايَةً بِـطُرُقِ"الْمَعِيشَةِ" ، وَ"إِصْلاَحِ الْمَالْ"..*
= سَمِعْتُ صَوْتاً خَافِتاً، يُنْشِدُ مُتَرَنِّماً * وقائلُه لا يُرَى "مَسْتُوراً "، "مُبْهَماً"*
__________
(1) لعبة يلعبها الصّغار في بلادنا ، تُسمى "القريدة"
تُتبع بالجزء الثاني