رَشَح النسبيّة الذاتية على كُتّاب الصحافة
إذا كان الإنسان معياراً ومقياساً لحقائق الأشياء من حيث الوجود والعدم؛ فتيك سفسطة ظهرت إثر الصراع الفكري الإغريقي في مناحيه الفلسفية.
وتلكم الشكيّة اليونانية تهدف نقد أصول المعرفة البشرية؛ بحيث لا يبقى للمعرفة أساس تستند إليه.
وتلك الثورة الفكرية الشكيّة لم تقتصر على نوع فريد من أنواع المعارف، بل شملت شتّى أنواعها، ومختلف مناهجها.
ومفهوم تلك النظرة ينحصر في أنّ إدراك أيّ حقيقة كانت؛ إنما هو إدراك نسبي يختلف بحسب نظر الإنسان لذلك المُدرك.
وقد كانت هذه النزعة من داخل التطور الروحي عند اليونان، بسبب النزعات السياسية، التي جعلت الفضائل تعود إلى الدم الأسري؛ فكان هذا العامل في العصر القديم الأساس في إيجاد الفضائل، أما في القرن الخامس فخرجت هذه الحياة الأسرية إلي حياة بلا جذور، بمعنى: ليس للمواطن جذور أصليّة ينتمي إليها تؤكد كيانه وتميّزه، فاستقل بذاته عن غيره؛ فأصبحت ذاته معيارا لحقائق الأشياء([1]).
وعليه؛ فإنّ منهجهم =منهج هلامي هيولي مركزه الإنسان ومجاله هواه.
هذه النسبية بوصفها السابق، وجذورها اليونانية = أفرزت رَشَحاً كثيفاً تتفيؤ ظلاله الثقافة الغربية الأوربية في نهضتها الحديثة؛ وتتمركز حوله في منطلقاتها الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وعند الحديث عن صلة هذه النسبية بالفكر الليبرالي؛ فإنّها صلة الجزئي بالكلي عبر بوابة الليبرالية الواسعة = الحرية.
فنسبيّة الحقيقة= منطلق من منطلقات الحرية الليبرالية.
وذاك الارتياب الليبرالي في الفكر الغربي ورّث بدوره ضبابية معرفية على كُتّاب الصحافة العربية، سلك المتتلمذون عليه مسلك التلميذ المطيع، والمقلد الأعمى؛ فبه، وله = تاهو في مفاوز الليبرلة الفكرية الحديثة.
فأصبح التلاميذ يمارسون دور المنفق سلعته بدعوى التوسع في الخلاف، والتعدد في الآراء، حتى لو كانت القضية من محكمات الشريعة المعلومة من الدين بالضروره، فذاك عندهم لون من ألوان الإبداع الفكري والتقدم الحضاري، وإنّ كل شيء بإمكانه أن يخلق واقعه، هكذا زعموا.
وفي معنى تعدد الحقائق الكليّة بتعدد زوايا النظر إليها، يقول يوسف أبا الخيل: (فالفرد إزاءها " الحقيقة " لا يملك فيما يملكه من معارف ومعتقدات ومشارب وآراء واتجاهات فكرية إلا جزءاً من هذه الحقيقة الكلية التي تتعدد جزئياتها ومفرداتها بتعدد زوايا النظر للموضوع المراد بحثه، هذا الجزء من الحقيقة الذي يملكه الفرد قد يماثل أو يقل أو يزيد عما يملكه الآخر المختلف، ولكنه في النهاية يظل جزءاً يزيده ويثريه ولا يلغيه)([2]).
وبتحليل كلامه يظهر لك جليّاً أنّه يبحث حقيقة كليّة ويجعل معيار حقيقتها المعيار الإنساني؛ وعليه= تتعدد الحقائق بتعدد الناظرين إليها، فما كان في ذهن فلان من الناس؛ فهو حقيقة مطابقة لواقع الحقيقة المنظور إليها، وهو حقيقة كذلك في نفس الأمر عند علان من الناس، ومطابق للواقع الموضوعي لتلك الحقيقة نفسها. والمأخذ الذي يؤخذ على الكاتب: معيارية الفرد في الحكم على الحقيقة.
إنّ مجرد تكييف مقولة أصحاب النسبيّة الذاتية، والتي يتعدد معها الحق في نفس الأمر – بحسبهم – فيصبح الحق الموضوعي في ذاته حقائق متعدده في نفس الأمر= يجعل اللبيب يستغرب تثقيف الناس بتلك المقالة، وذاك التناقض، والذي يأتي على جذور الإيمان وأصوله فيزعزع يقينيتها وثباتها، ويفرّغ القلب مما وقر فيه من المعتقد الحق، ويبدّله بالشكيّة السفسطية.
وإذا أردت أن تتصور جناية أصحاب النسبيّة الذاتية؛ فتأمل رد ابن حزم على طائفة العنديّة منهم، إذ يقول:
(ويقال - وبالله التوفيق - لمن قال هي حقٌ عند من هي عنده حق، وهي باطلٌ عند من هي عنده باطل : إنّ الشيء لا يكون باعتقاد من اعتقد أنّه حق، كما أنّه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنّه باطل، وإنّما يكون الشيء حقاً بكونه موجوداً ثابتاً، سواء اعتُقد أنه حق، أو اعتقد أنه باطل.
ولو كان غير هذا لكان معدوماً موجوداً في حال واحد في ذاته، وهذا عين المحال.
وإذا أقروا بأن الأشياء حق عند من هي عنده حق، فمن جملة تلك الأشياء التي تُعتَقد أنّها حق عند من يعتقد أن الأشياء حق =بطلانُ قولِ من قال إن الحقائق باطلة، وهم قد أقروا أنّ الأشياء حق عند من هي عنده حق.
وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء ، فقد أقروا بأنّ بطلان قولهم حق !! ، مع أنّ هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل البتة، إذ حسُّه يشهد بخلافها.
وإنما يمكن أن يلجأ إليها بعض المتنطِّعين على سبيل الشغب)([3]).
وليست النسبيّة آنفة الذكر هي هي نسبية الخفاء والظهور بالنسبة للمجتهد التى يقول بها ابن تيمية وغيره من المحققين؛ بل هي نوع مغاير.
فنظرة المحققين لنسبية الحقيقة فرقت بين أمرين اثنين قد بينهما شيخ الإسلام رحمه الله تعالى على النحو التالي:
الأول منهما: موقف المناقض لمذهب السفسطائيين القائلين: بإنّ حقائق الأشياء تابعة لعقائد الناس، معللين ذلك بإنّ الأشياء ليس لها حقيقة واحدة في نفسها، حيث بيّن أنّ هذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة([4]).
الثاني: القول بالنسبيّة في الوصف الإضافي لا الذاتي، وهذا يتضح من خلال النماذج التالية:
في معرض نقده لتقديم المعقول على المنقول يوضح أنّ العلم بالشيء عن طريق العقل من الأمور النسبية، لإنّ العقل في نفسه نسبي، ولإنّ من الأشياء ما ليس له صفة لازمة حتى يعلم بالعقل، بل ذلك يعود إلى أمرين([5]):اختلاف الأشخاص، واختلاف الأحوال.
وفي مسألة الاستدلال بشيء ظاهر على شيء خفي، كالحدود والتعريفات والأدلة، فالظهور والخفاء من الأمور النسبية، وهو يعود أيضاً إلى اختلاف الأشخاص والأحوال لا من حيث المعيارية؛ بل من حيث التفاوت في الإدراك والفهم([6]).
وفي حديثه عمّن بنى الأمور على مقدمات، ظنّوا فيها: إنّها ضرورية أو نظرية، أو قطعية أو ظنية، يقول: إنّ كون العلم ضرورياً ونظرياً، والاعتقاد قطعياً وظنياً، فهذا من الأمور النسبية بحسب الأشخاص والأحوال. أما ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حق لا يقبل النقيض([7]). بمعنى: أنّه واحد في نفس الأمر لا تعدد فيه.
وعند الحديث عن الوصية، ومعنى القليل والكثير، فالقليل والكثير من الأمور النسبية التي تتنوع بتنوع النّاس، فيحمل كلام كل إنسان من حيث القلة والكثرة على ما هو مناسب له في ذلك المقام([8]).
وفي التشابه الخاص، بمعنى: مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، فإن القدر المشترك من التشابه بين شيئين من الأمور النسبية الإضافية، كنعيم الجنة، والصفات، ونحو ذلك([9]).
وفي الكمال والنقص = من الأمور النسبية كذلك؛ فقد تكون الصفة كمالاً لذات، ونقصاً لآخرى، كالأكل والشرب يكون كمالاً للمخلوق، نقصاً للخالق، والتعاظم والتكبّر، يكون كمالاً للخالق، ونقصاً للمخلوق؛ حيث أنّ الكمال الذي يستحقه الخالق هو الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، أما المخلوق فكماله نسبي يستلزم النقص، وهذه النسبية تقع بين المخلوقين أنفسهم بحسب الحال، فالأكل للجائع = كمال، وللشبعان = نقص([10]).
وفي التصورات ما يكون بديهياً، وهذا من الأمور النسبية([11]).
وفي سد باب المعرفة، ما هو نسبي([12]).
وفي التغريب والتشريق، ما هو نسبي، فكل مكان له غرب وله شرق([13]).
والحاصل، أنّ ابن تيمية يفرق بين الوصف الذاتي للأشياء والوصف الإضافي، فجميع المقدمات في أمثال القرآن صدق وحق لا لبس فيها لاتصافها بالذاتية في نفس الأمر، أما الوصف الإضافي لتلك المقدمات في كونها معلومة عند زيد، أو مظنونة، أو مسلّمة، فهذا أمر لا ينضبط، فقد تكون يقينيةً عند شخص قد علمها، وهي مجهولةً عند غيره فضلاً عن أن تكون مظنونةً، فهي بحسب شعور الإنسان([14]). لا بحسب معياريته.
إذاً، ما الفرق بين النسبيتّين ؟.
الفرق: أنّ القائل بالنسبيّة الذاتية يقول بتعدد الحقيقة في نفس الأمر؛ لكونه جعل الإنسان نفسه معياراً للحقيقة، في حين، أنّ القائل بنسبيّة الفهم لا يقول بتعدد الحقيقة في نفس الأمر، بل هي واحدة لا تتعدد؛ وإن حصل نوع تفاوت بحسب الشخص والحال؛ وفي بعض القضايا التي يسوغ فيها ذلك الاختلاف النسبي، كغير قطعي الدلالة؛ وعلة كونها سائغة ؛ أنّه لم يجعل الإنسان نفسه معياراً لقياس الحقيقة، بل المقياس في ذلك: الوحي المعصوم، (الَّذِي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
([1]) انظر: موسوعة الفلسفة، عبد الرحمن بدوي،1/586 ما بعدها.
([2]) انظر: سنة أولى حوار، جريدة الرياض، الاثنين 3 محرم 1425 هـ - 23 فبراير 2004م، العدد 13030.
([3]) انظر: الفصل: 1/14-15.
([4]) انظر: مجموع الفتاوى، 19/144.
([5]) انظر: درء التعارض، 1/144.
([6]) انظر: درء التعارض، 3/303، 330، وانظر: مجموع الفتاوى، 5/ 108.
([7]) انظر: درء التعارض، 3/304.
([8]) انظر: منهاج السنة،4/84.
([9]) انظر: مجموع الفتاوى، 3/62.
([10]) انظر: مجموع الفتاوى، 6/70، 137.
([11]) انظر: مجموع الفتاوى، 9/87.
([12]) انظر: مجموع الفتاوى، 11/656.
([13]) انظر: مجموع الفتاوى ، 27/42.
([14]) انظر: مجموع الفتاوى، 2/47، وانظر: المصدر نفسه، 17/380.