خطبة منبرية بمناسبة الهجرة النبوية.3
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
موضوع الخطبة: إذ هما في الغار.
02 صفر الخير 1432هـ 06/01/2011م
الحمد لله الذي نشر الحق وأبطل الباطل بهجرة خير البرايا، نحمده تعالى ونشكره ونسأله الثبات على السنة والسلامةَ من المحن والرزايا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والخفايا، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله كريم الخصال وشريف السجايا، هاجر من مكة إلى المدينة فرارا بدينه من الفتن والبلايا، عليه من الله أفضل الصلوات وأزكى التسليمات وأشرف التحايا، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم تكشف فيه النفوس عما فيها من الأسرار والخبايا.
أما بعد فيقول الله تعالى:﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا..... ﴾.
أيها الإخوة المؤمنون! قد وقفنا بكم في الجمعة الماضية عند قوله تعالى:﴿ثاني اثنين﴾ وتعرفنا على أعظم شخصية في التاريخ بعد رسول الله r.
واليوم سنقف بكم عند قوله تعالى:﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾. لنتعرف على الخطة النبوية، المعصومة بالعناية الربانية، والتي وضعها النبي r مع أبي بكر الصديق لإنجاح الهجرة.
وقد وقفنا بكم عندالأحداث التي سبقت هجرته r من مكة إلى المدينة، وقدمنا لكم أن كفار قريش قد اتفقوا على قتله r لما علموا بإسلام أهل المدينة، فطوقوا بيته منتظرين خروجه ليضربوه ضربة رجل واحد، فينتهي أمر الإسلام إلى الأبد،﴿ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين﴾ فخرج r في عناية ربانية وفي حجاب من الله تعالى، بعد أن قرأ أوائل سورة يس، فأعمى الله أبصارهم كما عميت بالكفر بصائرهم.
فتعالوا بنا اليوم نكشف الستار عن هذه الخطة النبوية، المعصومة بالعناية الربانية، نصاحب النبي r في هجرته من مكة إلى الغار.
أيها الإخوة المؤمنون! لقد خرج النبي r ومعه أبو بكر متخذا الاتجاه المعاكس لطريق المدينة، وذلك للتمويه على الكفار لأنه يعلم أن أنظارهم ستتجه للبحث عنه في الطرق المؤدية للمدينة، فقصد r غار ثور، وغارُ ثور موجود في قمة جبل ثور، وهو جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذا أحجار كثيرة، فصعد إليه النبي r ماشيا على أطراف قدميه كي يخفي أثره حتى حفيت قدماه، فحمله أبو بكر على ظهره حتى وصل به فم الغار. وقبل أن يتفضل rبالدخول إلى الغار سبق إليه أبو بكر فنظفه وكنسه، وسد ما به من ثقب الحشرات السامة بما قطع من لباسه، فبقيت له ثقبتان فسدهما برجليه، فدخل الرسولr وقد بلغ به التعب مبلغا عظيما، فوضع رأسه على فخد أبي بكر فنام، إذا بثعبان يلدغ أبا بكر في رجله فلم يتحرك مخافة أن يستيقظ رسول الله r حتى بكى من ألم اللدغة، فسقطت دمعة على وجهه r فاستيقظ، فقال: مالك يا أبا بكر؟ فقال لدغتني أفعى. فتفل رسول الله r برجله فذهب ما به من الألم كأن لم يكن. أي إيمان هذا الذي منع أبا بكر من التحرك وقد لدغته أفعى مخافة أن يستيقظ رسول الله r؟ فيدخل النبي r الغار؛ وتتكرر حادثة الغار في حياة المصطفى r فمن غار حراء بدأت البعثة النبوية، حيث كان النبي r يتعبد قبل البعثة، فنزلت أول آية من القرآن الكريم:﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾ ومن غار ثور بدأت الهجرة النبوية، وبدأ أول يوم في التاريخ الهجري.
وعندما كان الرسولr في الغار أعلن كفار مكة حالة الطوارئ، ورصدوا الجوائز المغرية "مائة ناقة" لمن يأتي بالرسول r حيا أو ميتا، و"مائة ناقة" لمن يأتي بأبي بكر حيا أو ميتا.
وفي غار ثور يبرز دور الشباب في إنجاح هجرة الرسولr .
فمن هؤلاء الشباب علي بن أبي طالب وقد قدمنا لكم أنه قام بعملية التشويش ضد أجهزة الرصد عند الكفار، حينما نام في فراش النبي r فظنوه محمدا r .
ومنهم عبد الله بن أبي بكر ذلكم الشاب الدؤوب، يقوم بدور المخابرات لصالح الرسول r يتحسس أخبار قريش ويراقب ما يكيدون ضد الإسلام، ثم ينقل كل ذلك ليلا إلى الرسول r في الغار، ليبني تحركاته على مقتضاها.
ومن هؤلاء الشباب الذين ساهموا في الهجرة عامر بن فهيرة، أتدرون من هو عامر بن فهيرة؟ وهل سمعتم بهذا الاسم قط؟ لو كان من الفنانين أو المطربين أو اللاعبين أو الممثلين، لفرضته على أسماعنا وأبصارنا وسائل الإعلام فرضا، ولكن عامر بن فهيرة t شاب كان يرعى الغنم لأبي بكر، فلعب دورا كبيرا في هجرة الرسول r حيث يقوم بعملية مزدوجة: إنه يسوق غنمه ليمحو بها أثر عبد الله بن أبي بكر في ذهابه وإيابه من الغار وإليه، حتى لا يفطُن به قريش فيكتشفون أمره، ثم يرعاها بمقربة الغار ليزود الرسولَ r بألبانها. ولم يقتصر الأمر على جانب الذكور فحسب بل قد لعبت المرأة في هجرة النبي r دورا أساسيا، فلنستمع لعائشة رضي الله عنها تحكي عن العنصر النسوي الذي تولى عملية التجهيز في هجرة النبي rفتقول:«فَجَهَّزْنَاهُم َا أَحَثَّ الْجَهَازِ –أي الرسول r وأبا بكر- فَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ رضي الله عنها».
يا من يدعو اليوم لتحرير المرأة! فها هي المرأة تساهم بجانب الرجل في هجرة النبيr فقد حررها الإسلام منذ أربعة عشر قرنا، واعتبرها شقيقة الرجل لا عدوته، والرسول r يقول: فيما روى أبو داود والترمذي «النساء شقائق الرجال» فقد اندمجت المرأة في عهد الرسول r في مختلف الأعمال، وشاركت المشاركة الفعالة في الميادين التي تناسبها، وما انتظرت أحدا ليدمجها، وما أنكر النبي r ذلك عليها.
فقد رأينا في عهده r ممرضات ومعلمات وفقيهات وتاجرات ومستشارات بل حتى مجاهدات في المجال العسكري. كل ذلك تحت مظلة أحكام القرآن الكريم، وسيادة شرع الله الحكيم، وما كان هذا الشرع في أي وقت من الأوقات حائلا بينها وبين مزاولة أشغالها، فالإسلام يريد تحرير المرأة، ولكن لا يريد التغرير بها، ولا يريد ابتزاز جمالها، لا يريد أن تكون عارضة الأزياء في الشوارع والشاشات والساحات، ولا أن تصور شبه عارية في واجهات المحلات، وأغلفة المجلات، لصالح الاشهارات.
نعم يا عباد الله هكذا ساهم الشباب ذكورا وإناثا في الهجرة، فيبقىالرسول r في الغار ثلاثة أيام، لا جنود ولا حراسة تحرسه، نعم تحرسه العناية الربانية.
وإذا العناية لا حطتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
فيكتف الكفار البحث ويتتبعون الآثار إلى فم الغار، فيتأزم الموقف لدى أبي بكر، ليس خوفا على نفسه؛ بل خوفا على رسول الله r فيقول: "والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا" فتبسم الرسول r والتبسم في وجه الموت أمر لا يجيده إلا العظماء الواثقون بحفظ الله ونصره، فيقول r:«ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ وبعد ثلاثة أيام حين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطارد الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ النبي r وصاحبه للخروج إلى المدينة، فخرج r من الغار ليغادر مكة وقلبه يتفتت أسى وحسرة، فيلقي إليها النظرة الأخيرة، وعينه تفيض من الدمع حزنا ألا يعود إليها مرة أخرى، فيترجم هذا الأسى إلى كلمات يناجي بها مكة، مهدِ الطفولة والشباب، فيقول r :«والذي نفسي بيده إنك أحب بلاد الله إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» إذا بالقرآن ينزل فيخفف عن القلب الكبير الألم الكبير، ويعد الرسولَ r بفرح العودة بعد لوعة المغادرة، ويضمنُ له الابتهاج بالعناق بعد آلام الفراق، وكيف لا "والله لا يخلف الميعاد" فقال سبحانه وتعالى:﴿إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد﴾.
أقول قولي...
الخطبة الثانية
تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال.