بسم الله الرحمن الرحيم
قرأت مقالة منذ تسع سنوات في مجلة العربي (عدد 1/2001) بعنوان : "حكاية بيت من الشعر" ، وأعْلَمْتُ على العدد من المجلة وعلى المقالة على نية العود إليها ، والتعليق عليها ، ولم يتيسر لي ذلك إلا الآن .
والبيت المراد هو قول أبي تمام :
ولولا خلال سنَّها الشعر ما درى * بغاة الندى من أين تؤتى المكارم
ويروى : بغاة العلا ، وبناة العلا .
* * *
كان للعرب مكارم من الأخلاق أتمها الإسلام ، وكان الشعر ديوان العرب ، وما زال ، وكان الشعر هو الفن الأول في هذا اللسان العربي ، وما زال ، ذلك أن هذا اللسان لسان الإيقاع والوزن ، ولسان الإيجاز واللَّمْح ، مما لا يكون في ألسنة أخرى قوامها الفضول واللتّ والمضغ ، والشعر أرقى مظهر لمزايا اللسان العربي ، فيه تبدو عبقريته وجلالته ، ونفوذه وبلاغته ، ومقدرته وإصابته .
من أجل ذلك كان هذا الشعر سجل المفاخر والمآثر ، وسجل المعايب والمثالب أيضًا ، فهو مرآة للواقع بما فيه من خير وشر ، ونفع وضر ، وهو لا يخلو من الأكاذيب والأضاليل ككل الكلام الإنساني .
والمدائح في الشعر من خير دواوين المكارم وأنصعها وأرفعها وأجمعها - ومثلها المراثي ، وهي أصدق وأنبل - والناس ينشدونها ويحفظونها ويقرءونها لا على أنها صدق كلها ، لا شوب فيها من مبالغة أو كذب ، ولكن لما تمثله من صنعة بيانية لها قيمة في نفسها ككل الفنون بمعزل عن مقاصدها ومراميها وما استعملها الشاعر له ، ولما تمثله من مكارم خلقية كان منها حقائقُ ووقائع لا تُنكَر ، وُجدت في كل عصر ، من السخاء والشجاعة والنجدة والمروءة والصدق والإنصاف والعفاف والإيثار ، ونراها اليوم في كثير من الناس ، لا على ما قال القائل : ذهبت المكارم إلا من الكتب ! فهذا يكذّبه الواقع التاريخي والواقع الحاضر ، وإنما هو ضرب من التطير والتبرم والتشاؤم يغلب على نظر بعض الناس فلا يرون إلا ما يسوء وينوء ، ويضر ويغُرّ !
* * *
يقول أبو تمام : لا يعرف الناس المكارم والخلال الحسنة والأخلاق الرفيعة إلا من الشعر . وهذا يجري على مذهب من المبالغة غير منكور ولا مستغرب ، ذلك أن الناس يعرفون المكارم من الفطرة ، ومن الدين ، ومن الآباء والأجداد ، ومن الكتب ، ومن التجارب ، ومن الشعر بما هو ديوان للمعاني والحكم والتواريخ ، وهو في لسان العرب - بعد الوحي - أعلاها منزلة ، وأنفذها أثرًا ، وأجمعها جمعًا ، وأتقنا وضعًا . ففي كلام أبي تمام مذهب يشبه القصر الادعائي ، كما تقول : الشاعر المتنبي ، وأنت لا تنكر أن يكون غيره شاعرًا ، ولكنك تريد رفع منزلته وتفضيله على الشعراء ، فالمراد إذًا : خير سجل للمكارم الشعر ؛ لأنه يُبِينُ إبانة خاصة ، ويبلغ ما لا يبلغه غيره ، ويُحفَظ ويُروَى ويُدوَّن .
وقف الدكتور الغذامي عند لفظَي : "بناة العلا" و"بغاة الندى" ، ورأى بعد ما نظر البيت في الديوان على رواية : "بغاة الندى" ، وكان يحفظه : "بناة العلا" - أنه تغيير مقصود ، وقال : " ولعل رغبة عميقة في النفس كانت وراء تعديل الرواية ، وذلك من باب المحافظة على شرف ديوان العرب ، وعلى شرف الشعر ، ولكن لا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل ، لقد دخل المديح إلى شعرنا فأفسده وأفسد أخلاق الأمة " ، ومن رأيه أن هناك فرقًا بين "الندى" و"العلا" ، وأن هذا التغيير " يكشف عن نسق ثقافي سلبي يضرب خطره في أعماق الشعر العربي الذي هو ديوان العرب ودفتر مآثر الأمة حسب المقولة الراسخة ... فالعلا مجد وارتفاع ، وأما الندى فمذلة وشحاذة " (!) .
وما كنت أدري أن من معاني "الندى" المذلة و(الشحاذة) ، ولا أن الجود يُذَم من أجل المذلة و(الشحاذة) ، ولا أن الجود يُذَم من أجل شيء ما كان ، ولا أظن أنه يخطر ببال أحد أن يقول للدكتور الغذامي : ما (عقلية المؤامرة) هذه يا دكتور ؟ أمن أجل لفظة في بيت جاءت بروايتين تزعم أنه تغيير قُصد منه ترويج الكاسد ، وتزويق المقبوح ، وتنفيق المردود ؟ فالموصوفون بأن لهم (عقلية المؤامرة) قوم آخرون غير المتنورين ! وما الضير لو قيل : إن "الندى" نوع من "العلا" ؟
واختلاف الروايات في الأشعار معروف مألوف ، لا يرجع إلى تدبير أو تخطيط ، والروايتان في نسخ الديوان ، ورواية "بغاة العلا" قديمة مثبتة في عيون الأخبار لابن قتيبة (213-276) ، وأخبار الزجاجي (-337) ، ووساطة الجرجاني (-392) ، وهلم نازلاً .
وقد قال الدكتور : إنه قرأه "بغاة العلا" في كتاب للعقاد ! ولما اكتشف (المؤامرة) و(الملعوب) في تغيير هذا البيت بعد الاطلاع على الرواية الصحيحة (!) في الديوان ، رجع إلى كتاب العقاد "اللغة الشاعرة" ووقف متحسّرًا على منظر البيت مغيَّرًا مزوَّرًا ، فِعْلَ الذي ينظر مبتسمًا إلى من يريد أن يخدعه وهو فاهم لقصده ، عارف بكيده ! وكأني فهمت أنه ينسب هذا التغيير إلى العقاد !!
ولا أدري إلى أي نشرة من الديوان رجع ؟ لأن النشرة المتداولة بشرح التبريزي وتحقيق محمد عبده عزام ونشر دار المعارف بمصر (3/183) فيها إشارة في الحاشية إلى أن من النسخ ما فيه الرواية الأخرى .
وكأن الدكتور فهم من "بغاة الندى" أنهم طالبو المال وأهل الكُدْية والإلحاف ، والمراد - كما هو واضح لكل متذوق للشعر - طالبو الجود ، وهم المعطُون المنفقون ، فهو في معنى "بغاة العلا" أو "بناة العلا" أو "بناة الندى" .
* * *
والقصيدة في مدح الوزير أحمد بن أبي دُوَاد ، وأولها الغزل ، وأول الخروج منه قوله :
ينال الفتى من عيشه وهو جاهل * ويُكْدي الفتى في دهره وهو عالم
ولو كانت الأرزاق تجري على الْحِجا * هلكْنَ إذا من جهلهن البهائم
وكل سامع لهذا القول الشريف يفهم منه أنه يرمي إلى معنى معلوم مطروق ، وهو أن الأرزاق ليست بالكياسة والعقل والجهد ، ولكنها مقسومة مقدَّرة مكتوبة ، ينال كل امرئ منها ما قُسم له . وهذا إذا قيل في معرض المدح فإنما هو للتوصل به إلى أن الله وضع المال في أيدي بعض الناس مبتليًا لهم به ، فمنهم من أنفقه على عباده ، وواسى به المحروم ، وأسعف السائل ، ومنهم من بخل به وكنزه وذاد عنه العافي ، وحرم منه المتعفف . ولذلك أسلم هذان البيتان إلى ما بعدهما ، وكانا مدخلاً إلى مدح الممدوح ، لأن الممدوح من قبيل الأسخياء المنفقين :
جزى الله كفًّا ملؤها من سعادة * سَرَتْ في هلاك المال والمال نائم
فلم يجتمع شرقٌ وغرب لقاصد * ولا المجدُ في كفِّ امرئ والدراهم
فإنفاق المال من بناء المجد أو العلا أو الندى ، وإمساكه عن وجوهه الواجبة من بناء المخازي والمذامّ والذكر القبيح .
وأما فهم الدكتور الغذامي فله وجهة أخرى (تآمرية) (خفية) (باطنية) (ردية) ، فقال في البيتين الأولين : " هذا كلام ظاهره حسن ، ولكن باطنه قبيح ... والموقف هنا يقوم على أن أبا تمام فقير ماديًّا وثري عقليًّا ، والقاعدة التي يقولها البيتان هي أن العاقل فقير والجاهل غني ، وعلى هذه القاعدة ... فلا بد إذًا أن ابن أبي دواد جاهل ... وكأنما يقول له : إن لديك المال ولدي العقل ، ولذا عليك أن تعطيني بعض مالك لكي أعطيك بعض عقلي " . ثم استشهد بالبيت بعدهما على ما أراد .
وهذا الكلام يقوله من لا يعرف أحمد بن أبي دُوَاد الإيادي (160-240) ؛ إذ هو معدود في المتكلمين والأدباء والقضاة ، وكان أحد الدُّهاة ، وفي ترجمته قول أبي العيناء : ما رأيت رئيسًا قط أفصح ولا أنطق من ابن أبي دواد .
ولا يسوغ أن يقصد أبو تمام ما فسر به الغذامي كلامه ، وإنما هو معنى في ذهنه ، لم يجر في بال أبي تمام وابن أبي دواد منه شيء . والقوم كانوا من العقل ومن الفطنة ومن المعرفة بمرامي الكلام ومجاريه بموضع لا يجيز أن يُظَن بهم معه هذا الظن ، فيكون هذا المعنى مما يقصده أبو تمام ، ويغفل عنه ابن أبي دواد .
كلام الدكتور الغذامي إنما هو تفسير للشعر بمعزل عن الموقف الذي قيل فيه ، وعن المعهود في مثله ونظيره وشبيهه ، وعلى ذلك فسر الأبيات الآتية بعد :
ولم أر كالمعروف تُدعى حقوقُه * مغارمَ في الأقوام وهي مغانم
ولا كالعلا ما لم يُرَ الشعرُ بينها * فكالأرض غُفْلا ليس فيها معالم
وما هو إلا القول يسري فتغتدي * له غرر في أوجه ومواسم
يُرى حكمةً ما فيه وهو فكاهة * ويقضي بما يقضي به وهو ظالم
ومرمى الكلام أن المزية البيانية - وأرفعها الشعر - فضيلة من الفضائل ، ومن مآثر الشعر أن المكارم سُطِرت فيه ، فبيّنها وشرحها ودلَّ عليها ، وهو فوق ذلك ضرب من السحر ، يمكن أن يجعل الحق باطلاً ، والباطل حقًّا ، بما فيه من قدرة لها سلطان البلاغة والبراعة في التزيين والتقبيح ، والهجاء والمديح ، فالشعر من الفضائل ؛ ومن سلطانه أنه يستعمل في الباطل .
هذا ما يفهم من الأبيات ، وأما فهم الدكتور الغذامي (التآمري) فغير ذلك ، قال : " إذًا ما على ابن أبي دواد إلا أن يدفع ما في الجيب لكي يدافع ما في الغيب الشعري ... أما إذا لم يعط فالويل له من حكم الشعر ، وهو حكم ظالم بلا شك ، ولكنه نافذ " . فقد جعل هذا القول تهديدًا لابن أبي دواد ، وجعل أبا تمام يتوعده إن لم يعطه المال . واعجبْ كيف يكون بذل المال جودًا مع التهديد ؟! وكيف يرضى الممدوح - بل المادح - أن يكون المديح مقارِنًا للإنذار ، واستنزال العطاء مصاحبًا للتخويف ؟!
وقد حمل الغذامي هذه الأبيات على هذا المعنى وفيها ذكر الشعر ، وأعجبُ منه حمله المديح الخالص من ذكر الشعر على هذا المعنى ، وذلك قول أبي تمام :
إلى سالم الأخلاق من كل عائب * وليس له مال على الجود سالم
جدير بأن لا يصبح المال عنده * جديرًا بأن يبقى وفي الأرض غارم
وليس ببانٍ للعلا خلُق امرئ * وإن جلَّ إلا وهو للمال هادم
فهذا مديح صرف ، وتقريظ للجود ، وما دعاه إلى ذكر العيب إلا المقابلة بين ثبوت سلامة الأخلاق وانتفاء سلامة المال ، على ما هو معروف من صنعة أبي تمام الشعرية ، والبيت الأخير على هذا النحو ، يقول : الجود أول المكارم ، وعبر عن هذا بالتلازم بين هدم المال ، وبناء العلا ، قصدًا إلى إنشاء هذه الصورة التي قوامها الطباق بين البناء والهدم ، وما المقصود بالهدم إلا الإنفاق .
وأما الدكتور الغذامي فلا يرى في الأبيات إلا تكرار لفظة "المال" - وهو شيء ليس بغريب عند الحديث عن الجود - ويقول : " ولذا يربط الشاعر بين العيب وبذل المال ، ويشير إلى انتفاء العيب عن الممدوح بسبب بذله المال ، مما يعني أن عدم بذل المال سيؤدي إلى ظهور العيوب " . والخلل في هذا الفهم أنه يرى العيب عيب الشاعر ، والعيب المراد مذمة الناس لكل من يمسك المال ، على ما هو معهود في ذم البخل والباخلين ، لا على سيبل التهديد بالذم .
وبعد هذه الأبيات خرج أبو تمام إلى مدح قوم الممدوح "إياد" ، وختم بأبيات قصد فيها إلى بيان ما بين الشعر والمكارم من علاقة ، وهي أن الشعر سجل لهذه المكارم ، يذكرها ويعرّفها ويحفظ للآخِرين ما فعل الأولون ، ويُبقِي للاحقين مآثر السابقين ، وقد تركها الدكتور الغذامي ، ولم يأخذ منها إلا البيت الأخير :
فما بالُ وجهِ الشعرِ أغبرَ قاتِمًا * وأنف العلا من عُطلة الشعر راغم
تداركْه إن المكرمات أصابعٌ * وإن حُلَى الأشعار فيها خواتم
إذا أنت لم تحفظه لم يك بدعة * ولا عجبًا أن ضيعته الأعاجم
فقد هز عِطفيه القريضُ توقعًا * لعدلك مذ صارت إليك المظالم
ولولا خلال سنها الشعر ما درى * بغاة الندى من أين تؤتى المكارم
وكأن الدكتور الغذامي لم يجد في الأبيات الأربعة الأوَل مدخلاً لمذهبه في التفسير فجاوزها ، وهي تقول : الشعر لا يستغني عن المكارم ، والمكارم لا تستغني عن الشعر ، كما هي الصلة بين الأقوال والأفعال ، وبين العمل والصحيفة المثبَت فيها ذكرُه ، وبين الوقائع وتواريخها الحاكية لها ، وهو يشير إشارة مهمة ، وهي قوله : إنك - يا ابن أبي دواد - إذا لم تحفظ للشعر مقامه ومنزلته - وأنت العربي الصريح - فهو عند الأعاجم أضيع ، فهذا فن العرب الأول ، وهم به أعرف ، وله آلف ، يدرون ما للبيان من شرف ، وما للشعر من قدر ، وأما من يستوي عنده الفصاحة والفهاهة ، والبلاغة واللَّكَن ، والنطق والبَكََم ، فلا يقدر الشعر قدره ، ولا يعرف للبيان سحره ؟
* * *
ما كان على الدكتور الغذامي لو حدثنا عن ذم التكسب بالشعر ، أو ذم الكذب ، فسيجد من يؤازره ويناصره ، وأما ليُّ أعناق الكلام لتتجه غير وجهتها ، وتسير في غير طريقها ، وتقصد إلى غير مرادها ، للتوصل بها إلى ذم ثقافتنا كلها ، وشعرنا كله ، والقول : إن حياتنا أفسدها الشعر ، والشعر أفسده المديح - فهذا ما لا يوافقه عليه غيور على الحقيقة أن يُطمَس وجهها ، والعلم أن يرغم أنفه !
وأما من يستشهد بحديث حثو التراب في وجوه المدّاحين على ذم المدح كله فهو من الاستشهاد بالشيء في غير موضعه ، كيف وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمدح أصحابه في وجوههم ، ويثني عليهم ، ويذكر مناقبهم ؟ وإنما المدح المذموم المدح بالكذب ، أو مدح من يُبطره المديح ويطغيه . ويعرف المتخصصون في التربية أثر المدح في بناء مكارم الأخلاق ، ومساندة العاملين ، ومكافأة المحسنين .
والإنسان يحب الذكر الحسن ، ويكره الذكر القبيح ، وقد سأل نبي الله إبراهيم - عليه السلام - ربه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين ، وامتن على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه رفع ذِكْره ، وعلى الأنبياء جميعًا بأنهم يُذكرون بالتوقير والتعظيم ، وبالصلاة والتسليم .