المنفلوطي يقص موت احد الليبراليين حسرة لفجور زوجته ..!
[1] ذهب فلان إلى أوربا وما ننكر من أمره شيئاً .
فلبث فيها بضع سنين , ثم عاد وما بقي مما كنا نعرف منه شيء .
ذهب بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها , و عاد بوجه كوجه الصخرة الملساء تحت الليلة الماطرة .
و ذهب بقلب نقي طاهر يأنس بالعفو ويستريح إلى العذر , و عاد بقلب ملفف مدخول لا يفارقه السخط على الأرض وساكنها وعلى السماء و خالقها .
و ذهب بنفس غضة خاشعة ترى كل نفس فوقها , وعاد بنفس ذهابة نزاعة لا ترى شيئاً فوقها ولا تلقي نظرة واحدة على ما تحتها .
و ذهب بنفس مملوءة حكمة ورأياً , وعاد برأس كرأس التمثال المثقب لا يملأه إلا الهواء المتردد .
وذهب وما على الأرض أحب إليه من دينه ووطنه وعاد وما على وجهها أصغر في عينيه منهما .
و كنت أرى أن هذه الصور الغريبة التي يتراءى بها هؤلاء الضعفاء من الفتيان العائدين من تلك الديار إلى أوطانهم إنما هي أصباغ مفرغة على أجسامهم إفراغاً لا تلبث أن تطلع عليها شمس المشرق حتى تنصل و تتطاير ذراتها في أجواء السماء .
و أن مكان المدنية من نفوسهم مكان الوجه من المرآة إذا انحرف عنها زال خياله منها .
فلم أشأ أن أفارق ذلك الصديق فلبسته على علاته وفاء بعهده السابق و رجاء لغده المنتظر متحملاً في سبيل ذلك من حمقه ووسواسه و فساد تصوراته و غرابة أطواره ما لا طاقة بمثلي باحتمال مثله .
حتى جاء في ذات ليلة بداهية الدواهي ومصيبة المصائب فكانت آخر عهدي به دخلت عليه فوجدته واجماً مكتئباً فحييته فأومأ إلي بالتحية إيماء .
فسألته ما باله ؟
فقال : " ما زلت منذ الليلة من هذه المرأة في عناء لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه ولا أدري مصير أمري فيه " قلت : " و أي امرأة تريد ؟ "
قال : " تلك التي يسميها الناس زوجتي و أنا أسميها الصخرة العاتية في طريق مطالبي و آمالي " قلت : " إنك كثير الآمال يا سيدي ففي أي آمالك تَحَدَّث ؟ "
قال : " ليس لي في الحياة إلا أمل واحد وهو أن أغمض عيني ثم أفتحها فلا أرى برقعاً على وجه امرأة في هذا البلد "
قلت : " ذلك ما لا تملكه و لا أرى لك فيه "
قال : " إن كثيراً من الناس يرون في الحجاب رأيي و يتمنون في أمره ما أتمنى ولا يحول بين نزعه عن وجوه نسائهم و إبرازهن إلى الرجال يجالسنهم كما يجلس بعضهم إلى بعض إلا العجز والضعف و الهيبة التي لا تزال تلم بنفس الشرقي كلما حاول الإقدام على أمر جديد , فرأيت أن أكون أول هادم لهذا البناء العادي [2] القديم , الذي وقف سداً دون سعادة الأمة وارتقائها دهراً طويلاً , وأن يتم على يدي ما لم يتم على يد أحد غيري من دعاة الحرية و أشياعها , فعرضت الأمر على زوجتي فأكبرَته و أعظمَته , وخيّل إليها أنني جئتها بإحدى النكبات العظام و الرزايا الجسام . وزعمت إنها إن برزت للرجال فإنها لا تستطيع أن تبرز إلى النساء بعد ذلك حياءاً منهن وخجلاً , ولا خجل هناك ولا حياء , ولكنه الموت والجمود و الذل الذي ضربه الله على هؤلاء النساء في هذا البلد أن يعشن في قبور مظلمة من خدورهن وخمرهن حتى يأتيهن الموت فينقلهن من مقبرة الدنيا إلى مقبرة الآخرة , فلابد لي أن أبلغ أمنيتي و أن أعالج هذا الرأس القاسي المتحجر علاجاً ينتهي بإحدى الحسنيين إما بكسره أو بشفائه "
فورد علي من حديثه ما ملأ نفسي هماً وحزناً ونظرت إليه نظرة الراحم الرائي :
" أعالم أنت أيها الصديق ما تقول ؟ "
قال : " نعم أقول الحقيقة التي أعتقدها و أدين نفسي بها واقعة من نفسك و نفوس الناس جميعاً حيث وقعت "
قلت : " هل تأذن لي أن أقول لك أنك عشت فترة طويلة في ديار قوم لا حجاب بين رجالهن ونسائهن فهل تذكر أن نفسك حدثتك يوماً من الأيام و أنت فيهم بالطمع في شيء مما لا تملك يمينك من أعراض نسائهم فنلت ما تطمع فيه من حيث لا يشعر مالكه ؟ "
قال : " ربما وقع لي شيء من ذلك فماذا تريد ؟
" قلت : " أريد أن أقول لك إني أخاف على عرضك أن يلم به من الناس ما ألم بأعراض الناس منك "
قال : " إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال وهي من شرفها وعفتها في حصن حصين لا تمتد إليه المطامع "
فداخلني ما لم أملك نفسي منه وقلت له :
" تلك هي الخدعة التي يخدعكم بها الشيطان أيها الضعفاء , والثلمة التي يعثر بها في زوايا رؤوسكم فينحدر منها إلى عقولكم ومدارككم فيفسدها عليكم الشرف = كلمة لا وجود لها إلا في قواميس اللغة ومعاجمها فإن أردنا أن نفتش عنها في قلوب الناس و أفئدتهم قلما نجدها والنفس الإنسانية كالغدير الراكد لا يزال صافياً رائقاً حتى يسقط فيه حجر فإذا هو مستنقع كدر و العفة لون من ألوان النفس لا جوهر من جواهرها و قلما تثبت الألوان على أشعة الشمس المتساقطة "
قال : " أتنكر وجود العفة بين الناس ؟ "
قلت : " لا أنكرها لأني أعلم أنها موجودة بين البله و الضعفاء والمتكلفين و لكنني أنكر وجودها عند الرجل القادر ( المختلب ) , و المرأة الحاذقة المترفقة إذا سقط بينهما الحجاب و خلا وجه كل منهما لصاحبه في أي جو من أجواء هذا البلد تريدون أن تبرز نساؤكم لرجالكم : أفي جو المتعلمين وفيهم من سئل مرة :
" لِمَ لم تتزوج ؟ فأجاب : نساء البلد جميعاً نسائي "
أم في جو الطلبة وفيهم من يتوارى عن أعين خلانه و أترابه حياءاً وخجلاً إن خلت محفظته يوماً من الأيام من صور عشيقاته وخليلاته و أقفرت من رسائل الحب والغرام .
أم في جو الرعاع والغوغاء , وكثير منهم يدخل البيت خادماً ذليلاً و يخرج صهراً كريماً ؟
وبعد فما هذا الولع بقصة المرأة والتمطق [3] بحديثها والقيام والقعود بأمرها و أمر حجابها وسفورها وحريتها و أسرها كأنما قمتم بكل واجب للأمة عليكم في أنفسكم فلم يبق إلا أن تفيضوا من تلك النعم على غيركم
هذبوا رجالكم قبل أن تهذبوا نساءكم , فإن عجزتم عن الرجال فأنتم عن النساء أعجز .
أبواب الفخر أمامكم كثيرة فاطرقوا أيها شئتم ودعوا هذا الباب موصداً فإنكم إن فتحتموه فتحتم على أنفسكم ويلاً عظيماً وشقاءاً .
أروني رجلاً واحداً منكم يستطيع أن يزعم في نفسه أنه يمتلك هواه بين يدي امرأة يرضاها فأصدق أن امرأة تستطيع أن تملك هواها بين يدي رجل ترضاه .
إنكم تكلفون المرأة ما تعلمون أنكم تعجزون عنه وتطلبون عندها ما لا تعفونه عند أنفسكم , فأنتم تخاطرون بها في معركة الحياة مخاطرة لا تعلمون أتربحونها من بعدها أم تخسرونها وما أحسبكم إلا خاسرين .
ما شكت المرأة إليكم ظلماً ولا تقدمت إليكم في أن تحلوا قيدها وتطلقوها من أسرها , فما دخولكم بينها وبين نفسها وما تمضغكم ليلكم و نهاركم بقصصها و أحاديثها ؟
إنها لا تشكوا إلا فضولكم و إسفافكم ومضايقتكم لها ووقوفكم في وجهها حيث سارت و أينما حلت حتى ضاق بها وجه الفضاء فلم تجد لها سبيلاً إلا أن تسجن نفسها بنفسها في بيتها فوق ما سجنها أهلها فأوصدت من دونها بابها و أسبلت أستارها تبرماً بكم وفراراً من فضولكم .
فواعجباً لكم تسجنونها بأيديكم ثم تقفون على باب سجنها تبكونها و تندبون شقاءها !
إنكم لا ترثون لها بل ترثون لأنفسكم ولا تبكون عليها بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جوها تبرجاً وسفوراً و يتدفق خلاعة واستهتاراً و تودون بجدع الأنف لو ظفرتم هنا بذلك العيش الذي خلفتموه هناك .
لقد كنا وكانت العفة في سقاء من الحجاب موكوء فما زلتم به تثقبون في جوانبه كل يوم ثقباً و العفة تسيل منه قطرة قطرة حتى تقبض وتكرش , ثم لم يكفكم ذلك منه حتى جئتم اليوم تريدون أن تحلوا وكاءه حتى لا تبقى فيه قطرة واحدة .
عاشت المرأة المصرية حقبة من دهرها هادئة مطمئنة في بيتها راضية عن نفسها وعن عيشها ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها أو وقفة تقفها بين يدي ربها أو عطفة تعطفها على ولدها أو جلسة تجلسها إلى جارتها تبثها ذات نفسها وتستبثها سريرة قلبها و ترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيها وائتمارها بأمر زوجها ونزولها عن رضاهما .
وكانت تفهم معنى الحب و تجهل معنى الغرام فتحب زوجها لأنه زوجها كما تحب ولدها لأنه ولدها فإن رأى غيرها من النساء أن الحب أساس الزواج رأت هي أن الزواج أساس الحب فقلتم لها :
" إن هؤلاء الذين يستبدون بأمرك من أهلك ليسوا بأوفر منك عقلاً ولا أفضل رأياً ولا أقدر على النظر لك من النظر لنفسك فلا حق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك "
فازدرت أباها و تمردت على زوجها و أصبح البيت الذي كان بالأمس عرساً من الأعراس الضاحكة مناحة قائمة لا تهدأ نارها و لا يخبو أوارها .
وقلتم لها :
" لابد لك أن تختاري زوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك "
فاختارت لنفسها أسوأ مما اختار لها أهلها فلم يزد عمر سعادتها عن يوم وليلة ثم الشقاء الطويل بعد ذلك والعذاب الأليم .
و قلتم لها :
" إن الحب أساس الزواج "
فما زالت تقلب عينيها في وجوه الرجال مصعدة مصوبة حتى شغلها الحب عن الزواج فغنيت به عنه و قلتم لها :
" أن سعادة المرأة في حياتها أن يكون زوجها عشيقها " وما كانت تعرف إلا أن الزوج غير العشيق فأصبحت كل يوم تبغي زوجاً جديداً يحيي من لوعة الحب ما أمات الزوج القديم فلا قديماً استبقت ولا جديداً أفادت .
وقلتم لها :
" لابد أن تتعلمي لتحسني تربية ولدك والقيام على شئون بيتك "
فتعلمت كل شيء إلا تربية ولدها و القيام على شئون بيتها .
و قلتم لها :
" نحن لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها و يلائم ذوقها ذوقنا و شعورها شعورنا "
فرأت أن لابد لها أن تعرف مواقع أهوائكم ومباهج انظاركم لتتجمل لكم بما تحبون فراجعت فهرس حياتكم صفحة صفحة فلم تر فيه غير أسماء الخليعات المستهترات والضحكات اللاعبات و الإعجاب بهن و الثناء على ذكائهن و فطنتهن و تخلعت و استهترت لتبلغ رضاكم وتنزل عند محبتكم .
ثم مشت إليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف تعرض نفسها عليكم عرضاً كما تعرض الأمة نفسها في سوق الرقيق فأعرضتم عنها و نبوتم عنها .
و قلتم لها :
" إنا لا نتزوج النساء العاهرات "
لأنكم لا تبالون أن يكون نساء الأمة جميعاً ساقطات إذا سلمت لكم نساؤكم فرجعت أدراجها خائبة منكسرة و قد أباها الخليع وترفع عنها المحتشم فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت , كذلك انتشرت الريبة في نفوس الأمة جميعاً و تمشت الظنون بين رجالها ونسائها فتعاجز الفريقان و أظلم الفضاء بينهما و أصبحت البيوت كالأديرة [4] لا يرى فيها الرائي إلا رجالاً مترهبين ونساء عانسات .
ذلك بكاؤكم على الرمأة أيها الراحمون وهذا رثاؤكم لها و عطفكم عليها .
نحن نعلم كما تعلمون أن المرأة في حاجة إلى العلم فليهذبها أبوها و أخوها أنفع لها من العلم [5] و إلى اختيار الزوج العادل الرحيم فليحسن الآباء اختيار الأزواج لبناتهم وليجمل الأزواج عشرة نسائهم و إلى النور والهواء تبرز إليهما وتتمتع فيهما برؤية الحياة فيأذن لها أولياؤها بذلك وليرافقها رفيق منهم في غدواتها و روحاتها كما يرافق الشاه راعيها خوفاً عليها من الذئاب فإن عجزنا أن نأخذ الآباء والأزواج بذلك فلننفض أيدينا من الأمة جميعاً نسائها ورجالها فليست المرأة بأقدر على إصلاح نفسها من الرجل على إصلاحها.
أعجب ما أعجب له من شئونكم أنكم تعلمتم كل شيء إلا شيئاً واحداً هو أدنى إلى مدارككم أن تعلموه قبل كل شيء وهو أن لكل تربة نباتاً ينبت فيها و لكل نبات زمن ينمو فيه رأيتم العلماء في أوربا يشتغلون بكماليات العلوم بين أمم قد فرغت من ضرورياتها فاشتغلتم بها مثلهم في أمة لا يزال سوادها الأعظم في حاجة إلى معرفة حروف الهجاء ...
و رأيتم الرجل الأوربي حراً مطلقاً يفعل ما يشاء و يعيش كما يريد لأنه يستطيع أن يملك نفسه وخطواته في الساعة التي يعلم فيها أنه قد وصل إلى حدود الحرية التي رسمها لنفسه فلا يتخطاها فرأيتم أن تمنحوا هذه الحرية نفسها رجلاً ضعيف الإرادة و العزيمة , يعيش في حياته الأدبية في رأس منحدر زلق إن زلت به قدمه مرة تدهور من حيث لا يستطيع أن يستمسك حتى يبلغ الهوة ويتردى في قرارتها .
و رأيتم الزوج الأوربي الذي أطفأت بيئته غيرته و زالت خشونة نفسه وحرشتها يستطيع أن يرى زوجته تخاصر من تشاء و تصاحب من تشاء و تخلو بمن تشاء فيقف أمام ذلك المشهد موقف الجامد المتبلد فأردتم من الرجل الشرقي الغيور المتلهب أن يقف موقفه و يستمسك استمساكه .
ورأيتم المرأة الأوربية الجريئة المتفتية تستطيع في كثير من مواقفها مع الرجال أن تحتفظ بنفسها و كرامتها [6] فأردتم من المرأة المصرية الضعيفة الساذجة أن تبرز للرجال بروزها وتحتفظ بنفسها احتفاظها وكل نبات يزرع في أرض غير أرضه أو في ساعة غير ساعته إما أن تأباه الأرض فتلفظه و إما أن يستنبت فيها فيفسدها .
إنا نذرع إليكم باسم ... الحرمة الدينية أن تتركوا تلك البقية من نساء الأمة آمنات مطمئنات في بيوتهن ولا تزعجوهن بأحلامكم و آمالكم كما أزعجتم من قبلهن .
فكل جرح من جروح الأمة له دواء إلا جرح الشرف فإن أبيتم إلا أن تفعلوا فانظروا بأنفسكم قليلاً ريثما تنتزع الأيام من صدوركم هذه الغيرة التي ورثتموها عن آبائكم و أجدادكم لتستطيعوا أن تعيشوا في حياتكم سعداء آمنين " .
فما زاد الفتى أن ابتسم في وجهي ابتسامة الهزء و السخرية و قال :
" تلك حماقات إلا لنعالجها فلنصطبر عليها حتى يقضي الله بيننا وبينها "
و قلت له :
" لك أمرك في نفسك و أهلك فاصنع بهما ما تشاء و ائذن لي أن أقول لك : إني لا أستطيع أن اختلف إلى بيتك بعد اليوم إبقاءً عليك وعلى نفسي لأن الساعة التي ينفرج لي فها جانب ستر من أستار بيتك عن وجه امرأة من أهلك تقتلني حياءً وخجلاً ثم انصرفت وكان هذا فراق ما بيني وبينه .
وما هي إلا أيام قلائل حتى سمعت الناس يتحدثون أن فلاناً هتك الستر في منزله بين نسائه و رجاله و أن بيته أصبح مغشياً لا تزال النعال خافقة ببابه فذرفت عيني دمعة لا اعلم هل هي دمعة الغيرة على العرض المزال أو الحزن على الصديق المفقود .
مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام لا أزوره ولا يزورني و لا ألقاه في طريقه إلا قليلاً فأحييه تحية الغريب للغريب من حيث لا يجري لما كان بيننا ذكر ثم أنطلق في سبيلي .
وإني لعائد إلى منزلي ليلة أمس – و قد مضى الشطر الأول من الليل – إذ رأيته خارجاً من منزله يمشي مشية الذاهل الحائر و بجانبه جندي من جنود الشرطة كأنما هو يحرسه أو يقتاده فأهمني أمره ودنوت منه فسألته عن شأنه فقال :
" لا علم لي بشيء سوى أن هذا الجندي قد طرق الساعة بابي يدعوني إلى مخفر الشرطة ولا أعلم لمثل هذه الدعوة في مثل هذه الساعة سبباً وما أنا بالرجل المذنب ولا المريب فهل أستطيع أن أرجوك يا صديقي بعد الذي كان بيني وبينك أن تصحبني الليلة في وجهي علني أحتاج بعض المعونة فيما قد يعرض لي هناك من الشئون ؟ "
قلت :
" لا أحب إلي من ذلك "
ومشيت معه صامتاً لا أحدثه ولا يقول لي شيئاً ثم شعرت كأنه يزور في نفسه كلاماً يريد أن يفضي به إلي فيمنعه الخجل والحياء ففاتحته الحديث وقلت له :
" ألا تستطيع أن تذكر لهذه الدعوة سبباً ؟ "
فنظر إلي نظرة حائرة وقال :
" إن أخوف ما أخافه أن يكون قد حدث لزوجتي الليلة حادث فقد رابني من أمرها أنها لم تعد إلى المنزل حتى الساعة وما كان ذلك شأنها من قبل "
قلت : " أما كان يصحبها أحد ؟ "
قال : " لا "
قلت : " ألا تعلم المكان الذي ذهبت إليه ؟
" قال : " لا "
قلت : " ومم تخاف عليها ؟ "
قال : " لا أخاف شيئاً سوى أني أعلم أنها امرأة غيور حمقاء فلعل بعض الناس حاول العبث في طريقها فشرست عليه فوقعت بينهما واقعة انتهى أمرها إلى مخفر الشرطة "
وكنا وصلنا إلى المخفر فاقتادنا الجندي إلى قاعة المأمور فوقفنا بين يديه فأشار إلى جندي أمامه إشارة لم نفهمها ثم استدنى الفتى إليه وقال له :
" يسوءني أن أقول لك يا سيدي إن رجال الشرطة قد عثروا الليلة في مكان من أمكنة الريبة برجل و امرأة في حال غير صالحة فاقتادوهما إلى المخفر فزعمت المرأة أن لها بك صلة فدعوناك لتكشف لنا الحقيقة في أمرها فإن كانت صادقة أذنا لها بالانصراف معك إكراماً لك و إبقاءً على شرفك و إلا فهي امرأة عاهرة لا نجاة لها من عقاب الفاجرات و ها هما وراءك فانظرهما "
و كان الجندي قد جاء بهما من غرفة أخرى فالتفت وراءه فإذا المرأة زوجته و إذا الرجل أحد أصدقائه فصرخ صرخة رجفت لها جوانب المخفر وملأت نوافذه و أبوابه عيوناً و آذاناً ثم سقط مكانه مغشياً عليه فأشرت على المأمور أن يرسل المرأة إلى منزل أبيها ففعل و أطلق سبيل صاحبها ثم حملنا الفتى في مركبة إلى منزله "
ثم ذكر المنفلوطي رحمه الله آخر القصة و حاصلها أن الفتى مات كمداً و حسرة من هذه الفضيحة التي اختتم بها حياته ...
=======================
[1] - ( العبرات ) للمنفلوطي ص ( 49 ) .
[2] - أي القديم ، نسبة إلى عاد .
[3] - التمطق : التصويت باللسان عند استطابة الطعام .
[4] - الأديرة جمع دير .
[5] - يعني علم ما لم يكون ضرورياً كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
[6] - في هذه العبارة نظر ، إذ ليست علة منع الاختلاط سذاجة المرأة وعدم جرأتها بحيث يقال إذا زالت العلة زال المعلول فيباح الاختلاط للمرأة الجريئة المتفتية و يمنع للساذجة الضعيفة وهذا باطل لمخالفته نصوص الشريعة وقواعدها و قد فصَّلت ذلك في " القسم الثالث " من هذا الكتاب فانظره ص ( 51 : 60 ) .