بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوة ,
دائماً ما تتردد في ذهني هذه المسألة , خاصة عند نظمي القريض , أو نقده لشخص يطلب مني ذلك ..
وهي مسألة سبّ الدهر , وقد ناقشت فيها كثيراً من الإخوة , ولم أصل لنتيجة مرضية مريحة , بل كلّ نتيجة أصل لها يكون في النفس منها شيء ..
/// في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ((قال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار)).
وقد عرفت -من قديم- أن هناك تفصيلاً يمكن إيراده وقد ذكره الشيخ ابن عثمين, وهو:
- سب الدهر , وهو محرم بنص الحديث .
- اعتقاد أن الدهر هو مسبب المكروه وهذا شرك أصغر .
- ذكر الخبر المحض دون اللوم , فهو جائز بنص الآية "هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ " وقوله تعالى : " فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ " وقوله تعالى : " فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ", وقوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : " سنوات خداعات ".
فإذا خلصنا من ذلك يبقى الإشكال الذي هو : أني وقفت على كثيرين أنكروا على الشعراء وصف للدهر بالخيانة أو النقيصة , ومن ذلك ما ورد في عند القرطبي :
((يا عاتب الدهر إذا نابه :: لا تلم الدهر على غدره
الدهر مأمور , له آمر :: وينتهي الدهر إلى أمره
كم كافر أمواله جمة :: تزداد أضعافا على كفره
ومؤمن ليس له درهم :: و يزداد إيمانا على فقره
وروي أن سالم بن عبد الله بن عمر كان كثيرا ما يذكر الدهر فزجره أبوه وقال : إياك يا بني وذكر الدهر ! وأنشد :
فما الدهر بالجاني لشيء لحينه :: ولا جالب البلوى فلا تشتم الدهرا
ولكن متى ما يبعث الله باعثا :: على معشر يجعل مياسيرهم عسرا
وقال أبو عبيد : ناظرت بعض الملاحدة فقال : ألا تراه يقول : " فإن الله هو الدهر " ؟ فقلت : وهل كان أحد يسب الله في آباد الدهر , بل كانوا يقولون كما قال الأعشى :
إن محلا وإن مرتحلا :: وإن في السفر إذ مضوا مهلا
استأثر الله بالوفاء وبالعد :: ل وولى الملامة الرجلا
قال أبو عبيد : ومن شأن العرب أن يذموا الدهر عند المصائب والنوائب ; حتى ذكروه في أشعارهم , ونسبوا الأحداث إليه .
قال عمرو بن قميئة :
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى :: فكيف بمن يرمى وليس برام
فلو أنها نبل إذا لاتقيتها :: ولكنني أرمى بغير سهام
على الراحتين مرة وعلى العصا :: أنوء ثلاثا بعدهن قيامي
ومثله كثير في الشعر . ينسبون ذلك إلى الدهر ويضيفونه إليه , والله سبحانه الفاعل لا رب سواه )) ا.هـ
مع أن الدهر كما فسره بذلك مجاهد رحمه الله , فقال في تفسير الآية "وما يهلكنا إلا الدهر" (قال : يعني السنين والأيام ) , وقال قتادة : (العمر) , وذهب القرطبي إلا أن المعنى واحد . (تفسير القرطبي).
كما ذهب إلى ذلك أهل اللغة .
فإن كان الدهر هو اليوم فكيف التوفيق بين ذلك وما ورد في ذم اليوم في الآية "يوم عصيب" والذم كما هو معروف إلحاق النقيصة بهذا المراد ؟!.
ويدلّ على أن الدهر هو اليوم , ما جاء في الحديث المرفوع الذي رواه جرير بن عبد الله البجلي : ((صوم ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر ، الأيام البيض : ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة)).
فظهر أن الدهر هو الزمن الطويل [على أحد التفاسير] واليوم جزء من الزمن !.
وقد ورد في شعر الشافعي -رحمه الله- :
دَعِ الأَيَّامَ تَغْدِرُ كُلَّ حِينٍ :: فما يغني عن الموت الدواءُ
وإن كان الأمر على فرض ما ذكره البعض من أن "النهي عن سب الدهر ليس على إطلاقه بل على اعتبار الاعتراض على ما يحدث فيه من أحداث فتضاف للدهر فيسب ويشتم" (شبكة أنا المسلم).
فأقول : لم أقف على أحد قال بهذا القول , ثم إن تفصيل الشيخ ابن عثيمين موضح للمسألة .
وأما توجيه الأخ لكلام النووي رحمه الله -وهو:((قال العلماء: وهو مجاز وسببه أن العرب كان شأنها أن تسب الدهر عند النوازل والحوادث والمصائب النازلة بها من موت أو هرم أو تلف مال أو غير ذلك فيقولون يا خيبة الدهر ونحو هذا من ألفاظ سب الدهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" أي لا تسبوا فاعل النوازل فإنكم إذا سببتم فاعلها وقع السب على الله تعالى لأنه هو فاعلها ومنزلها. وأما الدهر الذي هو الزمان فلا فعل له بل هو مخلوق من جملة خلق الله تعالى، ومعنى فإن الله هو الدهر أي فاعل النوازل والحوادث وخالق الكائنات والله أعلم))- فغير مستقيم ؛ لأن النووي فرق بين السبب والمسبب, وأخونا لم يفرّق , وظاهر كلامه دالّ أنه أمرٌ آخر لا علاقة له بالأمر .
/// وفي المعنى السابق أن الدهر هو الزمن والأبد , وقد ورد ما يحتج به أن من معاني الدهر : الدنيا , قال الفرزدق :
فإِني أَنا الموتُ الذي هو نازلٌ :: بنفسك، فانْظُرْ كيف أَنْتَ تُحاوِلُهْ
فأَجابه جرير:
أَنا الدهر يُفْني الموتَ, والدهر خالدٌ ::، فَجِئْني بمثلِ الدهر شيئاً تُطَاوِلُهْ
قال الأَزهري: جعل الدهر الدنيا والآخرة لأَن الموت يفنى بعد انقضاء الدنيا. (لسان العرب).
فإذا تقرر هذا , فكيف نوفّق بينه وبين حديث : ((الدنيا ملعونة , ملعون ما فيها ...)) وقد حسنه الألباني رحمه الله , وسبقه جمع من العلماء .
فيما يظهر تعارض بين هذا الحديث وحديث "يؤذيني ابن آدم" , لأنه كما قلنا أن الدنيا من معاني الدهر !
/// كما أن من مشتقات الدهر : الدهارير , ومن معانيه الشدة والصعوبة , قال الشاعر :
إياهم الأرض في دهر الدهارير..
وهي بمثل معنى الآية "هذا يوم عصيب"..
* * *
فهل من أحد يحلّ لي هذا الإشكال الذي طالماً تهت فيه , وبحثت كثيراً فلم أجد ما يريحني حتى الآن , وكنت قد كتبت قبل سنة قصيدة رثاء , وكان فيها البيتان التاليان :
لا تأمن الدهر الخؤون مسالماً :: فالعيش لا يبقى عليه دوام
الموت حقّ والبرية رُحَّلٌ :: تفنيهم اللحظات والأيام
فاعترض أحدهم على البيت الأول , وذكر أنه يدخل ضمن سبّ الدهر , ولما سألت أهل الألوكة هنا في موضوع ما عنه , أجابني السكران التميمي -على ما أذكر- بأن ذلك لا يدخل ضمن سب الدهر .
فحذفت البيت الأول -احتياطاً- , غير أني لما تدبّرت فيما قلته , وجدت أن الشطر الثاني في البيت الثاني فيه شيء صريح يوافق قول القائلين "وما يهلكنا إلا الدهر" -والله المستعان-.
فحذفته , ولكنّي كلما بحثت في الموضوع صعب عليّ الأمر وتعقّد , ولم أعد أفهمه ..
/// آمل أن يسعى الإخوة في تبيين الرد على شبهي نقطة نقطة , حتى أفيد منهم , والحقّ -والله أريد- , فليدل كل صاحب علم وفقه بدلوه ..
والله الموفق .