الكتاب-جريدة الاهرام المصرية
44880
السنة 133-العدد
2009
اكتوبر
22
3 من ذى القعدة 1430 هـ
الخميسالبحث عن التقدم العربي!منذ عصر النهضة العربية الأولي التي يمكن ان يكون علمها البارز هو الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي والمشكلة التي يواجهها المجتمع العربي هي كيف يمكن ان نقضي علي التخلف السائد ونكتسب اسباب التقدم؟
بقلم :السيد يسين
اجيال عربية تتابعت من المفكرين والمثقفين العرب الذين ينتمون إلي المشرق والمغرب معا, وكل جيل حاول بطريقته ان يجيب علي هذا السؤال المحوري.
هناك جيل اضطر لكي يجيب علي السؤال في ظل احتلال الدول الغربية لعديد من البلاد العربية, والذي تجاوز الاحتلال إلي الاستعمار الاستيطاني لكل من الجزائر وفلسطين, ومعني ذلك قيود متعددة كانت مفروضة علي المفكر العربي في هذا الزمن, بحكم الوجود الفعلي للاستعمار الأوروبي بما يتضمنه ذلك من تقييد لحرية التفكير وحرية التعبير, واضطهاد للقوي السياسية العربية الحية التي كانت تسعي إلي تحرير أوطانها وملاحقة للمفكرين العرب الاحرار الذين حاولوا تأسيس بنية معرفية, تستفيد من المنجزات الفكرية الغربية, ولكنها تطمح في نفس الوقت إلي صياغة نظرية عربية مستقلة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة, احتراما للخصوصية الثقافية للمجتمع العربي, واخذا في الاعتبار المرحلة التاريخية التي يمر بها.
وجاء جيل اخر من المفكرين العرب بعد نهاية الاحتلال الأوروبي في عديد من البلاد العربية وحصولها علي الاستقلال, وقد حاول اعضاء هذا الجيل, الذي برز علي وجه الخصوص في الخمسينيات من القرن العشرين الاجتهاد والبحث عن التقدم في مناخ ثقافي مختلف تماما عن ذلك الذي ساد في العقود السابقة.
كانت السمة السائدة بعد الاستعمار هي مرحلة التحرر الوطني التي فتحت افاقا واسعة امام العقل في عديد من البلاد العربية والافريقية والاسيوية ودول أمريكا اللاتينية, لكي يجتهد ويصوغ نظرية عن التقدم, ليست تقليدا فجا بالضرورة للنظرية الغربية.
كان عصر الاستقلال يزخر بأفكار التحرر والاستقلال والاشتراكية والعدالة الاجتماعية بشكل عام, كما كان يزخر بالأفكار القومية في العالم العربي بشكل خاص, مما جعل سنوات الخمسينيات والستينيات في العالم العربي تمثل عصر القومية العربية المزدهرة, الذي شهد أول محاولة للوحدة العربية التي تمت بين مصر وسوريا, وفي نفس الوقت انطلقت العقول العربية المتحررة تستكشف افاق وابعاد ومشكلات الحداثة الغربية, في العلم, والادب والفن, سعيا وراء التقدم.
ونتيجة للاستيعاب العربي لتجليات الحداثة في عديد من المجالات, ظهرت ابداعات عربية بارزة في الادب وخصوصا في مجال الرواية والقصة القصيرة, التي ابتدعت لنفسها تقاليدها العربية الخالصة, مما جعلها تنجح في عرض وتحليل الواقع العربي بشكل متفرد, وليس تقليدا للنماذج الغربية.
ولذلك لم يكن غريبا ان يتوج هذا الابداع العربي في مجال الرواية بمنح جائزة نوبل في الاداب للروائي المصري العظيم نجيب محفوظ, اعترافا من نقاد العالم بحقيقة بسيطة وان كانت بالغة الأهمية, هي ان مفتاح الوصول إلي العالمية هو التركيز علي المحلية.
هذا التوجيه المهم كان يدعونا في المجتمع العربي ان نبدع ونبتكر لتحويل الواقع المتخلف إلي افق متقدم, بناء علي تنمية القدرات الوطنية التي من حقها ان تنهل من المنجزات الفكرية والعلمية العالمية, ولكن بشرط ان تكيفها مع ظروف الواقع العربي, وتوجد بالتالي نظرياتها المستقلة التي لاتنفصل عن العالم, ولكنها في نفس الوقت لاتغترب عن الواقع العربي.
وهذا التوجيه المهم تبنته حركة العولمة حين صاغت الشعار الشهير فكر كونيا ونفذ محليا.
بعبارة اخري عليك كصانع قرار سياسي أومفكر أوباحث, ان تأخذ التطورات العالمية في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة في اعتبارك, ولكن عليك من بعد ان تركز علي أوضاعك المحلية, ومعني ذلك ان النظرة العالمية شرط للتصدي للمشكلات المتعددة ولكنه شرط غير كاف, اذ لابد من النزول من بعد إلي مستوي المحلي, حتي تكون الحلول المقترحة ناجعة وغير معلقة في الهواء.
اذن تميز عصر مابعد الاستعمار بالسعي إلي التقدم في كل المجالات, غير ان النظرة التقيمية الفاحصة لاحوال العالم العربي, تؤكد انه مع كل المحاولات التي بذلت من قبل النخب السياسية العربية الحاكمة, وعن طريق المفكرين والباحثين العرب في مختلف التخصصات, فان التخلف في المجتمع العربي مازال سائدا, والدليل علي ذلك مؤشرات كمية وكيفية متعددة.
وقد سبق لنا حين تحدثنا من قبل عن أهمية صياغة رؤية عربية للعولمة ان قررنا ان غياب السياسة العلمية المتكاملة احد الاسباب الكامنة وراء التخلف العربي, وذلك لان اسباب التقدم لايمكن التماسها من خلال استيراد النظريات الجاهزة التي صيغت في البيئات الاجنبية, والتي قد لاتصلح للتطبيق عندنا.
والواقع ان هذه الصياغة قد تؤدي إلي معان لم نقصدها علي الاطلاق, وهي اننا كعرب لاينبغي ان نعتمد علي النظريات الجاهزة التي صيغت في البيئات الاجنبية.
اذ لابد من التفرقة الدقيقة هنا بين النظريات العلمية الخالصة التي تصاغ في إطار العلوم الطبيعية مثل الكيمياء والطبيعة والاحياء, وتلك التي تصاغ في إطار العلوم الاجتماعية والانسانية.
النظريات العلمية من الفئة الأولي لامجال للتحفظ بشأنها لان القانون العلمي بحكم التعريف ـ اذا كان قانونا ثبتت صحته علميا ـ بنطبق في كل مكان فقانون الجاذبية ـ علي سبيل المثال ـ لايختلف تطبيقه من بلد إلي آخر.
غير ان النظريات العلمية الاجتماعية تحتاج إلي رؤية نقدية بصيرة للبحث في مناسبة تطبيقها في المجتمع العربي, لان عديدا من هذه النظريات تختلط فيها الايديولوجية بالعلم.
بعبارة اخري تصاغ نظريات اقتصادية معينة لخدمة النظام الرأسمالي اساسا, وهي بالتالي لاتتسم بالعمومية التي تكفل لها التطبيق في كل المجتمعات, علي العكس فان تطبيقها في مجتمع كالمجتمع العربي قد يكون له اضرار سياسية واجتماعية لاحدود لها.
ولنضرب مثالا علي ذلك بسياسة التكيف الهيكلي التي فرضها كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي علي الدول النامية, كأنها هي النظرية الاقتصادية الوحيدة التي تكفل اصلاح الاقتصاد والمساعدة علي النمو, فقد ادي تطبيقها الفعلي إلي اثار بالغة السلبية تمثلت في التضحية باصول الدولة من خلال برامج غير مدروسة للخصخصة ادت إلي تبديدها لصالح مجموعة من المستثمرين ـ وتم ـ في عديد من الحالات ـ تسريح آلاف العمال أو إحالتهم إلي المعاش المبكر, مما فاقم من مشكلة البطالة, وساعد علي تزايد دوائر الفقر في البلاد العربية, التي اضطرت للخضوع إلي توجيهات المؤسسات الدولية.
ومن هنا يمكن القول انه اذا كانت العولمة عملية تاريخية تتضمن بعض الجوانب الايجابية, إلا فإنه ينبغي قراءة عديد من النظريات والمفاهيم النابعة منها بطريقة نقدية, تسمح لصانعي القرار السياسي في المجتمع العربي, باتخاذ القرار الصحيح النابع من فهم عميق لتغيرات المجتمع العالمي, من ناحية, وتحليل دقيق للواقع العربي من ناحية أخري.
وإذا كان غياب السياسة العلمية المتكاملة هو ـ كما قررنا ـ احد الاسباب الكامنة وراء التخلف العربي, فليس هناك من طريق لاكتساب اسباب التقدم سوي بالبحث عن الاسباب التي عوقت صياغة هذه السياسة والتطبيق الفعال للاستراتيجيات التي تتضمنها, ليس ذلك فقط بل والبحث عن اسباب عدم وجود مشروعات لتوطين التكنولوجيا في العالم العربي.
وقد سبق لي ان عالجت موضوع السياسات العلمية في الوطن العربي عديدا من المرات, تقديرا لأهمية البحث العلمي في اكتساب اسباب التقدم.
وكانت أول محاولة فكرية شاملة لي في دراسة بعنوان مستقبل البحث العلمي في الوطن العربي نشرت في كتابي الزمن العربي والمستقبل العالمي القاهرة دار المستقبل العربي عام1998.
وكان قد سبق لي ان نشرت دراسة متكاملة عن الايديولوجية والتكنولوجيا في مجلة الكاتب عام1969 حاولت فيها مبكرا ان أؤ صل لمولد الثورة العلمية والتكنولوجية وتحديد اثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية, وقد ضمنتها من بعد كتابي الحوار الحضاري في عصر العولمة القاهرة نهضة مصر الطبعة الثانية2002.
في المحاولة الأولي لتشخيص الوضع الراهن لمشكلة البحث العلمي في الوطن العربي ركزت علي ثلاثة مداخل اساسية وهي مدخل سوسيولوجيا العلم( الدراسة الاجتماعية للعلم كنسق اجتماعي), ومدخل السياسة العلمية واخيرا مدخل المشروع النهضوي.
ومدخل سيولوجيا العلم هو الذي يساعدنا في الاجابة علي اسئلة مهمة, من ابرزها ضعف الانتاج العلمي للباحثين العرب كما وكيفا, وانقطاع الصلة بين اتخاذ القرار والبحث العلمي, والاعتماد اساسا علي نقل التكنولوجيا من البلاد المتقدمة, وهجرة العقول العلمية العربية.
اما مدخل السياسة العلمية التي اصبحت الآن مبحثا علميا مستقلا له خبراؤه ومنظروه, فهي تتعلق اساسا باستراتيجية وتكتيك البحث العلمي في بلد معين, بمعني انها هي التي تحدد اهداف البحث العلمي, ووسائل تحقيق هذه الأهداف وأهم من ذلك كله تحديد اولويات البحث العلمي, واقامة التوازن المطلوب بين البحوث الاساسية والبحوث التطبيقية, وهي التي تضع خطة انشاء المراكز العلمية, وتحدد نوعية تأهيل الباحثين وتدريبهم, وتعقد الصلة بينهم وبين صانع القرار السياسي من ناحية والقطاعات الصناعية والانتاجية من ناحية أخري.
كانت هذه هي المداخل الاساسية التي اقترحناها لدراسة مشكلة تحليل الوضع الراهن للبحث العلمي العربي, والتي تشير إلي عدم ادراك النخب السياسية العربية الحاكمة لاهمية ترسيخ قواعد البحث العلمي في المجتمع العربي لاكتساب اسباب التقدم من ناحية, وتقصير نخبة الباحثين العلميين العرب من ناحية أخري في السعي المنهجي لاقناع صانعي القرار بأهمية المشروع العلمي العربي.
غير ان هناك اجتهادات جديدة في هذا الموضوع تذهب إلي ان المشكلة لا تكمن في اتجاهات النخب السياسية العربية الحاكمة ولا في تقصير العلماء العرب, وانما في كون رؤية العالم السائدة في المجتمع العربي تتناقض مع المفهوم المعاصر للعلم كما يمارس في المجتمعات المتقدمة, وان هذا هو سر التخلف العربي في مجال العلم.
إلي اي حد تصدق هذه النظرية؟ ونحن تحتاج إلي قراءة لها نعرض فيها لدعاواها الرئيسية, قبل ان نتناولها بالتحليل النقدي.