اقتباس:
قال الألباني في “ السلسلة الصحيحة “ 5 / 608 : أخرجه أبو داود الطيالسي في “ مسنده “ ( 2712 ) : حدثنا نوح بن قيس قال حدثني عمرو بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن # ابن عباس # قال .. قلت : و هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال مسلم , غير عمرو بن مالك النكري , و هو ثقة , كما قال الذهبي في “ الميزان “ ذكره فيه تمييزا , و وثقه أيضا من صحح حديثه هذا ممن يأتي ذكرهم .و أخرجه البيهقي في “ سننه “ ( 3 / 98 ) من طريق الطيالسي و أخرجه أحمد ( 1 / 305 ) و الترمذي ( 2 / 191 - بولاق ) و النسائي ( 1 / 139 ) و ابن ماجة ( 1046 ) و ابن خزيمة في “ صحيحه “ ( رقم 1696 - 1697 ) و ابن حبان ( 1749 ) و الطبري في “ تفسيره “ ( 14 / 18 ) و الحاكم ( 2 / 353 ) و البيهقي أيضا من طرق أخرى عن نوح ابن قيس به . و قال الحاكم : “ صحيح الإسناد , و قال عمرو بن علي : لم يتكلم أحد في نوح بن قيس الطاحي بحجة “ و وافقه الذهبي و قال : “ هو صدوق خرج له مسلم “ . و قال في “ الميزان “ : “ صالح الحال “ . قلت : لم يحك هو و لا الحافظ في “ التهذيب “ عن أحد من الأئمة تضعيفه إلا رواية عن ابن معين , و هي مع كونها لا تصح عنه لأن أبا داود قال : “ بلغني عن يحيى أنه ضعفه “ , فهي معارضة برواية عثمان الدارمي عنه أنه ثقة . و هذه مع صحتها فهي المطابقة لقول أحمد و سائر الأئمة الذين وثقوه . فهي العمدة . و إذا عرفت هذا فقد أعل الحديث بالإرسال , فقال الترمذي عقبه : “ و روى جعفر بن سليمان هذا الحديث عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء نحوه , لم يذكر فيه “ عن ابن عباس “ و هذا أشبه أن يكون أصح من حديث نوح “ . و اعتمده الحافظ ابن كثير في “ تفسيره “ ( 5 / 12 - 13 ) , و قال : “ حديث غريب جدا و فيه نكارة شديدة “ . و هذا الإعلال ليس بشيء عندي و ذلك من وجوه . أولا : إرسال جعفر بن سليمان للحديث , و مخالفته لنوح بن قيس لا تضر , لأنه لو كان في الثقة في مرتبة نوح , لورد هنا القاعدة المعروفة في علم المصطلح : زيادة الثقة مقبولة . فكيف و هو دونه الثقة ? فإنه و إن كان من رجال مسلم فقد ضعفه غير واحد من الأئمة , منهم البخاري , فقال : “ يخالف في بعض حديثه “ . و هذا و إن كان لا يسقط حديثه بالمرة , فإنه يسقطه عن المرتبة العليا من الصحة . و يجعله لا يعتد به عند المخالفة , و لذلك قال الذهبي في “ الميزان “ : “ و هو صدوق في نفسه و ينفرد بأحاديث عدت مما ينكر و اختلف بالاحتجاج بها , منها ( فساق أحاديث له , قال : ) و غالب ذلك في ( صحيح مسلم ) “ . و إذا كان الأمر كذلك , فوصل نوح بن أبي قيس مقدم على إرسال جعفر , لأنه أوثق منه و لأن الوصل زيادة من ثقة فيجب قبولها . ثانيا : الغرابة التي أشار إليها منفية بمجيء أصل الحديث من طرق أخرى و لو باختصار . 1 - فقال الحاكم عقب ما نقلته من كلامه السابق : “ و له أصل من حديث سفيان الثوري , أخبرناه أبو بكر الشافعي : حدثنا إسحاق بن الحسن حدثنا أبو حذيفة حدثنا سفيان عن رجل عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : *( المستقدمين )* : الصفوف المقدمة *( و المستأخرين )* : الصفوف المؤخرة “ . 2 - روى الطبري عن المعتمر بن سليمان عن أبيه عن رجل : أخبرنا عن مروان بن الحكم أنه قال : كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء , قال : فأنزل الله : *( و لقد علمنا المستقدمين منكم و لقد علمنا المستأخرين )* . 3 - و أخرج بن مردويه عن داود بن صالح قال : قال سهل بن حنيف الأنصاري : أتدرون فيم أنزلت : *( و لقد علمنا المستقدمين منكم ...)* الآية ? قلت : في سبيل الله , قال : لا , و لكنها في صفوف الصلاة . ذكره في “ الدر المنثور “ ( 4 / 97 ) . قلت : فهذه الروايات و إن كانت لا تخلو من ضعف , فبعضها يشد بعضا , فهي صالحة للاستشهاد و يدل مجموعها على أن الآية الكريمة نزلت في صفوف الصلاة , فأين الغرابة ? ! و إن كان المقصود بها غرابة المعنى و مباينة تفسير الآية بما دل عليه سبب النزول لما قبلها من الآيات : *( و أرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه . و ما أنتم له بخازنين . و إنا لنحن نحيي و نميت و نحن الوارثون . و لقد علمنا المستقدمين منكم و لقد علمنا المستأخرين . و إن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم )* <1> . فالجواب : أن المعنى المستفاد من سبب النزول ليس مباينا للعموم الذي تدل عليه الآية بسباقها و سياقها , و من المعلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب , قال العلامة الآلوسي في “ روح المعاني “ ( 4 / 290 ) : “ و من هنا قال بعضهم : الأولى الحمل على العموم , أي : علمنا من اتصف بالتقدم و التأخر في الولادة و الموت و الإسلام و صفوف الصلاة و غير ذلك “ . و هو يشير بذلك إلى الإمام ابن جرير رحمه الله , فإنه اختار حمل الآية على العموم المذكور ثم قال : “ و جائز أن تكون نزلت في شأن المستقدمين في الصف لشأن النساء , و المستأخرين فيه لذلك , ثم يكون الله عز وجل عم بالمعنى المراد منه جميع الخلق , فقال جل ثناؤه لهم : قد علمنا ما مضى من الخلق و أحصيناهم و ما كانوا يعملون و من هو حي منكم , و من هو حادث بعدكم أيها الناس ! و أعمال جميعكم , خيرها و شرها , و أحصينا جميع ذلك , و نحن نحشرهم جميعهم فنجازي كلا بأعماله إن خيرا فخيرا , و إن شرا فشرا , فيكون ذلك تهديدا و وعيدا للمستأخرين في الصفوف لشأن النساء , و لكل من تعدى حد الله و عمل بغير ما أذن له به , و وعدا لمن تقدم في الصفوف لسبب النساء , و سارع إلى محبة الله و رضوانه في أفعاله كلها “ . و هذا في غاية التحقيق كما ترى . جزاه الله خيرا . ثالثا : و أما النكارة الشديدة التي زعمها ابن كثير رحمه الله , فالظاهر أنه يعني أنه من غير المعقول أن يتأخر أحد من المصلين إلى الصف الآخر لينظر إلى امرأة ! و جوابنا عليه , أنهم قد قالوا : إذا ورد الأثر بطل النظر , فبعد ثبوت الحديث لا مجال لاستنكار ما تضمنه من الواقع , و لو أننا فتحنا باب الاستنكار لمجرد الاستبعاد العقلي للزم إنكار كثير من الأحاديث الصحيحة , و هذا ليس من شأن أهل السنة و الحديث , بل هو من دأب المعتزلة و أهل الأهواء . ثم ما المانع أن يكون أولئك الناس المستأخرون من المنافقين الذين يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر ? بل و ما المانع أن يكونوا من الذين دخلوا في الإسلام حديثا , و لما يتهذبوا بتهذيب الإسلام , و لا تأدبوا بأدبه ?
[1] الحجر : الآية : 22 - 25 . اهـ .