-
حتى لا نفتـرق !!
حتى لا نفتـرق !!
4/7/1430 - الشيخ سليمان الماجد
جعل الله الاختلاف بين الناس سنة اجتماعية لازمة ، ومن أظهر حِكَمها : امتحان القلوب وتمحيص الصدور ، قال الله تعالى : "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" المائدة (48) .
وسواء كان هذا الاختلاف في الموضوع ، أو كان ذلك بسبب التفريط في تحقيق أوليات الجدل والمناظرة ؛ كإزالة عراقيل الاتفاق بين المختلفين في الوسائل مما قد يكونوا متفقين في موضوعه .
ولنتحدث عن أسهل الأمرين وهي عراقيل الاتفاق في الوسائل ؛ لأنها تزيل الكثير من أسباب الاختلاف ، ونجعل البحث في سبل التعامل في الاختلاف في الموضوع لموضع غير هذا .
فمن معوقات الوسائل :
غياب المعلومة : فالجهل بالشيء يؤدي إلى الاختلاف ؛ فيما يمكن حسمه بالوقوف على معلومة بسيطة .
ولهذا يقع المنازع الجاهل في موقف لو نظر إلى نفسه بعد علمه لقال : يا ليتني مت قبل هذا . قال الله تعالى : "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه" . ويقول الشافعي : ناظرت مائة عالم فغلبتهم وناظرني جاهل واحد فغلبني .
وما ذلك إلا لأن الجاهل يحتج ببحر لا ساحل له ، وعالم لا نهاية له آلا وهو الجهل ؛ فإذا كان كل معلوم يجهله ، وأنه يرى جهله به عِلْمٌ ؛ فما يجهله أكثر مما يعرفه العالم من المعلومات ، مهما بلغ في علمه .
وإنما عُرف حسن العلم بآثار الجهل ؛ فأخطر آثاره وضع الشيء في غير موضعه ، وكذلك الجمع بين المفترقات ، والتفريق بين المتماثلات ، وإعطاء الشيء حكماً مبنياً على الوهم والشك .
وليحذر المناظر والمتحدث من الاعتماد على الثقافة العامة والمطالعة السريعة ، أو أن يتكلم في فن لا تخصص له فيه إلا بعلم ومشورة .
ولهذا أدام العقلاء الصمت ، وتركوا الخوض فيما لا يحسنونه .
قال الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (2/31) عن طالب العلم : ( .. ويحفظ لسانه من إطلاقه فيما لا يعلمه , ومن مناظرته فيما لا يفهمه ) .
ومن ذلك : عدم الفرز عند النظر في الأمور المتشابكة المتداخلة :
حيث يقع التداخل بين الأمور المتعددة ، كما يقع بين الشخص والمسألة ، وكذلك بين شخص وشخص ؛ فيحصل غبش الرؤية فينتج خطلا في الحكم .
فلو أن الناظر أو المناظر عزل كل حالة ودرس ظروفها المحيطة والدليل المؤثر في كل مسألة لأعطى كل واحدة حقها من الحكم الذي قد يخالف الأخرى ، ولما وقع خلاف مع أحد في مسائل كثيرة .
فأما التفريق بين الأشخاص فهي عكس مسألة التعميم المذمومة ، والقاعدةُ الجَهُولُ عند البعض هي : أن ما فعلته أمة أو طائفة هو فعل جميع أفرادها ؛ فتقع الأحكام الجاهلة ويقع بسببها التنازع والخلاف .
وأما التفريق بين الشخص والمسألة ؛ فمثل قضية التكفير : فيرى البعض أن النصوص العامة التي تحدد سبب الكفر هي حكم بالخصوص على كل شخص قام به ذلك السبب فوقع التنازع ، وحصل التكفير والتبديع ، وكذلك تفسيق أو تجهيل من لم يكفر .
وقد بين الإمام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (12/487) سبب الخطأ والانحراف وأنه عدم التفريق بين القول والقائل .
فهنا فرقوا بين سبب الكفر وبين فاعله ، رغم التداخل الشديد والتمازج شبه الكلي ؛ فالفعل قد قام بالمعين ، ونصوصُ الشريعة دلت على أن من قال هذا أو فعله فهو كافر ، ولكن الموفقين من محققي العلماء حين فرقوا بين الشيء وفاعله أو قائله انتهوا إلى نتائج عظيمة وهي تخلف وصف الكفر في أحايين كثيرة ، وحينئذ يبقى وصف الإسلام وتُستصحب جميع أحكامه ؛ بينما أقدم البعض على التكفير ، وترتيب آثاره بغير علم ولا بصيرة .
ومن أمثلة ذلك مسألة احتفال البعض بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد قرر الإمام ابن تيمية في "الاقتضاء" (ص291) بأن مما لا أصل له في الدين الاحتفال بالمولد النبوي ، وأن الناس يفعلونه ( .. محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له ، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد ، لا على البدع ) .
فحين لم يستطع محقق الكتاب أن يستوعب صحة الدافع وثبوت الأجر عليه وهو المحبة من جهة ، وبطلان العمل لمخالفته السنة من جهة أخرى تعقب ابن تيمية ورد قوله .
وابن تيمية إنما جزأ الحال إلى أقسامه الصحيحة ، ثم أعطى كل حال حكمها :
فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم القائمة في القلب عقيدة راسخة لا يصح الإيمان إلا بها ؛ فيؤجر عليها العبد ؛ كما يأثم بل يكفر بالنفاق الاعتقادي وذلك حين يكره الرسول صلى الله عليه وسلم .
وحصول البدعة بالمولد دفعت إليها المحبة ، وبطلان هذه البدعة لا يعود على الدافع الصحيح وعبادة المحبة المستقلة بالبطلان إلا بدليل ، ولا أعلم دليلا يبطلها ؛ بل نص أهل السنة على أن السيئة لا تبطل الحسنة ، وأن العكس هو الصحيح .
ومن ذلك اعتبار لازم القول قولا لصاحبه فهنا يقع التداخل والارتباط باللازم العقلي ، وربما كان ضروريا ، لكن القائل لم يلتزمه ، وربما لم يخطر بباله ، وربما نفاه وتبرأ منه فلا يُعتبر لازم القول قولا لصاحبه ، وعلى هذا جماهير علماء الأصول والعقائد .
ومن ذلك أن المنسوب إلى فرقة لا يأخذ حكمها حتى يلتزم قولها : فهنا يقع التداخل أيضا ؛ فالفرقة لها منظومة معتقدات فإذا انتسب إليها إنسان قفز إلى الذهن ما في كتبها فألصقها بمن انتسب إليها ، وهذا الارتباط واللزوم إنما يقعان في الذهن ، ولكن بلا برهان ؛ بل إن صريح العقل وأصول العدل ينفيانه ، ولكنه يظل مسيطرا على صاحبه حتى يعده برهانا قطعيا لا يقبل جدلا ولا مناظرة .
وقد قرر الإمام السبكي رحمه الله في "قضاء الأرب في أسئلة أهل حلب" (ص524) أن الحكم على المعين بما تعتقده طائفته غير صحيح ، وأن من شرط تكفير المعين اعتراف الشخص به .
كما قرر الإمام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (3/352و353) أن المنسوبين إلى أهل البدع المغلظة كالباطنية منافقون ، وأنه تجري عليهم أحكام الإسلام .
ومن ذلك عدم تحرير المصطلحات ؛ فترى أن المختلفين يتنازعون إلى حد رفع الصوت أو السب والشتم ، ولا خلاف بينهما في الحقيقة ، وإنما كان السبب عدم تحرير بعض المصطلحات ؛ فهذا يريد من المصطلح شيئا لا يريده ذاك ، وصار كل واحد منهما يحاكم الآخر إلى ما في ذهنه عن هذا المصطلح .
وذلك كمصطلح "الوطنية" يراد به معاني فاسدة وصحيحة ؛ فما لم يحرر المقصود منه سيبقى الناس في نزاع حوله .
ومثل ذلك مصطلح "الديموقراطية" يراد به في الغرب حكم الشعب بالشعب دون حدود أو قيود ، ويراد به في أماكن أخرى أن تكون وسيلة لانتخاب أهل العقد وأن يصدر قرارهم بالأغلبية في شؤون الأمة ، كل ذلك بما لا يخالف الشريعة .
سنجد بنحو هذه الوسائل أن كثيرا من خلافاتنا ، بل وظنوننا السيئة في إخواننا قد انتهت :
"ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا" .
المصــــدر
-
رد: حتى لا نفتـرق !!