وبتلكم الطريقة الرديئة الوخيمة والحجج الواهية اللئيمة يتعلقون، وبها دعاة السنة يُسَقَّطُون، وإلى تبديعهم وهجرهم الناس يَدْعُون، وليس في جُعَبِ هؤلاء في الأغلب اللهم إلا بعض العمومات والإطلاقات التي قد تقع في كلام أؤلئك أو مما قد يَسبق به اللِّسان أو يزلُّ به القلم والبَنان مما لا تَتبُتُ به حجة عند الكريم الرحمن يوم تُعرَضُ في الأعمال وما يُخفيه الجنان، ولو أنهم – هدانا الله وإياهم- تمهلوا ثم تثبتوا وتحلوا بالأناة، بعدما سألوا ومن قبلُ الله راقبوا، لعلِموا أن أؤلئك على خلاف ما قد ظنوا أو إستساغوا فهمه، ولكن العصبية العمياء ومماشاة الدهماء أعمت أصحابها عن إدراك الحقائق واستبصار المقاصد العظيمة لهذا الدين الحنيف.
وقد قيل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة :: كما أن عين السخط تبُدي المساويا
وقيل أيضاً:
نظروا بعين عداوة لو أنها :: عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا
وأما الفاجعة الأخرى - كأن الأولى لم تكفي - حمل هذا الصنيع بعضَ الدعاة الأخيار إلى الإنزواء والإبتعاد عن ساحة التدريس والتربية والدعوة، صيانة لأعراضهم من الإفتراءات وخوفاً على حياة قلوبهم من الصراعات، وفي مثل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: ( إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ. )[25]
وما أمتع ما قاله الشيخ بكر أبو زيد - رحمة الله عليه -:( ومِن طرائقِِهم: ترتيبُ سوء الظنِّ،وحملُ التصرُّفاتِ -قولاً، وفِعلاً - على محامِلِ السُّوء والشُّكُوك. ومِنه: التناوُش مِن مكانٍ بعيدٍ؛ لحَمْلِ الكلامِ على مَحامِل السُّوء- َبعْدَ بذْل الهَمِّ القاطِع للترصُّد، والتربُّص-والفرح العظيم بأنَّهُ وَجَدَعلى فُلان كذا ! وعلى فلان كذا !!
ومتى صارمِن دِين الله: فرُح المسلم بُمقاَرفةِ أخيه المسلم للآثام ؟!
ألا إنَّ هذا التَّصَُّيدَ داءٌ خبيثٌ؛ مَتَى ماتمكَّن مِن نفس أطفأ ما فيها مِن نور الإيمان، وصَيَّرَ القلبَ خراباً يباباً، يستقبلُ الأهواءَ والشهواتِ، ويُفرِزُها- نعوذُ بالله مِن الخذلان.)[26]
ولنعتبر بما قاله الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله -:(فإنني في بعض الأحيانقد يبدر مني أثناءحديثي عبارات في أشخاص أو كلمات في أعيانأو هيئات، ماقلتهاإلاغيرة على الدين واهتماماً بأحكامه، لاتحريضاً على أحد ولاإثارةلأحقاد وليس هذا غريباً من أمثالنا نحن الخلف والمحاطين بظلمات من الفتن، فقد صدر نحوها أو مثلها -أو هو أقسى منها- من الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعضالصحابة، مثل قول أحدهم للرسول صلى الله عليه وسلم: ماشاء الله وشئت يارسول الله، فقال: ( أجعلتني لله ندا ؟ )، وقوله صلى الله عليه وسلم لذلك الخطيب الذي قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد،ومن يعصيهما فقد غوى. فقال عليه الصلاة والسلام ( بئس خطيب القوم أنت ) فمثل هذه الكلمات لايجوز أن يبنى عليها اتهام لقائليها، ولكن ابتلينا في العصر الحاضر بأناس يتتبعون العثرات والمتشابهات ويعرضون عن المحكمات الواضحات المؤكدات لما قلنا ، بقصد إيقاع الفتنة بين الإخوة المؤمنين، أو بينهم وبين بعض أولياء الأمور ، ولذلك رأيناأننعدل بعض الكلمات التي تبين لنا بعد دراسة محتويات كثير من الأشرطة المنسوخة أنها من ذاك القبيل، وأنالأولى عدم النطق بها، ثم ليمت المفسدون في الأرض غيظاً،أولئك الذين قال الله في حق أمثالهم { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وقال نبينا صلى الله عليهوسلم: (يامعشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لاتغتابوا المسلمين، ولاتتبعواعوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع اللع عورته فضحهولو في جوف بيته)[27]
وهذا الإمام ابن القيم - رحمه الله - يعقد في كتابه إعلام الموقعين فصلا أسماه: [ لا بد من اعتبار النية والمقاصد في الألفاظ ] وقال: ( وهذا الذي قلناه من اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ ، وأنها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصدا لها مريدا لموجباتها ، كما أنه لا بد أن يكون قاصدا للتكلم باللفظ مريدا له ، فلا بد من إرادتين : إرادة التكلم باللفظ اختيارا ، وإرادة موجبه ومقتضاه ، بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ )[28]
وقال أيضاً -رحمه الله-: ( وسأله صلى الله عليه وسلم الحجاج بن علاط ، فقال : إن لي بمكة مالا ، وإن لي بها أهلا ، وإني أريد أن آتيهم ، فأنا في حل إن أنا نلت منك أو قلت شيئا ؟ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء. ذكره أحمد .
وفيه دليل على أن الكلام إذا لم يرد به قائله معناه إما لعدم قصده له ، أو لعدم علمه به ، أو أنه أراد به غير معناه ؛ لم يلزمه ما لم يرده بكلامه ، وهذا هو دين الله الذي أرسل به رسوله)[29]
وقال: ( وأما سبق اللسان بما لم يرده المتكلم فهو دائر بين الخطأ في اللفظ والخطأ في القصد ؛ فهو أولى أن لا يؤاخذ به من لغو اليمين ، وقد نص الأئمة على مسائل من ذلك)[30]
أما تقليد الرجال ولو كانوا علماء فضلاء فقد نهى الله سبحانه وتعالى عنه في مُحكم تنزيله فقال جل وعلا: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)[31]
وقد نهى الصحابة رضي الله عنهم والأئمة من بعدهم عن تقليدهم، فهذا الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: ( ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمنوإن كفرَ كفر، فإنه لا أسوة في الشر )
وما ذاك إلا لأن المقلد لا يُبصِر إلا ظاهر الأمور التي يراها، ومجرد إبصاره لهذا الشيء لا تعني فقهه وإدراكه لها، فحصولهما يستلزمان وجود العلم الكافي والنظر والتبيّن عنده. وهذا ما يتعارض مع التقليد الذي يعمل على تعطيل العقل والتفكير وتجاهل الحجة والدليل الذي يؤدي بصاحبه للإعراض عن الحق والهدى والوقوع في الباطل والردى، و من أجل ذلك عابه ربنا جل وعلا في كتابه فقال: )وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا (
فلذاك لم نجد أحداً من الأئمة المتبوعينَ يُسيغُ لأتباعه تقليده من غير حجة ولا دليل، بل نهوا عنه وزجروا، وللدليل والبرهان بواضح الحجة وسَاطِع البيان أوصوا ذويهم وتلامذتهم ومحبيهم وأمروا، وعلى رأسهم أصحابُ المذاهب الأربعة المشهورين – رحم الله الجميع -:
قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس – رحمه الله - يقول: ( إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ماوافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.)
وقال: ( ليس أحدبعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم.)
وقال الإمام أبوحنيفة النعمان بن ثابت - رحمه الله -: ( لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه.) وقال: ( حرامعلى من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي، فإننا بشر نقول القول اليوم ، ونرجع عنه غدا. )
وقال: ( إذا قلت قولا يخالف كتاب الله، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركواقولي. )
وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي – رحمه الله -: ( ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة من سنن رسول اللهصلى الله عليه وسلم وتغيب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل فيه عند الرسولصلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوقولي. )
وقال: ( إذا صح الحديث فهو مذهبي. )
وقال: ( انظروا في قولي، فإذا رأيتموه يوافقحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا به، وإذا رأيتموه يخالفه فاضربوا به عرضالحائط. )
وقال إمام السنة أحمد بن حنبل – رحمه الله -: ( كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلىالله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت ، فأنا راجع عنه في حياتي وبعد موت. )
وقال: ( لا تقلدني، ولا تقلد مالكا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري،وخذ من حيث أخذوا.)[32]
ولقد نظم بعض أهل العلم هذه الأقوال فجمعها واختصرها قائلاً:
وقول أعلام الهدى لا يعمل :: بقولنا بدون نص يفهم
فيه دليلالأخذ بالحديث :: وذاك في القديم والحديث
قال أبو حنيفةالإمام :: لا ينبغي لمن له إسلام
أخذاً بأقوالي حتى تعرض :: على الحديث والكتاب المرتضى
ومالك إمام دار الهجرة :: قال وقد أشار نحو الحجرة
كل كلام منه ذو قبول :: ومنه مردود سوى الرسول
والشافعي قال إنرأيتم :: قولي مُخالفاً لما رويتم
من الحديث فاضربوا الجدار :: بقولي المخالفالأخبار
وأحمد قال لا تكتبوا :: ما قلته بل أصل ذاك فاطلبا
فانظرمقالات الهداة الأربعة :: واعمل بها فان فيها منفعة
بقمعها لكل ذي تعصب :: والمنصفون يكتفون بالنبي
فإن كان تقليد الأئمة من السلف - الذين زكاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - خلاف الدليل مذموماً، فكيف بتقليد المتأخرين الذين جائوا بعدهم بأمد طويل ؟ ومن عاب تقليد الأولين فيما قد يكون خيراً، فمِن باب أولى إلزام نفسَه بِعدَم تقليدِ المتأخرين فيما هو قطعاً شرًّا !!
فتنبه – رحمنا الله وإياك - واعلم أنه لا يجوز أبداً في أي حال من الأحوال تنصيب أحد من الناس وإلزام العِباد باتباعه دون برهان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: ( من نصَّب إماماً فأوجب طاعته مطلقاً اعتقاداً أو حالاً فقد ضل في ذلك كأئمة الضلال الرافضة الإمامية حيث جعلوا في كل وقت إماما معصوما تجب طاعته فإنه لا معصوم بعد الرسول ولا تجب طاعة أحد بعده في كل شيء والذين عيّنوهم من أهل البيت منهم من كان خليفة راشداً تجب طاعته كطاعة الخلفاء قبله وهو علي، ومنهم أئمة في العلم والدين يجب لهم ما يجب لنظرائهم من أئمة العلم والدين كعلي بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وجعفر ابن محمد الصادق. ومنهم دون ذلك. وكذلك من دعا لاتباع شيخ من مشايخ الدين في كل طريق من غير تخصيص ولا استثناءوأفرده عن نظرائه كالشيخ عدي؛ والشيخ أحمد؛ والشيخ عبد القادر؛ والشيخ حيوة؛ ونحوهم. وكذلك من دعا إلى اتباع إمام من أئمة العلم في كل ما قاله وأمر به ونهى عنه مطلقاكالأئمة الأربعة ) [33]
وقال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: ( تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعيالمطلوب شرعاً ضــلال) [34]
فالإستدلال والإحتجاج، يكون بالنصوص لا بالشخوص، يقول ابن الجوزي - رحمه الله -: (واسمع مني بلا محاباة: لا تحتجن علي بأسماء الرجال ، فتقول: قال بشر، و قال إبراهيم بن أدهم ) [35]
وهذه والله لمن أعظمالمننالتي من الله بها علينا – معشر المسلمين - أن جعل ديننا دين علم ودليل وتأصيل وتقعيد، لا دين آراء وتزيين وكثرة في القيل والمقيل.
ومَثَلُ هذا التقليد قد يؤدي بصاحبه حتماً الوقوع فيما وقع فيه أهل البدع والأهواء من قَبلُ، قال الإمام أبو الحسن الأشعري – رحمه الله - في الإبانة: ( أما بعد فإن كثيراً من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضي من أسلافهم فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلاً لم ينزل الله به سلطاناً ولا أوضح به برهاناً ولا نقلوه عن رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف المتقدمين. )
وما ذاك إلا من باب حُسن الظن برؤسائهم وبمن سبقهم من كبرائهم، قال الإمام ابن القيم –رحمه الله- في اجتماع الجيوش: ( ثم يعزم له التقليد وحسن الظن برؤسائه وسادته على اتباع ما قالوه دونها، ويقول مسكين الحال: هم أخبر بها مني وأعرف. )
قال الله جلَّ في علاه وتعالى في عالي سماه : )أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)[36](
قال الإمام الطبري في تفسيرها: ( وفي هذا دليل على إبطال التقليد )
وقال الإمام الشوكاني في تفسير هذه الآية المتقدمة: ( وهذا من أعظم الأدلة على بطلان التقليد وقبحه، فإن هؤلاء المقلدة في الإسلام إنمايعملون بقول أسلافهم ويتبعون آثارهم ويقتدون بهم، فإذا رام الداعي إلى الحق أنيخرجهم منالضلالة أو يدفعهم عن بدعةقد تمسكوا بها وورثوها عن أسلافهم بغير دليل نيِّر ولا حجة واضحة، بل بمجرد قال وقيل: لشبهة داحضة وحجة زائفة ومقالة باطلة.) [37]
وقال الإمام أبو محمد ابن حزم -رحمه الله-:( ويقال لمن قال بالتقليد: ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدت أنت، بل كفّر من قلدته أنت أو جهّله.
فإن أخذ يستدل في فضل من قلده كان قد ترك التقليد، وسلك في طريق الاستدلال من غير التقليد، وقد أفردنا في إبطال التقليد باباً ضخماً قرب آخر كتابنا هذا استوعبنا فيه إبطاله وبالله التوفيق.)[38]
وقال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر –رحمه الله- في كتابه الجامع، ( باب فساد التقليد ونفيه ):
( قال لمن حكم بالتقليد : هل لك من حجة فيما حكمت به ؟ فإن قال : نعم، أبطل التقليد ؛ لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد (!))
و قال:
( يُقال لمن قال بالتقليد : لم قلت به ؟ وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا؟
فإن قال : قلدت لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم أحصها .والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني .
قيل له : أما العلماء ، إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه . ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض . فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض. وكلهم عالم ، والعالم الذي رغبت عن قوله ، أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه .
فإن قال : قلدته لأني أعلم أنه صواب .
قيل له : علمت ذلك بدليل من كتاب الله أو سنة أو إجماع؟
فإن قال نعم . أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل .
وإن قال : قلدته لأنه أعلم مني .
قيل له : فقلد كل من هو أعلم منك .
فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا ولا تخص من قلدته إذ علتك فيه انه أعلم منك .
فإن قال : قلدته لأنه اعلم الناس .
قيل له : فإنه إذا أعلم من الصحابة وكفى بقول مثل هذا قبحا .
فإن قال : قلدته لأنه أعلم الناس .
قيل له : فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم ، ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله؟
على أن القول لا يصح لفضل قائله ، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه.(!) )
ولو كان هذا المقلد يكتفي بإلزام نفسه لهان الخطب وسهُل، ولكن الداهية الدهماء والنازلة الصماء من هذه التَّبعية العمياء هي وصول الأمر إلى إِلزَامِ الناس ما لا يَلْزَمُهُم، وتقعيد قواعدَ أساسها تقديس آراء المشايخ وإيصالها إلى حد العصمة وإن كان ذلك حالاً لا مقالاً في الأغلب، وجعل الحق محصوراً في أعيان الناس وآحادهم وتتبع زلات مخالفيهم -فيما قد يسوغ فيه الخلاف وتتسع له الصدور-، هذا والله مخالف لأصول أهل السنة المحكمة المتينة، وقواعدهم المتقنة الدقيقة، ومقاصدهم النبيلة، وهذا الصنيع-وللأسف- من أعظم الأسباب التي حُجِب بها كثير من الناس عن العلم وأهلهوسبيله وضربه، فأبعدوهم عن الطريق السنية وألزموهم طريق التقليد الردية، ولله المشتكى من عظم البلية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: ( ولا يجوز لأحد أن يُرجح قولا على قول بغير دليل، ولا يتعصب لقول على قول، ولا قائل بغير حجة. بل من كان مقلدا لزم حُكم التقليد، فلم يُرجِّح ولم يزيف ولم يُصوِّب ولم يُخطئ
)[39]
وقال الشيخ أحمد بن حسن المعلم - حفظه الله – متمثلاً لمثل هذا:
ونحارب التقليد طول زماننا :: مع حبنا للعالم المتجرد
وكذا الأئمة حبهم متمكن :: من نفس يا برية فاشهدي
وترق أنفسنا لرؤية من غدا :: في ريقة التقليدشبه مقيد
إنا نرى التقليد دائا قاتلا :: حجب العقول عن الطريق الأرشد
جعلالطريق على المقلد حالكا ::فترى المقلد تائها لا يهتدي
فلذا أبتدئنا باجتثاث جذوره ::من كل قلب خائف متردد
ولسوف ندمل دائه و جراحه :: بمراهم الوحيالشريف المرشد
وحسبك في هذا كلِّه ما قاله الإمام ابن عبدالبر – رحمه الله - بعد إيراده لتلك المقالاتالتي سبق ذِكرُها، خاتماً لكلامه بقوله: « وهذا مما ذكرنا مما لا يُسمع من قولهم ولا يُلتَفَتُ إليه ولا يُعرج عليه !!»
فالذي يجب حُسنُ معرفته هو أن علم الجرح والتعديل -الذي حفظ الله به السنةَ- ليس بنشر القال والقيل، وحب تتبع العورات وتقصد افتراء الأباطيل، واتهام الأفاضل بغير حجة ولا دليل، وإسقاطِ نُظَّار أهل السنة تِباعاً من غير برهان قاطع ولا تفصيل، فهذا – ومثله - كله لا يصدر إلا من صغار أحداث مجاهيل، مفتقرين للتقعيد والتأصيل، ولم يُجعل هذا العلم لمثل هذه الأصناف، من المتعالمين الأنصاف، البعيدين عن العدل والإنصاف، وإنما المعنيون به هم أصحابه وأهله الراسخون العارفون به، من العلماء الكبار[40] الذي حري بهؤلاء الصغار أن يرجعوا إليهم في تلك الأمور العظام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( البركة في أكابركم )[41] فلا يجوز لهؤلاء ولا ينبغي لأمثالهم أن يتكلموا في المشكلات الشائكات التي تضّل عندها الأفهام وتزّل فيها الأقدام ولا ينفع فيها النِّدام، ومِثل هذا لا يصلح له إلا من كان ذو علم وفِهام للأدلة والأحكام، قادراً على الإستنباط وتقدير المصالح من المفاسد مع تطبيقها بِحكمة ونصح وإرشاد والله الموفق لما فيه الصلاح والرشاد.
قال فضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان – حفظه الله -: ( لا ينبغي للطلبة المبتدئين وغيرهم من العامة أن يشتغلوا بالتبديع والتفسيق، لأن ذلك أمر خطير، وهم ليس عندهم علم ودراية في هذا الموضوع، وأيضا هذا يُحْدِثُ العداوةَ والبغضاءَ بينهم. فالواجبُ عليهم الإشتغالُ بطلب العلم، وكف ألسنتهم عما لا فائدة فيه، بل فيه مضرة عليهم وعلى غيرهم )[42]
فالمقصود أن المسائل المعضلات المشكلات التي لا يُدرك فيها الباطل من الحق كل أحد لا يجوز أن يدخل فيها أي أحد، أما المسائل الواضحات والمنكرات الظاهرات والبدع المعلومات فلابد من كل أحد أن يُبلِّغ حسب ما عَلِمَ وقَدِر !
وإن كانت أغلب هذه النقولات عن العلماء ليست أدلة في حد ذاتها، ومنهج السلف الصالح يأبى أن تكون كذلك، كون أن الدليل عندهم قال الله قال رسوله قال الصحابة، ولكنْ نستأنس بأقوالهم ونستنير - كما قالوا قديماً: أقوال العلماء معتَبرة - لاسيما إن تظافرت بنفس القوة في المسألة الواحدة، فكأنها تنهل - بل تنهل قطعاً - مِن مَنبع واحد وتَصُبُّ في مجرى واحد، فبذلك يمكن أن نستخلص أن لأهل العلم منهج يجب أن يُتَّبع في مثل هذه المسائل، ورحم الله امرءاً عرفها فلزمها.
وما أحسن قول الإمام الصنعاني - رحمه الله - إذ يقول:
على ما جعلتم أيها الناس ديننا :: لأربعة لا شك فيفضلهم عندي
هم علماء الأرض شَرقا ومَغْرِبا :: ولكن تقليدهم فيغد لا يجدي
ولا زعموا حاشاهموا أن قولهم :: دليل فيستهديبه كل من يهدي
بل صرّحوا أنّا نقابل قولهم :: إذا خالفالمنصوص بالقدح والرد
ولعله يَحسُن فِي خِتَام هذه السطور المتواضعة أن أنقل كلاماً جامعاً للحافظ ابن عساكر الدمشقي- رحمه الله - إذ يقول: ( واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته، ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة،وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، لأن الوقيعة فيهم بما هممنه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والإفتراء مرتع وخيم، والإختلاق على منإختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم، والإقتداء بما مدح الله به قول المتبعين منالإستغفار لمن سبقهم وصف كريم، إذ قال مُثنيا عليهم في كتابه وهو بمكارم الأخلاقوصدها عليم، )وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( والإرتكاب لنهيالنبي صلى الله عليه وسلم عن الإغتياب وسب الأموات جسيم،)فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ() [27][43]
وكلمة جامعة أخرى للإمام ابنُ القَيِّم - رحمه الله - إذ يقول في الوابل الصيب: ( وَاعلَم أنَّ الحسرَةَ كُلَّ الحسرَةَ الإشتِغَالُ بمن لا يَجُرُّ عليكَ الإشتغالُ به إلا فَوتُ نَصِيبِكَ وحَظِّكَ منَ اللَِّه عزَّ وجَلَّ، وانقِطَاعكَ عنهُ، وضَياعُ وقتكَ عليكَ، و شَتاتُ قلبِكَ وضعف عزيمتكَ، وتَفرُّقُ هَمِّكَ. فإذَا بُليتَ بهَذا - ولابدَّ لك منهُ- فعَامِل اللهََ تعالى فيهِ، واحتسب عليه ما أمكَنكَ، وتقرَّب إلى اللهِ تعالىبمرضاتِه فيه، واجعَل اجتمَاعكَ به متجراً لك، لا تجعَلهُ خسارةً، وكن معهُ كرجُلٍ سائِرٍ في طَريقِه عرضَ لهُ رجُلٌ أَوْقَفَهُ عن سَيرهِ، فَاجتهِدْ أنْ تَأخُذَهُ معَكَ وتسيرَ به، فتحمِله ولا يَحملُك، فإنْ أبَى ولم يَكُنْ في سيرهِ مَطْمَعٌ، فَلا تَقفْ مَعهُ بلْ اركَب الدَربَ وَدَعهُ ولاتَلتَفِتْ إلَيهِ، فإنَّهُ قَاطِعُ الطَّريق ولَو كَانَ منْ كان، فَانْجُ بقَلْبِكَ وضن بِيَوْمِكَ ولَيْلَتكَ، لا تَغرُب عَلَيكَ الشَمسُ قبْلَ وُصُولِ المنزلة، فَتُؤخَذ أَوْ يَطلع عَليكَ الفَجرُ وَ أَنْتَ في المنزلَة فَيسِيرُ الرِّفاقُ تَصبِح وحدَكَ وأنَّى لَكَ اللَّحاقُ بهِم.)
هذا ما يسر الله كتابته على عُجالة، وأسأل الله أن أكون قد وفيتُ حقه وإن كانت المسألة تستدعي أكثر من هذا وأطول، لكنه لضيق الوقت وخشية السأم فضلت الإختصار على التطويل والله الموفق لما فيه الخير الجميل، وللكلام بقية بإذن الله العزيز الحليم، وصلى الله على نبيّنا الصادق الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين، والحمدلله رب العالمين.
الأربعاء 8 رجب 1430هـ
الموافق: 1/7/2009م