إنَّ خيرَ البرقِ ما الغيثُ معَهْ
ما مثَلي ومثلُ الأخ الواحديِّ إلا كرجلين خرجا يصطادان ؛ حتى إذا توسَّطا عُرضَ السريِّ ، كمَنا فيه يلتمسان صيدًا يصيبانِ منه غِرَّةً . فبينا هما كذلك ، أعرَضَ لهما عانةٌ من حُمُر الوحشِ ، فقبضَ أحدُهما على معجِسِ قوسِه ، وأرسلَ سهمَه :
فخرَّت نحوصٌ ذاتُ جحشٍ سمينةٌ *** قد اكتنزت لحمًا ، وقد طُّبِّقت شحما
فلكزَه صاحبُه ، وقال له : لم تصنع شيئًا لا أبا لك ! فقال : وكيفَ إذن ؟ فانتزعَ القوس من يدِه ، وقال : انظر ، وسترَى .
ولبِثَ مكانَه يتطلَّعُ ، ويتحسَّسُ ، ويترقَّبُ ؛ فما هي إلا هنيهةٌ حتى مرَّت بجانبِه بقرةٌ كأحسنِ ما أنت راءٍ من البقرِ ، واقتربت منه وهي غافلةٌ عن مكانِه منها ، حتى أمكنته ، ولم يبقَ بينه وبينَها إلا مِقدار ذراع ؛ فلو مدَّ يدَه لعلِقَت برَوقيها . فلمَّا رأى ذلكَ ، أقبلَ عليها بسهمِه ، وهو يقلِّبُ عينيه ؛ فتارةً يغمض عينًا ، ويفتحُ أخرَى ، وتارةً يغمضهما معًا ، وتارةً ينظرُ :
بعينٍ كعينِ مُفيض القِداحِ *** إذا ما أراغَ يريدُ الحويلا
وقد عضَّ على شفتيه ، ومدَّ عنقَه ، وحنَى ظهرَه ، ثم لأيًا مَّا أرسلَ سهمَه :
فرمَى ، فأخطأها ، وصادف سهمُه *** حجرًا ففُلِّلَ ، والنضيُّ مجزَّعُ
فهذا مثلي ومثلُ الواحديِّ .
وأنا لا أظلمُه ، ولا أحبُّ أن أكونَ من أهلِ البُهتِ ؛ فأقلبَ ثنائي عليه ذمًّا لحاجةٍ في نفسي ، وأشابِهَ يهودَ ، ولا أن أنزِعَ عنه الحُلَّةَ التي كسوتُه إياها ؛ فأكونَ كالراجعِ في قيئِه . وبعدَ أن كنتُ :
( ينمّ عن بصر حديد نافذ، وتقليب للنظر الناقد لكلام الكبار )
أصبحت :
( وقد قرأت ما جادت به قريحة "أبي قصي" المشاركة رقم: ، [ كذا ] فعلمتُ أن الرجل لا يفهم ما يقرأ، ويقرأ ما لا يَفهم ! ) .
فهذا خبرٌ نادرٌ لرجلٍ كانَ نقدُه ينم عن بصر حديد نافذ ، ثم إذا هو بعدَ أيام فقطْ لا يفهم ما يقرأ ، ويقرأ ما لا يَفهم .
وأحمدُ الله تعالى أنَّ عقلي ليس بيدهِ . إذن كنتُ أصبحُ في زمرةِ العقلاءِ أهلِ البصر الحديدِ ، النافذِ ، وأمسي في مستشفى المجانينِ .
ومثلُ هذا لا تستغرب إذا رأيتَه يلوي الحقائقَ !
و ( يا سلام ) على الإنصافِ !
والأخ الكريم – كما قلت عنه في ردّ سابق – أديبٌ ، ألمعيّ ، ذكي البيان ؛ ولكنَّه لم يؤتَ الحكمةَ ، وفصلَ الخِطابِ ؛ فظنَّ بيانَه مغنيًا عنه شيئًا ، وظنَّ أنه إذا جعلَ يُكثر الردود ، ويغيِّر العناوينَ ، ويلوِّنُها ، ويكبِّرُها ، قطعَ حجَّة خصمِه ، وبكتَه ، وانتصرَ لدوافعِه التي حملته على هذه التعقيباتِ . ووقعَ في وهمِه أنَّ الحوار في هذه المواضيعِ العسِرةِ لا يحتاجُ إلى أكثرَ من قراءةِ كتابٍ ، أو كتابين من كتبِ النقدِ ، معَ استصحابِ الإخلاص ، والنيّةِ الصادقةِ غيرَ شكٍّ ، وأنه متىَ فعلَ ذلك ، فقد استكملَ العُدَّةَ ، وأصابَ الآلةَ ، وبلغَ المبلغَ الذي يؤمِّلُ ، ولم يعجِزْه أن يحاورَ في أيِّ حديثٍ شاءَ ؛ حتى وإن كانَ لا يعرِف فيه قبيلاً من دَبيرٍ ؛ فأقدَمَ على القُحَمِ ، وخاضَ :
*** ... غمارًا تفرَّى بالسِّلاح ، وبالدمِ ***
*** فخرَّ صريعًا لليدينِ ، وللفمِ ***
ثم استزلَّه هذا الوهمُ الخادع عن نفسِه حتى كتبَ ما كتبَ ، وأوغل به خيالُه حينَ رأى أنه يكتبُ من وراء جُدُرٍ ، وأنه إذا كتب الردَّ في الحاسبِ ، ثم رفع رأسَه ، والتفتَ ، لم يلقَ من يعترضُ عليه . ولم تزل نفسُه تمنيِّه ، وتكذبُه حتى ظنَّ أنَّه محمود شاكر . وما دام هو محمود شاكر ، فلا بدَّ أن أكون أنا لويس عوض . وإذن فالأمر صِراعٌ بين هذه الأمة وحضارتِها ، وتراثِها ، وبين أعدائها الذين يتربَّصون بها الدوائرَ ، ويكيدونَ لها المكايِدَ .
وقد قدَّر الله عليَّ في ما قدَّر أن أقرأ كلامه هذا الذي سطَّرَه ؛ فلم يزلْ يتردَّد فيَّ العجبُ : هذا الرجلُ معدودٌ في العقلاءِ ؛ فكيفَ رضِيَ لنفسِه أن يأتيَ ما يأنَف منه العقلاءُ ؟
ولم أجد لهذا جوابًا إلا أنَّ الأهواء متى ما استحكمت ، واستمرَّ مريرُها ، لم يميِّز المرء ما يأتي ، وما يذر ! أكان حقًّا ، أم باطلاً ، وكانَ له من هواه مثلُ الجدارِ الحاجزِ الذي لا يرى مَن بداخله ما وراءَه .
والرجلُ يسترُ ضعفَه العلميَّ بالظرفِ المتكلَّفِ السمْجِ ؛ يحاوِلُ أن يتقفَّى بعضَ من أعرِفُه ، ولا أحبُّ أن أذكرَه ! ونعم ! كان يأتي بالكلامِ المضحكِ ، لا لما فيه من ظرفٍ ؛ ولكن لخيبتِه . وهذا بعضُ كلامِه يتظارَفُ فيهِ ، يقولُ فيهِ معلِّقًا على كلام بعض المعقبين عليَّ [ الكلام بالأزرق ، والتعليق بالأسود ] :
"ومع ذلك (وأولئك، وهنَّ، واللواتي، والبتوع...)، لم يقف السيد أحمد صقر (ولم يقعد، ولم ينم، ولم يرم نفسه في الترعة من شدة الخوف) ليقول من أنا (وأنا مين..) ومن أكون (وازّاي كنت؟ ويا ترى هل أنا كائن؟) حتَّى أردَّ (بالبوكس) على مَن هو (أقوى وأجدع) وأسنّ مني؟ (لأني خايف آخذ علقة ما تتنسيش..)"
انتهى النَّقل... [ قلتُ : والهراء المخجِل الذي أُقحمَ فيه ] .
وهذا الكلامُ الظريفُ ( بالطبع ) هو في رأيي أنجعُ عِلاجٍ للمبتلى بالسمنةِ ، يقرؤه كلَّما نازعته نفسُه إلى الطعامِ ، ليقدَعَها عنه .
والعجيب أنَّه اجتمعَ فيه كلُّ خفَّةٍ إلا خِفَّةَ الدمِ .
نعوذ بالله من تظارُف الثقيلِ ، وثِقَل التظارُفِ .
وما من كلامٍ شريفٍ نبيلٍ إلا وأنت تستطيعُ أن تُدخلَ في متنِه مثلَ هذه التعاليقِ السخيفةِ .
وهذه نصيحةٌ لصاحبِ هذا الكلامِ لعلَّه يقبلُها من أخٍ مشفقٍ عليهِ ، حريصٍ على منفعتِه ؛ وهي أن ينزِعَ عن مثلِ هذا العمَل ؛ فإنه عمَل شاقٌّ لا يحسِنه كلُّ أحدٍٍ ؛ إذ هو من أصعب ضروب الكتابةِ ؛ ولعلَّه أصعبُها . ولم يكن الرجلُ الذي يحاول أن يتقفاه يستعملُ هذه الطريقةَ إلا بمهارةٍ ، وحِذقٍ ، وكانَ لها عندَه مقدارٌ معلومٌ ينتهي إليه ، إذا جاوزته كانت تهريجًا محضًا ، يصلُح أن تُقطَّعَ به الأوقاتُ في المقاهي ؛ ولكنه لا يصلُح في مجالسِ العِلْم .
وهذه التعقيباتُ التي كتبَها لم يكتبها يتحرَّى بها الإنصافَ ؛ فهذه كَذبةٌ لا مساغَ لها ؛ وإنما كتبَها بنفسٍ موتورةٍ ، حنيقةٍ . ولو أنا أحسنَّا الظنَّ به ؛ فقلنا : إنه غضب للسيِّد صقرٍ أن أكونَ خطَّاتُه في مسائلَ ، وقلتُ : إنه لم يفهم هذا المعنَى ؛ فإن قصارَى هذا أن يكونَ غضَبًا لرجلٍ من الناسِ يخطئ ، ويصيبُ .
فهل هذا أحقُّ بالغضبِ أم مَّن يرى رجلاً يقدِمُ على بعض الرواياتِ الصحيحة التي رواها جلَّة من العلماءِ ؛ ثمَّ يقولُ : هذه خطأ ، وهذه خطأ ، وهذه خطأ !
هكذا بكلِّ جرأةٍ ! غيرَ هيَّابٍ ، ولا وكَلٍ !
عجبٌ لتلكَ قضيَّةً ، وإقامتي *** فيكم على تلكَ القضيةِ أعجبُ
وأنا لا أنفي أني قد غضبتُ من هذا الفعلِ من صقرٍ – ولا ألامُ - ، وكنتُ ودِدتُّ لو تحرَّى قبلَ الحُكْمِ ؛ ولكن يبقَى له مع ذلكَ عندي التقديرُ ، والإكرامُ . ولا تناقضَ بين هذينِ - كما سيتبيَّن إن شاء الله - .
أمَّا هذه الكلمةُ الفَجَّةُ التي لا يزالُ الأخ ومَن لفَّ لفَّه يردِّدُها ؛ وهي ( الكبار ) ، فلا قيمةَ لها عندي ، ولا مكانَ لها في ميزاني ؛ فالخطأُ يُردُّ على كلِّ أحدٍ كائنًا من كانَ ، ومراعاةُ العلم أحبُّ إلينا من مراعاةِ الرجالِ ؛ على أن كلمةَ ( الكبار ) كبيرةٌ ، وفيها نظَرٌ قد لا يتبيَّنُ لبعضِ أهلِ هذا الزمانِ ، لأنَّه لا يعرفُ معنَاها، وعلى من تُطلَقُ إلا الكبارُ ، لا الصِّغارُ الذين يظنونَ هذه الكلمةَ ( خردةً ) تباع في سوق ( الحراج ) .
أما القولُ بأنَّ هذا المحقِّقَ ، أو العالمَ لم يفهم هذه القضيةَ ، أو تلكَ ، فلا ينقصُ من قدرِه ، ولا يغُضُّ من مكانتِه . ولعلَّ القارئَ الكريمَ يراجعُ ردِّي رقم ( 9 ) ؛ ففيه تأصيلٌ للنقدِ أرجو أن يَّكون نافعًا .
وللكلامِ بقيَّة ...
ومعذرةً إن تأخرتُ عن الردودِ ؛ فإني إنما جعلتُها مستراحًا ألوذ إليه كلَّما أثقلني الجِدُّ ، وبهظَني المللُ ، ولم أجعل لها من وقتي إلا فضلَه ؛ فلا غروَ أن تطولَ مدَّتُها حتى تبلغَ شهرًا ، أو شهرينِ ، أو سنةً . وسوفَ أتناولُ فيها إن شاء الله جميعَ المسائلِ بالردِّ العلميِّ المفصَّلِ ، ثمَّ أبيِّن جهالاتِ الأخِ ، وتخليطَاتِه ، وسقوطَ استدلالاتِه ؛ حتى إنه ربَّما أتَى بالنقلِ عن بعضِ العلماءِ يظنُّه حجةً له ، وهو حجةٌ عليه ؛ ولكَنْ هكذا يصنعُ الهوَى ، وكذلك يفعلُ من اعتادَ النسخ ، واللصقَ ، ولم يكن له علمٌ سابقٌ يرجعُ إليه ، ويعوِّل عليه .