رد: مفاهيـم تبليغيـة ....................... 7 - العالم يحترق ؟ ! ! !
مثل من آثار الاعتدال في الحكم على المخالفين
لقد جرَتْ لي في تطبيق هذا المنهج قصة أذكرها وإن كانت من باب الحديث عن النفس؛ لما فيها من العبر النافعة.هذه القصة تتلخص في أنني
كنت مدرسًا في معهد الحرم المكي
ما بين عامي سبعة وثمانين وثلاثمائة وألف وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة، وكان من بين طلاب ذلك المعهد طالب من اليمن نبيهٌ، قوي الشخصية، متصلب في التمسك بما يعتقده،
وقد كنت أدرِّس طلاب المعهد في السنة الرابعة منه في مادة التوحيد رسالة "الواسطية" للإمام ابن تيمية رحمه الله، فاعترض ذلك الطالب بشدة على موضوع إثبات جميع الصفات،
وظل يناقش في كثير من الدروس ذلك العام، وكنت ألاطفه وأفتح له صدري على الرغم من انفعاله الشديد في أثناء المناقشات، وكنت أُقدِّر فيه اتصافه بالتقوى والحماسة الدينية
والدفاع بقوة عما يراه هو الحق، ولما حضر الاختبار كتب ما كنت قررته في الدروس، ثم كتب: هذا ما قرره الشيخ، والذي أعتقده هو كذا كذا، وكتب معتقده في ذلك، وقد قدرت له
هذه الصراحة فأعطيته الدرجة الكاملة في المادة!!وفي السنة الخامسة للمعهد درَّست الطلاب رسالة "الفتوى الحموية" للإمام ابن تيمية، وسار معي ذلك الطالب مثل سيره في العام
الماضي، وعاملته بالمعاملة نفسها، وكتب في الاختبار مثل ما كتبه في العام الماضي، وأعطيته الدرجة الكاملة!وفي السنة السادسة درَّست الطلاب رسالة "التدمرية" للإمام ابن
تيمية، وفي أثناء الشرح والتقرير قال ذلك الطالب: أما الآن؛ فإن الشيخ -يعني ابن تيمية- لم يترك مجالاً للمعارضين، ثم سار معي في الدراسة من غير مناقشة، وظهر منه الاقتناع بما
قرره الإمام ابن تيمية في توحيد الأسماء والصفات.ثم انتقلت أنا إلى الدراسات العليا في جامعة أم القرى، وأكمل ذلك الطالب المعهد والتحق بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية،
وتخرج منها وعاد إلى بلاده، وكوَّن له حلقة دراسية كبرت فيما بعد وزاد عدد أفرادها، وصارت له شهرة كبيرة!!
وكنت أقول في نفسي في أثناء تلك المناقشات:
هذا الطالب وأمثاله نشؤوا في مجتمع علمي يرى تأويل بعض الصفات، ويرى علماؤه وطلاب العلم فيه أنهم على الحق، بينما أنا وأمثالي نشأنا في مجتمع علمي يرى عدم تأويل شيء
من نصوص الصفات على خلاف ظاهره، ويرى علماؤه وطلاب العلم فيه أنهم على الحق، ولو أني نشأت في مثل المجتمع العلمي الذي نشأ فيه ذلك الطالب لكنت مثله في الغالب،
فلماذا أعتقد فيه الضلال والابتداع في اعتقاد لولا فارِق المنشأ العلمي لكنت مثله فيه، أليس الأرفق بي وبه والذي هو من مقتضيات الأخوة الإسلامية أن أحكم عليه بالخطأ وأن يحكم
علي هو بذلك، ثم إنْ أقنعته بما أنا عليه رجع إلى الصواب، وإن أقنعني بما هو عليه رجعت إلى الصواب، من غير أن يحصل بيننا تضليل ولا تبديع ولا بغض ولا براءة؟! وإن ظل كل
واحد منا على قناعته فلن يؤثر ذلك على ما بيننا من أخوة ومحبة، ما دام الحكم بيننا لا يتجاوز مرحلة التخطئة.
وإن العبرة التي نخرج بها من هذه القصة أنه ينبغي للعالم المربي تطبيق أسلوب اللين والتفاهم مع المخالفين في العقائد وغيرها من العلم، على اعتبار أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه،
ما داموا مجتهدين أو تابعين لعلماء مجتهدين، وعدم تبديعهم أو تضليلهم، والإبقاءُ على محبتهم القلبية وأخوتهم الدينية وعدمُ البراءة منهم، ولقد طبقت هذا المنهج مع ذلك الطالب
النجيب لمدة سنتين ونصف؛ حتى اقتنع بما كنت أقرره آنذاك من غير ضغط ولا إكراه.وربما لو كنت عاملته بالشدة وعددته مبتدعًا ضالاًّ لزاد تمسكه بمعتقده، خصوصًا فيما لو طُبِّق
عليه ما هو معروف غالبًا من فصل الطالب من الدراسة إذا هو جاهر بمعتقده، الذي يراه بعض المسؤولين بدعة وضلالة.إنك حينما تجادل إنسانًا من أهل العلم في أمر ترى أنك فيه
على الحق ويرى هو أنه على الحق، فتقول له: أنت ضال مبتدع، فإنه سيقول لك في الوقت نفسه :
بل أنت الضال المبتدع!
وإن لم يستطع أن يقولها بلسانه فإنه يعتقدها بقلبه، وهل يرجو الإنسان الداعية من إنسان آخر يضلله ويبدعه أن يسمع لقوله وأن يقتنع برأيه؟!إن الذي يُلوِّح بالهجوم المضاد على
الآخرين ويتهمهم في عقائدهم يكون قد أقام بينهم وبينه سدًّا منيعًا يصعب اختراقه، وبالتالي فإنه يبعد من هذا المهاجم أن يصل إلى قلوب من يريد دعوتهم مهما أوتي من حجة
وبلاغة.
من نتائج الحيدة عن هذا المنهج
هذا المنهج الذي تم بيانه؛ وهو الحكم على المخالفين من أهل الاجتهاد بالخطأ وعدم الحكم عليهم بالابتداع والضلال.. هو المنهج المعتدل الذي يضمن -بإذن الله تعالى- بقاء المودة
والتفاهم بين علماء المسلمين مع اختلافهم في الاجتهاد.ولقد ظهرت نتائج سيئة للحيدة عن هذا المنهج على مدار التاريخ الإسلامي،
فمن هذه النتائج ظهور الفتن والخلافات الحادة بين علماء المسلمين، وسأكتفي بذكر ثلاثة من العلماء الذين حصل لهم أذى واضطهاد بسبب اعتقادهم:
محنة الإمام أحمد بن حنبل:
فالعالم الأول هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وقد كان امتحانه بالقول بخلق القرآن، وقد بدأت هذه المحنة في أواخر عهد أمير المؤمنين المأمون، وذلك في سنة ثمان
عشرة ومائتين، بعد أن أقنعه دعاة المعتزلة بهذه العقيدة؛ وهي أن القرآن مخلوق، فاعتنق ذلك، ثم أقنعوه بضرورة حمل العلماء على القول بهذه العقيدة بالقوة، فكتب المأمون من
مَقَرِّ غَزْوه في بلاد الروم إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم في امتحان العلماء في ذلك.وقد وصف المأمون علماء السنة في كتابه بقوله: ثم هم الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى
قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص مِنْ تلاوته مُبطل قولَهم ومكذِّب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم.إلى أن قال: فرأى أمير المؤمنين أن أولئك
شر الأمة ورؤوس الضلالة، المنقوصون من التوحيد حظًّا، والمخسوسون من الإيمان نصيبًا، وأوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه... إلخ!!
ويقول في كتاب آخر: وقد عظَّم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثَّلم في دينهم، والحرج في أمانتهم، وسهلوا السبيل لعدو الإسلام، واعترفوا بالتبديل والإلحاد على قلوبهم!!
وقد جاء في كتبه الحكم على علماء المسلمين من أهل السنة بالكفر والشرك، مثل قوله في مناقشة جواب بشر بن الوليد:
إذ كانت تلك المقالة الكفر الصراح والشرك المحض عند أمير المؤمنين([1]).وقد اضطر أكثر علماء السنة إلى موافقة المعتزلة في عقيدتهم ظاهرًا؛ ليسلموا من القتل، حيث كان
المأمون ونائبه في بغداد وأعوانهم يهددونهم بالقتل إن لم يقولوا بخلق القرآن، لكن الإمام أحمد أبى أن يقول بخلق القرآن، وقال: القرآن كلام الله تعالى، منزل غير مخلوق، فأرسله
إسحاق بن إبراهيم إلى المأمون ومعه محمد بن نوح؛ حيث ثبت، ولم يقل بخلق القرآن.وقد دعا الإمام أحمد ربه -جل وعلا- ألا يرى المأمون، فمات المأمون قبل أن يصل إليه! فرُدَّ
بقيوده إلى بغداد، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق رحمه الله تعالى.وقد أُدخِل الإمام أحمد السجن وبقي فيه نحوًا من ثلاثين شهرًا، ثم حُمِل بأمر المعتصم إلى إسحاق بن
إبراهيم، فلما دخل عليه قال: يا أحمد، إنها والله نفسك، إنه -يعني المعتصم- لا يقتلك بالسيف، لقد آلى إن لم تجبه أن يضربك ضربًا بعد ضرب، وأن يقتلك في موضع لا يُرَى فيه
شمس ولا قمر!!وأُحضِر الإمام أحمد أمام المعتصم وحوله زعيم المعتزلة أحمد بن أبي دؤاد وبعض علماء المعتزلة، وبدؤوا في مناظرته، فكانوا كلما انقطع واحد أتى آخر، وابن أبي
دؤاد يقول: يا أمير المؤمنين، هو والله ضال مضل مبتدع!!فإذا انقطع مناظروه قال المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول؟! فيقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فيقول أحمد بن أبي دؤاد: أنت لا تقول إلا ما في الكتاب والسنة؟! فيقول له: تأولتَ تأويلات، فأنت أعلم بها، وما تأولتُ ما يُحبس عليه ولا ما يُقيَّد عليه.وجعل ابن
أبي دؤاد يقول: يا أمير المؤمنين، والله لئن أجابك لهو أحب إليَّ من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار، فيَعُدُّ من ذلك ما شاء الله أن يَعُدَّ، فقال: لئن أجابني لأطلقنَّ عنه بيدي، ولأركبن
إليه بجندي، ولأطأنَّ عقبه.ثم قال المعتصم: يا أحمد، إني عليك لشفيق، وإني لأشفق عليك كشفقتي على ابني هارون! ما تقول؟ فيقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله تعالى أو من سنة
رسوله ج!ثم ما زالوا يناظرونه وهو يحاول حصرهم في الكتاب والسنة، وهم لا يريدون ذلك؛ لجهلهم بالسنة، ولعدم مقدرتهم على تأويل جميع آيات القرآن، فلما يئسوا من إجابته
إياهم يما يريدون دعا المعتصم بالعُقابَين؛ وهما خشبتان تُمدُّ عليهم يدا المعذَّب، وبدؤوا بضربه بالسياط، فضربوه ضربًا مبرِّحًا لم يُرَ مثله!! فكان المعتصم يأمر الجلاد بأن يضربه
سوطين بكل قوته، ويقول له: شدَّ قطع الله يدك، ثم يأمر آخر، فلما ضُرب سبعة عشر سوطًا قام إليه المعتصم، وقال: يا أحمد، علام تقتل نفسك؟! إني والله عليك لشفيق!! فلما أصر
على عدم إجابتهم أمر بضربه، وجعل المعتصم يحاول معه ليجيب وكذلك من حوله، وما زالوا يضربونه حتى فقد وعيه، فلما أفاق قال المعتصم لابن أبي دؤاد: لقد ارتكبتُ إثمًا في أمر
هذا الرجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه والله كافر مشرك، قد أشرك من غير وجه!! فلا يزال به حتى يصرفه عما يريد، وقد كان أراد تخلية الإمام أحمد من غير ضرب.ثم خلَّوا عنه
بعد ذلك؛ لما رأوا إنكار الناس وتجمعهم حول المكان؛ من بعض العلماء وطلاب العلم والعامة.ولقد ذُكِر من شجاعته وقوة احتماله وصبره على الجوع والعطش أمثلة رائعة؛ تدل على
قوة إيمانه بالله تعالى واستحضاره عظمته([2]).وهكذا كانت هذه المحنة الكبيرة التي شملت أكثر علماء أهل السنة؛ بسبب تعصب المعتزلة الذين رأوا مذهبهم الفاسد هو الإسلام
الحق والتوحيد الخالص، وأنَّ مَنْ لم يقل مثلهم بخلق القرآن فهو كافر مشرك حلال الدم!! ولذلك امتحنوا العلماء وعرضوهم على السيف إن لم يستجيبوا لهم.ولو أنهم عدُّوا علماء
السنة مجتهدين وحكموا عليهم بالخطأ؛ لما وُجدت تلك المحنة، ولكان لهم مِنْ دَعْم السلطان الذي يرى مذهبهم ما يكفي لنشر مذهبهم.إن الإنسان ليعجب مما جرى من المحنة أيام
أحمد بن حنبل، فقد بلغت من القسوة والفظاعة حدًّا يفوق التصور!لقد كان يكفي المعتزلة -وقد استطاعوا أن يستحوذوا على فكر أمير المؤمنين المأمون وأن يحولوه إلى مذهبهم- أن
يسخِّروه لنصرة مذهبهم بمختلف الوسائل، التي لا تصل إلى حد امتحان علماء المسلمين بالعرض على السيف، وتكفيرهم إن لم يقولوا بخلق القرآن!!
لقد كان يكفي في انتصارهم أن يستولوا على القضاء، وأن يجعلوا أمراء الدولة وعمالها منهم، وأن يحرموا أهل السنة من جميع وظائف الدولة، بل لو أنهم زادوا على ذلك فمنعوا
علماء أهل السنة من التدريس في المساجد والإفتاء؛ لكان أمرًا يدخل في تصور العقل.فما الذي دفعهم حينما ملكوا القدرة أن يفعلوا بأهل السنةما فعلوا؟!
الواقع أن الذي دفعهم إلى هذه المعاملة القاسية هو حكمهم على مخالفيهم من أهل السنة بالتكفير، وحكم المرتد عن الإسلام أن تُعرض عليه التوبة والرجوع عن كفره وإلا طُبِّق عليه
حدُّ الردة وهو القتل، ولو أنهم عدُّوا مخالفيهم مجتهدين وحكموا عليهم بالخطأ لما وُجدت تلك المحنة، ولتحوَّل الخلاف إلى مناقشات ومناظرات بين علماء الفريقين، وسيظهر الحق
من الباطل ويكون البقاء للحق والصواب.
محنة الإمام أبي عبد اللهالبخاري:
أما العالم الثاني فهو الإمام أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى، فقد جرت له محنة على يد بعض أهل السنة في قضية اللفظ بالقرآن، فأهل السنة في ذلك الزمن
متفقون على أن القرآن كلام الله تعالى لفظه ومعناه، وإنما اختلفوا في قول الإنسان لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، فأنكر الإمام أحمد ذلك؛ لأن اللفظ يحتمل أمرين: أحدهما
الملفوظ وهو كلام الله جل وعلا فهذا غير مخلوق، والثاني التلفظ به وهو فعل العبد، والعبد مخلوق هو وأفعاله، فإذا قيل: لفظي بالقرآن مخلوق فقد يوهم المعنى الأول، وهو غير
صحيح ولا يجوز القول به؛ لأن القرآن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، وإذا قيل: لفظي بالقرآن غير مخلوق فقد يوهم المعنى الثاني فيكون نفيًا لخلق أفعال العباد، وهذاغير صحيح؛
فلهذا منع الإمام أحمد ذلك اللفظ واعتبره بدعة، وسار على ذلك بعض أهل السنة ومنهم الحافظ محمد بن يحيى الذهلي. وكان الإمام البخاري يتحاشى هذا اللفظ ولا يقول به، ولكنه إذا
سئل يقول: القرآن كلام الله تعالى، وأفعال العباد مخلوقة، وألفاظهم من أفعالهم، فلما سافر إلى نيسابور جرت له فيها محنة بسبب ذلك.وقد ذكر الحافظ الذهبي في ذلك روايات؛
خلاصتها أن الإمام البخاري لما وصل إلى نيسابور قال عالمها الحافظ محمد بن يحيى الذهلي: اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاسمعوا منه، فذهب الناس إليه.فقال محمد بن يحيى
لأصحاب الحديث بعد ذلك: ألا من يختلف إلى مجلسه فلا يختلف إلينا، فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه تكلم في اللفظ ونهيناه فلم ينته، فلا تقربوه، ومن يقربه فلا يقربنا.وقال لأصحاب
الحديث أيضًا: إن محمد بن إسماعيل يقول:
اللفظ بالقرآن مخلوق فامتحِنُوه في المجلس، فلما حضر الناس مجلس البخاري قام إليه رجل فقال: يا أبا عبدالله، ما تقول في اللفظ بالقرآن؛ مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه
البخاري ولم يجبه، فقال الرجل: يا أبا عبدالله، فأعاد عليه القول، فأعرض عنه، ثم قال في الثالثة: فالتفت إليه البخاري وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة،
والامتحان بدعة، فشغب الرجل، وشغب الناس، وتفرقوا عنه، وقعد البخاري في منزله!وقال محمد بن يحيى الذهلي أيضًا: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن زعم: لفظي بالقرآن
مخلوق.. فهو مبتدع، ولا يجالس ولا يكلم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه.ولقد رحل أبو عبدالله البخاري إلى
بخارى، فلما قدمها نصب أهلها له القباب على فرسخ من البلد، واستقبله كثير من أهلها، ونثروا عليه الدنانير والدراهم والسكر الكثير، فبقي أيامًا، ثم إن محمد بن يحيى الذهلي كتب
إلى أمير بخارى خالد بن أحمد الذهلي يقول :
إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنة،
فقرأ كتابه على أهل بخارى، فقالوا: لا نفارقه، فأمره الأمير بالخروج، فخرج.وكان في أثناء إقامته ببخارى يأتي إليه بعض أهل العلم،
فيُظهرون شعار أهل الحديث من إفراد الإقامة ورفع الأيدي في الصلاة وغير ذلك،
فقال حريث بن أبي الورقاء وغيره: هذا رجل مُشغِب، وهو يفسد علينا هذه المدينة، وقد أخرجه محمد بن يحيى من نيسابور وهو إمام أهل الحديث، فاحتجوا عليه بابن يحيى
واستعانوا عليه بالسلطان في نفيه من البلد، فأُخرج، وكان محمد بن إسماعيل ورعًا يتجنب السلاطين ولا يدخل عليهم.ولما قدم أبو عبدالله البخاري "مرو" استقبله أحمد بن سيار
فيمن استقبله، فقال له أحمد: يا أبا عبدالله، نحن لا نخالفك فيما تقول، ولكنَّ العامة لا تحمل ذا عنك، فقال البخاري: إني أخشى النار؛ أُسألُ عن شيء أعلمه حقًّا أن أقول غيره،
فانصرف عنه أحمد بن سيار.
وأخيرًا هوى العملاق
بعد ماطُعن من الأقربين؛
من أهل الحديث الذين هم خاصته وزملاؤه!
فأُخرج من بخارى، بلده التي ولد فيها ونشأ بين ربوعها، وكان لقرية "خَرْتَنْك" القريبة من سمرقند شرف كبير؛ أن ثوى بها ذلك الإمام الكبير، حيث مرض وتوفي بها ودفن في
أحضانها!!وفي ذكر وفاته يقول الحافظ الذهبي: قال ابن عدي: سمعت عبدالقدوس بن عبدالجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى "خرتنك" قريةٍ على فرسخين من
سمرقند، وكان له بها أقرباء، فنزل عندهم، فسمعته ليلة يدعو وقد فرغ من صلاة الليل: اللهم إنه قد ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك، فما تم الشهر حتى مات!!
وقبره بـ
"خرتنك".
وذكر الذهبي عن ابن عدي قال: سمعت الحسن بن الحسين البزاز البخاري يقول:
توفي البخاري ليلة السبت ليلة الفطر عند صلاة العشاء، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين، وعاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا([3]).وهكذا
ابتُلي هذا الإمام الجليل الذي اتفق أهل زمانه ومن جاء بعدهم على إمامته في الحديث، مع اجتنابه للفظ الذي يحتمل أمرين، وتعبيره باللفظ الواضح الذي لا يحتمل إلا المعنى الصحيح.
والذين جابهوه وتخلوا عن درسه لمجرد هذا القول قد أوغلوا في الغلو والتنطع،
وقد أساؤوا حينماربَّوا طلاب العلم على الغلو،
فأصبح الرجوع عن خط الغلو إلى الاعتدال مُؤْذِنًا بقيام فتنة وبلاء مستطير.
ولقد أصبح هذا الإمام الكبير طريدًا في بلاده، وفي كل بلد يذهب إليه من بلاد خراسان وما وراء النهر تثار ضده تلك الفتنة.إن الخلاف الحقيقي يحتمله الاجتهاد إذا صدر من علماء
مجتهدين ويُعذر فيه المخطئ، فكيف بهذا الخلاف الوهمي الذي أُلزم فيه هذا العالم الجليل بلازم قوله مما لم يقصده ولم ينطق به، بل تبرأ منه.
إن مصدر تلك الفتنة وأمثالها هوالغلو في ردِّ البدع الشائعة؛حيث يتحول المدافعون عن السنة إلى الغلو والإفراط في سدِّ كلالذرائع الموصلة إلى تلك البدع،
وفي سبيل ذلك يحرِّمون ما لم يحرمه الله تعالىورسوله صلى الله عليه وسلم،
ويبتدعون بدعًا مُقابِلة في الغلو
، ويحاسبون المسلمينعلى الإخلال بها أشد من محاسبتهم على الإخلال بالواجبات الشرعية أحيانًا،
فإذا ظهرعلماء يدعون إلى الاعتدال في تلك القضايا
وُصفوا بالأوصاف الشنيعة،
وشُنَّت عليهم الحملات الفظيعة حتى يسكتوا ويسلِّموا لأولئك الغلاة بدعهم التي دعوا المسلمين إليها!!
والنفوس-عادة-ميالة إلى الغلو والنقد في الغالب، فإذا برز عالم أو علماء يدعونإلى مثل هذا المنهج سارع إلى الاستجابة كل إنسان يميل مع عاطفته ولا يحكِّمعقله،
وأكثر أتباع هؤلاء ممن لم يتعمقوا في العلم
ولم يتلقوا تربية كافية في الأدب العلمي،
كما هو الحال في أولئك الطلاب الذين ملؤوا الداروما حولها لأخذ العلم عن الإمام البخاري، فلما سئل ذلك السؤال وأجاب بجوابه المعتدل وحَمَله دعاة
الفتنة على غير محمله انصرفوا عنه جميعًا،
وكأنَّ العلم كله قدتجمع في تلك القضية التي قد وُضع في تصورهم أنها من أهمالقضايا،وأنها مَحَكُّ الحكم علىأهل العلم،ومعقد الولاء لهم أوالبراءة
منهم.
فما أبعد هؤلاء عن منهج السلف الصالح الذي يدَّعون أنهم ثابتون عليه وأنهم حماته ورواده!!
لقد اتهم أولئك الغلاة الإمام البخاري بالابتداع في الدين، وذلك حينما فصَّل الكلام في مسألة اللفظ والملفوظ،
والحقيقة أنهم هم المبتدعة؛لأنهم يمتحنون الناس فيعقائدهم،
وامتحان أهل العلم في عقيدتهم بدعة لم تكن موجودة على عهد الصحابة رضي الله عنهم كما سبق عن الإمام البخاري.محنة الإمام ابن تيمية:([1])
تاريخ الطبري (8/631-641).([2]) سير أعلام النبلاء، باختصار، (11/241-254).([3]) المرجع السابق (12/453-468)، وانظر: مقدمة فتح
الباري (490-493).
فما أشبه اليوم بالبارحة ! ؟ ! ؟ ! ؟ !
و هذه دعوة من هذا الفقير العاجز لأساتذته من طلاب العلم و العلماء و الباحثين :
أن يعلنوها :
" و عجلت إليك ربّ لترضى "
ضاربين عرض الحائط بكل ما يعيق " عجلت ُ" من عجول ؟ ؟ !!
حتى يتبيّنوا جذور هذه التربية الفكرية و القلبية ... : أين هي ..؟
و من وراءها علم أو جهل ..؟
لينشروا أسماءهم على الملأ قائلين :
نعم ؟! هؤلاء و طرائقهم و تفكيرهم و تربيتهم المباشرة و غير المباشرة ..... هي السبب في كوارثنا العلمية الدعوية في الفرد و الجماعات و الأمة !!!!!