-
تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
مارأيكم في تفسير القاسمي للقاسمي وهل تنصحون بان يبتدي فيه طالب العلم
محمد جمال الدين القاسمي وكتابه محاسن التأويل
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/32.jpg
تعريف بالمؤلف
المؤلف هو محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم القاسمي الشامي الحسني. ولد في دمشق في جمادى الأولى سنة 1283هـ وتوفي في دمشق في جمادى الأولى سنة 1332هـ . أي أنه عاش تسعة وأربعين عاماً وما بلغ الخمسين عاماً! بينما بلغت مؤلفاته وأعماله أكثر من مائة كتاب ورسالة. فيالها من حياة مليئة بالعمل والعلم والجهاد والإصلاح والتأليف والتصنيف!
كان إماماً وخطيباً في دمشق ، وكان يلقي عدة دروس في اليوم الواحد ، للعامة والخاصة ، ويشارك في الحياة الاجتماعية ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويقوم بواجبه في الدعوة والإصلاح ، والنصح والتذكير ، والنقاش والحوار ، ومواجهة البدع والخرافات ، والانحرافات والضلالات. وكان يلقبه محمد رشيد رضا بعلامة الشام.
من أشهر كتبه المطبوعة : تفسيره محاسن التأويل وسيأتي الحديث عنه ، وقواعد التحديث في مصطلح الحديث وهو نفيس ، وإصلاح المساجد من البدع والعوائد ، وتاريخ الجهمية والمعتزلة ، وغيرها. وقد صدرت عنه عدة دراسات من آخرها ما كتبه الدكتور نزار أباظة بعنوان (جمال الدين القاسمي). وقد صدر عام 1417هـ.
تفسيره محاسن التأويل
ابتدأ القاسمي تفسيره في صدر شبابه حيث بدأ في تأليفه في شوال سنة 1316هـ ، وهو في الثالثة والثلاثين من عمره ، وراجعه سنة 1329هـ قبل وفاته بثلاث سنوات.
ويقع تفسيره في سبعة مجلدات كبار ، والطبعة القديمة منه تقع في سبعة عشر مجلداً ، وعدد صفحاتهها 6316 صفحة من غير المقدمة ، وقد استغرقت المقدمة منها الجزء الأول كاملاً ، بينما استغرقت المقدمة من الطبعة التي أملكها 200 صفحة من القطع الكبير.
وقد سبق القاسميَّ إلى تفسير القرآن في زمنه الشيخ الألوسي في روح البيان ومحمد رشيد رضا وشيخه محمد عبده في تفسير المنار وطنطاوي جوهري في الجواهر ، وفي هذا المحيط المتنوع لكتب التفسير بدأ القاسمي في تأليف تفسيره.
والحق أن القاسمي قرأ كثيراً في كتب السابقين ، ونقل الكثير في تفسيره ، حتى إن كثيراً من الآيات جاء شرحها معزواً إلى غيره – وتلك أمانة – دون أن يشترك بتعقيب كاشف ، ولكنه تمتع بميزة حسنة ، هي البعد عن مسائل النحو والبلاغة ، ونظريات الفلسفة والمنطق ، مما نجده لدى أمثال الزمخشري والفخر الرازي ، وصحيح أن أي تفسير لا يمكن أن يستغني عن شذور من مسائل النحو والبلاغة والمنطق ، إذا أعوز المقام تلك الشذور ، وقد جاء القاسمي بها في مناسبتها الملحَّة ، ولكن الإكثار منها كما في تفسير البحر المحيط للغرناطي ، وتفسير الكشاف للزمخشري ، ومن نحا منحاهما تضخم يكاد يكون ورماً ، وقد خلص منه تفسير محاسن التأويل.
وقد افتتح التفسير بمقدمة حافلة ، تتحدث في إسهاب عن أمور جوهرية تتعلق بعلم التفسير ، إذ تتضمن الحديث عن معرفة أسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ ، وقصص الأنبياء ، وشيوع الإسرائيليات بها ، وجريان القرآن على اللسان العربي ، ومعنى التفسير الباطن والتفسير الظاهر ، وأيهما أصح وأسلم ، والسنة المطهرة ومنزلتها من تفسير القرآن ، والمكي والمدني في كتاب الله ، والاعتدال في التفسير بالمأثور والرأي ، وأسرار التكرار في القرآن ، والأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ومسائل أخرى غاية في الأهمية.وهي مقدمة جديرة بالدراسة والفهم .
وأحسن طبعات (محاسن التأويل) تلك التي أشرف عليها الأستاذ محمد فؤاد عبدالباقي ، حيث صحح التفسير ورقمه ، وخرج آياته وأحاديثه وعلق عليه. وقد صدرت طبعته الأولى بين عامي 1376-1377هـ من دار إحياء الكتب العربية ، ثم تتابعت الطبعات بعد ذلك .
وقد تحدث القاسمي عن صلته بالقرآن وتفسيره ، فقال :(وإني وإن كنت حركت الهمة إلى تحصيل ما فيه من الفنون ، والاكتحال بإثمد مطالبه لتنوير العيون ، فأكببت على النظر فيه ، وشغفت بتدبر لآلي عقوده ودراريه ، وتصفحت ما قدر لي من تفاسير السابقين ، وتعرفت – حين درست – ما تخللها من الغث والسمين – ورايت كلاً – بقدر وسعه – حام حول مقاصده ، وبمقدار طاقته جال في ميدان دلائله وشواهده.
وبعد أن صرفت في الكشف عن حقائقه شطراً من عمري ، ووقفت على الفحص عن دقائقه قدراً من دهري ، أردت أن أنخرط في سلك مفسريه الأكابر ، قبل أن تبلى السرائر ، وتفنى العناصر ، وأكون بخدمته موسوماً، وفي حملته منظوماً..فشحذت كليل العزم ، وأيقظت نائم الهم... واستخرت الله تعالى في تقرير قواعده ، وتفسير مقاصده ، في كتاب اسمه بعون الجليل :(محاسن التأويل). أودعه ما صفا من التحقيقات ، وأوشحه بمباحث هي المهمات ، وأوضح فيه خزائن الأسرار ، وأنقد فيه نتائج الأفكار ، وأسوق إليه فوائد التقطتها من تفاسير السلف الغابر ، وفرائد عثرت عليها في غضون الدفاتر ، وزوائد استنبطتها بفكري القاصر ، مما قادني الدليل إليه ، وقوى اعتمادي عليه.
وسيحمد السابح في لججه ، والسانح في حججه ، ما أودعته من نفائسه الغريبة البرهان ، وأوردته من أحاديثه الصحاح والحسان ، وبدائعه الباهرة للأذهان... فإنها لب اللباب ، ومهتدى أولي الألباب ! ولم أطل ذيول الأبحاث بغرائب التدقيقات بل اخترت حسن الإيجاز في حل المشكلات... ولا يخفى أن من القضايا المسلمة ، والمقدمات الضرورية ، أنه مهما تأنق الخبير في تحرير دقائقه السنية ، فما هو إلا كالشرح لشذرة من معانيه الظاهرة ، وكالكشف للمعة يسيرة من أنواره الباهرة ، إذ لا قدرة لأحد على استيفاء جميع ما اشتمل عليه الكتاب ، وما تضمنه من لب اللباب ، لأنه منطو على أسرار مصونة ، وجواهر حكم مكنونة ، لا يكشفها بالتحقيق إلا من اجتباه مولاه ، ولا تتبين حقائقها إلا بالتلقي عن خيرته ومصطفاه.
وكان شروعي في هذه النية الحميدة ، بعد استخارته تعالى أياماً عديدة ، في العشر الأول من شوال في الحول السادس عشر بعد الثلاثمئة وألف).
والقاسمي كثيراً ما ينقل نقولاً طويلة عن علماء السلف كالإمام أحمد بن حنبل وابن جرير الطبري وابن تيمية وابن القيم وابن كثير والعز بن عبدالسلام والشاطبي وابن حزم والقرطبي وغيرهم. والحق أن النقول في كتابه قد زادت زيادة كانت مصدر العجب ، بحيث لو طار كل نص إلى أصله ما يكاد يبقى شيء للقاسمي غير تعليقات ضئيلة ، ولكن الزمن الذي ظهر فيه الكتاب أول مرة كان في حاجة إلى تلك النقول ، لتعذر مصادرها على الكثير ، وبدراسة أمثال هذه النقول الشافية نجد أنها لم تسق جزافاً ، وإنما خضعت لفحص وتأمل واستيعاب ، ثم ترجيح واختيار ، فالقارئ المتعجل يظن المفسر قد نقل ما أمامه دون جهد كبير ، وهذا عمل قل من يحسنه كالقاسمي https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif.
ثم إن الكتاب قد ألف في أوائل القرن الماضي ، أيام كانت هذه البحوث جديدة طريفة يتقبلها القارئ باشتياق ، ولكن مُضيَّ قرنٍ عليها ، أتاح لطلاب الدراسات العليا في كليات الشريعة وأصول الدين أن يبدعو الرسائل العلمية الشافية ، وأن يبرزوا في هذا الحقل ما يروق القارئ المعاصر ، ومحاولة المقارنة بينهم وبين صنيع القاسمي محاولة ظالمة ، لأن الرجل رائد يسير الخطوات الأولى في طريق غير ممهد ، وقد مضت عقود متوالية في مضمار البحث القرآني حتى اعتدل السير ، واستقام الطريق ، وهنا يحفظ للرائد مكان الريادة ، ولا نطالبه بما نطالب به اللاحق من ابتكار وتجويد. وهو يحرص على أن يستشهد بالصحيح والحسن من الأحاديث في تفسيره. وفي اللغة يرجع إلى كتب اللغة كالقاموس والصحاح وغيرهما .
منهجه في مسائل الاعتقاد
كان القاسمي سلفي المنهج على منهج أهل السنة والجماعة ، فهو من أتباع شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأئمة السلف من قبل هؤلاء ومن بعدهم. وقد تعرض لمضايقات كثيرة بسبب هذا المنهج فاتهم بالوهابية – نسبة خاطئة إلى الإمام محمد بن عبدالوهاب – وحقق معه ، واتهم بتسفيه آراء الأئمة المتقدمين من أصحاب المذاهب ، ثم خرج بعد ذلك من تلك المحن وهو أقوى ما يكون حجة ، وأصلب عوداً. والقارئ في تفسيره يرى منهج السلف ظاهراً ، فهو يكثر النقل عن علماء السلف ، ويورد حججهم وأدلتهم ، وردودهم على شبه الخصوم ، مما يؤكد أن المؤلف كان يجعل همه كل همه الإصلاح ليس إلا ، وإنما يورد هذه النصوص ليلجم بها الخصوم ، فإنهم إن استطاعوا جدلاً رد أقواله ، صعب عليهم إبطال أقوال علماء بهم يقتدون ، وبعلمهم يعترفون فكانت حجتهم لهم غالبة.
وهو في أحيان كثيرة لا يزيد في تفسير الآية على نقل كلام السلف فيها ، وانظر مثلاً لذلك تفسيره لقوله تعالى :(ثم استوى على العرش) فقد استغرق منه تفسير هذه الآية 47 صفحة أغلبها نقول عن السلف ، وهو إنما يربط كلامهم بعضه ببعض.
وقد أكد في مقدمة تفسيره أن الصواب في آيات الصفات هو مذهب السلف ، أورد فيه نقولاً لبعض العلماء في إثبات ذلك.
خلاصة الجواب للأخ منتقى
تفسير محاسن التأويل للقاسمي من أنفس كتب التفسير ، وقد أتى فيه بدرر ونفائس ، ولكنه لا يصلح للقارئ المبتدي لأنه طويل النفس جداً ، وأكثره نقول كما تقدم عن السابقين ، ويحتاج في فهمه إلى صبر وأناة ، والمبتدئ يفتقر في الغالب إلى تلك الصفات ، وإنما يهمه في المرحلة الأولى فهم الغريب من الألفاظ والتراكيب وبعض المقدمات الضرورية ، ولذلك فإنني أنصحك يا أخ منتقى أن تراجع ما كتبه الأخ أبو مجاهد وفقه الله في هذا الملتقى حول الكتب التي يحسن بطالب علم التفسير أن يبتدأ بها ويتدرج في فهمها حتى ينال حظاً وافراً من فهم القرآن الكريم ، وتجد كلامه على هذا الرابط:
http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?s=&threadid=26 ويمكننا النقاش حول هذا إن بدا لك سؤال ، أو كان ثمة إشكال ، وما أسعدنا بمشاركة الإخوة حول هذا الموضوع ، فما كتبته لا يعدو كونه اجتهاداً . وفق الله الجميع للحق والسداد ، والله أعلم
منقول
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://www.mexatk.com/wp-content/up...83%D9%85-4.gif
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الفاتحة
المجلد الثانى
صـ 3 الى صـ 9
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
فَاتِحَةُ الشَّيْءِ: أَوَّلُهُ وَابْتِدَاؤُهُ. وَلَمَّا افْتُتِحَ التَّنْزِيلُ الْكَرِيمُ بِهَا، إِمَّا بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- كَمَا حَكَى الْقَوْلَيْنِ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِي ُّ فِي تَرْتِيبِ التَّنْزِيلِ- سُمِّيَتْ بِذَلِكَ.
قَالَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ : فَاتِحَةُ الْكِتَابِ صَارَتْ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ لِسُورَةِ الْحَمْدِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهَا «الْفَاتِحَةُ» وَحْدَهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَمًا آخَرَ بِالْغَلَبَةِ أَيْضًا، لِكَوْنِ اللَّامِ لَازِمَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِصَارًا، وَاللَّامُ كَالْعِوَضِ عَنِ الْإِضَافَةِ إِلَى الْكِتَابِ، مَعَ لَمْحِ الْوَصْفِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: سُمِّيَتْ «فَاتِحَةَ الْكِتَابِ» : لِأَنَّهَا يُفْتَتَحُ بِكِتَابَتِهَا الْمَصَاحِفُ، وَيُقْرَأُ بِهَا فِي الصَّلَوَاتِ. فَهِيَ فَوَاتِحُ لِمَا يَتْلُوهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ.
وَتُسَمَّى «أُمَّ الْقُرْآنِ» : لِتُقَدُّمِهَا عَلَى سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ غَيْرَهَا، وَتَأَخُّرِ مَا سِوَاهَا خَلْفَهَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ تُقَدَّمُ الْأُمُّ وَالْأَصْلُ؛ أَوْ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَالتَّعَبُّدُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَبَيَانُ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ؛ أَوْ عَلَى جُمْلَةِ مَعَانِيهِ مِنَ الْحِكَمِ النَّظَرِيَّةِ، وَالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي هِيَ سُلُوكُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَعَارِجِ السُّعَدَاءِ، وَمَنَازِلِ الْأَشْقِيَاءِ.
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ أَمْرٍ جَامِعٍ أُمُورًا، وَكُلَّ مُقَدَّمٍ لَهُ تَوَابِعُ تَتْبَعُهُ «أُمًّا» - فَتَقُولُ لِلْجِلْدَةِ الَّتِي تَجْمَعُ الدِّمَاغَ «أُمَّ الرَّأْسِ» وَتُسَمِّي لِوَاءَ الْجَيْشِ وَرَايَتَهُمُ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ تَحْتَهَا «أُمًّا».
وَتُسَمَّى «السَّبْعَ الْمَثَانِيَ» - جَمْعُ مَثْنَى كَمُفْعَلٍ اسْمِ مَكَانٍ، أَوْ مُثَنَّى بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّثْنِيَةِ [ ص: 4 ] عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ- لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ أَيْ تُكَرَّرُ فِيهَا.
وَالْأَكْثَرُون َ عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ مَكِّيَّةٌ، وَأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ.
وَأَصْلُ مَعْنَى «السُّورَةِ» لُغَةً: الْمَنْزِلَةُ مِنْ مَنَازِلِ الِارْتِفَاعِ. وَمِنْ ذَلِكَ سُورُ الْمَدِينَةِ لِلْحَائِطِ الَّذِي يَحْوِيهَا، وَذَلِكَ لِارْتِفَاعِهِ عَلَى مَا يَحْوِيهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ بَنِي ذُبْيَانَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
أَيْ مَنْزِلَةً مِنْ مَنَازِلِ الشَّرَفِ الَّتِي قَصَرَتْ عَنْهَا مَنَازِلُ الْمُلُوكِ.
وَأَمَّا «الْآيَةُ» فَإِمَّا بِمَعْنَى: الْعَلَامَةُ- لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ يُعْرَفُ بِهَا تَمَامُ مَا قَبْلَهَا وَابْتِدَاؤُهَا ، كَالْآيَةِ الَّتِي تَكُونُ دَلَالَةً عَلَى الشَّيْءِ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ- وَإِمَّا بِمَعْنَى: الْقِصَّةِ- كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
أَلَا أَبْلِغَا هَذَا الْمُعَرِّضَ آيَةً أَيَقْظَانَ قَالَ الْقَوْلَ، إِذْ قَالَ، أَمْ حَلَمْ
أَيْ رِسَالَةٌ مِنِّي، وَخَبَرًا عَنِّي- فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَاتِ «الْقَصَصَ» قِصَّةً تَتْلُو قِصَّةً.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[1 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ ، أَدَّبَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَعْلِيمِهِ تَقْدِيمَ ذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى أَمَامَ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ فِي وَصْفِهِ بِهَا قَبْلَ جَمِيعِ مُهِمَّاتِهِ ، وَجَعَلَ -مَا أَدَّبَهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَعَلَّمَهُ إِيَّاهُ- مِنْهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ : سُنَّةً يَسْتَنُّونَ بِهَا، وَسَبِيلًا يَتْبَعُونَهُ عَلَيْهَا ، فَبِهِ افْتِتَاحُ أَوَائِلِ مَنْطِقِهِمْ ، وَصُدُورِ رَسَائِلِهِمْ وَكُتُبِهِمْ وَحَاجَاتِهِمْ ، حَتَّى أَغْنَتْ دَلَالَةُ مَا ظَهَرَ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : بِسْمِ اللَّهِ ، عَلَى مَا بَطَنَ مِنْ مُرَادِهِ الَّذِي هُوَ مَحْذُوفٌ ، [ ص: 5 ] وَذَلِكَ أَنَّ الْبَاءَ مُقْتَضِيَةٌ فِعْلًا يَكُونُ لَهَا جَالِبًا ؛ فَإِذَا كَانَ مَحْذُوفًا يُقَدَّرُ بِمَا جُعِلَتِ التَّسْمِيَةُ مَبْدَأً لَهُ . وَالِاسْمُ هُنَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ -كَالْكَلَامِ بِمَعْنَى التَّكْلِيمِ ، وَالْعَطَاءِ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ- وَالْمَعْنَى : أَقْرَأُ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ ، وَأَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى . وَ "اللَّهُ" عَلَمٌ عَلَى ذَاتِهِ ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ الَّذِي يَأْلَهُهُ كُلُّ شَيْءٍ وَيَعْبُدُهُ وَأَصْلُهُ "إِلَاهُ" بِمَعْنَى مَأْلُوهٍ أَيْ مَعْبُودٍ ؛ فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا لِكَثْرَتِهِ فِي الْكَلَامِ ؛ وَبَعْدَ الْإِدْغَامِ فُخِّمَتْ تَعْظِيمًا -هَذَا تَحْقِيقُ اللُّغَوِيِّينَ .
وَ "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : هُمَا اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَنَظِيرُهُمَا فِي اللُّغَةِ "نَدِيمٌ وَنَدْمَانُ" وَهُمَا بِمَعْنًى . وَيَجُوزُ تَكْرِيرُ الِاسْمَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَ اشْتِقَاقَهُمَا عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ ، كَمَا يُقَالُ : جَادٌّ مُجِدٌّ إِلَّا أَنَّ "الرَّحْمَنِ" اسْمٌ مُخَصَّصٌ بِاللَّهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ فَعَادَلَ بِهِ الِاسْمَ الَّذِي لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ . اهـ.
وَقَدْ نَاقَشَ فِي كَوْنِ "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عَبْدُهُ الْمِصْرِيُّ فِي بَعْضِ مَبَاحِثِهِ التَّفْسِيرِيَّ ةِ قَائِلًا: إِنَّ ذَلِكَ غَفْلَةٌ نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُسَامِحَ صَاحِبَهَا -ثُمَّ قَالَ:- وَأَنَا لَا أُجِيزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ ، فِي نَفْسِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ : إِنَّ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةً جَاءَتْ لِتَأْكِيدِ غَيْرِهَا وَلَا مَعْنًى لَهَا فِي نَفْسِهَا ، بَلْ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ حَرْفٌ جَاءَ لِغَيْرِ مَعْنًى مَقْصُودٍ . وَالْجُمْهُورُ : عَلَى أَنَّ مَعْنَى الرَّحْمَنِ الْمُنْعِمُ بِجَلَائِلِ النِّعَمِ ، وَمَعْنَى الرَّحِيمِ الْمُنْعِمُ بِدَقَائِقِهَا . وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : إِنَّ الرَّحْمَنَ هُوَ الْمُنْعِمُ بِنِعَمٍ عَامَّةٍ تَشْمَلُ الْكَافِرِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ ، وَالرَّحِيمَ الْمُنْعِمُ بِالنِّعَمِ الْخَاصَّةِ بِالْمُؤْمِنِين َ ، وَكُلُّ هَذَا تَحَكُّمٌ بِاللُّغَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى ، وَلَكِنَّ الزِّيَادَةَ تَدُلُّ عَلَى الْوَصْفِ مُطْلَقًا؛ فَصِيغَةُ "الرَّحْمَنِ" تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْإِحْسَانِ الَّذِي يُعْطِيهِ ، سَوَاءٌ كَانَ جَلِيلًا [ ص: 6 ] أَوْ دَقِيقًا. وَأَمَّا كَوْنُ أَفْرَادِ الْإِحْسَانِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ الْأَكْثَرُ حُرُوفًا أَعْظَمَ مِنْ أَفْرَادِ الْإِحْسَانِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ الْأَقَلُّ حُرُوفًا ، فَهُوَ غَيْرُ مَعْنِيٍّ وَلَا مُرَادٍ ، وَقَدْ قَارَبَ مَنْ قَالَ : إِنَّ مَعْنَى "الرَّحْمَنِ" الْمُحْسِنُ بِالْإِحْسَانِ الْعَامِّ . وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي تَخْصِيصِ مَدْلُولِ الرَّحِيمِ بِالْمُؤْمِنِين َ؛ وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَ مَنْ قَالَ : إِنَّ الثَّانِيَ مُؤَكِّدٌ لِلْأَوَّلِ -عَلَى قَوْلِهِ هَذَا- هُوَ عَدَمُ الِاقْتِنَاعِ بِمَا قَالُوهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ ، مَعَ عَدَمِ التَّفَطُّنِ لِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ ، ثُمَّ قَالَ : وَالَّذِي أَقُولُ : إِنَّ لَفْظَ "رَحْمَنِ" وَصْفٌ فِعْلِيٌّ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ - كَفَعَّالٍ - وَيَدُلُّ فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ عَلَى الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ -كَعَطْشَانَ وَغَرْثَانَ وَغَضْبَانَ- وَأَمَّا لَفْظُ "رَحِيمٍ" فَإِنَّهُ يَدُلُّ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى الْمَعَانِي الثَّابِتَةِ كَالْأَخْلَاقِ وَالسَّجَايَا فِي النَّاسِ -كَعَلِيمٍ وَحَكِيمٍ وَحَلِيمٍ وَجَمِيلٍ- وَالْقُرْآنُ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْبَلِيغِ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي تَعْلُو عَنْ مُمَاثَلَةِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ؛ فَلَفْظُ "الرَّحْمَنِ" يَدُلُّ عَلَى مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُ الرَّحْمَةِ بِالْفِعْلِ وَهِيَ إِفَاضَةُ النِّعَمِ وَالْإِحْسَانِ ؛ وَلَفْظُ "الرَّحِيمِ" يَدُلُّ عَلَى مَنْشَأِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ ، وَعَلَى أَنَّهَا مِنَ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُسْتَغْنَى بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَلَا يَكُونُ الثَّانِي مُؤَكِّدًا لِلْأَوَّلِ ، فَإِذَا سَمِعَ الْعَرَبِيُّ وَصْفَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِـ "الرَّحْمَنِ" ، وَفَهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ الْمُفِيضُ لِلنِّعَمِ فِعْلًا ، لَا يَعْتَقِدُ مِنْهُ أَنَّ الرَّحْمَةَ مِنَ الصِّفَاتِ الْوَاجِبَةِ لَهُ دَائِمًا -لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَنْقَطِعُ إِذَا كَانَ عَارِضًا لَمْ يَنْشَأْ عَنْ صِفَةٍ لَازِمَةٍ ثَابِتَةٍ -فَعِنْدَمَا يَسْمَعُ لَفْظَ "الرَّحِيمِ" يَكْمُلُ اعْتِقَادُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَيُرْضِيهِ سُبْحَانَهُ . انْتَهَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[2 ] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
" الْحَمْدُ لِلَّهِ" أَيِ الثَّنَاءُ بِالْجَمِيلِ ، وَالْمَدْحُ بِالْكَمَالِ ثَابِتٌ لِلَّهِ دُونَ سَائِرِ مَا يَعْبُدُ مِنْ دُونِهِ، وَدُونِ كُلِّ مَا بَرَأَ مِنْ خَلْقِهِ . وَاللَّامُ فِي "الْحَمْدُ" لِلِاسْتِغْرَاق ِ أَيِ اسْتِغْرَاقُ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْحَمْدِ وَثُبُوتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا وَتَمْجِيدًا- كَمَا فِي الْحَدِيثِ : « اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ» .
[ ص: 7 ] قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي "طَرِيقِ الْهِجْرَتَيْنِ ": الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُتَلَازِمَانِ. فَكُلُّ مَا شَمِلَهُ مُلْكَهُ وَقُدْرَتُهُ شَمِلَهُ حَمْدُهُ ، فَهُوَ مَحْمُودٌ فِي مُلْكِهِ ، وَلَهُ الْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ مَعَ حَمْدِهِ ، فَكَمَا يَسْتَحِيلُ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ عَنْ مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ ، يَسْتَحِيلُ خُرُوجُهَا عَنْ حَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ ، وَلِهَذَا يَحْمَدُ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ عِنْدَ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ لِيُنَبِّهَ عِبَادَهُ عَلَى أَنَّ مَصْدَرَ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ عَنْ حَمْدِهِ . فَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَهُ وَأَمَرَ بِهِ ، حَمْدَ شُكْرٍ وَعُبُودِيَّةٍ ، وَحَمْدَ ثَنَاءٍ وَمَدْحٍ، وَيَجْمَعُهُمَا التَّبَارُكُ ، "فَتَبَارَكَ اللَّهُ" يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَلِهَذَا ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَقِيبَ قَوْلِهِ : أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَالْحَمْدُ أَوْسَعُ الصِّفَاتِ وَأَعَمُّ الْمَدَائِحِ . وَالطُّرُقُ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ ، وَالسَّبِيلُ إِلَى اعْتِبَارِهِ فِي ذَرَّاتِ الْعَالَمِ وَجُزْئِيَّاتِه ِ ، وَتَفَاصِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَاسِعَةٌ جِدًّا ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَسْمَائِهِ ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَمْدٌ ، وَصِفَاتُهُ حَمْدٌ ، وَأَفْعَالُهُ حَمْدٌ ، وَأَحْكَامُهُ حَمْدٌ ، وَعَدْلُهُ حَمْدٌ ، وَانْتِقَامُهُ مِنْ أَعْدَائِهِ حَمْدٌ ، وَفَضْلُهُ فِي إِحْسَانِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ حَمْدٌ ، وَالْخَلْقُ وَالْأَمْرُ إِنَّمَا قَامَ بِحَمْدِهِ ، وَوُجِدَ بِحَمْدِهِ ، وَظَهَرَ بِحَمْدِهِ ، وَكَانَ الْغَايَةُ هِيَ حَمْدُهُ ، فَحَمْدُهُ سَبَبُ ذَلِكَ وَغَايَتُهُ وَمَظْهَرُهُ وَحَامِلُهُ ، فَحَمْدُهُ رُوحُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَقِيَامُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَمْدِهِ ، وَسَرَيَانُ حَمْدِهِ فِي الْمَوْجُودَاتِ ، وَظُهُورُ آثَارِهِ فِيهِ أَمْرٌ مَشْهُودٌ بِالْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ -ثُمَّ قَالَ- : وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ صِفَةِ عَلْيَاءَ ، وَاسْمِ حُسْنٍ ، وَثَنَاءٍ جَمِيلٍ ، وَكُلُّ حَمْدٍ وَمَدْحٍ وَتَسْبِيحٍ وَتَنْزِيهٍ وَتَقْدِيسٍ وَجَلَالٍ وَإِكْرَامٍ فَهُوَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَتَمِّهَا وَأَدْوَمِهَا ؛ وَجَمِيعُ مَا يُوصَفُ بِهِ ، وَيُذْكَرُ بِهِ ، وَيُخْبَرُ عَنْهُ بِهِ فَهُوَ مَحَامِدُ لَهُ وَثَنَاءٌ وَتَسْبِيحٌ وَتَقْدِيسٌ، فَسُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ لَا يُحْصِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ ثَنَاءً عَلَيْهِ . اهـ.
" رَبِّ العالمين" الرَّبُّ يُطْلَقُ عَلَى السَّيِّدِ الْمُطَاعِ وَعَلَى الْمُصْلِحِ وَعَلَى الْمَالِكِ -تَقُولُ : رَبَّهُ يَرُبُّهُ فَهُوَ رَبٌّ كَمَا تَقُولُ : نَمَّ عَلَيْهِ يَنِمُّ فَهُوَ نَمٌّ -فَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ [ ص: 8 ] مَصْدَرًا بِمَعْنَى التَّرْبِيَةِ ، وَهِيَ : تَبْلِيغُ الشَّيْءِ إِلَى كَمَالِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وُصِفَ بِهِ الْفَاعِلُ مُبَالَغَةً كَمَا وُصِفَ بِالْعَدْلِ ، وَالرَّبُّ - بِاللَّامِ - لَا يُقَالُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَهُوَ فِي غَيْرِهِ عَلَى التَّقْيِيدِ بِالْإِضَافَةِ - كَرَبِّ الدَّارِ- وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ
وَ "العالمين" جَمْعُ عَالَمٍ وَهُوَ : الْخَلْقُ كُلُّهُ وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْهُ ، وَإِيثَارُ صِيغَةِ الْجَمْعِ لِبَيَانِ شُمُولِ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى لِجَمِيعِ الْأَجْنَاسِ ، وَالتَّعْرِيفُ لِاسْتِغْرَاقِ أَفْرَادِ كُلٍّ مِنْهَا بِأَسْرِهَا .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[3 ] الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِيرَادُهُمَا عَقْدُ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ مِنْ بَابِ قَرْنِ التَّرْغِيبِ بِالتَّرْهِيبِ الَّذِي هُوَ أُسْلُوبُ التَّنْزِيلِ الْحَكِيمِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[4 ] مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ بِإِثْبَاتِ أَلِفِ "مَالِكِ" وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ ُ : وَرُجِّحَتْ قِرَاءَةُ "مَلِكِ" لِأَنَّهُ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ ، وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ يَقْرَأُوا الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا كَمَا أُنْزِلَ، وَقُرَّاؤُهُمُ الْأَعْلَوْنَ رِوَايَةً وَفَصَاحَةً ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [ ص: 9 ] فَقَدْ وَصَفَ ذَاتَهُ بِأَنَّهُ الْمَلِكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَالْقُرْآنُ يَتَعَاضَدُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ، وَتَتَنَاسَبُ مَعَانِيهِ فِي الْمَوَادِّ. وَثَمَّةُ مُرَجِّحَاتٍ أُخْرَى .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ قِرَاءَةَ "مَالِكِ" أَبْلَغُ ، لِأَنَّ الْمَلِكَ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ أَعْمَالَ رَعِيَّتِهِ الْعَامَّةَ ، وَلَا تَصَرُّفَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ شُؤُونِهِمُ الْخَاصَّةِ . وَتَظْهَرُ التَّفْرِقَةُ فِي عَبْدٍ مَمْلُوكٍ فِي مَمْلَكَةٍ لَهَا سُلْطَانٌ ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَالِكَهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى جَمِيعَ شُؤُونِهِ دُونَ سُلْطَانِهِ ، وَمِنْ وُجُوهِ تَفْضِيلِهَا : إِنَّهَا تَزِيدُ بِحَرْفٍ ، وَلِقَارِئِ الْقُرْآنِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ -كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ مُتَوَاتِرٌ فِي السَّبْعِ .
وَ "الدِّينِ" الْحِسَابُ وَالْمُجَازَاةُ بِالْأَعْمَالِ . وَمِنْهُ : « كَمَا تَدِينُ تُدَانُ » أَيْ : مَالِكُ أُمُورِ الْعَالَمِينَ كُلِّهَا فِي يَوْمِ الدِّينِ ، وَتَخْصِيصُهُ بِالْإِضَافَةِ إِمَّا لِتَعْظِيمِهِ وَتَهْوِيلِهِ، أَوْ لِبَيَانِ تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِإِجْرَاءِ الْأَمْرِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ فِيهِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[5 ] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
قَالَ الطَّبَرِيُّ : أَيْ : لَكَ ، اللَّهُمَّ نَخْشَعُ وَنَذِلُّ وَنَسْتَكِينُ. إِقْرَارًا لَكَ بِالرُّبُوبِيَّ ةِ لَا لِغَيْرِكَ -قَالَ- وَالْعُبُودِيَّ ةُ عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ أَصْلُهَا الذِّلَّةُ ، وَأَنَّهَا تُسَمِّي الطَّرِيقَ الْمُذَلَّلَ الَّذِي قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ ، وَذَلَّلَتْهُ السَّابِلَةُ "مُعَبَّدًا" ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبَعِيرِ الْمُذَلَّلِ بِالرُّكُوبِ فِي الْحَوَائِجِ "مُعَبَّدٌ" ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعَبْدُ "عَبْدًا" ; لِذِلَّتِهِ لِمَوْلَاهُ انْتَهَى .
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الفاتحة
المجلد الثانى
صـ 10 الى صـ 15
الحلقة (3)
وَفِيهِ إِعْلَامٌ بِمَا صَدَعَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنْ تَحْرِيرِ الْأَنْفُسِ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَخْلِيصِهَا لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ . أَعْنِي : أَنْ لَا يُشْرِكَ شَيْئًا مَا مَعَهُ ، لَا فِي مَحَبَّتِهِ كَمَحَبَّتِهِ ، وَلَا فِي خَوْفِهِ ، وَلَا فِي رَجَائِهِ ، وَلَا [ ص: 10 ] فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ، وَلَا فِي الْعَمَلِ لَهُ ، وَلَا فِي النَّذْرِ لَهُ ، وَلَا فِي الْخُضُوعِ لَهُ ، وَلَا فِي التَّذَلُّلِ وَالتَّعْظِيمِ وَالسُّجُودِ وَالتَّقَرُّبِ ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ فَاطِرُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ وَحْدَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْعِبَادَةِ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الذُّلِّ بِكَمَالِ الْحُبِّ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَابِدُ مُحِبًّا لِلْإِلَهِ الْمَعْبُودِ كَمَالَ الْحُبِّ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِيلًا لَهُ كَمَالَ الذُّلِّ ، وَهُمَا لَا يَصْلُحَانِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ . فَهُوَ الْإِلَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ ، الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا هُوَ ، وَهِيَ كَمَالُ الْحُبِّ وَالذُّلِّ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا هُوَ ، تَعَالَى . وَقَدْ أَشَارَ لِذَلِكَ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ ، فَإِنَّ فِيهِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ مِنْ تَخْصِيصِهِ رَبَّهُ بِالْعِبَادَةِ ، وَإِسْلَامِهِ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، لَا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ ظَهَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، فَقَدْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ ، مُتَشَاكِسِينَ فِي وُجْهَتِهِمْ : مِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ الْأَشْجَارَ وَالْأَحْجَارَ . . . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، كَمَا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ الْآيَةَ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ الْآيَةَ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ [ ص: 11 ] تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا الْآيَةَ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى وَحَدِيثُ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ، وَلِلْمُشْرِكِي نَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا ، وَيَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا : ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « اللَّهُ أَكْبَرُ ، إِنَّهَا السَّنَنُ ، قُلْتُمْ - وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى : اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِلَى قَوْلِهِ : وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
[ ص: 12 ] وَأَمَّا عِبَادَتُهُمْ لِلْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيّ ُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ ، فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ ، قَالَ : « أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَ ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ ؟ » فَقُلْتُ : بَلَى قَالَ : « فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ » .
فَالْعِبَادَةُ أَنْوَاعٌ وَأَصْنَافٌ ، وَلَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِتَوْحِيدِهَا كُلِّهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ . وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ ; أَيْ رُكْنُهَا الْمُهِمُّ الْأَعْظَمُ ، وَأَصْلُهُ مِنَ التَّنْزِيلِ الْكَرِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي فَمَسَّاهُ عِبَادَةً .
[ ص: 13 ] وَفِي الْخَبَرِ : « الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ » .
قَالَ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْقَيِّمِ : وَلِهَذَا كَانَ الْعَبْدُ مَأْمُورًا فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يَقُولَ : "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" وَالشَّيْطَانُ يَأْمُرُ بِالشَّرَكِ ، وَالنَّفْسُ تُطِيعُهُ فِي ذَلِكَ ، فَلَا تَزَالُ النَّفْسُ تَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ ، إِمَّا خَوْفًا مِنْهُ ، أَوْ رَجَاءً لَهُ ، فَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ مُفْتَقِرًا إِلَى تَخْلِيصِ تَوْحِيدِهِ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ ؛ وَلِذَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ مَا قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ ، وَكَيْفَ يُقَدِّرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ جَعَلَ لَهُ عِدْلًا وَنِدًّا ، يُحِبُّهُ ، وَيَخَافُهُ ، وَيَرْجُوهُ ، يَذِلُّ ، وَيَخْضَعُ لَهُ ، وَيَهْرُبُ مِنْ سُخْطِهِ ، وَيُؤْثِرُ مَرْضَاتَهُ ، وَالْمُؤْثَرُ لَا يَرْضَى بِإِيثَارِهِ انْتَهَى .
(فَائِدَةٌ) قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْفَاتِحَةُ سِرُّ الْقُرْآنِ ، وَسِرُّهَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ": فَالْأَوَّلُ تَبَرُّؤٌ مِنَ الشِّرْكِ ، وَالثَّانِي تَبَرُّؤٌ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ ، وَالتَّفْوِيضُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا
[ ص: 14 ] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[6 ] اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
أَيْ أَلْهِمْنَا الطَّرِيقَ الْهَادِيَ ، وَأَرْشِدْنَا إِلَيْهِ ، وَوَفِّقْنَا لَهُ.
قَالَ الْإِمَامُ الرَّاغِبُ فِي تَفْسِيرِهِ : "الْهِدَايَةُ دَلَالَةٌ بِلُطْفٍ ، وَمِنْهُ الْهَدِيَّةُ ، وَهَوَادِي الْوَحْشِ ، وَهِيَ مُتَقَدِّمَاتُه َا لِكَوْنِهَا هَادِيَةً لِسَائِرِهَا ، وَخَصَّ مَا كَانَ دَلَالَةً بِفَعَلْتُ نَحْوَ : هَدَيْتُهُ الطَّرِيقَ ، وَمَا كَانَ مِنَ الْإِعْطَاءِ بِأَفْعَلْتُ نَحْوَ : أَهْدَيْتُ الْهَدِيَّةَ . وَلِمَا يُصَوِّرُ الْعَرُوسُ عَلَى وَجْهَيْنِ : قِيلَ فِيهِ : هَدَيْتُ وَأَهْدَيْتُ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ جَعَلَتَ الْهُدَى دَلَالَةَ لُطْفٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقَالَ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ قِيلَ : إِنَّ ذَلِكَ حَسَبَ اسْتِعْمَالِهِم ُ اللَّفْظَ عَلَى التَّهَكُّمِ كَمَا قَالَ :
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ !
وَالْهِدَايَةُ هِيَ الْإِرْشَادُ إِلَى الْخَيْرَاتِ قَوْلًا وَفِعْلًا ، وَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنَازِلَ بَعْضُهَا يَتَرَتَّبُ عَلَى بَعْضٍ ، لَا يَصِحُّ حُصُولُ الثَّانِي إِلَّا بَعْدَ الْأَوَّلِ ، وَلَا الثَّالِثِ إِلَّا بَعْدَ الثَّانِي ، فَأَوَّلُ الْمَنَازِلِ إِعْطَاؤُهُ الْعَبْدَ الْقُوَى الَّتِي بِهَا يَهْتَدِي إِلَى مَصَالِحِهِ إِمَّا تَسْخِيرًا وَإِمَّا طَوْعًا -كَالْمَشَاعِرِ الْخَمْسَةِ وَالْقُوَّةِ الْفِكْرِيَّةِ ، وَبَعْضُ ذَلِكَ قَدْ أَعْطَاهُ الْحَيَوَانَاتِ ، وَبَعْضٌ خَصَّ بِهِ الْإِنْسَانَ ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَالَّذِي قَدَّرَ [ ص: 15 ] فَهَدَى وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ إِمَّا تَسْخِيرٌ وَإِمَّا تَعْلِيمٌ ، وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى : بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا وَقَالَ فِي الْإِنْسَانِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْعَقْلِ ، وَعَرَفَهُ مِنَ الرُّشْدِ : إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ وَقَالَ : وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ وَقَالَ فِي ثَمُودَ : فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى
وَثَانِيهِمَا الْهِدَايَةُ بِالدُّعَاءِ وَبَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ . وَإِيَّاهَا عَنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَبِقَوْلِهِ : وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ تُنْسَبُ تَارَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ ، وَتَارَةً إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَتَارَةً إِلَى الْقُرْآنِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الفاتحة
المجلد الثانى
صـ 16 الى صـ 23
الحلقة (4)
[ ص: 16 ] وَثَالِثُهَا هِدَايَةٌ يُوَلِّيهَا صَالِحِي عِبَادِهِ بِمَا اكْتَسَبُوهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ ، وَهِيَ الْهِدَايَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ وَقَوْلُهُ : أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ وَقَوْلُهُ : وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ هِيَ الْمَعْنِيَّةُ بِقَوْلِهِ : وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ
وَيَصِحُّ أَنْ نَنْسُبَ هَذِهِ الْهِدَايَةَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُقَالُ : هُوَ آثَرَهُمْ بِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا . وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : اكْتَسَبُوهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ تَوَصَّلُوا إِلَيْهَا بِاجْتِهَادِهِم ْ . فَمَنْ قَصَدَ سُلْطَانًا مُسْتَرْفِدًا فَأَعْطَاهُ ، يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ السُّلْطَانَ خَوَّلَهُ . وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : فُلَانٌ اكْتَسَبَ بِسَعْيِهِ ، وَلِانْطِوَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ ، قَالَ تَعَالَى : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ وَقَالَ : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ فَنَبَّهَ أَنَّ ذَلِكَ بِجُهْدِهِمْ وَبِفَضْلِهِ جَمِيعًا .
وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : هِيَ مُبَاحَةٌ لِلْعُقَلَاءِ كُلِّهِمْ ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : هِيَ مَحْظُورَةٌ [ ص: 17 ] إِلَّا عَلَى أَوْلِيَائِهِ ، لِمَا كَانَ فِي إِمْكَانِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَتَرَشَّحُوا لِتَنَاوُلِهَا ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ : إِنَّهَا لَا يَسْهُلُ تَنَاوُلُهَا قَبْلَ أَنْ يَتَشَكَّلَ الْإِنْسَاْنُ بِشَكْلٍ مَخْصُوصٍ ، بِتَقْدِيمِ عِبَادَاتٍ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ : الْهُدَى مِنَ اللَّهِ كَثِيرٌ ، وَلَا يُبْصِرُهُ إِلَّا الْبَصِيرُ ، وَلَا يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا الْيَسِيرُ . أَلَا تَرَى أَنَّ نُجُومَ السَّمَاءِ مَا أَكْثَرَهَا وَلَا يَهْتَدِي بِهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ . وَقَالَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ : إِنَّ مَثَلَ هِدَايَةِ اللَّهِ مَعَ النَّاسِ كَمَثَلِ سَيْلٍ مَرَّ عَلَى قِلَاتٍ وَغُدْرَانٍ ، فَيَتَنَاوَلُ كُلُّ قَلْتٍ مِنْهَا بِقَدْرِ سِعَتِهِ -ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ- : أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ كَمَطَرٍ أَتَى عَلَى أَرَضِينَ فَيَنْتَفِعُ كُلُّ أَرْضٍ بِقَدْرِ تَرْشِيحِهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ .
(وَالْمنزلة الرَّابِعَةُ) : مِنَ الْهِدَايَةِ التَّمْكِينُ مِنْ مُجَاوَرَتِهِ فِي دَارِ الْخُلْدِ ، وَإِيَّاهَا عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ : وَنَـزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَمِنَ الْهِدَايَةِ مَا لَا يُنْفَى عَنْ أَحَدٍ بِوَجْهٍ . وَمِنْهَا مَا يُنْفَى [ ص: 18 ] عَنْ بَعْضٍ ، وَيَثْبُتُ لِبَعْضٍ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَقَالَ : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَقَالَ : وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ فَإِنَّهُ عَنَى الْهِدَايَةَ -الَّتِي هِيَ التَّوْفِيقُ وَإِدْخَالُ الْجَنَّةِ- دُونَ الَّتِي هِيَ الدُّعَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَقَالَ فِي الْأَنْبِيَاءِ : وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا
فَقَوْلُهُ : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فُسِّرَ عَلَى وُجُوهٍ بِحَسَبِ أَنْظَارٍ مُخْتَلِفَةٍ إِلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ :
(الْأَوَّلُ) : أَنَّهُ عَنَى الْهِدَايَةَ الْعَامَّةَ ، وَأَمَرَ أَنْ نَدْعُوَ بِذَلِكَ -وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ فَعَلَهُ لَا مَحَالَةَ- لِيَزِيدَنَا ثَوَابًا بِالدُّعَاءِ، كَمَا أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ . (الثَّانِي) قِيلَ : وَفِّقْنَا لِطَرِيقَةِ الشَّرْعِ .
(الثَّالِثُ) : احْرُسْنَا عَنِ اسْتِغْوَاءِ الْغُوَاةِ وَاسْتِهْوَاءِ الشَّهَوَاتِ ، وَاعْصِمْنَا مِنَ الشُّبُهَاتِ .
[ ص: 19 ] الرَّابِعُ : زِدْنَا هُدًى اسْتِنْجَاحًا لِمَا وَعَدْتَ بِقَوْلِكَ : وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَقَوْلِكَ : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى
(الْخَامِسُ) : قِيلَ : عَلِّمْنَا الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ فَذَلِكَ سَبَبُ الْخَلَاصِ ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنُّورِ فِي قَوْلِهِ : يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ
(السَّادِسُ) : قِيلَ : هُوَ سُؤَالُ الْجَنَّةِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَقَالَ : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ الْآيَةَ. فَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ أَنْظَارِهِمْ إِلَى أَبْعَاضِ الْهِدَايَةِ وَجُزْئِيَّاتِه َا ، وَالْجَمِيعُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْآيَةِ - إِذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهَا – [ ص: 20 ] وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ" . اهـ كَلَامُ الرَّاغِبِ . وَبِهِ يُعْلَمُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْهِدَايَةِ فِي سَائِرِ مَوَاقِعِهَا فِي التَّنْزِيلِ الْكَرِيمِ ، وَأَنَّ الْوُجُوهَ الْمَأْثُورَةَ فِي آيَةٍ مَا -إِذَا لَمْ تَتَنَافَ- صَحَّ إِرَادَتُهَا كُلُّهَا ؛ وَمِثْلْ هَذَا يُسَمَّى : اخْتِلَافَ تَنَوُّعٍ لَا اخْتِلَافَ تَضَادٍّ.
كَمَا أَشَارَ لِذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَبْحَثٍ لَهُ مُهِمٍّ ، نَأْثُرُهُ عَنْهُ هُنَا ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ ، قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا لَيْسَ فِيهِ تَضَادٌّ وَتَنَاقُضٌ ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَقًّا، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ أَوِ اخْتِلَافٌ فِي الصِّفَاتِ أَوِ الْعِبَارَاتِ ، وَعَامَّةُ الِاخْتِلَافِ الثَّابِتِ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِذَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ اسْمًا مِثْلَ قَوْلِهِ : "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" فَكُلُّ الْمُفَسِّرِينَ يُعَبِّرُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ بِهَا عَلَى بَعْضِ صِفَاتِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ بِمَنْزِلَةِ مَا يُسَمِّي اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَكِتَابَهُ بِأَسْمَاءٍ ، كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمُ : الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ كِتَابُ اللَّهِ ، أَوِ اتِّبَاعُ كِتَابِ اللَّهِ . وَيَقُولُ الْآخَرُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَيَقُولُ الْآخَرُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ. وَيَقُولُ الْآخَرُ : الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ ، أَوْ طَرِيقُ الْخَوْفِ وَالرِّضَا وَالْحُبِّ ، وَامْتِثَالُ الْمَأْمُورِ ، وَاجْتِنَابُ الْمَحْظُورِ ، أَوْ مُتَابَعَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ أَوِ الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ ، أَوْ نَحْوَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالْعِبَارَاتِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ وَاحِدٌ ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ صِفَاتُهُ وَتَعَدَّدَتْ أَسْمَاؤُهُ وَعِبَارَاتُهُ ؛ وَكَثِيرٌ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّرْجَمَةِ تَكُونُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَمِنْهُ قِسْمٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُفَسِّرُ وَالْمُتَرْجِمُ مَعْنَى اللَّفْظِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ وَالْحَصْرِ - مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مِنَ الْعَجَمِ: مَا مَعْنَى الْخُبْزِ ؟ فَيُشَارُ لَهُ إِلَى رَغِيفٍ -وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ عَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ إِلَى تَعْيِينِ هَذَا الشَّخْصِ تَمْثِيلًا . وَهَذَا كَمَا إِذَا سُئِلُوا عَنْ قَوْلِهِ : فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [ ص: 21 ] . أَوْ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أَوْ عَنِ الصَّالِحِينَ أَوِ الظَّالِمِينَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ الْجَامِعَةِ الَّتِي قَدْ يَتَعَسَّرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ أَوِ الْمُتَكَلِّمِ ضَبْطُ مَجْمُوعِ مَعْنَاهُ ; إِذْ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ فَيَذْكُرُ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِهِ وَأَشْخَاصِهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ غَرَضُهُ ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى نَظَائِرِهِ . فَإِنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ هُوَ تَارِكُ الْمَأْمُورِ فَاعِلُ الْمَحْظُورِ ، وَالْمُقْتَصِدُ هُوَ فَاعِلُ الْوَاجِبِ وَتَارِكُ الْمُحَرَّمِ ، وَالسَّابِقُ هُوَ فَاعِلُ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبّ ِ ، وَتَارِكُ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ . فَيَقُولُ الْمُجِيبُ بِحَسَبِ حَاجَةِ السَّائِلِ : الظَّالِمُ الَّذِي يُفَوِّتُ الصَّلَاةَ ، أَوِ الَّذِي لَا يُسْبِغُ الْوُضُوءَ ، أَوِ الَّذِي لَا يُتِمُّ الْأَرْكَانَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ - كَمَا أُمِرِ - وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ الَّذِي يُصَلِّي الصَّلَاةَ بِوَاجِبَاتِهَا وَمُسْتَحِبَّات ِهَا وَيَأْتِي بِالنَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّة ِ مَعَهَا ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ :
تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا ، وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ ، فَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ .
وَالصَّحَابَةُ أَخَذُوا عَنِ الرَّسُولِ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ كَمَا أَخَذُوا عَنْهُ السُّنَّةَ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ غَيَّرَ السُّنَّةَ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ غَيَّرَ بَعْضَ مَعَانِي الْقُرْآنِ - إِذْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَغْيِيرِ لَفْظِهِ ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بَعْضُ مَعَانِي الْقُرْآنِ ، كَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ السُّنَّةِ ، فَيَقَعُ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِين َ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَتَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ بَسْطٌ لِهَذَا الْبَحْثِ فَارْجِعْ إِلَيْهِ . (انْظُرْ : ج1 ص17).
[ ص: 22 ] وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْآيَةِ :
"كُلُّ عَبْدٍ مُضْطَرٍّ دَائِمًا إِلَى مَقْصُودِ هَذَا الدُّعَاءِ ، وَهُوَ هِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، فَإِنَّهُ لَا نَجَاةَ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ ، وَلَا وُصُولَ إِلَى السَّعَادَةِ إِلَّا بِهِ ، فَمَنْ فَاتَهُ هَذَا الْهُدَى فَهُوَ : إِمَّا مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، وَإِمَّا مِنَ الضَّالِّينَ ؛ وَهَذَا الِاهْتِدَاءُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهُدَى اللَّهِ : مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا فَإِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ : أَنْ تَفْعَلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا أُمِرْتَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ ، وَلَا تَفْعَلُ مَا نُهِيتَ عَنْهُ ، وَهَذَا يَحْتَاجُ فِي كُلِّ وَقْتٍ إِلَى أَنْ تَعْلَمَ : مَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَمَا نَهَى عَنْهُ ، وَإِلَى أَنْ يَحْصُلَ لَكَ إِرَادَةٌ جَازِمَةٌ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ ؛ وَكَرَاهَةٌ لِتَرْكِ الْمَحْظُورِ . وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ قَدْ فُسِّرَ بِالْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ وَطُرُقِ الْعُبُودِيَّةِ ، وَكُلُّ هَذَا حَقٌّ ، فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ ، فَحَاجَتُهُ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ فِي سَعَادَتِهِ وَنَجَاتِهِ ؛ بِخِلَافِ الْحَاجَةِ إِلَى الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ ، وَإِنِ انْقَطَعَ رِزْقُهُ مَاتَ -وَالْمَوْتُ لَا بُدَّ مِنْهُ- فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْهِدَايَةِ ، كَانَ سَعِيدًا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَكَانَ الْمَوْتُ مُوَصِّلًا لَهُ إِلَى السَّعَادَةِ الدَّائِمَةِ الْأَبَدِيَّةِ ، فَيَكُونُ رَحْمَةً فِي حَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ النَّصْرُ -إِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ قُهِرَ وَغُلِبَ حَتَّى قُتِلَ - فَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْهِدَايَةِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ مَاتَ شَهِيدًا ، وَكَانَ الْقَتْلُ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ حَاجَةَ الْعِبَادِ إِلَى الْهُدَى أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ ، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ مَفْرُوضًا عَلَيْهِمْ فِي الصَّلَوَاتِ - فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا - وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ يَتَضَمَّنُ الرِّزْقَ وَالنَّصْرَ لِأَنَّهُ إِذَا هُدِيَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ كَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَكَانَ مِنَ الْمُتَوَكِّلِي نَ : وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى [ ص: 23 ] اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ وَكَانَ مِمَّنْ يَنْصُرُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَمَنْ يَنْصُرُ اللَّهَ يَنْصُرُهُ ، وَكَانَ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ ، وَجُنْدُ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ . فَالْهُدَى التَّامُّ يَتَضَمَّنُ حُصُولَ أَعْظَمِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الرِّزْقُ وَالنَّصْرُ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ هُوَ الْجَامِعُ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ تَحْصُلُ بِهِ كُلُّ مَنْفَعَةٍ، وَتَنْدَفِعُ بِهِ كُلُّ مُضِرَّةٍ .
(فَائِدَةٌ) : الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ أَصْلُهُ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ ، وَلَا انْحِرَافَ ، وَيُسْتَعَارُ لِكُلِّ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يَبْلُغُ بِهِ صَاحِبُهُ الْغَايَةَ الْحَمِيدَةَ ، فَالطَّرِيقُ الْوَاضِحُ لِلْحِسِّ ، كَالْحَقِّ لِلْعَقْلِ ، فِي أَنَّهُ : إِذَا سُيِّرَ بِهِمَا أَبْلَغَا السَّالِكَ النِّهَايَةَ الْحُسْنَى .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[7 ] صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ
أَيْ: بِطَاعَتِكَ وَعِبَادَتِكَ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الفاتحة
المجلد الثانى
صـ 24 الى صـ 30
الحلقة (5)
[ ص: 24 ] "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" قَالَ الْأَصْفَهَانِي ُّ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْجُمْلَةَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ شَارَكُوا الْمُؤْمِنِينَ فِي إِنْعَامِ كَثِيرٍ عَلَيْهِمْ ، فَبَيَّنَ بِالْوَصْفِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدُّعَاءِ لَيْسَ هُوَ النِّعَمُ الْعَامَّةُ، بَلْ ذَلِكَ نِعْمَةٌ خَاصَّةٌ ، ثُمَّ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ : كُلُّ مَنْ حَادَ عَنْ جَادَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَيِّ فِرْقَةٍ وَنِحْلَةٍ ، وَتَعْيِينُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِرْقَةً مِنْهُمْ مِنْ بَابِ تَمْثِيلِ الْعَامِّ بِأَوْضَحِ أَفْرَادِهِ وَأَشْهَرِهَا ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: لَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ اخْتِلَافًا فِي أَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ ، وَالضَّالِّينَ النَّصَارَى .
(فَوَائِدُ): الْأُولَى : يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهَا : "آمِينَ" ; وَمَعْنَاهُ : اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ ، أَوْ كَذَلِكَ فَلْيَكُنْ ، أَوْ كَذَلِكَ فَافْعَلْ : وَلَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ . بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْمَصَاحِفِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّأْمِينِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَقَالَ : « آمِينَ » مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ . وَلِأَبِي دَاوُدَ : رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَلَا : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ . قَالَ : « آمِينَ » حَتَّى يَسْمَعَ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « إِذَا أَمَّنَ [ ص: 25 ] الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا : « إِذَا قَالَ - يَعْنِي الْإِمَامَ - وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا : آمِينَ يُجِبْكُمُ اللَّهُ » .
الثَّانِيَةُ : فِي ذِكْرِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْعُلُومِ .
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ الْكَرِيمَةَ قَدِ اشْتَمَلَتْ - وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ – عَلَى حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَمْجِيدِهِ ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ : بِذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الْمُسْتَلْزِمَ ةِ لِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا ، وَعَلَى ذِكْرِ الْمَعَادِ وَهُوَ يَوْمُ الدِّينِ ، وَعَلَى إِرْشَادِ عَبِيدِهِ إِلَى سُؤَالِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ وَالتَّبَرُّؤِ مِنْ حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ ، وَإِلَى إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ ، وَتَوْحِيدِهِ بِالْأُلُوهِيَّ ةِ ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَتَنْزِيهِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ نَظِيرٌ أَوْ مُمَاثِلٌ ، وَإِلَى سُؤَالِهِمْ إِيَّاهُ الْهِدَايَةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ -وَهُوَ الدِّينُ الْقَوِيمُ- وَتَثْبِيتُهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُفْضِيَ بِهِمْ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ فِي جِوَارِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ .
وَاشْتَمَلَتْ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَكُونُوا مَعَ أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ مَسَالِكِ الْبَاطِلِ لِئَلَّا يُحْشَرُوا مَعَ سَالِكِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ وَالضَّالُّونَ .
قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عَبْدُهُ فِي تَفْسِيرِهِ :
الْفَاتِحَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مُجْمَلِ مَا فِي الْقُرْآنِ . وَكُلُّ مَا فِيهِ تَفْصِيلٌ لِلْأُصُولِ الَّتِي وُضِعَتْ فِيهَا ، وَلَسْتُ أَعْنِي بِهَذَا مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالْإِشَارَةِ وَدَلَالَةِ الْحُرُوفِ كَقَوْلِهِمْ : إِنَّ أَسْرَارَ [ ص: 26 ] الْقُرْآنِ فِي الْفَاتِحَةِ ، وَأَسْرَارَ الْفَاتِحَةِ فِي الْبَسْمَلَةِ ، وَأَسْرَارَ الْبَسْمَلَةِ فِي الْبَاءِ ، وَأَسْرَارَ الْبَاءِ فِي نُقْطَتِهَا ! فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ ، وَلَا هُوَ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْغُلَاةِ الَّذِينَ ذَهَبَ بِهِمُ الْغُلُوُّ إِلَى إِعْدَامِ الْقُرْآنِ خَاصَّتَهُ ، وَهِيَ الْبَيَانُ - قَالَ - وَبَيَانُ مَا أُرِيدُ : أَنَّ مَا نَزَلَ الْقُرْآنُ لِأَجْلِهِ أُمُورٌ :
أَحَدُهَا التَّوْحِيدُ : لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا كُلُّهُمْ وَثَنِيِّينَ - وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَدَّعِي التَّوْحِيدَ - .
ثَانِيهَا : وَعْدُ مَنْ أَخَذَ بِهِ ، وَتَبْشِيرُهُ بِحُسْنِ الْمَثُوبَةِ ، وَوَعِيدُ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ ، وَإِنْذَارُهُ بِسُوءِ الْعُقُوبَةِ ، وَالْوَعْدُ يَشْمَلُ مَا لِلْأُمَّةِ وَمَا لِلْأَفْرَادِ ، فَيَعُمُّ نِعَمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَسَعَادَتَهُمَ ا . وَالْوَعِيدُ - كَذَلِكَ - يَشْمَلُ نِقَمَهُمَا وَشَقَاءَهُمَا ، فَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ : بِالِاسْتِخْلَا فِ فِي الْأَرْضِ ، وَالْعِزَّةِ ، وَالسُّلْطَانِ ، وَالسِّيَادَةِ . وَأَوْعَدَ الْمُخَالِفِينَ : بِالْخِزْيِ وَالشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا . كَمَا وَعَدَ فِي الْآخِرَةِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّعِيمِ وَأَوْعَدَ بِنَارِ الْجَحِيمِ .
ثَالِثُهَا : الْعِبَادَةُ الَّتِي تُحْيِي التَّوْحِيدَ فِي الْقُلُوبِ وَتُثَبِّتُهُ فِي النُّفُوسِ .
رَابِعُهَا : بَيَانُ سَبِيلِ السَّعَادَةِ وَكَيْفِيَّةِ السَّيْرِ فِيهِ ، الْمُوَصِّلِ إِلَى نِعَمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
خَامِسُهَا : قَصَصُ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَخَذَ بِأَحْكَامِ دِينِهِ ، وَأَخْبَارُ الَّذِينَ تَعَدَّوْا حُدُودَهُ وَنَبَذُوا أَحْكَامَ دِينِهِ ظِهْرِيًّا لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ ، وَاخْتِيَارِ طَرِيقِ الْمُحْسِنِينَ .
هَذِهِ هِيَ الْأُمُورُ الَّتِي احْتَوَى عَلَيْهَا الْقُرْآنُ ، وَفِيهَا حَيَاةُ النَّاسِ وَسَعَادَتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّة ُ وَالْأُخْرَوِيّ َةُ ، وَالْفَاتِحَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهَا إِجْمَالًا بِغَيْرِ مَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ .
فَأَمَّا التَّوْحِيدُ فَفِي قَوْلِهِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ نَاطِقٌ بِأَنَّ كُلَّ حَمْدٍ وَثَنَاءٍ يَصْدُرُ عَنْ نِعْمَةٍ مَا فَهُوَ لَهُ تَعَالَى ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ مَصْدَرَ كُلِّ نِعْمَةٍ فِي الْكَوْنِ تَسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ ، وَمِنْهَا نِعْمَةُ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالتَّنْمِيَةِ ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِاسْتِلْزَامِ الْعِبَارَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى فَصَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ : "رَبِّ الْعَالَمِينَ" . وَلَفْظُ "رَبِّ" لَيْسَ مَعْنَاهُ الْمَالِكَ وَالسَّيِّدَ فَقَطْ ، بَلْ فِيهِ مَعْنَى التَّرْبِيَةِ وَالْإِنْمَاءِ . وَهُوَ صَرِيحٌ بِأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ يَرَاهَا الْإِنْسَانُ فِي [ ص: 27 ] نَفْسِهِ وَفِي الْآفَاقِ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ . فَلَيْسَ فِي الْكَوْنِ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِيجَادِ وَالْإِشْقَاءِ ، وَالْإِسْعَادِ سِوَاهُ . ثُمَّ إِنَّ التَّوْحِيدَ أَهَمُّ مَا جَاءَ لِأَجْلِهِ الدِّينُ . وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ فِي الْفَاتِحَةِ بِمُجَرَّدِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ ، بَلِ اسْتَكْمَلَهُ بِقَوْلِهِ : "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" فَاجْتَثَّ بِذَلِكَ جُذُورَ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّة ِ الَّتِي كَانَتْ فَاشِيَةً فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَهِيَ اتِّخَاذُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعْتَقِدُ لَهُمُ السُّلْطَةُ الْغَيْبِيَّةُ ، يُدْعَوْنَ لِذَلِكَ مَنْ دُونِ اللَّهِ ، وَيُسْتَعَانُ بِهِمْ عَلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ فِي الدُّنْيَا ، وَيَتَقَرَّبُ بِهِمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ، وَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ وَمُقَارَعَةِ الْمُشْرِكِينَ هُوَ تَفْصِيلٌ لِهَذَا الْإِجْمَالِ .
"وَأَمَّا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ: فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مَطْوِيٌّ فِي "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" فَذِكْرُ الرَّحْمَةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَهِيَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ . وَعْدٌ بِالْإِحْسَانِ – لَا سِيَّمَا وَقَدْ كَرَّرَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً- تَنْبِيهًا لَنَا عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ إِيَّانَا بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ رَحْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِنَا ، لِأَنَّهُ لِمَصْلَحَتِنَا وَمَنْفَعَتِنَا . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ مَعًا ، لِأَنَّ مَعْنَى الدِّينِ الْخُضُوعُ ، أَيْ : إِنَّ لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ السُّلْطَانَ الْمُطْلَقَ ، وَالسِّيَادَةَ الَّتِي لَا نِزَاعَ فِيهَا ، لَا حَقِيقَةَ وَلَا ادِّعَاءَ ؛ وَإِنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ يَكُونُ فِيهِ خَاضِعًا لِعَظَمَتِهِ -ظَاهِرًا وَبَاطِنًا - يَرْجُو رَحْمَتَهُ ، وَيَخْشَى عَذَابَهُ ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ ، أَوْ مَعْنَى الدِّينِ الْجَزَاءُ وَهُوَ : إِمَّا ثَوَابٌ لِلْمُحْسِنِ ، وَإِمَّا عِقَابٌ لِلْمُسِيءِ ، وَذَلِكَ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ ، وَزِدْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ "الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" وَهُوَ الَّذِي مَنْ سَلَكَهُ فَازَ ، وَمَنْ تَنَكَّبَهُ هَلَكَ ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ .
وَأَمَّا الْعِبَادَةُ ، فَبَعْدَ أَنْ ذُكِرَتْ فِي مَقَامِ التَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِ : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أَوْضَحَ مَعْنَاهَا بَعْضَ الْإِيضَاحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أَيْ : إِنَّهُ قَدْ وَضَعَ لَنَا صِرَاطًا سَيُبَيِّنُهُ وَيُحَدِّدُهُ . وَيَكُونُ مَنَاطُ السَّعَادَةِ فِي الِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ ، وَالشَّقَاءِ فِي الِانْحِرَافِ عَنْهُ ، وَهَذِهِ الِاسْتِقَامَةُ عَلَيْهِ هِيَ رُوحُ الْعِبَادَةِ ، وَيُشْبِهُ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى : [ ص: 28 ] وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ فَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ هُوَ كَمَالُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ التَّوْحِيدِ . وَالْفَاتِحَةُ بِجُمْلَتِهَا تَنْفُخُ رُوحَ الْعِبَادَةِ فِي الْمُتَدَبِّرِ لَهَا ، وَرُوحُ الْعِبَادَةِ هِيَ إِشْرَابُ الْقُلُوبِ خَشْيَةَ اللَّهِ ، وَهَيْبَتَهُ ، وَالرَّجَاءَ لِفَضْلِهِ ، لَا الْأَعْمَالُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ فِعْلٍ وَكَفٍّ وَحَرَكَاتِ اللِّسَانِ وَالْأَعْضَاءِ . فَقَدْ ذُكِرَتِ الْعِبَادَةُ فِي الْفَاتِحَةِ قَبْلَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ وَأَحْكَامِهَا ، وَالصِّيَامِ وَأَيَّامِهِ ، وَكَانَتْ هَذِهِ الرُّوحُ فِي الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يُكَلَّفُوا بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ ، وَقَبْلَ نُزُولِ أَحْكَامِهَا الَّتِي فُصِّلَتْ فِي الْقُرْآنِ تَفْصِيلًا مَا ؛ وَإِنَّمَا الْحَرَكَاتُ وَالْأَعْمَالُ مِمَّا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى حَقِيقَةِ الْعِبَادَةِ ، وَمُخُّ الْعِبَادَةِ الْفِكْرُ وَالْعِبْرَةُ ؛ وَأَمَّا الْأَخْبَارُ وَالْقِصَصُ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ هُنَالِكَ قَوْمًا تَقَدَّمُوا ، وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ شَرَائِعَ لِهِدَايَتِهِمْ ، وَصَائِحٌ يَصِيحُ: أَلَا فَانْظُرُوا فِي الشُّؤُونِ الْعَامَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَاعْتَبِرُوا بِهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ يَدْعُوهُ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ : أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ الْقَصَصَ إِنَّمَا هُوَ لِلْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَنْ دُونِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فَرِيقَانِ : فَرِيقٌ ضَلَّ عَنْ صِرَاطِ اللَّهِ ، وَفَرِيقٌ جَاحِدُهُ ، وَعَانَدَ مَنْ يَدْعُو إِلَيْهِ ، فَكَانَ مَحْفُوفًا بِالْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ ، وَالْخِزْيِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . وَبَاقِي الْقُرْآنِ يُفَصِّلُ لَنَا فِي أَخْبَارِ الْأُمَمِ هَذَا الْإِجْمَالَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُفِيدُ الْعِبْرَةَ ، فَيَشْرَحُ حَالَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ قَاوَمُوا الْحَقَّ ، وَحَالَ الَّذِينَ حَافَظُوا عَلَيْهِ وَصَبَرُوا عَلَى مَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِهِ .
فَتَبَيَّنَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ : أَنَّ الْفَاتِحَةَ قَدِ اشْتَمَلَتْ إِجْمَالًا عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي يُفَصِّلُهَا [ ص: 29 ] الْقُرْآنُ تَفْصِيلًا . فَكَانَ إِنْزَالُهَا أَوَّلًا مُوَافِقًا لِسُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِبْدَاعِ ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْفَاتِحَةُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُسَمَّى "أُمَّ الْكِتَابِ" .
الثَّالِثَةُ : مِمَّا صَحَّ فِي فَضْلِهَا مِنَ الْأَخْبَارِ : مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ . فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي . فَقَالَ : « أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ : اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ » ؟ - ثُمَّ قَالَ لِي : « لَأُعَلِّمَنَّك َ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ ؟ » ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ نَخْرُجَ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ تَقُلْ « لَأُعَلِّمَنَّك َ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ » . قَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ » .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيّ ُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، نَحْوَهُ ، غَيْرَ أَنَّ الْقِصَّةَ مَعَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَفِي آخِرِهِ :
«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا ، إِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي» .
وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ عَلَى تَفَاضُلِ بَعْضِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ عَلَى بَعْضٍ ، كَمَا هُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ : إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ الْحَضَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ وَاضِحٌ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : كُنَّا فِي مَسِيرٍ لَنَا فَنَزَلْنَا ، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ فَقَالَتْ : إِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غَيَبٌ ، [ ص: 30 ] فَهَلْ مِنْكُمْ وَاقٍ ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبِنُهُ بِرُقْيَةٍ . فَرَقَاهُ ، فَبَرَأَ ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِينَ شَاةً ، وَسَقَانَا لَبَنًا ؛ فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ : أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً ، أَوْ كُنْتَ تَرْقِي ؟ قَالَ : لَا ، مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِأُمِّ الْكِتَابِ . قُلْنَا : لَا تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَ ، أَوْ نَسْأَلَ ، النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ، ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : « وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ ؟ اقْمِسُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ » . وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ : أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ هُوَ الَّذِي رَقَى ذَلِكَ السَّلِيمَ - يَعْنِي اللَّدِيغَ ، يُسَمُّونَهُ بِذَلِكَ تَفَاؤُلًا - .
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :
بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : « هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ . فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ . فَقَالَ : هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ . فَسَلَّمَ وَقَالَ : أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ قَدْ أُوتِيتَهُمَا ، لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ ; فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ الْبَقَرَةِ ، لَمْ تَقْرَأْ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ » .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ - ثَلَاثًا - غَيْرُ تَمَامٍ » فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ . فَقَالَ : اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
« قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي ، وَإِذَا قَالَ : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي ، وَإِذَا قَالَ : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً : فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ : هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ، فَإِذَا قَالَ : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ قَالَ : هَذَا لِعَبْدِي ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ » .
وَيَكْفِي مِنْ شَرْحِ الْفَاتِحَةِ هَذَا الْمِقْدَارُ الْجَلِيلُ ، وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 31 الى صـ 36
الحلقة (6)
سورة البقرة
جميعها مدني بلا خلاف. وآيها مائتان وست وثمانون. وقد صح في فضلها عدة أخبار: منها ما في مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» .
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروى ابن حبان في صحيحه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. «إن لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن البقرة، وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام» .
وروى مسلم عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» .
(وقوله الزهراوين: أي المنيرتين- في الإعجاز أو في وفرة الأحكام- والغياية: ما أظلك من فوقك. والفرق: القطعة من الشيء. والصواف: المصطفة. والبطلة: السحرة. ومعنى لا تستطيعها: لا تستطيع النفوذ في قارئها، أو لا يمكنهم حفظها. والله أعلم) .
[ ص: 32 ] القول في تأويل قوله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم [1 ] الم
اعلم أن للناس في هذا وما يجري مجراه من الفواتح مذهبين :
الأول : أن هذا علم مستور ، وسر محجوب ، استأثر الله تبارك وتعالى به ; فهو من المتشابه . ولم يرتض هذا كثير من المحققين وقالوا : لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوما للخلق ، واحتجوا بأدلة عقلية ونقلية ، بسطها العلامة الفخر .
(المذهب الثاني) مذهب من فسرها ، وتكلم فيما يصح أن يكون مرادا منها ، وهو ما للجمهور . وفيه وجهان :
(الأول) : وعليه الأكثر : أنها أسماء للسور .
(الثاني) : أن يكون ورود الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد : كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدي بالقرآن وبغرابة نظمه ، وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم - وقد عجزوا عنه عن آخرهم - كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ، ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه ، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله - بعد المراجعات المتطاولة - وهم أمراء الكلام ، وزعماء الحوار ، وهم الحراص على التساجل في اقتضاب الخطب ، والمتهالكون على الاقتنان في القصيد والرجز ، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق ، وشقت غبار كل سابق ، ولم يتجاوز الحد الخارج من قوى الفصحاء ، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء إلا لأنه ليس بكلام البشر ، وإنه كلام خالق القوى والقدر . قاله الزمخشري .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[2 ] ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ
أَيْ : هَذَا الْقُرْآنُ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّجْدَةِ : الم تَنْـزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ : اخْتِصَاصُ ذَلِكَ [ ص: 33 ] بِالْإِشَارَةِ لِلْبَعِيدِ حُكْمٌ عُرْفِيٌّ لَا وَضْعِيٌّ ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُعَارِضُ بَيْنَ اسْمَيِ الْإِشَارَةِ . فَيَسْتَعْمِلُو نَ كُلًّا مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ . وَفِي التَّنْزِيلِ مِنْ ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ ، وَمَنْ جَرَى عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ لِلْبَعِيدِ يَقُولُ : إِنَّمَا صَحَّتِ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ هُنَا إِلَى مَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ ، لِتَعْظِيمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ ، ذَهَابًا إِلَى بُعْدِ دَرَجَتِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ فِي الْهِدَايَةِ وَالشَّرَفِ .
وَالرَّيْبُ فِي الْأَصْلِ : مَصْدَرُ رَابَنِي إِذَا حَصَلَ فِيكَ الرِّيبَةُ . وَحَقِيقَتُهَا : قَلَقُ النَّفْسِ وَاضْطِرَابُهَا . ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَى الشَّكِّ مُطْلَقًا ، أَوْ مَعَ تُهْمَةٍ . لِأَنَّهُ يُقْلِقُ النَّفْسَ وَيُزِيلُ الطُّمَأْنِينَة َ .
وَفِي الْحَدِيثِ : « دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ » .
وَمَعْنَى نَفْيِهِ عَنِ الْكِتَابِ ، أَنَّهُ فِي عُلُوِّ الشَّأْنِ ، وَسُطُوعِ الْبُرْهَانِ ، بِحَيْثُ لَيْسَ فِيهِ مَظِنَّةُ أَنْ يُرْتَابَ فِي حَقِيقَتِهِ ، وَكَوْنِهِ وَحْيًا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى . وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ الْعَرَبَ ، مَعَ بُلُوغِهِمْ فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى النِّهَايَةِ ، عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ . وَذَلِكَ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ بَلَغَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ فِي الظُّهُورِ إِلَى حَيْثُ لَا يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ ، لَا أَنَّهُ لَا يَرْتَابُ فِيهِ أَحَدٌ أَصْلًا .
" هُدًى لِلْمُتَّقِينَ" أَيْ : هَادٍ لَهُمْ وَدَالٌّ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ الْمُفْضِي إِلَى سَعَادَتَيِ الدَّارَيْنِ .
قَالَ النَّاصِرُ فِي الِانْتِصَافِ : الْهُدَى يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : (أَحَدُهُمَا) الْإِرْشَادُ وَإِيضَاحُ سَبِيلِ الْحَقِّ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْهُدَى لِلضَّالِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ رَشَدٌ إِلَى الْحَقِّ ، سَوَاءٌ حَصَلَ لَهُ الِاهْتِدَاءُ أَوْ لَا .
وَ(الْآخَرُ) : خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الِاهْتِدَاءَ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ ، وَمِنْهُ : أُولَئِكَ [ ص: 34 ] الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ فَإِذَا ثَبَتَ وُرُودُهُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا . وَعَلَى الْأَوَّلِ ، فَتَخْصِيصُ الْهُدَى بِالْمُتَّقِينَ لِلتَّنْوِيهِ بِمَدْحِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا وَانْتَفَعُوا بِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا وَقَالَ : إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، مُنْذِرًا لِكُلِّ النَّاسِ ، فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِإِنْذَارِهِ . وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ آيَةِ : قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍوَنُنَـزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّفْعَ بِهِ لَا يَنَالُهُ إِلَّا الْأَبْرَارُ ، وَالْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ -هُنَا- مَنْ نَعَتَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ .
[ ص: 35 ] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[3 ] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
" الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ" أَيْ يُصَدِّقُونَ "بِالْغَيْبِ" الْغَيْبُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ غَابَ . بِمَعْنَى اسْتَتَرَ وَاحْتَجَبَ وَخَفِيَ ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ - كَالزُّورِ لِلزَّائِرِ - أُطْلِقَ عَلَيْهِ مُبَالَغَةً ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا لَا يَقَعُ تَحْتَ الْحَوَاسِّ ، وَلَا تَقْتَضِيهِ بَدَاهَةُ الْعُقُولِ ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ بِخَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ، وَالْمَعْنَى يُؤْمِنُونَ بِمَا لَا يَتَنَاوَلُهُ حِسُّهُمْ . كَذَاتِهِ تَعَالَى ، وَمَلَائِكَتِهِ ، وَالْجَنَّةِ ، وَالنَّارِ ، وَالْعَرْشِ ، وَالْكُرْسِيِّ ، وَاللَّوْحِ ، وَنَحْوِهَا .
" وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ" ، أَيْ : يُؤَدُّونَهَا بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ . كَالْخُشُوعِ وَالْمُرَاقَبَة ِ وَتَدَبُّرِ الْمَتْلُوِّ وَالْمَقْرُوءِ .
قَالَ الرَّاغِبُ : إِقَامَةُ الصَّلَاةِ تَوْفِيَةُ حُدُودِهَا ، وَإِدَامَتُهَا . وَتَخْصِيصُ الْإِقَامَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِيقَاعَهَا فَقَطْ ، وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرْ بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يَمْدَحْ بِهَا إِلَّا بِلَفْظِ الْإِقَامَةِ نَحْوَ : أَقِمِ الصَّلاةَ وَقَوْلِهِ : وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَ : الَّذِينَ [ ص: 36 ] يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَلَمْ يَقُلِ : الْمُصَلِّي ، إِلَّا فِي الْمُنَافِقِينَ : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّينَ كَثِيرٌ وَالْمُقِيمِينَ لَهَا قَلِيلٌ - كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْحَاجُّ قَلِيلٌ وَالرَّكْبُ كَثِيرٌ - وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : « مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ عَلَى رَبِّهِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ » . فَذَكَرَ مَعَ قَوْلِهِ : « صَلَّى » الْإِقْبَالَ بِقَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ تَنْبِيهًا عَلَى مَعْنَى الْإِقَامَةِ ، وَبِذَلِكَ عَظُمَ ثَوَابُهُ ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي حَثَّ تَعَالَى عَلَى تَوْفِيَةِ حَقِّهِ ، ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْإِقَامَةِ ، نَحْوَ : وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَنَحْوَ : وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى تَعْدِيلِهِ . انْتَهَى .
فَالْإِقَامَةُ مِنْ أَقَامَ الْعُودَ إِذَا قَوَّمَهُ . وَ "الصَّلَوةَ" فِعْلَةٌ مِنْ صَلَّى إِذَا دَعَا ، كَـ "الزَّكَوةِ" مِنْ زَكَى - وَإِنَّمَا كُتِبَتَا بِالْوَاوِ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ الْمُفَخَّمِ - وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْفِعْلُ الْمَخْصُوصُ بِهَا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الدُّعَاءِ .
" وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ" أَيْ : يُؤْتُونَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ مَنْ شُرِعَ لَهُمْ إِيتَاؤُهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَأَمْثَالِهِمْ ، عَلَى مَا بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 37 الى صـ 42
الحلقة (7)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[4 ] وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
" وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ" وَالْمُرَادُ "بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ" الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ كُلُّهُ ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي - وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مُتَرَقِّبًا - تَغْلِيبًا لِلْمَوْجُودِ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ . كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ : "وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ" الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ السَّالِفَةُ كُلُّهَا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَـزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْـزَلَ مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ . وَالْإِنْزَالُ النَّقْلُ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ . فَنُزُولُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَتَلَقَّاهَا جِبْرِيلُ مِنْ جَنَابِهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَنْزِلُ بِهَا إِلَى الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ . وَلِهَذَا يُقَالُ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ ، مِنْهُ بَدَأَ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ : وَإِلَيْهِ يَعُودُ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ . قَالَ تَعَالَى : وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَـزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ وَقَالَ تَعَالَى : قُلْ نَـزَّلَهُ [ ص: 38 ] رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ وَقَالَ تَعَالَى : تَنْـزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
" وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ الْآخِرَةُ فِي الْأَصْلِ : تَأْنِيثُ الْآخِرِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْأَوَّلِ وَهِيَ صِفَةُ الدَّارِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الدُّنْيَا . وَقِيلَ لِلدُّنْيَا : دُنْيَا ، لِأَنَّهَا أَدْنَى مِنَ الْآخِرَةِ . وَهُمَا مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ . وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ جَرَيَا مَجْرَى الْأَسْمَاءِ ; إِذْ قَدْ غَلَبَ تَرْكُ ذِكْرِ اسْمِ مَوْصُوفِهِمَا مَعَهُمَا ، كَأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الصِّفَاتِ .
وَالْإِيقَانُ إِتْقَانُ الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ عَنْهُ ، وَفِي تَقْدِيمِ "الْآخِرَةُ" وَبِنَاءُ "يُوقِنُونَ" عَلَى "هُمْ" تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ ، وَبِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ إِثْبَاتِ أَمْرِ الْآخِرَةِ عَلَى خِلَافِ حَقِيقَتِهِ . كَزَعْمِهِمْ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ؛ وَأَنَّ النَّارَ لَنْ تَمَسَّهُمْ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ؛ وَاخْتِلَافُهُم ْ فِي أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ هَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ نَعِيمِ الدُّنْيَا أَوْ لَا ؟ وَهَلْ هُوَ دَائِمٌ أَوْ لَا ؟ فَاعْتِقَادُهُم ْ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ بِمَعْزِلٍ مِنَ الصِّحَّةِ ، فَضْلًا عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ ! .
[ ص: 39 ] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[5 ] أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
" أُولَئِكَ" أَيِ : الْمُتَّصِفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ . عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ" أَيْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَبُرْهَانٍ ، وَاسْتِقَامَةٍ ، وَسَدَادٍ - بِتَسْدِيدِهِ إِيَّاهُمْ وَتَوْفِيقِهِ لَهُمْ- . "وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" أَيِ الْمُنْجَحُونَ ، الْمُدْرِكُونَ مَا طَلَبُوا عِنْدَ اللَّهِ -بِإِيمَانِهِمْ - مِنَ الْفَوْزِ بِالثَّوَابِ ، وَالْخُلُودِ فِي الْجَنَّاتِ ، وَالنَّجَاةِ مِمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَعْدَائِهِ مِنَ الْعِقَابِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[6 ] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى نُعُوتَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلُ ، شَرَحَ أَحْوَالَ مُقَابِلِيهِمْ وَهُمُ الْكَفَرَةُ الْمَرَدَةُ بِأَنَّهُمْ : تَنَاهَوْا فِي الْغَوَايَةِ وَالضَّلَالِ إِلَى حَيْثُ لَا يُجْدِيهُمُ الْإِنْذَارُ وَالتَّذْكِيرُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ وَكَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فِي الْمُعَانِدِينَ الْكِتَابِيِّين َ : وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ الْآيَةَ .
وَ "سَوَاءٌ" اسْمٌ بِمَعْنَى : الِاسْتِوَاءِ ، وُصِفَ بِهِ ، كَمَا يُوصَفُ بِالْمَصَادِرِ ، مُبَالَغَةً ؛ وَمِنْهُ [ ص: 40 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ بِمَعْنَى : مُسْتَوِيَةٍ .
وَ(الْإِنْذَارُ) : الْإِعْلَامُ مَعَ تَخْوِيفٍ ، وَالْمُرَادُ هُنَا : التَّخْوِيفُ مِنْ عَذَابِهِ تَعَالَى ، وَانْتِقَامِهِ ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ لِمَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلْبِشَارَةِ ، وَلِأَنَّ الْإِنْذَارَ أَوْقَعُ فِي الْقُلُوبِ ؛ وَمَنْ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِهِ فَلَأَنْ لَا يَرْفَعَ لِلْبِشَارَةِ رَأْسًا - أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ "لَا يُؤْمِنُونَ" جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ ، مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا ، مُبَيِّنَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِجْمَالِ مَا فِيهِ الِاسْتِوَاءُ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[7 ] خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
اسْتِنْئَافٌ مُعَلِّلٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْحُكْمِ ، أَوْ بَيَانٌ وَتَأْكِيدٌ لَهُ . وَالْخَتْمُ عَلَى الشَّيْءِ : الِاسْتِيثَاقُ مِنْهُ بِضَرْبِ الْخَاتَمِ عَلَيْهِ . وَالْمُرَادُ : إِحْدَاثُ حَالَةٍ تَجْعَلُهَا -بِسَبَبِ تَمَادِيهِمْ فِي الْغَيِّ ، وَانْهِمَاكِهِم ْ فِي التَّقْلِيدِ ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ مِنْهَاجِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ - بِحَيْثُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الْإِنْذَارُ ، وَلَا يَنْفُذُ فِيهَا الْحَقُّ أَصْلًا.
قَالَ أَبُو السُّعُودِ : وَإِسْنَادُ إِحْدَاثِ تِلْكَ الْحَالَةِ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، لِاسْتِنَادِ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ عِنْدَنَا -مِنْ حَيْثُ الْخَلْقُ- إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ . وَوُرُودُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَاعِيَةً عَلَيْهِمْ سُوءَ صَنِيعِهِمْ ، وَوَخَامَةَ عَاقِبَتِهِمْ ، لِكَوْنِ أَفْعَالِهِمْ - مِنْ حَيْثُ الْكَسْبُ - مُسْتَنِدَةً إِلَيْهِمْ ، فَإِنَّ خَلْقَهَا مِنْهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ ، بَلْ بِطَرِيقِ التَّرْتِيبِ - عَلَى مَا اقْتَرَفُوهُ مِنَ الْقَبَائِحِ - كَمَا يُعْرِبُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ ، [ ص: 41 ] يَعْنِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَقَوْلِهِ : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ سَلَكُوا مَسْلَكَ التَّأْوِيلِ ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ عِدَّةً مِنَ الْأَقَاوِيلِ .
مِنْهَا : أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ ، وَتَمَكَّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ ، حَتَّى صَارَ كَالطَّبِيعَةِ لَهُمْ ، شُبِّهَ بِالْوَصْفِ الْخُلْقِيِّ الْمَجْبُولِ عَلَيْهِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَمْثِيلُ قُلُوبِهِمْ بِقُلُوبِ الْبَهَائِمِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى خَالِيَةً عَنِ الْفَطِنِ ، أَوْ بِقُلُوبٍ قُدِّرَ خَتْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا . كَمَا فِي : سَالَ بِهِ الْوَادِي - إِذَا هَلَكَ - وَطَارَتْ بِهِ الْعَنْقَاءُ - إِذَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ - .
وَمِنْهَا : أَنَّ أَعْرَاقَهُمْ لَمَّا رَسَخَتْ فِي الْكُفْرِ ، وَاسْتَحْكَمَتْ ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ إِلَى تَحْصِيلِ إِيمَانِهِمْ طَرِيقٌ سِوَى الْإِلْجَاءِ وَالْقَسْرِ ؛ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مُحَافَظَةً عَلَى حِكْمَةِ التَّكْلِيفِ ، عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْخَتْمِ ، لِأَنَّهُ سَدٌّ لِطَرِيقِ إِيمَانِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ . وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِتَرَامِي أَمْرِهِمْ فِي الْغَيِّ وَالْعِنَادِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ ذَلِكَ حِكَايَةٌ لِمَا كَانَتِ الْكَفَرَةُ يَقُولُونَهُ . مِثْلَ قَوْلِهِمْ : قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ. تَهَكُّمًا بِهِمْ .
وَمِنْهَا : أَنَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ . وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا انْتَهَى مُلَخَّصًا
(فَائِدَةٌ) : قَالَ الرَّاغِبُ : الْمُرَادُ بِالْقَلْبِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلُ وَالْمَعْرِفَةُ اهـ.
[ ص: 42 ] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[8 ] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
أَصْلُ نَاسٍ أُنَاسٌ ، حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ تَخْفِيفًا ، وَحَذْفُهَا مَعَ لَامِ التَّعْرِيفِ كَاللَّازِمِ . وَيَشْهَدُ لِأَصْلِهِ إِنْسَانٌ ، وَأُنَاسٌ ، وَأَنَاسِيٌّ ، وَإِنْسٌ ، وَسُمُّوا لِظُهُورِهِمْ وَأَنَّهُمْ يُؤْنِسُونَ أَيْ : يُبْصِرُونَ - كَمَا سُمِّيَ الْجِنُّ لِاجْتِنَانِهِم ْ - وَلِذَلِكَ سُمُّوا بَشَرًا . وَقِيلَ : اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْأُنْسِ - ضِدِّ الْوَحْشَةِ - لِأَنَّ الْإِنْسَاْنَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ . وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ . لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نِفَاقٌ ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ بِهَا الْأَنْصَارُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَكَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِم ْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ عَلَى طَرِيقَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ . وَبِهَا الْيَهُودُ - مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ- وَهُمْ ثَلَاثُ قَبَائِلَ : بَنُو قَيْنُقَاعٍ - حُلَفَاءُ الْخَزْرَجِ - وَبَنُو النَّضِيرِ وَبَنُو قُرَيْظَةَ - حُلَفَاءُ الْأَوْسِ - فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، وَأَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ قَبِيلَتَيِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَقَلَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ -إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ نِفَاقٌ أَيْضًا ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدُ شَوْكَةٌ تُخَافُ ؛ بَلْ قَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَادَعَ الْيَهُودَ وَقَبَائِلَ كَثِيرَةً -مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حَوَالَيِ الْمَدِينَةِ- فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ الْعُظْمَى ، وَأَظْهَرَ اللَّهُ كَلِمَتَهُ ، وَأَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ -وَكَانَ رَأْسًا فِي الْمَدِينَةِ ، وَهُوَ مَنَ الْخَزْرَجِ ، وَكَانَ ابْنَ سَيِّدِ الطَّائِفَتَيْن ِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؛ وَكَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ ، فَجَاءَهُمُ الْخَبَرُ ، وَأَسْلَمُوا ، وَاشْتَغَلُوا عَنْهُ ، فَبَقِيَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ ، قَالَ : هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ . فَأَظْهَرَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ ، وَدَخَلَ مَعَهُ طَوَائِفُ - مِمَّنْ هُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ وَنِحْلَتِهِ - وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ فَمِنْ ثَمَّ وُجِدَ النِّفَاقُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 43 الى صـ 48
الحلقة (8)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[9 ] يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
قَالَ الْقَاشَانِيُّ : الْمُخَادَعَةُ اسْتِعْمَالُ الْخُدَعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ ، وَهُوَ إِظْهَارُ الْخَيْرِ ، وَاسْتِبْطَانُ الشَّرِّ ، وَمُخَادَعَةُ اللَّهِ مُخَادَعَةُ رَسُولِهِ ، لِقَوْلِهِ : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ فَخِدَاعُهُمْ لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ إِظْهَارُ الْإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ ، وَاسْتِبْطَانُ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةِ . وَخِدَاعُ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِين َ إِيَّاهُمْ مُسَالَمَتُهُمْ ، وَإِجْرَاءُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ . بِحَقْنِ الدِّمَاءِ وَحَصْنِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَادِّخَارِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ، وَالْمَآلِ الْوَخِيمِ ، وَسُوءِ الْمَغِبَّةِ لَهُمْ ، وَخِزْيِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِافْتِضَاحِهِم ْ بِإِخْبَارِهِ تَعَالَى وَبِالْوَحْيِ عَنْ حَالِهِمْ . لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْخَدَّاعِينَ : أَنَّ خِدَاعَهُمْ لَا يَنْجَحُ إِلَّا فِي أَنْفُسِهِمْ . بِإِهْلَاكِهَا ، و تَحْسِيرِهَا ، وَإِيرَاثِهَا الْوَبَالَ وَالنَّكَالَ- بِازْدِيَادِ الظُّلْمَةِ ، وَالْكُفْرِ ، وَالنِّفَاقِ ، وَاجْتِمَاعِ أَسْبَابِ الْهَلَكَةِ ، وَالْبُعْدِ وَالشَّقَاءِ ، عَلَيْهَا -وَخِدَاعُ اللَّهِ يُؤَثِّرُ فِيهِمْ أَبْلَغَ تَأْثِيرٍ ، وَيُوبِقُهُمْ أَشَدَّ إِيبَاقٍ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ وَهُمْ - مِنْ غَايَةِ تَعَمُّقِهِمْ فِي جَهْلِهِمْ - لَا يُحِسُّونَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الظَّاهِرِ .
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَافِعٌ ، وَأَبُو عَمْرٍو : "وَمَا يُخَادِعُونَ" بِالْأَلِفِ .
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : نَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ ، لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِظَاهِرِ أَمْرِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ ، فَيَقَعَ بِذَلِكَ فَسَادٌ عَرِيضٌ - مِنْ عَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُمْ ، وَمِنِ اعْتِقَادِ إِيمَانِهِمْ ، وَهُمْ كُفَّارٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ - وَهَذَا مِنَ الْمَحْذُورَاتِ : أَنْ يُظَنَّ بِأَهْلِ الْفُجُورِ خَيْرٌ . ثُمَّ إِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ : كَانَ عَلَيْهِ [ ص: 44 ] الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَعْلَمُ أَعْيَانَ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ -إِنَّمَا مُسْتَنَدُهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ فِي تَسْمِيَةِ أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ مُنَافِقًا - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ - الَّذِينَ هَمُّوا أَنْ يَفْتِكُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ظَلْمَاءِ اللَّيْلِ عِنْدَ عَقَبَةٍ هُنَاكَ ، عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُنَفِّرُوا بِهِ النَّاقَةَ ، لِيَسْقُطَ عَنْهَا ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَمْرَهُمْ ، فَأَطْلَعَ عَلَى ذَلِكَ حُذَيْفَةَ .
فَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُون َ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا فَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُغْرَ بِهِمْ وَلَمْ يُدْرَكْ عَلَى أَعْيَانِهِمْ ، وَإِنَّمَا كَانَ تُذْكَرُ لَهُ صِفَاتُهُمْ ، فَيَتَوَسَّمُهَ ا فِي بَعْضِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُم ْ فَلَعَرَفْتَهُم ْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّ هُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وَقَدْ كَانَ مِنْ أَشْهَرِهِمْ بِالنِّفَاقِ ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ .
وَاسْتَنَدَ - غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ - فِي الْحِكْمَةِ عَنْ كَفِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ ، بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ « أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ الْعَرَبُ أَنَّ مُحَمَّدًا [ ص: 45 ] يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ » . وَمَعْنَاهُ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَنْفِيرٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَعْرَابِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَعْلَمُونَ حِكْمَةَ قَتْلِهِمْ -بِأَنَّهُ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ- فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَهُ بِمُجَرَّدِ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ ، فَيَقُولُونَ : إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[10 ] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
الْمَرَضُ : السَّقَمُ ، وَهُوَ نَقِيضُ الصِّحَّةِ ، بِسَبَبِ مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ ، فَيُخْرِجُهُ عَنْ الِاعْتِدَالِ اللَّائِقِ بِهِ ، وَيُوجِبُ الْخَلَلَ فِي أَفَاعِيلِهِ ، اُسْتُعِيرَ هَاهُنَا لِعَدَمِ صِحَّةِ يَقِينِهِمْ ، وَضَعْفِ دِينِهِمْ - وَكَذَا تُوصَفُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّلَامَةِ الَّتِي هِيَ صِحَّةُ الْيَقِينِ ، وَعَدَمُ ضَعْفِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أَيْ : غَيْرُ مَرِيضٍ بِمَا ذَكَرْنَا - أَوِ اُسْتُعِيرَ لِشَكِّهِمْ ، لِأَنَّ الشَّكَّ تَرَدُّدٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، وَالْمُنَافِقُ مُتَرَدِّدٌ ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ « مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ [ ص: 46 ] الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ » وَالْمَرِيضُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ .
" فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا" بِأَنْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا التَّذْكِيرُ وَالْإِنْذَارُ .
وَقَالَ الْقَاشَانِيُّ : أَيْ : مَرَضًا آخَرَ - حِقْدًا وَحَسَدًا وَغِلًّا - بِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الدِّينِ ، وَنُصْرَةِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِين َ - ثُمَّ قَالَ : وَالرَّذَائِلُ كُلُّهَا أَمْرَاضُ الْقُلُوبِ ، لِأَنَّهَا أَسْبَابُ ضَعْفِهَا وَآفَتِهَا فِي أَفْعَالِهَا الْخَاصَّةِ ، وَهَلَاكِهَا فِي الْعَاقِبَةِ .
" وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" أَيْ : مُؤْلِمٌ - بِكَسْرِ اللَّامِ - فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ - كَسَمِيعٍ وَبَصِيرٍ -
قَالَ فِي الْمُحْكَمِ : الْأَلِيمُ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَبْلُغُ إِيجَاعُهُ غَايَةَ الْبُلُوغِ . وَمِنْهُ يُعْلَمُ وَجْهُ إِيثَارِهِ فِي عَذَابِ الْمُنَافِقِينَ -عَلَى "الْعِظَمِ" الْمُتَقَدِّمِ فِي وَصْفِ عَذَابِ الْكَافِرِينَ- وَيُؤَيِّدُهُ : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا
"بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوْ لِلْمُقَابَلَةِ -أَيْ : بِسَبَبِ كَذِبِهِمْ أَوْ بِمُقَابَلَتِهِ- وَهُوَ قَوْلُهُمْ : آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ . وَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى قُبْحِ الْكَذِبِ ، وَسَمَاجَتِهِ ، وَتَخْيِيلِ أَنَّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ لَاحِقٌ بِهِمْ مِنْ أَجْلِ كَذِبِهِمْ- مَعَ إِحَاطَةِ عِلْمِ السَّامِعِ بِأَنَّ لُحُوقَ الْعَذَابِ بِهِمْ مِنْ جِهَاتٍ شَتَّى- وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا - وَالْقَوْمُ كَفَرَةٌ - وَإِنَّمَا خَصَّتِ الْخَطِيئَاتِ اسْتِعْظَامًا لَهَا ، وَتَنْفِيرًا عَنِ ارْتِكَابِهَا .
[ ص: 47 ] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[11 ] وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [12 ] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ
شُرُوعٌ فِي تَعْدِيدِ بَعْضٍ مِنْ مَسَاوِئِهِمُ الْمُتَفَرِّعَة ِ -عَلَى مَا حَكَى عَنْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ- ، وَ"الْفَسَادُ": خُرُوجُ الشَّيْءِ عَنْ حَالِ اسْتِقَامَتِهِ وَكَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ . وَنَقِيضُهُ "الصَّلَاحُ" وَهُوَ الْحُصُولُ عَلَى الْحَالَةِ الْمُسْتَقِيمَة ِ النَّافِعَةِ . وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ : تَهْيِيجُ الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ فَسَادَ مَا فِي الْأَرْضِ ، وَانْتِفَاءَ الِاسْتِقَامَةِ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ ، وَالزُّرُوعِ ، وَالْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيّ َةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَمِنْهُ قِيلَ لِحَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ طَيْءٍ : حَرْبُ الْفَسَادِ - .
وَكَانَ إِفْسَادُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْأَرْضِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُمَالِئُونَ الْكُفَّارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِإِفْشَاءِ أَسْرَارِهِمْ إِلَيْهِمْ ، وَإِغْرَائِهِمْ عَلَيْهِمْ ، وَاتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ ، مَعَ مَا يَدْعُونَ فِي السِّرِّ إِلَى: تَكْذِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَحْدِ الْإِسْلَامِ ، وَإِلْقَاءِ الشُّبَهِ ، وَذَلِكَ مِمَّا يُجَرِّئُ الْكَفَرَةَ عَلَى إِظْهَارِ عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَنَصْبِ الْحَرْبِ لَهُ ، وَطَمَعِهِمْ - فِي الْغَلَبَةِ ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِهِمْ مُؤَدِّيًا إِلَى الْفَسَادِ -بِتَهْيِيجِ الْفِتَنِ بَيْنَهُمْ- قِيلَ لَهُمْ : لَا تُفْسِدُوا - كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ : لَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ بِيَدِكَ وَلَا تُلْقِ نَفْسَكَ فِي النَّارِ ؛ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى مَا هَذِهِ عَاقِبَتُهُ- وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [ ص: 48 ] فَأَخْبَرَ أَنَّ مُوَلَّاةَ الْكَافِرِينَ تُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ ، لِمَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُمْ "إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ" أَيْ : بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . نُدَارِي الْفَرِيقَيْنِ وَنُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أَوْ مَعْنَاهُ : إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ فِي الْأَرْضِ بِالطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ .
قَالَ الرَّاغِبُ : تَصَوَّرُوا إِفْسَادَهُمْ بِصُورَةِ الْإِصْلَاحِ - لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْمَرَضِ -كَمَا قَالَ : أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا وَقَوْلُهُ : وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَوْلُهُ : وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا
وَقَالَ الْقَاشَانِيُّ: كَانُوا يَرَوْنَ الصَّلَاحَ فِي تَحْصِيلِ الْمَعَاشِ ، وَتَيْسِيرِ أَسْبَابِهِ ، وَتَنْظِيمِ أُمُورِ الدُّنْيَا - لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً - لِتَوَغُّلِهِمْ فِي مَحَبَّةِ الدُّنْيَا ، وَانْهِمَاكِهِم ْ فِي اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَاحْتِجَابِهِم ْ- بِالْمَنَافِعِ الْجُزْئِيَّةِ، وَالْمَلَاذِّ الْحِسِّيَّةِ -عَنِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الْكُلِّيَّةِ، وَاللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ ، وَبِذَلِكَ يَتَيَسَّرُ مُرَادُهُمْ ، وَيَتَسَهَّلُ مَطْلُوبُهُمْ ، وَهُمْ لَا يُحِسُّونَ بِإِفْسَادِهِمُ الْمُدْرَكَ بِالْحِسِّ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 49 الى صـ 54
الحلقة (9)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[13 ] وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ
"وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ" بِطَرِيقِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، إِثْرِ نَهْيِهِمْ عَنَ الْمُنْكَرِ - إِتْمَامًا لِلنُّصْحِ ، وَإِكْمَالًا لِلْإِرْشَادِ – "آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ" أَيِ : الْكَامِلُونَ فِي الْإِنْسَانِيَّ ةِ ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ النَّاسُ فِي الْحَقِيقَةِ لِجَمْعِهِمْ مَا يُعَدُّ مِنْ خَوَاصِّ الْإِنْسَانِ وَفَضَائِلِهِ- "قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ" اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ . وَ(السَّفَهُ) خِفَّةٌ وَسَخَافَةُ رَأْيٍ يُورِثُهُمَا قُصُورَ الْعَقْلِ ، وَقِلَّةَ الْمَعْرِفَةِ بِمَوَاضِعِ الْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ سُفَهَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا
وَإِنَّمَا سَفَّهُوهُمْ - مَعَ أَنَّهُمُ الْعُقَلَاءُ الْمَرَاجِيحُ- لِأَنَّهُمْ: لِجَهْلِهِمْ ، وَإِخْلَالِهِمْ بِالنَّظَرِ ، وَإِنْصَافِ أَنْفُسِهِمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ مَا عَدَاهُ بَاطِلٌ - وَمَنْ رَكِبَ مَتْنَ الْبَاطِلِ كَانَ سَفِيهًا - وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي رِيَاسَةٍ فِي قَوْمِهِمْ ، وَيَسَارٍ ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْمُؤْمِنِينَ فُقَرَاءَ ، وَمِنْهُمْ مَوَالٍ- كَصُهَيْبٍ ، وَبِلَالٍ ، وَخَبَّابٍ- فَدَعَوْهُمْ سُفَهَاءَ تَحْقِيرًا لِشَأْنِهِمْ ! "أَلَّا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[14 ] وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ
"وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا" أَيْ : أَظْهَرُوا لَهُمُ الْإِيمَانَ ، وَالْمُوَالَاةَ ، وَالْمُصَافَاةَ -نِفَاقًا، وَمُصَانَعَةً، وَتَقِيَّةً، وَلِيُشْرِكُوهُ مْ فِيمَا أَصَابُوا مِنْ خَيْرٍ وَمَغْنَمٍ- .
[ ص: 50 ] وَاعْلَمْ أَنَّ مَسَاقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِخِلَافِ مَا سِيقَتْ لَهُ أَوَّلَ قِصَّةِ الْمُنَافِقِينَ ، فَلَيْسَ بِتَكْرِيرٍ ; لِأَنَّ تِلْكَ فِي بَيَانِ مَذْهَبِهِمْ ، وَالتَّرْجَمَةِ عَنْ نِفَاقِهِمْ ؛ وَهَذِهِ لِبَيَانِ تَبَايُنِ أَحْوَالِهِمْ ، وَتَنَاقُضِ أَقْوَالِهِمْ - فِي أَثْنَاءِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُخَاطَبَة ِ - حَسَبَ تَبَايُنِ الْمُخَاطَبِينَ !
وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ يُقَالُ : خَلَوْتُ بِفُلَانٍ وَإِلَيْهِ أَيِ : انْفَرَدْتُ مَعَهُ ؛ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَلَا بِمَعْنَى : مَضَى ، وَمِنْهُ : الْقُرُونُ الْخَالِيَةُ . وَالْمُرَادُ بِـ "شَياطنيهم" : أَصْحَابُهُمْ أُولُو التَّمَرُّدِ وَالْعِنَادِ ؛ وَالشَّيْطَانُ يَكُونُ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَإِضَافَتُهُمْ إِلَيْهِمْ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْكُفْرِ ، وَاشْتِقَاقُ شَيْطَانٍ مِنْ شَطَنَ ، إِذَا بَعُدَ ; لِبُعْدِهِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ .
وَمَعْنَى "إِنَّا مَعَكُمْ" أَيْ : فِي الِاعْتِقَادِ عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، إِنَّمَا نَحْنُ فِي إِظْهَارِ الْإِيمَانِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَهْزِئُونَ سَاخِرُونَ بِهِمْ . وَالِاسْتِهْزَا ءُ بِالشَّيْءِ السُّخْرِيَةُ مِنْهُ ، يُقَالُ : هَزَأْتُ وَاسْتَهْزَأْتُ بِمَعْنًى .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[15 ] اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
"اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ" يَسْخَرُ بِهِمْ لِلنِّقْمَةِ مِنْهُمْ -هَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ- : وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ يَزِيدُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِمْلَاءِ ، وَالتَّرْكُ لَهُمْ فِي عُتُوِّهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
[ ص: 51 ] وَ(الطُّغْيَانُ) الْمُرَادُ بِهِ هُنَا : الْغُلُوُّ فِي الْكُفْرِ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعُتُوِّ . وَأَصْلُ الْمَادَّةِ هُوَ الْمُجَاوَزَةُ فِي الشَّيْءِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ
وَ(الْعَمَهُ) : مِثْلُ الْعَمَى - إِلَّا أَنَّ الْعَمَى عَامٌّ فِي الْبَصَرِ وَالرَّأْيِ ، وَالْعَمَهُ فِي الرَّأْيِ خَاصَّةً - وَهُوَ التَّحَيُّرُ وَالتَّرَدُّدُ ، لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ .
أَيْ فِي ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمُ - الَّذِي غَمَرَهُمْ دَنَسُهُ ، وَعَلَاهُمْ رِجْسُهُ - يَتَرَدَّدُونَ حَيَارَى ، ضُلَّالًا ، لَا يَجِدُونَ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهُ سَبِيلًا .
وَالْمَشْهُورُ فَتْحُ الْيَاءِ مِنْ "يَمُدُّهُمْ"، وَقُرِئَ - شَاذًّا - بِضَمِّهَا ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ . يُقَالُ : مَدَّ الْجَيْشَ وَأَمَدَّهُ - إِذَا زَادَهُ ، وَأَلْحَقَ بِهِ مَا يُقَوِّيهِ وَيُكَثِّرُهُ -وَكَذَلِكَ مَدَّ الدَّوَاةَ وَأَمَدَّهَا زَادَهَا مَا يُصْلِحُهَا .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[16 ] أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ
"أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى" إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِينَ بِاعْتِبَارِهِ اتِّصَافَهُمْ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الصِّفَاتِ الشَّنِيعَةِ الْمُمَيِّزَةِ لَهُمْ عَمَّنْ عَدَاهُمْ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ ، بِحَيْثُ صَارُوا كَأَنَّهُمْ حُضَّارٌ مُشَاهِدُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ . وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْبُعْدِ لِلْإِيذَانِ بِبُعْدِ مَنْزِلَتِهِمْ فِي الشَّرِّ وَسُوءِ الْحَالِ ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ ، خَبَرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى "الَّذِينَ اشْتَرَوُا" إِلَخْ . وَالْجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا ، وَبَيَانٌ لِكَمَالِ جَهَالَتِهِمْ - فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ - بِإِظْهَارِ غَايَةِ سَمَاجَتِهَا ، وَتَصْوِيرِهَا بِصُورَةِ مَا لَا يَكَادُ يَتَعَاطَاهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ - فَضْلًا عَنِ الْعُقَلَاءِ - . وَ "الضَّلَالَةَ" الْجَوْرُ عَنِ الْقَصْدِ ؛ وَ "الْهُدَى" التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ . وَقَدِ اسْتُعِيرَ الْأَوَّلُ: لِلْعُدُولِ عَنِ الصَّوَابِ فِي الدِّينِ، وَالثَّانِي : لِلِاسْتِقَامَة ِ عَلَيْهِ. وَ "الِاشتراء" اسْتِبْدَالُ السِّلْعَةِ بِالثَّمَنِ -أَيْ : أَخْذُهَا بِهِ- [ ص: 52 ] فَاشْتِرَاءُ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى مُسْتَعَارٌ لِأَخْذِهَا بَدَلًا مِنْهُ أَخْذًا مَنُوطًا بِالرَّغْبَةِ فِيهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ، وَمَا كَانُوا عَلَى هُدًى؟
قُلْتُ: جَعَلُوا لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْهُ -بِتَيْسِيرِ أَسْبَابِهِ- كَأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا تَرَكُوهُ إِلَى الضَّلَالَةِ قَدْ عَطَّلُوهُ، وَاسْتَبْدَلُوه َا بِهِ؛ فَاسْتُعِيرَ ثُبُوتُهُ لِتَمَكُّنِهِمْ بِجَامِعِ الْمُشَارَكَةِ فِي اسْتِتْبَاعِ الْجَدْوَى ، وَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ -مِنَ التَّمَكُّنِ- كَانَتْ حَاصِلَةً لَهُمْ بِمَا شَاهَدُوهُ- مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ ، وَالْمُعْجِزَات ِ الْقَاهِرَةِ- مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
"فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ" عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِهَا. وَالْفَاءُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ مَضْمُونِهِ عَلَيْهَا . وَالتِّجَارَةُ صِنَاعَةُ التُّجَّارِ ، وَهُوَ التَّصَدِّي لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ وَهُوَ الْفَضْلُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ، وَإِسْنَادُ عَدَمِهِ - الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخُسْرَانِ- إِلَيْهَا ؛ وَهُوَ لِأَصْحَابِهَا، مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ : أَنْ يُسْنَدَ الْفِعْلُ إِلَى شَيْءٍ يَتَلَبَّسُ بِالَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُ -كَمَا تَلَبَّسَتِ التِّجَارَةُ بِالْمُشْتَرِين َ- . وَفَائِدَتُهُ: الْمُبَالَغَةُ فِي تَخْسِيرِهِمْ ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِكَثْرَةِ الْخَسَارِ ، وَعُمُومُهُ الْمُسْتَتْبَعُ ، لِسِرَايَتِهِ إِلَى مَا يُلَابِسُهُمْ .
فَإِنْ قُلْتَ : هَبْ أَنَّ شِرَاءَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَقَعَ مَجَازًا فِي مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ ، فَمَا مَعْنَى ذِكْرِ الرِّبْحِ ، وَالتِّجَارَةِ كَأَنَّ ثَمَّ مُبَايَعَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ ؟
قُلْتُ : هَذَا مِنَ الصَّنْعَةِ الْبَدِيعَةِ الَّتِي تَبْلُغُ بِالْمَجَازِ الذُّرْوَةَ الْعُلْيَا ، وَهُوَ أَنْ تُسَاقَ كَلِمَةٌ مَسَاقَ الْمَجَازِ ، ثُمَّ تُقَفَّى بِأَشْكَالٍ لَهَا ، وَأَخَوَاتٍ إِذَا تَلَاحَقْنَ- لَمْ تَرَ كَلَامًا أَحْسَنَ مِنْهُ دِيبَاجَةً ، وَأَكْثَرَ مَاءً وَرَوْنَقًا ، وَهُوَ الْمَجَازُ الْمُرَشَّحُ ؛ فَإِيرَادُهُمَا - إِثْرَ الِاشْتِرَاءِ -تَصْوِيرٌ لِمَا فَاتَهُمْ مِنْ فَوَائِدِ الْهُدَى بِصُورَةِ خَسَارِ التِّجَارَةِ -الَّذِي يَتَحَاشَى عَنْهُ كُلُّ أَحَدٍ- لِلْإِشْبَاعِ فِي التَّخْسِيرِ وَالتَّحْسِيرِ . وَهَذَا النَّوْعُ قَرِيبٌ مِنَ التَّتْمِيمِ الَّذِي يُمَثِّلُهُ أَهْلُ صِنَاعَةِ الْبَدِيعِ بِقَوْلِ الْخَنْسَاءِ :
وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ . . !
لَمَّا شَبَّهَتْهُ - فِي الِاهْتِدَاءِ بِهِ- بِالْعَلَمِ الْمُرْتَفِعِ ، أَتْبَعَتْ ذَلِكَ مَا يُنَاسِبُهُ وَيُحَقِّقُهُ ، فَلَمْ تَقْنَعْ بِظُهُورِ الِارْتِفَاعِ حَتَّى أَضَافَتْ إِلَى ذَلِكَ ظُهُورًا آخَرَ ، بِاشْتِعَالِ النَّارِ فِي رَأْسِهِ .
وَقَوْلُهُ: "وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ" أَيْ : لِزَوَالِ اسْتِعْدَادِهِم ْ ، وَتَكْدِيرِ قُلُوبِهِمْ بِالرَّيْنِ الْمُوجِبِ لِلْحِجَابِ وَالْحِرْمَانِ الْأَبَدِيِّ .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ ُ: فَإِنْ قِيلَ : لِمَ عَطَفَ بِالْوَاوِ عَدَمَ اهْتِدَائِهِمْ عَلَى انْتِفَاءِ رِبْحِ تِجَارَتِهِمْ ، وَرُتِّبَا مَعًا بِالْفَاءِ عَلَى اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى ؟ وَمَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا -مَعَ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ- عَلَى أَنَّ عَدَمَ الِاهْتِدَاءِ قَدْ فُهِمَ مِنِ اسْتِبْدَالِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى ، فَيَكُونُ تَكْرَارًا لِمَا مَضَى ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ رَأْسَ مَالِهِمْ هُوَ الْهُدَى ، فَلَمَّا اسْتَبْدَلُوا بِهِ مَا يُضَادُّهُ - وَلَا يُجَامِعُهُ أَصْلًا - انْتَفَى رَأْسُ الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَحِينَ لَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهِمْ إِلَّا ذَلِكَ الضِّدُّ - أَعْنِي الضَّلَالَةَ - وُصِفُوا بِانْتِفَاءِ الرِّبْحِ وَالْخَسَارَةِ . لِأَنَّ الضَّالَّ فِي دِينِهِ خَاسِرٌ هَالِكٌ - وَإِنْ أَصَابَ فَوَائِدَ دُنْيَوِيَّةً- وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ رَأْسَ مَالِهِ لَمْ يُوصَفْ بِالرِّبْحِ ، بَلْ بِانْتِفَائِهِ ؛ فَقَدْ أَضَاعُوا سَلَامَةَ رَأْسِ الْمَالِ بِالِاسْتِبْدَا لِ ، وَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ إِضَاعَةُ الرِّبْحِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : "وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ" فَلَيْسَ مَعْنَاهُ عَدَمَ اهْتِدَائِهِمْ فِي الدِّينِ - فَيَكُونُ تَكْرَارًا لِمَا سَبَقَ - بَلْ لِمَا وُصِفُوا بِالْخَسَارَةِ فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ أُشِيرَ إِلَى عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ لِطُرُقِ التِّجَارَةِ - كَمَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ التُّجَّارُ الْبُصَرَاءُ بِالْأُمُورِ الَّتِي يَرْبَحُ فِيهَا وَيَخْسَرُ - فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى التَّرْشِيحِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[17 ] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ
وَلَمَّا جَاءَ بِحَقِيقَةِ صِفَتِهِمْ ، عَقَّبَهَا بِضَرْبِ الْمَثَلِ -زِيَادَةً فِي الْكَشْفِ ، وَتَتْمِيمًا لِلْبَيَانِ- فَقَالَ تَعَالَى "مَثَلُهُمْ" أَيْ : مِثَالُهُمْ فِي نِفَاقِهِمْ ، وَحَالُهُمْ فِيهِ "كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ" أَيْ : أَوْقَدَ "نَارًا" فِي ظُلْمَةٍ - وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ - : "فَلَمَّا أَضَاءَتْ" أَيْ : أَنَارَتِ النَّارُ [ ص: 54 ] "مَا حَوْلَهُ" فَأَبْصَرَ ، وَاسْتَدْفَأَ ، وَأَمِنَ مِمَّا يَخَافُهُ "ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ" أَيْ : أَطْفَأَ اللَّهُ نَارَهُمُ - الَّتِي هِيَ مَدَارُ نُورِهِمْ- فَبَقُوا فِي ظُلْمَةٍ وَخَوْفٍ- وَجَمْعُ الضَّمِيرِ مُرَاعَاةً لِمَعْنَى الَّذِي كَقَوْلِهِ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا "وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ" مَا حَوْلَهُمْ - مُتَحَيِّرِينَ عَنِ الطَّرِيقِ ، خَائِفِينَ - فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ اسْتَضَاؤُوا قَلِيلًا بِالِانْتِفَاعِ بِالْكَلِمَةِ الْمُجْرَاةِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ ، حَيْثُ أَمِنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمَا يَتْبَعُهَا . ثُمَّ وَرَاءَ اسْتِضَاءَتِهِم ْ بِنُورِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ –ظُلْمَةُ النِّفَاقِ- الَّتِي تَرْمِي بِهِمْ إِلَى ظُلْمَةِ سُخْطِ اللَّهِ ، وَظُلْمَةِ الْعِقَابِ السَّرْمَدِ ، وَمَحْصُولُهُ : أَنَّهُمُ انْتَفَعُوا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مُدَّةَ حَيَاتِهِمُ الْقَلِيلَةِ ، ثُمَّ قَطَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَوْتِ .
وَنُقِلَ - عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ - تَفْسِيرٌ آخَرُ ، وَهُوَ : تَمْثِيلُ إِيمَانِهِمْ أَوَّلًا ، ثُمَّ كُفْرِهِمْ ثَانِيًا . فَيَكُونُ إِذْهَابُ النُّورِ فِي الدُّنْيَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا الْآيَةَ ، فَلَمَّا آمَنُوا أَضَاءَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ -كَمَا أَضَاءَتِ النَّارُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا نَارًا - ثُمَّ لَمَّا كَفَرُوا ، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمُ : انْتَزَعَهُ - كَمَا ذَهَبَ بِضَوْءِ هَذِهِ النَّارِ - وَعَلَى هَذَا فَالتَّمْثِيلُ مُرْتَبِطٌ بِمَا قَبْلَهُ . فَإِنَّهُمْ - لَمَّا وُصِفُوا بِأَنَّهُمُ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى - مَثَّلَ هُدَاهُمُ - الَّذِي بَاعُوهُ بِالنَّارِ الْمُضِيئَةِ مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقَدِ - وَالضَّلَالَةَ - الَّتِي اشْتَرَوْهَا وَطُبِعَ بِهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ - بِذَهَابِ اللَّهِ بِنُورِهِمْ ، وَتَرْكِهِ إِيَّاهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 55 الى صـ 60
الحلقة (10)
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ ُ فِي الْكَشَّافِ : وَلِضَرْبِ الْعَرَبِ الْأَمْثَالَ ، وَاسْتِحْضَارِ الْعُلَمَاءِ الْمُثُلَ [ ص: 55 ] وَالنَّظَائِرَ شَأْنٌ لَيْسَ بِالْخَفِيِّ فِي إِبْرَازِ خَبِيَّاتِ الْمَعَانِي ، وَرَفْعِ الْأَسْتَارِ عَنِ الْحَقَائِقِ ، حَتَّى تُرِيَكَ الْمُتَخَيَّلَ فِي صُورَةِ الْمُحَقَّقِ ، وَالْمُتَوَهَّم َ فِي مَعْرِضِ الْمُتَيَقَّنِ ، وَالْغَائِبَ كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ - وَفِيهِ تَبْكِيتٌ لِلْخَصْمِ الْأَلَدِّ ، وَقَمْعٌ لِسَوْرَةِ الْجَامِحِ الْأَبِيِّ .
وَلِأَمْرٍ مَا ، أَكْثَرَ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ ، وَفِي سَائِرِ كُتُبِهِ - أَمْثَالَهُ ، وَفَشَتْ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ
وَ(الْمَثَلُ) : فِي أَصْلِ كَلَامِهِمْ بِمَعْنَى : الْمِثْلُ وَهُوَ النَّظِيرُ . يُقَالُ : مِثْلٌ ، وَمَثَلٌ ، وَمَثِيلٌ - كَشِبْهٍ وَشَبَهٍ وَشَبِيهٍ - ثُمَّ قِيلَ لِلْقَوْلِ السَّائِرِ الْمُمَثِّلِ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ : مَثَلٌ . وَلَمْ يَضْرِبُوا مَثَلًا ، وَلَا رَأَوْهُ أَهْلًا لِلتَّسْيِيرِ وَلَا جَدِيرًا بِالتَّدَاوُلِ وَالْقَبُولِ ، إِلَّا قَوْلًا فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . وَمِنْ ثَمَّ حُوفِظَ عَلَيْهِ ، وَحُمِيَ مِنَ التَّغْيِيرِ .
فَإِنَّهُ - لَوْ غُيِّرَ - لَرُبَّمَا انْتَفَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى تِلْكَ الْغَرَابَةِ . وَقِيلَ : إِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْمَثَلِ إِنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ اسْتِعَارَةً . فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ بِعَيْنِهِ لَفْظَ الْمُشَبَّهِ بِهِ . فَإِنَّ وَقَعَ تَغْيِيرٌ ، لَمْ يَكُنْ مَثَلًا ، بَلْ مَأْخُوذًا مِنْهُ ، وَإِشَارَةً إِلَيْهِ - كَمَا فِي قَوْلِكَ : بِالصَّيْفِ ضَيَّعْتَ اللَّبَنَ بِالتَّذْكِيرِ .
[ ص: 56 ] وَقَالَ بَعْضُهُمْ : قَدِ اسْتُعِيرَ الْمَثَلُ لِلْحَالِ ، أَوِ الْقِصَّةِ ، أَوِ الصِّفَةِ - إِذَا كَانَ لَهَا شَأْنٌ ، وَفِيهَا غَرَابَةٌ - كَأَنَّهُ قِيلَ : حَالُهُمُ الْعَجِيبَةُ الشَّأْنِ كَحَالِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أَيْ : - فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنَ الْعَجَائِبِ - قِصَّةَ الْجَنَّةِ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنَ ، ثُمَّ أَخَذَ فِي بَيَانِ عَجَائِبِهَا : وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى أَيِ : الْوَصْفُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَيْ : صِفَتُهُمْ وَشَأْنُهُمُ الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ .
وَلِمَا فِي الْمَثَلِ مِنْ مَعْنَى الْغَرَابَةِ قَالُوا : فُلَانٌ مُثْلَةٌ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، فَاشْتَقُّوا مِنْهُ صِفَةً لِلْعَجِيبِ الشَّأْنِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[18 ] صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ
"صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ" الصَّمَمُ : آفَةٌ مَانِعَةٌ مِنَ السَّمَاعِ ، سُمِّيَ بِهِ فِقْدَانُ حَاسَّةِ السَّمْعِ ، لِمَا أَنَّ سَبَبَهُ اكْتِنَازُ بَاطِنِ الصِّمَاخِ ، وَانْسِدَادُ مَنَافِذِهِ ، بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَدْخُلُهُ هَوَاءٌ يَحْصُلُ الصَّوْتُ بِتَمَوُّجِهِ . وَالْبُكْمُ : الْخَرَسُ . وَالْعَمَى : عَدَمُ الْبَصَرِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبْصَرَ .
[ ص: 57 ] وُصِفُوا بِذَلِكَ -مَعَ سَلَامَةِ حَوَاسِّهِمُ الْمَذْكُورَةِ- لِمَا أَنَّهُمْ سَدُّوا عَنِ الْإِصَاخَةِ إِلَى الْحَقِّ مَسَامِعَهُمْ ، وَأَبَوْا أَنْ يُنْطِقُوا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ ، وَأَنْ يَنْظُرُوا وَيَتَبَصَّرُوا بِعُيُونِهِمْ ، فَجَعَلُوا كَأَنَّمَا أُصِيبَ بِآفَةٍ مَشَاعِرُهُمْ - كَقَوْلِهِ - :
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
وَكَقَوْلِهِ :
أَصَمُّ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا أُرِيدُهُ وَأَسْمَعُ خَلْقَ اللَّهِ حِينَ أُرِيدُ
"فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" أَيْ : - بِسَبَبِ اتِّصَافِهِمْ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ - لَا يَعُودُونَ إِلَى الْهُدَى - بَعْدَ أَنْ بَاعُوهُ ، أَوْ عَنِ الضَّلَالَةِ - بَعْدَ أَنِ اشْتَرَوْهَا ، فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتِمَّةٌ لِلتَّمْثِيلِ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ لَيْسَ مُجَرَّدَ انْطِفَاءِ نَارِهِمْ ، وَبَقَائِهِمْ فِي ظُلُمَاتٍ كَثِيفَةٍ هَائِلَةٍ- مَعَ بَقَاءِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ بِحَالِهَا- بَلِ اخْتَلَّتْ مَشَاعِرُهُمْ جَمِيعًا، وَاتَّصَفُوا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَبَقُوا جَامِدِينَ فِي مَكَانِهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ، وَلَا يَدْرُونَ أَيَتَقَدَّمُون َ أَمْ يَتَأَخَّرُونَ ؟ وَكَيْفَ يَرْجِعُونَ إِلَى مَا ابْتَدَأُوا مِنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[19 ] أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ
"أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ" تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ إِثْرَ تَمْثِيلٍ ، لِيَعُمَّ الْبَيَانُ مِنْهَا كُلَّ دَقِيقٍ وَجَلِيلٍ ، وَيُوَفِّي حَقَّهَا مِنَ التَّفْظِيعِ وَالتَّهْوِيلِ . فَإِنَّ تَفَنُّنَهُمْ فِي فُنُونِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُضْرَبَ فِي شَأْنِهِ الْأَمْثَالُ . وَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْبَلِيغِ -فِي مَظَانِّ الْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ- أَنْ يُجْمِلَ وَيُوجِزَ ، فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ -فِي مَوَارِدِ التَّفْصِيلِ وَالْإِشْبَاعِ- أَنْ يُفَصِّلَ وَيُشْبِعَ .
وَ(الصَّيِّبُ) : السَّحَابُ ذُو الصَّوْبِ ، وَالصَّوْبُ الْمَطَرُ . وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ : السَّحَابُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : أَأَنْتُمْ أَنْـزَلْتُمُوه ُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْـزِلُونَ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ : كُلُّ مَا عَلَاكَ مِنْ سَقْفٍ وَنَحْوِهِ.
[ ص: 58 ] "فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ" التَّنْوِينُ فِي الْكُلِّ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّهْوِيلِ - كَأَنَّهُ قِيلَ : فِيهِ ظُلُمَاتٌ دَاجِيَةٌ ، وَرَعْدٌ قَاصِفٌ ، وَبَرْقٌ خَاطِفٌ – "يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ " الصَّاعِقَةُ : الصَّوْتُ الشَّدِيدُ مِنَ الرِّعْدَةِ يَسْقُطُ مَعَهَا قِطْعَةُ نَارٍ تَنْقَدِحُ مِنَ السَّحَابِ - إِذَا اصْطَكَّتْ أَجْرَامُهُ- لَا تَأْتِي عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَحْرَقَتْهُ "حَذَرَ" -أَيْ : خَوْفَ - : "الْمَوْتِ" مِنْ سَمَاعِهَا- "وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ " عِلْمًا وَقُدْرَةً فَلَا يَفُوتُونَهُ .
وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ مُنَبِّهَةٌ عَلَى أَنَّ مَا صَنَعُوا -مِنْ سَدِّ الْآذَانِ بِالْأَصَابِعِ- لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا ، فَإِنَّ الْقَدَرَ لَا يُدَافِعُهُ الْحَذَرُ، وَالْحِيَلَ لَا تَرُدُّ بَأْسَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَفَائِدَةُ وَضْعِ الْكَافِرِينَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ -الرَّاجِعِ إِلَى أَصْحَابِ الصَّيِّبِ- الْإِيذَانُ بِأَنَّ مَا دَهَمَهُمْ - مِنَ الْأُمُورِ الْهَائِلَةِ الْمَحْكِيَّةِ- بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ، فَيُظْهِرُ اسْتِحْقَاقُهُم ْ شِدَّةَ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا فَإِنَّ الْإِهْلَاكَ النَّاشِئَ عَنِ السُّخْطِ أَشَدُّ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[20 ] يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
"يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ" اسْتِئْنَافٌ آخَرُ وَقَعَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ - كَأَنَّهُ قِيلَ : فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ ذَلِكَ الْبَرْقِ ؟ فَقِيلَ : يَكَادُ يَخْطِفُ أَبْصَارَهُمْ ، أَيْ : يَأْخُذُهَا بِسُرْعَةٍ : "كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ" أَيْ : فِي ضَوْئِهِ : "وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا" أَيْ : وَقَفُوا ، [ ص: 59 ] وَثَبَتُوا فِي مَكَانِهِمْ - وَمِنْهُ : قَامَتِ السُّوقُ، إِذَا رَكَدَتْ وَكَسَدَتْ . وَقَامَ الْمَاءُ ، جَمُدَ - وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ : بِشِدَّتِهِ عَلَى أَصْحَابِ الصَّيِّبِ ، وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ غَايَةِ التَّحَيُّرِ وَالْجَهْلِ -بِمَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُونَ- إِذَا صَادَفُوا مِنَ الْبَرْقِ خَفْقَةً- مَعَ خَوْفِ أَنْ يَخْطِفَ أَبْصَارَهُمُ- انْتَهَزُوا تِلْكَ الْخَفْقَةَ فُرْصَةً ، فَخَطَوْا خُطُوَاتٍ يَسِيرَةً ، فَإِذَا خَفِيَ ، وَفَتَرَ لَمَعَانُهُ ، بَقُوا وَافِقِينَ مُتَقَيِّدِينَ عَنِ الْحَرَكَةِ : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ أَيْ : لَزَادَ فِي قَصِيفِ الرَّعْدِ فَأَصَمَّهُمْ ، أَوْ فِي ضَوْءِ الْبَرْقِ فَأَعْمَاهُمْ . وَمَفْعُولُ "شَاءَ" مَحْذُوفٌ، لِأَنَّ الْجَوَابَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَذْهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لَذَهَبَ بِهَا .
وَلَقَدْ تَكَاثَرَ هَذَا الْحَذْفُ فِي "شَاءَ" وَ "أَرَادَ" . لَا يَكَادُونَ يَبْرُزُونَ الْمَفْعُولَ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَغْرَبِ- كَنَحْوِ قَوْلِهِ : فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِيَ دَمًا لَبَكَيْتُهُ ؛ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا "إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" تَعْلِيلٌ لِلشَّرْطِيَّةِ ، وَتَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِهَا النَّاطِقِ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِزَالَةِ مَشَاعِرِهِمْ بِالطَّرِيقِ الْبُرْهَانِيِّ .
تَنْبِيهَاتٌ :
الْأَوَّلُ : مَحْصُولُ التَّمْثِيلَيْن ِ - غِبُّ وَصْفِ أَرْبَابِهِمَا بِوُقُوعِهِمْ فِي ضَلَالَتِهِمُ الَّتِي اسْتَبْدَلُوهَا بِالْهُدَى - هُوَ أَنَّهُ شَبَّهَ ، فِي الْأَوَّلِ ، حَيْرَتَهُمْ وَشِدَّةَ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بِمَا يُكَابِدُ مَنْ طَفِئَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ .
وَفِي الثَّانِي : شَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِ مَنْ أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ فِي لَيْلَةٍ تَكَاثَفَ ظُلُمَاتُهَا - بِتَرَاكُمِ السُّحُبِ ، وَانْتِسَاجِ قَطَرَاتِهَا ، وَتَوَاتَرَ فِيهَا الرُّعُودُ الْهَائِلَةُ ، وَالْبُرُوقُ الْمُخِيفَةُ ، وَالصَّوَاعِقُ الْمُخْتَلِفَةُ الْمُهْلِكَةُ ، وَهُمْ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يُزَاوِلُونَ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ . وَبِذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّ التَّمْثِيلَيْن ِ جَمِيعًا مِنْ جُمْلَةِ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ ، وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ جَزَالَةُ الْمَعَانِي -لِأَنَّهُ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ مِنْ تَشْبِيهِ الْهَيْئَاتِ الْمُرَكَّبَةِ مَا لَا يَحْصُلُ مِنْ تَشْبِيهِ مُفْرَدَاتِهَا . فَإِنَّكَ إِذَا تَصَوَّرْتَ حَالَ مَنْ طَفِئَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا . . . إِلَخْ . وَحَالَ مَنْ أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ . . إِلَخْ . حَصَلَ فِي نَفْسِكَ [ ص: 60 ] هَيْئَةٌ عَجِيبَةٌ تُوصِلُكَ إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ ، عَلَى وَجْهٍ يَتَقَاصَرُ عَنْهُ تَشْبِيهُ الْمُنَافِقِ - فِي التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ - بِالْمُسْتَوْقِ دِ نَارًا ، وَإِظْهَارُهُ الْإِيمَانَ بِالْإِضَاءَةِ ، وَانْقِطَاعُ انْتِفَاعِهِ بِانْتِفَاءِ النَّارِ وَتَشْبِيهِ دِينِ الْإِسْلَامِ - فِي الثَّانِي - بِالصَّيِّبِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ - مِنْ شُبَهِ الْكُفَّارِ - بِالظُّلُمَاتِ ، وَمَا فِيهِ - مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ - بِالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ ، وَمَا يُصِيبُ الْكَفَرَةَ - مِنَ الْإِفْزَاعِ وَالْبَلَايَا وَالْفِتَنِ- مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالصَّوَاعِقِ . وَأَيْضًا فِي تَشْبِيهِ الْمُفْرَدَاتِ ، وَطَيُّ ذِكْرِ الْمُشَبَّهَاتِ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ . وَأَيْضًا فِي لَفْظِ (الْمِثْلِ) نَوْعُ إِنْبَاءٍ عَنِ التَّرْكِيبِ ، إِذِ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ الْقِصَّةُ الَّتِي هِيَ فِي غَرَابَتِهَا كَالْمَثَلِ السَّائِرِ ، وَهِيَ فِي الْهَيْئَةِ الْمُرَكَّبَةِ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا . وَأَيْضًا فِي التَّمْثِيلِ الْمُرَكَّبِ اشْتِمَالٌ عَلَى التَّشْبِيهِ فِي الْمُفْرَدَاتِ إِجْمَالًا ، مَعَ أَمْرٍ زَائِدٍ : هُوَ تَشْبِيهُ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ ، وَإِيذَانُهِ بِأَنَّ اجْتِمَاعَ تِلْكَ الْمُفْرَدَاتِ مُسْتَتْبِعٌ لِهَيْئَةٍ عَجِيبَةٍ حَقِيقَةً بِأَنْ تَكُونَ مَثَلًا فِي الْغَرَابَةِ .
التَّنْبِيهُ الثَّانِي :
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ "ابْنُ الْقَيِّمِ" فِي كِتَابِهِ (اجْتِمَاعُ الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّ ةِ عَلَى غَزْوِ الْمُعَطِّلَةِ وَالْجَهْمِيَّة ِ" .
"فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، شَبَّهَ ، سُبْحَانَهُ ، أَعْدَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ : بِقَوْمٍ أَوْقَدُوا نَارًا لِتُضِيءَ لَهُمْ ، وَيَنْتَفِعُوا بِهَا ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُمُ النَّارُ فَأَبْصَرُوا فِي ضَوْئِهَا مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ ، وَأَبْصَرُوا الطَّرِيقَ - بَعْدَ أَنْ كَانُوا حَيَارَى تَائِهِينَ -فَهُمْ كَقَوْمٍ سَفْرٍ ضَلُّوا عَنِ الطَّرِيقِ ، فَأَوْقَدُوا النَّارَ لِتُضِيءَ لَهُمُ الطَّرِيقَ فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُمْ - فَأَبْصَرُوا وَعَرَفُوا - طَفِئَتْ تِلْكَ الْأَنْوَارُ ، وَبَقُوا فِي الظُّلُمَاتِ لَا يُبْصِرُونَ ، قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمُ أَبْوَابُ الْهُدَى الثَّلَاثُ - فَإِنَّ الْهُدَى يَدْخُلُ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ : مِمَّا يَسْمَعُهُ بِإِذْنِهِ ، وَيَرَاهُ بِعَيْنِهِ ، وَيَعْقِلُ بِقَلْبِهِ ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الْهُدَى : فَلَا تَسْمَعُ قُلُوبُهُمْ شَيْئًا ، وَلَا تُبْصِرُهُ ، وَلَا تَعْقِلُ مَا يَنْفَعُهَا . وَقِيلَ : لِمَا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ نَزَلُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا سَمْعَ لَهُ ، وَلَا بَصَرَ ، وَلَا عَقْلَ ، وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 61 الى صـ 66
الحلقة (11)
[ ص: 61 ] وَقَالَ فِي صِفَتِهِمْ "فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" لِأَنَّهُمْ قَدْ رَأَوْا فِي ضَوْءِ النَّارِ ، وَأَبْصَرُوا الْهُدَى ، فَلَمَّا طَفِئَتْ عَنْهُمْ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى مَا رَأَوْا وَأَبْصَرُوا . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ" وَلَمْ يَقُلْ : ذَهَبَ نُورُهُمْ ، وَفِيهِ سِرٌّ بَدِيعٌ : وَهُوَ انْقِطَاعُ سِرِّ تِلْكَ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ - الَّتِي هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ - مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَ : إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فَذَهَابُ اللَّهِ بِذَلِكَ النُّورِ : انْقِطَاعُ الْمَعِيَّةِ -الَّتِي خَصَّ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ- فَقَطَعَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ ، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ -بَعْدَ ذَهَابِ نُورِهِمْ- ، وَلَا مَعَهُمْ ، فَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ : لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [ ص: 62 ] وَلَا مِنْ : كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى : أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ كَيْفَ جَعَلَ ضَوْءَهَا خَارِجًا عَنْهُ ، مُنْفَصِلًا ، وَلَوِ اتَّصَلَ ضَوْؤُهَا بِهِ ، وَلَابَسَهُ ، لَمْ يَذْهَبْ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ ضَوْءَ مُجَاوَرَةٍ لَا مُلَابَسَةٍ وَمُخَالَطَةٍ ، وَكَانَ الضَّوْءُ عَارِضًا وَالظُّلْمَةُ أَصْلِيَّةً ، فَرَجَعَ الضَّوْءُ إِلَى مَعْدِنِهِ ، وَبَقِيَتِ الظُّلْمَةُ فِي مَعْدِنِهَا ، فَرَجَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى أَصْلِهِ اللَّائِقِ بِهِ : حُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ قَائِمَةٌ ، وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ، تَعَرَّفَ بِهَا إِلَى أُولِي الْأَلْبَابِ مِنْ عِبَادِهِ .
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى : ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ بِنَارِهِمْ ، لِيُطَابِقَ أَوَّلَ الْآيَةِ ، فَإِنَّ النَّارَ فِيهَا إِشْرَاقٌ وَإِحْرَاقٌ : فَذَهَبَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْإِشْرَاقِ -وَهُوَ النُّورُ- وَأَبْقَى عَلَيْهِمْ مَا فِيهَا مِنَ الْإِحْرَاقِ -وَهُوَ النَّارِيَّةُ- وَتَأَمَّلْ كَيْفَ قَالَ "بِنُورِهِمْ" وَلَمْ يَقُلْ : بِضَوْئِهِمْ مَعَ قَوْلِهِ "فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ"- لِأَنَّ الضَّوْءَ هِيَ زِيَادَةٌ فِي النُّورِ ؛ فَلَوْ قِيلَ : ذَهَبَ اللَّهُ بِضَوْئِهِمْ ، لَأَوْهَمَ الذَّهَابَ بِالزِّيَادَةِ فَقَطْ دُونَ الْأَصْلِ ؛ فَلَمَّا كَانَ النُّورُ أَصْلَ الضَّوْءِ ، كَانَ الذَّهَابُ بِهِ ذَهَابًا بِالشَّيْءِ وَزِيَادَتِهِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ عَنْهُمْ ، وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الظُّلُمَاتِ الَّذِينَ لَا نُورَ لَهُمْ ؛ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى كِتَابَهُ (نُورًا) ، وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نُورًا) ، وَدِينَهُ (نُورًا) ، وَهُدَاهُ (نُورًا) ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ (النُّورُ) ، وَالصَّلَاةُ (نُورٌ) ؛ فَذَهَابُهُ سُبْحَانَهُ بِهِمْ : ذَهَابٌ بِهَذَا كُلِّهِ ، وَتَأَمَّلْ مُطَابَقَةَ هَذِهِ الْمُثُلِ - لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ قَوْلِهِ : أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ كَيْفَ [ ص: 63 ] طَابَقَ هَذِهِ التِّجَارَةَ الْخَاسِرَةَ ، الَّتِي تَضَمَّنَتْ هَوْلَ الضَّلَالَةِ وَالرِّضَاءَ بِهَا ، وَبَدَّلَ الْهُدَى فِي مُقَابَلَتِهَا ، وَهَوْلَ الظُّلُمَاتِ - الَّتِي هِيَ الضَّلَالَةُ وَالرِّضَاءُ بِهَا - بَدَلًا عَنِ النُّورِ - الَّذِي هُوَ الْهُدَى وَالنُّورُ - فَبَدَّلُوا الْهُدَى وَالنُّورَ ، وَتَعَوَّضُوا عَنْهُ بِالظُّلْمَةِ وَالضَّلَالَةِ ، فَيَا لَهَا مِنْ تِجَارَةٍ مَا أَخْسَرَهَا ، وَصَفْقَةٍ مَا أَشَدَّ غَبْنَهَا . وَتَأَمَّلْ كَيْفَ قَالَ تَعَالَى : ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فَوَحَّدَهُ ثُمَّ قَالَ : وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ فَجَمَعَهَا . فَإِنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ : هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمُ - الَّذِي لَا صِرَاطَ يُوَصِّلُ إِلَيْهِ سِوَاهُ - وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَا بِالْأَهْوَاءِ ، وَالْبِدَعِ ، وَطُرُقِ الْخَارِجِينَ عَنْ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ - ، بِخِلَافِ طُرُقِ الْبَاطِلِ ; فَإِنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ . وَلِهَذَا ، يُفْرِدُ ، سُبْحَانَهُ ، الْحَقَّ ، وَيَجْمَعُ الْبَاطِلَ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ وَقَالَ تَعَالَى : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فَجَمَعَ سُبُلَ الْبَاطِلِ ، وَوَحَّدَ سَبِيلَ الْحَقِّ ، وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا قَوْلَهُ : يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ فَإِنَّ تِلْكَ هِيَ طُرُقُ مَرْضَاتِهِ الَّتِي يَجْمَعُهَا سَبِيلُهُ الْوَاحِدُ ، وَصِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ ، فَإِنَّ طُرُقَ مَرْضَاتِهِ كُلَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صِرَاطٍ وَاحِدٍ ، وَسَبِيلٍ وَاحِدٍ ، وَهِيَ سَبِيلُهُ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْهَا . وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَّ خَطًّا مُسْتَقِيمًا ، وَقَالَ : « هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ » . [ ص: 64 ] ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ، وَقَالَ : « هَذِهِ سُبُلٌ ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ » ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ هَذَا مَثَلٌ لِلْمُنَافِقِين َ ، وَمَا يُوقِدُونَهُ مِنْ نَارِ الْفِتْنَةِ الَّتِي يُوقِعُونَهَا بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى "ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ" مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى "أَطْفَأَهَا اللَّهُ" وَيَكُونُ تَخْيِيبُهُمْ ، وَإِبْطَالُ مَا رَامُوهُ ، هُوَ : تَرْكَهُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْحَيْرَةِ ، لَا يَهْتَدُونَ إِلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ ، وَلَا يُبْصِرُونَ سَبِيلًا ؛ بَلْ هُمْ "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ" . وَهَذَا التَّقْدِيرُ - وَإِنْ كَانَ حَقًّا - فَفِي كَوْنِهِ مُرَادًا بِالْآيَةِ نَظَرٌ ; فَإِنَّ السِّيَاقَ إِنَّمَا قُصِدَ لِغَيْرِهِ ، وَيَأْبَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى "فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ" وَمَوْقِدُ نَارِ الْحَرْبِ لَا يُضِيءُ مَا حَوْلَهُ أَبَدًا ، وَيَأْبَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَمَوْقِدُ نَارِ الْحَرْبِ لَا نُورَ لَهُ ، وَيَأْبَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمُ انْتَقَلُوا مِنْ نُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالْبَصِيرَةِ ، إِلَى ظُلْمَةِ الشَّكِّ وَالْكُفْرِ .
[ ص: 65 ] قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُوَ الْمُنَافِقُ أَبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ ، وَعَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ . وَلِهَذَا قَالَ : فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أَيْ : لَا يَرْجِعُونَ إِلَى النُّورِ الَّذِي فَارَقُوهُ . وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ فَسَلَبَ الْعَقْلَ عَنِ الْكُفَّارِ - إِذْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ وَالْإِيمَانِ -وَسَلَبَ الرُّجُوعَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ -لِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا -فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى الْإِيمَانِ .
فَصْلٌ
ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ ، سُبْحَانَهُ ، لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ مَائِيًّا ، فَقَالَ تَعَالَى : أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ فَشَبَّهَ نَصِيبِهِمْ - مِمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النُّورِ وَالْحَيَاةِ بِنَصِيبِ الْمُسْتَوْقِدِ النَّارِ الَّتِي طَفِئَتْ عَنْهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا ، وَذَهَبَ نُورُهُ ، وَبَقِيَ فِي الظُّلُمَاتِ حَائِرًا ، تَائِهًا ، لَا يَهْتَدِي سَبِيلًا ، وَلَا يَعْرِفُ طَرِيقًا ؛ وَبِنَصِيبِ أَصْحَابِ الصَّيِّبِ -وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يُصَوَّبُ ; (أَيْ يَنْزِلُ) مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ - فَشَبَّهَ الْهُدَى - الَّذِي هَدَى بِهِ عِبَادَهُ - بِالصَّيِّبِ ، لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَحْيَى بِهِ حَيَاةَ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ ، وَنَصِيبُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذَا الْهُدَى ، بِنَصِيبِ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الصَّيِّبِ إِلَّا ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ. وَلَا نَصِيبَ لَهُ - فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ - مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالصَّيِّبِ - مِنْ حَيَاةِ الْبِلَادِ ، وَالْعِبَادِ ، وَالشَّجَرِ ، وَالدَّوَابِّ ؛ وَأَنَّ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ الَّتِي فِيهِ ، وَذَلِكَ الرَّعْدَ ، وَالْبَرْقَ ، مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى كَمَالِ الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الصَّيِّبِ . فَالْجَاهِلُ - لِفَرْطِ جَهْلِهِ - يَقْتَصِرُ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِمَا فِي الصَّيِّبِ مِنْ ظُلْمَةٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ وَلَوَازِمِ ذَلِكَ مِنْ بَرْدٍ شَدِيدٍ ، وَتَعْطِيلِ الْمُسَافِرِ عَنْ سَفَرِهِ ، وَصَانِعٍ عَنْ صَنْعَتِهِ وَلَا بَصِيرَةَ لَهُ تَنْفُذُ إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ ذَلِكَ الصَّيِّبِ مِنَ الْحَيَاةِ وَالنَّفْعِ الْعَامِّ . وَهَكَذَا شَأْنُ كُلِّ قَاصِرِ النَّظَرِ ، ضَعِيفِ الْعَقْلِ ، لَا يُجَاوِزُ نَظَرُهُ الْأَمْرَ الْمَكْرُوهَ الظَّاهِرَ إِلَى مَا وَرَاءَهُ مِنْ كُلِّ مَحْبُوبٍ ، وَهَذِهِ حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ ، إِلَّا مَنْ صَحَّتْ بَصِيرَتُهُ – [ ص: 66 ] فَإِذَا رَأَى ضَعِيفَ الْبَصِيرَةِ مَا فِي الْجِهَادِ مِنَ التَّعَبِ ، وَالْمَشَاقِّ ، وَالتَّعَرُّضِ لِإِتْلَافِ الْمُهْجَةِ ، وَالْجِرَاحَاتِ الشَّدِيدَةِ ، وَمَلَامَةِ اللُّوَّامِ ، وَمُعَادَاةِ مَنْ يَخَافُ مُعَادَاتَهُ - لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ ، وَالْغَايَاتِ الَّتِي إِلَيْهَا تَسَابَقَ الْمُتَسَابِقُو نَ ، وَفِيهَا تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُو نَ . وَكَذَلِكَ مَنْ عَزَمَ عَلَى سَفَرِ الْحَجِّ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، فَلَمْ يَعْلَمْ - مِنْ سَفَرِهِ ذَلِكَ - إِلَّا مَشَقَّةَ السَّفَرِ ، وَمُفَارَقَةَ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ ، وَمُقَاسَاةَ الشَّدَائِدِ ، وَفِرَاقَ الْمَأْلُوفَاتِ ، وَلَا يُجَاوِزُ نَظَرُهُ وَبَصِيرَتُهُ آخِرَ هَذَا السَّفَرِ ، وَمَآلَهُ ، وَعَاقِبَتَهُ - فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ ، وَلَا يَعْزِمُ عَلَيْهِ . وَحَالُ هَؤُلَاءِ ، حَالُ الضَّعِيفِ الْبَصِيرَةِ وَالْإِيمَانِ ، الَّذِي يَرَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ . وَالزَّوَاجِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَالْأَوَامِرِ الشَّاقَّةِ عَلَى النُّفُوسِ الَّتِي تَفْطِمُهَا عَنْ رِضَاعِهَا مِنْ ثَدْيِ الْمَأْلُوفَاتِ وَالشَّهَوَاتِ -وَالْفِطَامُ عَلَى الصَّبِيِّ أَصْعَبُ شَيْءٍ ، وَأَشَقُّهُ- وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ صِبْيَانُ الْعُقُولِ ، إِلَّا مَنْ بَلَغَ مَبَالِغَ الرِّجَالِ الْعُقَلَاءِ الْأَلِبَّاءِ ، وَأَدْرَكَ الْحَقَّ عِلْمًا ، وَعَمَلًا ، وَمَعْرِفَةً ، فَهُوَ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى مَا وَرَاءِ الصَّيِّبِ ، وَمَا فِيهِ - مِنَ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالصَّوَاعِقِ - وَيَعْلَمُ أَنَّهُ حَيَاةُ الْوُجُودِ .
التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ:
قَالَ الْقَاشَانِيُّ : "إِنَّمَا بُولِغَ فِي ذِكْرِ فَرِيقِ الْمُنَافِقِينَ ، وَذَمِّهِمْ ، وَتَعْيِيرِهِمْ ، وَتَقْبِيحِ صُورَةِ حَالِهِمْ ، وَتَهْدِيدِهِمْ ، وَإِبْعَادِهِمْ ، وَتَهْجِينِ سِيَرِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ : لِإِمْكَانِ قَبُولِهِمْ لِلْهِدَايَةِ ، وَزَوَالِ مَرَضِهِمُ الْعَارِضِ . عَسَى التَّقْرِيعُ يَكْسِرُ أَعْوَادَ شَكَائِمِهِمْ ، وَالتَّوْبِيخُ يُقْلِعُ أُصُولَ رَذَائِلِهِمْ ، فَتَتَزَكَّى بَوَاطِنُهُمْ ، وَتَتَنَوَّرُ قُلُوبُهُمْ ، فَيَسْلُكُوا طَرِيقَ الْحَقِّ ، وَلَعَلَّ مُوَادَعَةَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَمُلَاطَفَتَهُ مْ إِيَّاهُمْ ، وَمُجَالَسَتَهُ مْ مَعَهُمْ - تَسْتَمِيلُ طِبَاعَهُمْ ، فَتُهَيِّجُ فِيهِمْ مَحَبَّةً مَا ، وَشَوْقًا تَلِينُ بِهِ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، وَتَنْقَادُ بِهِ نُفُوسُهُمْ لِأَمْرِ اللَّهِ ، فَيَتُوبُوا وَيُصْلِحُوا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 67 الى صـ 71
الحلقة (12)
القول في تأويل قوله تعالى :
[21 ] يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون
يا أيها الناس اعبدوا ربكم لما ذكر الله علو طبقة كتابه الكريم ، وتحزب الناس في شأنه إلى ثلاث فرق : مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام . وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق ، وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق ، وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها ، ويحظيها عند الله ويرديها ؛ أقبل عليهم بالخطاب - وهو من الالتفات المذكور عند قوله جل ذكره : إياك نعبد - وهو فن من الكلام جزل ، فيه هز وتحريك من السامع -كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما : إن فلانا من قصته كيت وكيت ، فقصصت عليه ما فرط منه ، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث ، فقلت : يا فلان ! من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك ، وتستوي على جادة السداد في مصادرك ومواردك - نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء ؛ وأوجدته ، بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازا من طبعه ، ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة ، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف ، يستفتح الآذان للاستماع ، ويستهش الأنفس للقبول ، وإنما كثر النداء في كتابه تعالى على طريقة (يا أيها الناس) لاستقلاله بأوجه من التأكيد ، وأسباب من المبالغة . كالإيضاح بعد الإبهام . واختيار لفظ البعيد ، وتأكيد معناه بحرف التنبيه .
ومعلوم أن كل ما نادى الله له عباده : من أوامره ، ونواهيه وعظاته ، وزواجره ، ووعده ، ووعيده ، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم ، وغير ذلك . . مما أنطق به كتابه - أمور عظام ، وخطوب جسام ، ومعان علمهم أن يتيقظوا لها ، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم عنها غافلون فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ - . أفاده الزمخشري - .
[ ص: 68 ] والمراد بالناس : كافة المكلفين - مؤمنهم وكافرهم- فطلب العبادة من المؤمنين طلب الزيادة فيها ، والثبات عليها ، ومن الكافرين ابتداؤها "الذي خلقكم" أنعم عليكم بإخراجكم من العدم إلى الوجود "و" –خلق- : والذين من قبلكم لعلكم تتقون أي : كي تتقون ، كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله سبحانه : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وفي إيراد "لعل" ، تشبيه طلبه تعالى برجاء الراجي من المرجو منه أمرا هين الحصول ; فإنه تعالى لما وضع في أيدي المكلفين زمام الاختيار ، وطلب منهم الطاعة ، ونصب لهم أدلة عقلية ونقلية داعية إليها ؛ ووعد ، وأوعد ، وألطف بما لا يحصى كثرة ، لم يبق للمكلف عذر ، وصار حاله في رجحان اختياره للطاعة مع تمكنه من المعصية كحال المترجي منه في رجحان اختياره لما يرتجى منه - مع تمكنه من خلافه - وصار طلب الله تعالى لعبادته واتقائه بمنزلة الترجي -فيما ذكرناه- .
القول في تأويل قوله تعالى :
[22 ] الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنـزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون
" الذي جعل" - خلق - : "لكم الأرض فراشا" بساطا ومهادا غير حزنة ، "والسماء بناء" البناء ، في الأصل ، مصدر سمي به المبني -بيتا كان ، أو قبة ، أو خباء .
قال بعض علماء الفلك في معنى الآية : أي كالبنيان يشد بعضه بعضا . و "السماء" يراد بها الجنس كالسماوات، والمعني بها الكواكب السيارات –قال- : فجميع السماوات [ ص: 69 ] أو الكواكب كالبناء المرتبط بعضه ببعض من كل جهة ، المتماسك كأجزاء الجسم الواحد بالجاذبية التي تحفظ نظامها في مداراتها ، وهو جذب الشمس لها .
"وأنزل من السماء" أي : السحاب "ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا" النهي متفرع على مضمون ذلك الأمر ، كأنه قيل : إذا أمرتم بعبادة من هذا شأنه - من التفرد بهذه الأفعال الجليلة - فلا تجعلوا له أندادا شركاء في العبادة ، أي : أمثالا تعبدونهم كعبادته- جمع ند . وهو المثل ، ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ - فإن قيل : كيف صلح تسميتها أندادا ، وهم ما كانوا يزعمون أنها تخالفه وتناوئه ، بل كانوا يجعلونها شفعاء عنده ؟ أجيب : بأنهم لما تقربوا إليها ، وعظموها ، وسموها آلهة - أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله قادرة على مخالفته ، ومضادته ، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم . وكما تهكم بهم بلفظ الند شنع عليهم ، واستفظع شأنهم ، بأن جعلوا أندادا كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ند قط .
"وأنتم تعلمون" ما بينه وبينها من التفاوت ، وأنها لا تفعل مثل أفعاله ، كقوله : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ؛ أو وأنتم من أهل العلم والمعرفة - والتوبيخ فيه آكد - أي : أنتم العرافون المميزون ، ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادا - هو غاية الجهل ، ونهاية سخافة العقل .
ومما ينبغي التفطن له - في الاعتبار بهذه الآية - ما قاله الزمخشري : من أنه سبحانه وتعالى قدم من موجبات عبادته ، وملزمات حق الشكر له : خلقهم أحياء قادرين أولا ; لأنه سابقة أصول النعم ، ومقدمتها ، والسبب في التمكن من العبادة والشكر وغيرهما ، ثم خلق الأرض ، التي هي مكانهم ، ومستقرهم الذي لا بد لهم منه - وهي بمنزلة عرصة المسكن ، ومتقلبه ، ومفترشه ، ثم خلق السماء- التي هي كالقبة المضروبة ، والخيمة المطنبة- على هذا القرار ، ثم ما سواه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة [ ص: 70 ] بإنزال الماء منها عليها ، والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان - من ألوان الثمار - رزقا لبني آدم ، ليكون لهم ذلك معتبرا ، ومتسلقا إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف . ونعمة يتعرفونها فيقابلونها بلازم الشكر ، ويتفكرون في خلق أنفسهم ؛ وخلق ما فوقهم وتحتهم ، وأن شيئا من هذه المخلوقات كلها لا يقدر على إيجاد شيء منها ، فيتيقنوا -عند ذلك- أن لا بد لها من خالق - ليس كمثلها - حتى لا يجعلوا المخلوقات له أندادا ، وهم يعلمون أنها [ لا ] تقدر على نحو ما هو عليه قادر .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين فمضمونه أنه الخالق الرازق ، مالك الدار وساكنيها ، ورازقهم . فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره .
ولما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ، ويحققها ، ويبطل الإشراك ، ويهدمه ، وعلم الطريق إلى إثبات ذلك ، وتصحيحه . وعرفهم أن من أشرك فقد كابر عقله ، وغطى على ما أنعم عليه من معرفته وتمييزه - عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة ، وأراهم كيف يتعرفون : أهو من عند الله -كما يدعي- أم هو من عند نفسه -كما يدعون- ؟ بإرشادهم إلى أن يحزروا أنفسهم ، ويذوقوا طباعهم ، وهم أبناء جنسه ، وأهل جلدته . فقال تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
[23 ] وإن كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين
"وإن كنتم في ريب مما نزلنا" - أي : من القرآن الذي نزلناه – "على عبدنا" [ ص: 71 ] محمد صلى الله عليه وسلم أنه من عند الله تعالى ، والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب - مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر -كما يعرب عنه قوله تعالى : "إن كنتم صادقين" إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم - وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد- هو الارتياب في شأنه (وأما الجزم المذكور فخارج من دائرة الاحتمال ، كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقه أن يكون ضعيفا مشكوك الوقوع) ، وإما للتنبيه على أن جزمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإعجاز ، ونهاية قوتها ، وإنما لم يقل : وإن ارتبتم فيما نزلنا . . . إلخ ، لما أشير إليه - فيما سلف - من المبالغة في تنزيه ساحة التنزيل عن شائبة وقوع الريب فيه -حسبما نطق به قوله تعالى : "لا ريب فيه"- والإشعار بأن ذلك - إن وقع - فمن جهتهم لا من جهته العالية . واعتبار استقرارهم فيه ، وإحاطته بهم ، لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته : لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به ، لا قلته ولا كثرته .
وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية ، مع الإضافة إلى ضمير الجلالة - من التشريف ، والتنويه ، والتنبيه على اختصاصه به عز وجل ، وانقياده لأوامره تعالى - ما لا يخفى ، والأمر في قوله تعالى : "فأتوا بسورة" من باب التعجيز وإلقام الحجر ، كما في قوله تعالى : فأت بها من المغرب أو من باب المجاراة معهم -بحسب حسبانهم- حيث كانوا يقولون : لو نشاء لقلنا مثل هذا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 72 الى صـ 76
الحلقة (13)
و(السورة) : الطائفة من القرآن العظيم المترجمة ، وأقلها ثلاث آيات ، وواوها أصلية ، منقولة من سور البلد - لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة ، محوزة ، أو محتوية على فنون رائقة من [ ص: 72 ] العلوم ، احتواء سور المدينة على ما فيها ، أو من السورة التي هي الرتبة . فإن سور القرآن مع كونها في أنفسها رتبا- من حيث الفضل والشرف ، أو من حيث الطول والقصر - فهي من حيث انتظامها مع أخواتها في المصحف : مراتب يرتقي إليها القارئ شيئا فشيئا . و"من" في قوله تعالى : "من مثله" بيانية متعلقة بمحذوف صفة لسورة ، والضمير "مما نزلنا" أي : بسورة كائنة من مثله في علو الرتبة ، وسمو الطبقة ، والنظم الرائق ، والبيان البديع ، وحيازة سائر نعوت الإعجاز . وقيل "من" زائدة -على ما هو رأي الأخفش- بدليل قوله تعالى : فأتوا بسورة مثله بعشر سور مثله
وقوله تعالى : وادعوا شهداءكم من دون الله إرشاد لهم إلى إنهاض أمة جمة، ليحتشدوا في حلبة المعارضة بخيلهم ورجلهم ، ويتعاونوا على الإتيان بقدر يسير مماثل في صفات الكمال لما أتى بجملته واحد من أبناء جنسهم ، وهذا كقوله تعالى في سورة هود : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين
و"الشهداء " جمع شهيد ، بمعنى : الحاضر ، أو القائم بالشهادة ، أو الناصر . و(من) لابتداء الغاية متعلقة بـ " ادعوا " ، والظرف مستقر . والمعنى : ادعوا ، متجاوزين الله تعالى للاستظهار ، من حضركم -كائنا من كان- أو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضركم من رؤسائكم وأشرافكم - الذين تفزعون إليهم في الملمات ، وتعولون عليهم في المهمات - أو القائمين بشهاداتكم الجارية فيما بينكم -من [ ص: 73 ] أمنائكم المتولين لاستخلاص الحقوق ، بتنفيذ القول عند الولاة - أو القائمين بنصرتكم -حقيقة أو زعما- من الإنس والجن ليعينوكم . وإخراجه ، سبحانه وتعالى ، من حكم الدعاء في الأول - مع اندراجه في الحضور - لتأكيد تناوله لجميع ما عداه ، لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه ، فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه . وأما في سائر الوجوه : فللتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى ، وكونهم في عدوة المحادة والمشاقة له ، قاصرين استظهارهم على ما سواه ؛ والالتفات لإدخال الروعة ، وتربية المهابة : "إن كنتم صادقين" أي : في زعمكم أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم ، واستلزام المقدم للتالي من حيث إن صدقهم في ذلك الزعم يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله ، بقضية مشاركتهم له صلى الله عليه وسلم في البشرية والعربية ، مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار ، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر ، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ، لا سيما عند المظاهرة والتعاون - ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به ، ودواعي الأمر به - .
القول في تأويل قوله تعالى :
[24 ] فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين
"فإن لم تفعلوا" أي : ما أمرتم به من الإتيان بالمثل ، بعد ما بذلتم في السعي غاية المجهود "ولن تفعلوا" اعتراض بين جزأي الشرطية ، مقرر لمضمون مقدمها ، ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها ، وهي معجزة باهرة : حيث أخبر بالغيب الخاص - علمه به عز وجل - وقد وقع الأمر كذلك : "فاتقوا النار" جواب الشرط ، على أن اتقاء النار كناية عن الاحتراز من العناد ، إذ -بذلك- يتحقق تسببه عنه ، وترتبه عليه ، كأنه قيل : فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله -كما هو المقرر- فاحترزوا من إنكار كونه منزلا من عند الله سبحانه ; فإنه مستوجب للعقاب بالنار ، لكن أوثر عليه الكناية المذكورة المبنية على [ ص: 74 ] تصوير العناد بصورة النار ، وجعل الاتصاف به عين الملابسة بها ، للمبالغة في تهويل شأنه ، وتفظيع أمره ، وإظهار كمال العناية - بتحذير المخاطبين منه ، وتنفيرهم عنه ، وحثهم على الجد في تحقيق المكني به - وفيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى . حيث كان الأصل : فإن لم تفعلوا فقد صح صدقه عندكم ، وإذا صح ذلك كان لزومكم العناد ، وترككم الإيمان به ، سببا لاستحقاقكم العقاب بالنار ، فاحترزوا منه واتقوا النار "التي وقودها الناس والحجارة" صفة للنار مورثة لها زيادة هول وفظاعة - أعاذنا الله منها برحمته الواسعة - .
و"الوقود" : ما توقد به النار ، وترفع من الحطب . وقرئ بضم الواو ، وهو مصدر سمي به المفعول مبالغة - كما يقال : فلان فخر قومه ، وزين بلده - . فإن قيل : صلة الذي والتي يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب ، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة ؟
قلت : لا يمتنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من آيات التنزيل المتقدمة عليها ، أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو من أهل الكتاب . والمراد بالحجارة الأصنام ، وبالناس أنفسهم - حسبما ورد في قوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم فإنها مفسرة لما نحن فيه - ، وحكمة اقترانهم مع الحجارة في الوقود : أنهم لما اعتقدوا في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستنفعون بهم ، ويستدفعون المضار عن أنفسهم بمكانهم ، جعلها الله عذابهم ، فقرنهم بها محماة في نار جهنم - إبلاغا في إيلامهم ، وإغراقا في تحسيرهم ، ونحوه ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة ، فشحوا بها ، ومنعوها من الحقوق ، حيث يحمى عليها في نار جهنم . فتكوى جباههم وجنوبهم .
"أعدت للكافرين" هيئت لهم ، وجعلت عدة لعذابهم ، والمراد : إما جنس الكفار -والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليا- وإما هم خاصة ، ووضع الكافرين موضع ضميرهم لذمهم ، وتعليل الحكم بكفرهم - والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها ، ومبينة لمن أريد بالناس ، دافعة لاحتمال العموم .
[ ص: 75 ] (تنبيه) :
هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدي الكافرين بالتنزيل الكريم ، وقد تحداهم الله تعالى في غير موضع منه ، فقال في سورة القصص : قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين وقال في سورة الإسراء : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وقال في سورة هود : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين وقال في سورة يونس : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين وكل هذه الآيات مكية .
ثم تحداهم أيضا في المدينة بقوله "وإن كنتم في ريب" إلى آخر هذه الآية فعجزوا عن آخرهم : - وهم فرسان الكلام ; وأرباب النظام ، وقد خصوا من البلاغة والحكم ، ما لم يخص به غيرهم من الأمم ، وأوتوا من ذرابة اللسان ، ما لم يؤت إنسان . ومن فصل الخطاب ، ما يقيد الألباب ، جعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة ، وفيهم غريزة وقوة ، يأتون منه على البديهة بالعجب ، ويدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون بديها في المقامات وشديد الخطب ، ويرتجزون به بين الطعن والضرب ، ويمدحون ، ويقدحون ، ويتوسلون ، ويتوصلون ، ويرفعون ، ويضعون ، فيأتون بالسحر [ ص: 76 ] الحلال ، ويطوقون من أوصافهم أجمل من سمط اللآل ، فيخدعون الألباب ، ويذللون الصعاب ، ويذهبون الإحن ، ويهيجون الدمن ، ويجرئون الجبان ، ويبسطون يد الجعد البنان ، ويصيرون الناقص كاملا ، ويتركون النبيه خاملا ، منهم البدوي : ذو اللفظ الجزل ، والقول الفصل ، والكلام الفخم ، والطبع الجوهري ، والمنزع القوي . ومنهم الحضري : ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، والكلمات الجامعة ، والطبع السهل ، والتصرف في القول القليل الكلفة ، الكثير الرونق ، الرقيق الحاشية ، وكلا البابين فلهما - في البلاغة - الحجة البالغة ، والقوة الدامغة ، والقدح الفالج ، والمهبع الناهج ، لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم ، والبلاغة ملك قيادهم ، قدحوا فنونها ، واستنبطوا عيونها ، ودخلوا من كل باب من أبوابها ، وعلوا صرحا لبلوغ أسبابها ، فقالوا في الخطير والمهين ، وتفننوا في الغث والسمين ، وتقاولوا في القل والكثر ، وتساجلوا في النظم والنثر - ومع هذا فلم يتصد للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم ، ولم ينهض - لمقدار أقصر سورة منه - ناهض من بلغائهم ، على أنهم كانوا أكثر من حصى البطحاء ، وأوفر عددا من رمال الدهناء ، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإفراط في المضادة والمضارة ، وإلقائهم الشراشر على المعازة والمعارة ، ولقائهم دون المناضلة عن أحسابهم الخطط ، وركوبهم في كل ما يرومونه الشطط : إن أتاهم أحد بمفخرة أتوه بمفاخر ، وإن رماهم بمأثرة رموه بمآثر . وقد جرد لهم الحجة أولا ، والسيف آخرا ، فلم يعارضوا إلا السيف وحده . فما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أن البحر قد زخر فطم على الكواكب ، وأن الشمس قد أشرقت فطمست نور الكواكب ؛ وبذلك يظهر أن في قوله تعالى "ولن تفعلوا" معجزة أخرى ، فإنهم ما فعلوا ، وما قدروا ، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم - كمسيلمة - كشف عواره لجميعهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 77 الى صـ 81
الحلقة (14)
قال الحافظ ابن كثير : ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم عمرو ، ، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة ؟ فقال له عمرو : لقد [ ص: 77 ] أنزل عليه سورة وجيزة بليغة . فقال وما هي ؟ فقال : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال : ولقد أنزل علي مثلها . قال : وما هو ؟ فقال : يا وبر يا وبر ! إنما أنت أذنان وصدر . وسائرك حفر نقر - . ثم قال - : كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم إني أعلم أنك تكذب ! . .
وحيث عجز عرب ذلك العصر ، فما سواهم أعجز في هذا الأمر . . ! وقد مضى -إلى الآن - أكثر من ألف وثلاثمائة عام ، ولم يوجد أحد من معاديه البلغاء إلا وهو مسلم ، أو ذو استسلام ، فدل على أنه ليس من كلام البشر ، بل كلام خالق القوى والقدر ، أنزله تصديقا لرسوله ، وتحقيقا لمقوله ، وهذا الوجه - أعني بلوغه في الفصاحة والبلاغة إلى حد خرج عن طوق البشر - كاف وحده في الإعجاز ، وقد انضم إليه أوجه :
(منها) : إخباره عن أمور مغيبة ظهرت كما أخبر .
و(منها) : كونه لا يمله السمع مهما تكرر .
و(منها) : جمعه لعلوم لم تكن معهودة ، عند العرب والعجم .
و(منها) : إنباؤه عن الوقائع الخالية ، وأحوال الأمم ، والحال أن من أنزل عليه ، صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يكتب ولا يقرأ ، لاستغنائه بالوحي ، وليكون وجه الإعجاز بالقبول أحرى . وبذلك يعلم أن القرآن أعظم المعجزات ، فإنه آية باقية مدى الدهر ، يشاهدها -كل حين بعين الفكر- كل ذي حجر ، وسواه - من المعجزات- انقضت بانقضاء وقتها ، فلم يبق منها إلا الخبر .
وقد ذهب بعض علماء الشيعة - في وجه إعجازه - إلى : كونه قاهرا لمن يقاومه ، [ ص: 78 ] وغالبا على من يغالبه ، ونافذا في إزهاق ما يخالفه ، وكونه مؤثرا في إيجاد الأمة ، وبقاء الشريعة ، ونفوذ الحكم ، وثبوت الكلمة ، لما جعل الله فيه من النور ، والهداية ، والرحمة . وعبارته :
إن كلام الله تعالى يمتاز عن غيره بالنفوذ ، والغلبة في هداية الخلق ، وإنشاء أمة مستقلة ، وإبقاء شريعة جديدة ، وهي علامة كافية في معرفة الكلمات الإلهية ، والآيات السماوية ، ثم قال : وخلاصة تقرير الدليل أن الكلام -الذي يتحدى الداعي به ، وينسبه إلى الله- إذا ظهر منه التأثير التام في هداية النفوس المستعدة الطالبة ، وقهر الأمم المنكرة المانعة ، فأوجد أمة مستقلة نامية ، وشريعة جديدة باقية ، فلا يبقى ثمة شك أنه هو كلام الله النازل من السماء ، والقدرة الظاهرة منه هي القدرة التي منذ القديم ظهرت من المرسلين والأنبياء ، وإلى هذه النكتة أشير في قوله تعالى : ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين وقال تعالى : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد وهذه العلامة لا توجد إلا في كتب الله تعالى ، ويتمكن كل إنسان أن يدركها ويفهمها منها . سواء كان عالما ، أو أميا ، عربيا أو عجميا . شرقيا ، أو غربيا . . ! . فمن الذي يشك أن بني إسرائيل ما خرجوا عن ظلمات الجهل إلى نور الإيمان ، وعن ذلة العبودية إلى عز الاستقلال إلا بسبب التوراة . . ؟ ! ومن الذي يجهل أن الأمم الأوروبية ما وصلوا إلى عبادة الله تعالى -بعد عبادة الأوثان- إلا بواسطة الإنجيل . . ؟ ! ومن الذي لا يعرف أن الأمم الكبرى -من حدود الشرق الأقصى إلى أقاصي إفريقية- ما خرجوا عن ربقة الوثنية ، [ ص: 79 ] وعبادة النار إلى التوحيد وعبادة الله إلا بهداية القرآن العظيم ؟ وما تحرروا عن أغلال العقائد الفاسدة ، والأعمال القبيحة ، وما وصلوا إلى الأخلاق الفاضلة ، والعقائد الصحيحة إلا بنور هذا السفر الكريم . . ؟ ! ثم قال : والخلاصة أن هذه العلامة وهي هداية النفوس ، وإيجاد الديانة الجديدة - بقهر الأديان القديمة ، وتبديل العوائد العتيقة - هي العلامة الظاهرة المميزة بين الكلمات الإلهية ! والمصنفات البشرية . حتى أن أول نفس أذعنت بحقيقة رسالة رسول ، وصدق شريعته ، لو لم تعرف في نفسها هذه الهداية ، ولم تشعر في ذاتها بهذه المغلوبية لما كانت أول من صدقه ولباه ، واتبعه وآساه ، فإن محبة الدين القديم الموروث راسخة في جميع النفوس . والخوف من تبديل أركانه وآدابه متمكن في أعماق القلوب . فالهداية أظهر علامة في صدق النبوة والرسالة ; إذ هي صفة الفعل ، ومرتبطة بالدعوة - كالإبراء للطب ، ومعرفة السطوح للهندسة ، والبيع والشراء للتجارة ، وصنع الأسرة والأبواب وغيرها للنجارة - .
ثم قال : وإذا تصفحت القرآن المجيد ، تجد أن الله تعالى استدل بها في مواضع متعددة ، ووصف القرآن بأنه حجة -بما أودع فيه من الهداية والرحمة- ولا ترى موضعا واحدا وصفه بأنه أفصح الكتب وأبلغ الصحف ، فانظر في قوله تعالى : فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين أترى أن الله تعالى أفحمهم بقوله : فأتوا بكتاب من عند الله هو أفصح منهما أو أبلغ منهما ؟ وكذلك لما انتقدوا على النبي صلى الله عليه وسلم بعدم صدور معجزة منه كالمعجزات السالفة ; فقال تعالى : وقالوا لولا أنـزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنـزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن [ ص: 80 ] في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون فبين الله تعالى مزية القرآن على سائر المعجزات ، وكفايته عن غيره بأن فيه الذكرى والرحمة . وقال تعالى في أول هذه السورة الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين وما قال فيه فصاحة وبلاغة يعجز عن مثلها جميع العالمين . وذلك لأن الفصاحة والبلاغة من الأوصاف الخفية الغامضة الدقيقة -التي تختلف فيها الأذواق ، وتتشعب فيها الآراء والأنظار- ولكن ما ظهر من الرسول عليه السلام- بسبب نزول القرآن عليه - من العلم والقدرة على هداية الأمم ، وإزالة أسقام أهل العالم ، وتأسيس الشريعة الإلهامية ، وإيجاد الأمة الإسلامية رغما للأمم الكبرى ، ومباينا للديانات العظمى ، أمر ظاهر محسوس ، تصعب فيه المناقشة ، ولا تفيد معه المغالطة ، فمن الذي يمكنه أن ينكر أن الأمم العظيمة -كالعرب والفرس ، والخزر ، والترك ، والهنود ، والصينيين ، وأهالي إفريقية - خرجوا من ظلمات الشرك ، وعبادة النار والأوثان ، وإنكار الأنبياء ؛ ودخلوا في نور التوحيد ، وعبادة الله وحده ، والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه ، بنور الكتاب المبين . . . !
-كذا في كتاب (الدرر البهية) لأبي الفضائل الإيراني- ولا يخفى أن ما ذكره هو وجه متين ، ولكن لا يسوغ نفي ما عداه لأجله ، بل يجدر أن يضم إليها ، ويكون في مقدمتها والله أعلم .
ثم إن من عادته تعالى ، في كتابه ، أن يذكر الترغيب مع الترهيب ، ويشفع البشارة بالإنذار ، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني - على الأصح - وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر - أو عكسه - أو حال السعداء ثم الأشقياء - أو عكسه - وحاصله ذكر الشيء ومقابله . والحكمة في ذلك : هي إرادة التنشيط لاكتساب ما يزلف ، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف . فلما ذكر الكفار وأعمالهم ، وأوعدهم بالعقاب ، قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق ، والأعمال الصالحة من فعل الطاعات وترك المعاصي- فقال عز وجل :
[ ص: 81 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[25 ] وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون
"وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات" (البشارة) : الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ، ومنه البشرة : لظاهر الجلد . وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه . وأما "فبشرهم بعذاب أليم" فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء - الزائد في غيظ المستهزأ به ، وتألمه ، واغتمامه- ففيه استعارة أحد الضدين للآخر تهكما وسخرية . و "الصالحات" ما استقام من الأعمال أي صلح لترتب الثواب عليه ، وقد أجمع السلف على أن الإيمان : قول وعمل ، يزيد وينقص . ثم إنه إذا أطلق دخلت فيه الأعمال ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « الإيمان بضع وستون شعبة -أو بضع وسبعون شعبة- أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان» .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 82 الى صـ 86
الحلقة (15)
وإذا عطف عليه -كما في هذه الآية - فهنا ، قد يقال : الأعمال دخلت فيه ، وعطفت عطف الخاص على العام ، وقد يقال : لم تدخل فيه ، ولكن مع العطف -كما في اسم الفقير [ ص: 82 ] والمسكين . إذا أفرد أحدهما تناول الآخر ، وإذا عطف أحدهما على الآخر فهما صنفان - وهذا التفصيل في الإيمان هو كذلك في لفظ البر ، والتقوى ، والمعروف . وفي الإثم ، والعدوان ، والمنكر ، تختلف دلالتها في الإفراد والاقتران لمن تدبر القرآن .
وقد بين حديث جبريل أن الإيمان أصله في القلب ، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله - كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « الإسلام علانية والإيمان في القلب» .
وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : « ألا إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب » .
فإذا كان الإيمان في القلب ، فقد صلح القلب ، فيجب أن يصلح سائر الجسد ، فلذلك هو ثمرة ما في القلب . فلهذا قال بعضهم : الأعمال ثمرة الإيمان ، وصحته ; لما كانت لازمة لصلاح [ ص: 83 ] القلب ، دخلت في الاسم ، كما نطق بذلك الكتاب والسنة في غير موضع ، هذا ما أفاده الإمام ابن تيمية رحمه الله .
وقوله تعالى "أن لهم جنات" جمع (جنة) : وهي البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه ، وإنما سميت : دار الثواب ، بها مع أن فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور ، لما أنها مناط نعيمها ، ومعظم ملاذها . وجمعها مع التنكير : لاشتمالها على جنان كثيرة في كل منها مراتب ودرجات متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها .
وقوله : "تجري من تحتها الأنهار" صفة جنات ، ثم إن أريد بها الأشجار ، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر ، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها ، فلا بد من تقدير مضاف -أي من تحت أشجارها- ، وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار ، فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق اسم الجنة على الكل ، وإنما جيء ذكر الجنات -مشفوعا بذكر الأنهار الجارية- لما أن أنزه البساتين ، وأكرمها منظرا ، ما كانت أشجاره مظللة ، والأنهار في خلالها مطردة ، وفي ذلك النعمة العظمى ، واللذة الكبرى . واللام في الأنهار : للجنس- كما في قولك : لفلان بستان فيه الماء الجاري- أو للعهد . والإشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن الآية .
"كلما رزقوا منها" أي : أطعموا من تلك الجنات "من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل" أي : مثل الذي رزقناه من قبل هذا الذي أحضر إلينا ، فالإشارة إلى المرزوق في الجنة لتشابه ثمارها . بقرينة قوله "وأتوا به" - أي : أتتهم الملائكة ، والولدان [ ص: 84 ] برزق الجنة – "متشابها" يشبه بعضه بعضا لونا، ويختلف طعما ، وذلك أجلب للسرور ، وأزيد في التعجب ، وأظهر للمزية ، وأبين للفضل .
وترديدهم هذا القول ، ونطقهم به - عند كل ثمرة يرزقونها- دليل على تناهي الأمر في استحكام الشبه ، وأنه الذي يستملي تعجبهم ، ويستدعي استغرابهم ، ويفرط ابتهاجهم . فإن قيل : كيف موقع قوله "وأتوا به متشابها" من نظم الكلام ؟ قلت : هو كقولك : فلان أحسن بفلان، ونعم ما فعل . ورأى من الرأي كذا ، وكان صوابا . ومنه قوله تعالى : وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير "ولهم فيها أزواج مطهرة" من الحيض والاستحاضة وما يختص بهن من الأقذار والأدناس - ويجوز لمجيئه مطلقا ، أن يدخل تحته الطهر من دنس الطباع ، وسوء الأخلاق وسائر مثالبهن وكيدهن .
وقوله تعالى "وهم فيها خالدون" هذا هو تمام السعادة ؛ فإنهم -مع هذا النعيم- في مقام أمين من الموت والانقطاع ، فلا آخر له ولا انقضاء . بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام . والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم ، إنه البر الرحيم .
ولما ضرب تعالى -فيما تقدم- للمنافقين مثلين : في قوله : مثلهم كمثل الذي استوقد إلخ . وقوله : أو كصيب إلخ . إلى أمثال أخرى تقدمت على نزول هذه السورة ، من السور المكية ، ضربت للمشركين - نبه تعالى إلى موضع العبرة بها ، والحكمة منها ، وتضليل من لا يقدرها قدرها - ممن يتجاهل عن سرها ، ويتعامى عن نورها ، ويحول دون الاهتداء بها ، والأخذ بسببها -فقال سبحانه :
[ ص: 85 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[26 ] إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين
"إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" أي : يذكر مثلا ما . يقال ضرب مثلا ، ذكره ، فيتعدى لمفعول واحد . أو صير ، فلمفعولين .
قال أبو إسحاق في قوله تعالى : واضرب لهم مثلا أي : اذكر لهم . وعبارة الجوهري : ضرب الله مثلا أي : وصف وبين . وفي شرح نظم الفصيح: ضرب المثل : إيراده ليمتثل به ، ويتصور ما أراد المتكلم بيانه للمخاطب . يقال : ضرب الشيء مثلا ، وضرب به ، وتمثله ، وتمثل به . ثم قال : وهذا معنى قول بعضهم : ضرب المثل اعتبار الشيء بغيره ، وتمثيله به . و"ما" هذه اسمية إبهامية ، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما ، وزادته شياعا وعموما - كقولك : أعطني كتابا ما، ، تريد أي كتاب كان -كأنه قيل : مثلا ما من الأمثال أي مثل كان . فهي صفة لما قبلها . أو حرفية مزيدة لتقوية النسبة وتوكيدها -كما في قوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم كأنه قيل : لا يستحيي أن يضرب مثلا حقا ، أو البتة .
[ ص: 86 ] و "بعوضة" بدل من "مثلا". أو هما مفعولا "يضرب" ; لتضمنه معنى الجعل والتصيير . ومعنى الآية : إنه تعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ، ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها . أي لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا -ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة- كما لا يستنكف عن خلقها ، كذلك لا يستنكف عن ضرت المثل بها . كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله : يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب وقال : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون وغير ذلك من أمثال الكتاب العزيز ، فما استنكره السفهاء ، وأهل العناد والمراء ، واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء ، ومضروبا بها المثل- ليس بموضع للاستنكار والاستغراب . من قبل أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب ، وإدناء المتوهم من المشاهد . فإن كان المتمثل له عظيما، كان المتمثل به مثله ، وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك . فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذا ، إلا أمرا تستدعيه حال المتمثل له وتستجره إلى نفسها ، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضية . ألا ترى إلى الحق لما كان واضحا ، جليا أبلج ، كيف تمثل له بالضياء والنور ؟ وإلى الباطل لما كان بضد صفته ، كيف تمثل له بالظلمة ؟ أفاده الزمخشري .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 87 الى صـ 91
الحلقة (16)
"فأما الذين آمنوا" شروع في تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر [ ص: 87 ] تحقيق حقية صدوره عنه تعالى -أي : فأما المؤمنون "فيعلمون أنه الحق من ربهم" كسائر ما ورد منه تعالى- والحق : هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره . وذلك لأن التمثل به مسوق على قضية مضربه ، ومحتذى على مثال ما يستدعيه - كما جعل بيت العنكبوت مثل الآلهة التي جعلها الكفار أندادا لله تعالى -وجعلت أقل من الذباب ، وأخس قدرا ، وضربت لها البعوضة فما دونها مثلا ; لأنه لا حال أحقر من تلك الأنداد وأقل . . . . . . . ! .
فالمؤمنون الذين عادتهم الإنصاف ، والعمل على العدل والتسوية ، والنظر في الأمور بناظر العقل - إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمر الشبهة بساحته ، والصواب الذي لا يرتع الخطأ حوله "وأما الذين كفروا" ممن غلبهم الجهل على عقولهم ، وغشيهم على بصائرهم- فلا يتفطنون ، ولا يلقون أذهانهم ، أو عرفوا أنه الحق ، إلا أن حب الرياسة ، وهوى الإلف والعادة ، لا يخليهم أن ينصفوا : "فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا" أي : فإذا سمعوه عاندوا ، وكابروا ، وقضوا عليه بالبطلان ، وقابلوه بالإنكار ، ولا خفاء في أن التمثيل بالبعوضة وبأحقر منها- مما لا تغبي استقامته وصحته على من به أدنى مسكة ، ولكن ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل ، ولا متشبث بأمارة ولا إقناع ، أن يرمي لفرط الحيرة ، والعجز عن إعمال الحيلة ، بدفع الواضح ، وإنكار المستقيم ، والتعويل على المكابرة والمغالطة- إذا لم يجد سوى ذلك معولا . "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا" جواب عن تلك المقالة الباطلة ، ورد لها ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة ، وغاية جميلة ، هي كونه ذريعة إلى هداية المستعدين للهداية ، وإضلال المنهمكين في الغواية ، وقدم الإضلال على الهداية -مع تقدم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله ، ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمرا فظيعا يسوؤهم ، ويفت في أعضادهم ، وهو السر في تخصيص هذه الفائدة بالذكر "وما يضل به" أي بالمثل أو بضربه "إلا الفاسقين" تكملة للجواب والرد ، وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ، ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له .
[ ص: 88 ] القول في تأويل قوله تعالى
[27 ] الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون
"الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" صفة للفاسقين للذم ، و"العهد" الذي وصفوا بنقضه : هو وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه ، وعلى لسان رسله - ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به : "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" عام في كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى : كقطع الرحم ، والإعراض عن موالاة المؤمنين ، والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام والكتب في التصديق ، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شر ، فإنه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد من الوصلة التي هي المقصودة بالذات من كل وصل وفصل "ويفسدون في الأرض" بالمنع عن الإيمان ، والاستهزاء بالحق ، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه : "أولئك هم الخاسرون" لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والفساد بالصلاح ، وعقابها بثوابها . وهذه الصفات المسوقة في الآية صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين ، كما قال تعالى في سورة الرعد : أفمن يعلم أنما أنـزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب الآيات -إلى أن قال- : والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار
[ ص: 89 ] القول في تأويل قوله تعالى
[28 ] كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون
"كيف تكفرون بالله" التفات إلى خطاب المذكورين ، مبني على إيراد ما عدد من قبائحهم السابقة ، لتزايد السخط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع . والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع ، واستبعاده ، والتعجيب منه ، لأن معهم ما يصرف عن الكفر ، ويدعو إلى الإيمان "وكنتم أمواتا" أجساما لا حياة لها عناصر ، وأغذية ، ونطفا ، ومضغا مخلقة وغير مخلقة -وإطلاق الأموات على تلك الأجسام الجمادية ، إما حقيقة- بناء على أن الميت عادم الحياة مطلقا . كما في قوله تعالى : بلدة ميتا و : وآية لهم الأرض الميتة أو استعارة ، جريا على أن إطلاق الميت فيما تصح فيه الحياة ، لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس . "فأحياكم" بخلق الأرواح ، ونفخها فيكم . وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه ، غير متراخ عنه ، بخلاف البواقي "ثم يميتكم" عندما تقضى آجالكم "ثم يحييكم" بالنشور ، والبعث ، للحساب والجزاء "ثم إليه ترجعون" -بعد الحشر- فيجازيكم بأعمالكم : إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . فما أعجب كفركم مع علمكم بحالتكم هذه . . . !
فإن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم، لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه [ ص: 90 ] يرجعون ، فكيف نظم ما ينكرونه ، من الإحياء الأخير والرجع ، في سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول ، والإماتة . . . . ؟
قلت : تمكنهم من العلم بهما -لما نصب لهم من الدلائل- منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر . سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما ، وهو أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولا ، قدر على أن يحييهم ثانيا ، فإن بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته . . ! أو الخطاب ، مع أهل الكتابين ، وإنكار اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها الله تعالى- إما لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر ، أو على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر ، أو لإرادة الأمرين جميعا . فإن ما عدده آيات ، وهي -مع كونها آيات- من أعظم النعم .
القول في تأويل قوله تعالى :
[29 ] هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم
"هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى ، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى ، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم ، ويتم به معاشهم ، ومعنى "لكم" لأجلكم ، ولانتفاعكم . وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل . ولا فرق بين الحيوانات وغيرها ، مما ينتفع به من غير ضرر . وفي التأكيد بقوله "جميعا" أقوى دلالة على هذا .
ثم استوى إلى السماء قال أبو العالية الرياحي: استوى إلى السماء أي : ارتفع . نقله عنه البخاري في صحيحه ، ورواه محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن الربيع بن أنس . [ ص: 91 ] وقال البغوي : قال ابن عباس وأكثر المفسرين : ارتفع إلى السماء . وقال الخليل بن أحمد في "ثم استوى إلى السماء" : ارتفع . رواه أبو عمر ابن عبد البر في شرح الموطأ ، نقله الذهبي في "كتاب العلو" . وقد استدل بقوله "ثم استوى" على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء ، وكذلك الآية التي في (حم السجدة) . وقوله تعالى في سورة (والنازعات): والأرض بعد ذلك دحاها إنما يفيد تأخر دحوها ، لا خلق جرمها ، فإن خلق الأرض وتهيئتها -لما يراد منها- قبل خلق السماء . ودحوها بعد خلق السماء ، والدحو : هو البسط ، وإنبات العشب منها ، وغير ذلك . مما فسره قوله تعالى : أخرج منها ماءها ومرعاها الآية -وكانت قبل ذلك خربة وخالية . على أن "بعد" تأتي بمعنى "مع" ; كقوله : عتل بعد ذلك زنيم أي : مع ذلك ، فلا إشكال . وتقديم الأرض –هنا- ; لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة فسواهن سبع سماوات أي : صيرهن ، كما في آية أخرى : فقضاهن
(تنبيه) قال بعض علماء الفلك : السماوات السبع -المذكورة كثيرا في القرآن- هي هذه السيارات السبع . وإنما خصت بالذكر -مع أن السيارات أكثر من ذلك- لأنها أكبر السيارات وأعظمها ؛ على أن القرآن الكريم لم يذكرها في موضع واحد -على سبيل الحصر- فلا ينافي ذلك أنها أكثر من سبع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 92 الى صـ 96
الحلقة (17)
وقال بعض علماء اللغة : إن العرب تستعمل لفظ سبع ، وسبعين ، وسبعمائة للمبالغة [ ص: 92 ] في الكثرة . فالعدد إذن غير مراد . ومنه آية : سبع سنابل وآية : والبحر يمده من بعده سبعة أبحر وآية : سبعين مرة والله أعلم .
وذهب بعض علماء الفلك إلى أن الحصر في السبع حقيقي ، وأن المراد به العالم الشمسي وحده دون غيره . وعبارته : إن قيل : إن كل ما يعلو الأرض -من الشمس والقمر والكواكب- هو سماء ، فلماذا خصص تعالى عددا هو سبع ؟
فالجواب : لا شك أنه يشير إلى العالم الشمسي -الذي أحطنا الآن به علما- وأن حصر العدد لا يدل على احتمال وجود زيادة عن سبع ، لأن القول بذلك ، يخرج تطبيق القرآن على الفلك ، لأن العلم أثبتها سبعا كالقرآن الذي لم يوجد فيه احتمال الزيادة -لأن الجمع يدخل فيه جميع العوالم التي لا نهاية لها- حتى يمكن أن يقال : إن سبعا للمبالغة -كسبعين وسبعمائة- ، ولا يصح أن يكون العدد سبعة للمبالغة لأنه قليل جدا بالنسبة إلى العوالم التي تعد بالملايين -مثل العالم الشمسي- ويؤيد الحصر في هذا العدد آية : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا فأخرج الشمس لأنها مركز ، [ ص: 93 ] وأخرج القمر لأنه تابع للأرض ، ولم يبق بعد ذلك إلا سبع . . . . . !
قال : وبذلك تتجلى الآن معجزة واضحة جلية . لأنه في عصر التقدم والمدنية العربية ، حينما كان العلم ساطعا على الأرض بعلماء الإسلام ، كان علماء الفلك لا يعرفون من السيارات إلا خمسا -بأسمائها العربية إلى اليوم- وهي : عطارد ، الزهرة ، المريخ ، المشترى ، زحل . وكانوا يفسرونها بأنها هي السماوات المذكورة في القرآن . ولما لم يمكنهم التوفيق بين السبع والخمس ، أضافوا الشمس والقمر لتمام العدد . مع أن القرآن يصرح بأن السماوات السبع غير الشمس والقمر . وذلك في قوله تعالى : الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى فلفظ "وسخر" دليل يفصل تعداد الشمس والقمر عن السبع السماوات . ولذلك كان المفسرون -الذين لا يعرفون الهيئة- لا يرون أن تعد الشمس سماء ، ولا القمر ، لعلمهم أن السماوات السبع مسكونة ، وأما الشمس فنار محرقة ; فذهبوا -في تفسير السماوات- على تلك الظنون . ولما اكتشف بعد (بالتلسكوب) سيار لم يكن معلوما ، دعوه : أورانوس ، ثم سيار آخر سموه : نبتون -صارت مجاميع السيارات سبعا ، فهذا الاكتشاف -الذي ظهر بعد النبي صلى الله عليه وسلم بألف ومائتي سنة- دل على معجزة القرآن ، ونبوة المنزل عليه صلى الله عليه وسلم .
ثم قال : وأما كون السماوات هي السيارات السبع بدون توابعها ، فلا يفهم من الآية ، لأن الأقمار التي نثبتها ، والنجوم الصغيرة التي مع المريخ ، يلزم أن تكون تابعة للسماوات السبع - لأنها تعلونا- وهي في العالم الشمسي . وحينئذ فالسماوات السبع هي مجاميع السيارات السبع ; بمعنى : أن مجموعة زحل -بما فيها هو نفسه أي مع أقماره الثمانية- تعد سماء ، لأن فلكها طبقة فوق طبقة فلك مجموعة المشترى ، ويدل على هذا [ ص: 94 ] التطبيق قوله تعالى : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير يشير إلى أن السماء الدنيا -أي السماء التي تلي الأرض- فلك المريخ ; فهو وما حوله من النجوم العديدة التي تسمى مصابيح ، وتعتبر كلها سماء وليس السيار نفسه .. . . ! انتهى .
وقوله تعالى : وهو بكل شيء عليم اعتراض تذييلي مقرر لما قبله -من خلق السماوات والأرض وما فيها- على هذا النمط البديع المنطوي على الحكم الفائقة ، والمصالح اللائقة ، فإن علمه عز وجل بجميع الأشياء يستدعي أن يخلق كل ما يخلقه على الوجه الرائق .
ولما ذكر تعالى الحياة والموت المشاهدين تنبيها على القدرة على ما اتبعهما به من البعث ، ثم دل على ذلك أيضا بخلق هذا الكون كله على هذا النظام البديع ، وختم ذلك بصفة العلم- ذكر ابتداء خلق هذا النوع البشري -المودع من صفة العلم- ما ظهر به فضله بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى:
[30 ] وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة أي : قوما يخلف بعضهم بعضا ، قرنا بعد قرن . كما قال تعالى : وهو الذي جعلكم خلائف الأرض وقال [ ص: 95 ] ويجعلكم خلفاء الأرض وقال : ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وقال : فخلف من بعدهم خلف ويجوز أن يراد : خليفة منكم ، لأنهم كانوا سكان الأرض ، فخلفهم فيها آدم وذريته ، وأن يراد : خليفة مني ، لأن آدم كان خليفة الله في أرضه ، وكذلك كل نبي : إنا جعلناك خليفة في الأرض والغرض من إخبار الملائكة بذلك ، هو أن يسألوا ذلك السؤال ، ويجابوا بما أجيبوا به ، فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم ، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم ، أو الحكمة : تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها ، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم -وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة- أو تعظيم شأن المجعول ، وإظهار فضله ، بأن بشر بوجود سكان ملكوته ، ونوه بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ، ولقبه بالخليفة .
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون هذا تعجب من أن يستخلف -لعمارة الأرض وإصلاحها- من يفسد فيها ، واستعلام عن الحكمة في ذلك . أي : كيف تستخلف هؤلاء ، مع أن [ ص: 96 ] منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ؟ فإن كان المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ، ونقدس لك -أي ولا يصدر عنا شيء من ذلك- وهلا وقع الاقتصار علينا ... ؟ فقال تعالى مجيبا لهم "إني أعلم ما لا تعلمون" أي : إن لي حكمة -في خلق الخليقة- لا تعلمونها .
فإن قلت : من أين عرف الملائكة ذلك حتى تعجبوا منه ، وإنما هو غيب ؟ أجيب : بأنهم عرفوه : إما بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية . فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف : من صلصال من حمإ مسنون أو فهموا من "الخليفة" أنه الذي يفصل بين الناس، ما يقع بينهم من المظالم ، ويردعهم عن المحارم والمآثم .
قال العلامة برهان الدين البقاعي في تفسيره : وما يقال من أنه كان قبل آدم ، عليه السلام ، في الأرض خلق يعصون ، قاس عليهم الملائكة حال آدم عليه السلام -كلام لا أصل له . بل آدم أول ساكنيها بنفسه . انتهى .
وقوله تعالى : نسبح بحمدك أي : ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك ، ملتبسين بحمدك- على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة .
وقوله : ونقدس لك أي : نصفك بما يليق بك -من العلو والعزة- وننزهك عما لا يليق بك . وقيل : المعنى نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك . كأنهم قابلوا الفساد، الذي أعظمه الإشراك بالتسبيح . وسفك الدماء الذي هو تلويث النفس بأقبح الجرائم ، بتطهير النفس عن الآثام . لا تمدحا بذلك ، ولا إظهارا للمنة ، بل بيانا للواقع
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 97 الى صـ 101
الحلقة (18)
[ ص: 97 ] تنبيهات
في وجوه فوائد من الآية
الأول : دلت الآية على أن الله تعالى -في عظمته وجلاله- يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه ، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ، لا سيما عند الحيرة . والسؤال يكون بالمقال ، ويكون بالحال ، والتوجه إلى الله تعالى في إفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها -كالبحث العلمي ، والاستدلال العقلي ، والإلهام الإلهي- .
الثاني : إذا كان من أسرار الله تعالى ، وحكمه ، ما يخفى على الملائكة ، فنخن أولى بأن يخفى علينا ، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ، لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا . . . . . . . !
الثالث : إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم ، وأجابهم عن سؤالهم بإقامة الدليل -بعد الإرشاد- إلى الخضوع والتسليم . وذلك أنه -بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون- علم آدم الأسماء ، ثم عرضهم على الملائكة ، كما سيأتي بيانه .
الرابع : تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ، عن تكذيب الناس ، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان ، على إنكار ما أنكروا ، وبطلان ما جحدوا . فإذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ، ويطلبون البيان والبرهان ، فيما لا يعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين . أي : فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين . وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها . وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب ، وكونه لا ريب فيه ؛ والرسول ، وكونه يبلغ وحي الله تعالى ، ويهدي به عباده ، واختلاف الناس فيها .
[ ص: 98 ] ومن خواص القرآن الحكيم الانتقال من مسألة إلى أخرى مباينة لها ، أو قريبة منها ، مع كون الجميع في سياق موضوع واحد ، -كذا في تفسير مفتي مصر- .
ولما بين سبحانه وتعالى لهم أولا على وجه الإجمال والإبهام ، أن في الخليفة فضائل غائبة عنهم ، ليستشرفوا إليها ، أبرز لهم طرفا منها ، ليعاينوه جهرة ، ويظهر لهم بديع صنعه وحكمته ، وتنزاح شبهتهم بالكلية ، فقال :
القول في تأويل قوله تعالى:
[31 ] وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين
"وعلم آدم الأسماء كلها" إما بخلق علم ضروري بها فيه، أو إلقاء في روعه . وآدم : اسم عبراني مشتق من أدمه ، وهي لفظة عبرانية معناها التراب ، لأنه جبل من تراب الأرض . كما أن حواء كلمة عبرانية معناها "حي" ، وسميت بذلك لأنها تكون أم الأحياء . والمراد بالأسماء ، أسماء كل شيء . قال ابن عباس : هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ، ودابة ، وأرض ، وسهل ، وبحر ، وجبل ، وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها ، وفي التوراة مصداق الآية : وهو أنه تعالى صور من الأرض كل حيوانات البر ، وكل طيور السماء ، وأحضرها إلى آدم ، لينظر ما يسميها ، وكل ما سماه آدم من نفس حية ، فهو اسمه . وسمى آدم جميع الحيوانات بأساميها ، وجميع طيور السماء ، وجميع وحوش الأرض.
قال ابن جرير : وفي هذه الآيات العبرة لمن اعتبر ، والذكرى لمن ادكر ، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، عما أودع الله عز وجل في هذا القرآن ، من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن ; وذلك أن الله جل ثناؤه ، احتج فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم ، على من كان بين ظهرانيه ، من يهود بني إسرائيل ، بإطلاعه إياه من علوم الغيب ، التي لم يكن تعالى [ ص: 99 ] أطلع عليها من خلقه إلا خاصا ، ولم يكن مدركا علمه إلا بالأنباء والأخبار ، لتتقرر عندهم صحة نبوته ، ويعلموا أن ما آتاهم به فمن عنده .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا كان بعد سجودهم له ، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك ، لمناسبة ما بين هذا المقام ، وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة ، حين سألوا عن ذلك . فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ، ولهذا ذكر الله هذا المقام ، عقيب هذا ، ليبين لهم شرف آدم بما فضل عليهم في العلم : ثم عرضهم على الملائكة أي : عرض أهل الأسماء ، فالضمير للمسميات المدلول عليها ضمنا : فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء أي التي علمتها آدم . وإنما استنبأهم ، وقد علم عجزهم عن الإنباء ، تبكيتا لهم ، وإظهارا لعجزهم عن إقامة ما علقوا به رجاءهم من أمر الخلافة ، فإن التصرف والتدبير ، وإقامة المعدلة ، بغير وقوف على مراتب الاستعدادات ، ومقادير الحقوق ، مما لا يكاد يمكن "إن كنتم صادقين" أي : في زعمكم أنكم أحقاء بالخلافة ممن استخلفته ، كما ينبئ عنه مقالكم . والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه ، قد يتطرق إليه باعتبار ما يلزمه من الأخبار . فإن أدنى مراتب الاستحقاق ، هو الوقوف على أسماء ما في الأرض ، ولما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم ، وبدت لهم هفوة زلتهم ، أنابوا إلى الله تعالى بالتوبة ، وذلك ما أفاده قوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى:
[32 ] قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم
"قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه ، إلا بما شاء . وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله تعالى . واعتراف منهم بالعجز والقصور عما كلفوه ، وأنه العالم بكل المعلومات التي من جملتها استعداد آدم عليه السلام ، لما نحن بمعزل من الاستعداد له ، من العلوم الخفية المتعلقة بما في الأرض من أنواع المخلوقات التي عليها يدور فلك خلافة الحكيم الذي لا يفعل [ ص: 100 ] إلا ما تقتضيه الحكمة ، ومن جملته تعليم آدم عليه السلام ما هو قابل له من العلوم الكلية ، والمعارف الجزئية ، المتعلقة بالأحكام الواردة على ما في الأرض ، وبناء أمر الخلافة عليها .
القول في تأويل قوله تعالى:
[33 ] قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون
"قال يا آدم أنبئهم" أي : أعلمهم "بأسمائهم" التي عجزوا عن علمها : فلما أنبأهم بأسمائهم قال عز وجل تقريرا لما مر من الجواب الإجمالي واستحضارا له : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض إيراد ما لا تعلمون بعنوان الغيب مضافا إلى السماوات والأرض للمبالغة في بيان كمال شمول علمه المحيط ، وغاية سعته . مع الإيذان بأن ما ظهر من عجزهم، وعلم آدم عليه السلام ، من الأمور المتعلقة بأهل السماوات والأرض . وهذا دليل واضح على أن المراد بما لا تعلمون ، فيما سبق ، ما أشير إليه هناك ، كأنه قيل : ألم أقل لكم إني أعلم فيه من دواعي الخلافة ما لا تعلمونه فيه ، هو هذا الذي عاينتموه . وفي الآية تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى ، وهو أن يتوقفوا مترصدين لأن يبين لهم : وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون عطف على جملة : ألم أقل لكم لا على "أعلم" ، إذ هو غير داخل تحت القول . أي : ما تظهرونه بألسنتكم ، وما كنتم تخفون في أنفسكم .
[ ص: 101 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[34 ] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين
"وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" لما أنبأهم بأسماء ، وعلمهم ما لم يعلموا ، أمرهم بالسجود له ، على وجه التحية والتكرمة تعظيما له ، واعترافا بفضله ، واعتذارا عما قالوا فيه . وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم عليه السلام : فسجدوا إلا إبليس أبى أي : امتنع عن السجود "واستكبر" أي : تكبر ، وقال : أنا خير منه ، فالسين للمبالغة "وكان" في سابق علم الله أو صار "من الكافرين" .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 102 الى صـ 106
الحلقة (19)
تنبيهات :
الأول : للناس في هذا السجود أقوال : أحدها أنه تكريم لآدم ، وطاعة لله ، ولم يكن عبادة لآدم . وقيل : السجود لله ، وآدم قبلة ، أو السجود لآدم تحية ، أو السجود لآدم عبادة بأمر الله ، وفرضه عليهم . ذكر ابن الأنباري عن الفراء ، وجماعة من الأئمة : أن سجود الملائكة لآدم ، كان تحية ، ولم يكن عبادة، وكان سجود تعظيم وتسليم وتحية ، لا سجود صلاة وعبادة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قال أهل العلم : السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه . وعلى هذا إجماع كل من يسمع قوله . فإن الله تعالى قال : اسجدوا لآدم ولم يقل : إلى آدم . وكل حرف له معنى ، وفرق بين "سجدت له" ، وبين "سجدت إليه" . قال تعالى : لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن ولله يسجد [ ص: 102 ] من في السماوات والأرض أجمع المسلمون على أن السجود للأحجار ، والأشجار ، والدواب محرم ، وأما الكعبة ، فيقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ، ثم صلى إلى الكعبة ، ولا يقال صلى لبيت المقدس ، ولا للكعبة . والصواب أن الخضوع بالقلوب ، والاعتراف بالعبودية ، لا يصلي على الإطلاق إلا لله سبحانه . وأما السجود فشريعة من الشرائع يتبع الأمر . فلو أمرنا سبحانه أن نسجد لأحد من خلقه ، لسجدنا طاعة واتباعا لأمره . فسجود الملائكة لآدم عبادة لله ، وطاعة ، وقربة يتقربون بها إليه . وهو لآدم تشريف وتعظيم وتكريم . وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام. ولم يأت أن آدم سجد للملائكة . بل لم يؤمر بالسجود إلا لله رب العالمين . وبالجملة ، أهل السنة قالوا : إنه سجود تعظيم وتكريم وتحية له . وقالت المعتزلة : كان آدم كالقبلة يسجد إليه ، ولم يسجدوا له . قالوا ذلك هربا من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم ; فإن أهل السنة قالوا : إبليس من الملائكة ، وصالح البشر أفضل من الملائكة ، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم . وخالفت المعتزلة في ذلك وقالت : الملائكة أفضل من البشر ، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة ، ويبطله ما حكى الله سبحانه عن إبليس : قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا
الثاني : اختلفوا في الملائكة الذين أمروا بالسجود ، فقيل : هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض . قال تقي الدين بن تيمية : هذا القول ليس من أقوال المسلمين واليهود النصارى . وقيل : هم جميع الملائكة ، حتى جبريل وميكائيل . وهذا قول العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة . قال ابن تيمية : ومن قال خلافه فقد رد القرآن بالكذب والبهتان ، [ ص: 103 ] لأنه سبحانه قال : فسجد الملائكة كلهم أجمعون وهذا تأكيد للعموم .
الثالث : للعلماء في إبليس ، هل كان من الملائكة أم لا ؟ قولان : أحدهما أنه كان من الملائكة . قاله ابن عباس ، وابن مسعود ، وسعيد بن المسيب ، واختاره الشيخ موفق الدين ، والشيخ أبو الحسن الأشعري ، وأئمة المالكية ، وابن جرير الطبري . قال البغوي : هذا قول أكثر المفسرين ، لأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم . قال تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس فلولا أنه من الملائكة ، لما توجه الأمر إليه بالسجود ، ولو لم يتوجه الأمر إليه بالسجود لم يكن عاصيا ، ولما استحق الخزي والنكال .
والقول الثاني : أنه كان من الجن ، ولم يكن من الملائكة . قاله ابن عباس ، في رواية ، والحسن وقتادة ، واختاره الزمخشري ، وأبو البقاء العكبري ، والكواشي في تفسيره . لقوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ، ولا ذرية للملائكة .
قال في الكشاف : إنما تناوله الأمر ، وهو للملائكة خاصة ، لأن إبليس كان في صحبتهم ، وكان يعبد الله عبادتهم ، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له كان الجني الذي معهم أجدر بأن يتواضع . والقول الأول هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء ، وصححه البغوي . وأجابوا عن قوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن أي : من الملائكة الذين هم خزنة الجنة .
[ ص: 104 ] قال ابن القيم : الصواب التفصيل في هذه المسألة ، وأن القولين في الحقيقة قول واحد . فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله ; كان أصله من نار ، وأصل الملائكة من نور . فالنافي كونه من الملائكة ، والمثبت ، لم يتواردا على محل واحد . وكذلك قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية في الفتاوى المصرية : وقيل إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار . سموا "جنا" ; لاستتارهم عن الأعين ، فإبليس كان منهم . الدليل على ذلك قوله تعالى : وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا وهو قولهم : الملائكة بنات الله ، ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية.
سئل الشعبي : هل لإبليس زوجة ؟ قال : ذلك عرس لم أشهده ! قال : ثم قرأت هذه الآية ، فعلمت أنه لا يكون له ذرية إلا من زوجة. فقلت : نعم . وقال قوم : ليس له ذرية ولا أولاد ، وذريته أعوانه من الشياطين .
الرابع : في قوله تعالى : وكان من الكافرين قولان : أحدهما أنه وقت العبادة كان منافقا ، والثاني أنه كان مؤمنا ثم كفر ، وهذا قول الأكثرين . فقيل في معنى الآية : "وكان من الكافرين" في علم الله ، أي كان عالما في الأزل أنه سيكفر . والذي عليه الأكثرون أن إبليس أول كافر بالله . أو يقال : معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك . واختلف الناس بأي سبب كفر إبليس ، لعنه الله . فقالت الخوارج : إنما كفر بمعصية الله ، وكل معصية كفر . وهذا قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة . وقال آخرون : كفر بترك السجود لآدم ومخالفته أمر الله . وقال آخرون : كفر لأنه خالف الأمر الشفاهي من الله ، فإن الله خاطب الملائكة وأمرهم بالسجود . ومخالفة الأمر الشفاهي أشد قبحا . وقال جمهور الناس : كفر إبليس لأنه أبى السجود واستكبر وعاند وطعن ، [ ص: 105 ] واعتقد أنه محق في تمرده ، واستدل بـ : أنا خير منه كما يأتي . فكأنه ترك السجود لآدم . تسفيها لأمر الله وحكمته . وهذا الكبر عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» كذا في كتاب الاستعاذة للإمام ابن مفلح الحنبلي رحمه الله تعالى .
القول في تأويل قوله تعالى:
[35 ] وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين
وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام ، وخلق له زوجة وأقرهما في الجنة ، أباحهما الأكل منها بقوله "وكلا منها رغدا" أي : أكلا واسعا . و"حيث" للمكان المبهم ، أي : أي مكان من الجنة شئتما . أطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة المزيحة للعلة . حين لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة . حتى لا يبقى لهما عذر في التناول مما منعا منه بقوله تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة أي هذه الحاضرة من الشجر ، أي لا تأكلا منها ، وإنما علق النهي بالقربان منها ، مبالغة في تحريم الأكل ، ووجوب الاجتناب عنه . لأن القرب من الشيء مقتضى الألفة . والألفة داعية للمحبة ، ومحبة الشيء تعمي وتصم . فلا يرى قبيحا ، ولا [ ص: 106 ] يسمع نهيا ، فيقع . والسبب الداعي إلى الشر منهي عنه ، كما أن السبب الموصل إلى الخير مأمور به . وعلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم « العينان تزنيان » لما كان النظر داعيا إلى الألفة ، والألفة إلى المحبة ، وذلك مفض لارتكابه ، فصار النظر مبدأ الزنا . وعلى هذا قوله تعالى : ولا تقربوا الزنا ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن
قال ابن العربي : سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول : إذا قيل : لا تقرب بفتح الراء ، كان معناه لا تتلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء ، معناه لا تدن ، نقله ابن مفلح في كتاب الاستعاذة. ونقل الفرق المذكور بينهما أيضا السيد مرتضى في شرح القاموس عن شيخه العلامة الفاسي . قال : إن أرباب الأفعال نصوا عليه ، وظاهر القاموس أنهما مترادفان ، فإنه قال : قرب منه ، ككرم ، وقربه كسمع قربا وقربانا ، وقربانا : دنا ، فهو قريب . للواحد والجمع . انتهى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/33.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 107 الى صـ 111
الحلقة (20)
[ ص: 107 ] لطيفة :
جاء في آية الأعراف "فكلا" وهنا بالواو ، لأن كل فعل عطف عليه شيء ، وكان ذلك الفعل كالشرط ، وذكر الشيء كالجزاء ، عطف بالفاء دون الواو ، كقوله تعالى : وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا لما كان وجود الأكل منها متعلقا بدخولها ذكر بالفاء ، كأنه قال : إن دخلتموها أكلتم منها ، فالأكل يتعلق وجوده بوجود الدخول . وقوله في الأعراف : اسكنوا هذه القرية وكلوا منها بالواو دون الفاء ، لأنه من السكنى ، وهو في المقام مع اللبث الطويل ، والأكل لا يختص وجوده بوجوده ، لأن من دخل بستانا قد يأكل منه ، وإن كان مجتازا ، فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط ، عطف بالواو . وإذا ثبت هذا فنقول : قد يراد بـ "اسكن" الزم مكانا دخلته ، ولا تنتقل عنه ، وقد يراد ادخله واسكن فيه . ففي البقرة ، ورد الأمر ، بعد أن كان آدم في الجنة ، فكان المراد المكث ، والأكل لا يتعلق به ، فجيء بالواو . وفي الأعراف ورد قبل أن دخل الجنة ، والمراد الدخول والأكل متعلق به ، فورد بالفاء .
[ ص: 108 ] تنبيه :
لم يرد في القرآن المجيد ، ولا في السنة الصحيحة تعيين هذه الشجرة ; إذ لا حاجة إليه ، لأنه ليس المقصود تعرف عين تلك الشجرة ، وما لا يكون مقصودا ، لا يجب بيانه. وقوله "من الظالمين" أي : من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله تعالى .
قال ابن مفلح الحنبلي في كتاب الاستعاذة: قال ابن حزم : حمل الأمر على الندب ، والنهي على الكراهة ، يقع فيه الفقهاء والأفاضل كثيرا ، وهو الذي يقع من الأنبياء عليهم السلام ، ولا يؤاخذون به ، وعلى السبيل أكل آدم من الشجرة . ومعنى قوله "فتكونا من الظالمين" أي : ظالمين لأنفسكما ، والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه، فمن وضع الأمر والنهي في موضع الندب والكراهة، فقد وضع الشيء في غير موضعه. انتهى.
ثم قال : وقال أبو محمد بن حزم في "الملل والنحل" : لا براءة من المعصية أعظم من حال من ظن أن أحدا لا يحلف حانثا ، وهكذا فعل آدم عليه السلام ، فإنه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسيا لنص القرآن ، ومتأولا وقاصدا إلى الخير ، لأنه قدر أنه يزداد حظوة عند الله فيكون ملكا مقربا ، أو خالدا فيما هو فيه أبدا ، فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله به ، وكان الواجب أن يحمل أمر ربه على ظاهره ، لكن تأول وأراد الخير فلم يصبه ، ولو فعل هذا عالم من علماء المسلمين لكان مأجورا ، ولكن آدم لما فعل وأخرج عن الجنة إلى الدنيا ، كان بذلك ظالما لنفسه . وقد سمى الله تعالى قاتل الخطأ قاتلا ، كما سمى العامد ، والمخطئ لم يعمد معصية ، وجعل في مثل الخطأ عتق رقبة ، وهو لم يعمد ذنبا . انتهى.
وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية ، وجماعة من المتأخرين : الصواب أن آدم عليه السلام ، لما قاسمه عدو الله أنه ناصح ، وأكد كلامه بأنواع من التأكيدات : أحدها القسم .
والثاني الإتيان بجملة اسمية لا فعلية .
والثالث تصديرها بأداة التأكيد .
الرابع الإتيان بلام التأكيد في الخبر .
الخامس الإتيان به اسم فاعل لا فعلا دالا على الحدث .
السادس [ ص: 109 ] تقديم المعمول على العامل فيه . ولم يظن آدم أن أحدا يحلف بالله كاذبا يمين غموس ، فظن صدقه ، وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة ، ورأى أن الأكل ، وإن كان فيه مفسدة ، فمصلحة الخلود أرجح ، ولعله يتأتى له استدراك مفسدة اليمين في أثناء ذلك باعتذار أو توبة ، كما تجد هذا التأويل في نفس كل مؤمن أقدم على معصية. اهـ.
قال ابن مفلح: فآدم عليه السلام لم يخرج من الجنة إلا بالتأويل ، فالتأويل لنص الله أخرجه ، وإلا فهو لم يقصد المعصية ، والمخالفة ، وأن يكون ظالما مستحقا للشقاء. انتهى .
القول في تأويل قوله تعالى :
[36 ] فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين
"فأزلهما الشيطان عنها" أي : أذهبهما عن الجنة ، وأبعدهما . يقال : زل عن مرتبته ، وزل عني ذاك ، إذا ذهب عنك؛ وزل من الشهر كذا . وقال ابن جرير: فأزلهما ، بتشديد اللام ، بمعنى استزلهما ، من قولك زل الرجل في دينه ، إذا هفا فيه وأخطأ ، فأتى ما ليس له إتيان فيه ، وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه . وقرئ "فأزالهما" بالألف ، من التنحية : فأخرجهما مما كانا فيه من الرغد والنعيم والكرامة "وقلنا اهبطوا" أي : انزلوا إلى الأرض ، خطاب لآدم وحواء والشيطان ، أو خطاب لآدم وحواء خاصة، لقوله في الآية الأخرى : قال اهبطا منها جميعا وجمع الضمير لأنهما أصلا الإنس ، فكأنهما الإنس كلهم "بعضكم لبعض عدو" متعادين يبغي بعضكم على بعض: "ولكم في الأرض مستقر" منزل وموضع استقرار "ومتاع" تمتع بالعيش "إلى حين" أي : إلى الموت .
[ ص: 110 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[37 ] فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم
"فتلقى آدم من ربه كلمات" استقبلها بالأخذ والقبول ، والعمل بها حين علمها . قال ابن جرير : وهي الكلمات التي أخبر عنه أنه قالها متنصلا بقيلها إلى ربه ، معترفا بذنبه ، وهو قوله : ربنا ظلمنا أنفسنا الآية ، فدعا بها لكي تكون عنوانا له ولأولاده على التوبة "فتاب عليه" فرجع عليه بالرحمة والقبول ، وتجاوز عنه ، وقوله تعالى : "إنه هو التواب الرحيم" في الجمع بين الاسمين ، وعد للتائب بالإحسان مع العفو .
القول في تأويل قوله تعالى:
[38 ] قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
"قلنا" لآدم وحواء "اهبطوا منها" من الجنة "جميعا" ثم ذكر ذرية آدم فقال "فإما" بإدغام نون "إن" الشرطية في "ما" الزائدة "يأتينكم مني هدى" كتاب أنزله عليكم ، ورسول أبعثه إليكم "فمن تبع هداي" أقبل على الهدى وقبل : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الآخرة بأن يدخلوا الجنة .
القول في تأويل قوله تعالى :
[39 ] والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا بالكتاب والرسول : أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون لا يموتون ولا يخرجون .
[ ص: 111 ] تنبيه :
إنما كرر الأمر بالهبوط للتأكيد والإيذان بتحتم مقتضاه . وتحققه لا محالة . أو لاختلاف المقصود . فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون . والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف . فمن اتبع الهدى نجا ، ومن ضله هلك .
فوائد :
الأولى :
ذهب كثيرون إلى أن الجنة التي أهبط منها آدم عليه السلام ، كانت في الأرض . قال بعضهم : هي على رأس جبل بالمشرق تحت خط الاستواء . وحملوا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة ، كما في قوله تعالى : اهبطوا مصرا واحتجوا عليه بوجوه :
أحدها : أن هذه الجنة : لو كانت هي دار الثواب ، لكانت جنة الخلد ، ولو كان آدم في جنة الخلد ، لما لحقه الغرور من الشيطان بقوله : هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ولما صح قوله : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين
وثانيها : أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى : وما هم منها بمخرجين
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 112 الى صـ 115
الحلقة (21)
وثالثها : لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض ، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء ، ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء ، لكان ذلك أولى بالذكر ، لأن نقله من الأرض إلى السماء ، من أعظم النعم . فدل ذلك على أنه لم يحصل . وذلك يوجب أن المراد من الجنة غير جنة الخلد .
ورابعها : روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « سيحان وجيحان والفرات والنيل ، كل من أنهار الجنة » .
قال ابن مفلح : أكثر الناس على أن المراد بالجنة التي أسكنها آدم جنة الخلد ، دار الثواب . ثم قال : قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية : وهذا قول أهل السنة والجماعة ، ومن قال إنها جنة في الأرض بالهند أو جدة ، أو غير ذلك ، فهو من الملحدة المبتدعين . والكتاب والسنة يردان هذا القول . وقد استوفى الكلام فيها في " مفتاح دار السعادة " وكتاب " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " .
الفائدة الثانية : اتفق الناس أن الشيطان كان متوليا إغواء آدم ، واختلف في الكيفية . فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء : أغواهما مشافهة ، ودليل ذلك قوله : هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى وقوله : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ومقاسمته لهما [ ص: 113 ] إني لكما لمن الناصحين والمقاسمة ظاهرها المشافهة ، ومنهم من قال : كان ذلك بالوسوسة ، كما قال : فوسوس لهما الشيطان فإغواؤه إغراؤه بوسواسه وسلطانه الذي جعل له ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » .
وزعموا أن الشيطان لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها . والوسوسة : لغة ، حديث النفس والأفكار . وحديث الشيطان بما لا نفع فيه ولا خير ، والكلام الخفي . وظاهر الآيات يؤيد القول الأول .
الفائدة الثالثة :
لم يسم الشيطان في الآية ، إذ لا حاجة ماسة إلى اسمه ، كما تقدم في الشجرة .
ولما قدم الله تعالى دعوة الناس عموما ، وذكر مبدأهم - دعا بني إسرائيل خصوصا ، وهم اليهود ، لأنهم كانوا أولى الناس بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة ، وقد جرى الكلام معهم (من هنا إلى الآية رقم 142) فتارة دعاهم بالملاطفة ، وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم . وتارة بالتخويف ، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم ، وذكر عقوباتهم التي عاقبهم بها ، كما سيأتي تفصيله ، فقال تعالى :
[ ص: 114 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[40 ] يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون
"يا بني إسرائيل" أي أولاد يعقوب . وقد هيجهم تعالى بذكر أبيهم إسرائيل ، كأنه قيل : يا بني العبد الصالح المطيع لله ، كونوا مثل أبيكم ، كما تقول : يا ابن الكريم ، افعل كذا ، ويا ابن العالم ، اطلب العلم ، اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم قال ابن جرير: نعمه التي أنعم بها على بني إسرائيل : اصطفاؤه منهم الرسل ، وإنزاله عليهم الكتب ، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضراء من فرعون وقومه ، إلى التمكين لهم في الأرض ، وتفجير عيون الماء من الحجر ، وإطعام المن والسلوى ، فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلف منه إلى آبائهم على ذكر ، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم ، فيحل بهم من النقم ، ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها ، وجحد صنائعه عنده : وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون العهد هو الميثاق ، وقد أشير إليه في قوله تعالى : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار الآية . فعهد الله هو وصيته لهم ، بما ذكر في الآية . ومنها : الإيمان برسله المتناول لخاتمهم [ ص: 115 ] عليه السلام ، لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة . وعهده تعالى إياهم ، هو أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة ، وقوله تعالى : وإياي فارهبون قال ابن جرير : أي اخشوني واتقوا ، أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل ، والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت على أنبيائي أن تؤمنوا به وتتبعوه ، أن أحل بكم من عقوبتي إن لم تتوبوا إلي باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه ، ما أحللت بمن خالف أمري ، وكذب رسلي من أسلافكم .
القول في تأويل قوله تعالى :
[41 ] وآمنوا بما أنـزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون
"وآمنوا بما أنزلت" أي : من القرآن : "مصدقا لما معكم" أي : موافقا بالتوحيد ، وصفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ، وبعض الشرائع ، لما معكم من الكتاب -كما في التنوير- قال ابن جرير : أمرهم بالتصديق بالقرآن ، وأخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة ; لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه ، نظير الذي من ذلك في الإنجيل والتوراة . ففي تصديقهم بما أنزل على محمد ، تصديق منهم لما معهم من التوراة . وفي تكذيبهم به تكذيب منهم لما معهم من التوراة . انتهى .
وتقييد المنزل بكونه مصدقا لما معهم ، لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر ، فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 116 الى صـ 120
الحلقة (22)
تنبيه:
كثيرا ما يستدل مجادلة أهل الكتاب على عدم تحريف كتبهم بهذه الآية وأمثالها ، كآية : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم وآية : ولكن [ ص: 116 ] تصديق الذي بين يديه وغيرهما . مع أنه ثبت بالبراهين القاطعة ذهاب قدر كبير من كتبهم ، واختلاط حقها بباطلها فيما بقي ، كما صنفت في ذلك مصنفات عدة ، وقد رد استدلالهم بهذه الآية وأمثالها على ما ادعوه ، بأن معنى كون القرآن مصدقا لما معهم ، ما ذكرناه قبل في تأويلها ; وحاصله أن ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم هو طبق ما عندهم من حقية نبوته ، وصحة البشائر عنه ، كما قال تعالى : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم أي : أنه عليه السلام جاء طبق ما عندهم عنه في التوراة والإنجيل ، بمعنى أن أحواله جميعا توافق البشائر .
ولا تكونوا أول كافر به يعني من جنسكم أهل الكتاب ، بعد سماعكم بمبعثه . فالأولية نسبية ، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن ، أو هو تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه ، والمستفتحين على الذين كفروا به ، وكانوا يعدون أتباعه أول الناس كلهم ، فلما بعث كان أمرهم على العكس ، لقوله : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به
ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا أي : لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي، بالدنيا وشهواتها ، فإنها قليلة فانية ، فالاشتراء استعارة للاستبدال وإياي فاتقون بالإيمان واتباع الحق ، والإعراض عن حطام الدنيا .
[ ص: 117 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[42 ] ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون [43 ] وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين
ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين اللبس الخلط ، وقد يلزمه الاشتباه بين المختلطين . والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي يخترعونه أو يذكرونه في تأويله حتى يشتبه أحدهما بالآخر ، وقوله "وتكتموا" مجزوم داخل تحت حكم النهي . وتكرير الحق ، لزيادة تقبيح المنهي عنه ; إذ في التصريح باسم الحق ، ما ليس في ضميره ، والتقييد بقوله "وأنتم تعلمون" لزيادة تقبيح حالهم ; إذ الجاهل عسى يعذر ، وقوله "وأقيموا الصلاة" الآية ، أمر بلزوم الشرائع عليهم بعد الإيمان ، وذلك إقامة الصلاة بأدائها بفروضها ، والمحافظة عليها . وإعطاء الصدقة المفروضة ، والركوع لله ، أي : الخضوع لأوامره بإطاعتها .
قال ابن جرير : هذا أمر من الله جل ثناؤه ، لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها بالإنابة والتوبة إليه ، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والدخول مع المسلمين في الإسلام ، والخضوع له بالطاعة ، ونهي منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، بعد تظاهر حججه عليهم ، وبعد الإعذار لهم والإنذار . وبعد تذكيره نعمه إليهم ، وإلى أسلافهم تعطفا منه بذلك عليهم ، وإبلاغا إليهم في المقدرة . اهـ.
وقد قيل في قوله : "واركعوا مع الراكعين" حث على إقامة الصلاة في الجماعة لما فيها من تظاهر النفوس في المناجاة .
[ ص: 118 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[44 ] أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون
"أتأمرون الناس بالبر" أي : بما فيه لله رضا من القول أو الفعل . وجماع البر كل ما فيه طاعة لله تعالى . والهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم : "وتنسون أنفسكم" أي : تتركونها من البر كالمنسيات . والمعنى تخالفون ما تأمرون به من ذلك إلى غيره . وقوله "وأنتم تتلون الكتاب" تبكيت مثل قوله "وأنتم تعلمون" يعني تتلون التوراة ، وفيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل . "أفلا تعقلون" توبيخ عظيم بمعنى أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه وكأنكم في ذلك مسلوبوا العقول ، لأن العقول تأباه وتدفعه .
روى الحافظ ابن كثير الدمشقي في تفسيره عن إبراهيم النخعي قال : إني لأكره القصص لثلاث آيات : قوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وقوله : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وقوله إخبارا عن شعيب : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
[ ص: 119 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[45 ] واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين
"واستعينوا بالصبر" أي : على الوفاء بالعهد "والصلاة" أي التي سرها خشوع القلب للرب . فإنها من أكبر العون على الثبات في الأمر . قال ابن جرير : أي : استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم من طاعتي واتباع أمري وترك ما تهوونه من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري ، واتباع رسولي محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر عليه ، والصلاة . فالآية متصلة بما قبلها . كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال عولجوا بذلك "وإنها" الضمير للصلاة . وتخصيصها برد الضمير إليها لعظم شأنها واشتمالها على ضروب من الصبر ؛ وجوز عود الضمير على الاستعانة بهما "لكبيرة" لشاقة ثقيلة كقوله تعالى : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه إلا على الخاشعين
القول في تأويل قوله تعالى :
[46 ] الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون
الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم أي محشورون إليه يوم القيامة للجزاء . والظن [ ص: 120 ] هنا بمعنى اليقين ، ومثله : إني ظننت أني ملاق حسابيه
قال ابن جرير : العرب قد تسمي اليقين ظنا ، نظير تسميتهم الظلمة سدفة ، والضياء سدفة ، والمغيث صارخا ، والمستغيث صارخا ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده .
والشواهد على ذلك من أشعار العرب أكثر من أن تحصر : وأنهم إليه راجعون أي : بعد الموت فيجازيهم .
القول في تأويل قوله تعالى:
[47 ] يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم كرر التذكير للتأكيد ولربط ما بعده من الوعيد الشديد به "وأني فضلتكم" عطف على نعمتي ، عطف الخاص على العام لكماله . أي : فضلت آباءكم "على العالمين" أي عالمي زمانهم بإنزال الكتاب عليهم ، وإرسال الرسل فيهم وجعلهم ملوكا ، وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام وبعده قبل أن يغيروا ، وتفضيل الآباء شرف الأبناء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 121 الى صـ 125
الحلقة (23)
القول في تأويل قوله تعالى :
[48 ] واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون
"واتقوا يوما" يريد يوم القيامة أي : حسابه أو عذابه "لا تجزي" فيه "نفس عن نفس شيئا" أي لا تقضي عنها شيئا من الحقوق . فانتصاب "شيئا" على المفعولية . أو شيئا من الجزاء فيكون نصبه على المصدرية . وإيراده منكرا مع تنكير النفس للتعميم والإقناط الكلي [ ص: 121 ] ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ لا يقبل "منها عدل" أي : فدية "ولا هم ينصرون" يمنعون من عذاب الله . وجمع لدلالة النفس المنكرة على النفوس الكثيرة ، وذكر لمعنى العباد أو الأناسي .
(تنبيه) تمسكت المعتزلة بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة ; لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقا أخلت به من فعل أو ترك ، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع ، فعلم أنها لا تقبل للعصاة .
والجواب : أنها خاصة بالكفار . ويؤيده أن الخطاب معهم كما قال : فما تنفعهم شفاعة الشافعين وكما قال عن أهل النار : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم فمعنى الآية أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ، ولا يخلص منه أحد .
وفي الانتصاف : من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها . وأما من آمن بها وصدقها ; وهم أهل السنة والجماعة ، فأولئك يرجون رحمة الله ، ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين وإنما ادخرت لهم . وليس في الآية دليل لمنكريها ; لأن قوله "يوما" أخرجه منكرا ، ولا شك أن في القيامة مواطن ، ويومها معدود بخمسين ألف سنة . فبعض أوقاتها ليس زمانا للشفاعة . وبعضها هو الوقت الموعود ، وفيه المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام . وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها واختلاف أوقاتها . منها قوله تعالى : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون مع قوله : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ ص: 122 ] فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين ووقتين متغايرين : أحدهما محل للتناول ، والآخر ليس محلا له ، وكذلك الشفاعة ، وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة ، رزقنا الله الشفاعة ، وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة .
القول في تأويل قوله تعالى :
[49 ] وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم
وإذ نجيناكم من آل فرعون تذكير لتفاصيل ما أجمل في قوله تعالى : نعمتي التي أنعمت عليكم من فنون النعماء . أي : واذكروا وقت تنجيتنا إياكم ، أي : آباءكم . فإن تنجيتهم تنجية لأعقابهم . والمراد بالآل : فرعون وأتباعه ، فإن الآل يطلق على الشخص نفسه ، وعلى أهله وأتباعه وأوليائه (قاله في القاموس).
ثم بين ما أنجاهم منه بقوله "يسومونكم" أي : يبغونكم "سوء العذاب" أي : أفظعه وأشده : يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم أي : يتركونهم أحياء : وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم البلاء إما المحنة ، إن أشير بذلكم إلى صنيع فرعون ، أو النعمة ، إن أشير به إلى الإنجاء . قال ابن جرير : العرب تسمي الخير بلاء ، والشر بلاء .
فائدة : فرعون لقب لمن ملك مصر كافرا . ككسرى لملك الفرس . وقيصر لملك الروم ، وتبع لمن ملك اليمن كافرا ، والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وخاقان لملك الترك . ولعتوه اشتق منه : تفرعن الرجل ، إذا عتا وتمرد .
وسبب سومه بني إسرائيل سوء العذاب من تذبيح أبنائهم (على ما روي في التوراة) خوفه من نموهم وكثرة توالدهم . وكانت أرض مصر امتلأت منهم ; فإن يوسف عليه [ ص: 123 ] السلام ، لما استقدم أباه وإخوته وأهلهم من أرض كنعان إلى مصر ، أعطاهم ملكا في أرض مصر في أفضل الأرض كما أمره ملك مصر . وكان لهم في مصر مقام عظيم بسبب يوسف عليه السلام . فتكاثروا وتناسلوا . ولما توفي يوسف عليه السلام ، والملك الذي اتخذه وزيرا عنده ، انقطع ذلك الاحترام عن بني إسرائيل . إلى أن قام على مصر أحد ملوكها الفراعنة ، فرأى غو الإسرائيليين ، فقال لقومه : أضحى بنو إسرائيل شعبا أكثر منا وأعظم . فهلم نحتال لهم لئلا ينموا ، فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا . ويخرجون من أرضنا . فسلط عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم ، وكانوا كلما اشتد تعبدهم ازدادوا كثرة وشدة ، فشق على المصريين كثرتهم واختشوا منهم ، فجعل أهل مصر يستعبدونهم جورا ويمررون عليهم حياتهم بالعمل الشديد بالطين واللبن ، وكل فلاحة الأرض ، وكل الأفعال التي استعبدوهم بها بالمشقة .
وأمر فرعون بذبح أبنائهم كما قصه الله تعالى . ولم يزل الأمر في هذه الشدة عليهم حتى نجاهم سبحانه بإرسال موسى عليه السلام . وقوله جل ذكره .
القول في تأويل قوله تعالى :
[50 ] وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون
وإذ فرقنا بكم البحر بيان لسبب التنجية ، وتصوير لكيفيتها ، إثر تذكيرها وبيان عظمها وهولها ، وقد بين في تضاعيف ذلك نعمة جليلة أخرى هي الإنجاء من الغرق . أي : واذكروا إذ فلقناه بسلوككم ، أو ملتبسا بكم ، أو بسبب إنجائكم . وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت مسالك . فالباء على الأول استعانة ، مثلها في : كتبت بالقلم . وعلى الثاني للمصاحبة . مثلها في : أسندت ظهري بالحائط . وعلى الثالث للسببية . والوجه الأول [ ص: 124 ] ضعيف من حيث إن مقتضاه أن تفريق البحر وقع ببني إسرائيل والمنصوص عليه في التنزيل أن البحر إنما انفرق بعصا موسى . قال تعالى : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم فآلة التفريق العصا لا بنو إسرائيل "فأنجيناكم" أي : من الغرق بإخراجكم إلى الساحل "وأغرقنا آل فرعون" أريد فرعون وقومه ، وإنما اقتصر على ذكرهم للعلم بأنه أولى به منهم "وأنتم تنظرون" أي : إلى ذلك وتشاهدونه لا تشكون فيه . ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم .
وكانت قصة إغراق آل فرعون المشار لها في هذه الآية ، على ما روي ، أن الحق تعالى لما شاء إخراج بني إسرائيل من مصر من بيت العبودية ، أوقع في نفس فرعون أن يطلقهم من مصر . بعد إباء شديد منه ، ورؤية آيات إلهية كادت تحل به وبقومه البوار . فدعا موسى وهارون وقال : اخرجوا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل جميعا . واذهبوا اعبدوا الرب كما تكلمتم . فلما ارتحلوا وأخبر فرعون أن الشعب قد هرب ، تغير قلبه عليهم وقال : ماذا فعلنا حتى أطلقناهم من خدمتنا ؟ فشد مركبته وأخذ قومه معه وسعى وراءهم ، وأدركهم وهم نازلون عند بحر القلزم ، وهو المشهور ببحر السويس فلما رأت بنو إسرائيل عسكر فرعون وراءهم ، قالوا : يا موسى أين ما وعدتنا من النصر والظفر ؟ فلو بقينا على خدمة المصريين لكان خيرا لنا من أن نهلك في هذه البرية : قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وقال : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون وأوحى [ ص: 125 ] الله إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق ، وأيبس قعره ، فدخل بنو إسرائيل فيه . فتبعهم فرعون وجنوده . فخرج موسى وقومه من الجهة الثانية . وانطبق البحر على فرعون ومن معه فغرقوا كلهم . وسيأتي الإشارة إلى هذه القصة في مواضع من التنزيل . ومن أبسطها فيه سورة الشعراء .
القول في تأويل قوله تعالى :
[51 ] وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون
وإذ واعدنا موسى أي بعد فراغه من مقاومة آل فرعون وإهلاكهم "أربعين ليلة" أي : لنعطيه عند انقضائها التوراة لتعملوا بها . وقد روي في ترجمة التوراة أنه تعالى قال لموسى : اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك ألواحا من حجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعلمهم . فصعد موسى إلى الجبل وبقي هناك أربعين يوما وأربعين ليلة . وموسى : كلمة عبرانية معناها منشول من الماء "ثم اتخذتم العجل" أي : إلها ومعبودا "من بعده" أي من بعد مضيه للميقات "وأنتم ظالمون" أي : بوضع العبادة في غير موضعها ، وهو حال من ضمير اتخذتم ، أو اعتراض تذييلي . أي : وأنتم قوم عادتكم الظلم .
القول في تأويل قوله تعالى :
[52 ] ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون
"ثم عفونا عنكم" أي : محونا ذنوبكم "من بعد ذلك" أي : الاتخاذ والظلم القبيح "لعلكم تشكرون" لكي تشكروا نعمة العفو وتستمروا بعد ذلك على الطاعة.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 126 الى صـ 130
الحلقة (24)
القول في تأويل قوله تعالى :
[53 ] وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون
وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان يعني الجامع بين كونه كتابا منزلا ، وفرقانا يفرق بين الحق والباطل . يعني التوراة . كقولك : رأيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة . ونحوه قوله تعالى : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين يعني الكتاب الجامع بين كونه فرقانا وضياء وذكرا ، أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرها من الآيات . أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام . وقيل : الفرقان انفراق البحر . وقيل : النصر الذي فرق بينه وبين عدوه ، كقوله تعالى : يوم الفرقان يريد به يوم بدر "لعلكم تهتدون" أي : لكي تهتدوا بالعمل فيه من الضلال .
القول في تأويل قوله تعالى:
[54 ] وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم
وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه [ ص: 127 ] هو التواب الرحيم هذه الآية بيان لكيفية وقوع العفو المذكور في الآية قبل . روي أن موسى عليه السلام لما رجع من الميقات ورأى ما صنع قومه بعده من عبادة العجل ، غضب ورمى باللوحين من يده . فكسرهما في أسفل الجبل . ثم أحرق العجل الذي صنعوه . ثم قال : من كان من حزب الرب فليقبل إلي . فاجتمع إليه جميع بني لاوى . وقال لهم : هذا ما يقول الرب إله إسرائيل : ليتقلد كل رجل منكم سيفه . فجوزوا في وسط المحلة من باب إلى باب وارجعوا ، وليقتل الرجل منكم أخاه وصاحبه وقريبه . فصنع بنو لاوى كما أمرهم موسى ، فقتلوا في ذلك اليوم من الشعب نحو ثلاثة وعشرين ألف رجل (وفي رواية نحو ثلاثة آلاف رجل) وفي غد ذلك اليوم كلم موسى الشعب، وقال لهم : أنتم قد أخطأتم خطيئة عظيمة ، وإني الآن أصعد إلى الرب فأتضرع إليه من أجل خطيئتكم . فصعد موسى وتضرع للرب وسأل المغفرة لقومه اهـ.
ولاوى : ثالث مولود ليعقوب عليه السلام من أولاده الاثني عشر ، معناه في العربية ملتصق أو متصل .
والأحبار اللاويون ينسبون إليه ، وقد اختارهم تعالى من بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام للخدمة المقدسة . وجعلهم من المقربين لديه . وبما سقناه يعلم أن قوله تعالى "فاقتلوا أنفسكم" أمر لمن لم يعبد العجل ، أعني اللاويين ، أن يقتلوا العبدة . لا كما فهمه بعضهم من قتل بعضهم بعضا مطلقا .
القول في تأويل قوله تعالى :
[55 ] وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون [56 ] ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون
وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم [ ص: 128 ] الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون أي : واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق ; إذ سألتم رؤيتي عيانا مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم في دار الدنيا . وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن القائلين لموسى ذلك هم السبعون المختارون . ويؤيده آية الأعراف واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب الآية .
وقد غلط أهل الكتاب في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل ; فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك ، فمنع منه ، فكيف يناله هؤلاء السبعون ؟ أفاده ابن كثير . وقد رأيت دعواهم المذكورة في الفصل الرابع والعشرين في سفر الخروج . وهذا من المواضع المحقق تحريفها . ويدل عليه ما في الفصل الثالث والثلاثين من السفر المذكور أنه تعالى قال لموسى : لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش اهـ.
وجهرة ، في الأصل ، مصدر قولك جهرت بالقراءة . استعيرت للمعاينة، لما بينهما من الاتحاد . في الوضوح والانكشاف . إلا أن الأول في المسموعات ، والثاني في المبصرات ، ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية ، فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس . أو على الحال من الفاعل أو المفعول .
قال ابن جرير : وأصل الصاعقة كل أمر هائل رآه ، أو عاينه ، أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب ، وإلى ذهاب عقل وغمور فهم ، أو فقد بعض آلات الجسم ، صوتا كان ذلك أو نارا . أو زلزلة أو رجفا (قال) ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقا وهو [ ص: 129 ] حي غير ميت قول الله عز وجل : "وخر موسى صعقا" يعني مغشيا عليه . ومنه قول جرير :
وهل كان الفرزدق غير قرد أصابته الصواعق فاستدارا !
فقد علم أن موسى لم يكن ، حين غشي عليه وصعق ميتا ; لأن الله جل وعز ، أخبر عنه أنه لما أفاق قال : تبت إليك . ولا شبه جرير الفرزدق ، وهو حي ، بالقرد ميتا ، ولكن معنى ذلك ما وصفناه .
وقوله تعالى "وأنتم تنظرون" أي إلى تلك الصاعقة . وقوله تعالى : ثم بعثناكم من بعد موتكم قال الراغب الأصبهاني في تفسيره : البعث إرسال المبعوث من المكان الذي فيه . لكن فرق بين تفاسيره بحسب اختلاف المعلق به ، فقيل : بعثت البعير من مبركه أي : أثرته ، وبعثته في السير أي هيجته ، وبعث الله الميت أحياه ، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال . وكل ذلك واحد في الحقيقة ، وإنما اختلف لاختلاف صور المبعوثات (ثم قال) والموت حمل على المعروف ، وحمل أيضا على الأحوال الشاقة الجارية مجرى [ ص: 130 ] الموت ، وليس يقتضي قوله "فأخذتكم الصاعقة" أنهم ماتوا. ألا ترى إلى قوله : وخر موسى صعقا لكن الآية تحتمل الأمرين ، وحقيقة ما كان إنما يعتمد فيها على السمع المتعري عن الاحتمالات . انتهى .
وقد يؤيد الثاني آية الأعراف المذكورة وهي : واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي فالرجفة هي المسماة بالصاعقة هنا ، والتنزيل يفسر بعضه بعضا ، والأصل توافق الآي . وقد ذكر ابن إسحاق والسدي أن الذين أخذتهم الرجفة هم الذين سألوا موسى رؤية الله جهرة ، وسيأتي في الأعراف بسط ذلك إن شاء الله .
دلت الآية على أن طلب رؤيته تعالى في الدنيا مستنكر غير جائز ، ولذا لم يذكر ، سبحانه وتعالى ، سؤال الرؤية إلا استعظمه ، وذلك في آيات : منها هذه . ومنها قوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنـزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ومنها قوله تعالى : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنـزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا فدلت هذه التهويلات الفظيعة الواردة لطالبيها في الدنيا على امتناعها فيها . وكما أخبر تعالى بأنه لا يرى في الدنيا ، فقد وعد الوعد الصادق عز وجل برؤيته في الدار الآخرة في آيات عديدة ، كما تواترت الأحاديث الصحيحة بذلك ، وهي قطعية الدلالة ، لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة ، وزعموا أن العقل قد حكم بها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 131 الى صـ 135
الحلقة (25)
القول في تأويل قوله تعالى :
[57 ] وظللنا عليكم الغمام وأنـزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
وظللنا عليكم الغمام وأنـزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضا بما أسبغ عليهم من النعم ، فمنها تظليل الغمام عليهم ، وذلك أنهم كانت تظلهم سحابة إذا ارتحلوا . لئلا تؤذيهم حرارة الشمس ، وقد ذكر تفصيل شأنها في توراتهم في الفصل التاسع من سفر العدد ، ومنها إنزال المن .
وقد روي في التوراة أنهم لما ارتحلوا من إيليم وأتوا إلى برية سين ، التي بين إيليم وسيناء ، في منتصف الشهر الثاني بعد خروجهم من مصر ، تذمروا على موسى وهارون في البرية ، وقالوا لهما : ليتنا متنا في أرض مصر إذ كنا نأكل خبزا ولحما ، فأخرجتمانا إلى هذه البرية لتهلكا هذا الجمع بالجوع . فأوحى تعالى لموسى عليه السلام إني أمطر عليكم خبزا من السماء . فليخرج الشعب ، ويلتقطوا حاجة اليوم بيومها طعامهم من أجل أني أمتحنهم ، هل يمشون في شريعتي أم لا ، وليكونوا في اليوم السادس أنهم يهيئون ضعف ما يلتقطونه يوما فيوما . لأن اليوم السابع يوم عيد لا يشخص فيه لأمر المعيشة ولا لطلبة شيء .
فقال لهم موسى : إن الرب تعالى يعطيكم عند المساء لحما تأكلون ، وبالغداة تشبعون خبزا . فكان في المساء أن السلوى صعدت وغطت المحلة ، وبالغداة أيضا وقع الندى حول المحلة . ولما غطى وجه الأرض تباين في البرية شيء رقيق كأنه مدقوق بالمدقة ، يشبه الجليد على الأرض . فلما نظر إليه بنو إسرائيل قالوا : ما هذا ؟ لأنهم لم يعرفوه . فقال لهم موسى : هذا هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا . وقد أمركم أن يلقط كل واحد على قدر ما في بيته ، وقدر مأكله . ففعل بنو إسرائيل كذلك ، ولقطوا ما بين مكثر ومقلل ، وقال لهم موسى : لا تبقوا منه شيئا إلى الغد . فلم يطيعوا [ ص: 132 ] موسى ، واستفضل منه رجال إلى الغد ، فضرب فيه الدود ونتن ، فغضب عليهم موسى ، وكانوا يلقطون غدوة ، كل إنسان يلقط على قدر ما يأكل ، فإذا أصابه حر الشمس ذاب . وقد أعطوا في اليوم السادس خبز يومين ليجلس كل رجل منهم في مكانه في اليوم السابع ، راحة وتقديسا له . وكان إذا خرج بعض الشعب ليلقط ، يوم السابع ، لا يجد في الأرض منه شيئا . ودعا آل إسرائيل اسمه المن ، وكان مثل حب الكزبرة أبيض ، وطعمه كرقاق بعسل ، وأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة حتى أتوا إلى الأرض العامرة ، ودنوا من تخوم أرض كنعان . وروي في ترجمة التوراة أيضا أن المن كان يشبه لون اللؤلؤ . وكان يطوف الشعب ويلتقطونه ويطحنونه بالرحى . ويدقونه في الهاون ويطبخونه في القدور ، ويعملون منه رغفا طعمها كالخبز المعجون بالدهن . ومتى نزل الندى على المحلة ليلا كان ينزل المن معه اهـ.
هذا ما كان من أمر المن . وأما السلوى فروي أيضا : أن جماعة ممن صعد مع بني إسرائيل من مصر تاقت أنفسهم للحم وجلسوا يبكون ، ووافقهم بنو إسرائيل على اشتهائه أيضا . وقالوا : من يطعمنا لحما لنأكل ؟ قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله بمصر من غير ثمن ، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم . والآن قد يبست نفوسنا ولا تنظر عيوننا إلا المن . فلما سمع موسى الشعب يبكون بعشائرهم ، وعلم غضب الرب عليهم ؛ لذلك ، ابتهل إلى ربه وقال : من أين لي لحم أطعم منه هذا الجمع وهم يبكون علي ويقولون أعطنا لحما لنأكل ؟ فأوحى إليه ربه أن يجمع سبعين رجلا من شيوخ شعبه وعرفائه ، ويقبل بهم إلى خيمة الاجتماع فيكونوا معه ، ثم كلمه ربه ووعده أن يعطيه لحما يأكلون منه شهرا حتى يأنفوا منه . فأخبر موسى الشعب بذلك . ثم انحاز إلى المحلة هو وشيوخ قومه ، فخرجت ريح وحملت السلوى من البحر وألقتها على المحلة مسيرة يوم حول المحلة من كل جانب ، وكانت تطير بالجو ذراعين على الأرض ، وقام الشعب يومهم ذلك كله والليل . وفي غد اليوم الثاني ، فجمعوا السلوى أقل من جمع عشرة أكرار ، سطحوه سطيحا ويبسوه حول المحلة . [ ص: 133 ] وقبل أن ينقطع اللحم من عندهم غضب الرب تعالى على الشعب ; فضربه ضربة عظيمة جدا ، ودعي اسم ذلك الموضع قبور الشهوة . لأنهم هناك دفنوا القوم الذين اشتهوا . ثم خرجوا من قبور الشهوة ، وارتحلوا لغيره . انتهى .
وقوله تعالى "كلوا" على إرادة القول أي قائلين لهم أو قيل لهم كلوا . وقوله "وما ظلمونا" كلام عدل به عن نهج الخطاب السابق للإيذان باقتضاء جنايات المخاطبين للإعراض عنهم وتعداد قبائحهم عند غيرهم على طريق المباثة . معطوف على مضمر قد حذف للإيجاز ، والإشعار بأنه أمر محقق غني عن التصريح به . أي : فظلموا بأن أكثروا من التضجر والتذمر على ربهم وشكوى سكناهم في البرية وفراقهم مصر ، وما ظلمونا بذلك ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، بالعصيان . إذ لا يتخطاهم ضرره ، وبذلك حق عليهم العذاب الذي ضربوا به كما ذكرناه .
القول في تأويل قوله تعالى :
[58 ] وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنـزيد المحسنين [59 ] فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون
وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنـزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون هذا إشارة إلى ما حل ببني إسرائيل لما -نكلوا عن الجهاد- ودخولهم الأرض [ ص: 134 ] المقدسة -أرض كنعان- لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام ، وإنما أطلق على الأرض المذكورة قرية ; لأن القرية : كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارا . وتقع على المدن وغيرها -كذا في "كفاية المتحفظ"- ثم إن ما قص- هنا -ذكر في سورة المائدة في قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون الآيات .
وقوله تعالى "ادخلوا الباب سجدا" في التأويلات : يحتمل المراد من الباب حقيقة الباب ، وهو باب القرية التي أمروا بالدخول فيها . ويحتمل من الباب القرية نفسها ، لا حقيقة الباب- كقوله "وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية" ذكر القرية ولم يذكر الباب- ، وذلك في اللغة جائز . (ويقال : فلان دخل في باب كذا - لا يعنون حقيقة الباب ، ولكن كونه في أمر هو فيه .
وقوله "سجدا" يحتمل المراد من السجود : حقيقة السجود . فيخرج على وجوه: على التحية لذلك المكان ، ويحتمل على الشكر له لما أهلك أعداءهم الجبارين ؛ ويحتمل الكناية عن الصلاة -إذ العرب قد تسمي السجود (صلاة)- كأنهم أمروا بالصلاة فيها ؛ ويحتمل أن الأمر بالسجود -لا على حقيقة السجود والصلاة- ولكن أمر بالخضوع له والطاعة والشكر على أياديه. والله أعلم .
وقوله تعالى "وقولوا حطة" خبر محذوف، أي مسألتنا حطة -والأصل النصب- بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات .
[ ص: 135 ] وقوله سبحانه : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم أي : بدلوا أمره تعالى لهم -بدخول الأرض مجاهدين- بالإحجام عنه ، وتثبيط الناس . ولذا قال أبو مسلم "قوله تعالى "فبدل" يدل على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به ، لا على أنهم أتوا له ببدل. والدليل عليه : أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة . قال تعالى : سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى قوله : يريدون أن يبدلوا كلام الله ولم يكن تبديلهم إلا الخلاف في الفعل لا في القول . فكذا هنا ، فيكون المعنى : إنهم لما أمروا بدخول الأرض -وما ذكر معه- لم يمتثلوا أمر الله ، ولم يلتفتوا إليه" .
وفي تكرير "الذين ظلموا" زيادة في تقبيح أمرهم ، وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم . و(الرجز) : هو الموت بغتة ، كما تقدم .
قال الراغب : وتخصيص قوله "رجزا من السماء" هو أن العذاب ضربان : ضرب قد يمكن -على بعض الوجوه- دفاعه ، أو يظن أنه يمكن فيه ذلك ، وهو كل عذاب على يد آدمي ، أو من جهة المخلوقات كالهدم والغرق . وضرب لا يمكن -ولا يظن- دفاعه بقوة آدمي كالطاعون ، والصاعقة ، والموت- وهو المعني بقوله "رجزا من السماء" اهـ.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 136 الى صـ 140
الحلقة (26)
القول في تأويل قوله تعالى :
[60 ] وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين
هذا تذكير لنعمة أخرى كفروها . روي في توراتهم أنه ارتحلت كل جماعة بني إسرائيل [ ص: 136 ] من برية سينا بأمره تعالى ، وحلوا في رقادين ، ولم يكن هناك ماء ليشربوا ، فخاصموا موسى ، وقالوا له أعطنا ماء لنشرب ، أخرجتنا من مصر لتقتلنا نحن وأولادنا ، ودوابنا بالعطش ؟ فابتهل موسى إلى ربه في السقيا ، فأوحى إليه أن امض أمام الشعب ، وخذ معك من شيوخ إسرائيل . والعصا التي ضربت بها النهر خذها بيدك . واذهب إلى صخرة حوريب ، فاضربها فيخرج منها ماء ليشرب الشعب . ففعل موسى كذلك أمام شيوخ إسرائيل . انتهى .
وقوله تعالى "اثنتا عشرة عينا" أي عدد أسباط يعقوب الاثني عشر ، لكل سبط منهم عين قد عرفوها . قال الراغب: وأنكر ذلك بعض الطبيعيين واستبعده ، وهذا المنكر ، مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات الخارجة عن العادات ، فقد ترك النظر على طريقته . إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجر الحديد ، وأن الحجر المنفر للنحل ينفره ، والحجر الحلاق يحلق الشعر ، وذلك كله عندهم من أسرار الطبيعة . وإذا لم يكن مثل ذلك منكرا عندهم ، فغير ممتنع أن يخلق الله حجرا يسخره لجذب الماء من تحت الأرض . اهـ.
وقوله : ولا تعثوا في الأرض مفسدين أي لا تمشوا في الأرض بالفساد ، وخلاف أمر موسى . قال الراغب : فإن قيل : فما فائدة قوله "مفسدين" والعثو ضرب من الإفساد ؟ قيل : قد قال بعض النحويين : إن ذلك حال مؤكدة، وذكر ألفاظا مما يشبه . وقال بعض المحققين : إن العثو ، وإن اقتضى الفساد ، فليس بموضوع له ، بل هو كالاعتداء ، وقد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد ، وهو مقابلة المعتدي بفعله نحو : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وهذا الاعتداء ليس بإفساد ، بل هو، بالإضافة إلى [ ص: 137 ] ما قوبل به ، عدل . ولولا كونه جزاء لكان إفسادا . فبين تعالى أن العثو المنهي عنه ، هو المقصود به الإفساد . فالإفساد مكروه على الإطلاق ، ولهذا قال : ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وقد يكون في صورة العثو والتعدي ما هو صلاح وعدل ، كما تقدم . وهذا ظاهر اهـ .
القول في تأويل قوله تعالى :
[61 ] وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد قال قتادة : لما ملوا طعامهم وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك ، قالوا ذلك . قال الراغب : إن قيل : كيف قال : لن نصبر على طعام واحد وكان لهم المن والسلوى ، قيل : إن ذلك إشارة إلى مساواته في الأزمنة المختلفة ، كقولك : فلان يفعل فعلا واحدا في كل يوم ، وإن كثرت أفعاله ، إذا تحرى طريقة واحدة وداوم عليها اهـ. وهذا المعنى في إنكار الطعام أبلغ . لأنهم لم يكتفوا في إنكاره بقولهم "لن نصبر على طعام" ، حتى أكدوا بقولهم "واحد" أو [ ص: 138 ] أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل .
فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها هو الثوم لقراءة ابن مسعود "وثومها" وللتصريح به في التوراة في هذه القصة . وقد ذكر ابن جرير شواهد لإبدال الثاء فاء لتقارب مخرجيهما كقولهم للأثافي "أثاثي" ، وقولهم وقعوا في عاثور شر وعافور شر ، وللمغافير "مغاثير" "وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى" أي : أدون قدرا ، وأصل الدنو القرب في المكان ، فاستعير للخسة ، كما استعير البعد للشرف والرفعة ، فقيل : بعيد الهمة "بالذي هو خير" أي : بمقابلة ما هو خير ، أي : أرفع وأجل ، وهو المن الذي فيه الحلاوة التي تألفها أغلب الطباع البشرية ، والسلوى من أطيب لحوم الطير ، وفي مجموعهما غذاء تقوم به البنية . وليس فيما طلبوه ما يساويهما لذة ولا تغذية "اهبطوا مصرا" هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية ، وهو قراءة الجمهور، بالصرف.
قال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك، لإجماع المصاحف على ذلك ؛ أي : من الأمصار ، أي انحدروا إليه "فإن لكم" فيها "ما سألتم" أي : فإن الذي سألتم يكون في الأمصار لا في القفار ، والمعنى أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير ، في أي بلد دخلتموها وجدتموه . فليس يساوي مع دناءته ، وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه . ولما حكى الله تعالى إنكار موسى عليه السلام على اليهود استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، بعد تعداد النعم ، جاء بحكاية سوء صنيعهم بالأنبياء ، وكفرهم ، واعتدائهم ، وضرب الذلة عليهم لذلك ، استطرادا فقال : وضربت عليهم الذلة والمسكنة فمن هنا إلى قوله : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون معترض في خلال القصص المتعلقة بحكاية أحوال بني إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى ، يدل هذا على قوله : ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين فإن قتل الأنبياء إنما كان من فروعهم وذريتهم . والذلة بالكسر الصغار والهوان والحقارة . والذل بالضم ضد العز . والمسكنة مفعلة من السكون ، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفقر . والمسكين مفعيل منه -كذا في السمين- [ ص: 139 ] وفي الذلة استعارة بالكناية حيث شبهت بالقبة في الشمول والإحاطة ، أو شبهت الذلة بهم بلصوق الطين بالحائط في عدم الانفكاك . وهذا الخبر الذي أخبر الله تعالى به هو معلوم في جميع الأزمنة ، فإن اليهود أذل الفرق ، وأشدهم مسكنة ، وأكثرهم تصاغرا ، لم ينتظم لهم جمع ، ولا خفقت على رؤوسهم راية ، ولا ثبتت لهم ولاية ، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن ، وطروقة كل فحل في كل عصر ، ومن تمسك منهم بنصيب من المال ، وإن بلغ في الكثرة أي مبلغ ، فهو مرتد بأثواب المسكنة . "وباؤوا بغضب من الله" أي رجعوا به ، أي صار عليهم ، أو صاروا أحقاء به . من قولهم . باء فلان بفلان ، أي صار حقيقا أن يقتل بمقابلته . فالباء على التقديرين صلة باؤوا ، لا للملابسة . وإلا لاحتيج اعتبار المرجوع إليه ، ولا دلالة في الكلام عليه "ذلك" إشارة إلى ما سلف من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم "بأنهم" بسبب أنهم "كانوا يكفرون بآيات الله" الباهرة التي ظهرت على يدي عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام : ويقتلون النبيين بغير الحق كزكريا ويحيى عليهما السلام . وقتل الأنبياء في بني إسرائيل كان ظاهرا ، ولم يذكر قتل رسول من الرسل . وذلك -والله أعلم- لقوله : إنا لننصر رسلنا وقوله : إنهم لهم المنصورون وقال قوم : لم يقتل أحد من الرسل ، وإنما قتل الأنبياء ، أو رسل الرسل ، والله أعلم . كذا في التأويلات .
وقوله "بغير الحق" لم يخرج مخرج التقييد ، حتى يقال إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال ، لمكان العصمة . بل المراد نعي هذا الأمر عليهم ، وتعظيمه ، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر ، حملهم عليه اتباع الهوى وحب الدنيا ، والغلو في العصيان ، [ ص: 140 ] والاعتداء ، كما يفصح عنه قوله تعالى : ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون أي : جرهم العصيان والتمادي في العدوان إلى ما ذكر من الكفر ، وقتل الأنبياء عليهم السلام . وقيل : كررت الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم ، كما أنه بسبب الكفر والقتل ، فهو بسبب ارتكابهم المعاصي ، واعتدائهم حدود الله تعالى . وعليه فيكون ذكر علل إنزال العقوبة بهم في نهاية حسن الترتيب ; إذ بدئ أولا بما فعلوه في حق الله تعالى وهو كفرهم بآياته . ثم ثني بما يتلوه في العظم ، وهو قتل الأنبياء . ثم بما يكون منهم من المعاصي التي تخصهم . ثم بما يكون منهم من المعاصي المعتدية إلى الغير ، مثل الاعتداء . وهذا من لطائف أسلوب التنزيل.
ثم أعلم تعالى بأن باب التوبة مفتوح على الوجه العام لليهود وغيرهم . وأن من ارتكب كبائر الذنوب التي تستوجب الغضب الإلهي ، وضرب الذلة والمسكنة ، كما حل باليهود ، إذا آمن وتاب فله في الدنيا والآخرة ما للمؤمنين . وعادة التنزيل جارية بأنه متى ذكر وعد أو وعيد ، عقب بضده ليكون الكلام تاما فقيل :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 141 الى صـ 145
الحلقة (27)
القول في تأويل قوله تعالى :
[62 ] إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
أي إن الذين آمنوا بما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، وصاروا من جملة أتباعه . قال في فتح البيان: كأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية ، وحال من قبلها من سائر الملل ، يرجع إلى شيء واحد ، وهو أن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا استحق ما ذكره الله من الأجر . ومن فاته ذلك فاته الخير كله ، والأجر دقه وجله . والمراد بالإيمان ههنا هو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله ، لما سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان [ ص: 141 ] فقال : « أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره » .
ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية . فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا بالقرآن ، فليس بمؤمن . ومن آمن بهما صار مسلما مؤمنا ، ولم يبق يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا . انتهى .
قال الراغب في تفسيره : تقدم أن الإيمان يستعمل على وجهين : أحدهما الإقرار بالشهادتين ، الذي يؤمن نفس الإنسان ، وماله عن الإباحة إلا بحق ، وذلك بعد استقرار هذا الدين مختص به كالإسلام . والثاني تحري اليقين فيما يتعاطاه الإنسان من أمر دينه . فقوله : [ ص: 142 ] "إن الذين آمنوا" عنى به المتدين بدين محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله "من آمن بالله" عنى به المتحري للاعتقاد اليقيني ، فهو غير الأول . ولما كانت مشاهير الأديان هذه الأربع ، بين تعالى أن كل من تعاطى دينا من هذه الأديان في وقت شرعه ، وقبل أن ينسخ ، فتحرى في ذلك الاعتقاد اليقيني ، وأتبع اعتقاده بالأعمال الصالحة ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
ثم قال : وقول ابن عباس : إن هذا منسوخ بقوله : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه يعنون أن هذه الأديان كلها منسوخة بدين الإسلام ، وأن الله عز وجل جعل لهم الأجر قبل وقت النبي عليه السلام . فأما في وقته ، فالأديان كلها منسوخة بدينه. اهـ. أي فليس مراد ابن عباس ، ومن وافقه ، أنه تعالى كان وعد من عمل صالحا من اليهود ، ومن ذكر معهم على عمله ، في الآخرة الجنة، ثم نسخه بآية : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه بل مراده ما ذكر الراغب . وهذا ما لا شبهة فيه . ولذا قال ابن جرير : ظاهر التنزيل يدل على أنه تعالى لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان ، بعض خلقه دون بعض منهم ، والخبر بقوله : من آمن بالله واليوم الآخر عن جميع ما ذكر في أول الآية .
تنبيه :
ظاهر هذه الآية ، مع تفسير الراغب "من آمن" بالمتحري للاعتقاد اليقيني ، مما قد يستدل به العنبري لمذهبه . فقد نقل الأصوليون في باب الاجتهاد والتقليد أن العنبري ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب ، حتى في الأصول ، ووافقه الجاحظ . قال الغزالي في " المستصفى " : ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية، إن كان معاندا على خلاف اعتقاده ، فهو آثم ، وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور [ ص: 143 ] غير آثم ، وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر ، فهو أيضا معذور ، وإنما الآثم المعذب المعاند فقط ; لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها . وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ، ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى ; إذ استد عليهم طريق المعرفة . ثم رده الغزالي بأدلة سمعية ضرورية ، وذلك مثل معرفتنا ضرورة أمره عليه السلام اليهود والنصارى بالإيمان به ، وذمهم على إصرارهم على عقائدهم ، وذلك لا ينحصر في الكتاب والسنة.
ثم قال الغزالي : وأما قوله -أي : الجاحظ- : كيف يكلفهم ما لا يطيقون ؟ قلنا : نعلم ضرورة أنه كلفهم ، أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون ، فلننظر فيه ، بل نبه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل ، ونصب من الأدلة ، وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات ، الذين نبهوا العقول ، وحركوا دواعي النظر ، حتى لم يبق على الله لأحد حجة بعد الرسل اهـ.
وقوله : والذين هادوا أي : تهودوا . يقال : هاد يهود ، وتهود ، إذا دخل في اليهودية . وهو هائد ، والجمع هود . وهم أمة موسى عليه السلام ، وإنما لزمهم هذا الاسم ; لأن الإسرائيليين الذين رجعوا من جلاء سبعين سنة ، ومن سبي بابل إلى وطنهم القديم ، كان أكثرهم من نسل يهوذا بن يعقوب (بالذال المعجمة ، فقلبتها العرب دالا مهملة) .
وقوله تعالى "والنصارى" جمع نصران ، كندامى جمع ندمان ، يقال : رجل نصران ، وامرأة نصرانية ، والياء في نصراني للمبالغة ، كما في أحمري ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام -كذا في " الكشاف"- أو هو جمع نصراني ، مغير عن ناصري نسبة إلى ناصرة -القرية المعروفة- وقد نسب إليها المسيح عليه السلام ، لأنه ربي بها . وجاء في الإنجيل "يسوع الناصري" .
وقوله تعالى "والصابئين" جمع صابئ ، ويقال لهم الصابئة . قال ابن جرير : الصابئ هو المستحدث ، سوى دينه ، دينا ، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه . وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب "صابئا" . يقال منه : صبا فلان يصبو صباء ، ويقال : صبأت النجوم إذا طلعت .
وقد اختلف أهل [ ص: 144 ] التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم ، من أهل الملل . فقال بعضهم : يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين . وقالوا : الذي عنى الله بهذا الاسم قوما لا دين لهم ، فعن مجاهد : الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى ، ولا دين لهم . وعن ابن زيد : الصابئون دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل ، يقولون لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي . وعن قتادة : أنهم قوم يعبدون الملائكة اهـ.
وقال الإمام الشهرستاني ، في الكلام عن الصابئة ما مثاله : والصبوة في مقابلة الحنيفية . وفي اللغة : صبا الرجل إذا مال وزاغ . فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم : الصابئة . وهم يقولون : الصبوة هو الانحلال عن قيد الرجال . وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين ، كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين . والصابئة تدعي أن مذهبها هو الاكتساب ، والحنفاء تدعي أن مذهبها هو الفطرة . فدعوة الصابئة إلى الاكتساب ، ودعوة الحنفاء إلى الفطرة ، فالصابئة قوم يقولون بحدود وأحكام عقلية ، ولا يقولون بالشريعة والإسلام . فيقابلون أرباب الديانات تقابل التضاد . والصابئة الأولى الذين قالوا بعاذيمون وهرمس ، وهما شيت وإدريس ، ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء . وهم أصحاب الروحانيات . فيعتقدون أن للعالم صانعا حكيما مقدسا عن سمات الحدثان . والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله ، وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه ، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهرا وفعلا وحالة . أما الجوهر فهم المقدسون عن المواد الجسمانية ، الذين جبلوا على الطهارة ، وفطروا على التقديس والتسبيح ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . قالوا فنحن نتقرب إليهم ونتوكل عليهم ، منهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند الله ، وهو رب الأرباب .
وأما الفعل ، فقالوا : الروحانيات هم الأسباب المتوسطون في الاختراع وتصريف الأمور من حال إلى حال ، يستمدون القوة من الحضرة الإلهية ، ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية ، [ ص: 145 ] فمنها مدبرات الكواكب السبع السيارة في أفلاكها وهي هياكلها ، ولكل روحاني هيكل ، ولكل هيكل فلك ، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به نسبة الروح إلى الجسد ، فهو ربه ومدبره . وكانوا يسمون الهياكل أربابا ، وربما يسمونها آباء ، والعناصر أمهات. ففعل الروحانيات : تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر ، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات ، فيتبعها قوى جسمانية ويركب عليها نفوس روحانية: مثل أنواع النبات وأنواع الحيوان . ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحاني كلي ، وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئي . فمع جنس المطر ملك ، ومع كل قطرة ملك . ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجو مما يصعد من الأرض فينزل ، مثل الأمطار والثلوج والبرد والرياح ، وما ينزل من السماء : مثل الصواعق والشهب ، وما يحدث في الجو من الرعد ، والبرق ، والسحاب ، والضباب ، وقوس قزح ، وذوات الأذناب ، والهالة ، والمجرة ؛ وما يحدث في الأرض من الزلازل ، والمياه ، والأبخرة ، إلى غير ذلك .
قالوا : وأما الحالة ، فأحوال الروحانيات من الروح والريحان والنعمة واللذة والسرور في جوار رب الأرباب كيف يخفى ؟ .
هذا ملخص ما أفاده العلامة الشهرستاني في كتاب -الملل والنحل- ثم ساق مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء جرت في المفاضلة بين الروحاني المحض ، والبشرية النبوية ، وأوردها على شكل سؤال وجواب. فلتنظر ثم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 146 الى صـ 150
الحلقة (28)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه -في الرد على المنطقيين- إن حران كانت دار هؤلاء الصابئة ، وفيها ولد إبراهيم عليه السلام ، (أو انتقل إليها من العراق . على اختلاف القولين)، وكان بها هيكل الصلة الأولى ، هيكل العقل الأول ، هيكل النفس الكلية ، هيكل زحل . هيكل المشترى . هيكل المريخ ، هيكل الشمس . وكذلك الزهرة ، وعطارد ، والقمر . وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم . ثم ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة [ ص: 146 ] المشركين ، حتى جاء الإسلام ، ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت ، ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها ، أطباء وكتابا ، وبعضهم لم يسلم . وكذلك كان دين أهل دمشق وغيرها قبل ظهور النصرانية . وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي . وتحت جامع دمشق معبد كبير له قبلة إلى القطب الشمالي كان لهؤلاء .
فإن الصابئة نوعان : صابئة حنفاء موحدون ، وصابئة مشركون . فالأول هم الذين أثنى الله عليهم بهذه الآية . فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا . من هذه الملل الأربع : المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين ، فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل ، وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل .
والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء ، كالمتبعين ملة إبراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإنجيل . وهذا بخلاف المجوس والمشركين ، فإنه ليس فيهم مؤمن . فلهذا قال تعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد فذكر الملل الست هؤلاء ، وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيامة . لم يذكر في الست من كان مؤمنا ، وإنما ذكر ذلك في الأربعة فقط . ثم إن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين ، والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين .
وأما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا ، ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم ، ويقرون بمعاد الأبدان ، فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم . ثم المشركون من الصابئة كانوا يقرون بحدوث هذا العالم كما كان المشركون من العرب يقرون بحدوثه . وكذلك المشركون من الهند . وقد ذكر أهل المقالات أن أول من ظهر عنه القول بقدمه من هؤلاء الفلاسفة المشركين ، هو أرسطو . انتهى .
وما قرره الإمام ابن تيمية ، يؤيد ما ذهب إليه كثير من المفسرين ، من أن معنى [ ص: 147 ] قوله تعالى "من آمن" من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ ، مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد ، عاملا بمقتضى شرعه ، وذلك كأهل الكتابين أو كان من الصابئة الموحدين . وذهب آخرون إلى أن معنى قوله "من آمن" من أحدث من هذه الطوائف ، إيمانا خالصا بما ذكر . قالوا : لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام . وأما بيان حال من مضى على دين آخر قبل انتساخه ، فلا ملابسة له بالمقام ، والصابئون ليس لهم دين يجوز رعايته في وقت من الأوقات . فليتأمل .
وقوله تعالى "فلهم أجرهم" أي : الذي وعدوه على تلك الأعمال المشروطة بالإيمان ، وهو في الأصل جعل العامل على عمله . وفي قوله "عند ربهم" مزيد لطف بهم وإيذان بأن أجرهم متيقن الثبوت ، مأمون من الفوات . وقوله تعالى "ولا خوف عليهم" أي حين يخاف الكفار العقاب ويحزنون على تفويت الثواب .
(تنبيه) قال العلامة البقاعي في تفسيره : وحسن وضع هذه الآية ، في أثناء قصصهم ، أنهم كانوا مأمورين بقتل كل ذكر ممن عداهم . وربما أمروا بقتل النساء أيضا . فربما ظن من ذلك أن من آمن من غيرهم لا يقبل . وقد ذكر منه في سورة المائدة ، وفي وضعها أيضا في أثناء قصصهم ، إشارة إلى تكذيبهم في قولهم : ليس علينا في الأميين سبيل وأن المدار في عصمة الدم والمال إنما هو الإيمان والاستقامة . وذلك موجود في نص التوراة في غير موضع . وفيها تهديدهم على المخالفة في ذلك بالذل والمسكنة . وسيأتي بعض ذلك عند قوله لا تعبدون إلا الله الآية . بل وفيها ما يقتضي المنع من مال المخالف [ ص: 148 ] في الدين ، فإنه قال في وسط السفر الثاني : وإذا لقيت ثور عدوك أو حماره وعليه حمولة فارددها إليه . وإذا رأيت حمار عدوك جاثما تحت حمله فهممت أن لا توازره فوازره وساعده . ثم رجع إلى قصصهم على أحسن وجه فقال :
القول في تأويل قوله تعالى :
[63 ] وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون
"وإذ أخذنا ميثاقكم" تذكيرا لجناية أخرى لأسلافهم ، أي واذكروا وقت أخذنا لميثاقكم بالمحافظة على ما في التوراة ، ورفعنا فوقكم الطور ترهيبا لكم لتقبلوا الميثاق . وذلك أن الطور اقتلع من أصله ، ورفع وظلل فوقهم . والطور : هو الجبل . وقيل لهم وهو مطل فوقهم "خذوا ما آتيناكم" من الكتاب "بقوة" أي بجد واجتهاد "واذكروا ما فيه" واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه "لعلكم تتقون" لكي تتقوا المعاصي ، أو رجاء منكم أن تنتظموا في سلك المتقين ، أو طلبا لذلك .
وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الأعراف : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون
قال الراغب : إن قيل إن هذا يكون إلجاء ولا يستحق به الثواب ، قيل : لم يستحقوا الثواب بالالتزام ، وإنما استحقوه بالعمل بها من بعد . فأما في التزامها فمضطرون ، وقال بعض [ ص: 149 ] الناس : عنى بالطور تشديد الأمر عليهم ، وجعل ذلك مثلا . وذلك بعيد . ومثله قال القاشاني : طور الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها . فإنه بعيد يأباه ظاهر الآية الأخرى . وإن كان الإطلاق في اللغة لا ينحصر في الحقيقة .
القول في تأويل قوله تعالى :
[64 ] ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين
"ثم توليتم" أي : أعرضتم عن الوفاء بالميثاق "من بعد ذلك" أي : من بعد أخذ ذلك الميثاق المؤكد : فلولا فضل الله عليكم ورحمته أي لكم بتوفيقكم للتوبة ، أو تأخير العذاب، لكنتم من الخاسرين أي الهالكين بالعقوبة .
قال الراغب : الخاسر المطلق ، في القرآن ، هو الذي خسر أعظم ما يقتنى ، وذلك نعيم الأبد ، وهو المذكور في قوله : قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة
وقال القفال : قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور ، تولوا عن التوراة بأمور كثيرة ; فحرفوا كلمها عن مواضعه ، وتركوا العمل بها ، وقتلوا الأنبياء ، وكفروا بهم ، وعصوا أمرهم . ومنها ما عمله أوائلهم ، ومنها ما فعله متأخروهم ، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلا ونهارا يخالفون موسى ويعترضون عليه ، ويلقونه بكل أذى ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك . حتى لقد خسف ببعضهم ، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون . وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرون بها ، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به . حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح ، وهموا بقتله .
والقرآن ، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة ، فالجملة معروفة ، وذلك إخبار من الله تعالى عن عناد أسلافهم . فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام [ ص: 150 ] من الكتاب ، وجحودهم لحقه . وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر . والله أعلم .
ثم ذكرهم تعالى بالإيقاع بمن نقض ميثاقه وفيما أخذه عليهم من تعظيم السبت بقوله :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 151 الى صـ 155
الحلقة (29)
القول في تأويل قوله تعالى :
[65 ] ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين
ولقد علمتم الذين اعتدوا أي : تعمدوا العدوان "منكم في السبت" بأن استحلوه وتحيلوا على اصطياد الحيتان فيه . وذلك أن الله ابتلاهم ، فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت ، فإذا مضى تفرقت كما قال : تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم فحفروا حياضا عند البحر ، وشرعوا إليها الجداول ، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد . فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم . فتسبب عن اعتدائهم المذكور ما ذكره تعالى بقوله : فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين أي : صاغرين مطرودين مبعدين من الخير ، أذلاء . وقد روي عن الضحاك وقتادة : أنهم مسخوا قردة ، لها أذناب تعاوى ، بعد ما كانوا رجالا ونساء . وأما مجاهد فقال : مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة . وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا . رواه ابن جرير . وهكذا قال القاشاني "كونوا قردة" أي مشابهين الناس في الصورة وليسوا بهم . ثم قال : والمسخ بالحقيقة حق غير منكر في الدنيا والآخرة . وردت به الآيات والأحاديث . وفي أثر : عد المسوخ ثلاثة عشر ، وبيان أعمالهم ومعاصيهم وموجبات [ ص: 151 ] مسخهم . والحاصل أن من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ، ورسخ فيه بحيث زال استعداده ، وتمكن في طبعه ، وصار صورة ذاتية له ، صار طبعه طبع ذلك الحيوان . ونفسه نفسه ، فصارت صفته صورته .
وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى : واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون
القول في تأويل قوله تعالى :
[66 ] فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين
"فجعلناها" أي : المسخة والعقوبة "نكالا" عبرة تنكل المعتبر بها ، أي : تمنعه وتردعه . ومنه النكل للقيد : لما بين يديها من المعاصي من أهل عالمها الشاهدين لها "وما خلفها" ممن جاء بعدهم ، أو لأهل تلك القرية وما حواليها ، أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها "وموعظة للمتقين" من قومهم ، أو لكل متق سمعها . وأشعر هذا أن التقوى عصمة من كل محذور ، وأن النقم تقع في غيرهم ، وعظا لهم .
(تنبيه) : أفادت هذه الآية التنويه بشأن يوم السبت عند الإسرائيليين ; إذ مستحلوه منهم مسخوا قردة . وفي ترجمة التوراة ما نصه : وكلم الرب موسى قائلا : كلم بني إسرائيل ، تحفظون السبت لأنه مقدس لكم ، من دنسه يقتل ، ومن صنع فيه عملا يقطع من بين شعبه . في ستة أيام تصنع الأعمال ، وأما اليوم السابع ففيه سبت راحة ، وليحفظ بنو إسرائيل السبت ، وليتخذوه عيدا بأجيالهم . لأن الرب خلق السماء والأرض في ستة أيام ، وفرغ يوم السابع . وفيها أيضا ما نصه : في ستة أيام تعمل عملك ، وأما اليوم السابع ففيه تستريح ، لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفس ابن أمتك والغريب . انتهى .
وقد حرم على اليهود فيه أن يعدوا طعامهم . بل حرم عليهم أن يوقدوا نارا . وفي [ ص: 152 ] سفر نحميا -في الفصل الثالث عشر- ما نصه : وفي تلك الأيام رأيت في يهوذا قوما يدوسون في المعاصر في السبت ، ويأتون بأكداسها يحملونها على الحمير ، وبخمر أيضا ، وعنب وتين ، وكل حمل مما كانوا يأتون به إلى أورشليم في يوم السبت . فأشهدت عليهم يوم بيعهم الطعام . وكان الصوريون المقيمون بها يأتون بالسمك . وكل نوع من المبيعات ، ويبيعون في يوم السبت لبني يهوذا وفي أورشليم . فخاصمت عظماء يهوذا ، وقلت لهم : ما هذا الشر الذي تفعلونه وتدنسون يوم السبت ؟ ألم تفعل آباؤكم هكذا ؟ فجلب إلهنا كل هذا الشر علينا وعلى هذه المدينة ، وأنتم تزيدون الغضب على بني إسرائيل بتدنيسكم السبت ، إلى آخره .
ولما بين تعالى قساوتهم في حقوقه العلية ، أتبعه ببيان قساوتهم في مصالح أنفسهم توبيخا لأخلاقهم . مع الإشارة إلى نعمته عليهم في خرق العادة في شأن البقرة ، وبيان من هو القاتل بسببها ، وإحياء الله تعالى المقتول ، ونصه على من قتله منهم ، فقال :
القول في تأويل قوله تعالى :
[67 ] وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين
وإذ قال موسى لقومه بني إسرائيل : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة وذلك أنه وجد قتيل فيهم ، وكانوا يطالبون بدمه ، فأمرهم الله بذبح بقرة وأن يضربوه ببعضها ليحيى ويخبر بقاتله "قالوا" استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الكلام ، كأنه قيل : فماذا صنعوا ؟ هل سارعوا إلى الامتثال أو لا . فقيل : قالوا أتتخذنا هزوا بضم الزاي وقلب الهمزة واوا ، وقرئ بالهمزة مع الضم والسكون . أي : أتجعلنا مكان هزو ، أو أهل هزو ، أو مهزوا بنا ، أو نفس الهزو ، للمبالغة . وأشعر جوابهم ما ثبت من فظاظتهم ; إذ فيه سوء الأدب على من ثبتت رسالته وقد علموها .
" قال" استئناف كما سبق : أعوذ بالله [ ص: 153 ] أن أكون من الجاهلين لأن الهزؤ في أثناء تبليغ أمر الله ، سبحانه ، جهل وسفه . نفى عنه ، عليه السلام ، ما توهموه من قبله على أبلغ وجه ، وآكده ، بإخراجه مخرج ما لا مكروه وراءه بالاستعاذة منه ، استفظاعا له ، واستعظاما لما أقدموا عليه من العظيمة التي شافهوه ، عليه السلام ، بها . والعوذ : اللجأ من متخوف لكاف يكفيه . والجهل : التقدم في الأمور بغير علم .
القول في تأويل قوله تعالى :
[68 ] قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون
"قالوا" تماديا في الغلظة "ادع لنا" أي : لأجلنا : ربك يبين لنا ما هي ما حالها ، وصفتها ؟ ! . وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيى . فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشأن ، الخارجة عما عليه البقر ، و "ما" وإن شاعت في طلب مفهوم الحقيقة ، لكنها قد يطلب بها الصفة والحال . تقول : ما زيد ؟ فيقال : طبيب أو عالم "قال" أي موسى عليه السلام ، بعد ما دعا ربه عز وجل بالبيان ، وأتاه الوحي "إنه" تعالى : "يقول إنها" أي البقرة المأمور بذبحها "بقرة لا فارض" أي لا مسنة . وقد فرضت فروضا ، فهي فارض ، أي : أسنت . من الفرض بمعنى القطع . كأنها قطعت سنها وبلغت آخرها "ولا بكر" أي لا فتية صغيرة لم يلقحها الفحل. "عوان" أي : نصف "بين ذلك" أي سني الفارض والبكر فافعلوا ما تؤمرون هذا أمر من جهة موسى عليه السلام متفرع على ما قبله من بيان صفة المأمور به . وفيه حث على الامتثال ، وزجر عن المراجعة . ومع ذلك لم يفعلوا ، بل سألوا بيان اللون بعد بيان السن بأن :
[ ص: 154 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[69 ] قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها
شديد الصفرة ، يقال في التوكيد : أصفر فاقع ووارس ، كما يقال : أسود حالك وأبيض يقق ، وأحمر قانئ ، وأخضر ناضر ومدهام . وفي إسناد الفقوع إلى اللون -مع كونه من أحوال الملون لملابسته به- ما لا يخفى من فضل تأكيد ، كأنه قيل : صفراء شديدة الصفرة صفرتها كما في : جد جده "تسر الناظرين" أي : تبهج نفوسهم .
روى ابن جرير بإسناد صحيح عن ابن عباس قال : لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ، ولكنهم شددوا فشدد عليهم . وقد رواه غير واحد عن ابن عباس ، ورفعه ابن جريج والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى :
[70 ] قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي زيادة استكشاف عن حالها لتمتاز عما يشاركها في التعوين والصفرة . ولذلك عللوا تكرير سؤالهم بقولهم "إن البقر" الموصوف بما تقدم "تشابه علينا" لكثرته ، أي : اشتبه علينا أيها نذبح . قال البقاعي : وذكر الفعل ، لأن كل جمع حروفه أقل من حروف واحده ، فإن العرب تذكره . نقل عن سيبويه وإنا إن شاء الله لمهتدون إلى البقرة المراد ذبحها .
[ ص: 155 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[71 ] قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون
قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث أي : لم تذلل لإثارة الأرض وسقي الحرث . و "ذلول" صفة لبقرة . بمعنى غير ذلول و "لا" الأولى للنفي ، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى . لأن المعنى : لا ذلول تثير وتسقي ، على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية ، والمقصود : إنها مكرمة ليست مذللة بالحراثة ، ولا معدة للسقي في السانية . "مسلمة" ، سلمها الله من العيوب ، أو معفاة من العلم ، سلمها أهلها منه ، أومخلصة اللون لم يشب صفرتها شيء من الألوان . من : سلم له كذا ، إذا خلص له "لا شية فيها" ، أي : لا لون فيها يخالف لون جلدها من بياض وسواد وحمرة ، فهي صفراء كلها ، وهي في الأصل مصدر : وشاه وشيا وشية ، إذا خلط بلونه لونا آخر . في الصحاح : الشية : كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره . والهاء عوض من الواو الذاهبة من أوله . والجمع : شيات . يقال : ثور أشيه ، كما يقال : فرس أبلق .
قالوا الآن جئت بالحق أي : بحقيقة وصف البقرة بحيث ميزتها عن جميع ما عداها ، ولم يبق لنا في شأنها اشتباه أصلا . بخلاف المرتين الأوليين ، فإن ما جئت به فيهما لم يكن في التعيين بهذه المرتبة "فذبحوها" ، الفاء فصيحة ، كما في "فانفجرت" ، أي : فحصلوا البقرة فذبحوها "وما كادوا يفعلون" كاد من أفعال المقاربة ، وضع لدنو الخبر من الحصول ، والجملة حال من ضمير ذبحوا ، أي : فذبحوها والحال أنهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه . اعتراض تذييلي . ومآله استثقال استقصائهم واستبطاء لهم ، وأنهم لفرط تطويلهم وكثرة مراجعاتهم ما كاد ينتهي خيط إسهابهم فيها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 156 الى صـ 160
الحلقة (30)
(تنبيه) قال الراغب : قال بعض الناس : في هذه الآية دلالة على نسخ الشيء قبل [ ص: 156 ] فعله . فإن في الأول أمروا بذبح بقرة غير معينة ، وكان لهم أن يذبحوا أي بقرة شاؤوا . وفي الثاني والثالث أمروا بذبح بقرة مخصوصة . فكأنهم نهوا عما كانوا أمروا به من قبل . وليس كذلك ، فإن الأول أمر مطلق ، والثاني والثالث كالبيان له ، لما راجعوا ، ولم يسقط عنهم ذبح البقرة . بل زيد في أوصافها ، وكشف عن المراد بالأمر الأول . وفي الآية دلالة على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة .
القول في تأويل قوله تعالى :
[72 ] وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون
وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها أي : اختلفتم واختصمتم في شأنها ; إذ كل واحد من الخصماء يدافع الآخر : والله مخرج ما كنتم تكتمون مظهر ، لا محالة ما كتمتم من أمر القتيل ، لا يتركه مكتوما .
القول في تأويل قوله تعالى :
[73 ] فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون
"فقلنا اضربوه" أي : المقتول "ببعضها" أي : البقرة . يعني فضربوه فحيى وأخبر بقاتله . كما دل عليه قوله "كذلك" أي : مثل هذا الإحياء العظيم على هذه الهيئة الغريبة "يحيي الله الموتى" يوم القيامة "ويريكم آياته" أي : دلائله الدالة على أنه تعالى على كل شيء قدير .
ويجوز أن يراد بالآيات هذا الإحياء . والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على عضو ميت ، وإخباره بقاتله ، وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة "لعلكم تعقلون" لتكونوا برؤية تلك الآيات على رجاء من أن يحصل لكم عقل ، فيرشدكم إلى اعتقاد البعث وغيره ، مما تخبر به الرسل عن الله تعالى .
[ ص: 157 ] قال الراغب : وقوله كذلك يحيي الله الموتى قيل هو حكاية عن قول موسى عليه السلام لقومه ، وقيل بل هو خطاب من الله تعالى لهذه الأمة ، تنبيها على الاعتبار بإحيائه الموتى .
تنبيهات :
(الأول) : قال الزمخشري : (فإن قلت) : فما للقصة لم تقص على ترتيبها ، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها ؟ فيقال : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ، فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها ؟
(أجيب) : بأن كل ما قص من قصص بني إسرائيل ، إنما قص تعديدا لما وجد منهم من الجنايات ، وتقريعا لهم عليها ، ولما جدد فيهم من الآيات العظام . وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين . فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء ، وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك . والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة ، وما يتبعه من الآية العظيمة . وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل، لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ، ولذهب الغرض في تثنية التقريع . ولقد روعيت نكتة ، بعد ما استؤنفت الثانية ، استئناف قصة برأسها أن وصلت بالأولى دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله : اضربوه ببعضها ، حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع ، وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها . وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة. اهـ.
وقال الحرالي : قدم نبأ قول موسى عليه السلام على ذكر ندائهم في القتيل ، ابتداء بأشرف القصدين من معنى التشريع الذي هو القائم على أفعال الاعتداء وأقوال الخصومة . والله أعلم .
(التنبيه الثاني) قال الراغب : قد استبعد بعض الناس ذلك وما حكاه الله منه ، وأنكر [ ص: 158 ] حصول ذلك الفعل على الحقيقة وقال : ذلك ممتنع من حيث الطبيعة ، وأيضا فإن ذلك لا يعرف فيه حكمة إلهية . فأما استبعاده ذلك من حيث الطبيعة فإنما هو استبعاد للإحياء والنشور ، ولذلك موضع لا يختص بالتفسير . ومن كان ذلك طريقته فلا خوض معه في تفسير القرآن . وأما الحكمة فيه فظاهرة إذ هو من المعجزات المحسوسة الباهرة للعقول . وأما تخصيص البقرة ، فإن كثيرا من حكمة الله تعالى لا يمكن للبشر الوقوف عليه . ولو لم يكن في تخصيص بقرة على وصف مخصوص إلا توافر المأمورين بذلك على طلبها ، واستيجاب الثواب في بذل ثمنها ، وجلب نفع توفر إلى صاحبها -لكان في ذلك حكمة عظيمة .
وفي الآية تنبيه على أن الجماعة التي حكمهم واحد يجوز أن ينسب الفعل إليهم ، وإن كان واقعا من بعضهم ، ولا يكون ذلك كذبا ، كأن الجملة المركبة من شخص واحد يصح أن ينسب إليها ما وقع من عضو منها .
وقد ذكر أكثر المفسرين قصة البقرة وصاحبها بروايات مختلفة لم نورد شيئا منها لأنه لم يرو بسند صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يتعلق به كبير فائدة . كما أن البعض من البقرة لم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه . فنحن نبهمه كما أبهمه الله تعالى ، إذ ليس في تعيينه لنا فائدة دينية ولا دنيوية ، وإن كان معينا في نفس الأمر ، وأيا كان فالمعجزة حاصلة به .
القول في تأويل قوله تعالى :
[74 ] ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون
ثم قست قلوبكم من بعد ذلك المخاطبون إما أهل الكتاب الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم ، أي اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم ، والأمور التي جرت عليهم ، والعقاب الذي نزل بمن أصر على المعصية منهم ، والآيات التي [ ص: 159 ] جاءهم بها أنبياؤهم ، والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم ، وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم . فأخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب . وهذا أولى ; لأن قوله تعالى : "ثم قست قلوبكم" ، خطاب مشافهة . فحمله على الحاضرين أولى . وإما أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصا ، أو من قبل المخاطبين من سلفهم . والله أعلم .
"فهي كالحجارة" في القساوة "أو أشد" منها "قسوة" أي : هي في القسوة مثل الحجارة أو زائدة عليها فيها . و "أو" للتخيير أو للترديد . بمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة ، أو بما هو أقسى كالحديد ، أو من عرفها شبهها بالحجارة ، أو قال هي أقسى من الحجارة ، وترك ضمير المفضل عليه للأمن من الالتباس وإن من الحجارة لما يتفجر أي يتفتح بالسعة والكثرة "منه الأنهار" بيان لأشدية قلوبهم من الحجارة في القساوة وعدم التأثر بالعظات والقوارع التي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور ، يعني أن الحجارة ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياه العظيمة "وإن منها لما يشقق" أي يتشقق "فيخرج منه الماء" أي العيون التي هي دون الأنهار وإن منها لما يهبط من خشية الله أي يتردى من رأس الجبل من خشية الله ، انقيادا لما سخره له من الميل إلى المركز بالسلاسة ، قاله القاشاني .
وقد ذهب بعض المفسرين إلى الاستدلال بظاهر الآية على خلق التمييز في الجماد حتى يخشى ويسبح . والمحققون على أن هذه الآية وأمثالها من المجاز البليغ . وأن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة . لا سيما وأن المجاز أكثر في اللسان منها ، كما بسط في مطولات البيان .
وقد رد الإمام ابن حزم، في أول كتابه "الفصل" على من زعم أن للحيوان والجماد تمييزا ، ردا مسهبا . وقال : من ادعى ذلك أكذبه العيان . ثم استثنى ما كان معجزة للأنبياء عليهم السلام .
(قال) : ولعل معترضا يعترض بقوله تعالى يصف الحجارة : وإن منها لما يهبط من [ ص: 160 ] خشية الله فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبي . فإذ لا شك في هذا ، فإن القول منه تعالى يخرج على أحد ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون الضمير في قوله تعالى : وإن منها لما يهبط راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة فذكر تعالى أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوما ما ، فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى ، وهذا أمر يشاهد بالعيان ، فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى ، ويخشى العاصي . وقد أخبر عز وجل : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم وكما أخبر تعالى أن من الأعراب من يؤمن بالله من بعد أن أخبر أن الأعراب أشد كفرا ونفاقا (قال) فهذا وجه ظاهر متيقن الصحة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 161 الى صـ 165
الحلقة (31)
والوجه الثاني : أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره ، كما قلنا في قوله تعالى حاكيا عن السماء والأرض : قالتا أتينا طائعين
[ ص: 161 ] والوجه الثالث أن يكون الله تعالى عنى بقوله : وإن منها لما يهبط من خشية الله الجبل الذي صار دكا ، إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه السلام الرؤية ، فذلك الجبل بلا شك من جملة الحجارة ، وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى ، وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة . ويكون "يهبط" بمعنى "هبط" كقوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا معناه : وإذ مكر ، وبين قوله تعالى ، مصدقا إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم في إنكاره على أبيه عبادة الحجارة : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر وقوله تعالى : أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون فصح بهذا ، صحة لا مجال للشك فيها ، أن الحجارة لا تعقل . وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة والمشاهدة فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية ، المعهود كل ذلك عندنا .
وأما الأحاديث المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان ، والكعبة كذلك ، وأن الجبال تطاولت ، وخشع جبل كذا ، فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف ، لا يصح منها شيء من طريق الإسناد أصلا . ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يدخل شيئا منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث ، أو ما يستجاز روايته ، مما يقارب الصحة (انتهى كلام ابن حزم) .
وقال ابن جرير : اختلف أهل النحو في معنى الهبوط -ما هبط من الأحجار من خشية الله- فقال بعضهم : إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيؤ ظلاله . وقال آخرون : ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه . وقال آخرون : قوله : يهبط من خشية الله [ ص: 162 ] كقوله : جدارا يريد أن ينقض ولا إرادة له . قالوا : وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذل خشية الله . قالزيد الخيل :
بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم منه سجدا للحوافر
وكما قال سويد بن أبي كاهل ، يصف عدوا له :
ساجد المنخر لا يرفعه خاشع الطرف أصم المستمع
يريد أنه ذليل .
[ ص: 163 ] وكما قال جرير بن عطية :
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع
وقال آخرون : معنى قوله "يهبط من خشية الله" أي يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه . كما قيل : ناقة تاجرة إذا كانت ، من نجابتها وفراهتها ، تدعو الناس إلى الرغبة فيها ، كما قال جرير بن عطية :
وأعور من نبهان ، أما نهاره فأعمى ، وأما ليله فبصير
فجعل الصفة لليل والنهار ، وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه . من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به . ثم اختار ابن جرير ما يقتضيه ظاهر الآية . وتقدم رد ابن حزم له مبرهنا عليه .
[ ص: 164 ] ثم رأيت الإمام الراغب حاول هنا تقريب ما نقل من الوقوف على ظاهرها بتأويله . وعبارته : قال مجاهد وابن جريج : كل حجر تردى من رأس جبل فخشية الله نزلت به ، وقال الزجاج : الهابط منها قد جعل له معرفة ، قال ويدل على ذلك قوله : لو أنـزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وقال : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض إلى قوله والنجوم والجبال والشجر والدواب وقد روي مثل هذا عن السلف ، ولا بد في معرفة ذلك من مقدمة تكشف عن وجه هذا القول ، وحقيقته . فإن قوما استسلموا لما حكي لهم من هذا النحو ، فانطووا على شبهة ، وقوما استبعدوا ذلك واستخفوا عقل رواته وقائليه ، فيقال وبالله التوفيق : إن قوما من المتقدمين ذكروا أن جميع المعارف على أضرب :
الأول المعرفة التامة التي هي العلم التام . وذلك لعلام الغيوب الذي أحاط بكل شيء علما .
والثاني معرفة متزايدة ، وهي للإنسان ، وذاك أن الله تعالى جعل له معرفة غريزية ، وجعل له بذلك سبيلا إلى تعرف كثير مما لم يعرفه . وليس ذلك إلا للإنسان . والثالث معرفة دون ذلك ، وهي معرفة الحيوانات التي سخرها لإيثار أشياء نافعة لها والسعي إليها . واسترذال أشياء هي ضارة لها وتجنبها ، ودفع مضار عن أنفسها .
والرابع : معرفة الناميات من الأشجار والنبات ، وهي دون ما للحيوانات ، وليس ذلك إلا في استجلاب المنافع وما ينميها .
والخامس : معرفة العناصر ، فإن كل واحد منها مسخر لأن يشغل المكان المختص به كالحجر في طلب السفل ، والنار في [ ص: 165 ] طلب العلو ، وذلك بتسخير الله تعالى ، بلا اختيار منه . قالوا : والدلالة على ذلك أن كل واحد من هذه العناصر إذا نقل من مركزه قهرا ، أبى إلا العود إليه طوعا . قالوا ويوضح ذلك أن السراج يجتذب الأدهان التي تبقيه ، ويأبى الماء الذي يطفيه ، وأن المغناطيس يجر الحديد ولا يجر غيره . هذا ما حكوه .
فعلى هذا إذا قيل : لهذه الأشياء معرفة ، فليس ببعيد ، متى سلم لهم أن هذه القوى تسمى معرفة ، فأما إذا قيل إن للجمادات معارف الإنسان في أنها تميز وتختار وتريد ، فهذا مما تعافه العقول . (انتهى قول الراغب) .
وهو تأويل حسن ، ومبناه على أن اصطلاح السلف في كثير من الإطلاقات غير اصطلاحات الخلف . وهو مسلم في كثير من الإطلاقات .
وقوله تعالى : وما الله بغافل عما تعملون فيه من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى . فإن الله عز وجل إذا كان عالما بما يعملونه ، مطلعا عليه غير غافل عنه ، كان لمجازاتهم بالمرصاد ، ولما بين سبحانه وتعالى قساوة قلوبهم ، تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان ، فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيت عليهم ، والتبكيت لهم ، منكرا للطمع في إيمانهم فقال :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 166 الى صـ 170
الحلقة (32)
القول في تأويل قوله تعالى :
[75 ] أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون
"أفتطمعون" أيها المؤمنون بعد أن علمتم تفاصيل شؤون أسلافهم المؤيسة عنهم "أن يؤمنوا" أي : هؤلاء اليهود الذين بين أظهركم ، وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة ، لا يأتي من أخلاقهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم . (واللام في قوله) "لكم" لتضمين [ ص: 166 ] معنى الاستجابة . كما في قوله عز وجل : فآمن له لوط أي : في إيمانهم مستجيبين لكم ، أو للتعليل أي في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم : وقد كان فريق منهم أي طائفة فيمن سلف منهم : يسمعون كلام الله وهو ما يتلونه من التوراة "ثم يحرفونه" قال ابن كثير : أي يتأولونه على غير تأويله . وقال ابن جرير : يعني بقوله "يحرفونه" يبدلون معناه وتأويله ويغيرونه ، وأصله من انحراف الشيء عن جهته وهو ميله عنها إلى غيرها . فكذلك قوله "يحرفونه" أي : يميلونه عن وجهه ، ومعناه الذي هو معناه ، إلى غيره : من بعد ما عقلوه أي فهموه على الجلية ، ومع هذا يخالفونه على بصيرة "وهم يعلمون" أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله .
قال ابن جرير : هذا إخبار عن إقدامهم على البهت ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى عليه السلام . وأن بقاياهم في العصر المحمدي على مثل ما كان عليه أوائلهم في العصر الموسوي بغيا وحسدا . وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه والظاهر أن المراد ، بالفريق منهم ، أحبارهم ، وإنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى ، من بعد ، في قوله تعالى : واشتروا به ثمنا قليلا وقال : يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
[ ص: 167 ] ولقائل أن يقول ، كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين ، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين . وأجاب القفال عنه فقال : يحتمل أن يكون المعنى : كيف يؤمن هؤلاء ، وهم إنما يأخذون دينهم ، ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عنادا ، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه ، والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك ، ولا يلتفتون إلى أقوال أهل الحق ، وهو قولك للرجل كيف تفلح ، وأستاذك فلان ؟ أي وأنت عنه تأخذ ، ولا تأخذ عن غيره .
ونحوه قول الراغب : لما كان الإيمان هو العلم الحقيقي مع العمل بمقتضاه ، فمتى لم يتحر ذلك من حصل له بعض العلوم ، فحقيق أن لا يحصل لمن غبي عن كل العلوم . فذكر ذلك تبعيدا لإيمانهم لا يأسا للحكم بذلك ; إذ ليس كل ما لا يطمع فيه كان مأيوسا (ثم قال الراغب) وفي الآية تنبيه أن ليس المانع للإنسان من تحري الإيمان الجهل به فقط ، بل يكون عنادا وغلبة شهوة .
(تنبيه) ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير "ثم يحرفونه" هو الأنسب باعتبار سوق الآية الكريمة ، ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظي عن التوراة ، فإنه واقع بلا ريب ; فقد بدلوا بعضا منها وحرفوا لفظه ، وأولوا بعضا منها بغير المراد منه ، وكذا يقال في الإنجيل . ويشهد لذلك كلام أحبارهم ، فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمه الله الهندي في كتابه (إظهار الحق): أن أهل الكتاب سلفا وخلفا ، عادتهم جارية بأنهم يترجمون غالبا الأسماء في تراجمهم ، ويوردون بدلها معانيها ، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد ، وأنهم يزيدون تارة شيئا بطريق التفسير في الكلام ، الذي هو كلام الله في زعمهم ، [ ص: 168 ] ولا يشيرون إلى الامتياز ، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم . ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة . ثم ساق بعضا منها فانظره .
وفي (ذخيرة الألباب) ، لأحد علماء النصارى ، ما مثاله : إن بعضهم ذهب إلى أن الروح القدس لم يق الكتبة عثرة الخطأ الطفيف ، ولا كفاهم زلة القدم حتى لم يستحل أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات . وفيه أيضا : إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافا عظيما في أمر التاريخ . فإذا تحريف الأسفار الخمسة أمر بين . وفيه أيضا في الفصل (31): أن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين العتيق والجديد نيفا وأربعة آلاف غلطة ، ورأى آخر فيها ما يزيد على الثمانية آلاف خطأ . انتهى . فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظي فيها . وهو المقصود .
وأما القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها ، فهو إفراط . قال الحافظ ابن حجر في آواخر شرح الصحيح في باب قول الله تعالى : بل هو قرآن مجيد إن القول بأنها بدلت كلها مكابرة . والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل . من ذلك قوله تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية . ومن ذلك [ ص: 169 ] قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم ، ويؤيده قوله تعالى : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين وقد أسلفنا تتمة هذا البحث في مقدمة التفسير في الكلام على الإسرائيليات . فارجع إليه .
ثم أخبر تعالى ، عن تخلق أولئك المأيوس من إيمانهم من اليهود بأخلاق المنافقين ، وسلوكهم منهاجهم ، بقوله تعالى :
[ ص: 170 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[76 ] وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون
"وإذا لقوا الذين آمنوا" أي بالله ورسوله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "قالوا آمنا" أي بأنكم على الحق ، وأن محمدا هو الرسول المبشر به ، وكأنهم يقولون ذلك إرضاء لحلفائهم من الأوس والخزرج ، أو جهرا بحقيقة لا يسعهم، أمام حلفائهم، السكوت عنها . "وإذا خلا بعضهم" يعني الذين لم ينافقوا "إلى بعض" أي الذين نافقوا "قالوا" أي عاتبين عليهم : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي بما بين لكم في التوراة من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقا لما معكم ، ونصره .
قال ابن إسحاق : أي أتقرون بأنه نبي ، وقد علمتم أنه أخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبي الذي نجده في كتابنا ، اجحدوه ولا تقروا به .
قال ابن جرير : أصل الفتح في كلام العرب القضاء والحكم . والمعنى : أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم ؟ ومن حكمه تعالى وقضائه فيهم ، ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به في التوراة. اهـ.
"ليحاجوكم" متعلقة بالتحديث ، دون الفتح ، أي ليقيم المؤمنون به عليكم الحجة "به عند ربكم" أي لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة ، فيقولون : ألم تحدثونا بما في كتابكم ، في الدنيا ، من حقية ديننا ، وصدق نبينا ؟ فيكون ذلك زائدا في ظهور فضيحتكم ، وتوبيخكم على رؤوس الخلائق ، في الموقف . لأنه ليس من اعترف بالحق ، ثم كتم ، كمن ثبت على الإنكار .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 171 الى صـ 175
الحلقة (33)
وتأول الراغب الأصفهاني قوله تعالى "عند ربكم" أي في حكمه وكتابه، كما هو وجه في آية : فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون أي في [ ص: 171 ] حكم الله وقضائه ، وهو وجه جيد ، وقوله "أفلا تعقلون" من تمام التوبيخ والعتاب ، فهو من جملة الحكاية عنهم على سبيل إنكار بعضهم على بعض . قال الراغب : ويصح أن تكون استئناف إنكار من الله عز وجل ، على سبيل ما يسمى في البلاغة (الالتفات) . ويصح أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين ، تنبيها على ما يفعله الكفار والمنافقون .
القول في تأويل قوله تعالى :
[77 ] أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون
أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون أي يخفون من قولهم لأصحابهم ، ومن غيره "وما يعلنون" أي يظهرون من ذلك ، فيخبر به أولياءه . قال الراغب : هذا تبكيت لهم ، وإنكار لما يتعاطونه ، مع علمهم بأن الله لا يخفى عليه خافية .
ولما ذكر العلماء من اليهود الذين عاندوا بالتحريف ، مع العلم والاستيقان ، ذكر العوام الذين قلدوهم ، ونبه على أنهم في الضلال سواء ; لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه ، وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن ، وهو متمكن من العلم ، فقال :
القول في تأويل قوله تعالى :
[78 ] ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون
"ومنهم أميون" أي لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها من دلائل النبوة ، فيؤمنوا . "لا يعلمون الكتاب" أي التوراة ، أي لا يدرون ما فيها من حدود وأحكام ومواثيق "إلا أماني" بالتشديد جمع أمنية ، أصلها أمنوية (أفعولة) فأعلت إعلال سيد ، وميت. مأخوذة من تمنى الشيء : قدره وأحب أن يصير إليه . أو من تمنى : كذب . أو من تمنى الكتاب : قرأه . وعلى كل فالاستثناء منقطع ; إذ ليس ما يتمنى ، وما يختلق وما يتلى ، من جنس علم الكتاب . أي لا يعلمون الكتاب . لكن يتمنون [ ص: 172 ] أماني حسبما منتهم أحبارهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم . وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم . وغير ذلك من أمانيهم الفارغة ، المستندة إلى الكتاب ، على زعم رؤسائهم . أو لا يعلمون الكتاب ، لكن أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم . فتقبلوها على التقليد . أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم ، فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر والتأمل فيه .
قال ابن جرير : وأولى ما روينا في تأويل قوله "إلا أماني" أن هؤلاء الأميين لا يفقهون ، من الكتاب الذي أنزله الله ، شيئا . ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقولون الأباطيل كذبا وزورا . والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله . بدليل قوله تعالى بعد : وإن هم إلا يظنون فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظنا منهم ، لا يقينا .
وقال أبو مسلم الأصفهاني : حمله على تمني القلب أولى . بدليل قوله تعالى : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم أي : تمنيهم . وقال الله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به وقال : تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون بمعنى يقدرون ويخرصون . ورجح كثيرون حمله على القراءة ، كقوله تعالى : [ ص: 173 ] إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إذ في الاستثناء ، حينئذ ، نوع تعلق بما قبله . فيكون أليق في طريقة الاستثناء . و "وإن هم إلا يظنون" ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد . من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم . فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين ؟
(تنبيه) قال الراغب : قد أنبأ الله عن جهل الأميين وذمهم ، والمبالغة في ذم علمائهم وأحبارهم ; فإن الأميين لم يعرفوا إلا مجرد التلاوة ، واعتمدوا على زعمائهم وأحبارهم ، وهم قد ضلوا وأضلوا ، ونبهنا الله تعالى بذم الأميين ، على اكتساب المعارف لئلا يحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه ، وبذم زعمائهم ، على تحري الصدق وتجنب الإضلال ; إذ هو أعظم من الضلال. اهـ.
ولما بين حال هؤلاء في تمسكهم بحبال الأماني واتباع الظن ، عقب ببيان حال الذين أوقعوهم في تلك الورطة ، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله ، وأكل أموال الناس بالباطل ، فقيل على وجه الدعاء عليهم .
القول في تأويل قوله تعالى :
[79 ] فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون
"فويل" فإن أضيف ، نصب . نحو : ويلك وويحك -وإذا فصل عن الإضافة ، [ ص: 174 ] رفع . نحو : ويل له . الويل : الهلاك وشدة العذاب "للذين يكتبون الكتاب" أي المحرف . أو ما كتبوه من التأويلات الزائفة "بأيديهم" تأكيد لدفع توهم المجاز . كقولك : كتبته بيميني . وقد يقال في مثل هذا : إن فائدته تصوير الحالة في النفس كما وقعت حتى يكاد السامع لذلك أن يكون مشاهدا للهيئة "ثم يقولون" لما كتبوه ، كذبا وبهتانا "هذا من عند الله ليشتروا به" أي يأخذوا لأنفسهم بمقابلته "ثمنا قليلا" أي عرضا يسيرا .
ويجوز في الآية معنى آخر ; أي : فويل للذين يكتبون كتاب التوراة بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ، فيشهدون بذلك . وكان من مقتضى كتابتهم بأيديهم التي تقفهم من الكتاب على ما لا يقفون عليه ، لو كان كتابة غيرهم ، ومقتضى قولهم وإقرارهم بأنه من عند الله -الوقوف مع عهوده ومواثيقه ، إجلالا لمنزله وموحيه ، ودعوى الناس إلى ظواهره وخوافيه . ولكن لم يكن ذلك منهم . بل كان أن حرفوا كلمه عن مواضعه ليشتروا به ثمنا قليلا . وحاصل هذا الوجه إبقاء الكتاب المكتوب على أصله ، وصدقهم في قولهم : هذا من عند الله . ثم مخالفتهم لذلك . فيكون قوله تعالى "ليشتروا به" تعليلا لمحذوف دل عليه السياق . أي : ثم بعد ذلك يحرفونه ليشتروا به ، وهو وجه جيد يوافق آية "يحرفون الكلم عن مواضعه" وربما يشير إلى هذا الوجه قول مجاهد فيما رواه ابن جرير : هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله يحرفونه : فويل لهم مما كتبت أيديهم أي : فشدة العذاب لهم مما غيرت أيديهم "وويل لهم مما يكسبون" يصيبون من الحرام والسحت .
قال الراغب : إن قيل : لم ذكر "يكسبون" بلفظ المستقبل و "كتبت" بلفظ الماضي ؟ قيل : تنبيها على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم « من سن سنة سيئة فعليه وزرها [ ص: 175 ] ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » فنبه بالآية أن ما أصلوه وأثبتوه من التأويلات الفاسدة ، التي يعتمدها الجهلة ، هو اكتساب وزر يكتسبونه حالا فحالا (إن قيل) لم ذكر الكتابة دون القول . (قيل) لما كانت الكتابة متضمنة للقول وزائدة عليه ; إذ هو كذب باللسان واليد ، صار أبلغ . لأن كلام اليد يبقى رسمه والقول يضمحل أثره .
(إن قيل) : ما الذي كانوا يكتبونه ؟ (قيل) : روي عن بعض السلف أن رؤساء اليهود كانوا يغيرون من التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم . ثم يقولون هذا من عند الله . وهذا فصل يحتاج إلى فضل شرح . وهو أنه يجب أن يتصور أن كل نبي أتى بوصف لنبي بعده ، فإنه أتى بلفظة معرضة وإشارة مدرجة ، لا يعرفها إلا الراسخون في العلم . وقد قال العلماء : ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن بإشارات . ولو كان ذلك متجليا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه . ثم ازداد ذلك غموضا بنقله من لسان إلى لسان ; من العبراني إلى السرياني إلى العربي . وقد ذكر المحصلة ألفاظا من التوراة والإنجيل ، إذا اعتبرت وجدت دالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بتعريض ، هو عند الراسخين في العلم جلي ، وعند العامة خفي . فبان بهذه الجملة أن ما كتبت أيديهم كانت تأويلات محرفة ، وقد نبه الله تعالى بالآية على التحذير من تغيير أحكامه ، وتبديل آياته ، وكتمان الحق عن أهله ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، طمعا في عرض الدنيا ، وقد تقدم أنه عنى بالثمن القليل ، أعراض الدنيا وإن كثرت . لقوله تعالى : قل متاع الدنيا قليل اهـ كلام الراغب رحمه الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 176 الى صـ 180
الحلقة (34)
القول في تأويل قوله تعالى :
[80 ] وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون
وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة بيان لبعض آخر من جناياتهم فيما ادعوا لأنفسهم من أنهم لا تمسهم النار في الآخرة إلا مدة يسيرة ، ومرادهم بذلك أنهم لا يخلدون فيها . لأن كل معدود منقض . قال مجاهد : كانت اليهود تقول : إنما الدنيا سبعة آلاف سنة . فإنما نعذب ، مكان كل ألف سنة يوما ، ثم ينقطع العذاب . وروي ذلك عن ابن عباس . وعنه أن اليهود قالوا : لن ندخل النار إلا الأيام التي عبدنا فيها العجل ، أربعين ، فإذا انقضت انقطع عنا العذاب ، ثم بين تعالى إفكهم . لأن العقل لا طريق له إلى معرفة ذلك ، وإنما سبيل معرفته الإخبار منه تعالى ، وهو منتف ، فقال سبحانه "قل" منكرا لقولهم وموبخا لهم : أتخذتم عند الله عهدا أي : عهد إليكم أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار "فلن يخلف الله عهده" أي فتقولوا لن يخلف الله عهده . وجعل بعضهم الفاء فصيحة معربة عن شرط مقدر ; أي : إن كان الأمر كذلك فلن يخلفه "أم تقولون" أي أم لم يكن ذلك فأنتم تقولون مفترين "على الله ما لا تعلمون" أي وقوعه جهلا وجراءة . وقولهم المحكي ، وإن لم يكن تصريحا بالافتراء عليه سبحانه ، لكنه مستلزم له . لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى .
القول في تأويل قوله تعالى :
[81 ] بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
"بلى" إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله "لن تمسنا النار" أي بلى تمسكم أبدا . بدليل قوله "هم فيها خالدون" ، "من كسب سيئة" أي عملها وهي والسيئ [ ص: 177 ] عملان قبيحان أصلها سيوءة ، من : ساءه يسوه . فأعلت إعلال سيد . ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار ، بل لا بد أن يكون سببه محيطا به فقال : وأحاطت به خطيئته أي غمرته من جميع جوانبه فلا تبقي له حسنة ، وسدت عليه مسالك النجاة ; بأن عمل مثل عملكم أيها اليهود . وكفر بما كفرتم به حتى يحيط كفره بما له من حسنة : فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
(تنبيه) ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الخلود في النار إنما هو للكفار والمشركين. لما ثبت في السنة ، تواترا ، من خروج عصاة الموحدين من النار ، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة ، في هذه الآية ، بالكفر والشرك . ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود .
القول في تأويل قوله تعالى :
[82 ] والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون
والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون من عادة التنزيل العزيز أنه لا يذكر فيه آية في الوعيد إلا ويتلوها آية في الوعد . وذلك لفوائد : منها ، ليظهر بذلك عدله سبحانه ; لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرين على الكفر ، وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرين على الإيمان . ومنها ، أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه . وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق . ومنها ، أنه يظهر بوعده كمال رحمته ، وبوعيده كمال حكمته ، فيصير ذلك سببا للعرفان .
وقد قدمنا عند قوله تعالى : وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن السلف أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل . فإذا عطف عليه العمل ، فإما أن يكون من عطف الخاص على العام . أو يقال : لم يدخل فيه ولكن مع العطف ، كما في اسم الفقير والمسكين . فتذكر .
[ ص: 178 ] قال الراغب : في هذه الآية دليل على أن قوله تعالى من قبل : بلى من كسب سيئة هو الكفر ، وإحاطة الخطيئة به ، الأعمال السيئة ، وذلك لما قابله به من الإيمان والأعمال الصالحة .
ثم شرع ، سبحانه ، يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال :
القول في تأويل قوله تعالى :
[83 ] وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ثم بين الميثاق بقوله تعالى "لا تعبدون إلا الله" وهو إخبار في معنى النهي ، كقوله تعالى : ولا يضار كاتب ولا شهيد وكما تقول : تذهب إلى فلان وتقول له كذا ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي . وقد بدئ بأعلى الحقوق وأعظمها ، وهو حق الله تبارك وتعالى ، أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء . وبهذا أمر جميع خلقه . ولذلك خلقهم . كما قال تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وبالوالدين إحسانا والإحسان نهاية البر ، [ ص: 179 ] فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية ، وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين . حتى قرن تعالى الأمر بالإحسان إليهما ، بعبادته التي هي توحيده ، والبراءة عن الشرك ، اهتماما به وتعظيما له .
قال حكيم مصر في تفسيره : العلة الصحيحة في وجوب هذا الإحسان على الولد ، هي العناية الصادقة التي بذلاها في تربيته ، والقيام بشؤونه أيام كان ضعيفا عاجزا جاهلا . لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضررا . وكانا يحوطانه بالعناية والرعاية ، ويكفلانه ، حتى يقدر على الاستقلال والقيام بشأن نفسه . فهذا هو الإحسان الذي يكون منهما ، عن علم واختيار ، بل مع الشغف الصحيح والحنان العظيم ، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان . وإذا وجب على الإنسان أن يشكر ، لكل من يساعده على أمر عسير، فضله ، ويكافئه بما يليق به على حسب الحال في المساعد ؛ وما كانت به المساعدة ، فكيف لا يجب أن يكون الشكر للوالدين بعد الشكر لله تعالى ، وهما اللذان كانا يساعدانه على كل شيء ، أيام كان يتعذر عليه كل شيء اهـ "وذي القربى" أي القرابة.
قال الأستاذ الحكيم "الإحسان هو الذي يقوي غرائز الفطرة ، ويوثق الروابط الطبيعية ، حتى تبلغ البيوت ، في وحدة المصلحة ، درجة الكمال ، والأمة تتألف من البيوت ، أي : العائلات . فصلاحها صلاحها . ومن لم يكن له بيت لا تكون له أمة ، وذلك أن عاطفة التراحم وداعية التعاون إنما تكونان على أشدهما وأكملهما في الفطرة بين الوالدين والأولاد ، ثم بين سائر الأقربين . فمن فسدت فطرته حتى لا خير فيه لأهله ، فأي خير يرجى منه للبعداء والأبعدين؟ ومن لا خير فيه للناس لا يصلح أن يكون جزءا من بنية أمته . لأنه لم تنفع فيه اللحمة النسبية التي هي أقوى لحمة طبيعية تصل بين الناس ، فأي لحمة بعدها تصله بغير الأهل فتجعله جزءا منهم ، يسره ما يسرهم ويؤلمه ما يؤلمهم ، ويرى منفعتهم عين منفعته ، ومضرتهم عين مضرته ؟ قضى نظام الفطرة بأن تكون نعرة القرابة أقوى من كل نعرة ، وصلتها أمتن من كل صلة ، فجاء الدين يقدم حقوق الأقربين على سائر الحقوق .
[ ص: 180 ] وجعل حقوقهم على حسب قربهم من الشخص . ثم ذكر تعالى حقوق أهل الحاجة من سائر الناس فقال سبحانه "واليتامى والمساكين" . اليتامى جمع يتيم . وهو من مات أبوه وهو صغير . قدم تعالى الوصية به على الوصية بالمسكين ، ولم يقيدها بفقر ولا مسكنة ، فعلم أنها مقصودة لذاتها . وقد أكد تعالى في الوحي الوصية باليتيم . وفي القرآن والسنة كثير من هذه الوصايا . وحسبك أن القرآن نهى عن قهر اليتيم ، وشدد الوعيد على أكل ماله تشديدا خاصا ، والسر في ذلك هو كون اليتيم لا يجد ، قي الغالب ، من تبعثه عاطفة الرحمة الفطرية على العناية بتربيته والقيام بحفظ حقوقه ، والعناية بأموره الدينية والدنيوية ; فإن الأم ، إن وجدت ، تكون في الأغلب عاجزة . لا سيما إذا تزوجت بعد أبيه . فأراد الله تعالى ، وهو أرحم الراحمين ، بما أكد من الوصية بالأيتام ، أن يكونوا من الناس بمنزلة أبنائهم ، يربونهم تربية دينية دنيوية ، لئلا يفسدوا ويفسد بهم غيرهم ؛ فينتشر الفساد في الأمة فتنحل انحلالا . فالعناية بتربية اليتامى هي الذريعة لمنع كونهم قدوة سيئة لسائر الأولاد . والتربية لا تتيسر مع وجود هذه القدوة . فإهمال اليتامى إهمال لسائر أولاد الأمة . وأما المساكين فلا يراد بهم هؤلاء السائلون الشحاذون الملحفون الذين يقدرون على كسب ما يفي بحاجاتهم ، أو يجدون ما ينفقون ولو لم يكتسبوا . إلا أنهم قد اتخذوا السؤال حرفة يبتغون بها الثروة من حيث لا يعملون عملا ينفع الناس ، ولكن المسكين من يعجز عن كسب ما يكفيه اهـ.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 181 الى صـ 185
الحلقة (35)
وقولوا للناس حسنا أي قولا حسنا . أي : كلموهم طيبا ولينوا لهم جانبا . وفيه من التأكيد والتحضيض على إحسان مقاولة الناس ، أنه وضع المصدر فيه موضع الاسم ، وهذا إنما يستعمل للمبالغة في تأكيد الوصف ، كرجل عدل وصوم وفطر وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة خطاب لبني إسرائيل . فالمراد الصلاة التي كانوا يصلونها ، والزكاة التي كانوا يخرجونها . "ثم توليتم" أي أعرضتم عن المضي على مقتضى الميثاق الذي فيه سعادتكم ورفضتموه . وقوله : إلا قليلا منكم استثناء لبعض من كانوا في زمن سيدنا موسى عليه السلام ، أو في كل زمن ، فإنه لا تخلو أمة من الأمم ، من المخلصين الذين [ ص: 181 ] يحافظون على الحق بحسب معرفتهم وقدر طاقتهم .
والحكمة في ذكر هذا الاستثناء عدم بخس المحسنين حقهم ، وبيان أن وجود قليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب الإلهي إذا فشا فيها المنكر ، وقل المعروف "وأنتم معرضون" عادتكم الإعراض عن الطاعة ، ومراعاة حقوق الميثاق ، ثم نعى عليهم أيضا إخلالهم بواجب الميثاق المأخوذ عليهم في حقوق العباد بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :
[84 ] وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون
وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم إخبار في معنى النهي . والمراد به النهي الشديد عن تعرض بعض بني إسرائيل لبعض بالقتل والإجلاء . أي لا يقتل بعضكم بعضا ولا يخرجه من منزله "ثم أقررتم" أي أظهرتم الالتزام بموجب المحافظة على الميثاق المذكور "وأنتم تشهدون" بلزومه. فهو توكيد للإقرار ، كقولك : أقر فلان ، شاهدا على نفسه .
القول في تأويل قوله تعالى :
[85 ] ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون
"ثم أنتم هؤلاء" خطاب خاص للحاضرين ، فيه توبيخ شديد تقتلون أنفسكم [ ص: 182 ] وتخرجون فريقا منكم من ديارهم من غير التفات إلى هذا العهد الوثيق "تظاهرون عليهم" أي تتعاونون عليهم "بالإثم" وهو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم "والعدوان" وهو التجاوز في الظلم "وإن يأتوكم" أي هؤلاء الذين تعاونتم أو عاونتم عليهم "أسارى" بضم الهمزة ، وفتح السين ، والألف بعدها . وقرأ حمزة "أسرى" بفتح الهمزة ، وسكون السين كقتلى ، جمع أسير ، وأصله المشدود بالأسر ، وهو القد ، وهو ما يقد أي يقطع من السير "تفادوهم" بضم التاء وفتح الفاء . وقرئ "تفدوهم" بفتح التاء وسكون الفاء ، أي تخلصوهم بالمال من الفداء . وهو الفكاك بعوض: وهو محرم عليكم إخراجهم الجملة حال من الضمير في "تخرجون" أو من "فريقا" أو منهما . وتخصيص بيان الحرمة ههنا بالإخراج، مع كونه قرينا للقتل عند أخذ الميثاق ، لكونه مظنة للمساهلة في أمره ، بسبب قلة خطره بالنسبة إلى القتل. ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم ، وتناقض أفعالهم معا . وذلك مختص بصورة الإخراج حيث لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشيء من دية أو قصاص. وهو السر في تخصيص التظاهر به فيما سبق . ثم أنكر عليهم التفرقة بين الأحكام فقال أفتؤمنون ببعض الكتاب أي : التوراة وهو الموجب للمفاداة "وتكفرون ببعض" وهو المحرم للقتل والإخراج . ثم اعلم أن ما ذكرناه في قوله تعالى "تفادوهم" ، و "تؤمنون ببعض الكتاب" هو ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أن ذلك وصف لهم بما هو طاعة ، وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ، والإيمان بذلك . وذكر أبو مسلم أنه ضد ذلك . والمراد أنكم ، مع القتل والإخراج ، إذا وقع أسير في أيديكم لم ترضوا منه إلا بأخذ مال وإن كان ذلك محرما عليكم ؛ ثم عنده تخرجونه من الأسر.
قال أبو مسلم : والمفسرون ، إنما أتوا من جهة قوله تعالى : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض وهذا ضعيف لأن هذا القول راجع إلى ما تقدم من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل عليهم ، والمراد أنه إذا كان في الكتاب الذي معكم نبأ محمد فجحدتموه فقد آمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض.
[ ص: 183 ] وكلا القولين يحتمله لفظ المفاداة ، لأن الباذل عن الأسير يوصف بأنه فاداه . والآخذ منه للتخليص يوصف أيضا بذلك . إلا أن الذي أجمع المفسرون عليه أقرب . لأن عود قوله : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية ، أولى من عوده إلى أمور تقدم ذكرها بعد آيات . أفاده الرازي . فما جزاء من يفعل ذلك منكم إشارة إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعض، أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مفاداة الأسارى "إلا خزي" ذل وهوان مع الفضيحة . والتنكير للتفخيم. "في الحياة الدنيا" وقد فعل سبحانه ذلك ، فقتلت بنو قريظة وأجليت بنو النضير إلى أذرعات وأريحا من الشام. ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب يعني النار وما الله بغافل عما تعملون
القول في تأويل قوله تعالى :
[86 ] أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون
"أولئك الذين اشتروا" أي آثروا "الحياة الدنيا" على خساستها . واستبدلوها "بالآخرة" مع نفاستها . فلا يخفف عنهم العذاب في واحدة من الدارين. ولا هم ينصرون قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : أنكر تعالى على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في المدينة ، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج ، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام ، وكانت [ ص: 184 ] بينهم حروب كثيرة ، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل : بنو قينقاع ، حلفاء الخزرج ، وبنو نضير ، وبنو قريظة ، حلفاء الأوس فكانوا ، إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب ، خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه . فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها ، ويسفكون دماءهم ، وبأيديهم التوراة . يعرفون فيها ما عليهم وما لهم . والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ، ولا يعرفون جنة ولا نارا ولا بعثا ولا قيامة ، ولا كتابا ، ولا حلالا ولا حراما ؛ فإذا وضعت الحرب أوزارها ، وأسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه ، فتفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ، وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم . فإذا عيرتهم العرب بذلك وقالوا : كيف تقاتلونهم وتفدونهم ؟ قالوا . إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم . فيقال : لم تقاتلونهم ؟ قالوا : إنا نستحي أن تستذل حلفاؤنا . فلذلك حين عيرهم عز وجل فقال : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض أي تفادوهم بحكم التوراة وتقتلونهم . وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ، ويعبد الأوثان من دونه ؛ ابتغاء عرض الدنيا . هذا ملخص ما ساقه ابن كثير عن محمد بن إسحاق بسنده إلى ابن عباس. ورواه أيضا عن السدي . فليحقق تصحيح هذه القصة .
وفي الآية تفسير آخر . أي لا تقتلوا أنفسكم لشدة تصيبكم بسكين ، أو خنق ، أو بارتكاب ما يوجب ذلك . كالارتداد والزنى بعد الإحصان . وقتل النفس بغير الحق ونحو ذلك . ولا تسيئوا جوار من جاوركم فيضطرون إلى الخروج من دياركم . أو : لا تفسدوا فتكونوا سببا لإخراجكم أنفسكم . والله أعلم .
[ ص: 185 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[87 ] ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون
ولقد آتينا موسى الكتاب شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم . وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به . والمراد بالكتاب التوراة. وقفينا من بعده بالرسل يقال : قفاه به أتبعه إياه ، من التقفية وهي متابعة شيء شيئا . كأنه يتلو قفاه ، وقفا الصورة منها ، خلفها المقابل للوجه . والمعنى لم نقتصر على الضبط بالكتاب الذي تركه فيكم موسى ، بل أرسلنا من بعده الرسل تترى ، ليجددوا لكم أمر الدين ويؤكدوا عليكم العهود. "وآتينا عيسى" اسم معرب أصله يسوع . لفظة يونانية بمعنى مخلص ، ومثله يشوع بالمعجمة ، في اللغة العبرانية "ابن مريم البينات" المعجزات الواضحات التي لا مرية فيها لذي عقل . كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص "وأيدناه" أي : قويناه على ذلك كله "بروح القدس" بالروح المقدسة كما تقول : حاتم الجود ورجل صدق ، وهي الروح الطاهرة التي نفخها الله فيه وميزه بها عن غيره ممن خلق . قال تعالى وروح منه ولذا كان له ، عليه الصلاة والسلام ، بالروح مزيد اختصاص لكثرة ما أحيى من الموتى . وعن الحسن البصري : القدس هو الله ، وروحه جبريل . والإضافة للتشريف . والمعنى: [ ص: 186 ] أعناه بجبريل . قال الرازي : والذي يدل على أن روح القدس جبريل قوله تعالى : قل نـزله روح القدس والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 186 الى صـ 190
الحلقة (36)
وتخصيصه من بين الرسل عليهم السلام بالذكر ووصفه بما ذكر من إيتاء البينات ، والتأييد بروح القدس لحسم مادة اعتقادهم الباطل في حقه عليه السلام ، ببيان حقيته وإظهار نهاية قبح ما فعلوا به عليه السلام : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم من الحق ، أي لا تحبه . من هوي كفرح ، إذا أحب "استكبرتم" عن الاتباع له ، والإيمان بما جاء به من عند الله تعالى "ففريقا" منهم "كذبتم" إذ لم تنل أيديكم مضرته "وفريقا" آخر منهم "تقتلون" غير مكتفين بتكذيبهم.
القول في تأويل قوله تعالى :
[88 ] وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون
"وقالوا" بيان لنوع آخر من مخازيهم . والقائلون المعاصرون للنبي عليه الصلاة والسلام "قلوبنا غلف" هذا كقوله تعالى : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه أي هي مغشاة بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها ، فلا تفقهه . مستعار من الأغلف الذي لم يختن : بل لعنهم الله بكفرهم رد الله أن تكون قلوبهم كذلك لأنها متمكنة من قبول الحق . وإنما طردهم عن رحمته بسبب كفرهم وزيغهم . وهذا كما قال في سورة النساء : وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وقوله : فقليلا [ ص: 187 ] ما يؤمنون "ما" مزيدة للمبالغة أي فإيمانا قليلا يؤمنون . وهو إيمانهم ببعض الكتاب .
القول في تأويل قوله تعالى :
[89 ] ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
"ولما جاءهم كتاب" هو القرآن الكريم الذي مقصود هذه السورة . وصفه بالهدى . وتنكيره للتفخيم . ونعته بقوله "من عند الله" للتشريف "مصدق لما معهم" من التوراة . وجواب "لما" محذوف دل عليه جواب "لما" الثانية. وعليه، فقوله تعالى "وكانوا" إلخ . . جملة معطوفة على الشرطية ، عطف القصة على القصة . وقيل : جوابها كفروا . ولما الثانية تكرار للأولى ، فلا تحتاج إلى جواب. وقيل: كفروا جواب للأولى والثانية لأن مقتضاهما واحد. وعلى الوجهين فجملة قوله "وكانوا من قبل" أي قبل مجيئه : يستفتحون على الذين كفروا جملة حالية مفيدة لكمال مكابرتهم وعنادهم . والاستفتاح : الاستنصار أي طلب النصر ، أي يطلبون من الله النصر على المشركين لما أنهم كانوا مستذلين في جزيرة العرب ، ولذا كانوا يحالفون بعض القبائل تعززا بهم على ما تقدم "فلما جاءهم ما عرفوا" صحته وصدقه . كان من حقهم أن يسارعوا إلى الإيمان به لظفرهم بأمنيتهم حينئذ ، وهو انتصارهم على المشركين ، وحصول العزة لهم مع المؤمنين . ولكن "كفروا به" أي امتنعوا من الإيمان به خوفا من زوال رياستهم وأموالهم ، وأصروا على الإنكار مع علمهم بحقيقة نبوته . ولذا قال عبد الله بن سلام في [ ص: 188 ] قصة إسلامه : يا معشر اليهود اتقوا الله . فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، وأنه جاء بحق . رواه البخاري في الهجرة .
وروى أيضا أن عبد الله بن سلام لما بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم أتاه فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي . فلما أجابه عنها قال : أشهد أنك رسول الله . وسنذكر الحديث بتمامه عند قوله تعالى : من كان عدوا لجبريل الآية إن شاء الله تعالى . وقوله : فلعنة الله على الكافرين اللام فيه للعهد أي عليهم ، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم ؛ كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه . أو للجنس وهم داخلون في الحكم دخولا أوليا ، إذ الكلام فيهم ، وأيا ما كان فهو محقق لمضمون قوله تعالى : بل لعنهم الله بكفرهم
القول في تأويل قوله تعالى :
[90 ] بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنـزل الله بغيا أن ينـزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين
بئسما اشتروا به أنفسهم "ما" نكرة موصوفة بما بعدها ، منصوبة على التمييز ، مفسرة لفاعل بئس . أي بئس شيئا باعوا به أنفسهم واعتاضوا لها ، فرضوا به وعدلوا إليه . والمخصوص بالذم قوله تعالى : أن يكفروا بما أنـزل الله أي كفرهم بالكتاب المصدق [ ص: 189 ] لما معهم بعد الوقوف على حقيقته "بغيا" حسدا "أن ينزل الله" لأن ينزل ، أو على أن ينزل . أي حسدوه على أن ينزل الله "من فضله" الذي هو الوحي "على من يشاء من عباده" أي : يشاؤه ويصطفيه للرسالة "فباؤوا بغضب" أي رجعوا لأجل ذلك بغضب ، في حسدهم لهذا النبي صلى الله عليه وسلم حتى كفروا به "على غضب" كانوا استحقوه قبل بعثته صلى الله عليه وسلم من أجل تحريفهم الكلم ، وتضييعهم بعض أحكام التوراة ، وكفرهم بعيسى عليه السلام .
قال الرازي: إن غضبه تعالى يتزايد ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته في العذاب، فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة، كغضبه على من كفر بخصال كثيرة .
قلت: وفي الصحيحين عن أبي هريرة : « اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك ; لا ملك إلا الله » . والروايات في توصيف غضبه تعالى بالشدة على بعض المنكرات متوافرة . انظر الجامع الصغير.
ويحتمل المعنى . فصاروا أحقاء بغضب مترادف ، فلا يكون القصد إثبات غضبين [ ص: 190 ] لأمرين متنوعين أو أمور ، بل المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل أن هذا الكفر ، وإن كان واحدا ، إلا أنه عظيم . والله أعلم .
وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى : غير المغضوب عليهم ولا الضالين أن الغضب صفة وصف الله تعالى نفسه بها . وليس غضبه كغضبنا . كما أن ذاته ليست مثل ذواتنا ، فليس هو مماثلا لأبداننا ولا لأرواحنا ، وصفاته كذاته . وما قيل : إن الغضب من الانفعالات النفسانية فيقال نحن وذواتنا منفعلة ، فكونها انفعالات فينا لا يجب أن يكون الله منفعلا بها . كما أن نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين . فصفاته كذلك ليست كصفات المخلوقين ، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه . وليس المنسوب كالمنسوب والمنسوب إليه كالمنسوب إليه . كما قال صلى الله عليه وسلم : « ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر » فشبه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي . وهذا يتبين بقاعدة : وهي أن كثيرا من الناس يتوهم ، في بعض الصفات أو كثير منها ، أو أكثرها أو كلها ، أنها تماثل صفات المخلوقين . ثم يريد نفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير : أحدها : كونه مثل ما فهمه من النصوص لصفات المخلوقين . وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل .
الثاني : أنه إذ جعل ذلك هو مفهومها وعطله فبقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله فيبقى مع جناية على النصوص ، وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله ، حيث خلاف الذي يفهم من كلامهما ، من إثبات صفات الله ، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى .
الثالث : أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير دليل. فيكون معطلا عما يستحقه الرب تبارك وتعالى .
الرابع : أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الموات ، والجمادات ، وصفات المعدومات . فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب . ومثله بالمنقوصات والمعدومات . وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات . وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات . فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل . سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . أفاده الإمام ابن تيمية . عليه الرحمة ، في القاعدة التدمرية.
"وللكافرين" أي لهم . والإظهار في موضع الإضمار للإشعار بعلية كفرهم لما حاق بهم "عذاب مهين" يراد به إهانتهم . أي إذلالهم . فإن كفرهم ، لما كان سببه البغي والحسد ، ومنشأ ذلك التكبر ، قوبلوا بالإهانة والصغار في الآخرة كما قال تعالى : إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين أي : صاغرين حقيرين.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 191 الى صـ 195
الحلقة (37)
القول في تأويل قوله تعالى :
[91 ] وإذا قيل لهم آمنوا بما أنـزل الله قالوا نؤمن بما أنـزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين
"وإذا قيل لهم" أي لليهود "آمنوا بما أنزل الله" على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه قالوا نؤمن بما أنـزل علينا من التوراة ، ولا نقر إلا بها "ويكفرون بما وراءه" حال من ضمير "قالوا" بتقدير مبتدأ . أي قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما بعده وهو الحق مصدقا لما معهم منها غير مخالف له . وفيه رد لمقالتهم . لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها "قل" تبكيتا لهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم ، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم وأنتم تعلمون صدقهم . قتلتموهم بغيا وعنادا، واستكبارا على رسل الله . فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي كما قال تعالى أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون والخطاب للحاضرين من اليهود والماضين ، على [ ص: 192 ] طريق التغليب ، وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل ، كان الاعتراض على أسلافهم اعتراضا على أخلافهم . ودلت الآية على أن المجادلة في الدين من عرف الأنبياء عليهم السلام ، وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز .
ولما دل على كذبهم في دعوى الإيمان بما فعلوا بعد موسى ، أقام دليلا آخر أقوى مما تقدمه . فإنه لم يعهد إليهم في التوراة ما عهد إليهم في التوحيد والبعد عن الإشراك . وهو في النسخ الموجودة بين أظهرهم الآن . وقد نقضوا جميع ذلك باتخاذ العجل في أيام موسى ، وبحضرة هارون عليهما السلام. فقال تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
[92 ] ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون
ولقد جاءكم موسى بالبينات من الآيات كفلق البحر ، وإنزال المن والسلوى ، وغير ذلك من الدلائل القاطعات على أنه رسول الله ، وأنه لا إله إلا الله "ثم اتخذتم العجل" معبودا من دون الله "من بعده" أي من بعد ما ذهب موسى عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل . كما قال تعالى : واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار وقوله تعالى "وأنتم ظالمون" أي بعبادته . واضعين لها في غير موضعها . أو بالإخلال بحقوق آيات الله تعالى . أو هو اعتراض . أي وأنتم قوم عادتكم الظلم.
ثم ذكر أمرا آخر هو أبين في عنادهم وأنهم مع الهوى فقال :
القول في تأويل قوله تعالى :
[ ص: 193 ] [93 ] وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين
"وإذ أخذنا ميثاقكم" على الإيمان والطاعة . "ورفعنا فوقكم الطور" قائلين "خذوا ما آتيناكم" أي ما أمرتم به في التوراة "بقوة" بجد "واسمعوا" أطيعوا "قالوا سمعنا" قولك "وعصينا" أمرك . وظاهر السوق يقتضي أنهم قالوا ذلك حقيقة .
قال أبو مسلم : وجائز أن يكون المعنى : سمعوه فتلقوه بالعصيان . فعبر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه . كقوله تعالى أن يقول له كن فيكون وأشربوا في قلوبهم العجل أي حبه على حذف المضاف . وإقامة المضاف إليه مقامه للمبالغة . أو العجل مجاز عن صورته . فلا يحتاج إلى حذف المضاف . وعلى كل ، فأشربوا استعارة تبعية. إما من إشراب الثوب الصبغ -أي تداخله فيه- أو من إشراب الماء -أي تداخله أعماق البدن- والجامع السراية في كل جزء . وإسناد الفعل إليهم إيهام لمكان الإشراب . ثم بين بقوله "في قلوبهم" للمبالغة، فظهر وجه العدول عن مقتضى الظاهر وهو : وأشرب قلوبهم العجل "بكفرهم" بسبب كفرهم .
قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين أي كما زعمتم، بالتوراة . وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما في قصة شعيب أصلاتك تأمرك [ ص: 194 ] وكذا إضافة الإيمان إليهم . وقوله "إن كنتم مؤمنين" قدح في صحة دعواهم . فإن الإيمان إنما يأمر بعبادة الله وحده لا بشركة العباد لما هو في غاية البلادة . فهو غاية الاستهزاء . وحاصل الكلام : إن كنتم مؤمنين بها عاملين ، فيما ذكر من القول والعمل، بما فيها، فبئسما يأمركم به إيمانكم بها . وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعا . فجواب الشرط محذوف كما ترى ، لدلالة ما سبق عليه .
القول في تأويل قوله تعالى :
[94 ] قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
"قل" كرر الأمر بتبكيتهم لإظهار نوع آخر من أباطيلهم . وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس . لكنه لم يحك عنهم قبل الأمر بإبطاله ، بل اكتفى بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام بقوله : إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة نصب على الحال من الدار الآخرة . والمراد الجنة . أي سالمة لكم ، خاصة بكم ، ليس لأحد سواكم فيها حق كما تقولون : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا "من دون الناس" اللام للجنس أو للعهد وهم المسلمون "فتمنوا الموت" فسلوا الموت "إن كنتم صادقين" لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الأكدار ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالموت . والذي يتوقف عليه المطلوب لا بد وأن يكون مطلوبا ، نظرا إلى كونه وسيلة إلى ذلك المطلوب . والمراد بالتمني هنا هو التلفظ بما يدل عليه كما أشرنا إليه ، لا مجرد خطوره بالقلب وميل النفس إليه ، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة ومواطن الخصومة ومواقف التحدي لأنه من ضمائر القلوب . وثم تفسير آخر للتمني [ ص: 195 ] بأن يدعوا إلى المباهلة والدعاء بالموت . وإليه ذهب ابن جرير . والأول أقرب إلى موافقة اللفظ . وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى :
[95 ] ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين
ولن يتمنوه أبدا من المعجزات لأنه إخبار بالغيب . وكان كما أخبر به . كقوله ولن تفعلوا "بما قدمت أيديهم" بما أسلفوا من أنواع العصيان . واليد مجاز عن النفس . عبر بها عنها ، لأنها من بين جوارح الإنسان ، مناط عامة صنائعه . ولذا كانت الجنايات بها أكثر من غيرها . ولم يجعل المجاز في الإسناد، فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم ، ليشمل ما قدموا بسائر الأعضاء والله عليم بالظالمين أي بهم . تذييل للتهديد . والتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ، ونفيه عمن سواهم . ونظير هذه الآية في سورة الجمعة قوله تعالى : قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين
و قد تلطف الغزالي في توجيه الإتيان بـ "لن" هنا ، و "لا" في سورة الجمعة بأن الدعوى هنا أعظم من الثانية ، إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب ، وأما مرتبة الولاية فهي، وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة . فلما كانت الدعوى الأولى أعظم ، لا جرم بين تعالى فساد قولهم بلفظ "لن" لأنها أقوى الألفاظ النافية. ولما كانت [ ص: 196 ] الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة اكتفى في إبطالها بلفظ "لا" لأنه ليس في نهاية القوة ، في إفادة معنى النفي . والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 196 الى صـ 200
الحلقة (38)
ولما أخبر تعالى عنهم أنهم لا يتمنون الموت ، أتبعه بأنهم في غاية الحرص على الحياة بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى:
[96 ] ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون
ولتجدنهم أحرص الناس على حياة التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة ، ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي : على الحياة "ومن الذين أشركوا" عطف على ما قبله بحسب المعنى ؛ كأنه قيل : أحرص من الناس ومن الذين أشركوا . وإفرادهم بالذكر ، مع دخولهم في الناس ، للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص . للمبالغة في توبيخ اليهود ، فإن حرصهم ، وهم معترفون بالجزاء ، لما كان أشد من حرص المشركين المنكرين له ، دل ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار . ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقة بإنباء المعطوف عليه، عنه ; أي وأحرص من الذين أشركوا .
وأما تجويز كون الواو للاستئناف وقد تم الكلام عند قوله : "على حياة" تقديره "ومن الذين أشركوا" ناس يود أحدهم ، على حذف الموصوف ، وقول أبي مسلم: إن في الكلام تقديما وتأخيرا ، وتقديره: ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ، ثم فسر هذه المحبة بقوله : يود أحدكم لو يعمر ألف سنة -فلا يخفى بعده . لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر، أن يكون المراد: [ ص: 197 ] ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا ، ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم : إن الدار الآخرة لنا ، لا لغيرنا . والله أعلم .
"يود أحدهم لو يعمر ألف سنة" بيان لزيادة حرصهم ، على طريق الاستئناف . و "لو" مصدرية ، بمعنى "أن" مؤول ما بعدها بمصدر ، مفعول يود . أي : يود أحدهم تعمير ألف سنة : وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر "ما" حجازية ، والضمير العائد على أحدهم اسمها ، وبمزحزحه خبرها ، والباء زائدة ، وأن يعمر فاعل مزحزحه ، أي وما أحدهم المتمني بمن يزحزحه، أي يبعده وينجيه، من العذاب تعميره . قال القاضي : والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير ، ولو قال تعالى : وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول والله بصير بما يعملون فسوف يجازيهم عليه .
وما ذكره بعض المفسرين من أن البصير في اللغة بمعنى العليم لا يخفى فساده ، فإن العليم والبصير اسمان متباينا المعنى لغة . نعم ! لو حمل أحدهما على الآخر مجازا لم يبعد ، ولا ضرورة إليه هنا . ودعوى أن بعض الأعمال مما لا يصح أن يرى ، فلذا حمل هذا البصر على العلم- هو من باب قياس الغائب على الشاهد ، وهو بديهي البطلان . قال شمس الدين ابن القيم الدمشقي في كتاب الكافية الشافية:
وهو البصير يرى دبيب النملة الس وداء تحت الصخر والصوان ويرى مجاري القوت في أعضائها
ويرى عروق بياضها بعيان ويرى خيانات العيون بلحظها
ويرى ، كذاك ، تقلب الأجفان
وقوله تعالى :
[ ص: 198 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[97 ] قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين [98 ] من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين
روى البخاري في صحيحه في كتاب التفسير عن أنس قال : سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث ، لا يعلمهن إلا نبي . فما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : « أخبرني بهن جبريل آنفا » ، قال : جبريل ؟ قال : « نعم » ، قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك « أما أول أشراط الساعة ، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب . وأما أول طعام أهل الجنة ، فزيادة كبد حوت . وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ، نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت » قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله . يا رسول الله ! إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني . فجاءت اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أي رجل عبد الله فيكم»؟ قالوا : [ ص: 199 ] خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام» ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك ! فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا. وانتقصوه. قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله .
وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي. وساق نحوا مما تقدم . وتتمته قالوا : أنت الآن ، فحدثنا من وليك من الملائكة ، فعندها نجامعك أو نفارقك ، قال : « فإن وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيا قط ، إلا وهو وليه » . قالوا : فعندها نفارقك . ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك . قال : فما منعكم أن تصدقوه ؟ قالوا : إنه عدونا ، فأنزل الله عز وجل : قل من كان عدوا لجبريل إلى قوله : لو كانوا يعلمون فعندها باؤوا بغضب على غضب .
وفي رواية للإمام أحمد والترمذي والنسائي في القصة : فأخبرنا من صاحبك ؟ قال : « جبريل عليه السلام » . قالوا : جبريل ! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب ، عدونا . لو قلت : ميكائيل ، الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان ! فأنزل الله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل إلى آخر الآية. ويؤخذ من روايات أخر أن سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم . فقد روى ابن جرير عن الشعبي قال : نزل عمر الروحاء ، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها . فقال : ما هؤلاء ؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا . قال فكره ذلك ، وقال : أيما ؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى ، ثم ارتحل فتركه . ثم أنشأ يحدثهم ، فقال : كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم ، فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان ، ومن الفرقان كيف يصدق [ ص: 200 ] التوراة ! فبينما أنا عندهم ذات يوم ، قالوا : يا ابن الخطاب ! ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك . قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال قلت: إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان. قال ، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ! ذاك صاحبكم فالحق به . قال : فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه ، وما استودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟ قال : فسكتوا . قال : فقال لهم عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظم عليكم فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت . قال : أما إذ نشدتنا به . فإنا نعلم أنه رسول الله . قال : قلت ويحكم ، إذا هلكتم . قالوا : إنا لم نهلك . قال : قلت : كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه ؟ قالوا : إن لنا عدوا من الملائكة، وسلما من الملائكة . وإنه قرن به عدونا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوكم ، ومن سلمكم ؟ . قالوا: عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل ؟ وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار ، والتشديد والعذاب ، ونحو هذا . وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف، ونحو هذا . قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، قال : قلت : فوالله الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما ، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل ، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبريل . قال : ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان . فقال لي : يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن ؟ فقرأ علي : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله حتى قرأ الآيات . قال : قلت : بأبي وأمي أنت يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 201 الى صـ 205
الحلقة (39)
ورواه مختصرا ابن أبي حاتم أيضا ، وفيه انقطاع ، فإن الشعبي لم يدرك زمان عمر رضي [ ص: 201 ] الله عنه . كذا قاله الحافظ ابن كثير، وساقه أيضا الواحدي ، وزاد في آخره : قال عمر : فلقد رأيتني في دين الله أشد من حجر .
قال العلامة البقاعي : وقد روى هذا الحديث أيضا إسحاق بن راهويه في مسنده عن الشعبي ، عن عمر رضي الله عنه . قال شيخنا البوصيري : وهو مرسل صحيح الإسناد ، انتهى .
وثم روايات متنوعات ساقها ابن كثير في تفسيره ، لا نطول كتابنا بسردها ، ومرجعها واحد. فإن قيل : بين رواية البخاري الأولى وما بعدها تناف . فالجواب : لا منافاة ; لأن قراءته صلى الله عليه وسلم لها في محاورة عبد الله بن سلام ، ردا لقول اليهود ، لا يستلزم نزولها حينئذ . فإن المعتمد في سبب نزولها غير قصة عبد الله بن سلام مما سلف من الروايات . فإن طرقها يقوي بعضها بعضا ، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عبد الله بن سلام : إن جبريل عدو لليهود ، تلا عليه الآية ، مذكرا له سبب نزولها -كذا قاله الحافظ ابن حجر في الفتح .
وقد أشار إلى ذلك السيوطي في (الإتقان) حيث قال (تنبيه) قد يكون في إحدى القصتين ، (فتلا) فيهم الراوي ، فيقول (فينزل) . وقال العلامة ولي الله الدهلوي قدس سره في كتابه (أصول التفسير) وقد تحقق عند الفقير أن الصحابة والتابعين كثيرا ما كانوا يقولون : نزلت الآية في كذا وكذا ، وكأن غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية ، وذكر بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها . سواء تقدمت القصة أو تأخرت . إسرائيليا كان ذلك أو جاهليا أو إسلاميا . استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها ، والله أعلم .
فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلا . وللقصص المتعددة هنالك سعة . فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية . انتهى .
وقوله تعالى "لجبريل" قرئ في السبع بكسر الجيم والراء بلا همز ، وبفتح الجيم بدونها أيضا ، وبفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة ثم ياء وبدونها . قال ابن جني: العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه.
[ ص: 202 ] وقوله "فإنه نزله" تعليل لجواب الشرط قائم مقامه ، والبارز الأول لجبريل عليه السلام، والثاني للقرآن، أضمر من غير سبق ذكر، إيذانا بفخامة شأنه، واستغنائه عن الذكر، لكمال شهرته ونباهته ، لا سيما عند ذكر شيء من صفاته . وقوله "على قلبك" زيادة تقرير للتنزيل ، ببيان محل الوحي ، فإنه القابل الأول له ، إن أريد به الروح . ومدار الفهم والحفظ إن أريد به العضو ، وهذا كقوله : نـزل به الروح الأمين على قلبك وكان حق الكلام أن يقال "على قلبي" لأنه المطابق لقل، ولكن جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به تحقيقا لكونه كلام الله . وأنه أمر بإبلاغه . وقوله "بإذن الله" أي : بأمره . وقوله : "مصدقا لما بين يديه" أي من التوراة وبقية الصحف المنزلة . وقوله "وهدى وبشرى للمؤمنين" أي يهدي للرشد وبشرى لهم بالجنة ، كما قال تعالى : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء الآية ، وقال تعالى : وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين وفيه رد على اليهود ، حيث قالوا : إن جبريل ينزل بالحرب والشدة كما تقدم ، فقيل : فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضا . فإن قيل : من شأن الشرط والجزاء الاتصال بالسببية والترتب ، فكيف استقام قوله "فإنه نزله" جزاء للشرط؟ أجيب بأن قوله "فإنه نزله" تعليل لجواب الشرط، كما أسلفنا . والمعنى : من عادى جبريل من أهل الكتاب ، فلا وجه لمعاداته ، بل يجب عليه محبته ، فإنه نزل عليك كتابا [ ص: 203 ] مصدقا لكتبهم . فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه ، في إنزاله ما ينفعهم ، ويصحح المنزل عليهم . وقيل : الجواب محذوف تقديره "فليمت غيظا" . وعليه فلا يكون "فإنه نزله" نائبا عنه . ووجهه أن يقدر الجواب مؤخرا عن قوله "فإنه نزله" ويكون هو تعليلا وبيانا لسبب العداوة ، كأنه قيل : من عاداه ، لأنه نزل على قلبك فليمت غيظا .
قال الرضي : كثيرا ما يدخل الفاء على السبب ويكون بمعنى اللام ، قال الله تعالى قال فاخرج منها فإنك رجيم وقيل تقديره : فهو عدو لي وأنا عدوه ، بقرينة الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم ، وهي قوله تعالى : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين أي من كان عدوا لله لإنزاله فضله على من يشاء أو لأمر آخر . وأفادت الآية غضب الله تعالى لجبريل على من عاداه . وقد روى البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة حديثا قدسيا « من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب » .
وصدر الكلام بذكره الجليل تفخيما لشأنهم ، وإيذانا بأن عداوتهم عداوته عز وعلا ، وقدم الملائكة على الرسل ، كما قدم الله على الجميع ; لأن عداوة الرسل بسبب نزول الوحي ، ونزوله بتنزيل الملائكة ، وتنزيلهم لها بأمر الله ، فذكر الله تعالى ومن بعده على هذا الترتيب ، [ ص: 204 ] وإنما خص جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما ، والدلالة على فضلهما ، وإنهما ، وإن كانا من الملائكة ، فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة ، تنزيلا للتغاير الوصفي ، منزلة التغاير الذاتي ، وللتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر ، واستجلاب العداوة من الله تعالى ، وإن من عادى أحدهم فكأنه عادى الجميع ; إذ الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد ، ولأن المحاجة كانت فيهما . ووضع "الكافرين" موضع "لهم" ، ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر . وقد قرئ في السبع "ميكال" كميزان ، و "ميكائل" بهمزة مكسورة بعد الألف بدون ياء و "ميكائيل" بالهمزة والياء .
القول في تأويل قوله تعالى :
[99 ] ولقد أنـزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون
ولقد أنـزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون أي أنزلنا إليك علامات واضحات دالات على نبوتك ، وتلك الآيات هي ما حواه القرآن من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم ، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل ، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم ، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم ، وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة ، فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي . إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة ، تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصفت ، من غير تعلم تعلمه من بشر ، ولا أخذ شيء منه عن آدمي .
وحمل الآيات على ما ذكرناه من آيات القرآن المجيد أولى من حملها على سائر المعجزات المأثورة ; لأن الآيات إذا قرنت إلى التنزيل ، كانت أخص بالقرآن ، وقوله "وما يكفر بها إلا الفاسقون" أي : المتمردون من الكفرة ، واللام للعهد ، أي الفاسقون المعهودون ، وهم اليهود . أو للجنس ، وهم داخلون فيه دخولا أوليا .
[ ص: 205 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[100 ] أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون
أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون الهمزة للإنكار ، والواو للعطف على محذوف يقتضيه المقام ، أي كفروا بالآيات بالبينات ، "وكلما عاهدوا" إلخ . أو أينكرون فسقهم وكلما إلخ ، وقيل : الواو زائدة ، وقيل هي "أو" التي لأحد الشيئين . حركت بالفتح . وقد قرئ شاذا بسكونها . فتكون بمعنى بل . دلت عليه القرينة . أعني قوله : بل أكثرهم لا يؤمنون ترقيا إلى الأغلظ فالأغلظ . قال ابن جني "أو" هذه هي التي بمعنى "أم" المنقطعة ، وكلتاهما بمعنى "بل" موجودة في الكلام كثيرا . أنشد الفراء لذي الرمة :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح
وكذا قال في قوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون وعلى الوجه الأول ، فالمقصود من هذا الاستفهام الإنكار ، وإعظام ما يقدمون عليه ، لأن مثل ذلك ، إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التنكير والتبكيت .
ودل بقوله "أوكلما عاهدوا" على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه . بل يدل على أن ذلك كالعادة فيهم . فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات ، بأن ذلك ليس ببدع منهم بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم . على ما بينه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالا بعد حال . لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته ، كصعوبة من لم تجر عادته بذلك .
قال العلامة : واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود ، وكم أخذ الله الميثاق منهم، ومن آبائهم فنقضوا ، وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا : الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة والنبذ الرمي بالذمام ، ورفضه . وإسناده إلى فريق منهم ، لأن منهم من لم ينبذه . وفي قوله "بل أكثرهم لا يؤمنون" دفع لما يتوهم من أن النابذين هم الأقلون . قوله تعالى :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 206 الى صـ 210
الحلقة (40)
القول في تأويل قوله تعالى :
[101 ] ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون
ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون تصريح بما طوى قبل . فإن نبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها ، أعقبهم التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، الذي في كتبهم نعته ، كما قال تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية ، فتنكير "رسول" للتفخيم . والجار بعده متعلق بجاء ، أو بمحذوف وقع صفة لرسول ، لإفادة مزيد تعظيمه بتأكيد ما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، وقوله "كتاب الله" يعني التوراة ، لأنهم بكفرهم برسول الله ، المصدق لما معهم ، كافرون بها ، نابذون لها . وقيل "كتاب الله" القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول . وقوله "وراء ظهورهم" مثل لتركهم وإعراضهم عنه ، مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه ، وقلة التفات إليه ، وقوله "كأنهم لا يعلمون" جملة حالية ، أي نبذوه وراء ظهورهم ، مشبهين بمن لا يعلمه . فإن أريد بهم أحبارهم ، فالمعنى كأنهم لا يعلمونه على وجه الإيقان ، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم . ففيه إيذان بأن علمهم به رصين ، لكنهم يتجاهلون . أو كأنهم [ ص: 207 ] لا يعلمون أنه كتاب الله ، أو لا يعلمون أصلا ، كما إذا أريد بهم الكل .
وفي هذين الوجهين ، زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة . وهذا، وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآن ، فالمراد بالعلم المنفي في "كأنهم لا يعلمون" هو العلم بأنه كتاب الله ، ففيه ما في الوجه الأول من الإشعار بأنهم متيقنون في ذلك ، وإنما يكفرون به مكابرة وعنادا ، وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
[102 ] واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر هو حكاية لفن آخر من زيغهم وضلالهم ، إثر نبذهم كتاب الله والعمل بما بين أيديهم . وهو اتباعهم لما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر والكفر ، وإنه إنما نال ذلك الملك بسبب معرفته السحر . وزادوا على ذلك فنسبوه إلى الردة والكفر لأسباب افتروها عليه ، فبرأه الله تعالى من هذا الافتراء والاختلاق ، وألصق الكفر بأولئك الشياطين الذين يضللون العقول والأفهام بتعليم السحر والشعبذة ، وإسناد التأثير إلى غير الخالق، سبحانه ، والصد عن سبيل الحق ، وابتغائهم إياها عوجا [ ص: 208 ] و "تتلو" بمعنى تقص وتحدث . من التلاوة ، وهي القراءة . أو بمعنى تكذب وتختلق ، وهو قول أبي مسلم ، قال : يقال تلا عليه ، إذا كذب ، وتلا عنه إذا صدق . وهكذا قال الراغب في تفسيره : تلا عليه كذب ، نحو روى عليه ، وقال عليه "ويقولون على الله الكذب". وقال : الآية معطوفة على ما تقدم من ذكر اليهود ، وهي منطوية على أمرين : ذم اليهود في تحري السحر وإيثاره ، وتبرئة لسليمان عليه السلام مما نسبوه إليه ، وتخرصوه عليه اهـ. وذلك أنهم زعموا أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام ، وبنى لها المعابد ، كما تراه في الفصل الحادي عشر من سفر الملوك الثالث . فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة والقحة الكبيرة ، ولما تنبه عقلاء أهل الكتاب المتأخرون لمثل هذه الفرى ، اعترفوا بأنه ليس كل قول من الأقوال المندرجة في كتبهم المقدسة إلهاميا ، بل بعضها كتب على طريقة المؤرخين ، يعني بلا إلهام ، كما في "إظهار الحق" . والمراد بالشياطين شياطين الإنس ، وهم المتمردة العصاة الأشرار الأقوياء ، الدعاة إلى الباطل .
وقوله "على ملك سليمان" أي على عهد ملكه من تلك الأقاصيص المختلقة عليه . وقوله تعالى "وما كفر سليمان" تنزيه لساحته عليه السلام من الردة والشرك وعبادة الأوثان التي نسبوها إليه ، وتكذيب لمن تقولها . وقال كثيرون : هذا تبرئة من السحر ، وأنه تعالى كنى عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر ، وأن من كان نبيا كان معصوما عنه . وإنما كان كفرا لكونه يكون بالتوجه إلى الأفلاك والشياطين وعبادتها ، وزعم أنها مؤثرة دونه تعالى .
[ ص: 209 ] والمعنى الأول أصرح وأوضح .
وقوله تعالى : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر عنى بالشياطين من ذكرناهم قبل وهم خبثاء الإنس وأشرارهم . كما في قوله تعالى : وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم وقوله : شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض والذي يعين هذا المعنى قوله "تتلو" لأن تلاوة شياطين الجن ، لا يسمعها أحد ، ومعنى "تتلو" تقص كما تقدم . وقوله "يعلمون الناس السحر" يعين هذا المعنى أيضا ، إذ لا يتعلم أحد السحر إلا من شياطين الإنس . والمراد بقوله "كفروا" كفرهم بآيات الله المنزلة ، أو عبادتهم غيره تعالى ، أو كفرهم باستعمال السحر والشعوذة ، تعمية على الحق ، وتغشية للبصائر . وجملة قوله "يعلمون الناس السحر" حالية من ضمير "كفروا" ، أو خبر ثان لـ "لكن" ، أو مستأنفة . هذا على تقدير كون الضمير للشياطين . وأما على تقدير رجوعه إلى فاعل "اتبعوا" فهي إما حال منه أو استئنافية. وقوله تعالى : وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
اعلم أن للعلماء في هذه الآية وجوها كثيرة ، وأقوالا عديدة ، فمنهم من ذهب فيها مذهب الأخباريين نقلة الغث والسمين ، ومنهم من وقف مع [ ص: 210 ] ظاهرها البحت وتمحل لما اعترضه ، بما المعنى الصحيح في غنى عنه . ومنهم من ادعى فيها التقديم والتأخير ورد آخرها على أولها ، بما جعلها أشبه بالألغاز والمعميات ، التي يتنزه عنها بيان أبلغ كلام . إلى غير ذلك مما يراه المتتبع لما كتب فيها .
والذي ذهب إليه المحققون أن هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل -وهي مدينة بالعراق على نهر الفرات- وكانا يعلمان الناس السحر، وبلغ حسن اعتقاد الناس بهما أن ظنوا أنهما ملكان من السماء ، وما يعلمانه للناس هو بوحي من الله . وبلغ مكر هذين الرجلين ، ومحافظتهما على اعتقاد الناس بالحسن فيهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما "إنما نحن فتنة فلا تكفر" ، أي إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك ، أتشكر أم تكفر ، وننصح لك أن لا تكفر . يقولان ذلك ليوهما الناس أن علومهما إلهية ، وصناعتهما روحانية ، وأنهما لا يقصدان إلا الخير . كما يفعل ذلك دجاجلة هذا الزمان ، قائلين لمن يعلمونهم الكتابة للمحبة والبغض على زعمهم : نوصيك بأن لا تكتب لجلب امرأة متزوجة إلى رجل غير زوجها ، إلى غير ذلك من الأوهام والافتراء .
ولليهود في ذلك خرافات كثيرة . حتى إنهم يعتقدون أن السحر نزل عليهما من الله . وأنهما ملكان جاءا لتعليمه للناس . فجاء القرآن مكذبا لهم في دعواهم نزوله من السماء ، وفي ذم السحر، ومن يتعلمه أو يعلمه ، فقال : يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين الآية ، فـ "ما" هنا نافية ، على أصح الأقوال ، ولفظ "الملكين" هنا وارد حسب العرف الجاري بين الناس في ذلك الوقت ، كما يرد ذكر آلهة الخير والشر في كتابات المؤلفين عن تاريخ اليونان والمصريين وغيرهم ، وكما يرد في كلام المسلم ، في الرد على المسيحيين ، ذكر تجسد الإله وصلبه ، وإن كان لا يعتقد ذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 211 الى صـ 215
الحلقة (41)
وقوله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه من قبيل التمثيل، وإظهار الأمر في أقبح صورة ، أي بلغ من أمر ما يتعلمونه من ضروب الحيل ، وطرق الإفساد ، أن يتمكنوا به من التفريق بين أعظم مجتمع : كالمرء وزوجه .
والخلاصة : أن معنى الآية من أولها إلى آخرها هكذا : أن اليهود كذبوا القرآن [ ص: 211 ] ونبذوه وراء ظهورهم ، واعتاضوا عنه بالأقاصيص والخرافات التي يسمعونها من خبثائهم عن سليمان وملكه . وزعموا أنه كفر ، وهو لم يكفر . ولكن شياطينهم هم الذين كفروا ، وصاروا يعلمون الناس السحر ، ويدعون أنه أنزل على هاروت وماروت ، اللذين سموهما ملكين ، ولم ينزل عليهما شيء ، وإنما كانا رجلين يدعيان الصلاح لدرجة أنهما كانا يوهمان الناس أنهما لا يقصدان إلا الخير ، ويحذرانهم من الكفر . وبلغ من أمر ما يتعلمونه منهما من طرق الحيل والدهاء أنهم يفرقون به بين المجتمعين ، ويحلون به عقد المتحدين . فأنت ترى من هذا أن المقام كله للذم ، فلا يصح أن يرد فيه مدح هاروت وماروت . والذي يدل على صحة ما قلناه فيهما أن القرآن أنكر نزول أي ملك إلى الأرض ليعلم الناس شيئا من عند الله ، غير الوحي إلى الأنبياء ، ونص نصا صريحا أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني نوعهم فقال : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال منكرا على من طلب إنزال الملك : وقالوا لولا أنـزل عليه ملك ولو أنـزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون وقال في سورة الفرقان : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنـزل إليه ملك فيكون معه نذيرا -إلى قوله- فضلوا فلا يستطيعون سبيلا
وللقصاص في هاروت وماروت أحاديث عجيبة . فزعموا أنهما كانا ملكين من الملائكة ، وأنهما لما نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي ، أنكرا ذلك وأكبراه ودعوا على أهل الأرض . فأوحى الله تعالى إليهما : إني لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتماني ، فقالا : يا رب ، لو ابتليتنا لم نفعل ، فجربنا . فأهبطهما إلى الأرض ، وابتلاهما الله بشهوات [ ص: 212 ] بني آدم ، فمكثا في بلدة كانت فيها فاجرة تسمى "الزهرة" فدعواها إلى الفاحشة وواقعاها بعد أن شربا الخمر ، وقتلا النفس وسجدا للصنم. وعلماها الاسم الأعظم ، الذي كانا به يعرجان إلى السماء ، فتكلمت المرأة بذلك الاسم ، وعرجت إلى السماء ، فمسخها الله تعالى ، وصيرها هذا الكوكب المسمى بالزهرة . ثم إن الله تعالى عرف هاروت وماروت قبيح ما فيه وقعا ، ثم خيرهما بين عذاب الآخرة آجلا ، وبين عذاب الدنيا عاجلا ، فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة ، وهما يعلمان الناس السحر ، ويدعوان إليه ، ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع لتعلم السحر خاصة .
وهذه القصة من اختلاق اليهود وتقولاتهم . ولم يقل بها القرآن قط ، وإنما ذكرها التلمود ، كما يعلم من مراجعة "مدارس يدكوت" في الإصحاح الثالث والثلاثين ، وجاراه جهلة القصاص من المسلمين ، فأخذوها منه .
قال الرازي في تفسيره : إن القصة التي ذكروها باطلة من وجوه :
أحدها : أنهم ذكروا في القصة أن الله تعالى قال لهما (أي لهاروت وماروت) : لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني ، فقالا : لو فعلت ذلك بنا يا رب لما عصيناك ، وهذا منهم تكذيب لله تعالى ، وتجهيل له ، وذلك من صريح الكفر .
وثانيها : أنهما خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وذلك فاسد ، بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة وبين العذاب ، والله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره ، وبالغ في إيذاء أنبيائه .
وثالثهما : أن من أعجب الأمور قولهم : إنهما يعلمان السحر ، في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه ، وهما يعاقبان .
وهكذا ، الإمام أبو مسلم احتج على بطلان نزول السحر عليهما أيضا بوجوه:
الأول : أن السحر لو كان نازلا عليهما لكان منزله هو الله ، وذلك غير جائز ; لأن السحر كفر وعبث لا يليق بالله تعالى إنزال ذلك .
[ ص: 213 ] الثاني : أن قوله : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر يدل على أن تعليم السحر كفر . فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر . وذلك باطل .
الثالث : كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر ، فكذلك في الملائكة بطريق الأولى .
الرابع : إن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة ، وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب ؟ وهل السحر إلا الباطل المموه ؟ وقد جرت عادة الله بإبطاله ، كما قال في قصة موسى عليه السلام : ما جئتم به السحر إن الله سيبطله انتهى .
وقد ساق الرازي ما ارتآه أبو مسلم في تفسير هذه الآية . ولم نشأ نقله لبعده عن الصواب . وهكذا ما ذكره الإمام ابن حزم في كتابه (الفصل) في بحث (عصمة الملائكة) ففيه تكلف وتمحل غريب ، كما يعلم بمراجعتهما .
وللراغب الأصفهاني احتمالات في تصحيح القصة ، وتجويزات عجيبة تنبو عن الحق الصراح الذي آثرنا نقله أولا عن بعض المحققين . والله أعلم .
واعلم أن لفظ السحر ، في عرف الشرع ، مختص بكل أمر يخفى سببه ، ويتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التمويه والخداع ، ومتى أطلق ولم يقيد ، أفاد ذم فاعله ، قال تعالى سحروا أعين الناس يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى . وقد [ ص: 214 ] يستعمل مقيدا فيما يمدح ويحمد ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن أهتم : « إن من البيان لسحرا » ، لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ، وبليغ عبارته . وبالجملة، فالسحر المطلق إنما هو تخييل بشعوذة صارفة للأبصار ، أو تمتمة مزخرفة عائقة للأسماع ، فلا يغير حقائق الأشياء ، ولا ينقل الصور . وقوله تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله قال الراغب : الإذن قد يقال في الإعلام بالرخصة ، ويقال للعلم ، ومنه آذنته بكذا ، ويقال للأمر الحتم . وينبغي أن يعلم أن الإذن في الشيء من الله تعالى ضربان :
أحدهما : الإذن لقاصد الفعل في مباشرته . نحو قولك : أذن الله لك أن تصل الرحم .
والثاني : الإذن في تسخير الشيء على وجه تسخير السم في قتله من يتناوله ، والترياق في تخليصه من أذيته . فإذن الله تعالى في وقوع التسخير وتأثيره من القبيل الثاني ، وذلك هو المشار إليه بالقضاء ، وعلى هذا يقال : "الأشياء كلها بإذن الله وقضائه" . ولا يقال : الأشياء كلها بأمره ورضاه . وقوله تعالى "ويتعلمون ما يضرهم" إرشاد إلى أن ليس في تعلم السحر إلا المضرة ، لما فيه من التلبيس والتمويه ، وإيهام الباطل حقا ، والتوصل به إلى المفاسد والشرور . وقوله سبحانه "ولا ينفعهم" صرح به إيذانا بأنه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضرر ، بل هو شر بحت ، وضرر محض . وقوله تعالى "ولقد علموا" أي اليهود الذي حكيت ضلالاتهم . وقوله "لمن اشتراه" أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله ، والحق الذي أنزله . وقوله "ما له في الآخرة من خلاق" أي نصيب ، لإقباله على التمويه والكذب ، واستعمال [ ص: 215 ] ذلك في اكتساب حطام الدنيا وتمتعاتها . وفيه إشارة إلى أن اختيارهم للسحر، ليس من جهلهم بضرره ، بل أتوا ما أتوا عن علم بعاقبته السوأى .
وقوله تعالى : ولبئس ما شروا به أنفسهم أي ما باعوا به حظهم الأخروي ، حتى كأنهم أتلفوا أنفسهم ، وإنما نفى عنهم العلم بقوله "لو كانوا يعلمون" مع إثباته لهم على سبيل التوكيد القسمي بقوله "ولقد علموا"- لأن معناه لو كانوا يعملون بعلمهم . فجعلهم غير عالمين ، لعدم عملهم بموجب علمهم . ولما بين سبحانه ما عليهم فيما ارتكبوا من المضار أتبعه ما في الإعراض عنه من المنافع فقال :
القول في تأويل قوله تعالى :
[103 ] ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون
"ولو أنهم آمنوا" أي بما دعوا إليه من القرآن الحكيم "واتقوا" أي ما يؤثمهم ، ومنه السحر والتمويه وقوله "لمثوبة من عند الله خير" جواب "لو" ، وأصله : لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم . فحذف الفعل وغير السبك إلى ما عليه النظم الكريم ، دلالة على ثبات المثوبة لهم والجزم بخيريتها ، وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه ، وقوله تعالى "لو كانوا يعلمون" أي أن ثواب الله خير . وإنما نسبوا إلى الجهل لعدم العمل بموجب العلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 216 الى صـ 220
الحلقة (42)
القول في تأويل قوله تعالى :
[104 ] يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم
"يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا" للنبي صلى الله عليه وسلم "راعنا" التي تقصدون بها الرعاية والمراقبة لمقصد الخير وحفظ الجانب ، فاغتنمها اليهود لموافقة كلمة سيئة عندهم فصاروا يلوون [ ص: 216 ] بها ألسنتهم ، ويقصدون بها الرعونة ، وهي إفراط الجهالة ، فنهاهم عن موافقتهم في القول ، منعا للصحيح الموافق في الصورة لشبهه من القبيح ، وعوضهم منها ما لا يتطرق إليه فساد فقال "وقولوا انظرنا" فأبقى المعنى وصرف اللفظ . أي انظر إلينا . بالحذف والإيصال ، أو انتظرنا . على أنه من نظره إذا انتظره ، وقرئ "أنظرنا" من النظرة أي أمهلنا حتى نحفظ . وقرئ راعونا على صيغة الجمع للتوقير . وراعنا على صيغة الفاعل أي قولا ذا رعن ، كدارع ولابن ، لأنه لما أشبه قولهم راعينا وكان سببا للسب بالرعن اتصف به.
"واسمعوا" أي قولوا ما أمرتكم به ، وامتثلوا جميع أوامري ، ولا تكونوا كاليهود ، حيث قالوا سمعنا وعصينا "وللكافرين" أي اليهود الذي توسلوا بقولكم المذكور إلى التهاون بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم "عذاب أليم" لما اجترؤوا عليه من العظيمة ، وهو تذييل لما سبق ، فيه وعيد شديد لهم ، ونوع تحذير للمخاطبين عما نهوا عنه .
وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة النساء : من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ومن ليهم ما جاء في الحديث أنهم كانوا إذا سلموا يقولون "السام عليكم" والسام هو الموت ، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ « وعليكم » وإنما يستجاب لنا فيهم ، ولا يستجاب لهم فينا .
[ ص: 217 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[105 ] ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينـزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم
ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينـزل عليكم من خير من ربكم بيان لشدة عداوة الكافرين من القبيلين للمؤمنين ، حسدا وبغيا . ليقطع التشبه بهم ; فإن مخالفة الأعداء من الأغراض العظيمة للمتمكنين في الأخلاق الفاضلة .
ثم بين أن الحسد لا يؤثر في زوال ذلك بقوله : والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (والاختصاص) عناية تعين المختص لمرتبة ينفرد بها دون غيره ، وفيه تنبيه على ما أنعم به على المؤمنين ، من الشرع التام الكامل الذي شرعه لهم .
ولما أنكرت اليهود أن يقع شيء من النسخ لآيات الله ، توصلا بذلك إلى إنكار آيات القرآن ، وتأبيد تأبيد التوراة ، رد عليهم سبحانه -بعد تحقيق حقية الوحي- بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :
[106 ] ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير
"ما ننسخ من آية" أي : ما نبدل من آية بغيرها -كنسخنا آيات التوراة بآيات القرآن- "أو ننسها" أي : نذهبها من القلوب- كما أخبر بقوله : ونسوا حظا مما ذكروا به - وقرئ "أو ننسأها" أي نؤخرها ونتركها بلا نسخ ، كما أبقى كثيرا [ ص: 218 ] من أحكام التوراة في القرآن . وعلى هذه القراءة ، فقد نشر على ترتيب هذا اللف قوله "نأت بخير منها" أي : من المنسوخة المبدلة- كما فعل في الآيات التي شرعت في الملة الحنيفية ما فيه اليسر ، ورفع الحرج والعنت - فكانت خيرا من تلك الآصار والأغلال . وقوله "أو مثلها" أي : مثل تلك الآيات الموحاة قبل ، كما يرى في كثير من الآيات في القرآن الموافقة لما بين يديها مما اقتضت الحكمة بقاءه واستمراره .
قال الراغب : فإن قيل : إن الذي ترك ولم ينسخ ليس هو مثله بل هو هو ، فكيف قال "بمثلها" قيل : الحكم الذي أنزل في القرآن -وكان ثابتا في الشرع الذي قبلنا- يصح أن يقال هو هو ، إذا اعتبر بنفسه ولم يعتبر بكسوته- التي هي اللفظ . ويصح أن يقال هو مثله إذا لم يعتبر بنفسه فقط بل اعتبر باللفظ . ونحو ذلك أن يقال : ماء البئر هو ماء النهر- إذا اعتبر جنس الماء ، وتارة يقال : مثل ماء النهر- إذا اعتبر قرار الماء . اهـ. على أن إرادة العين بالمثل شائعة ; كما في قولهم : مثلك لا يبخل- .
ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير فهو يقدر على الخير ، وما هو خير منه ، وعلى مثله في الخير . قال الراغب : أي لا تحسبن أن تغييري لحكم حالا فحالا ، وأني لم آت بالثاني في الابتداء- هو العجز ؛ فإن من علم قدرته على كل شيء لا يظن ذلك . وإنما تغير ذلك يرجع إلى مصلحة العباد ، وأن الأليق بهم ، في الوقت المتقدم ، الحكم المتقدم . وفي الوقت المتأخر ، الحكم المتأخر.
القول في تأويل قوله تعالى :
[107 ] ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير
ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض فهو يملك أموركم ويدبرها ، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ. "وما لكم من دون الله من ولي" يلي أموركم [ ص: 219 ] "ولا نصير" ناصر يمنعكم من العذاب .
وقضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة ، هو الجزم والإيقان بأنه تعالى لا يفعل بهم -في أمر من أمور دينهم أو دنياهم- إلا ما هو خير لهم ، والعمل بموجبه من الثقة به، والتوكل عليه ، وتفويض الأمر إليه . من غير إصغاء إلى أقاويل اليهود ، وتشكيكاتها التي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ ، حيث أنكروا نسخ أحكام التوراة ، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما ، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته . عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما يشاء ، ونهيهم عما يشاء ، ونسخ ما يشاء ، وإقرار ما يشاء . والذي حمل اليهود على منع النسخ إنما هو الكفر والعناد ؛ وإلا فقد وجد في شريعتهم النسخ بكثرة.
وقد ذكر العلامة الشيخ رحمة الله الهندي في (إظهار الحق) أمثلة وافرة مما وقع من ذلك في التوراة والإنجيل . فارجع إليها في الباب الثالث منه .
تنبيهان :
الأول : قال بعض الفضلاء : نزلت هذه الآية لما قال المشركون أو اليهود : إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه . وفي الآية رد عليهم بأن المقصود من نسخ الحكم السابق : تهيؤ النفوس لأرقى منه . وهو معنى قوله تعالى "نأت بخير منها" لأن الخالق تعالى ربى الأمة العربية في ثلاث وعشرين سنة تربية تدريجية لا تتم لغيرها -بواسطة الفواعل الاجتماعية- إلا في قرون عديدة . لذلك كانت عليهم الأحكام على حسب قابليتها ، ومتى ارتقت قابليتها بدل الله لها ذلك الحكم بغيره . وهذه سنة الخالق في الأفراد والأمم على حد سواء . فإنك لو نظرت في الكائنات الحية -من أول الخلية النباتية إلى أرقى شكل من أشكال الأشجار، ومن أول رتبة من رتب الحيوانات إلى الإنسان- لرأيت [ ص: 220 ] أن النسخ ناموس طبيعي محسوس في الأمور المادية ، والأدبية معا . . ! فإن انتقال الخلية الإنسانية إلى جنين ، ثم إلى طفل ، فيافع ، فشاب ، فكهل ، فشيخ ، وما يتبع كل دور من هذه الأدوار -من الأحوال الناسخة للأحوال التي قبلها- يريك بأجلى دليل : أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق . وإذا كان هذا النسخ ليس بمستنكر في الكائنات ، فكيف يستنكر نسخ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة ، وهي في حالة نمو وتدرج من أدنى إلى أرقى ؟ هل يرى إنسان له مسكة من عقل أن من الحكمة تكليف العرب -وهم في مبدأ أمرهم- بما يلزم أن يتصفوا به وهم في نهاية الرقي الإنساني ، وغاية الكمال البشري ..؟! وإذا كان هذا يصح ، وجب أن الشرائع تكلف الأطفال بما تكلف به الرجال ، وهذا لم يقل به عاقل في الوجود . . . . ! وإذا كان هذا لا يقول به عاقل في الوجود ، فكيف يجوز على الله -وهو أحكم الحاكمين- بأن يكلف الأمة -وهي في دور طفوليتها- بما لا تتحمله إلا في دور شبوبيتها وكهولتها ..؟ وأي الأمرين أفضل: أشرعنا الذي سن الله لنا حدوده بنفسه ، ونسخ منه ما أراد بعلمه، وأتمه -بحيث لا يستطيع الإنس والجن أن ينقضوا حرفا منه- لانطباقه على كل زمان ومكان ، وعدم مجافاته لأي حالة من حالات الإنسان ..؟! أم شرائع دينية أخرى ، حرفها كهانها ، ونسخ الوجود أحكامها -بحيث يستحيل العمل بها- لمنافاتها لمقتضيات الحياة البشرية من كل وجه .؟! .
الثاني : أسلفنا -في مقدمة التفسير- إلى أن النسخ باصطلاح السلف أعم منه في اصطلاح الخلف ، بما ينبغي مراجعته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 221 الى صـ 225
الحلقة (43)القول في تأويل قوله تعالى :
[108 ] أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل
أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل (أم) هنا ، إما [ ص: 221 ] متصلة معادلة للهمزة في (ألم تعلم) أي ألم تعلموا أنه مالك الأمور ، قادر على الأشياء كلها ، يأمر وينهى كما أراد ... أم تعلموا وتقترحون بالسؤال -كما اقترحت اليهود على موسى عليه السلام ؟ وإما منقطعة -بمعنى بل- للإضراب والانتقال عن حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخايل المساهلة منهم في ذلك ، وأمارات التأثر من أقاويل الكفرة ، إلى التحذير من ذلك . ومعنى (الهمزة) إنكار وقوع الإرادة منهم ، واستبعاده ; لما أن قضية الإيمان وازعة عنها . وتوجيه الإنكار إلى الإرادة -دون متعلقها- للمبالغة في إنكاره واستبعاده ، ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته ، فضلا عن صدور نفسه ، وقوله "ومن يتبدل الكفر" أي : يختره ، ويأخذه لنفسه "بالإيمان" . بمقابلته بدلا منه "فقد ضل سواء السبيل" أي عدل عن الصراط المستقيم . جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله "أم تريدون" إلخ ، معطوفة عليه . ومعنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل ويؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد وتبديل الكفر بالإيمان . فظهر وجه ذكر قوله "أم تريدون" إلخ بعد قوله تعالى "ما ننسخ" . فإن المقصود من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها .
قال الراغب : فإن قيل ما فائدة قوله "ومن يتبدل الكفر" إلخ ومعلوم أنه بدون الكفر يضل الإنسان سواء السبيل فكيف بالكفر ؟ وقيل معنى ذلك من يتبدل الكفر بالإيمان يعلم أنه قد ضل ، قبل سواء السبيل ، وفي ذلك تنبيه أن ضلاله سواء السبيل قاده إلى الكفر بعد الإيمان . ومعناه لا تسألوا رسولكم كما سئل موسى فتضلوا سواء السبيل فيؤدي بكم إلى تبديل الكفر بالإيمان . فمبدأ ذلك، الضلال عن سواء السبيل . ووجه آخر وهو أنه سمى معاندة الأنبياء عليهم السلام ، بعد حصول ما تسكن النفس إليه كفرا . إذ هي مؤدية إليه . كتسمية العصير خمرا ، فقال "ومن يتبدل" أي يطلب تبديل الكفر ، أي المعاندة التي هي مبدأ الكفر، بالإيمان أي بما حصل له من الدلالة المتقضية لسكون النفس ، فقد ضل سواء السبيل .
[ ص: 222 ] ووجه ثالث وهو أن ذلك نهاية التبكيت لمن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل . وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه .
ووجه رابع وهو أن "سواء السبيل" إشارة إلى الفطرة التي فطر الناس عليها . والإيمان إشارة إلى المكتسب من جهة الشرائع فقال "ومن يتبدل الكفر بالإيمان" أي بالإيمان المكتسب فقد أبطله ، وضيع الفطرة التي فطر الناس عليها فلا يرجى له نزوع عما هو عليه بعد ذلك .
هذا . وما قررناه في الآية من أن الخطاب للمسلمين هو ما يترجح ويكون كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ويرشحه قوله : ومن يتبدل الكفر بالإيمان فإن موقع خطابه إنما يتضح مع المؤمنين . ورجح الرازي كون الخطاب مع اليهود قال : لأن هذه السورة من أول قوله : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي حكاية عنهم ومحاجة معهم ولأنه لم يجر ذكر غيرهم في السياق ، وقد قص تعالى عنهم سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يسألك أهل الكتاب أن تنـزل عليهم كتابا الآية ، وحينئذ فمعنى تبدل الكفر بالإيمان ، وهم بمعزل من الإيمان ، إعراضهم عنه ، مع تمكنهم منه ، وإيثارهم للكفر عليه . كما أن إضافة الرسول إليهم باعتبار أنهم من أمة الدعوة .
القول في تأويل قوله تعالى :
[109 ] ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا [ ص: 223 ] علة ود من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق من صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة ما طابقه من التوراة "فاعفوا واصفحوا" أي أعرضوا عما يكون منهم من الجهل والعداوة فلا تجازوهم "حتى يأتي الله بأمره" وهو الإذن في قتالهم وإجلائهم : إن الله على كل شيء قدير فينتقم منهم إذا آن أوانه .
القول في تأويل قوله تعالى :
[110 ] وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه أي ثوابه "عند الله إن الله بما تعملون بصير" فلا يضيع عنده عمل عامل .
القول في تأويل قوله تعالى :
[111 ] وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
" وقالوا" أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى "لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" نشر لما لفته الواو في "وقالوا"، واليهود جمع هائد ، كعوذ جمع عائذ . وقرئ "إلا من كان يهوديا أو نصرانيا" . "تلك أمانيهم" جملة معترضة مبينة لبطلان ما قالوا . والأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى . كالأعجوبة والأضحوكة. فإن قيل : قولهم "لن يدخل الجنة" أمنية واحدة ، فلم قال : أمانيهم ؟ أجيب : بأن الجمع باعتبار صدوره عن الجميع . وأجاب صاحب الانتصاف بأنهم لشدة تمنيهم لهذه الأمنية ومعاودتهم لها وتأكدها في نفوسهم ، جمعت . ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم ، بالغة منهم كل مبلغ، والجمع يفيد ذلك ، وإن كان مؤداه واحدا . ونظيره قولهم : معى جياع . فجمعوا الصفة ، ومؤداها [ ص: 224 ] واحد ; لأن موصوفها واحد ، تأكيدا لثبوتها وتمكنها .
وهذا المعنى أحد ما روي في قوله تعالى : إن هؤلاء لشرذمة قليلون فإنه جمع (قليلا) ، وقد كان الأصل إفراده فيقال (لشرذمة قليلة) كقوله تعالى : كم من فئة قليلة لولا ما قصد إليه من تأكيد معنى القلة بجمعها . ووجه إفادة الجمع في مثل هذا للتأكيد ، أن الجمع يفيد بوضعه الزيادة في الآحاد ، فنقل إلى تأكيد الواحد ، وإبانة زيادته على نظرائه ، نقلا مجازيا بديعا . فتدبر هذا الفصل فإنه من نفائس صناعة البيان . والله الموفق : قل هاتوا برهانكم حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة "إن كنتم صادقين" في دعواكم . قال الرازي : دلت الآية على أن المدعي سواء ادعى نفيا أو إثباتا، فلا بد له من الدليل والبرهان ، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد ، قال الشاعر :
من ادعى شيئا بلا شاهد لا بد أن تبطل دعواه
انتهى كلام الرازي . وسبقه إلى ذلك الزمخشري حيث قال : وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين ، وإن كل قول لا دليل عليه ، فهو باطل غير ثابت . انتهى .
القول في تأويل قوله تعالى :
[112 ] بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
"بلى" إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة "من أسلم وجهه لله" من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره . وإنما عبر عن النفس بالوجه ، لأنه أشرف الأعضاء ، ومجمع المشاعر ، وموضع السجود ، ومظهر آثار الخضوع . أو المعنى : من أخلص توجهه وقصده ، بحيث لا يلوي [ ص: 225 ] عزيمته إلى شيء غيره "وهو محسن" في عمله ، موافق لهديه صلى الله عليه وسلم ، وإلا لم يقبل ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » رواه مسلم فله أجره عند ربه وهو عبارة عن دخول الجنة . وتصويره بصورة الأجر للإيذان بقوة ارتباطه بالعمل . "ولا خوف عليهم" من لحوق مكروه "ولا هم يحزنون" من فوات مطلوب . والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى "من" كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 226 الى صـ 230
الحلقة (44)
القول في تأويل قوله تعالى :
[113 ] وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه ، إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم . ومعنى "على شيء" أي أمر يعتد به من الدين "وهم يتلون الكتاب" الواو للحال . والكتاب للجنس . أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب . وحق من حمل التوراة أو الإنجيل ، أو غيرهما من كتب الله ، وآمن به ، أن لا يكفر بالباقي . لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني ، شاهد بصحته . وكذلك كتب الله جميعا متواردة على تصديق بعضها بعضا "كذلك" أي مثل ذلك الذي سمعت به على ذلك المنهاج "قال" الجهلة "الذين لا يعلمون" لا علم عندهم ولا كتاب . كعبدة الأصنام . قالوا لأهل كل دين "مثل قولهم" ليسوا على شيء . وهذا توبيخ عظيم ، حيث نظموا أنفسهم ، مع علمهم ، [ ص: 226 ] في سلك من لا يعلم .
فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أي يفصل بينهم بقضائه العدل ، فيحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه . وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد وكما قال تعالى : قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم
قال الرازي : واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن كل طائفة تكفر الأخرى . مع اتفاقهم على تلاوة القرآن . انتهى .
فها هنا تسكب العبرات بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر ، لا بسنة ولا قرآن ، ولا لبيان من الله ولا لبرهان ، بل لما غلت مراجل العصبية في الدين ، تمكن الشيطان من تفريق كلمة المسلمين .
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح
مع أن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف . ونهى عن الفرقة والاختلاف . فقال تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وقال تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا [ ص: 227 ] واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقال تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقد امتاز أهل الحق ، من هذه الأمة بالسنة والجماعة ، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعما مضت عليه جماعة المسلمين .
القول في تأويل قوله تعالى :
[114 ] ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها إنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك ، ولما وجه تعالى الذم فيما سبق في حق اليهود والنصارى ، ذيله بذم المشركين في قوله : كذلك قال الذين لا يعلمون ثم وجهه بهذه الآية أيضا للمشركين الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام ، وصدوهم أيضا عنه ، حين ذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 228 ] وأصحابه من المدينة عام الحديبية ، وكل هذا تخريب للمسجد الحرام ، لأن منع الناس من إقامة شعائر العبادة فيه ، سعي في تخريبه . وأي خراب أعظم مما فعلوا ؟ أخرجوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . واستحوذوا عليه بأصنامهم وأندادهم وشركهم ، كما قال تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون وقال تعالى : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين وقال تعالى : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله فإذا كان من آمن بالله واليوم الآخر ..إلخ مصدودا عنه ، مطرودا منه ، [ ص: 229 ] فأي خراب له أعظم من ذلك . والعمارة إحياء المكان وشغله بما وضع له . وليس المراد بعمارته، زخرفته وإقامة صورته فقط ، إنما عمارته بذكر الله فيه وإقامة شرعه فيه ورفعه عن الدنس والشرك . وإنما أوقع المنع على المساجد ، وإن كان الممنوع هو الناس لما أن المآل عائد لها . ولا يقال : كيف قيل مساجد والمراد المسجد الحرام فقط ؟ لأنه لا بأس أن يجيء الحكم عاما ، وإن كان السبب خاصا ، كما تقول، لمن آذى صالحا واحدا : ومن أظلم ممن آذى الصالحين ؟ وكما قال تعالى ويل لكل همزة لمزة والمنزول فيه واحد .
وقوله : أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام ، ويذل لهم المشركين ، حتى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفا . يخاف أن يؤخذ فيعاقب ، أو يقتل إن لم يسلم . وقد أنجز الله صدق هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام . ونادى فيهم عام حج أبو بكر رضي الله عنه : « ألا لا يحجن بعد العام مشرك » . فحج النبي صلى الله عليه وسلم من العام الثاني ظاهرا على المسجد الحرام ، لا يجترئ أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام . وهذا هو الخزي لهم في الدنيا ، المشار إليه بقوله تعالى لهم في الدنيا خزي لأن الجزاء من جنس العمل . فكما صدوا المؤمنين صدوا عنه ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو عذاب النار لما انتهكوا من حرمة البيت وامتهنوه ، من نصب الأصنام حوله ، ودعاء غير الله ، والطواف به عريا ، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله .
وفي الآية وجه آخر وهو أن الآية في ذم اليهود ، تبعا للسابق واللاحق ، وما جنوه بكفرهم على بيت المقدس من خرابه وتسليط عدوهم عليهم حتى خربه ودمر مدينتهم ، وقتل وسبى منهم ، وأسرهم [ ص: 230 ] وبقوا في الأسر البابلي سبعين سنة ؛ كل ذلك كان برفضهم كتاب الله ، والعمل بشريعته .
وفي قوله تعالى : أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين إشارة إلى رجوعهم إليه بعد الأسر على تخوف من العدو ومذلة لصقت بهم . وهو وجه وجيه . لأن لفظ "سعى" ، يرشد إلى ذلك . كما أن مفهومها يشعر بذم القائمين على الخراب بالأولى وهم النصارى ، حينما تمكنت سلطتهم انتقاما من أعدائهم اليهود .
روى ابن جرير عن مجاهد، قال في الآية : هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى . ويمنعون الناس أن يصلوا فيه . وقال قتادة : حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس . وتدل على أن أماكن العبادة تصان وتحترم ، لأنها المدرسة العامة التي تتلى فيها الحكم والأحكام ، والإرشاد إلى سبل السلام .
وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، فيما رواه الإمام أحمد عن بسر بن أرطاة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : « اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة » .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا حديث حسن وليس في شيء من الكتب الستة ، وليس لصحابيه ، وهو بسر بن أرطاة ، (ويقال ابن أبي أرطاة) حديث سواه ، وسوى حديث : « لا تقطع الأيدي في الغزو » .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 231 الى صـ 235
الحلقة (45)
القول في تأويل قوله تعالى :
[115 ] ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم بيان لشمول ملكوته لجميع الآفاق ، المتسبب عنه سعة علمه . وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر [ ص: 231 ] عن ارتكابها . وقوله تعالى : إن الله واسع عليم نظير قوله : إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان وكقوله تعالى : وهو معكم أين ما كنتم وقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم وقوله : ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما أي : عم كل شيء بعلمه وتدبيره وإحاطته به وعلوه عليه .
[ ص: 232 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[116 ] وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون
وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون يريد الذين قالوا: المسيح ابن الله ، وعزير ابن الله ، والملائكة بنات الله ، فأكذب الله تعالى جميعهم في دعواهم وقولهم : إن لله ولدا . فقال "سبحانه" أي تقدس وتنزه عما زعموا تنزها بليغا . وكلمة "بل" للإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من مجانسته سبحانه وتعالى لشيء من المخلوقات . أي ليس الأمر كما زعموا ، بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة ، والتنوين في "كل" عوض عن المضاف إليه . أي كل ما فيهما ، كائنا ما كان من أولي العلم وغيرهم "له قانتون" منقادون ، لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته ، ومن كان هذا شأنه لم يتصور مجانسته لشيء ، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد.
قال الراغب في تفسيره : نبه على أقوى حجة على نفي ذلك . وبيانها : هو أن لكل موجود في العالم ، مخلوقا طبيعيا ، أو معمولا صناعيا ، غرضا وكمالا أوجد لأجله . وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض ، كاليد للبطش ، والرجل للمشي ، والسكين لقطع مخصوص ، والمنشار للنشر ، وإن كانت اليد قد تصلح للمشي في حال ، والرجل للتناول ، لكن ليس على التمام .
والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه ، وجزء منه ، لما لم يجعل الله له سبيلا إلى بقائه بشخصه ، فجعل له بذرا لحفظ نوعه . ويقوي ذلك ، أنه لم يجعل للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذرا واستخلافا ، لما لم يجعل لها فناء النبات والحيوان .
ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم ، بلا ابتداء ولا انتهاء، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى ، ولهذا قال : سبحانه أن يكون له ولد أي هو منزه عن السبب المقتضي للولد . [ ص: 233 ] ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما ، وذلك لما تقدم ، أن الإنسان افتقر إلى نسل يخلفه لكونه غير كامل إلى نفسه - بين تعالى بقوله : له ما في السماوات والأرض أنه لا يتوهم له فقر ، فيحتاج إلى اتخاذ ما هو سد لفقره ، فصار في قوله "له ما في السماوات والأرض" دلالة ثانية ، ثم زاد حجة بقوله "قانتون" وهو أنه لما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب ، ومظاهرته كما قال : وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة بين أن كل ما في السماوات والأرض ، مع كونه ملكا له ، قانت أيضا ، إما طائعا ، وإما كارها ، وإما مسخرا . كقوله : ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وقوله : وإن من شيء إلا يسبح بحمده وهذا أبلغ حجة لمن هو على المحجة .
ثم قال الراغب : إن قيل من أين وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلى الله تعالى ؟ قيل قد ذكر في الشرائع المتقدمة : كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم الأب وعلى الكبير منهم اسم الإله ، حتى إنهم قالوا : إن الأب هو الرب الأصغر وإن الله هو الأب الأكبر ، وكانوا يريدون بذلك أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الإنسان ، وإن الأب هو السبب الأخير في وجوده وإن الأب هو معبود الابن من وجه أي مخدومه . وكانوا يقولون للملائكة : آلهة . كما [ ص: 234 ] قالت العرب للشمس : إلاهة ، وكانوا يقصدون معنى صحيحا كما يقصد علماؤنا بقولهم : الله محب ومحبوب ، ومريد ومراد ونحو ذلك من الألفاظ . كما يقال للسلطان : الملك ، وقول الناس : رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، مما يكشف عن تقدم ذلك التعارف ، ويقوي ذلك ما يروى أن يعقوب كان يقال له بكر الله ، وأن عيسى كان يقول : أنا ذاهب إلى أبي . ونحو ذلك من الألفاظ ، ثم تصور الجهلة منهم ، بأخرة ، معنى الولادة الطبيعية . فصار ذلك منهيا عن التفوه به في شرعنا ، تنزها عن هذا الاعتقاد ، حتى صار إطلاقه ، وإن قصد به ما قصده هؤلاء ، قرين الكفر ، اهـ كلام الراغب رحمه الله .
القول في تأويل قوله تعالى :
[117 ] بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
"بديع السماوات والأرض" أي مبدعهما وخالقهما على غير مثال سبق . وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له : أبدعت . ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة : مبتدع ، لأنه يأتي في دين الإسلام ، ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم ، وهذه الجملة حجة أخرى لدفع تشبثهم في ولادة عيسى بلا أب ، وعلم عزير بالتوراة بلا تعلم . وتقرير الحجة : إن الله سبحانه مبدع الأشياء كلها . فلا يبعد أن يوجد أحدا بلا أب ، أو يعلم بلا واسطة بشر . وقال الراغب : ذكر تعالى في هذه الآية حجة رابعة. شرحها : إن الأب هو عنصر للابن . منه تكون . والله مبدع الأشياء كلها ، فلا يكون عنصرا للولد ، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلا . وقوله تعالى : وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون أي : إذا أراد أمرا . والقضاء إنفاذ المقدر . والمقدر ما حد من مطلق المعلوم . قال الراغب : القضاء إتمام الشيء قولا أو فعلا ، فمن القول آية : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه [ ص: 235 ] وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ومن الفعل قوله : فقضاهن سبع سماوات في يومين وقضى فلان دينه ، وقضى نحبه ، وانقضى الأمر . (ثم قال) ونبه بقوله "وإذا قضى أمرا" على حجة خامسة وهو أن الولد يكون بنشوء وتركيب ، حالا بعد حال . وهو إذا أراد شيئا ، فقد فعل بلا مهلة. ولم يرد بـ "إذا" حقيقة الزمان ، إذ كان ذلك إشارة إلى ما قبل وجود الزمان . ولم يرد أيضا بـ "كن" حقيقة اللفظ ، ولا بالفاء التعقيب الزماني . بل استعير كل ذلك لأنه أقرب ما يتراءى لنا به سرعة الفعل وتمامه ، وذكر لفظ القضاء إذ هو لإتمام الفعل ، والأمر لكونه منطويا على اللفظ والفعل ، والقول إذ هو أخف موجد منا وأسرعه إيجادا ، ولفظ "كن" لعموم معناه واختصار لفظه ، ثم قال "فيكون" تنبيها لأنه لا يمتنع عليه شيء يريد إيجاده . و "كن فيكون" وإن كان مخرجها مخرج شيئين ، أحدهما مبني على الآخر ، فهو في الحقيقة شيء واحد . انتهى .
والذين ذهبوا إلى أن المراد بـ "كن" حقيقة اللفظ ، ورد عليهم سؤال مشهور ، وهو : إن "كن" لفظ أمر ، والأمر لا يكون إلا لموجود . فبعض أجاب بأنه أمر للشيء في حال تكونه لا قبله ولا بعده . وبعض قال : هو أمر لمعلوم له ، وذلك في حكم الموجود ، وإن كان معدوم الذات . وبعض قال : هو أمر للمعدوم . قال ويصح أمر المعدوم كما يصح أمر الموجود .
ولهم أجوبة أكثر تكلفا وتمحلا.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 236 الى صـ 240
الحلقة (46)
وقد سئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذا بأنه إن كان المخاطب بـ "كن" موجودا ، فتحصيل الحاصل محال . وإن كان معدوما ، فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ فأجاب بقوله : هذه المسألة مبنية على أصلين : أحدهما : الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلا من المخاطب ، بل هو الذي يكون المخاطب به ، ويخلقه بدون فعل من المخاطب ، أو قدرة أو إرادة أو وجود له . وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلا أو تركا يفعله بقدرة وإرادة . وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته ; إذ لا حول ولا قوة إلا بالله ؛ وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس . هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده ؟ لا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده . وكذلك تنازعوا في الأول هل هو خطاب حقيقي ؟ أم هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة ؟ . والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة . والأصل الثاني : أن المعدوم في حال عدمه ، هل هو شيء أم لا ؟ فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شيء في الخارج وذات وعين ، وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة ، وأن وجودها زائد على حقيقتها . وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة . والذي عليه جماهير الناس ، وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة ، إنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشيء أصلا ولا ذات ولا عين ، وإنه ليس في الخارج شيئان أحدهما حقيقة ، والآخر وجوده الزائد على حقيقته . فإن الله أبدع الذوات التي هي الماهيات . فكل ما سواه سبحانه مخلوق ومجعول ومبدع ومبدوء له سبحانه وتعالى . ولكن في هؤلاء من يقول : المعدوم ليس بشيء أصلا ، وإن سمي شيئا باعتبار ثبوته في العلم ، كان مجازا . ومنهم من يقول : لا ريب أن له ثبوتا في العلم ووجودا فيه، فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شيء وذات. وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت . كما فرق من قال : المعدوم شيء . ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشيء بين الممكن والممتنع ، كما فرق أولئك ; إذ قد [ ص: 237 ] اتفقوا على أن الممتنع ليس بشيء وإنما النزاع في الممكن . وعمدة من جعله شيئا ، إنما هو لأنه ثابت في العلم ، وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخبر عنه والأمر به والنهي عنه ، وغير ذلك . قالوا : وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم المحض . فإن خص الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني ، وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي ، زالت الشبهة في هذا الباب .
وقوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ذلك الشيء هو معلوم قبل إبداعه وقبل توجيه هذا الخطاب إليه . وبذلك كان مقدرا مقضيا . فإن الله سبحانه وتعالى يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة » . قال : « وعرشه على الماء » . وفي صحيح البخاري عن عمران [ ص: 238 ] بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، ثم خلق السماوات والأرض » . وفي سنن أبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب قال : رب ، وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة » . إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلوما مخبرا عنه ، مكتوبا ، فهو شيء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي ، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتا في الخارج . بل هو عدم محض ونفي صرف .
وهذه المراتب الأربعة المشهورة موجودات . وقد ذكرها الله سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع ، وإذا كان كذلك كان الخطاب موجها إلى من توجهت إليه الإرادة ، وتعلقت به القدرة ، وخلق وكون كما قال : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون فالذي يقال له "كن" هو الذي يراد ، وهو ، حين يراد قبل أن يخلق ، له ثبوت وتميز في العلم والتقدير . ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره ، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم . فإن قول السائل : إن كان المخاطب موجودا ، فتحصيل الحاصل محال . يقال له هذا إذا كان موجودا في الخارج وجوده الذي هو وجوده . ولا ريب أن المعدوم ليس موجودا ، ولا هو في نفسه ثابت . وأما ما علم وأريد وكان شيئا في العلم والإرادة والتقدير فليس وجوده في الخارج محالا ، بل [ ص: 239 ] جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة .
وقول السائل : إن كان معدوما فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ يقال له : أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال ، إذ من شرط المخاطب أن يتمكن من الفهم والفعل . والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل . فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه بمعنى أنه مطلوب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل ، ولذلك أيضا يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين . بمعنى أن يعتقد أنه شيء ثابت في الخارج وأنه يخاطب بأن يكون . وأما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه ، فليس ذلك محالا . بل هو أمر ممكن . بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه ؛ فيقدر أمرا في نفسه يريد أن يفعله وبوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب ، الذي قدره في نفسه ، ويكون حصول المراد المطلوب بحسب قدرته . فإن كان قادرا على حصوله حصل مع الإرادة والطلب الجازم . وإن كان عاجزا ، لم يحصل . وقد يقول الإنسان : ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب . فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه . والله سبحانه على كل شيء قدير ، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فإن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . انتهى .
القول في تأويل قوله تعالى :
[118 ] وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون
"وقال الذين لا يعلمون" من المشركين أو من أهل الكتاب وهو الأظهر . لأن ما تقدم ، كله في حوارهم ورد أضاليلهم ، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به : لولا [ ص: 240 ] يكلمنا الله هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى ؟ استكبارا منهم وعتوا "أو تأتينا آية" جحودا لأن يكون ما أتاهم من آيات الله، آيات، واستهانة بها : كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم أي : هذا الباطل الشنيع فقالوا : أرنا الله جهرة . وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه كما تعنت عليه تعنت على من قبله "تشابهت قلوبهم" أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد والتحكم على الأنبياء قد بينا الآيات لقوم يوقنون أي بالحق . لا تعتريهم شبهة ولا ريبة. وهذا رد لطلبهم الآية وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين المفصح عن كمال التوضيح ، مكان الإتيان الذي طلبوه ، ما لا يخفى من الجزالة . والمعنى أنهم اقترحوا آية فذة ، ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين . وإنما لم يتعرض لرد قولهم "لولا يكلمنا الله" إيذانا بأنه من ظهور البطلان بحيث لا حاجة له إلى الرد والجواب .
القول في تأويل قوله تعالى :
[119 ] إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم
إنا أرسلناك بالحق بشيرا بالثواب للمؤمنين "ونذيرا" بالعقاب للكافرين "ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" ولا نسألك عنهم : ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت وبلغت جهدك في دعوتهم ؟ كقوله : فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب وفي التعبير عنهم بصاحبية الجحيم ، دون الكفر والتكذيب ونحوهما ، وعيد شديد لهم ، وإيذان بأنهم مطبوع على قلوبهم ، لا يرجى منهم الإيمان .
والجحيم ، من أسماء النار وتطلق على النار الشديدة التأجج ، وعلى كل نار بعضها فوق بعض ، وعلى كل نار عظيمة في مهواة ، وعلى المكان الشديد الحر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 241 الى صـ 245
الحلقة (47)
القول في تأويل قوله تعالى :
[120 ] ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم أي لأنهم يريدون أن يكونوا متبوعين على الإطلاق . وفيه مبالغة في الإقناط من إسلامهم ، وتنبيه على أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز وقوعه منه ، عليه السلام "قل" لا يتبع رسول إلا الهدى "إن هدى الله" أي الذي هو الإسلام "هو الهدى" أي فليس وراءه هدى . وما تدعون إليه ليس بهدى ، بل هو هوى . كما يعرب عنه قوله "ولئن اتبعت أهواءهم" أي آراءهم الزائغة الصادرة عنهم بقضية شهوات أنفسهم "بعد الذي جاءك من العلم" بأن دين الله هو الإسلام ، أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة ما لك من الله من ولي يلي أمرك "ولا نصير" يدفع عنك عقابه . وإنما أوثر خطابه صلى الله عليه وسلم ليدخل دخولا أوليا من اتبع أهواءهم بعد الإسلام من المنافقين تمسكا بولايتهم ، طمعا في نصرتهم .
قال الإمام الرازي : وفي الآية دلالة على أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلا . فمن هذا الوجه تدل على بطلان التقليد . انتهى .
وفي فتح البيان ما نصه : وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتنصدع منه الأفئدة ، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه ، والقائمين ببيان شرائعه ترك الدهان لتاركي العمل بالكتاب والسنة ، المؤثرين لمحض الرأي عليهما . انتهى .
[ ص: 242 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[121 ] الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون
الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون لما ذكر تعالى ، فيما تقدم ، عدم رضاء اليهود والنصارى إلا باتباع ملتهم ، لدعواهم أنهم على حق ، وأنهم مؤمنون بما لديهم - فند تعالى دعواهم الإيمان به بأن من أوتي الكتاب فتلاه حق تلاوته فذاك المؤمن به . والمذكورون ممن لم يتله حق تلاوته ، لما عدد من مساوئ اليهود أولا ، وشفعه بدعوى النصارى اتخاذ الولد . ومن كان يعتقد ذلك فأنى له الإيمان ؟ وهل هو ممن يتلو الكتاب حق تلاوته؟ وكتابه يأمر بتوحيد ربه والمشي مع شريعته وتصديق كل نبي يصدق ما معهم ، وقد كفروا بكل ذلك . فجملة "يتلونه" حال مقدرة من "هم" أو من "الكتاب" . وجوز أن تكون الآية سيقت مدحا لمن آمن من أهل الكتاب بالقرآن . فالضمير في "يتلونه" للقرآن . فتكون كآية : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وكآية : قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا
ومن تلاوته حق تلاوته الإيمان بأنه حق من ربهم ، وصبرهم ودرؤهم بالحسنة السيئة ، وإنفاقهم وسجودهم له تعالى فالآيتان مفسرتان لتلاوتهم حق تلاوته .
[ ص: 243 ] وعن ابن مسعود : والذي نفسي بيده ! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ، ويقرأه كما أنزل الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله . ومثله عن ابن عباس .
وقوله تعالى "أولئك" إشارة إلى الموصوفين بإيتاء الكتاب وتلاوته كما هو حقه "يؤمنون به" محط الفائدة ما يلزم الإيمان به من الربح . بقرينة قوله : ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون حيث اشتروا الضلالة بالهدى .
القول في تأويل قوله تعالى :
[122 ] يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين [123 ] واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا أي خافوا "يوما لا تجزي" أي لا تغني "نفس عن نفس" فيه "شيئا ولا يقبل منها عدل" أي فداء "ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون" أي يمنعون من عذاب الله . وقد مر نظير الآيتين في صدر السورة .
قال القاضي : ولما صدر قصتهم بالأمر بذكر النعم ، والقيام بحقوقها ، والحذر عن إضاعتها ، والخوف من الساعة ، وأهوالها- كرر ذلك وختم به الكلام معهم ، مبالغة في النصح وإيذانا بأنه فذلكة القضية والمقصود من القصة .
[ ص: 244 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[124 ] وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين
"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" لما عاب سبحانه أهل الضلال ، وكان جلهم من ذرية إبراهيم عليه السلام ، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب ، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم- ذكر الجميع ما أنعم به عليه تذكيرا يؤدي إلى ثبوت هذا الدين باطلاع هذا النبي الأمي ، الذي لم يخالط عالما قط ، على ما لا يعلمه إلا خواص العلماء . وذكر البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم ، وأمر بأن يتخذ بعض ما هناك مصلى ، تعظيما لأمره وتفخيما لعلي قدره ، وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة ، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر- حث على الاقتداء به . وكذا في ذكر الإسلام والتوحيد ، هز لجميع من يعظمه إلى اتباعه في ذلك . ذكره البقاعي.
و "إذ" منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين. أي واذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام ، ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد ، الوازعة عن الشرك ، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم فيه من الباطل . ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على "اذكروا" خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى ، عمن ينتمون إلى ملته عن إبراهيم وبنيه عليهم السلام ، من الأفعال والأقوال ، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتهم . أي واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم ، فأتم ما ابتلاه به . فما لكم أنتم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله، في إيفاء العهد والثبات على الوعد ، لأجازيكم على ذلك جزاء المحسنين؟ والابتلاء في الأصل، الاختبار . أي تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه ، غالبا ، فعله أو تركه . والاختبار منا لظهور ما لم نعلم . ومن الله لإظهار ما قد علم . وعاقبه الابتلاء ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعا ، فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى . وقوله تعالى "بكلمات" أي بشرائع : أوامر ونواه . وللمفسرين أقاويل فيها وفي [ ص: 245 ] تعدادها . قال ابن جرير: ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين ، إلا بحديث أو إجماع . قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له . انتهى .
وعندي أن الأقرب في معنى الكلمات هو ابتلاؤه بالإسلام ، فأسلم لرب العالمين وابتلاؤه بالهجرة ، فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله . وابتلاؤه بالنار فصبر عليها ، ثم ابتلاؤه بالختان فصبر عليه ، ثم ابتلاؤه بذبح ابنه فسلم واحتسب .
كما يؤخذ ذلك من تتبع سيرته في التنزيل العزيز ، وسفر التكوين من التوراة . ففيهما بيان ما ذكرناه في شأنه عليه الصلاة والسلام . من قيامه بتلك الكلمات حق القيام ، وتوفيتهن أحسن الوفاء . وهذا معنى قوله تعالى "فأتمهن" كقوله تعالى : وإبراهيم الذي وفى والإتمام التوفية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 246 الى صـ 250
الحلقة (48)
"قال" جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الكلام . فكأنه قيل : فما جوزي على شكره ؟ قيل : قال له ربه: إني جاعلك للناس إماما أي قدوة لمن بعدك . والإمام اسم لمن يؤتم به ، ولم يبعث بعده نبي إلا كان مأمورا باتباع ملته ، وكان من ذريته . كما قال تعالى : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب "قال" أي إبراهيم "ومن ذريتي" أي واجعل من ذريتي أئمة "قال لا ينال" أي قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك . لكن لا ينال "عهدي" أي الذي عهدته إليك بالإمامة "الظالمين" أي منهم . لأنهم نفوا أنفسهم عنك في أبوة الدين . ففي قوله "لا ينال" .. إلخ إجابة خفية لدعوته عليه السلام . وعدة إجمالية منه تعالى بتشريف بعض ذريته بنيل عهد الإمامة . كما قال تعالى : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه ، [ ص: 246 ] لا سيما للذين دعوا قبلها إلى الوفاء بالعهد ، وإشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما أدام رفعته ، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته ، فضربت عليهم الذلة وما معها ، ولا يجزى أحد عنهم شيئا ولا هم ينصرون . وقرئ "الظالمون" على أن "عهدي" مفعول مقدم اهتماما ورعاية للفواصل .
وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة . والكشاف أوسع المقال ، في ذلك ، هنا ، وأبدع في إيراد الشواهد . كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم في وجوب العصمة في الأئمة ، ظاهرا وباطنا . على ما نقله الرازي عنهم وحاورهم .
أقول : إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ . إلا أن الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك .
المراد بالعهد ، تلك الإمامة المسؤول عنها ، وهل كانت إلا الإمامة في الدين وهي النبوة التي حرمها الظالمون من ذريته ؟ كما قال تعالى : وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ولو دلت الآية على ما ادعوا لخالفه الواقع . . . فقد نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين . فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصة . والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل . لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق ؛ أو ذهاب إلى أن الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم . كما قاله بعضهم . وهو أشد تمحلا . ومعلوم أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع ، كما ورد . ومتى زاغ عن ذلك كان ظالما ، والبحث في ذلك له غير هذا المقام . وبالله التوفيق .
القول في تأويل قوله تعالى :
[125 ] وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود
"وإذ جعلنا البيت" أي الذي بناه إبراهيم بأم القرى . وهو اسم غالب للكعبة. كالنجم [ ص: 247 ] للثريا "مثابة للناس" مباءة ومرجعا للحجاج والعمار ، يتفرقون عنه ثم يتوبون إليه . ومثابة مفعلة من (الثوب) وهو الرجوع تراميا إليه بالكلية . وسر هذا التفضيل ظاهر في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها له . فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد فهو الأولى بقول القائل :
محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال
فهم يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار . ولا يقضون منه وطرا . بل كلما ازدادوا له زيارة ، ازدادوا له اشتياقا .
لا يرجع الطرف عنها حين يبصرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا
فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح ! وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ! ورضي المحب بمفارقة فلذ الأكباد والأهل والأحباب والأوطان ، مقدما بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطب والمشاق ، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه !
ذكر هذه الشذرة (الإمام ابن القيم في أوائل زاد المعاد).
"وأمنا" موضع أمن . كقوله : حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم وكقوله : ومن دخله كان آمنا وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون . وكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له . وفي هذا بيان شرف البيت من كونه محلا تشتاق إليه الأرواح ولا تقضي منه وطرا ، ولو ترددت إليه كل [ ص: 248 ] عام ، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله في قوله : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم إلى أن قال : ربنا وتقبل دعاء ومن كونه مأمنا لمن دخله . كما بينا .
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : « إن هذا بلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض . وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار » . الحديث .
وقوله تعالى : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قرئ بكسر الخاء ، أمرا معترضا بين الجملتين الخبريتين . أو بتقدير : وقلنا اتخذوا . وقرئ بفتح الخاء ماضيا معطوفا على جعلنا . أي : واتخذوه مصلى ، ومقام إبراهيم هو الحرم كله . عن مجاهد . وعنه : هو جمع ومزدلفة ومنى ومكة . ويقال : هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام . فقد قال قتادة : إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه . ولقد تكلفت الأمم شيئا مما تكلفته الأمم قبلها .
[ ص: 249 ] قال الراغب الأصفهاني : والأولى أنه الحرم كله . فما من موضع ذكروه إلا هو مصلى ، أو مدعى أو موضع صلاة .
أقول : كان الأصل في الآية : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ومصلى . إلا أنه عدل إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك ، ودون أن يقال مثلا : واتخذوا منه مصلى - لوجوه :
(أحدها) التنويه بأمر الصلاة فيه والتعظيم لشأنها حيث أفرد ، للعناية بها ، جملة على حدة.
(وثانيها) التذكير بأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة . وما كان مقامه فجدير أن يحترم ويعظم .
(وثالثها) التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر ، تمهيدا للأمر باستقباله ، وإلزاما لمن جادل فيه ، وهم اليهود . وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال ابن كثير : ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة . وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه السلام عليه عند بناء البيت ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار ، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى ، يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه ، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها . وهكذا حتى تم جدران الكعبة ، كما جاء بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري .
[ ص: 250 ] قال ابن كثير : وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما . ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك ، وكأن الخليل عليه السلام ، لما فرغ من بناء البيت ، وضعه إلى جدار الكعبة ، أو أنه انتهى عنده البناء ، فتركه هناك . ولهذا - والله أعلم - أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف . وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه . كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لما قدم مكة طاف بالبيت سبعا ، وجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين .
قال ابن كثير : وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر رضي الله عنه . ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة . وقد روى البيهقي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت : إن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقا بالبيت ، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وقال سفيان بن عيينة ، وهو إمام المكيين في زمانه : كان المقام من سقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم . قال : ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه . وقال سفيان : لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله : وقال أيضا : لا أدري أكان لاصقا بها أم لا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 251 الى صـ 255
الحلقة (49)
وأثر عائشة المتقدم يدل على أنه كان لاصقا بها . والله أعلم . وقال الحافظ الشيخ عمر بن الحافظ التقي محمد بن فهد المكي الهاشمي ، في كتاب (إتحاف الورى بأخبار أم القرى) في حوادث سنة سبع عشرة : فيها جاء سيل عظيم يعرف بسيل أم نهشل من أعلى مكة من طريق الردم ، فدخل المسجد الحرام واقتلع مقام [ ص: 251 ] إبراهيم من موضعه ، وذهب به حتى وجد بأسفل مكة ، وعين مكانه الذي كان فيه لما عفاه السيل ، فأتي به وربط بلصق الكعبة في وجهها . وذهب السيل بأم نهشل بنت عبيدة بن سعد بن العاص بن أمية . فماتت فيه واستخرجت بأسفل مكة ، وكان سيلا هائلا . فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالمدينة الشريفة ، فهاله ذلك . وركب فزعا إلى مكة . فدخلها بعمرة في شهر رمضان . فلما وصل إلى مكة وقف على حجر المقام وهو ملصق بالبيت الشريف . ثم قال : أنشد الله عبدا عنده علم في هذا المقام ! . فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي رضي الله عنه : أنا يا أمير المؤمنين عندي علم ذلك ، فقد كنت أخشى عليه مثل هذا الأمر ، فأخذت قدره من موضعه إلى باب الحجر . ومن موضعه إلى زمزم بمقاط . وهي عندي في البيت . فقال له عمر : اجلس عندي وأرسل إليها من يأتي بها . فجلس عنده وأرسل إليها فأتي بها . فقيس ، ووضع حجر المقام في هذا المحل الذي هو فيه الآن . وأحكم ذلك واستمر إلى الآن . انتهى : وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أي أمرناهما . وتعديته بـ "إلى" لأنه في معنى : تقدمنا وأوحينا "أن طهرا بيتي" أي عن كل رجس حسي ومعنوي: فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع ، أو ابنياه على طهر من الشرك بي . كما قال تعالى : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود أو أخلصاه للطائفين وما بعده، لئلا يغشاه غيرهم . فاللام صلة "طهرا" على هذا . وعلى ما قبله ، لام العلة . أي طهراه لأجلهم . وقوله تعالى "للطائفين" أي حوله . وعن سعيد بن جبير : يعني من أتاه من غربة "والعاكفين" يعني أهله المقيمين فيه أو المعتكفين . كما روى ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال : قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير : ما أراني إلا مكلم الأمير : أن امنع الذين ينامون في المسجد الحرام . فإنهم يجنبون ويحدثون . قال : لا تفعل فإن ابن عمر سئل [ ص: 252 ] عنهم فقال : هم العاكفون . ورواه عبد بن حميد في مسنده . وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب .
وفي الكشاف: يجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين . يعني القائمين في الصلاة .
كما قال للطائفين والقائمين "والركع السجود" جمع راكع وساجد والمعنى للطائفين والمصلين . لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي . ولتقارب الأخيرين ذاتا وزمانا ترك العاطف بين موصوفيهما . وجمع صفتين جمع سلامة ، وأخريين جمع تكسير لأجل المقابلة . وهو نوع من الفصاحة . وأخر صيغة (فعول) على (فعل) ; لأنها فاصلة. والمراد من الآية الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له . ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ففي ذلك تبكيت لهم وتنبيه على توبيخهم بترك دينه .
القول في تأويل قوله تعالى :
[126 ] وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير
"وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا" أي الموضع الذي جعلت فيه بيتك وأمرتني [ ص: 253 ] بأن أسكنته من ذريتي "بلدا" أي يأنس من يحل به "آمنا" أي من الخوف . أي لا يرعب أهله. وقد أجاب الله دعاءه . كقوله تعالى ومن دخله كان آمنا وقوله : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون إلى غير ذلك من الآيات . وصحت أحاديث متعددة بتحريم القتال فيه ، وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح » فهو آمن من الآفات ، لم يصل إليه جبار إلا قصمه الله . كما فعل بأصحاب الفيل . وقوله تعالى في سورة إبراهيم : هذا البلد آمنا بتعريف البلد مع جعله صفة لهذا ، خلاف ما هنا ، إما أن يحمل على تعدد السؤال بأن تكون الدعوة الأولى المذكورة هنا ، وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلدا . كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلدا آمنا . لأنه تعالى حكى عنه أنه قال : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع فقال ، ههنا ، اجعل هذا الوادي بلدا آمنا . والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدا . فكأنه قال : اجعل هذا [ ص: 254 ] المكان الذي صيرته بلدا ذا أمن وسلامة . وإما أن يحمل على وحدة السؤال وتكرر الحكاية كما هو المتبادر . فالظاهر أن المسؤول كلا الأمرين . وقد حكى ذلك هنا . واقتصر هناك على حكاية سؤال الأمن ، اكتفاء عن حكاية سؤال البلدية بحكاية سؤال اجعل أفئدة الناس تهوي إليه ، هذا خلاصة ما حققوه .
وعندي أن السؤال والمسؤول واحد . إلا أنه تفنن في الموضعين . فحذف من كل ما أثبته في الآخر احتباكا . والأصل : رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا . وبه تتطابق الدعوتان على أبدع وجه وأخلصه من التكلف . على ما فيه من إفادة المبالغة . أي بلدا كاملا في الأمن : كأنه قيل: اجعله بلدا معلوم الاتصاف بالأمن مشهورا به كقولك: كان هذا اليوم يوما حارا . وفي القاموس وشرحه التاج : البلد والبلدة علم على مكة ، شرفها الله تعالى ، تفخيما لها . كالنجم للثريا . وكل قطعة من الأرض مستحيزة عامرة أو غامرة خالية أو مسكونة . وفي النهاية: البلد من الأرض ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء. وارزق أهله من الثمرات إنما سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك ، لأن مكة لم يكن بها زرع ولا ثمر ، فاستجاب الله تعالى له ، فصارت يجبى إليها ثمرات كل شيء "من آمن منهم بالله واليوم الآخر" بدل من "أهله" ، بدل البعض ، يعني : ارزق المؤمنين من أهله خاصة . وإنما خصهم بالدعاء إظهارا لشرف الإيمان ، واهتماما بشأن أهله ، ومراعاة لحسن الأدب في المسألة . حيث ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين ، في باب الإمامة ، في قوله "لا ينال عهدي الظالمين" بعد أن سأل ، عليه السلام ، جعلها في ذريته ، فلا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء ، وفيه ترغيب لقومه في الإيمان ، وزجر عن الكفر "قال" الله تعالى معلما أن شمول الرحمانية بأمن الدنيا ورزقها لجميع عمرة الأرض "ومن كفر" أي أنيله أيضا ما ألهمتك من الدعاء بالأمن والرزق ، فهو عطف على مفعول فعل محذوف ، دل الكلام عليه . ويجوز أن تكون "من" مبتدأ موصولة أو شرطية . وقوله "فأمتعه" خبره أو جوابه . وعبر عن رزقه [ ص: 255 ] بالمتعة التي هي الزاد القليل والبلغة ، تخسيسا له ، وأكد ذلك بقوله "قليلا" تمتيعا قليلا ، أو زمانا قليلا "ثم أضطره إلى عذاب النار" أي ألجئه إليه كما قال تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا و : يوم يسحبون في النار على وجوههم وقرئ فأمتعه قليلا ثم أضطره ، بلفظ الأمر فيهما على أنهما من دعاء إبراهيم عليه السلام ، وفي "قال" ضميره "وبئس المصير" النار أو عذابها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 256 الى صـ 260
الحلقة (50)
القول في تأويل قوله تعالى :
[127 ] وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل أي اذكر بناءهما البيت ورفعهما القواعد منه . وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية ، لاستحضار صورتها العجيبة ، والقواعد : جمع قاعدة ، وهي الأساس والأصل لما فوقه ، وقال الزجاج : القواعد : أساطين البناء التي تعمده "ربنا تقبل منا" على إرادة القول أي : يقولان ، وترك مفعول "تقبل" ليعم الدعاء وغيره من القرب والطاعات ، التي من جملتها ما هما بصدده من البناء . كما يعرب عنه جعل الجملة الدعائية حالية "إنك أنت السميع" لدعائنا "العليم" بضمائرنا ونياتنا .
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس في حديث مجيء إبراهيم لتفقد إسماعيل عليهما السلام ، ثم قال : يا إسماعيل ! إن الله قد أمرني بأمر ، قال : فاصنع ما أمرك ربك ، قال : وتعينني ؟ [ ص: 256 ] قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا ، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها . قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة ، وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء ، جاء بهذا الحجر ، فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم قال فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت ، وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .
القول في تأويل قوله تعالى :
[128 ] ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم
"ربنا واجعلنا مسلمين لك" مخلصين لك أوجهنا . من قوله : أسلم وجهه لله . أو مستسلمين ، يقال : أسلم له وسلم ، واستسلم ، إذا خضع وأذعن . والمعنى : زدنا إخلاصا أو إذعانا لك "ومن ذريتنا" واجعل من ذريتنا "أمة مسلمة لك" و "من" للتبعيض ، أو للتبيين ، كقوله : وعد الله الذين آمنوا منكم وإنما خصا الذرية بالدعاء ، لأنهم أحق بالشفقة ، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع "وأرنا مناسكنا" أي عرفنا متعبداتنا ، جمع منسك بفتح السين وكسرها ، وهو المتعبد ، وشرعة العبادة . يقع على المصدر والزمان والمكان ، من النسك مثلثة وبضمتين وهو العبادة والطاعة ، وكل ما تقرب به إلى الله تعالى .
ومن المفسرين من حمل المناسك على مناسك الحج لشيوعها في أعماله ومواضعه . فالإراءة حينئذ لتعريف تلك الأعمال والبقاع ، وقد رويت آثار عن بعض الصحابة والتابعين تتضمن أن [ ص: 257 ] جبريل أرى إبراهيم المناسك وأن الشيطان تعرض له ، فرماه عليه السلام . قالوا : وفي ذلك ظهور لشرف عمل الحج ، حيث كان متلقى عن الله بلا واسطة ، لكونه علما على آتي يوم الدين ، حيث لا واسطة هناك بين الرب والعباد . والذي عول عليه أئمة اللغة ما ذكرناه أولا من حمل المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى ، واللزوم لما يرضيه ، وجعل ذلك عاما لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام . أي علمنا كيف نعبدك وأين نعبدك ، وبماذا نتقرب إليك ، حتى نخدمك كما يخدم العبد مولاه ؟ وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم هذا الدعاء استتابة لما فرط من التقصير . فإن العبد ، وإن اجتهد في طاعة ربه ، فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه، إما على سبيل السهو والنسيان ، أو على سبيل ترك الأولى ، فالدعاء منهما ، عليهما السلام ، لأجل ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى :
[129 ] ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم هذا إخبار عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولا منهم ، أي من ذرية إبراهيم ، وهم العرب من ولد إسماعيل . وقد أجاب الله تعالى لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة ، فبعث في ذريته رسولا منهم ، وهو محمد ، صلى الله عليه وآله وسلم ، إلى الناس كافة ، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه دعوة إبراهيم ، ومراده هذه الدعوة ; وذلك فيما خرجه الإمام أحمد عن العرباض بن سارية، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني ، عند الله ، لخاتم النبيين ، وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته ، [ ص: 258 ] وسأنبئكم بأول ذلك : أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يرين » . وأخرج أيضا نحوه عن أبي أمامة ، قال : قلت : يا نبي الله ! ما كان أول بدء أمرك ؟ قال : « دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بي ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منها قصور الشام » .
والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام ، ولم يزل ذكره في الناس مشهورا حتى أفصح باسمه عيسى ابن مريم ، عليهما السلام ، حيث قال : إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وهذا معنى قوله في الحديث : « دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ابن مريم » . وقوله فيه « ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منها قصور الشام » . قيل : كان منها ما رأته حين حملت به ، وقصته على قومها ، فشاع فيهم واشتهر بينهم ، وكان ذلك توطئة وإرهاصا . وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام ، ولهذا يكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله ، وبها ينزل عيسى ابن مريم -إذا نزل بدمشق- بالمنارة الشرقية البيضاء منها .
ولهذا جاء في الصحيحين : « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله ، وهم كذلك » وفي صحيح البخاري « وهم بالشام » وقوله تعالى : يتلو عليهم آياتك هي إما الفرقان الذي أنزل على [ ص: 259 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، المتلو عليهم ، وإما الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته تعالى . ومعنى تلاوته إياها عليهم أنه كان يذكرهم بها ، ويدعوهم إليها ، ويحملهم على الإيمان بها . وقوله تعالى "ويعلمهم الكتاب" أي الكامل الشامل لكل كتاب وهو القرآن و"الحكمة" هي السنة ، فسرها بها كثيرون . وعن مالك: هي معرفة الدين ، والفقه فيه ، والاتباع له . وقوله تعالى "ويزكيهم" أي يطهرهم من الشرك ، وسائر الأرجاس ، كقوله : ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث
[ ص: 260 ] ولما ذكر عليه السلام هذه الدعوات ، ختمها بالثناء على الله تعالى فقال : إنك أنت العزيز الحكيم والعزيز ذو العزة وهي القوة ، والشدة ، والغلبة ، والرفعة ، و "الحكيم" بمعنى الحاكم ، أو بمعنى الذي يحكم الأشياء ويتقنها ، وكلاهما من أوصافه تعالى .
قال الراغب: إن قيل ما وجه الترتيب في الآية ؟ قيل : أما الآيات فهي الآيات الدالة على معجز النبي صلى الله عليه وسلم . وذكر التلاوة لما كان أعظم دلالة نبوته متعلقا بالقرآن . وأما الترتيب ، فلأن أول منزلة النبي صلى الله عليه وسلم بعد ادعاء النبوة ، الإتيان بالآيات الدالة على نبوته ، ثم بعده تعليمهم الكتاب ، أي تعريفهم حقائقه لا ألفاظه فقط ، ثم بتعليمهم الكتاب يوصلهم إلى إفادة الحكمة ، وهي أشرف منزلة العلم ، ولهذا قال : ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ثم بالتدرج في الحكمة يصير الإنسان مزكى أي مطهرا مستصلحا لمجاورة الله عز وجل . انتهى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 261 الى صـ 265
الحلقة (51)
القول في تأويل قوله تعالى :
[130 ] ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه هذا إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم ، وهو ما جاء به محمد [ ص: 261 ] صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك تعريض بمعاندي أهل الكتاب والمشركين ، أي لا يرغب عن ملته الواضحة الغراء إلا من سفه نفسه ، أي : حملها على السفه وهو الجهل .
قال الراغب : وسفه نفسه أبلغ من جهلها ، وذاك أن الجهل ضربان : جهل بسيط ، وهو أن لا يكون للإنسان اعتقاد في الشيء . وجهل مركب وهو أن يعتقد في الحق أنه باطل ، وفي الباطل أنه حق . والسفه أن يعتقد ذلك ويتحرى بالفعل مقتضى ما اعتقده . فبين تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم ، فإن ذلك لسفه نفسه ، وذلك أعظم مذمة ، فهو مبدأ كل نقيضة ، وذاك أن من جهل نفسه ، جهل أنه مصنوع ، وإذا جهل كونه مصنوعا جهل صانعه ، وإذا لم يعلم أن له صانعا ، فكيف يعرف أمره ونهيه ، وما حسنه وقبحه ؟ ولكون معرفتها ذريعة إلى معرفة الخالق جل ثناؤه ، قال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون وقال : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم
وقوله تعالى : ولقد اصطفيناه في الدنيا أي اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإمامة ، وتكثير الأنبياء من نسله ، وإعطاء الخلة ، وإظهار المناسك عليه ، وجعل بيته آمنا ، ذا آيات بينات إلى يوم القيامة وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين لهم الدرجات العلى ، وفي هذا أكبر تفخيم لرتبة الصلاح ، حيث جعله من المتصفين بها ، فهو حقيق بالإمامة ، لعلو رتبته عند الله تعالى في الدارين ، ففي ذلك أعظم ترغيب قي اتباع دينه ، والاهتداء بهديه . وأشد ذم لمن خالفه .
قال الراغب : إن قيل كيف وصفه بالاصطفاء في الدنيا ، وبالصلاح في الآخرة ، والنظر يقتضي عكس ذلك . فإن الصلاح وصف يرجع إلى الفعل ، وذلك يكون في الدنيا ، والاصطفاء [ ص: 262 ] حال يستحقه العبد بكونه صالحا ، فحقه أن يكون في الآخرة ؟
قيل : الاصطفاء ضربان ، أحدهما كما قلت ، والآخر في الدنيا ، وهو اختصاص الله بعض العبيد بولايته ونبوته بخصوصية فيه ، وهو المعني بقوله : شاكرا لأنعمه اجتباه والصلاح وإن اعتبر بأحوال الدنيا ، فمجازى به في الآخرة ، فبين تعالى أنه مجتبى في الدنيا لما علم الله من حكمته فيه ، ومحكوم له في الآخرة ، بصلاحه في الدنيا ، تنبيها أن الثواب في الآخرة لم يستحقه باصطفائه في الدنيا ، وإنما استحقه بصلاحه فيها . ويجوز أن يكون قوله "في الآخرة" أي في أفعال الآخرة لمن الصالحين . ويجوز أنه عنى بقوله "في الدنيا" حال بقائه ، و"في الآخرة" أي حال وفاته ، ويكون الإشارة بصلاحه إلى الثناء الحسن عليه ، الذي رغب إلى الله تعالى فيه بقوله : واجعل لي لسان صدق في الآخرين ويجوز أنه لما كان الناس ثلاثة أضرب: ظالم ، ومقتصد ، وسابق ، عبر عن السابق بالصالح ، فكل سابق إلى طاعة الله ورحمته صالح . انتهى.
وكل ذلك تذكير لأهل الكتاب بما عندهم من العلم بأمر هذا النبي الكريم ، وإقامة للحجة عليهم ، لأن أكثر ذلك معطوف على "اذكروا" في قوله : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي
[ ص: 263 ] ولما ذكر إمامته عليه السلام ، ذكر ما يؤتم به فيه ، وهو سبب اصطفائه وصلاحه ، وذلك دينه ، وما أوصى به بنيه ، وما أوصى به بنوه بنيهم سلفا عن خلف ، ولا سيما يعقوب عليه السلام المنوه بنسبة أهل الكتاب إليه فقال :
القول في تأويل قوله تعالى :
[131 ] إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين
"إذ" أي اصطفيناه لأنه "قال له ربه أسلم" أي لربك ، أي انقد له ، وأخلص نفسك له ، أو استقم على الإسلام ، واثبت على التوحيد "قال أسلمت لرب العالمين" وظاهر النظم الكريم أن القول حقيقي ، وليس في ذلك مانع ، ولا ما جاء ما يوجب تأويله . وقول بعضهم : هو تمثيل، والمعنى : أخطر بباله دلائل التوحيد المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام- ليس بشيء . ولا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز ، إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما .
القول في تأويل قوله تعالى :
[132 ] ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون
"ووصى بها إبراهيم بنيه" شروع في بيان تكميله عليه السلام لغيره ، إثر بيان كماله في نفسه . والتوصية التقدم إلى الغير في الشيء النافع المحمود عاقبته ، والضمير في "بها" إما عائد لقوله "أسلمت لرب العالمين" على تأويل الكلمة والجملة . ونحوه رجوع الضمير في قوله : وجعلها كلمة باقية إلى قوله : إنني براء مما تعبدون [ ص: 264 ] إلا الذي فطرني وقوله "كلمة" دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة . وإما عائد إلى الملة في قوله : ومن يرغب عن ملة إبراهيم وأيد الأول بكون الموصى به مطابقا في اللفظ لأسلمت ، وقرب المعطوف عليه . ورجح القاضي الثاني لكون المرجع مذكورا صريحا ، ورد الإضمار إلى المصرح بذكره ، إذا أمكن ، أولى من رده إلى المدلول والمفهوم . ولكون الملة أجمع من تلك الكلمة . والكل حسن . وقوله تعالى "بنيه" تفيد صيغة الجمع أن لإبراهيم عليه السلام من الولد غير إسماعيل وإسحاق . وقرأت في سفر التكوين من التوراة أن إبراهيم عليه السلام تزوج ، بعد وفاة سارة أم إسحاق ، امرأة أخرى اسمها قطورة ، فولدت له : زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق وشوحا ، فعلى هذا تكون بنوه عليه السلام ثمانية "ويعقوب" معطوف على إبراهيم ، ومفعوله محذوف تقديره : ووصى يعقوب بنيه . لأن يعقوب أوصى بنيه أيضا كما أوصى إبراهيم بنيه . ودليل ذلك قوله تعالى : إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي كما سيأتي . وقرئ "ويعقوب" بالنصب عطفا على بنيه ، ومعناه : ووصى بها إبراهيم بنيه ، ونافلته يعقوب . وقد ولد يعقوب في حياة جده إبراهيم ، وأدرك من حياته خمس عشرة سنة ، كما يستفاد من سفر التكوين من التوراة ، فإن فيها أن إبراهيم عليه السلام ، ولد له إسحاق [ ص: 265 ] وهو ابن مائة سنة ، ومات وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة ، وكان لإسحاق ، حين ولد له يعقوب وعيسو ، ستون سنة ، فاستفيد من ذلك ما ذكرناه . ولوجود يعقوب في حياة جده يفهم سر ذكره في قوله تعالى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب وفي آية أخرى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة "يا بني" أي قال كل من إبراهيم ويعقوب ، على القراءة الأولى . وعلى الثانية : قال إبراهيم : يا بني إن الله اصطفى لكم الدين أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان ، وهو دين الإسلام ، الذي لا دين غيره عند الله تعالى "فلا" أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم : لا "تموتن إلا وأنتم مسلمون" وفي هذه الجملة إيجاز بليغ . والمراد : الزموا الإسلام ، ولا تفارقوه حتى تموتوا . وهذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي لا تموتوا على حالة إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام . فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا ، لأنه هو المقدور . فلا يقال : صيغة النهي موضوعة لطلب الكف عما هو مدلولها، فيكون المفهوم منه النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام ، وذا ليس بمقصود ، لأنه غير مقدور . وإنما المقدور فيه هو الكون على خلاف حال الإسلام ، فيعود النهي إليه ، ويكون المقصود النهي عن الاتصاف بخلاف [ ص: 266 ] حال الإسلام وقت الموت ، لما أن الامتناع عن الاتصاف بتلك الحال يتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال . فإما أن يقال : استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني ، فيكون مجازا . أو يقال : استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه ، فيكون كناية.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 266 الى صـ 270
الحلقة (52)
قال الزمخشري : ونظير ذلك قولك : لا تصل إلا وأنت خاشع ، فلا تنهاه عن الصلاة ، ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته ، والنكتة في إدخال حرف النهي عما ليس بمنهي عنه ، هو إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام ، موت لا خير فيه ، وأنه ليس بموت السعداء ، وأن من حق هذا الموت أن لا يحل فيهم . كما تقول في الأمر : مت وأنت شهيد ، فليس مرادك الأمر بالموت ، ولكن بالكون على صفة الشهداء إذا مات . وإنما أمرته بالموت اعتدادا منك بميتته ، وإظهارا لفضلها على غيرها ، وإنها حقيقة بأن يحث عليها . هذا . وقد قرر سبحانه بهذه الآيات بطلان ما عليه المتعنتون من اليهودية والنصرانية ، وبرأ خليله والأنبياء من ذلك . ولما حكى عنإبراهيم عليه السلام أنه بالغ في وصية بنيه بالدين والإسلام ، ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك تأكيدا للحجة على اليهود والنصارى ومبالغة في البيان بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :
[133 ] أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون
أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت أي ما كنتم حاضرين حينئذ ، فـ "أم" منقطعة مقدرة بـ "بل" ، والهمزة ، وفي الهمزة الإنكار المفيد للتقريع والتوبيخ . والشهداء جمع شهيد أو شاهد بمعنى الحاضر ، وحضور الموت حضور مقدماته "إذ قال" أي يعقوب [ ص: 267 ] "لبنيه" وهم : رأوبين ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، ويساكر ، وزبولون ، ويوسف ، وبنيامين ، ودان ، ونفتالي ، وجاد ، وأشير ، وهم الأسباط الآتي ذكرهم "ما تعبدون من بعدي" أي أي شيء تعبدونه بعد موتي ، وأراد بسؤاله تقريرهم على التوحيد والإسلام ، وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما : قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عطف بيان لآبائك ، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه . لأن العم أب والخالة أم ، لانخراطهما في سلك واحد ، وهو الأخوة ، لا تفاوت بينهما ، ومنه حديث الترمذي عن علي كرم الله وجهه ، رفعه « عم الرجل صنو أبيه » أي لا تفاوت بينهما ، كما لا تفاوت بين صنوي النخلة . وفي الصحيحين عن البراء ، رفعه : « الخالة بمنزلة الأم » ؛ وروى ابن سعد عن محمد بن علي مرسلا : « الخالة والدة » .
[ ص: 268 ] "إلها واحدا" بدل من إله آبائك ، كقوله تعالى : بالناصية ناصية كاذبة خاطئة أو على الاختصاص ، أي نريد بإله آبائك إلها واحدا ، وفي ذلك تحقيق للبراءة من الشرك ، للتصريح بالتوحيد . ثم أخبروا بعد توحيدهم بإخلاصهم في عبادتهم ، بقولهم "ونحن له" أي وحده لا لأب ولا غيره "مسلمون" أي مطيعون خاضعون ، كما قال تعالى : وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة ، وإن تنوعت شرائعهم ، واختلفت مناهجهم ، كما قال تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون والآيات في هذا كثيرة ، والأحاديث . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : « نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ، ديننا واحد » وقد اشتمل نبأ وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام لبنيهما على دقائق مرغبة في الدين . منها أنه تعالى لم يقل : « وأمر إبراهيم بنيه » بل قال "وصاهم" . ولفظ الوصية أوكد من الأمر ، لأن الوصية عند الخوف من الموت ، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم ، فدل على الاهتمام بالوصي به ، والتمسك به .
ومنها تخصيص بنيهما بذلك ، وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم ، فلما خصاهم بذلك في آخر عمرهما علمنا أن اهتمامهما [ ص: 269 ] بذلك كان أشد من اهتمامهما بغيره .
ومنها أنهما ، عليهما السلام ، ما مزجا بهذه الوصية وصية أخرى ، وهذا يدل على شدة الاهتمام أيضا . إلى دقائق أخرى أشار إليها الفخر ، عليه الرحمة .
القول في تأويل قوله تعالى :
[134 ] تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون
"تلك" إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وبنيهما الموحدين "أمة" أي : جيل وجماعة "قد خلت" أي : سلفت ومضت "لها ما كسبت" في إسلامها من الاعتقادات والأعمال والأخلاق "ولكم ما كسبتم" أي مما أنتم عليه من الهوى خاص بكم ، لا يسألون هم عن أعمالكم "ولا تسألون عما كانوا يعملون" والمعنى أن أحدا لا ينفعه كسب غيره متقدما كان أو متأخرا . فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا ، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم . فما اقتص عليكم أخبارهم ، وما كانوا عليه من الإسلام والدعوة إليه ، إلا لتفعلوا ما فعلوه ، فتنتفعوا . وإن أبيتم ، لم تنتفعوا بأعمالهم .
قال الرازي : الآية دالة على بطلان التقليد ، لأن قوله "لها ما كسبت" يدل على أن كسب كل أحد يختص به ، ولا ينتفع به غيره ، ولو كان التقليد جائزا ، لكان كسب المتبوع نافعا للتابع ، فكأنه قال : إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلبا منكم أن تقلدوهم ، ولكن لتنبهوا على ما يلزمكم ، فتستدلوا وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق . انتهى .
ومعلوم أن اتباع الأنبياء عليهم السلام ، والإيمان بهم ، لا يسمى تقليدا ، لخروجه عن حده المقرر في كتب الأصول .
ثم أخبر تعالى أنهم اعتاضوا عن الاهتداء بالأصفياء من أسلافهم ، بأن صاروا دعاة إلى الكفر ، مع بيان بطلان ما هم عليه من كل وجه بقوله :
[ ص: 270 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[135 ] وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
"وقالوا" أي الفريقان من أهل الكتاب "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل" نتبع "ملة إبراهيم" ونستن بسنته لا نحول عنها كما تحولتم "حنيفا" أي مستقيما أو مائلا عن الباطل إلى الحق ، لأن الحنف، محركة، يطلق على الاستقامة ، ومنه قيل للمائل الرجل أحنف ، تفاؤلا بالاستقامة كما قالوا للديغ : سليم . وللمهلكة : مفازة . ويطلق على ميل في صدر القدم ، واعوجاج في الرجل ، فالحنيف المستقيم على إسلامه لله تعالى ، المائل عن الشرك إلى دين الله سبحانه .
ولما أثبت إسلامه بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله "وما كان من المشركين" وفيه تعريض بأهل الكتاب ، وإيذان ببطلان دعواهم اتباعه عليه السلام ، مع إشراكهم بقولهم : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، وقد أفادت هذه الآية الكريمة أن ما عليه الفريقان محض ضلال وارتكاب بطلان ، وأن الدين المرضي عند الله الإسلام ، وهو دعوة الخلق إلى توحيده تعالى ، وعبادته وحده ، لا شريك له .
ولما خالف المشركون هذا الأصل العظيم بعث الله نبيه محمدا خاتم النبيين لدعوة الناس جميعا إلى هذا الأصل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 271 الى صـ 275
الحلقة (53)
القول في تأويل قوله تعالى :
[136 ] قولوا آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
"قولوا" أي يا أيها الذين آمنوا . وفيه إظهار لمزية فضل الله عليهم حيث يلقنهم ولا يستنطقهم فيقصروا في مقالهم : آمنا بالله وما أنـزل إلينا أي : من الكتاب الذي تقدم إنه الهدى : وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط من الأحكام التي كانوا متعبدين بها ، مما اشتملت عليه صحف أبيهم إبراهيم عليه السلام ومن الموحى إليهم خاصة . والأسباط هم أولاد يعقوب الاثنا عشر المتقدم ذكرهم ، جمع سبط وهو الحافد . سموا بذلك لكونهم حفدة إبراهيم وإسحاق . وما أوتي موسى وعيسى من التوراة والإنجيل وما أوتي النبيون من ربهم مما ذكر ، وغيرهم. لا نفرق بين أحد منهم في الإيمان فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى "ونحن له مسلمون" منقادون .
وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا » .
[ ص: 272 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[137 ] فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
"فإن آمنوا" أي أهل الكتاب الذين أرادوا أن يستتبعوكم "بمثل ما آمنتم به" أي بما آمنتم به على الوجه الذي فصل . على أن المثل مقحم . وقد قرأ ابن عباس وابن مسعود : بما آمنتم به . وقرأ أبي : بالذي آمنتم به "فقد اهتدوا" إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم . عكس ما قالوا : كونوا مثلنا تهتدوا "وإن تولوا" أي أعرضوا عن الإيمان بما آمنتم به. "فإنما هم في شقاق" أي فما هم إلا في خلاف وعداوة وليسوا من طلب الحق في شيء .
قال القاضي : ولا يكاد يقال في المعاداة على وجه الحق أو المخالفة التي لا تكون معصية إنه شقاق . وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنه ، وفي استحقاق النار . فصار هذا القول وعيدا منه تعالى لهم ، وصار وصفهم بذلك دليلا على أن القوم معادون للرسول ، مضمرون له السوء ، مترصدون لإيقاعه في المحن ، فعند هذا أمنه الله تعالى من كيدهم وأمن المؤمنين من شرهم ومكرهم فقال "فسيكفيكهم الله" تقوية لقلبه وقلب المؤمنين لأنه تعالى إذا تكفل بالكفاية في أمر حصلت الثقة به . وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم [ ص: 273 ] وإجلاء بني النضير "وهو السميع العليم" أتبع وعده بالنصر والكفاية ، بما يدل على أن ما يسرون وما يعلنون من أمرهم لا يخفى عليه تعالى . فهو يسبب لكل قول وضمير منهم ما يرد ضرره عليهم . فهو وعيد لهم ، أو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم . أي يسمع ما تدعو به ، ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق . وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك .
القول في تأويل قوله تعالى :
[138 ] صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون
"صبغة الله" مصدر مؤكد منتصب من قوله "آمنا بالله" كذا قاله سيبويه ، فهو بمثابة فعله . كأنه قيل صبغنا الله صبغة. أي صبغ قلوبنا بالهداية والبيان صبغة كاملة لا ترتفع بماء الشبه ، ولا تغلب صبغة غيره عليه . والصبغة كالصبغ (بالكسر فيهما لغة) ، ما يصبغ به وتلون به الثياب . ووصف الإيمان بذلك لكونه تطهيرا للمؤمنين من أوضار الكفر ، وحلية تزينهم بآثاره الجميلة ، ومتداخلا في قلوبهم . كما أن شأن الصبغ بالنسبة إلى الثوب كذلك . ويقال : صبغ يده بالماء غمسها فيه ، وأنشد ثعلب :
دع الشر وانزل بالنجاة تحرزا إذا أنت لم يصبغك في الشر صابغ
وقال الراغب : الصبغة إشارة من الله عز وجل إلى ما أوجده في الناس من بداية العقول [ ص: 274 ] التي ميزنا بها من البهائم ، ووشحنا بها لمعرفته ومعرفة حسن العدالة وطلب الحق ، وهو المشار إليه بالفطرة في قوله : فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله الآية ، والمعني بقوله عليه السلام : « كل مولود يولد على الفطرة . . . » الخبر ، وتسمية ذلك بالصبغة من حيث إن قوى الإنسان التي ركب عليها ، إذا اعتبرت بذاته ، تجري مجرى الصبغة التي هي زينة المصبوغ . ولما كانت اليهود والنصارى ، إذا لقنوا أولادهم اليهودية والنصرانية ، يقولون : قد صبغناه -بين تعالى أن الإيمان بمثل ما آمنتم به هو صبغة الله وفطرته التي ركزها في الخلق ، ولا أحد أحسن صبغة منه .
(ثم قال) : وقول الحسن وقتادة ومجاهد : إن الصبغة هي الدين ، وقول غيرهم : إنها الشريعة ، وقول من قال : هو الختان- إشارة إلى مغزى واحد : ومن أحسن من الله صبغة الاستفهام للإنكار والنفي . أي : لا صبغة أحسن من صبغته تعالى . لأنها صبغة قلب لا تزول . لثباتها بما تولاها الحفيظ العليم ، فلا يرتد أحد عن دينه سخطة له بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه . والجملة اعتراضية مقررة لما في "صبغة الله" من معنى الابتهاج "ونحن له عابدون" شكرا لتلك النعمة ولسائر نعمه . فكيف تذهب عنا صبغته ونحن نوكدها بالعبادة ، وهي تزيل رين القلب فينطبع فيه صورة الهداية . وهو عطف على آمنا ، داخل معه تحت الأمر .
[ ص: 275 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[139 ] قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون
"قل" منكرا لمحاجتهم وموبخا لهم عليها "أتحاجوننا في الله" أي : أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له واتباع الهدى وترك الهوى "وهو ربنا وربكم" المستحق لإخلاص العبودية له وحده لا شريك له ، ونحن وأنتم في العبودية له سواء : ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم أي نحن برآء منكم ومما تعبدون ، وأنتم برآء منا . كما قال في الآية الأخرى : وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون وقال تعالى : فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن الآية. "ونحن له مخلصون" في العبادة والتوجه ، لا نشرك به شيئا وأنتم تشركون به عزيرا والمسيح والأحبار والرهبان . ولما بقي من مباهتاتهم ادعاؤهم أن أسلافهم كانوا على دينهم ، أبطلها سبحانه بقوله :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 276 الى صـ 280
الحلقة (54)
[ ص: 276 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[140 ] أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون
"أم تقولون إن إبراهيم" خليل الله "وإسماعيل وإسحاق" ابنيه "ويعقوب" ابن إسحاق "والأسباط" أولاد يعقوب : "كانوا هودا أو نصارى" أي على ملتهم ، إما اليهودية وإما النصرانية "قل أأنتم أعلم أم الله" أي الذي له الإحاطة كلها أعلم . فلا يمكنهم أن يقولوا : نحن . وإن قالوا : الله ، فقد برأ الله إبراهيم ومن معه من ذلك . فبطل ما ادعوا . وثبت أنهم ، عليهم السلام ، كانوا على الحنيفية مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية . هذا مع أن رد قولهم هذا أظهر ظاهر من حيث إنه لا يعقل أن يكون السابق على نسبة للاحق ، ما حدثت إلا بعده بمدد متطاولة . وسيأتي النص الصريح بإبطال ذلك في آل عمران . ولما كان العلم عندهم عن الله بأن الخليل ومن ذكر معه ، عليهم السلام ، على دين الإسلام ، وكانوا يكتمون ما عندهم من ذلك . مع تقرير الله لهم به واستخبارهم عنه ونهيه لهم عن كتمانه وما يقاربه بقوله : ولا تلبسوا الحق بالباطل الآية- أشار إلى أشد الوعيد في كتمان ذلك بقوله : ومن أظلم ممن كتم شهادة موجودة وموعودة "عنده من الله" وهو كتمان العلم الذي هو الإخبار بما أنزل الله . والاستفهام إنكار لأن يكون أحد أظلم من أهل الكتاب حيث كتموا شهادته تعالى لهم ، عليهم السلام ، بالحنيفية والبراءة من الفريقين .
[ ص: 277 ] قال التقي ابن تيمية : سمى تعالى ما عندهم من العلم شهادة كما قال : إن الذين يكتمون ما أنـزلنا من البينات والهدى الآية ، كأنه قال : خبرا عنده ، دينا عنده من الله ، وبيانا عنده من الله ، وعلما عنده من الله فإن كان قوله "من الله" متعلقا بـ "كتم" فإنه يعم كل الشهادات . وإن كان متعلقا بـ "عنده"، وهو الأوجه ، أو بشهادة ، أو بهما ، فإن الأمر في ذلك واحد . أي شهادة استقرت عنده من جهة الله . فهو كتمان شهادات العلم الموروث عن الأنبياء . فسمى الإخبار به شهادة.
ثم قال : وكذلك الأخبار النبوية إنما يراد بالشهادة فيها الإخبار : وما الله بغافل عما تعملون تهديد ووعيد شديد . أي أن علمه محيط بكم وسيجزيكم عليه .
قال الرازي : هذا هو الكلام الجامع لكل وعيد . ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه ، ولا يخفى عليه خافية ، وأنه من وراء مجازاته ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر لا يمضي عليه طرفة عين إلا وهو حذر خائف . ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعد عليه الأنفاس ، لكان دائم الحذر والوجل ، مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر ، فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى ، إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول ؟
القول في تأويل قوله تعالى :
[141 ] تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم فلا يسألون عن أعمالكم [ ص: 278 ] ولا تسألون عما كانوا يعملون لما ذكر تعالى حسن طريقة الأنبياء المتقدمين ، ولم يدع لهم متمسكا من جهتهم ، أتبع ذلك الإشارة إلى أن الدين دائر مع أمره في كل زمان . وأنه لا ينفعهم إلا ما يستجدونه بحكم ما تجدد من المنزل المعجز لكافة أهل الأرض ، أحمرهم وأسودهم . . أي فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة . فلها ما كسبت . وانظروا فيما دعاكم إليه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم . ولا تسألون إلا عن عملكم .
قال الراغب : إعادة هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمة في الناس ، صالحهم وطالحهم أن يفتخروا بآبائهم ويقتدوا بهم في متحرياتهم . سيما في أمور دينهم .
ولهذا حكى عن الكفار قولهم : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون فأكد الله تعالى القول في إنزالهم عن هذه الطريقة . وذكر في أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب بنيه بذلك ، تنبيها أن الأمر سواء على ما قلت أو لم يكن . فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه ، وفي الثاني لما ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم أعاد أيضا تأكيدا عليهم تنبيها على نحو ما قال : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه وقوله : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقوله : ولا تزر وازرة وزر أخرى ولما جرت به عادتهم وتفردت به معرفتهم : كل شاة تناط برجليها .
[ ص: 279 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[142 ] سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها روى البخاري في صحيحه عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها ، صلاة العصر وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت .
وروى مسلم عن البراء رضي الله عنه نحو ما تقدم ولفظه : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، ثم صرفنا نحو الكعبة .
وروى الشيخان عن ابن عمر قال : بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن . وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة . (اللفظ لمسلم)
والأحاديث في تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة متوافرة ، وفيما ذكرنا كفاية .
[ ص: 280 ] وقد أعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن فريقا من الناس سينكرون تغيير القبلة وسماهم سفهاء ، جمع سفيه ، وهو الخفيف الحلم والأحمق والجاهل . قال أبو السعود : أي الذين خفت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر . انتهى .
ومعنى قوله "ما ولاهم" أي أي شيء صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، أي ثابتين على التوجه إليها ، وهي بيت المقدس . ومدار الإنكار ، إن كان القائلون هم اليهود ، كراهتهم للتحويل عنها لأنها قبلتهم ، وإن كان غيرهم ، فمجرد القصد إلى الطعن في الدين والقدح في أحكامه . وقد روي عن ابن عباس : أن القائلين هم اليهود ، وعن الحسن أنهم مشركو العرب . وعن السدي أنهم المنافقون .
قال الراغب : ولا تنافي بين أقوالهم فكل قد عابوا ، وكل سفهاء .
(تنبيه) : ظاهر قوله تعالى "سيقول السفهاء" إلخ ، أنه إخبار بقولهم المذكور ، ثم إن الإخبار قبل وقوعه . وفائدته توطين النفس وإعداد ما يبكتهم ، فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد ، والجواب العتيد لشغب الخصم الألد أرد ، مع ما فيه من دلائل النبوة حيث يكون إخبارا عن غيب ، فيكون معجزا : قل لله المشرق والمغرب جواب عن شبهتهم . وتقريره أن الجهات كلها لله ملكا ، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة . بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة ، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى ، وما أمر به فهو الحق : يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فيه تعظيم أهل الإسلام وإظهار عنايته تعالى بهم وتفخيم شأن الكعبة . كما فخمه بإضافته إليه في قوله تعالى وطهر بيتي
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 281 الى صـ 285
الحلقة (55)
القول في تأويل قوله تعالى:
[143 ] وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم
"وكذلك" أي كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وأفضلها "جعلناكم أمة وسطا" أي عدولا خيارا . وقوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا تعليل للجعل المنوه به الذي تمت المنة به عليهم . واعلم أن أصل الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة . إما بالبصر أو بالبصيرة . قال الرازي : الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية ، يقال شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته ، ولما كان بين الإبصار بالعين ، وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة ، لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب مشاهدة وشهودا ، والعارف بالشيء شاهدا ومشاهدا ، ثم سميت الدلالة على الشيء شاهدا على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهدا . ولما كان المخبر عن الشيء والمبين لحاله جاريا مجرى الدليل على ذلك ، سمي ذلك المخبر أيضا شاهدا . وبالجملة ، فكل من عرف حال شيء ، وكشف عنه كان شاهدا عليه . انتهى .
والشهيد أصله الشاهد والمشاهد للشيء والمخبر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة . وهو ، بالمعنى الثالث ، من النعوت الجليلة . ولذلك وصف به النبيون والسادة والأئمة . كما ترى في هذه الآية وفي آية : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على [ ص: 282 ] هؤلاء شهيدا وآية وادعوا شهداءكم والشهداء والصالحين ثم إن في اللام في قوله تعالى : لتكونوا شهداء على الناس وجهين (الأول) إنها لام الصيرورة والعاقبة . أي فآل الأمر بهدايتكم وجعلكم وسطا أن كنتم شهداء على الناس ، وهم أهل الأديان الأخر . أي بصراء على كفرهم بآيات الله وما غيروا وبدلوا وأشركوا وألحدوا . مما قص عليكم في الآيات قبل، حتى أحطتم به خبرا . فعرفتم حق دينهم من باطله ، ووحيه من مخترعه . يعني : وإذا شهدتم ذلك منهم وأبصرتم فاشكروا مولاكم على ما أولاكم ، وعافاكم مما ابتلى به سواكم ، حيث وفقكم للمنهج السوي وهداكم للمهيع الرضي ، وكذلك صار الرسول عليكم شهيدا بأنكم عرفتم الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، والنور من الظلمات ، بما بلغكم من وحيه وأراكم من آياته . فعظمت المنة لله عليكم ; إذ أصبحتم مهتدين بعد الضلالة ، علماء بعد الجهالة . ففيه إشارة إلى تحذير المؤمنين من أن يزيغوا بعد الهدى ، كما زاغ أولئك الذين نعى عليهم ضلالتهم ، فتقوم عليهم الحجة كما قامت من أولئك .
(الوجه الثاني) أن تكون اللام للتعليل ، على أصلها . والمعنى : جعلناكم أمة خيارا لتكونوا شهداء على الناس ، أي رقباء قواما عليهم بدعائهم إلى الحق وإرشادهم إلى الهدى وإنذارهم مما هم فيه من الزيغ والضلال ، كما كان الرسول شهيدا عليكم بقيامه عليكم بما بلغكم وأمركم ونهاكم وحذركم وأنذركم . فتكون الآية نظير آية كنتم خير أمة أخرجت [ ص: 283 ] للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وربما آثر هذا المعنى من قال : خير ما فسر القرآن بالقرآن ، لتماثل الآيتين بادئ بدء . فإن الوسط بمعنى الخيار . وقد صرح به في قوله "خير أمة" وإلى هذا المعنى يشير قول مجاهد في الآية : لتكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم اليهود والنصارى والمجوس: أي شهداء على حقية رسالته ، وذلك بالدعوة إليها ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر الذي هو قطب الدعوة وروحها .
وبعد كتابة هذا رأيت السمرقندي في تفسيره نقل خلاصة ما قلناه . وعبارته : وللآية تأويل آخر "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" أي عدولا "لتكونوا شهداء على الناس" إلخ يقول : إنكم حجة على جميع من خالفكم . ورسول الله عليه السلام حجة عليكم . والشهادة في اللغة هو البيان. ولهذا سمي الشاهد بينة ; لأنه يبين حق المدعي . يعني إنكم تبينون لمن بعدكم ، والنبي عليه السلام يبين لكم . انتهى .
وأوضح ذلك الراغب الأصفهاني بأسلوب آخر فقال : إن قيل : على أي وجه شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة وشهادة الأمة على الناس ؟ قيل : الشاهد هو العالم بالشيء المخبر عنه مثبتا حكمه . وأعظم شاهد من ثبت شهادته بحجة ، ولما خص الله تعالى الإنسان بالعقل والتمييز بين الخير والشر ، وكمله ببعثة الأنبياء ، وخص هذا الأمة بأتم كتاب ، كما وصفه بقوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله : ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ ص: 284 ] فأفادناه عليه السلام وبينه لنا- صار حجة وشاهدا أن يقولوا : ما جاءنا من بشير ولا نذير وجعل أمته ، المتخصصة بمعرفته ، شهودا على سائر الناس . (إن قيل) هل أمته شهود كلهم أم بعضهم ؟ (قيل) كلهم ممكن من أن يكونوا شهداء . وذلك بشريطة أن يزكوا أنفسهم بالعلم والعمل الصالح ، فمن لم يزك نفسه لم يكن شاهدا ومقبولا . ولذلك قال تعالى : قد أفلح من زكاها وعلى هذا قال : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم فالقيام بالقسط مراعاة العدالة ، وهي، بالقول المجمل ثلاث : عدالة بين الإنسان ونفسه -وعدالة بينه وبين الناس- وعدالة بينه وبين الله عز وجل . فمن رعى ذلك فقد صار عدلا شاهدا لله عز وجل . (إن قيل) فهل هم شهود على بعض الأمة أم على الناس كافة ؟ (قيل) بل كل شاهد على نفسه ، وعلى أمته وعلى الناس كافة ، فإن من عرف حكمة الله تعالى وجوده ، وعدله ، ورأفته ، علم أنه لم يغفل تعالى عنه ولا عن أحد من الناس ، ولا بخل عليهم ولا ظلمهم ، ومن علم ذلك فهو شاهد لله على من في زمانه وعلى [ ص: 285 ] من قبله ومن بعده . وعلى هذا الوجه ما روي في الخبر « أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على الأمم » . انتهى كلام الراغب . والخبر الذي أشار إليه رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب . فيقول : هل بلغت ؟ فيقول : نعم . فيقال لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير . فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته . فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا » . فذلك قوله جل ذكره : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وقد روي مرفوعا عن جابر . أخرجه الطبري . وعن ثلة من التابعين من قولهم .
وأقول : قد بينا مرارا ، أن مثل هذا الخبر وكل ما يروى مرفوعا أو غير مرفوع في تأويل هذه الآية ، فكله يفيد أن للآية عموما يشمل ما ذكر ، لا أنها خاصة به لا يستفاد منها غيره . كما أوضحناه في المقدمة في قولهم : نزلت الآية في كذا . وعليه، فلا تنافي بين ما يفهم من سياق الآية أو ما يتقاضاه معناها لغة ، من حيث عمومها ، أو ما يحمل عليها من نظائرها في التنزيل الكريم ، وبين ما يروى في تفسيرها ، فمآل ما يتعدد من سبب النزول في آية ما ، أو ما يكثر من الآثار في وجوهها ، كله من باب تفسير العام ببعض ما يتناوله لفظه . ولذلك يكثر في بعض طرق الروايات ؛ ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى . أو : ثم قرأ . أو اقرأوا إن شئتم . مما يدل على أنه ذكرت الآية حجة لما أخبر به ; لأنه مما يندرج فيها . فاحرص على ذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 286 الى صـ 290
الحلقة (56)
تنبيهات :
الأول : استدل بالآية على أن الإجماع حجة ; لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة . والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها ، فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله ، فإجماع الأمة حق ; لا تجتمع الأمة - والحمد لله - على ضلالة . كما وصفها الله بذلك في الكتاب فقال تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف ، وينهون عن كل منكر . كما وصف نبيهم صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله : الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وبذلك وصف المؤمنين في قوله : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال ، لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ، ولم تنه عن المنكر فيه ، وقد جعلهم الله شهداء على الناس . وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول . وقد ثبت في الصحيح عن عبد العزيز بن صهيب قال : سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول : مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم « وجبت » ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال « وجبت » . [ ص: 287 ] فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما وجبت ؟ قال : « هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار ; أنتم شهداء الله في الأرض » .
وعند الحاكم أنه قرأ هذه الآية : وكذلك جعلناكم إلى آخرها .
فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء ، لم يشهدوا بباطل ، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء ، فقد أمر به ، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه . ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض . بل زكاهم الله في شهادتهم ، كما زكى الأنبياء فيما يبلغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق ، وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا الحق .
هذه نبذة من كلام الإمام ابن تيمية عليه الرحمة ، في الإجماع ، من بعض رسائله .
(الثاني) مما يتعلق أيضا بهذا المقام ، ما قاله أيضا هذا الإمام في رسالته إلى جماعة عدي بن مسافر . ونصه : فعصم الله هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة ، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة . ولهذا كان إجماعهم حجة ، كما كان الكتاب والسنة حجة . ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة بالسنة والجماعة ، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ، ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعما مضت عليه جماعة المسلمين ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ، رواها عنه أهل السنن والمسانيد ، كالإمام أحمد ، [ ص: 288 ] وأبي داود ، والترمذي وغيرهم ، أنه قال : « ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة ، كلها في النار ، إلا واحدة ، وهي الجماعة » . وفي رواية : « من كان على مثل ما أنا عليه اليوم ، وأصحابي » . وهذه الفرقة الناجية أهل السنة . وهم وسط في النحل ، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل ، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ، ورسله ، وعباده الصالحين ، لم يغلوا فيهم كما غلت في النصارى فـ : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم [ ص: 289 ] وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ولا جفوا عنهم ، كما جفت اليهود ، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق : ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وقتلوا فريقا . بل المؤمنون آمنوا برسل الله ، وعزروهم ، ونصروهم ، ووقروهم ، وأحبوهم ، وأطاعوهم ، ولم يعبدوهم ، ولم يتخذوهم أربابا . كما قال تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المسيح ، فلم يقولوا : هو الله ، ولا ابن الله ، ولا ثالث ثلاثة . كما تقوله النصارى . ولا كفروا به ، وقالوا على مريم بهتانا عظيما ، حتى جعلوه ، ولد غية ، كما زعمت اليهود . بل قالوا : هذا عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، وروح منه . وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله ، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ، ويمحو ما شاء ويثبت . كما قالته اليهود . كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله : سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها وبقوله [ ص: 290 ] وإذا قيل لهم آمنوا بما أنـزل الله قالوا نؤمن بما أنـزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم ولا جوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله ، فيأمروا بما شاؤوا وينهوا عما شاؤوا . كما يفعله النصارى . كما ذكر الله عنهم بقوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 291 الى صـ 295
الحلقة (57)
قال عدي بن حاتم رضي الله عنه : قلت : يا رسول الله ما عبدوهم ؟ قال : « ما عبدوهم ، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم ، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم » . والمؤمنون قالوا : لله الخلق والأمر ، فكما لا يخلق غيره ، لا يأمر غيره . وقالوا : سمعنا وأطعنا ، فأطاعوا [ ص: 291 ] كل ما أمر الله به . وقالوا : إن الله يحكم ما يريد . وأما المخلوق ، فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ، ولو كان عظيما . وكذلك في صفات الله تعالى ، فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة ، فقالوا : هو فقير ونحن أغنياء . وقالوا يد الله مغلولة . وقالوا : إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت . إلى غير ذلك . والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به . فقالوا إنه يخلق ويرزق ويغفر ويرحم ويتوب على الخلق ، ويثيب ويعاقب . والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى . ليس له سمي ولا ند ولم يكن له كفوا أحد و ليس كمثله شيء فإنه رب العالمين ، وخالق كل شيء ، وكل ما سواه عباد له ، فقراء إليه .
[ ص: 292 ] إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ومن ذلك : أمر الحلال والحرام ، فإن اليهود كما قال الله تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبط ، ولا شحم الثرب (الثرب : شحم رقيق يغشي الكرش والأمعاء ، وجمعه ثروب) والكليتين ، ولا الجدي في لبن أمه . إلى غير ذلك ، مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما . حتى قيل : إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعا . والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمرا ، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يواكلوا الحائض ، ولا يجامعوها في البيوت .
وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات ، وباشروا جميع النجاسات ، وإنما قال لهم المسيح : ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ولهذا قال تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله : ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات [ ص: 293 ] ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون
وهذا باب يطول وصفه ، وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق . فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته ، وسط بين أهل التعطيل ، الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه حتى يشبهوه بالعدم والموات . وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات . فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه ، وما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف وتمثيل ، وهم في باب خلقه وأمره وسط بين المكذبين بقدرة الله ، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء . وبين المفسدين لدين الله . الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل ، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب . فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير . فيقدر أن يهدي العباد ، ويقلب قلوبهم . وإنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن . فلا يكون في ملكه ما لا يريد ، ولا يعجز عن إنفاذ مراده . وإنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات . ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل . وأنه مختار . ولا يسمونه مجبورا . إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره . والله سبحانه جعل العبد مختارا لما يفعله . فهو مختار مريد ، والله خالقه وخالق اختياره . وهذا ليس له نظير . [ ص: 294 ] فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .
وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد ، وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية . ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم . وبين المرجئة الذين يقولون : إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء . والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان ، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية . فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله . وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة . وأنهم لا يخلدون في النار بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ، أو مثقال خردلة من إيمان . وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته . وهم أيضا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ، وسط بين الغالية الذي يغالون في علي رضي الله عنه فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما ، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا ، وكفروا الأمة بعدهم كذلك ، وربما جعلوه نبيا أو إلها . وبين الجافية الذين يعتقدون كفره وكفر عثمان رضي الله عنهما ، ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما . ويستحبون سب علي وعثمان ونحوهما . ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته .
وكذلك في سائر أبواب السنة هم وسط . لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. انتهى .
"وما جعلنا القبلة التي كنت عليها" أي ما شرعنا القبلة ، كقوله تعالى : ما جعل الله من بحيرة أي ما شرعها . و "التي كنت عليها" ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعولي "جعل" أي وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها أي في مكة تستقبلها قبل [ ص: 295 ] الهجرة ، وهي الكعبة . يعني : وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس وابتلاء . أو "كنت عليها" بمعنى صرت عليها الآن . كقوله تعالى كنتم خير أمة أو بمعنى كنت على تطلبها ، أي حريصا عليه ، وراغبا فيه . كما يفصح عنه قوله تعالى بعد قد نرى تقلب وجهك الآية .
وعلى هذه الأوجه ، فتكون الآية بيانا للحكمة في جعل الكعبة قبلة ، أو معنى "التي كنت عليها" : قبل وقتك هذا ، وهي بيت المقدس . أي : إنما شرعنا لك التوجه أولا إليه ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ، حيثما توجهت ، من غيره . فتكون الآية بيانا للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة أولا .
ثم اعلم أن الحكمة هو التمييز بين الناس بقوله : إلا لنعلم من يتبع الرسول في كل ما يؤمر به ، فيثبت عند تقلب الأحكام بما في قلبه من صدق التعلق بالله والتوجه له أيان ما وجهه "ممن ينقلب على عقبيه" أي يرتد عن دينه فينافق أو يكفر ممن كان يظهر الاتباع . وأصل المنقلب على عقبيه : الراجع مستديرا في الطريق الذي قد كان قطعه منصرفا عنه . استعير لكل راجع عن أمر كان فيه من دين أو خير .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 296 الى صـ 300
الحلقة (58)
قال ابن جرير : قد ارتد ، في محنة الله أصحاب رسوله في القبلة ، رجال ممن كان قد أسلم ، وأظهر كثير من المنافقين من [ ص: 296 ] أجل ذلك نفاقهم . وقالوا : ما بال محمد يحولنا مرة إلى ههنا ومرة إلى ههنا ؟ وقال المسلمون ، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس : بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت . وقال المشركون : تحير محمد في دينه . فكان ذلك فتنة للمؤمنين وتمحيصا للمؤمنين . انتهى .
(لطيفة) العقبين تثنية عقب وهو مؤخر القدم . والانقلاب عليهما استعارة تمثيلية ، وهذه الاستعارة نظير قوله تعالى : ثم أدبر واستكبر وكقوله : كذب وتولى
(تنبيه) قال الراغب رحمه الله : ما وجه قوله "إلا لنعلم" وذلك يقتضي استفادة علم ، ولم يزل تعالى عالما بما كان وبما يكون ؟ (قيل) : إن ذلك من الألفاظ التي لولا السمع لما تجاسرنا على إطلاقها عليه تعالى . ومجاز ذلك على أوجه : (الأول) أن اللام في مثل ذلك تقتضي شيئين : حدوث الفعل في نفسه وحدوث العلم به . ولما كان علم الله لم يزل ولا يزال ، صار اللام فيه مقتضيا حدوث الفعل لا حدوث العلم .
(والثاني) أن العلم يتعلق بالشيء على ما هو به . والله تعالى علمهم ، قبل أن يتبعوه ، غير تابعين . وبعد أن تبعوه علمهم تابعين . وهذا الجواب هو في الحقيقة الأول . لأن التغيير داخل في المعلوم لا في العلم .
(والثالث) معناه ليعلم غيرنا بنا . فنسب ذلك إلى نفسه . كقوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها [ ص: 297 ] وفي موضع آخر قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم وقال تعالى : وعلمك ما لم تكن تعلم وإنما علمه بملائكته .
(والرابع) معناه لنجازي . وذلك متعارف . نحو قولك : سأعلم حسن بلائك . أي سأجزيك على حسب مقتضى علمي قبل . فعبر عن الجزاء بالعلم لما كان هو سببه .
(والخامس) أن عادة الحليم إذا أفاد غيره علما أن يقول : تعال حتى نعلم كذا . وإنما يريد إعلام المخاطب . لكن يحل نفسه محل المشارك للمتعلم على سبيل اللطف . انتهى .
والوجه الثالث هو الذي اختاره الإمام ابن جرير قال : أما معناه عندنا : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي : من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه .
(قال) وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتباع الرئيس ، إلى الرئيس ، وما فعل بهم ، إليه . نحو قولهم : فتح عمر بن الخطاب سواد العراق وجبى خراجها ، وإنما فعل ذلك أصحابه ، عن سبب كان منه في ذلك . وكالذي روي في نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يقول الله [ ص: 298 ] جل ثناؤه : مرضت فلم يعدني عبدي . واستقرضته فلم يقرضني » فأضاف ، تعالى ذكره ، الاستقراض والعيادة إلى نفسه ، وقد كان ذلك بغيره ، إذ كان ذلك عن سببه .
قد حكي عن العرب سماعا : أجوع في غير بطني ، وأعرى في غير ظهري . بمعنى جوع أهله وعياله وعري ظهورهم . فكذلك قوله "إلا لنعلم" بمعنى : يعلم أوليائي وحزبي اهـ.
"وإن كانت" أي التولية إليها أو الجعلة أو التحويلة "لكبيرة" أي ثقيلة شاقة . لأن مفارقة الإلف ، بعد طمأنينة النفس إليه ، أمر شاق جدا إلا على الذين هدى الله قلوبهم ، فأيقنوا بتصديق الرسول وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه . وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء . وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك ، بخلاف الذين في قلوبهم مرض ، فإنه كلما حدث أمر ، أحدث لهم شكا . كما يحصل ، للذين آمنوا ، إيقان وتصديق . كما قال تعالى : وإذا ما أنـزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون وقال تعالى : وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وقوله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم هذا تطمين لمن صلى إلى بيت المقدس من المسلمين ومن أهل الكتاب قبل النسخ . [ ص: 299 ] وبيان أنهم يثابون على ذلك . وقد روى البخاري من حديث أبي إسحاق المتقدم عن البراء : وكان الذي مات على القبلة ، قبل أن تحول قبل البيت ، رجال قتلوا ، لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله : وما كان الله ليضيع إيمانكم أي صلاتكم . وإنما عدل إلى لفظ الإيمان ، الذي هو عام في الصلاة وغيرها ، ليفيدهم أنه لم يضع شيء مما عملوه ، ثم يصح عنهم ، فيندرج المسؤول عنه اندراجا أوليا ، ويكون الحكم كليا . وذكر بلفظ الخطاب دون الغائب ، ليتناول الماضين والباقين ، تغليبا لحكم المخاطب على الغائب في اللفظ ، وفي تتمة الآية إشارة إلى تعليل عدم الإضاعة ، بما اتصف به من الرأفة المنافية لما هجس في نفوسهم من الإضاعة . ولما انطوى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم على إرادة التوجه إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ومفخرة العرب ومزارهم ومطافهم ، ولمخالفة اليهود - أجابه الحق إلى ذلك بقوله :
[ ص: 300 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[144 ] قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون
قد نرى تقلب وجهك في السماء أي تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء تشوفا لنزول الوحي بالتحويل .
قالوا : وفي ذلك تنبيه على حسن أدبه حيث انتظر ولم يسأل . وهذا ألطف مما قيل : إن تقلب وجهه كناية عن دعائه ، ولا مانع أن يراد بتقلب وجهه صلى الله عليه وسلم بالتحويل ، ففيه إعلام بما جعله تعالى من اختصاص السماء بوجه الداعي . وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة ، فهي متقدمة في المعنى ، فإنها رأس القصة فلنولينك قبلة ترضاها أي : لنعطينك أو لنوجهنك إلى قبلة تحبها وتميل إليها . ودل على أن مرضيه الكعبة ، بفاء السبب في قوله : فول وجهك شطر المسجد الحرام أي نحوه وجهته . والتعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام إشارة إلى أن الواجب مراعاة الجهة دون العين : وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره أي حيثما كنتم في بر أو بحر فولوا وجوهكم في الصلاة تلقاء المسجد . وأما سر الأمر بالتولية خاصا وعاما ، فقال الراغب : أما خطابه الخاص فتشريفا له وإيجابا لرغبته . وأما خطابه العام بعده ، فلأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا أمر قد خص عليه السلام به . كما خص في قوله : قم الليل ولأنه لما كان تحويل القبلة أمرا له خطر ، خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك أبلغ وليكون لهم في ذلك تشريف . ولأن في الخطاب العام [ ص: 301 ] تعليق حكم آخر به . وهو أنه لا فرق بين القرب والبعد في وجوب التوجه إلى الكعبة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 301 الى صـ 305
الحلقة (59)
وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم قال الفخر : الضمير في قوله "أنه الحق" راجع إلى مذكور سابق . وقد تقدم ذكر الرسول، كما تقدم ذكر القبلة . فجاز أن يكون المراد أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق ، فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها ، ويحتمل أن يرجع إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة ، وأنهم يعلمون أنه الحق . وهذا الاحتمال الأخير أقرب; لأنه أليق بالمساق .
ثم ذكر من وجوه علمهم لذلك : أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام . وأنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما ظهر عليه من المعجزات . ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق . فكان هذا التحويل حقا .
قلت : وثم وجه آخر أدق مما ذكره الفخر في علمهم حقية ذلك التحويل وأنه من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم . وبيانه أن أمره تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكافة من اتبعه ، باستقبال الكعبة ، من جملة الاستعلان في فاران المذكور في التوراة إشارة لخاتم النبيين وبشارة به . فقد جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية – (ويقال الاستثناء) هكذا : وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال : جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير ، وتلألأ من جبل فاران .
وهذه البشارة تنبه على موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ; لأن الله تعالى أنزل التوراة على موسى في طور سيناء ، والإنجيل على عيسى في جبل سعير . لأنه عليه السلام كان يسكن أرض الخليل من سعير بقرية تدعى الناصرة . وتلألؤه من جبل فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران . وفاران هي مكة . لا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب . ففي الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل [ ص: 302 ] عليه السلام هكذا : وكان الله مع الغلام فكبر . وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس ، وسكن في برية فاران .
ولا شك أن إسماعيل ، عليه السلام ، كان سكناه في مكة ، وفيها مات وبها دفن .
وقال ابن الأثير : وفي الحديث ذكر جبل فاران اسم لجبال مكة بالعبراني . له ذكر في أعلام النبوة ، وألفه الأولى ليست بهمزة وما الله بغافل عما يعملون قرئ بالياء والتاء . فيه إنباء بتماديهم على سوء أحوالهم .
ولما بين تعالى أنهم يعلمون أن هذه القبلة حق ، أعلم أن صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :
[145 ] ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين
ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب أي من اليهود والنصارى "بكل آية" أي برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق "ما تبعوا قبلتك" أي هذه التي حولت إليها . لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة . إنما هو عن مكابرة وعناد ، مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق . وقوله تعالى : وما أنت بتابع قبلتهم هذا حسم لأطماعهم في العود إليها . أو للمقابلة . يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك وما بعضهم بتابع قبلة بعض فلا اتفاق بين فريقيهم ، مع كون الكل من بني إسرائيل .
قال الزمخشري : أخبر تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه . فالمحق منهم لا يزل عن مذهبه لتمسكه بالبرهان . والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده . وفيه إراحة للنبي صلى الله عليه وسلم من التطلع إلى هدى بعضهم .
[ ص: 303 ] فوائد
الأولى : قال الراغب : إن قيل كيف أعلم بأنهم لا يتبعون قبلته وقد آمن منهم فريق ؟ قيل : قال بعضهم : إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض . وهذا صحيح. بدلالة أنك لو قلت : ما آمنوا ولكن آمن بعضهم ، لم يكن منافيا . وقيل : عني به أقوام مخصوصون .
الثانية : قال الراغب : في قوله تعالى "وما أنت بتابع قبلتهم" إشارة على أن من عرف الله حق معرفته ، فمن المحال أن يرتد . ولذا قيل : ما رجع من رجع إلا من الطريق : أي ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إليه حق الوصول .
إن قيل : فقد يوجد من يحصل له معرفة الله ثم يرتد ! . (قيل) إن الذي يقدر أنه معرفة ، هو ظن متصور بصورة العلم . فأما أن يحصل له العلم الحقيقي ثم يعقبه الارتداد فبعيد ، ولم يعن بهذه المعرفة ما جعله الله تعالى للإنسان بالفطنة ، فإن تلك كشررة تخمد إذا لم تتوقد .
الثالثة : قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، في بدائع الفوائد: قبلة أهل الكتاب ليست بوحي وتوقيف من الله . بل بمشورة واجتهاد منهم . أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق . وهم يقرون بأن قبلة المسيح قبلة بني إسرائيل . وهي الصخرة ، وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلة . فهم مع اليهود ، متفقون على أن الله لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله أبدا . والمسلمون شاهدون عليهم بذلك الأمر . وأما اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة البتة . وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا . فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه . فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة . وقوله : ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله : وما أنت بتابع قبلتهم كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير . بمعنى : ولئن اتبعتهم ، مثلا ، بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر "إنك إذا لمن الظالمين" أي المرتكبين الظلم الفاحش.
[ ص: 304 ] وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة تحذير واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته ، ويتبع الهوى . وتهييج وإلهاب للثبات على الحق . أفاده الزمخشري .
تنبيهات :
الأول : قال الراغب : حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم . ونبه أن اتباع الهوى بعد التحقق بالعلم يدخل متحريه في جملة الظلمة ، وقد أكثر الله تحذيره من الجنوح إلى الهوى حتى كرر ذلك في عدة مواضع . وقول من قال : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمعني به الأمة ، فلا معنى لتخصصه . فإن الله تعالى يحذر نبيه من اتباع الهوى أكثر مما يحذر غيره . فذو المنزلة الرفيعة إلى تحذير الإنذار عليه أحوج ، حفظا لمنزلته وصيانة لمكانته اهـ. وهو كلام نفيس جدا .
(الثاني) في الآية تنويه بشأن العلم . حيث سمى أمر النبوات والدلائل والمعجزات باسم العلم ، فذلك ينبه على أن العلم أعظم المخلوقات شرفا ومرتبة.
(الثالث) دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم . لأن قوله تعالى : من بعد ما جاءك من العلم يدل على ذلك . ذكره الرازي.
القول في تأويل قوله تعالى :
[146 ] الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أي يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة لا امتراء فيها ، كما لا يمترون في معرفة أولادهم من بين أولاد الناس . وهذه المعرفة مستفادة من الكتاب . كما أخبر تعالى عن نعته فيه بقوله : يجدونه مكتوبا [ ص: 305 ] عندهم في التوراة والإنجيل يعني يعرفونه بالأوصاف المذكورة في التوراة والإنجيل بأنه هو النبي الموعود بحيث لا يلتبس عليهم . كما يعرفون أبناءهم ، ولا تلتبس أشخاصهم بغيرهم . فهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية ، بالمعرفة الحسية في أن كلا منهما يقيني ، لا اشتباه فيه .
وقد روي عن عمر أنه قال لعبد الله بن سلام : أتعرف محمدا كما تعرف ولدك ؟ قال : نعم وأكثر ; نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته ، وإني لا أدري ما كان من أمه . فقبل عمر رأسه وإن فريقا منهم أي أهل الكتاب ، مع ذلك التحقق والإيقان العلمي ليكتمون الحق أي يخفونه ولا يعلنونه وهم يعلمون أي الحق ، أو عقاب الكتمان ، أو أنهم يكتمون . قال الراغب : لم يقل يكتمونه . لأن في كتمان أمره كتمان الحق جملة . وزاد في ذمهم بقوله "وهم يعلمون" فإنه ليس المرتكب ذنبا عن جهل ، كمن يرتكبه عن علم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 306 الى صـ 310
الحلقة (60)
القول في تأويل قوله تعالى :
[147 ] الحق من ربك فلا تكونن من الممترين
"الحق من ربك" أي الحق من الله ، لا من غيره . يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله ، كالذي أنت عليه . وما لم يثبت أنه من الله ، كالذي عليه أهل الكتاب ، فهو الباطل . أي : [ ص: 306 ] هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك . وقرأ علي رضي الله عنه "الحق" ، بالنصب على الإبدال من الأول ، كما في الكشاف . أو المفعولية لـ "يعلمون" . كما قاله أبو البقاء. "فلا تكونن من الممترين" الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم ، أو في الحق الذي جاءك من ربك ، وهو ما أنت عليه . ومعلوم أن الشك غير متوقع منه . ففيه تعريض للأمة . وقال الراغب : ليس هذا بنهي عن الشك لأنه لا يكون بقصد من الشاك ، بل هو حث على اكتساب المعارف المزيلة للشك واستعمالها . وعلى ذلك قوله إني أعظك أن تكون من الجاهلين
القول في تأويل قوله تعالى :
[148 ] ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير
"ولكل وجهة" أي لكل أمة ، أو لكل نبي قبلة أو شرعة ومنهاج "هو موليها" وجهه . أي مائل إليها بوجهه ، تابع لها . لأنها حببت إليه ، وزينت له . وقال أبو معاذ : موليها بمعنى متوليها . أي تولاها ورضيها واتبعها "فاستبقوا الخيرات" أي ابتدروها بالمسابقة إليها . وهذا أبلغ من الأمر بالمسارعة ، لما فيه من الحث على إحراز قصب السبق ، والمراد بالخيرات جميع أنواعها مما ينال به سعادة الدارين : أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا قال الراغب : أي أي شغل تحريتم ، وحيثما تصرفتم ، وأي معبود اتخذتم ، فإنكم مجموعون ومحاسبون عليها : إن الله على كل شيء قدير تعليل لما قبله . أي هو قادر على جمعكم من الأرض ، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم .
(تنبيه) تشير الآية إلى أن الناس على مذاهب عديدة وأديان متنوعة . وأن على العاقل أن يستبق إلى ما كان خيرها وأرقاها . وقد اتفق العقلاء قاطبة والفلاسفة أن دين الإسلام أرقى الأديان كلها لما حوى من حاجيات الكمال البشري ، ووفى بشؤون الاجتماع ، وأسباب [ ص: 307 ] العمران ، وذرائع الرقي وطرق السعادتين . وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه وقوله : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون
ثم إنه تعالى أكد حكم التحويل وبين عدم تفاوت أمر الاستقبال في حالتي السفر والحضر بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :
[149 ] ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون
"ومن حيث خرجت" أي : ومن أي بلد خرجت للسفر "فول وجهك شطر المسجد الحرام" إذا صليت "وإنه" أي هذا الأمر "للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون" قرئ بالياء فهو وعيد للكافرين ، وبالتاء فهو وعد للمؤمنين . ولما عظم في شأن القبلة انتشار أقوال السفهاء وتنوع شغبهم وجدالهم ، كان الحال مقتضيا لمزيد تأكيد لأمرها، تعظيما لشأنها وتوهية لشبههم ، فقال تعالى :
[ ص: 308 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[150 ] ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وقوله تعالى : لئلا يكون للناس عليكم حجة أي لئلا يحتج عليكم أحد في التولي إلى غيره ، ولتنتفي مجادلتهم لكم ، كقول اليهود مثلا : يجحد ديننا ويتبع قبلتنا ! وقول غيرهم : يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته ! فإذا صليتم إليه لا تكون لهم عليكم حجة .
قال الراغب : وأشار بقوله وإنه للحق من ربك إلى تحقيق ما قدمه ، فبين أنه إذا كانت الحكمة تقتضي أن يكون لكل صاحب شرع قبلة يختص بها ، وأنت صاحب شرع ، فتغيير القبلة لك حق من ربك . (ثم قال) : إن قيل : لم كرر قوله : وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ؟ قيل : حث بإحداهما على التوجه نحو القبلة بالقلب والبدن في أي مكان حصل للإنسان ، نائيا كان عنها أو دانيا منها . وذلك مآل الاختيار والتمكن ، وحث بالآخر على التمكن بالقلب وحده عند اشتباه القبلة ، وفي النافلة في حال اليسر على الراحلة والسفر. إلا الذين ظلموا منهم فإنهم يظهرون فجورا ولددا في ذلك ، بالعناد . وهم : إما اليهود المعبر عنهم بأهل الكتاب قبل ، أو المنافقون أو المشركون كما حكى قبل في "السفهاء" ، وكان من قول اليهود ، فيما حكاه قتادة : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه . ومن قول المشركين ، فيما حكاه مجاهد : قد رجع إلى قبلتكم فيوشك [ ص: 309 ] أن يرجع إلى دينكم. وتقدم قول المنافقين . وبالجملة فالكل عابوا وخاضوا فلا تخشوهم تخافوا جدالهم واخشوني فلا تخالفوا أمري ولأتم نعمتي عليكم بالتوجه إلى أكمل الجهات المتضمنة للآيات البينات والأمن "ولعلكم تهتدون" للصراط المستقيم بالتوجه إليها ، فتهتدون بهذه القبلة هداية كاملة .
قال الحرالي : وفي طيه بشرى بفتح مكة ، واستيلائه على جزيرة العرب كلها ، وتمكينه بذلك من سائر أهل الأرض ، لاستغراق الإسلام لكافة العرب الذين فتح الله بهم له مشارق الأرض ومغاربها ، التي انتهى إليها ملك أمته .
القول في تأويل قوله تعالى :
[151 ] كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون
"كما أرسلنا فيكم رسولا منكم" وقوله تعالى "فيكم" المراد به العرب . وكذلك قوله "منكم" .
وفي إرساله فيهم ومنهم نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف . ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير . فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب "يتلو عليكم آياتنا" يقرأ عليكم القرآن الذي هو من أعظم النعم . لأنه معجزة باقية . ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات ويستفاد منه جميع العلوم ، ومجامع الأخلاق الحميدة ، فتحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة "ويزكيكم" أي يطهركم من الشرك وأفعال الجاهلية وسفاسف الأخلاق "ويعلمكم الكتاب" وهو القرآن . وهذا ليس بتكرار . لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم "والحكمة" وهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها . ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه : الحكمة هي [ ص: 310 ] سنة الرسول . وقوله : ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون تنبيه على أنه تعالى أرسل رسوله على حين فترة من الرسل ، وجهالة من الأمم ، فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم ، فبعث الله تعالى النبي بالحق . حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم ، فصاروا أعمق الناس علما وأبرهم قلوبا وأقلهم تكلفا وأصدقهم لهجة ، وذلك من أعظم أنواع النعم . قال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم الآية ، وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة فقال تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار قال ابن عباس يعني ، بنعمة الله ، محمدا صلى الله عليه وسلم ، ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره . وقال :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 311 الى صـ 315
الحلقة (61)
القول في تأويل قوله تعالى :
[152 ] فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون
فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون قال ابن جرير : أي اذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه ، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم . وقد كان بعضهم يتأول ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح . وقال القاشاني : اذكروني بالإجابة والطاعة ، أذكركم بالمزيد والتوالي . وهي بمعنى ما قبله ، وقوله "واشكروا لي" قال ابن جرير : أي اشكروا لي فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته . وقوله "ولا تكفرون" أي لا تجحدوا إحساني إليكم فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم .
قال السمرقندي : أي اشكروا نعمتي : أن أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ولا تجحدوا هذه النعمة ، ويقال : النعمة ، في الحقيقة هي العلم . وما سواه فهو تحول من راحة إلى راحة ، وليس بنعمة . والعلم [ ص: 311 ] لا يمل منه صاحبه . بل يطلب منه الزيادة . فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة ، وهي نعمة بعثه رسولا يعلمهم الكتاب والحكمة . كما قصه الحرالي . ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ولوقائعهم ، جعل تعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون . كما جعل كتابه عوضا من أشعارهم . وهز عزائمهم لذلك بما يسرهم به من ذكره لهم .
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول الله عز وجل : أنا مع عبدي حين يذكرني . فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم . وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا . وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا . فإن أتاني يمشي أتيته هرولة » . صحيح الإسناد أخرجه البخاري أيضا .
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة : أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده » .
والآثار في فضل الذكر متوافرة ويكفي فيه هذه الآية الكريمة .
(تنبيه) قال النووي رحمه الله تعالى : اعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوهما ، بل كل عامل لله تعالى بطاعة ، فهو ذاكر لله تعالى .
[ ص: 312 ] كذا قاله سعيد بن جبير رضي الله عنه ، وغيره من العلماء . وقال عطاء رحمه الله : مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام ، كيف تشتري وتبيع ؟ وتصلي وتصوم ؟ وتنكح وتطلق ؟ وأشباه هذا . وقال النووي أيضا : إن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها ، واجبة كانت أو مستحبة ، لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ، لا عارض . وقد صنف ، في عمل اليوم والليلة ، جماعة من الأئمة كتبا نفيسة . ومن أجمعها للمتأخرين (كتاب الأذكار للنووي) ، وممن جمع زبدة ما روى فيها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (زاد المعاد) ، وقال في طليعة ذلك : كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل . بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه . وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله . وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له . وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه ذكرا منه له . وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له . وسكونه وصمته ذكرا منه له بقلبه . فكان ذكر الله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله . وكان ذكره الله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا ، وعلى جنبه ، وفي مشيه وركوبه ومسيره ، ونزوله وظعنه وإقامته . انتهى .
وأما الأذكار المحدثة والسماعات المبتدعة ، سماع الكف والدف ، فلم يكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وسائر الأكابر من أئمة الدين ، يجعلون هذا طريقا إلى الله تبارك وتعالى . ولا يعدونه من القرب والطاعات بل يعدونه من البدع المذمومة . حتى قال الشافعي : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه (التغبير) يصدون به الناس عن القرآن . وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك ، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبا وافرا . ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم ، ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله ، كان نصيب الشيطان فيه أكثر. فسماع الغناء والملاهي من أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية ، وهو [ ص: 313 ] سماع المشركين ; قال الله تعالى : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، وغيرهما من السلف : التصدية ، التصفيق باليد . والمكاء مثل الصفير . فكان المشركون يتخذون هذا عبادة . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك ، والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط . لا بكف ولا بدف ولا تواجد. وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا اجتمعوا ، أمروا واحدا منهم أن يقرأ . والباقون يستمعون . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعري : ذكرنا ربنا . فيقرأ وهم يستمعون . ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له : « مررت بك البارحة ، [ ص: 314 ] وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك » . فقال : لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا . أي لحسنته لك تحسينا . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « زينوا القرآن بأصواتكم » . وقال صلى الله عليه وسلم : « لله أشد أذنا (أي استماعا) إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به ، من صاحب القينة إلى قينته » . وعن عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : « اقرأ علي » ، قلت : يا رسول الله : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : « نعم » . فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال : « حسبك الآن » . فالتفت فإذا عيناه تذرفان .
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فقال : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا وقال تعالى في أهل المعرفة : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول [ ص: 315 ] ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى : الله نـزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وقال تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا فخلاف هذا السماع ، من الباطل الذي نهى عنه . ولذلك لم يفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فعله أكابر المشايخ ، فليفق من كان من الفريق الأدنى في سلوك فقره ، وليصحب من هو من الرفيق الأعلى إلى حلول قبره ، وليداو جراحات اجتراح بدعته ، باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولزوم سنته . واعلم أن ذكر الله تعالى تارة يكون لعظمته ، فيتولد منه الهيبة والإجلال . وتارة يكون لقدرته فيتولد منه الخوف والحزن ، وتارة لنعمته فيتولد منه الشكر ، ولذلك قيل : ذكر النعمة شكرها ، وتارة لأفعاله الباهرة فيتولد منه العبر . فحق المؤمن أن لا ينفك أبدا عن ذكره تعالى على أحد هذه الأوجه . وقوله تعالى : واشكروا لي ولا تكفرون فيه أمر بشكره على نعمه وعدم جحدها ; (فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب) . وقد وعد تعالى على شكره بمزيد الخير فقال : وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد قال ابن عطية : اشكروا لي واشكروني بمعنى واحد . و "لي" أفصح وأشهر مع الشكر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 316 الى صـ 320
الحلقة (62)
القول في تأويل قوله تعالى :
[153 ] يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين
يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة أرشد تعالى المؤمنين ، إثر الأمر بالشكر في الآية قبل ، بالاستعانة بالصبر والصلاة . لأن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها ، أو في نقمة فيصبر عليها . كما جاء في الحديث : « عجبا للمؤمن لا يقضى له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له » . وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب في سبيل الله ، الصبر والصلاة ; كما تقدم في قوله : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين وفي الحديث : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى » . ثم إن الصبر صبران : صبر على ترك المحارم والمآثم ، وصبر على فعل الطاعات والقربات . والثاني أكثر ثوابا . لأنه المقصود. وأما الصبر الثالث ، وهو الصبر على المصائب والنوائب ، فذاك أيضا واجب . كالاستغفار من المعائب .
[ ص: 317 ] وقال الإمام ابن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية) وأعظم عون لولي الأمر خاصة ، ولغيره عامة ثلاثة أمور: أحدها الإخلاص لله ، والتوكل عليه بالدعاء وغيره . وأصل ذلك المحافظة على الصلاة بالقلب والبدن . والثاني الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة . والثالث الصبر على الأذى من الخلق وغيره من النوائب ; ولهذا يجمع الله بين الصلاة والصبر كثيرا كقوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وكقوله تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وقوله : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وأما قرانه بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جدا . فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية . إذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة ، يدخل في الصلاة من ذكر الله تعالى ودعائه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه ، وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع : من نصر المظلوم وإعانة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج . وفي الصبر احتمال الأذى وكظم الغيظ والعفو عن الناس ومخالفة الهوى وترك الشر والبطر . انتهى .
"إن الله مع الصابرين" قال الإمام ابن تيمية في (شرح حديث النزول) : لفظ المعية في كتاب الله جاء عاما كما في قوله تعالى : وهو معكم أين ما كنتم وفي قوله [ ص: 318 ] ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم إلى قوله : إلا هو معهم أين ما كانوا وجاء خاصا كما في قوله : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وقوله : إنني معكما أسمع وأرى وقوله : لا تحزن إن الله معنا فلو كان المراد بذاته مع كل شيء لكان التعميم يناقض التخصيص . فإنه قد علم أن قوله : لا تحزن إن الله معنا أراد به تخصيص نفسه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار ، وكذلك قوله : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون خصهم بذلك دون الظالمين والفجار .
وأيضا ، فلفظ المعية ليست في لغة العرب ولا في شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى [ ص: 319 ] الذاتين بالأخرى . كما في قوله : محمد رسول الله والذين معه وقوله : فأولئك مع المؤمنين وقوله : اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وقوله : وجاهدوا معكم ومثل هذا كثير . فامتنع أن يكون قوله "وهو معكم" يدل على أن تكون ذاته مختلطة بذوات الخلق .
وقد بسط الكلام عليه في موضع آخر وبين أن لفظ المعية في اللغة ، وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة ، فهو ، إذا كان مع العباد ، لم يناف ذلك علوه على عرشه . ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه . فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان ، ويخص بعضهم بالإعانة والنصرة والتأييد . انتهى مختصرا .
[ ص: 320 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[154 ] ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون [ 154 ]
وقوله تعالى : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ينهى تعالى عباده المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتا ; بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة ، وتصرمت عنهم اللذات ، وأضحوا كالجمادات ، كما يتبادر من معنى الميت ، ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم : الأحياء ; لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، كما قال تعالى في آل عمران : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين فقوله في هذه الآية "عند ربهم" يفسر المراد من حياتهم ; أي : إنها لأرواحهم عنده تعالى ، وقوله "ولكن لا تشعرون" أي بحياتهم الزوجية بعد موتهم ; إذ لم يظهر منها شيء في أبدانهم ، وإن حفظ بعضها عن التلف ، كما ترون النيام همودا لا يتحركون ، فلا فخر أعظم من ذلك في الدنيا ، ولا عيش أرغد منه في الآخرة .
قال الحرالي : فكأنه تعالى ينفي عن المجاهد منال المكروه من كل وجه ، حتى في أن يقال عنه : ميت . فحماه من القول الذي هو عندهم من أشد غرض أنفسهم ، لاعتلاق أنفسهم بجميل الذكر . انتهى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 321 الى صـ 325
الحلقة (63)
ولذا قال الأصم : يعني لا تسموهم بالموتى ، وقولوا لهم الشهداء الأحياء . وقال الراغب الأصفهاني : الحياة على أوجه ، وكل واحد منها يقابله موت (الأولى) هي القوة النامية التي [ ص: 321 ] بها الغذاء ، والشهوة إليه ، وذلك موجود في النبات والحيوان والإنسان . ولذلك يقال : نبات حي .
(والثانية) في القوة الحاسة التي بها الحركة المكانية . وهي في الحيوان دون النبات .
(والثالثة) القوة العاملة العاقلة . وهي في الإنسان دون الحيوان والنبات . وبها يتعلق التكليف . وقد يقال للعلم المستفاد والعمل الصالح : حياة ، وعلى ذلك قوله تعالى : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم وقيل : المحسن حي وإن كان في دار الأموات ، والمسيء ميت وإن كان في دار الأحياء .
(قال) ونعود إلى معنى الآية فنقول : قد أجمعوا على أنه لا يثبت لهم الحياة التي بها النمو والغذاء ، ولا الحياة التي بها الحس . فإن فقدانهما عن الميت محسوس ومعقول . فبعض المفسرين اعتبر الحياة المختصة بالإنسان . وقال : إن هذه الحياة مخصصة بالقوة المسماة تارة الروح وتارة النفس . قال : والموت المشاهد هو مفارقة هذه القوة - التي هي الروح البدن . فمتى كان الإنسان محسنا كان منعما بروحه مسرورا لمكانه إلى يوم القيامة . وإن كان مسيئا كان به معذبا . وإلى هذا ذهب الحكماء ودلوا عليه بالبراهين والأدلة . وهو مذهب أصحاب الحديث . ويدل على صحته الأخبار والآيات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم . بل إليه ذهب أصحاب الملل كلها .
ومما دل على صحته خبرا « الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » وما روي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد [ ص: 322 ] بألفي عام» . وروي أنه لما قتل من قتل من صناديد قريش -يوم بدر- وجمعوا في قليب ، أقبل النبي صلى الله عليه وسلم فخاطبهم بقوله : « هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا » قيل : يا رسول الله ! أتخاطب جيفا ؟ فقال : « ما أنتم بأسمع منهم ، ولو قدروا لأجابوا » . إلى غير ذلك من الأخبار . وقال تعالى في آل فرعون : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا وهذا يعني به قبل يوم القيامة ; لأنه قال في آخر الآية : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب انتهى .
وفي البيضاوي وحواشيه : إن إثبات الحياة للشهداء في زمان بطلان الجسد ، وفساد البنية ؛ ونفي الشعور بها - دليل على أن حياتهم ليست الجسد ، ولا من جنس حياة الحيوان ، لأنها بصحة البنية ، واعتدال المزاج وإنما هي أمر يدرك بالوحي لا بالعقل . انتهى .
وقد جاء الوحي ببيان حياتهم -كما أسلفنا- قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (الروح): وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وهذه حياة أرواحهم ، ورزقها دار ، وإلا فالأبدان قد تمزقت . وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه [ ص: 323 ] الحياة : بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ؟ ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا . . . ! ففعل بهم ذلك ثلاث مرات . فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا -قالوا : يا رب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى . . ! فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا . وصح عنه صلى الله عليه وسلم : « إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة » (وتعلق بضم اللام ; أي : تأكل العلقة) وهذا صريح في أكلها ، وشربها ، وحركتها ، وانتقالها ، وكلامها . . . ! انتهى .
قال الطيبي : قوله صلى الله عليه وسلم : « أرواحهم في جوف طير خضر » أي : يخلق لأرواحهم ، بعدما فارقت أبدانهم ، هياكل على تلك الهيئة ، تتعلق بها وتكون خلفا عن أبدانهم ، فيتوسلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذات الحسية . وقال ابن القيم في كتاب (الروح): إن الله سبحانه وتعالى جعل الدور ثلاثة : دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار ، وجعل لكل دار أحكاما تختص بها ، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان ، والأرواح تبع لها ، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح ، وإن أضمرت النفوس خلافه .
وجعل أحكام البرزخ على الأرواح ، والأبدان [ ص: 324 ] تبع لها ، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا ، فتألمت بألمها ، والتذت براحتها ، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب -تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها ، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم ، فالأبدان هنا ظاهرة ، والأرواح خفية . والأبدان كالقبور لها . والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها ، فتجري أحكام البرزخ على الأرواح . فترى إلى أبدانها نعيما وعذابا . كما جرى أحكام الدنيا على الأبدان فترى إلى أرواحها نعيما وعذابا ، فأحط بهذا الموضع علما واعرفه كما ينبغي ، يزل عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج . وقد أرانا الله سبحانه ، بلطفه ، ورحمته وهدايته من ذلك ، أنموذجا في الدنيا من حال النائم . فإن ما ينعم به ، أو يعذب في نومه ، يجري على روحه أصلا ، والبدن تبع له ، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا ، فيرى النائم أنه في نومه ضرب ، فيصبح وآثار الضرب في جسمه . ويرى أنه قد أكل وشرب ، فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه . ويذهب عنه الجوع والظمأ .
وأعجب من ذلك أنك ترى النائم ، ثم يقوم من نومه ، ويضرب ويبطش ويدافع ، كأنه يقظان ، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك . لأن الحكم ، لما جرى على الروح ، استعانت بالبدن من خارجه ، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس .
فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم ، ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع ، فهكذا في البرزخ ، بل أعظم . فإن تجرد الروح هناك أكمل وأقوى ، وهي متعلقة ببدنها ، لم تنقطع عنه كل الانقطاع . فإذا كان يوم حشر الأجساد ، وقيام الناس من قبورهم ، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرا باديا . ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه ، وضيقه وسعته ، وضمه ، وكونه حفرة من حفر النار ، أو روضة من رياض الجنة- مطابق للعقل . وأنه حق لا مرية فيه . وأن من أشكل عليه ذلك ، فمن سوء فهمه ، وقلة علمه . انتهى .
[ ص: 325 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[155 ] ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين [156 ] الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون
وقوله تعالى : "ولنبلونكم بشيء" خطاب لمن آمن مع النبي صلى الله عليه وسلم ، خصوا به ، وإن شمل من ماثلهم ، لأنهم المباشرون للدعوة والجهاد ، ومكافحة الفجار . وكل قائم بحق ، وداع إليه ، معرض للابتلاء بما ذكر ، كله أو بعضه . والتنوين للتقليل ; أي : بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه ، وإنما قلل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان ، وإن جل ، ففوقه ما يقل إليه ، وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم ، وإنما أخبر به قبل الوقوع ، ليوطنوا عليه نفوسهم ، ويزداد يقينهم ، عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به ، وليعلموا أنه شيء يسير ، له عاقبة حميدة "من الخوف" أي خوف العدو والإرجاف به "والجوع" أي الفقر ، للشغل بالجهاد ، أو فقد الزاد ، إذا كنتم في سرية تجاهدون في سبيل الله . وقد كان يتفق لهم ذلك أياما يتبلغون فيها بتمرة "ونقص من الأموال" أي : لانقطاعهم بالجهاد عن عمارة بساتينهم ، أو لافتقاد بعضها بسبب الهجرة ، وترك شيء منه في البلدة المهاجر منها "والأنفس" بقتلها شهيدة في سبيل الله ، أو ذهاب أطرافها فيه "والثمرات" أي بأن لا نغل الحدائق كعادتها ، للغيبة عنها في سبيل الله ، وفقد من يتعاهدها ، وخصت بالذكر لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم أخص الناس بهذا الذكر لا سيما في وقت نزول هذه الآيات ، وهو أول زمان الهجرة . فكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده كما قال [ ص: 326 ] ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين قال الراغب: هذه الآية مشتملة على محن الدنيا كلها : أي إذا نظر إلى عموم كل فرد مما ذكر فيها ، وقطع النظر عن خصوص حال المخاطبين فيها ، بما يدل عليه سابقه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 326 الى صـ 330
الحلقة (64)
ثم بين تعالى ما للصابرين عنده بقوله : وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة مكروه ، اسم فاعل من أصابته شدة : لحقته . أي كهذه البلايا "قالوا إنا لله" أي ملكا وخلقا، فلا ينبغي أن نخاف غيره ، لأنه غالب على الكل ، أو نبالي بالجوع ; لأن رزق العبد على سيده ، فإن منع وقتا ، فلا بد أن يعود إليه . وأموالنا وأنفسنا وثمراتنا ملك له ، فله أن يتصرف فيها بما يشاء "وإنا إليه راجعون" في الدار الآخرة . فيحصل لنا عنده ما فوته علينا . لأنه لا يضيع أجر المحسنين . فالمصاب يهون عليه خطبه ، إذا تسلى بقوله هذا ، وتصور ما خلق له ، وأنه راجع إلى ربه ، وتذكر نعم الله عليه ، ورأى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه . قال الراغب : وليس يريد بالقول اللفظ فقط ، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح وتسخط القضاء ليس يغني شيئا ، وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله والقصد له ، والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول إليه ، فأمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصورها ، وقصد هذا المقصد ووطن نفسه عليه .
(ثم قال) إن قيل : ولم قلت : إن الأمر بالصبر يقتضي العلم ؟ قيل : الصبر في الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضيلة مطلوبه .
[ ص: 327 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[157 ] أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون
"أولئك" إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت "عليهم صلوات من ربهم"
قال الراغب : الصلاة ، وإن كانت في الأصل الدعاء ، فهي من الله البركة على وجه ، والمغفرة على وجه . وقال الرازي : الصلاة من الله هي الثناء والمدح والتعظيم . قال الراغب : وإنما قال "صلوات" على الجمع ، تنبيها على كثرتها منه وأنها حاصلة في الدنيا توفيقا وإرشادا ، وفي الآخرة ثوابا ومغفرة "ورحمة" عظيمة في الدنيا عوض مصيبتهم "وأولئك هم المهتدون" أي إلى الوفاء بحق الربوبية والعبودية ، فلا بد أن يوفي الله عليهم صلواته ورحمته .
(تنبيه) ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، عند المصائب ، وفي أجر الصابرين ، أحاديث كثيرة . منها ما في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون . اللهم أجرني في مصيبتي ، وأخلف لي خيرا منها ، إلا أجره الله في مصيبته ، وأخلف له خيرا منها » . قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت : من خير من أبي سلمة: صاحب رسول الله ؟ ثم عزم الله لي فقلتها . قالت : فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى الإمام أحمد عن الحسين بن علي عليهما السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها ، وإن طال عهدها ، فيحدث لذلك استرجاعا ، إلا جدد الله له عند ذلك ، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها » .
[ ص: 328 ] وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي سنان قال : دفنت ابنا لي ، وإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة (يعني الخولاني) فأخرجني وقال : ألا أبشرك ؟ قال قلت : بلى . قال : حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال الله تعالى : يا ملك الموت ، قبضت ولد عبدي ، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال : نعم . قال : فما قال ؟ قال : حمدك واسترجع . قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد » . ورواه الترمذي وقال : حسن غريب .
وروى البخاري : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من يرد الله به خيرا يصب منه » .
وروى الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه » .
ورويا أيضا عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من مسلم يصيبه أذى من مرض [ ص: 329 ] فما سواه إلا حط الله به عنه من سيئاته ، كما تحط الشجرة ورقها » .
والأحاديث في ذلك متوافرة معروفة في كتب السنة .
وللإمام عز الدين محمد بن عبد السلام ، رحمه الله تعالى ، كلام على فوائد المحن والرزايا يحسن إيراده هنا . قال عليه الرحمة : للمصائب والبلايا والمحن والرزايا فوائد تختلف باختلاف رتب الناس :
أحدها : معرفة عز الربوبية وقهرها .
والثاني : معرفة ذلة العبودية وكسرها ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده ، وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره وقضائه وتقديره لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه .
والثالثة : الإخلاص لله تعالى ; إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه ، ولا معتمد في كشفها إلا عليه : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين
[ ص: 330 ] الرابعة : الإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه
الخامسة : التضرع والدعاء : وإذا مس الإنسان الضر دعانا وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 331 الى صـ 335
الحلقة (65)
السادسة : الحلم ممن صدرت عنه المصيبة : إن إبراهيم لأواه حليم [ ص: 331 ] إنا نبشرك بغلام عليم [ وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد قيس ] : « إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى : الحلم والأناة » . وتختلف مراتب الحلم باختلاف المصائب في صغرها وكبرها ، فالحلم عند أعظم المصائب أفضل من كل حلم .
السابعة : العفو عن جانيها : والعافين عن الناس فمن عفا وأصلح فأجره على الله والعفو عن أعظمها أفضل من كل عفو .
الثامنة : الصبر عليها ، وهو موجب لمحبة الله تعالى وكثرة ثوابه : والله يحب الصابرين إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر .
[ ص: 332 ] التاسعة : الفرح بها لأجل فوائدها : قال عليه الصلاة والسلام : « والذي نفسي بيده ! إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء » . وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : حبذا المكروهان الموت والفقر . وإنما فرحوا بها إذ لا وقع لشدتها ومرارتها بالنسبة إلى ثمرتها وفائدتها ، كما يفرح من عظمت أدواؤه بشرب الأدوية الحاسمة لها ، مع تجرعه لمرارتها .
العاشرة : الشكر عليها لما تضمنته من فوائدها . كما يشكر المريض الطبيب القاطع لأطرافه ، المانع من شهواته ، لما يتوقع في ذلك من البرء والشفاء .
الحادية عشرة : تمحيصها للذنوب والخطايا : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير « ولا يصيب المؤمن وصب ولا نصب حتى الهم يهمه [ ص: 333 ] والشوكة يشاكها إلا كفر به من سيئاته » .
الثانية عشرة : رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم ; فالناس معافى ومبتلى ، فارحموا أهل البلاء واشكروا الله تعالى على العافية ، وإنما يرحم العشاق من عشق .
الثالثة عشرة : معرفة قدر نعمة العافية والشكر عليها . فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها .
الرابعة عشرة : ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها .
الخامسة عشرة: ما في طيها من الفوائد الخفية : فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ ص: 334 ] إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم
ولما أخذ الجبار سارة من إبراهيم كان في طي تلك البلية أن أخدمها هاجر . فولدت إسماعيل لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، فكان من ذرية إسماعيل خاتم النبيين ، فأعظم بذلك من خبر كان في طي تلك البلية ، وقد قيل :
كم نعمة مطوية لك بين أثناء المصائب
[ ص: 335 ] وقال آخر :
رب مبغوض كريه فيه لله لطائف
https://alashrafedu.com/up/uploads/w...5352161885.gif
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 336 الى صـ 340
الحلقة (66)
السادسة عشرة : إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر ، فإن نمرود ، لو كان فقيرا سقيما ، فاقد السمع والبصر ، لما حاج إبراهيم في ربه ، لكن حمله بطر الملك على ذلك ، وقد علل الله سبحانه وتعالى محاجته بإتيانه الملك ، ولو ابتلي فرعون بمثل ذلك لما قال : أنا ربكم الأعلى وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال [ ص: 336 ] مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون
والفقراء والضعفاء هم الأولياء وأتباع الأنبياء . ولهذه الفوائد الجليلة كان أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ; نسبوا إلى الجنون ، والسحر ، والكهانة واستهزئ بهم وسخر منهم ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا وقيل لنا : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب [ ص: 337 ] ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا كالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وتغربوا عن أوطانهم ، وكثر عناهم ، واشتد بلاهم ، وتكاثر أعداهم . فغلبوا في بعض المواطن ، وقتل منهم بأحد وبئر معونة من قتل . وشج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وقتل أعزاؤه ومثل بهم ، فشمتت أعداؤه واغتم أولياؤه ، وابتلوا يوم الخندق ، وزلزلوا زلزالا شديدا ، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وكانوا في خوف دائم وعري لازم . وفقر مدقع . حتى شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع . ولم يشبع سيد الأولين والآخرين من خبز بر في يوم مرتين ، وأوذي بأنواع الأذية حتى قذفوا أحب أهله إليه .
ثم ابتلي في آخر الأمر [ ص: 338 ] بمسيلمة وطليحة والعنسي ، ولقي هو وأصحابه في جيش العسرة ما لقوه ، ومات ودرعه عند يهودي على آصع من شعير . ولم تزل الأنبياء والصالحون يتعهدون بالبلاء الوقت بالوقت (يبتلى الرجل على قدر دينه ، فإن كان صلبا في دينه شدد في بلائه . ولقد كان أحدهم يوضع المنشار على مفرقه فلا يصده ذلك عن دينه) . وقال عليه الصلاة والسلام : [ ص: 339 ] « مثل المؤمن مثل الزرع ، لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء » . وقال عليه الصلاة والسلام : « مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح ، تصرعها مرة وتعدلها مرة حتى تهيج » فحال الشدة والبلوى مقبلة بالعبد إلى الله عز وجل ، وحال العافية والنعماء صارفة للعبد عن الله تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه فلأجل ذلك تقللوا في المأكل والمشارب والمناكح والمجالس والمراكب وغير ذلك . ليكونوا على حالة توجب لهم الرجوع إلى الله تعالى عز وجل والإقبال عليه .
السابعة عشرة : الرضا الموجب لرضوان الله تعالى ، فإن المصائب تنزل بالبر والفاجر ، فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة ، ومن رضيها فله الرضا . والرضا أفضل من الجنة وما فيها ; لقوله تعالى : ورضوان من الله أكبر أي : من جنات عدن ومساكنها الطيبة .
[ ص: 340 ] فهذه نبذة مما حضرنا من فوائد البلوى ونحن نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة فلسنا من رجال البلوى.وفقنا الله تعالى لما يحب ويرضى وعافانا من المحن والرزايا بمنه وكرمه . آمين
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 341 الى صـ 345
الحلقة (67)
بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى:
[158] إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم
قوله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما الصفا والمروة علمان لجبلين بمكة، ومعنى كونهما من شعائر الله: من أعلام مناسكه ومتعبداته.
قال الرازي: كل شيء جعل علما من أعلام طاعة الله، فهو من شعائر الله. قال الله تعالى: والبدن جعلناها لكم من شعائر الله أي: علامة للقربة. وقال: ذلك ومن يعظم شعائر الله وشعائر الحج معالم نسكه، ومنه المشعر الحرام، ومنه إشعار السنام - وهو أن يعلم بالمدية، فيكون ذلك علما على إحرام صاحبها، وعلى أنه قد جعله هديا لبيت الله. و(الشعائر): جمع شعيرة وهي العلامة، مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام، ومنه قولك: شعرت بكذا أي: علمت انتهى.
[ ص: 344 ] والحج: في اللغة: القصد. والاعتمار: الزيارة. غلبا في الشريعة على قصد البيت، وزيارته، على الوجهين المعروفين في النسك. والجناح: بالضم: الإثم والتضييق والمؤاخذة. وأصل الطواف: المشي حول الشيء. والمراد: السعي بينهما.
وقد روي في سبب نزول الآية عدة روايات:
ولفظ البخاري عن عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما فوالله! ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة! قالت: بئسما قلت يا ابن أختي! إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله: إن الصفا والمروة من شعائر الآية.
قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما. فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.
ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس - إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل بمناة - كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول الله! كنا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا. فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية.
[ ص: 345 ] قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما: في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام. من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت.
وفي رواية معمر عن الزهري: إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة. أخرجه البخاري تعليقا، ووصله أحمد وغيره.
وأخرج مسلم في رواية يونس عن الزهري عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا، هم وغسان، يهلون لمناة. فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سنة في آبائهم: من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة. وإنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا. فأنزل الله عز وجل في ذلك: إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم
وروى الفاكهي عن الزهري: أن عمرو بن لحي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد، فكانت الأزد وغسان يحجونها ويعظمونها، إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة فأهلوا لها. فمن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة قال: وكانت مناة للأوس والخزرج والأزد من غسان، ومن دان دينهم من أهل يثرب.
وروى النسائي بإسناد قوي عن زيد بن حارثة قال: كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما إساف ونائلة كان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما... الحديث.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 346 الى صـ 350
الحلقة (68)
وروى الطبراني وابن أبي حاتم في التفسير بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال: [ ص: 346 ] قالت الأنصار: إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية. فأنزل الله عز وجل: إن الصفا والمروة الآية.
وروى الفاكهي وإسماعيل القاضي في " الأحكام " بإسناد صحيح عن الشعبي قال: كان صنم بالصفا يدعى "إساف"، ووثن بالمروة يدعى "نائلة"، فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما، فلما جاء الإسلام رمى بهما، وقالوا: إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية من أجل أوثانهم، فأمسكوا عن السعي بينهما، قال: فأنزل الله تعالى: إن الصفا والمروة الآية.
وقد استفيد من مجموع هذه الروايات: أنه تحرج طوائف من السعي بين الصفا والمروة لأسباب متعددة فنزلت في الكل. والله أعلم.
وجواب عائشة، رضي الله عنها، لعروة هو من دقيق علمها وفهمها الثاقب، وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ ; لأن الآية الكريمة إنما دل لفظها على رفع الجناح عمن يطوف بهما، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه.
ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم أي: من فعل خيرا فإن الله يشكره عليه ويثيبه به. ومعنى: ( تطوع ) أتى بما في طوعه أو بالطاعة، وإطلاقه على ما لا يجب عرف فقهي لا لغوي. والشكر من الله تعالى المجازاة والثناء الجميل.
قال الراغب: الشكر، كما يكون بالقول، يكون بالفعل، وعلى ذلك قوله تعالى: اعملوا آل داود شكرا قال: وليس شكر الرفيع للوضيع إلا الإفضال عليه وقبول حمد منه.
[ ص: 347 ] تنبيهات:
الأول: تمسك بعضهم بقوله تعالى: ومن تطوع خيرا على أن السعي سنة، وأن من تركه لا شيء عليه، فإن كان مأخذه منها: إن التطوع التبرع بما لا يلزم، فقد قدمنا أنه عرف فقهي لا لغوي، فلا حجة فيه. وإن كان نفى الجناح، فقد علمت المراد منه.
وممن ذهب إلى أنه سنة، لا يجبر بتركه شيء، أنس فيما نقله ابن المنذر وعطاء، نقله ابن حجر في " الفتح ".
وقال الرازي: روي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء، أن من تركه فلا شيء عليه. وأما حديث: « اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي » رواه أحمد وغيره، ففي إسناده عبد الله بن المؤمل، وفيه ضعف. ومن ثم قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجة في الوجوب. ذكره الحافظ ابن حجر في " الفتح ".
الثاني: صح أنه صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة سبعا. رواه الشيخان [ ص: 348 ] وغيرهما عن ابن عمر. وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه، فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو. وأخرج أيضا من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا من الصفا قرأ: « إن الصفا والمروة من شعائر الله. أبدأ بما بدأ الله به » فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره قال: « لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده » ثم دعا بين ذلك، فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا أنصبت قدماه في بطن الوادي، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا اهـ. وظاهر هذا أنه كان ماشيا.
وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت، وبين الصفا والمروة، ليراه الناس، وليشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه.
ولم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا.
قال ابن حزم: لا تعارض بينهما، لأن الراكب إذا انصب به بعيره فقد انصب كله وانصبت قدماه أيضا مع سائر جسده.
[ ص: 349 ] وعندي - في الجمع بينهما - وجه آخر أحسن من هذا وهو: أنه سعى ماشيا أولا، ثم أتم سعيه راكبا، وقد جاء ذلك مصرحا به ; ففي صحيح مسلم عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة! قال: صدقوا وكذبوا..! قال: قلت: ما قولك صدقوا وكذبوا..؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس. يقولون: هذا محمد..! حتى خرج عليه العواتق من البيوت - قال - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه - فلما كثر عليه ركب. والمشي والسعي أفضل.
وفي الصحيحين عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوته..!
وعن كريب مولى ابن عباس: أن ابن عباس قال: ليس السعي ببطن الوادي بين الصفا والمروة بسنة، إنما كان أهل الجاهلية يسعونها ويقولون: لا نجيز البطحاء إلا شدا..! رواه البخاري تعليقا، ووصله أبو نعيم في مستخرجه. قال شراح الصحيح: المراد بالسعي المنفي هو شدة المشي والعدو. فهو، رضي الله عنه، لم ينف سنية السعي المجرد، بل مجاوزة الوادي بقوة وعدو شديد، إذ أصل السعي هديه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
[ ص: 350 ] الثالث: في البخاري عن ابن عباس في قصة هاجر أم إسماعيل: إن الطواف بينهما مأخوذ من طوافها وتزدادها في طلب الماء. ولفظه: وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال: يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « فذلك سعي الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا... » الحديث.
قال ابن كثير: لما ترددت هاجر في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة، تطلب الغوث من الله تعالى متذللة، خائفة، مضطرة، فقيرة إلى الله عز وجل، كشف تعالى كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي طعامها طعام طعم. وشفاء سقم. فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه، وصلاح حاله، وغفران ذنبه، وأنه يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه - من الذنوب والمعاصي - إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر عليها السلام.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 351 الى صـ 355
الحلقة (69)
القول في تأويل قوله تعالى:
[159] إن الذين يكتمون ما أنـزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون
إن الذين يكتمون ما أنـزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون
لما تقدم أن بعض أهل الكتاب يكتمون ما يعلمون من هذا الحق، وختم ما أتبعه له بصفتي الشكر والعلم - ترغيبا وترهيبا - بأنه يشكر من فعل ما شرعه له، ويعلم من أخفاه وإن دق فعله وبالغ في كتمانه، انعطف الكلام إلى تبكيت المنافقين منهم، ولعنهم على كتمانهم ما يعلمون من الحق ; إذ كانت هذه كلها في الحقيقة قصصهم، والخروج إلى غيرها إنما هو استطراد على الأسلوب الحكيم المبين ; لأن هذا الكتاب هدى، وكان السياق مرشدا إلى أن التقدير بعد: شاكر عليم ومن أحدث شرا فإن الله عليم قدير، فوصل به استئنافا قوله - على وجه يعمهم وغيرهم -: إن الذين يكتمون ما أنـزلنا الآية، بيانا لجزائهم، فانتظمت هذه الآية في ختمها لهذا الخطاب بما مضى في أوله من قوله: ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون فكانت البداية خاصة، وكان الختم عاما، ليكون ما في كتاب الله أمرا منطبقا - على نحو ما كان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ومن تقدمه من الرسل خلقا - لينطبق الأمر على الخلق بدءا وختما انطباقا واحدا، فعم كل كاتم من الأولين والآخرين. نقله البقاعي.
واللعن: الطرد والإبعاد عن الخير، هذا من الله تعالى، ومن الخلق: السب والشتم، والدعاء على الملعون، ومشاقته، ومخالفته، مع السخط عليه، والبراءة منه. والمراد بقوله: اللاعنون كل من يصح منه لعن، وقد بينه بعد قوله تعالى: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين [ ص: 352 ] وقد دلت الآية على أن هذا الكتمان من الكبائر ; لأنه تعالى أوجب فيه اللعن، لأن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته، وبلغ للعنه من الشقاوة والخسران الغاية التي لا يدرك كنهها..! وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتمان العلم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا أبدا: إن الذين يكتمون الآية، وقوله: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه الآية.
ثم استثنى تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال:
[ ص: 353 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[160] إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم
إلا الذين تابوا - أي: عن الكتمان -: وأصلحوا - أي: عملوا صالحا -: وبينوا - ما كانوا كتموه فظهرت توبتهم بالإقلاع -: فأولئك أتوب عليهم - أي: أقبل توبتهم بإفاضة المغفرة والرحمة عليهم -: وأنا التواب الرحيم
ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى كفره بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:
إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون
إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها - أي: في اللعنة، أو في النار، على أنها أضمرت من غير ذكر تفخيما لشأنها وتهويلا لأمرها -: لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون - إما من الإنظار بمعنى التأخير والإمهال. أي: لا يمهلون عن العذاب ولا يؤخر عنهم ساعة بل هو متواصل دائم، أو من النظر بمعنى الرؤية أي: لا ينظر إليهم نظر رحمة كقوله: ولا ينظر إليهم يوم القيامة
[ ص: 354 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[163] وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم يخبر تعالى بخطابه كافة الناس عن تفرده بالإلهية، وأنه لا شريك له ولا عديل.
قال الراغب: يجوز أن يكون قوله: وإلهكم إله واحد خطابا عاما، أي: المستحق منكم العبادة هو إله واحد لا أكثر، ويجوز أن يكون خطابا للمؤمنين، والمعنى: الذي تعبدونه إله واحد، تنبيها أنكم لستم كالكفار الذين يعبدون أصناما آلهة والشيطان والهوى وغير ذلك. إن قيل: ما فائدة الجمع بين: ( إلهكم إله واحد ) وبين: لا إله إلا هو وأحدهما يبنى على الآخر؟ قيل: لما بين بقوله: وإلهكم إله واحد أنه المقصود بالعبادة أو المستحق لها - وكان يجوز أن يتوهم أن يوجد إله غيره، ولكن لا يعبد ولا يستحق العبادة - أكده بقوله: لا إله إلا هو وحق لهذا المعنى أن يكون مؤكدا وتكرر عليه الألفاظ ; إذ هو مبدأ مقصود العبادة ومنتهاه. انتهى.
وقال الرازي: إنما خص سبحانه وتعالى هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين ; لأن ذكر الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو، فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحا للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية، وإشعارا بأن رحمته سبقت غضبه، وأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان. انتهى.
ولما كان مقام الوحدانية لا يصح إلا بتمام العلم وكمال القدرة، نصب تعالى الأدلة، من العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات، على ذلك تبصيرا للجهال وتذكيرا للعلماء بقوله:
[ ص: 355 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[164] إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنـزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون
إن في خلق السماوات والأرض - في ارتفاع الأولى ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وفي انخفاض الثانية وكثافتها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع -: واختلاف الليل والنهار أي: اعتقابهما وكون كل منهما خلفا للآخر، فيجيء أحدهما ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه لا يتأخر عنه لحظة. كقوله تعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة أو اختلاف كل منهما في أنفسهما ازديادا وانتقاصا كما قال: يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل أي: يزيد من هذا في هذا ومن هذا في ذاك والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس أي: في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى آخر لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل إقليم لغيره.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 356 الى صـ 360
الحلقة (70)
قال الراغب: ولما لم يكن فرق بين أن يقال: والفلك التي تجري في البحر وبين أن يقال: والبحر الذي يجري فيه الفلك، في أن القصد الأول بالآية أن يعرف منفعة البحر، [ ص: 356 ] وإن أخر في اللفظ، قدم ذكر الفلك الذي هو من صنعتنا. ولما كان سبيلنا إلى معرفتها أقرب منه إلى معرفة صنعه - قدم ذكر الفلك لينظر منها إلى آثار خلق الله تعالى وما أنـزل الله من السماء أي: المزن: من ماء فأحيا به الأرض بأنواع النبات والأزهار وما عليها من الأشجار: بعد موتها باستيلاء اليبوسة عليها: وبث فيها أي: نشر وفرق: من كل دابة من العقلاء وغيرهم: وتصريف الرياح أي: تقليبها في مهابها: قبولا ودبورا وجنوبا وشمالا، وفي أحوالها: حارة وباردة وعاصفة ولينة، فتارة مبشرة بين يدي السحاب، وطورا تسوقه، وآونة تجمعه، ووقتا تفرقه، وحينا تصرفه.
قال الثعالبي: إذا جاءت الريح بنفس ضعيف، وروح فهي النسيم، فإذا كانت شديدة فهي العاصف، فإذا حركت الأغصان تحريكا شديدا وقلعت الأشجار فهي الزعزعان والزعزع، فإذا جاءت بالحصباء فهي الحاصبة، فإذا هبت من الأرض نحو السماء كالعمود فهي الإعصار، ويقال لها زوبعة أيضا، فإذا هبت بالغبرة فهي الهبوة، فإذا كانت باردة فهي الصرصر، فإذا كان مع بردها ندى فهي البليل، فإذا كانت حارة فهي الحرور والسموم، فإذا لم تلقح شجرا ولم تحمل مطرا فهي العقيم، ومما يذكر منها بلفظ الجمع: الأعاصير وهي التي تهيج بالغبار، واللواقح التي تلقح الأشجار، والمعصرات التي تأتي بالأمطار، والمبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث.
والسحاب المسخر بين السماء والأرض أي: فلا يهوي إلى جهة السفل مع ثقله يحمله بخار الماء - كما تهوي بقية الأجرام العالية - حيث لم يكن لها ممسك محسوس، ولا يعلو، ولا ينقشع، مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاثة: فالكثيف يقتضي النزول، واللطيف يقتضي العلو، والمتوسط يقتضي الانقشاع. ذكره البقاعي.
لطيفتان:
الأولى: قال الثعالبي: أول ما ينشأ السحاب فهو النشء، فإذا انسحب في الهواء [ ص: 357 ] فهو السحاب، فإذا تغيرت له السماء، فهو الغمام، فإذا أظل فهو العارض، فإذا ارتفع وحمل الماء وكثف وأطبق فهو العماء، فإذا عن فهو العنان، فإذا كان أبيض فهو المزن.
الثانية: قال الراغب: التسخير القهر على الفعل، وهو أبلغ من الإكراه، فإنه حمل الغير على الفعل بلا إرادة منه على وجه، كحمل الرحى على الطحن،اهـ. وقوله تعالى: لآيات أي: عظيمة كثيرة، فالتنكير للتفخيم كما وكيفا: لقوم يعقلون أي: يتفكرون فيها وينظرون إليها بعين العقول، فيستدلون على قدرته، سبحانه، القاهرة، وحكمته الباهرة، ورحمته الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به جل شأنه.
قال البقاعي: وسبب تكثير الأدلة أن عقول الناس متفاوتة فجعل سبحانه العالم - وهو الممكنات الموجودة، وهي جملة ما سواه، الدالة على وجوده وفعله بالاختيار - على قسمين: قسم من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة، ويسمى في عرف أهل الشرع: الشهادة والخلق والملك، وقسم لا يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى: الغيب والأمر والملكوت. والأول يدركه عامة الناس، والثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة عن الوهم والوساوس. فالله تعالى - بكمال عنايته ورأفته ورحمته - جعل العالم بقسميه محتويا على جمل وتفاصيل من وجوه متعددة، وطرق متكثرة، تعجز القوى البشرية، عن ضبطها، يستدل بها على وحدانيته، بعضها أوضح من بعض، ليشترك الكل في المعرفة، فيحصل لكل بقدر ما هيئ له، اللهم إلا أن يكون ممن طبع على قلبه، فذلك - والعياذ بالله - هو الشقي انتهى.
قال المهايمي: وكيف ينكرون وجود الله، وتوحيده، ورحمانيته، ورحيميته، وقد دل عليها دلائل العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات؟ ثم قال:
أما دلالة السماء والأرض على وجود الإله فلأنهما حادثان ؛ لأن لهما أجزاء يفتقران إليها، فلا بد لها من محدث ليس بعض أجزائهما، لأنه دخله التركيب الحادث، والقديم لا يكون محلا للحوادث، والمحدث لا بد أن يكون [ ص: 358 ] قديما قطعا للتسلسل، وعلى التوحيد، فلأن إله السماوات لو كان غير إله الأرض لم يرتبط منافع أحدهما بالآخر، وعلى الرحمتين لأنه عز وجل جعل في الأرض مواد قابلة للصور المختلفة وأفاضها واحدة بعد أخرى بتحريك السماوات.
وأما دلالة اختلاف الليل والنهار على وجود الإله فلحدوثهما من حركات السماوات، ولا بد لها من محرك، فإن كان حادثا فلا بد له من محدث، وعلى التوحيد، فلأن إله الليل لو كان غير إله النهار لأمكن كل واحد أن يأتي بما هو له في وقت إتيان الآخر بما هو له، فيلزم اجتماعهما وهو محال. فإن امتنع لزم عجز أحدهما أو كليهما، وعلى الرحمتين، فلأن الاعتدال الذي به انتظام أمر الحيوانات إنما يكون من تعاقبهما، إذ دوام الليل مبرد للعالم في الغاية، ودوام النهار مسخن له في الغاية.
وأما دلالة الفلك على وجود الإله، فلأنها أثقل من الماء فحقها الرسوب فيها، فإمساكها فوق الماء من الله، ودخول الهواء فيها - وإن كان من الأسباب - فلا يتم عند امتلاء الفلك بالأمتعة الكثيرة، إذ يقل الهواء جدا فيضعف أثره في إمساك هذا الثقيل جدا، فلا ينبغي أن ينسب إلا إلى الله تعالى من أول الأمر، وعلى التوحيد، فلأن إله الفلك لو كان غير إله البحر لربما منع أحدهما الآخر من التصرف في ملكه، وهو يفضي إلى اختلال نظام العالم لاختلاف المنافع المنوطة بالفلك، وعلى الرحمتين فلأنه رحم المسافرين بالتجارات، والمسافر إليهم بالأمتعة التي يحتاجون إليها.
وأما دلالة إنزال الماء على وجود الإله، فلأنه أثقل من الهواء، فوجوده في مركزه لا يكون إلا من الله، وعلى التوحيد، فلأن إله الماء لو كان غير إله الهواء، لمنع من التصرف في ملكه، وعلى الرحمتين، فلأنه أحيا به الأرض معاشا للحيوانات، وبث به الدواب تكميلا لمنافع الإنسان.
وأما دلالة تصريف الرياح على وجود الإله، فلأنها حادثة تحدث هذه مرة وهذه أخرى، وقد يعدم الكل، فلا بد من محدث، فإن كان حادثا افتقر إلى قديم، وعلى التوحيد، فلأنه لو كان لكل ريح إله لأمكن للكل أن يأتي بما له، فيلزم اجتماع الرياح المختلفة وهو مخل بالنظام، وعلى الرحمتين، فلأنها تحرك الفلك والسحب وتنمي [ ص: 359 ] الأشجار والثمار.
وأما دلالة السحاب على وجود الإله، فلأنه لو كان ثقيلا لنزل، أو كان خفيفا لصعد، لكنه يصعد تارة وينزل أخرى فهو من الله تعالى، وأما على التوحيد، فلأن إله السحاب، لو كان غير إله السحاب الآخر، لأمكن لكل واحد أن يجعل سحابه في مكان سحاب الآخر، فيلزم تداخل الأجسام أو العجز، وعلى الرحمتين فلأن منها الأمطار.
وله وجوه أخر من الدلالات، وفوائد غير محصورة، قنعنا بما ذكرنا.
قال القاضي عبد الجبار: الآية تدل على أمور:
أحدها: لو كان الحق يدرك بالتقليد، واتباع الآباء، والجري على الإلف والعادة، لما صح ذلك.
وثانيها: لو كانت المعارف ضرورية وحاصلة بالإلهام لما صح وصف هذه الأمور بأنها آيات ؛ لأن المعلوم بالضرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات.
وثالثها: أن سائر الأجسام والأعراض، وإن كانت تدل على الصانع، فهو تعالى خص هذه الثمانية بالذكر لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعما على المكلفين على أوفر حظ ونصيب، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثيرا في الخواطر. نقله الرازي.
ثم إن الله تعالى إنما أظهر هذه الآيات الدالة على وجوده، وتوحيده، ورحمته، ليخصه الخلق بالمحبة والعبادة.
القول في تأويل قوله تعالى:
[165] ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب
{و } لكن: {من الناس من يتخذ من دون الله أندادا } أي: أمثالا. مع أن الآيات منعت من أن يكون له ند واحد فضلا عن جماعتها يسوون بينهم وبين الله إذ: [ ص: 360 ] يحبونهم كحب الله أي: يعظمونهم ويخضعون لهم كتعظيم الله والخضوع له. والأنداد هي: إما الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى، ورجوا منها النفع والضر، وقصدوها بالمسائل، ونذروا لها النذور وقربوا لها القرابين. وإما الرؤساء الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون، لاسيما في الأوامر والنواهي، ورجح هذا ; لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ الرجال أندادا، وأمثالا لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون من الانقياد لله تعالى: والذين آمنوا أشد حبا لله من المشركين لأندادهم، لأن أولئك أشركوا في المحبة، والمؤمنون أخلصوها كلها لله، ولأنهم يعلمون أن جميع الكمالات له ومنه، ولأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره، بخلاف المشركين فكانوا يعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره أو يأكلونه، كما أكلت باهلة إلهها من حيس، عام المجاعة.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 361 الى صـ 365
الحلقة (71)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في " شرح المنازل " في باب التوبة:
أما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة، وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله تعالى، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولذا قالوا لآلهتهم في النار: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين مع إقرارهم بأن الله تعالى وحده خالق كل شيء، وربه، ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تميت ولا تحيي، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة، والتعظيم، والعبادة، كما هو حال أكثر مشركي العالم..! بل كلهم يحبون معبوديهم، ويعظمونها، ويوادونها من دون الله تعالى..! وكثير منهم - بل أكثرهم - يحبون آلهتهم [ ص: 361 ] أعظم من محبة الله تعالى..! ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله تعالى..! ويغضبون بتنقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم ما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين..! وإذا انتقصت حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث أو الكلب..! وإذا انتهكت حرمات الله تعالى لم يغضبوا لها. بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه، ولم تنكر له قلوبهم..! قد شاهدنا نحن وغيرنا هذا منهم.. انتهى.
وقال الإمام تقي الدين أحمد بن علي المقريزي رحمه الله:
ومن أجل الشرك، وأصله الشرك في محبة الله، قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله الآية، فأخبر سبحانه أن من أحب مع الله شيئا غيره، كما يحبه، فقد اتخذ ندا من دونه! وهذا على أصح القولين في الآية أنهم يحبونهم كما يحبون الله، وهذا هو العدل المذكور في قوله تعالى: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون والمعنى على أصح القولين: أنهم يعدلون به غيره في العبادة فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة، وكذلك قول المشركين في النار لأصنامهم: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ومعلوم قطعا أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونهم خالقيهم، فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرين بأن الله تعالى وحده هو ربهم وخالقهم، وأن الأرض ومن فيها لله وحده، وأنه رب السماوات ورب [ ص: 362 ] العرش العظيم، وأنه هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه.... وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبة والعبادة، فمن أحب غير الله تعالى، وخافه، ورجاه، وذل له كما يحب الله ويخافه ويرجوه فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى...! فعياذا بالله! من أن ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام، كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه مسلم موحد...!
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه:
والمتخذ إلهه هواه، له محبة كمحبة المشركين لآلهتهم، ومحبة عباد العجل له، وهذه محبة مع الله لا محبة لله! وهذه محبة أهل الشرك...! والنفوس قد تدعي محبة الله، وتكون في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تهواه، وقد أشركته في الحب مع الله! وقد يخفى الهوى على النفس، فإن حبك الشيء يعمي ويصم..! وهكذا الأعمال التي يظن الإنسان أنه يعملها لله وفي نفسه شرك قد خفي عليه وهو يعلمه، إما لحب رياسة، وإما لحب مال، وإما لحب صورة...!.
ولهذا قالوا: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة وحمية ورياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله...! فلما صار كثير من الصوفية النساك المتأخرين يدعون المحبة - ولم يزنوها بميزان العلم والكتاب والسنة - دخل فيها نوع من الشرك واتباع الأهواء، والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله ؛ فقال: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ ص: 363 ] ، وهذا، لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبه الله، وليس شيء يحبه الله إلا والرسول يدعو إليه...! وليس شيء يدعو إليه الرسول إلا والله يحبه...! فصار محبوب الرب ومدعو الرسول متلازمين، بل هذا هو هذا في ذاته، وإن تنوعت الصفات...! انتهى.
ولو يرى الذين ظلموا أي: باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود: إذ يرون العذاب المعد لهم يوم القيامة: أن القوة لله جميعا أي: القدرة كلها لله، على كل شيء، من العقاب والثواب، دون أندادهم: وأن الله شديد العذاب أي: العقاب للظالمين. وفائدة عطفها على ما قبلها: المبالغة في تهويل الخطب، وتفظيع الأمر ؛ فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب، لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه. وجواب لو: محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان، إما لعدم الإحاطة بكنهه، وإما لضيق العبارة عنه، وإما لإيجاب ذكره ما لا يستطيعه المعبر أو المستمع من الضجر والتفجع عليه ؛ أي: لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم. ونظيره - في حذف الجواب - قوله تعالى: ولو ترى إذ وقفوا وقولهم: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه. وقرئ: ( ولو ترى ) بالتاء على خطاب الرسول أو كل مخاطب ; أي: ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما في الفظاعة والهول.
[ ص: 364 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[166] إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب
إذ تبرأ الذين اتبعوا بدل من: إذ يرون أي: تبرأ المتبوعون وهم الرؤساء الآمرون باتخاذ الأنداد وكل ما عبد من دونه تعالى: من الذين اتبعوا من الأتباع، بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه في الدنيا لهم، أو يدعونهم إليه من فنون الكفر والضلال، واعتزلوا عن مخالطتهم، وقابلوهم باللعن. وقرئ الأول على البناء للفاعل، والثاني على البناء للمفعول، أي: تبرأ الأتباع من الرؤساء: ورأوا العذاب الواو للحال، أي: تبرأوا في حال رؤيتهم العذاب: وتقطعت بهم الأسباب أي: الوصل التي كانت بينهم، من الاتفاق على دين واحد، ومن الأنساب، والمحاب، والاتباع، والاستتباع.
القول في تأويل قوله تعالى:
[167] وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار
وقال الذين اتبعوا حين عاينوا تبرؤ الرؤساء منهم، وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم في الدنيا: لو أن لنا كرة أي: ليت لنا رجعة إلى الدنيا: فنتبرأ منهم هناك، ومن عبادتهم، ونعبده تعالى وحده: كما تبرءوا منا اليوم. وهم كاذبون في هذا، بل لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، كما أخبر تعالى عنهم بذلك: كذلك أي: مثل تلك الإراءة الفظيعة: يريهم الله أعمالهم حسرات ندمات شديدة: عليهم أي: تذهب وتضمحل، كما قال تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ ص: 365 ] وقال تعالى: مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف الآية، وقال تعالى: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء الآية: وما هم بخارجين من النار ونظير هذه الآية قوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ؟ وقال تعالى: واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 366 الى صـ 370
الحلقة (72)
[ ص: 366 ] وقال الخليل لقومه: إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين وقالت الملائكة: تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ويقولون: سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون وقال تعالى: ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وقال تعالى: وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم
[ ص: 367 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[168] يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا حال أو مفعول، وهو ما انتفى عنه حكم التحريم: طيبا أي: مستطابا في نفسه، غير ضار للأبدان ولا للعقول.
وقد روى الحافظ أبو بكر بن مردويه بسنده عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة! فقال: « يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده! إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به...! » : ولا تتبعوا خطوات الشيطان وهي طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها... مما زينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال » . وفيه: « وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم » .
[ ص: 368 ] ومما يدخل في خطوات الشيطان: كل معصية لله، ومنها: النذور في المعاصي كما قاله بعض السلف في الآية.
قال الشعبي: نذر رجل أن ينحر ابنه، فأفتاه مسروق بذبح كبش، وقال: هذا من خطوات الشيطان!
قال أبو الضحى عن مسروق: أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح، فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم، فقال: لا أريده. فقال: أصائم أنت؟ قال: لا..! قال: فما شأنك؟ قال حرمت أن آكل ضرعا أبدا...! فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان، فأطعم وكفر عن يمينك..! رواه ابن أبي حاتم.
وروي أيضا عن أبي رافع قال: غضبت يوما على امرأتي، فقالت: هي يوما يهودية [ ص: 369 ] ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك..! فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان..! وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة - وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة - وأتيت عاصما وابن عمر فقالا مثل ذلك.
وروى عبد بن حميد عن ابن عباس قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين! نقله الإمام ابن كثير الدمشقي.
إنه لكم عدو مبين تعليل للنهي، للتنفير عنه والتحذير منه كما قال: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وقال تعالى: أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا
القول في تأويل قوله تعالى:
[169] إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
إنما يأمركم بالسوء والفحشاء استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيل لفنون شره وإفساده. والسوء: يشكل جميع المعاصي، سواء كانت من أعمال الجوارح، أو أفعال القلوب. و: والفحشاء ما تجاوز الحد في القبح من العظائم وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون أي: بأن تفتروا عليه تعالى بأنه حرم هذا وذاك بغير علم. فمعنى: ما لا تعلمون ما لا تعلمون أن الله تعالى أمر به.
[ ص: 370 ] قال البقاعي: ولقد أبلغ سبحانه في هذه الآية في حسن الدعاء لعباده إليه، لطفا بهم ورحمة لهم، بتذكيرهم في سياق الاستدلال على وحدانيته، بما أنعم عليهم، بخلقه لهم أولا، وبجعله ملائما لهم ثانيا وإباحته لهم ثالثا، وتحذيره لهم من العدو رابعا.... إلى غير ذلك من دقائق الألطاف وجلائل المنن...!اهـ.
قال الرازي: قوله تعالى: وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون يتناول جميع المذاهب الفاسدة، بل يتناول مقلد الحق...! لأنه - وإن كان مقلدا للحق - لكنه قال ما لا يعلمه، فصار مستحقا للذم لاندراجه تحت الذم في هذه الآية.! انتهى.
وقال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين ": القول على الله بلا علم يعم القول عليه سبحانه في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه وشرعه. وقد جعله الله تعالى من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقال تعالى: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم ! فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام. ولما لم يحله: هذا حلال. وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه.
وقال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يقول لما لا يعلم ولا ورد الوحي المبين بتحليله وتحريمه: أحله الله وحرمه، لمجرد التقليد أو بالتأويل.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 371 الى صـ 375
الحلقة (73)
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح، أميره بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم، على حكم الله، وقال: « فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا....؟ ولكن [ ص: 372 ] أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك..... » فتأمل، كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله. ومن هذالما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكما حكم به فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا. ولكن قل هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وقال مالك: لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحدا أقتدي به، يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام. وما كانوا يجترئون على ذلك. وإنما كانوا يقولون: نكره كذا ونرى هذا حسنا.
ولما نهاهم سبحانه عن متابعة العدو، ذمهم بمتابعته، مع أنه عدو، من غير حجة، بل بمجرد التقليد للجهلة، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:
[170] وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنـزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنـزل الله على رسوله واجتهدوا في تكليف أنفسكم الرد عن الهوى الذي نفخه فيها الشيطان: قالوا بل نتبع ما ألفينا أي: وجدنا: عليه آباءنا أي: من عبادة الأصنام والأنداد. فقال مبكتا لهم: أولو أي: أيتبعون آباءهم ولو: كان آباؤهم لا يعقلون شيئا أي: من الدين: ولا يهتدون للصواب إذ جهلوه؟
قال الحرالي: فيه إشعار بأن عوائد الآباء منهية حتى يشهد لها شاهد أبوة الدين، ففيه التحذير في رتب ما بين حال الكفر إلى أدنى الفتنة التي شأن الناس أن يتبعوا فيها عوائد آبائهم.
[ ص: 373 ] قال الرازي: معنى الآية: إن الله تعالى أمرهم بأن يتبعوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة. فهم قالوا: لا نتبع ذلك وإنما نتبع آباءنا وأسلافنا. فكأنهم عارضوا الدلالة بالتقليد، وأجاب الله تعالى عنهم بقوله: أولو كان آباؤهم إلى آخره.
ثم قال: تقرير هذا الجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال للمقلد: هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقا أم لا؟ فإن اعترفت بذلك، لم تعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقا، فكيف عرفت أنه محق؟ وإن عرفته بتقليد آخر، لزم التسلسل، وإن عرفته بالعقل، فذاك كاف، فلا حاجة إلى التقليد...! وإن قلت: ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقا... فإذن قد جوزت تقليده وإن كان مبطلا..! فإذن أنت - على تقليدك - لا تعلم أنك محق أو مبطل...!
وثانيها: هب أن ذلك المتقدم كان عالما بهذا الشيء، إلا أنا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالما بذلك الشيء قط، وما اختار فيه البتة مذهبا، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه، كان لا بد من العدول إلى النظر، فكذا ههنا.
وثالثها: أنك إذا قلدت من قبلك، فذلك المتقدم كيف عرفته؟ أعرفته بتقليد أم لا بتقليد؟ فإن عرفته بتقليد، لزم إما الدور وإما التسلسل. وإن عرفته لا بتقليد، بل بدليل، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدم، وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد ; لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل - مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد - كنت مخالفا له. فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه، فيكون باطلا.
ثم قال الرازي عليه الرحمة: إنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان، تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان وبين متابعة التقليد، وفيه [ ص: 374 ] أقوى دليل، على وجوب النظر والاستدلال وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل، أو على ما يقوله الغير من غير دليل.
وقال الإمام الراغب: ذمهم الله بأنهم أبطلوا ما خص الله به الإنسان من الفكر والروية، وركب فيه من المعارف، وذلك أن الله ميز الإنسان بالفكر ليعرف به الحق من الباطل في الاعتقاد، والصدق من الكذب في الأقوال، والجميل من القبيح في الفعل، ليتحرى الحق والصدق والجميل، ويتجنب أضدادها، وجعل له من نور العقل ما يستغني به. فيدله على معرفة مطلوبه. فلما حث الناس على تناول الحلال الطيب، ونهاهم عن متابعة الشيطان، بين حال الكفار في تركهم الرشاد، واتباعهم الآباء والأجداد ليحذر الاقتداء بهم، تاركين استعمال الفكر الذي هو صورة الإنسان وحقيقته، ثم قال: أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا أي: أيتبعونهم وإن كانوا جهلة؟ تنبيها على أنه محال اتباع من لا عقل له ولا اهتداء.
إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله: ( يعقلون ) و: ( يهتدون ) وأحدهما يغني عن الآخر؟ قيل: قد تقدم أن العاقل يقال على ضربين: أحدهما لمن يحصل له القوة التي بها يصح التكليف، والثاني لمن يحصل العلوم المكتسبة وهو المقصود ههنا. والمهتدي قد يقال لمن اقتدى في أفعاله بالعالم وإن لم يكن مثله في العلم، فبين أنهم لا يعقلون ولا يهتدون، ووجه آخر: وهو أن يعقل ويهتدي، وإن كان كثيرا ما يتلازمان، فإن العقل يقال بالإضافة إلى المعرفة، والاهتداء بالإضافة إلى العمل، فكأنه قيل: لا علم لهم صحيح ولا مستقيم.
ثم ضرب تعالى للكافرين مثلا فظيعا كما قال سبحانه: للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء فقال:
[ ص: 375 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[171] ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق أي: يصيح، يقال: نعق الراعي بغنمه: صاح بها وزجرها. وقوله تعالى: بما لا يسمع إلا دعاء ونداء أي: بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه - الذي هو تصويت بها، وزجر لها - ولا تفقه شيئا آخر، ولا تعي كما يفهم العقلاء ويعون. وقد أفهم هذا الإيجاز البليغ تمثيلين في مثل واحد. فكأن وفاء اللفظ: مثل الذين كفروا ومثل داعيهم كمثل الراعي ومثل ما يرعى من البهائم. وهو من أعلى خطاب فصحاء العرب، ومن لا يصل فهمه إلى جمع المثلين، يقتصر على تأويله بمثل واحد، فيقدر في الكلام: ومثل داعي الذين كفروا. أشار لذلك الحرالي فيما نقله البقاعي عنه.
وقال الفراء: أضاف تعالى المثل إلى الذين كفروا، ثم شبههم بالراعي ولم يقل كالغنم. والمعنى والله أعلم: مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فأضاف التشبيه إلى الراعي والمعنى في المرعي. قال: ومثله في الكلام: فلان يخافك كخوف الأسد. المعنى كخوفه الأسد، لأن الأسد معروف أنه المخوف.
وقيل: أريد تشبيه حال الكافر في دعائه الصنم بحال من ينعق بما لا يسمعه. والمعنى: مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء، غير أنه هو في دعاء ونداء. وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء.
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 376 الى صـ 380
الحلقة (74)
وقال ابن القيم في " أعلام الموقعين ": ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركب، وأن تجعله من التشبيه المفرق. فإن جعلته من المركب: كان تشبيها للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء. وإن جعلته من التشبيه المفرق: فالذين كفروا بمنزلة البهائم، ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها، ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق، وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق. والله أعلم.
قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتباع ما أنزل الله، تركوا النظر والتدبر، وأخلدوا إلى التقليد، وقالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، ضرب لهم هذا المثل تنبيها للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه: بسبب ترك الإصغاء، وقلة الاهتمام بالدين، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام...! ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسرا لقلبه، وتضييقا لصدره حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد. ثم زاد في تبكيتهم فقال: صم بكم عمي فهم لا يعقلون فهم بمنزلة الصم: في أن الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه، وبمنزلة البكم: في أنهم لم يستجيبوا لما دعوا إليه، وبمنزلة العمي: من حيث إنهم أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها. ولما كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاثة، فلما أعرضوا عنها، فقدوا العقل المكتسب. ولهذا قيل: من فقد حسا فقد علما..!
[ ص: 377 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[172] يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون
يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم أي: ما أخلصناه لكم من الشبه، ولا تعرضوا لما فيه دنس كما أحله المشركون من المحرمات، ولا تحرموا ما أحلوا منها من السائبة وما معها: واشكروا لله الذي رزقكم هذه النعم: إن كنتم إياه أي: وحده: تعبدون أي: إن صح أنكم تخصونه بالعبادة، وتقرون أنه سبحانه هو المنعم لا غير.
قال الإمام ابن تيمية في " جواب أهل الإيمان ": الطيبات التي أباحها هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق، والخبائث هي الضارة في العقول والأخلاق، كما أن الخمر أم الخبائث لأنها تفسد العقول والأخلاق. فأباح الله الطيبات للمتقين التي يستعينون بها على عبادة ربهم التي خلقوا لها. وحرم عليهم الخبائث التي تضرهم في المقصود الذي خلقوا له، وأمرهم مع أكلها بالشكر، ونهاهم عن تحريمها، فمن أكلها ولم يشكر ترك ما أمر الله به واستحق العقوبة، ومن حرمها كالرهبان فقد تعدى حدود الله فاستحق العقوبة.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها » . وفي حديث آخر: « الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر » .
[ ص: 378 ] وقال تعالى: لتسألن يومئذ عن النعيم أي: عن شكره ; فإنه لا يبيح شيئا ويعاقب من فعله، ولكن يسأله عن الواجب الذي أوجبه معه، وعما حرمه عليه، هل فرط بترك مأمور أو فعل محظور؟ كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين
ولما قيد تعالى الإذن لهم بالطيب من الرزق، افتقر الأمر إلى بيان الخبيث منه ليجتنب، فبين صريحا ما حرم عليهم مما كان المشركون يستحلونه ويحرمون غيره وأفهم حل ما عداه، وأنه كثير جدا ليزداد المخاطب شكرا، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:
[173] إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم
إنما حرم عليكم الميتة وهي في عرف الشرع: ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة، إما في الفاعل أو في المفعول فدخل فيها: المنخنقة والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما عدا عليها السبع.
قال ابن كثير: وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر، لقوله تعالى: أحل لكم صيد البحر وطعامه على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وحديث العنبر في الصحيح.
وفي المسند، والموطأ، والسنن: قوله صلى الله عليه وسلم في البحر: « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » .
[ ص: 379 ] وروى الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني حديث ابن عمر: « أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان الحوت والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال » والدم وهو المسفوح أي: الجاري، كما صرح بذلك في الآية الأخرى والمفسر قاض على المبهم، وكان بعض العرب يجعل الدم في المصارين ثم يشويها ويأكلها ويسمونه الفصد. وفي القاموس وشرحه: والفصيد دم كان يوضع في الجاهلية في معى من فصد عرق البعير، ويشوى، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ويطعمونه الضيف في الأزمة.
ويحكى: أنه بات رجلان عند أعرابي فالتقيا صباحا، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى، فقال: ما قريت وإنما فصد لي. فقال لم يحرم من فصد له - بسكون الصاد - فجرى ذلك مثلا لمن نال بعض المقصد، وسكن الصاد تخفيفا، أي: لم يحرم القرى من فصدت له الراحلة فحظي بدمها. ويروى: من فزد له بالزاي بدل الصاد وبعضهم يقول: من قصد له - بالقاف - أي: من أعطي قصدا أي: قليلا. وكلام العرب بالفاء. وقال يعقوب: تأويل هذا أن الرجل كان يضيف الرجل في شدة الزمان، فلا يكون عنده ما يقريه، ويشح أن ينحر راحلته، فيفصدها، فإذا خرج الدم سخنه للضيف إلى أن يجمد ويقوى فيطعمه إياه ولحم الخنـزير ويدخل شحمه وبقية أجزائه في حكم لحمه: إما تغليبا، أو لأن اللحم يشمل ذلك لغة، لأنه ما لحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه، وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلده، وعرف غلبة استعماله على رطبه الأحمر، وهو هنا على أصله في اللغة، وإما بطريق القياس على رأي ; لأنه إذا حرم لحمه الذي هو المقصود بالأكل وهو أطيب ما فيه كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم، ولما حرم ما يضر الجسم ويؤذي النفس، حرم ما يرين على القلب، فقال: وما أهل به لغير الله أي: ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد ونحو ذلك [ ص: 380 ] مما كانت الجاهلية ينحرون له. وأصل الإهلال: رفع الصوت أي: رفع به الصوت للصنم ونحوه، وذلك كقول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزى.
وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنه سئل عن امرأة عملت عرسا للعبها، فنحرت فيه جزورا، فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم. وذكر أيضا عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم. والقصد سد ما كان مظنة للشرك.
قال النووي في " شرح مسلم ": فإن قصد الذابح مع ذلك تعظيم المذبوح له، وكان غير الله تعالى والعبادة له، كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح مسلما، قبل ذلك، صار بالذبح مرتدا. ذكره في الكلام على حديث علي رضي الله عنه: « لعن الله من ذبح لغير الله » .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg
-
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/35.jpg
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 381 الى صـ 385
الحلقة (75)
قال الحرالي: وذكر الإهلال إعلام بأن ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشد المحرم، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يعلم من خفي الذكر. وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر [ ص: 381 ] اسم الله عليه أم لا؟ فقال: « سموا عليه أنتم وكلوه » . قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر. فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه ; بل الذي علم أن اسم الله قد أعلن به عليه.
وروي عن علي رضي الله عنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
فصل
فيما لتحريم هذه المذكورات من الحكم والأسرار الباهرات
فأما الميتة: فقال الحرالي: هي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوة وفناء الحياة، وهي أشد مفسد للجسم، لفساد تركيبها بالموت، وذهاب تلذذ أجزائها، وعفنها، وذهاب روح الحياة والطهارة منها.
وقال المهايمي في " تفسيره ": ثم أشار تعالى إلى أنه إنما يقطع محبته أكل ما حرم، وهو الميتة وما ذكر معها. فأما الميتة فلأنها خبثت بنزع الروح منها بلا مطهر من الذبح باسم الله، تحقيقا أو تقديرا فتتعلق أرواحكم بالخبيث فتخبث، فينقطع عنها محبة الله. وإنما أبيح ميتة السمك لأن أصله الماء المطهر، فكما لا يؤثر فيه النجاسة، لا يؤثر نزع الروح فيما حصل منه، والجراد لأنه حصل من غير تولد ولا خبث في ذاته كسائر الحشرات.
وأما خبث الدم فلأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء فهو ميتة.
وقال الإمام ابن تيمية: حرم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، [ ص: 382 ] وزيادته توجب طغيان هذه القوى، وهو مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » .
وأما خبث لحم الخنزير: فلأذاه للنفس، كما حرم ما قبله لمضرتها في الجسم لأن من حكمة الله في خلقه: أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته بنفسانية ذلك الشيء: « الكبر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم » . فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة، حرم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق. نقله البقاعي.
وقد كشف لأطباء هذا العصر من مضار لحم الخنزير المبنية على التجارب الحسية غير ما قالوه القدماء. فمن مضاره: أنه يورث الدودة الوحيدة المتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة: كالمغص، والإسهال، والقيء، وفقد شهوة الطعام، أو النهم الشديد، وآلام الرأس، والإغماء، والدوار، واضطراب الفكر، وعروض نوبات صرعية، وتشنجات عصبية، وإصابة مرض دودة الشعر الحلزونية الذي يفوق الحمى، ويودي بحياة المصاب...... إلى غير ذلك من التعب وعسر الهضم، ومضار سواها.
[ ص: 383 ] قال حكيم: فالإسلام لم يأت لإصلاح الروح فقط، بل لإصلاح الروح والجسم معا..! فلم يترك ضارا لأحدهما إلا ونبه عليه تصريحا أو تلويحا... وقد بسط الحكماء المتأخرون الكلام على مضرات لحم الخنزير في مقالات عديدة.
وأما خبث المهل به لغير الله: فلأنه يرين على القلب، لأنه تقرب به لغير موجده وخالقه تقرب عبادة، وذلك من صريح الإشراك والاعتماد على غيره تعالى ; فكان خبثه معنويا لتأثيره على النفوس والأخلاق كتأثير المضر بالجسم والبدن، والشرع جاء للحفظ عما يضر مطلقا، ولصيانة مقام التوحيد.
ولما كان هذا الدين يسرا لا عسر فيه ولا حرج، رفع حكم هذا التحريم عن المضطر. فقال: فمن اضطر أي: ألجأه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأن أشرف على التلف، فأكل من شيء منه حال كونه: غير باغ أي: غير طالب له راغب فيه لذاته. من بغى الشيء وابتغاه طلبه وحرص عليه ولا عاد أي: مجاوز لسد الرمق وإزالة الضرورة: فلا إثم عليه وإن بقيت حرمته، لأنه إذا تناوله حال الاضطرار لا يؤثر فيه الخبث لأنه كاره بالطبع. وقال الراغب: واختلف إذا اضطر إلى ذلك في دواء لا يسد غيره مسده. والصحيح أنه يجوز له تناوله للعلة المذكورة، يعني: إبقاء روحه بجهة ما رآه أقرب إلى إبقائه، وهي التي أجيز تناوله ما ذكر له للجوع.
إن الله غفور لما أكله حال الضرورة: رحيم حيث رخص لعباده في ذلك إبقاء عليهم.
ثم أعاد تعالى وعيد كاتمي أحكامه، إثر ما ذكره من الأحكام، تحذيرا لهذه الأمة أن يسلكوا سبيل من عنوا به، وهم أهل الكتاب، فقال سبحانه:
قال الحرالي: وذكر الإهلال إعلام بأن ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشد المحرم، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يعلم من خفي الذكر. وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر [ ص: 381 ] اسم الله عليه أم لا؟ فقال: « سموا عليه أنتم وكلوه » . قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر. فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه ; بل الذي علم أن اسم الله قد أعلن به عليه.
وروي عن علي رضي الله عنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
فصل
فيما لتحريم هذه المذكورات من الحكم والأسرار الباهرات
فأما الميتة: فقال الحرالي: هي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوة وفناء الحياة، وهي أشد مفسد للجسم، لفساد تركيبها بالموت، وذهاب تلذذ أجزائها، وعفنها، وذهاب روح الحياة والطهارة منها.
وقال المهايمي في " تفسيره ": ثم أشار تعالى إلى أنه إنما يقطع محبته أكل ما حرم، وهو الميتة وما ذكر معها. فأما الميتة فلأنها خبثت بنزع الروح منها بلا مطهر من الذبح باسم الله، تحقيقا أو تقديرا فتتعلق أرواحكم بالخبيث فتخبث، فينقطع عنها محبة الله. وإنما أبيح ميتة السمك لأن أصله الماء المطهر، فكما لا يؤثر فيه النجاسة، لا يؤثر نزع الروح فيما حصل منه، والجراد لأنه حصل من غير تولد ولا خبث في ذاته كسائر الحشرات.
وأما خبث الدم فلأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء فهو ميتة.
وقال الإمام ابن تيمية: حرم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، [ ص: 382 ] وزيادته توجب طغيان هذه القوى، وهو مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » .
وأما خبث لحم الخنزير: فلأذاه للنفس، كما حرم ما قبله لمضرتها في الجسم لأن من حكمة الله في خلقه: أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته بنفسانية ذلك الشيء: « الكبر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم » . فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة، حرم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق. نقله البقاعي.
وقد كشف لأطباء هذا العصر من مضار لحم الخنزير المبنية على التجارب الحسية غير ما قالوه القدماء. فمن مضاره: أنه يورث الدودة الوحيدة المتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة: كالمغص، والإسهال، والقيء، وفقد شهوة الطعام، أو النهم الشديد، وآلام الرأس، والإغماء، والدوار، واضطراب الفكر، وعروض نوبات صرعية، وتشنجات عصبية، وإصابة مرض دودة الشعر الحلزونية الذي يفوق الحمى، ويودي بحياة المصاب...... إلى غير ذلك من التعب وعسر الهضم، ومضار سواها.
[ ص: 383 ] قال حكيم: فالإسلام لم يأت لإصلاح الروح فقط، بل لإصلاح الروح والجسم معا..! فلم يترك ضارا لأحدهما إلا ونبه عليه تصريحا أو تلويحا... وقد بسط الحكماء المتأخرون الكلام على مضرات لحم الخنزير في مقالات عديدة.
وأما خبث المهل به لغير الله: فلأنه يرين على القلب، لأنه تقرب به لغير موجده وخالقه تقرب عبادة، وذلك من صريح الإشراك والاعتماد على غيره تعالى ; فكان خبثه معنويا لتأثيره على النفوس والأخلاق كتأثير المضر بالجسم والبدن، والشرع جاء للحفظ عما يضر مطلقا، ولصيانة مقام التوحيد.
ولما كان هذا الدين يسرا لا عسر فيه ولا حرج، رفع حكم هذا التحريم عن المضطر. فقال: فمن اضطر أي: ألجأه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأن أشرف على التلف، فأكل من شيء منه حال كونه: غير باغ أي: غير طالب له راغب فيه لذاته. من بغى الشيء وابتغاه طلبه وحرص عليه ولا عاد أي: مجاوز لسد الرمق وإزالة الضرورة: فلا إثم عليه وإن بقيت حرمته، لأنه إذا تناوله حال الاضطرار لا يؤثر فيه الخبث لأنه كاره بالطبع. وقال الراغب: واختلف إذا اضطر إلى ذلك في دواء لا يسد غيره مسده. والصحيح أنه يجوز له تناوله للعلة المذكورة، يعني: إبقاء روحه بجهة ما رآه أقرب إلى إبقائه، وهي التي أجيز تناوله ما ذكر له للجوع.
إن الله غفور لما أكله حال الضرورة: رحيم حيث رخص لعباده في ذلك إبقاء عليهم.
ثم أعاد تعالى وعيد كاتمي أحكامه، إثر ما ذكره من الأحكام، تحذيرا لهذه الأمة أن يسلكوا سبيل من عنوا به، وهم أهل الكتاب، فقال سبحانه:
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/36.jpg