-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (76)
صــ401 إلى صــ 405
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .
قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب) فيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم اليهود ، قاله قتادة ، وابن جريج ، والربيع بن أنس . والثاني: وفد نجران الذين حاجوا في عيسى ، قاله السدي ومقاتل . والثالث: أهل الكتابين جميعا ، قاله الحسن . وقال ابن عباس: نزلت في القسيسين والرهبان ، فبعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة ، فقرأها جعفر ، والنجاشي جالس ، وأشراف الحبشة . فأما "الكلمة" فقال المفسرون هي: لا إله إلا الله . فإن قيل: [ ص: 401 ] فهذه كلمات ، فلم قال كلمة؟ فعنه جوابان . أحدهما: أن الكلمة تعبر عن ألفاظ وكلمات . قال اللغويون: ومعنى كلمة: كلام فيه شرح قصة وإن طال ، تقول العرب: قال زهير في كلمته يراد في قصيدته .
قالت الخنساء:
وقافية مثل حد السنا ن تبقى ويذهب من قالها
تقد الذؤابة من يذبل
أبت أن تزايل أوعالها
نطقت ابن عمرو فسهلتها
ولم ينطق الناس أمثالها
فأوقعت القافية على القصيدة كلها ، والغالب على القافية أن تكون في آخر كلمة من البيت ، وإنما سميت قافية ، لإن الكلمة تتبع البيت ، وتقع آخره ، فسميت قافية من قول العرب: قفوت فلانا: إذا اتبعته ، وإلى هذا الجواب يذهب الزجاج وغيره . والثاني: أن المراد بالكلمة: كلمات ، فاكتفى بالكلمة من كلمات ، كما قال علقمة بن عبدة:
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
أراد: وأما جلودها ، فاكتفى بالواحد من الجمع ، ذكره والذي قبله ابن الأنباري .
قوله تعالى: (سواء بيننا وبينكم) قال الزجاج: يعني بالسواء العدل ، وهو من استواء الشيء ، ويقال: للعدل سواء وسواء وسواء [ ص: 402 ] قال زهير بن أبي سلمى:
أروني خطة ضيم فيها يسوي بيننا فيها السواء
فإن تدعوا السواء فليس بيني وبينكم بني حصن بقاء
قال: وموضع "أن" في قوله تعالى: (ألا تعبدوا إلا الله) خفض على البدل من "كلمة" المعنى: تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله . وجائز أن يكون "أن" في موضع رفع ، كأن قائلا قال: ما الكلمة؟ فأجيب ، فقيل: هي ألا نعبد إلا الله .
قوله تعالى: (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) فيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنه سجود بعضهم لبعض ، قاله عكرمة . والثاني: لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله ، قاله ابن جريج . والثالث: أن نجعل غير الله ربا ، كما قالت النصارى في المسيح ، قاله مقاتل والزجاج .
يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون .
قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم) قال ابن عباس ، والحسن ، والسدي: اجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران ، وأحبار اليهود ، فقال هؤلاء: ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقال هؤلاء: ما كان إلا نصرانيا . فنزلت هذه الآية .
ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [ ص: 403 ] قوله تعالى: (ها أنتم) قرأ ابن كثير "هأنتم" مثل: هعنتم ، فأبدل من همزة الاستفهام "الهاء" أراد: أأنتم . وقرأ نافع وأبو عمرو و"هانتم" ممدودا ، استفهام بلا همزة ، وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي . "ها أنتم" ممدودا مهموزا ، ولم يختلفوا في مد "هؤلاء" و"أولاء" .
قوله تعالى: (فيما لكم به علم) فيه قولان . أحدهما: أنه ما رأوا وعاينوا ، قاله قتادة . والثاني: ما أمروا به ، ونهوا عنه ، قاله السدي . فأما الذي ليس لهم به علم ، فهو شأن إبراهيم عليه السلام . وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان بين إبراهيم وموسى ، خمسمائة وخمس وسبعون سنة . وبين موسى وعيسى ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة . وقال ابن إسحاق: كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة وخمس وستون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة . وقد سبق في (البقرة) معنى الحنيف .
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين .
قوله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) في سبب نزولها قولان . أحدهما: أن رؤساء اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد علمت أنا أولى بدين إبراهيم منك ، وأنه كان يهوديا ، وما بك إلا الحسد ، فنزلت هذه الآية . ومعناها: أحق الناس بدين إبراهيم ، الذين اتبعوه على دينه ، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم على دينه ، قاله ابن عباس . والثاني: أن عمرو بن العاص أراد أن يغضب النجاشي على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال للنجاشي: إنهم ليشتمون عيسى . فقال النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى؟ فقالوا: يقول: إنه عبد الله وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم . فأخذ النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين ، فقال: والله ما زاد على ما يقول صاحبكم ما يزن هذا القذى ، ثم قال: أبشروا ، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم .
[ ص: 404 ] قال عمرو بن العاص : ومن حزب إبراهيم؟ قال هؤلاء الرهط وصاحبهم . فأنزل الله يوم خصومتهم على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، هذا قول عبد الرحمن بن غنم
ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون .
قوله تعالى: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) سبب نزولها أن اليهود قالوا لمعاذ بن جبل ، وعمار بن ياسر: تركتما دينكما ، واتبعتما دين محمد ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . والطائفة: اسم لجماعة مجتمعين على ما اجتمعوا عليه من دين ، ورأي ، ومذهب ، وغير ذلك . وفي هذه الطائفة قولان . أحدهما: أنهم اليهود ، قاله ابن عباس . والثاني: اليهود والنصارى ، قاله أبو سليمان الدمشقي . والضلال: الحيرة . وفيه هاهنا قولان . أحدهما: أنه الاستنزال عن الحق إلى الباطل ، وهو قول ابن عباس ، ومقاتل . والثاني: الإهلاك ، ومنه أإذا ضللنا في الأرض [ السجدة: 10 ] . قاله ابن جرير ، والدمشقي . وفي قوله: (وما يشعرون) قولان . أحدهما: وما يشعرون أن الله يدل المؤمنين على حالهم ، والثاني: وما يشعرون أنهم يضلون أنفسهم .
يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون .
قوله تعالى: (لم تكفرون بآيات الله) قال قتادة: يعني: محمدا والإسلام (وأنتم تشهدون) أن بعث محمد في كتابكم ، ثم تكفرون به .
يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون .
قوله تعالى: (لم تلبسون الحق بالباطل) قال اليزيدي: معناه: لم تخلطون الحق بالباطل؟ قال ابن فارس: واللبس: اختلاط الأمر ، وفي الأمر لبسة ، أي: ليس بواضح .
[ ص: 405 ] وفي الحق والباطل أربعة أقوال . أحدها: أن الحق: إقرارهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، والباطل: كتمانهم بعض أمره . والثاني: الحق: إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم غدوة ، والباطل: كفرهم به عشية ، رويا عن ابن عباس . والثالث: الحق: التوراة ، والباطل: ما كتبوه فيها بأيديهم ، قاله الحسن ، وابن زيد . والرابع: الحق: الإسلام ، والباطل: اليهودية والنصرانية ، قاله قتادة .
قوله تعالى: (وتكتمون الحق) قال قتادة: كتموا الإسلام ، وكتموا محمدا صلى الله عليه وسلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (77)
صــ406 إلى صــ 410
وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون .
قوله تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب) في سبب نزولها قولان . أحدهما: أن طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار ، فآمنوا ، وإذا كان آخره ، فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب ، وهم أعلم منا ، فينقلبون عن دينهم ، رواه عطية عن ابن عباس . وقال الحسن والسدي: تواطأ اثنا عشر حبرا من اليهود ، فقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد باللسان أول النهار ، واكفروا آخره ، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمدا ليس بذلك ، فيشك أصحابه في دينهم ، ويقولون: هم أهل الكتاب ، وهم أعلم منا ، فيرجعون إلى دينكم ، فنزلت هذه الآية . وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور . والثاني: أن الله تعالى صرف نبيه إلى الكعبة عند صلاة الظهر ، فقال قوم من علماء اليهود: (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار) يقولون: آمنوا بالقبلة التي صلوا إليها الصبح ، واكفروا بالتي صلوا إليها آخر النهار ، لعلهم يرجعون إلى قبلتكم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، قال مجاهد ، وقتادة ، والزجاج في آخرين: وجه النهار: أوله .
وأنشد الزجاج:
من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار
[ ص: 406 ] يجد النساء حواسرا يندبنه
قد قمن قبل تبلج الأسحار
ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم .
قوله تعالى: (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) اختلف العلماء في توجيه هذه الآية على أربعة أقوال . أحدها: أن معناه: ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم ، ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مما أوتيتم من العلم ، وفلق البحر ، والمن ، والسلوى ، وغير ذلك ، ولا تصدقوا أن يجادلوكم عند ربكم ، لأنكم أصح دينا منهم ، فيكون هذا كله من كلام اليهود بينهم ، وتكون اللام في "لمن" صلة ، ويكون قوله تعالى: (قل إن الهدى هدى الله) كلاما معترضا بين كلامين ، هذا معنى قول مجاهد ، والأخفش . والثاني: أن كلام اليهود تام عند قوله: (لمن تبع دينكم) والباقي من قول الله تعالى ، لا يعترضه شيء من قولهم ، وتقديره: قل يا محمد: إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد ، إلا أن تجادلكم اليهود بالباطل ، فيقولون: نحن أفضل منكم ، هذا معنى قول الحسن ، وسعيد بن جبير . قال الفراء: [ ص: 407 ] معنى "أن يؤتى": أن لا يؤتى . والثالث: أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، تقديره: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، إلا من تبع دينكم ، فأخرت "أن" وهي مقدمة في النية على مذهب العرب في التقديم والتأخير ، ودخلت اللام على جهة التوكيد ، كقوله تعالى: عسى أن يكون ردف لكم [ النمل: 72 ] أي: ردفكم .
وقال الشاعر:
ما كنت أخدع للخليل بخلة حتى يكون لي الخليل خدوعا
أراد: ما كنت أخدع الخليل .
وقال الآخر:
يذمون الدنيا وهم يحلبونها أفاويق حتى ما يدر لها ثعل
أراد: يذمون الدنيا ، ذكره ابن الأنباري . والرابع: أن اللام غير زائدة ، والمعنى: لا تجعلوا تصديقكم النبي في شيء مما جاء به إلا لليهود ، فإنكم إن قلتم ذلك للمشركين ، كان عونا لهم على تصديقه ، قاله الزجاج . وقال ابن الأنباري: لا تؤمنوا أن محمدا وأصحابه على حق إلا لمن تبع دينكم ، مخافة أن يطلع على عنادكم الحق ، ويحاجوكم به عند ربكم . فعلى هذا يكون معنى الكلام: لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم ، وقد ذكر هذا المعنى مكي بن أبي طالب النحوي . وقرأ ابن كثير: أان يؤتى بهمزتين ، الأولى مخففة ، والثانية ملينة على الاستفهام ، مثل: أأنتم أعلم . قال أبو علي: ووجهها أن "أن" في موضع رفع بالابتداء ، وخبره: يصدقون به ، أو يعترفون به ، أو يذكرونه لغيركم ، ويجوز أن يكون [ ص: 408 ] موضع "أن" نصبا ، فيكون المعنى: أتشيعون ، أو أتذكرون أن يؤتى أحد ، ومثله في المعنى: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) [ البقرة: 76 ] . وقرأ الأعمش ، وطلحة بن مصرف: أن يؤتى ، بكسر الهمزة ، على معنى: ما يؤتى . وفي قوله تعالى: (أو يحاجوكم عند ربكم) قولان . أحدهما: أن معناه: ولا تصدقوا أنهم يحاجوكم عند ربكم ، لأنهم لا حجة لهم ، قاله قتادة . والثاني: أن معناه: حتى يحاجوكم عند ربكم على طريق التعبد ، كما يقال: لا يلقاه أو تقوم الساعة ، قاله الكسائي .
قوله تعالى: (إن الفضل بيد الله) قال ابن عباس: يعني النبوة ، والكتاب ، والهدى (يؤتيه من يشاء) لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود من أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم .
يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
قوله تعالى: (يختص برحمته من يشاء) في الرحمة ثلاثة أقوال . أحدها: أنها الإسلام ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني: النبوة ، قاله مجاهد . والثالث: القرآن والإسلام ، قاله ابن جريج .
ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون .
قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار) قال ابن عباس: أودع رجل ألفا ومئتي أوقية من ذهب عبد الله بن سلام ، فأداهما إليه ، فمدحه الله بهذه الآية ، وأودع رجل فنحاص بن عازوراء دينارا ، فخانه . وأهل الكتاب: اليهود . وقد سبق الكلام في القنطار . وقيل: إن "الباء" في قوله: "بقنطار" بمعنى "على" فأما الدينار ، فقرأت على [ ص: 409 ] شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال: الدينار فارسي معرب ، وأصله: دنار ، وهو وإن كان معربا ، فليس تعرف له العرب اسما غير الدينار ، فقد صار كالعربي ، ولذلك ذكره الله تعالى في كتابه ، لأنه خاطبهم بما عرفوا . واشتقوا منه فعلا ، فقالوا: رجل مدنر: كثير الدنانير . وبرذون مدنر: أشهب مستدير النقش ببياض وسواد . فإن قيل: لم خص أهل الكتاب بأن فيهم خائنا وأمينا والخلق على ذلك ، فالجواب: أنهم يخونون المسلمين استحلالا لذلك ، وقد بينه في قوله تعالى: (ليس علينا في الأميين سبيل) فحذر منهم . وقال مقاتل: الأمانة ترجع إلى من أسلم منهم ، والخيانة إلى من لم يسلم . وقيل: إن الذين يؤدون الأمانة: النصارى ، والذين لا يؤدونها: اليهود .
قوله تعالى: (إلا ما دمت عليه قائما) قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: دمت ودمتم ، ومت ومتم . وتميم يقولون: مت ودمت بالكسر ، ويجتمعون في "يفعل" يدوم ويموت . وفي هذا القيام قولان . أحدهما: أنه التقاضي ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج . قال ابن قتيبة: والمعنى: ما دمت مواظبا بالاقتضاء له والمطالبة . وأصل هذا أن المطالب بالشيء يقوم فيه ، ويتصرف . والتارك له يقعد عنه . [قال الأعشى:
يقوم على الرغم في قومه فيعفوا إذا شاء أو ينتقم
أي: يطالب بالذحل ولا يقعد عنه . قال تعالى: (ليسوا سواء) ] من أهل الكتاب أمة قائمة [ آل عمران: 113 ] . أي: علامة غير تاركه ، وقال تعالى: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [ الرعد: 33 ] . أي: آخذ لها بما كسبت . والثاني: أنه القيام حقيقة ، فتقديره: إلا ما دمت قائما على رأسه ، فإنه يعترف بأمانته ، فإذا ذهبت ، ثم جئت ، جحدك ، قاله السدي .
قوله تعالى: (ذلك) يعني: الخيانة . والسبيل: الإثم والحرج ، ونظيره ما على [ ص: 410 ] المحسنين من سبيل [ التوبة: 91 ] قال قتادة: إنما استحل اليهود أموال المسلمين ، لأنهم عندهم ليسوا أهل كتاب .
قوله تعالى: (ويقولون على الله الكذب) قال السدي: يقولون: قد أحل الله لنا أموال العرب .
قوله تعالى: (وهم يعلمون) قولان . أحدهما: يعلمون أن الله قد أنزل في التوراة الوفاء ، وأداء الأمانة . والثاني: يقولون الكذب ، وهم يعلمون أنه كذب .
بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين .
قوله تعالى: (بلى) رد الله عز وجل عليهم قولهم: (ليس علينا في الأميين سبيل) بقوله: (بلى) قال الزجاج: وهو عندي وقف التمام ، ثم استأنف ، فقال: (من أوفى بعهده) ويجوز أن يكون استأنف جملة الكلام بقوله: (بلى من أوفى) . والعهد: ما عاهدهم الله عز وجل عليه في التوراة . وفي "هاء" (عهده) قولان . أحدهما: أنها ترجع إلى الله تعالى . والثاني: إلى الموفي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (78)
صــ411 إلى صــ 415
إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .
قوله تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أن الأشعث بن قيس خاصم بعض اليهود في أرض ، فجحده اليهودي ، فقدمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال [له ]: "ألك بينة"؟ قال: لا . قال لليهودي: "أتحلف"؟ فقال [ ص: 411 ] الأشعث: إذا يحلف فيذهب بمالي . فنزلت هذه الآية . أخرجه البخاري ومسلم . والثاني: أنها نزلت في اليهود ، عهد الله إليهم في التوراة تبيين صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، فجحدوا ، وخالفوا لما كانوا ينالون من سفلتهم من الدنيا ، هذا قول عكرمة ، ومقاتل . والثالث: أن رجلا أقام سلعته في السوق أول النهار ، فلما كان آخره ، جاء رجل ، يساومه ، فحلف: لقد منعها أول النهار من كذا ، ولولا المساء لما باعها به ، فنزلت هذا الآية ، هذا قول الشعبي ، ومجاهد . فعلى القول الأول ، والثالث: العهد: لزوم الطاعة ، وترك المعصية ، وعلى الثاني: ما عهده إلى اليهود في التوراة . واليمين: الحلف . وإن قلنا: إنها في اليهود ، والكفار ، فإن الله لا يكلمهم يوم القيامة أصلا . وإن قلنا: إنها في العصاة ، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا يكلمهم الله كلام خير . ومعنى (ولا ينظر إليهم) ، أي: لا يعطف عليهم بخير مقتا لهم ، قال الزجاج: تقول: فلان لا ينظر إلى فلان ، ولا يكلمه ، معناه: أنه غضبان عليه .
قوله تعالى: (ولا يزكيهم) أي: لا يطهرهم من دنس كفرهم وذنوبهم .
وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون .
قوله تعالى: (وإن منهم لفريقا) اختلفوا فيمن نزلت على قولين . أحدهما: أنها نزلت في اليهود ، رواه عطية عن ابن عباس . والثاني: في اليهود والنصارى ، رواه الضحاك ، عن ابن عباس .
[ ص: 412 ] قوله تعالى: (وإن) هي كلمة مؤكدة ، واللام في قوله: "لفريقا" بتوكيد زائد على توكيد "إن" قال ابن قتيبة: ومعنى (يلوون ألسنتهم): يقلبونها بالتحريف والزيادة . والألسنة: جمع لسان ، قال أبو عمرو: واللسان يذكر ويؤنث ، فمن ذكره جمعه: ألسنة ، ومن أنثه جمعه: ألسنا . وقال الفراء: اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكرا . وتقول العرب: سبق من فلان لسان ، يعنون به الكلام ، فيذكرونه .
وأنشد ابن الأعرابي:
لسانك معسول ونفسك شحة وعند الثريا من صديقك مالكا
وأنشد ثعلب:
ندمت على لسان كان مني فليت بأنه في جوف عكم
والعكم: العدل . ودل بقوله: كان مني ، على أن اللسان الكلام .
وأنشد ثعلب:
أتتني لسان بني عامر أحاديثها بعد قول نكر
فأنث اللسان ، لأنه عنى الكلمة والرسالة .
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون
[ ص: 413 ] قوله تعالى: ما كان لبشر في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أن قوما من رؤساء اليهود والنصارى ، قالوا: يا محمد أتريد أن نتخذك ربا؟ فقال: معاذ الله ، ما بذلك بعثني ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . والثاني: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا نسجد لك؟ قال: "لا فإنه لا ، ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله" فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن البصري . والثالث: أنها نزلت في نصارى نجران حيث عبدوا عيسى . قاله الضحاك ، ومقاتل . وفيمن عنى بـ"البشر" قولان . أحدهما: محمد صلى الله عليه وسلم . والكتاب: القرآن ، قاله ابن عباس ، وعطاء . والثاني: عيسى ، والكتاب: الإنجيل ، قاله الضحاك ، ومقاتل . والحكم: الفقه والعلم ، قاله قتادة في آخرين . قال الزجاج: ومعنى الآية: لا يجتمع لرجل نبوة ، والقول للناس: كونوا عبادا لي من دون الله ، لأن الله لا يصطفي الكذبة .
قوله تعالى: (ولكن كونوا) أي: ولكن يقول لهم: كونوا ، فحذف القول لدلالة الكلام عليه .
فأما الربانيون ، فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: هم الذين يغذون الناس بالحكمة ، ويربونهم عليها . وقال ابن عباس ، وابن جبير: هم الفقهاء المعلمون . وقال قتادة وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء . قاله ابن قتيبة: واحدهم رباني ، وهم العلماء المعلمون . وقال أبو عبيد: أحسب الكلمة ليست بعربية ، إنما هي عبرانية ، أو سريانية ، وذلك أن أبا عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الربانيين . قال أبو عبيد: وإنما عرفها الفقهاء ، وأهل العلم ، قال: وسمعت رجلا عالما بالكتب يقول: هم العلماء بالحلال والحرام ، والأمر والنهي . وحكى ابن الأنباري عن بعض اللغويين: الرباني: منسوب إلى الرب ، لأن العلم: مما يطاع الله به ، فدخلت الألف والنون في النسبة للمبالغة ، كما قالوا: رجل لحياني: إذا بالغوا في وصفه بكبر اللحية .
[ ص: 414 ] قوله تعالى: (بما كنتم تعلمون الكتاب) قرأ ابن كثير ، ونافع وأبو عمرو: تعلمون ، بإسكان العين ، ونصب اللام . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي: تعلمون مثقلا ، وكلهم قرؤوا: "تدرسون" خفيفة . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو رزين ، وسيعد بن جبير ، وطلحة بن مصرف ، وأبو حيوة: تدرسون ، بضم التاء مع التشديد . والدراسة: القرآءة . قال الزجاج: ومعنى الكلام: ليكن هديكم ونيتكم في التعليم هدي العلماء والحكماء ، لأن العالم إنما يستحق هذا الاسم إذا عمل بعلمه .
ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون .
قوله تعالى: (ولا يأمركم أن) قرأ ابن عامر ، وحمزة ، وخلف ، ويعقوب ، وعاصم في بعض الروايات عنه ، وعبد الوارث ، عن أبي عمرو ، واليزيدي في اختياره ، بنصب الراء . وقرأ الباقون برفع الراء ، فمن نصب كان المعنى: وما كان لبشر أن يأمركم ، ومن رفع قطعه مما قبله . قال ابن جريج: ولا يأمركم محمد .
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين .
قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) قال الزجاج: موضع "إذ" نصب ، المعنى: واذكر في أقاصيصك إذ أخذ الله . قال ابن عباس: والميثاق: العهد . وفي الذي أخذ ميثاقهم عليه قولان . أحدهما: أنه تصديق محمد صلى الله عليه وسلم ، روي عن علي ، وابن عباس ، وقتادة ، والسدي . والثاني: أنه أخذ ميثاق الأول من الأنبياء ليؤمنن بما جاء به الآخر منهم ، قاله [ ص: 415 ] طاووس . قال مجاهد ، والربيع بن أنس: هذه الآية خطأ من الكتاب ، وهي في قراءة ابن مسعود: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) واحتج الربيع بقوله تعالى: (ثم جاءكم رسول) وقال بعض أهل العلم: إنما أخذ الميثاق على النبيين ، وأممهم ، فاكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم ، لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التابع ، وهذا معنى قول ابن عباس ، والزجاج .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (79)
صــ416 إلى صــ 420
واختلف العلماء في لام "لما" فقرأ الأكثرون "لما" بفتح اللام والتخفيف ، وقرأ حمزة مثلها ، إلا أنه كسر اللام ، وقرأ سعيد بن جبير "لما" مشددة الميم ، فقراءة ابن جبير ، معناها: حين آتيتكم . وقال الفراء في قراءة حمزة: يريد أخذ الميثاق للذي آتاهم ، ثم جعل قوله: (لتؤمنن به) من الأخذ . قال الفراء: ومن نصب اللام جعلها زائدة . و"ما" هاهنا بمعنى الشرط والجزاء ، فالمعنى: لئن آتيتكم ومهما آتيتكم شيئا من كتاب وحكمة . قال ابن الأنباري: اللام في قوله تعالى: (لما آتيتكم) على قراءة من شدد أو كسر: جواب لأخذ الميثاق قال: لأن أخذ الميثاق يمين ، وعلى قراءة من خففها ، معناها: القسم ، وجواب القسم اللام في قوله (لتؤمنن به) . وإنما خاطب ، فقال: آتيتكم . بعد أن ذكر [ ص: 416 ] النبيين وهم غيب ، لأن في الكلام معنى قول وحكاية ، فقال مخاطبا لهم: لما آتيتكم وقرأ نافع "آتيناكم" بالنون والألف .
قوله تعالى: (ثم جاءكم رسول) قال علي رضي الله عنه: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد ، إن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه . وقال غيره: أخذ ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا . والإصر هاهنا: العهد في قول الجماعة . قال ابن قتيبة: أصل الإصر: الثقل ، فسمي العهد إصرا ، لأنه منع من الأمر الذي أخذ له ، وثقل وتشديد . وكلهم كسر ألف "إصري" . وروى أبو بكر ، عن عصام ضمه . قال أبو علي: يشبه أن يكون الضم لغة .
قوله تعالى: (قال فاشهدوا) قال ابن فارس: الشهادة: الإخبار بما شوهد . وفيمن خوطب بهذا قولان . أحدهما: أنه خطاب للنبيين ، ثم فيه قولان . أحدهما: أنه معناه: فاشهدوا على أممكم ، قاله علي بن أبي طالب . والثاني: فاشهدوا على أنفسكم ، قاله مقاتل . والثاني: أنه خطاب للملائكة ، قاله سعيد بن المسيب . فعلى هذا يكون كناية عن غير مذكور .
فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون .
قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون) قرأ أبو عمرو: "يبغون بالياء مفتوحة . (وإليه ترجعون) بالتاء مضمومة ، وقرأها الباقون بالياء في الحرفين . وروى حفص عن عاصم: "يبغون" و"يرجعون" بالياء فيهما ، وفتح الياء وكسر الجيم يعقوب على أصله . قال ابن عباس: اختصم أهل الكتابين ، فزعمت كل فرقة أنها أولى بدين إبراهيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم" . فغضبوا ، وقالوا: والله لا نرضى بقضائك ، ولا نأخذ بدينك ، فنزلت هذه الآية . والمراد بدين الله ، دين محمد صلى الله عليه وسلم . (وله أسلم) انقاد ، وخضع (طوعا وكرها) الطوع: الانقياد بسهولة ، والكره: الانقياد بمشقة وإباء من النفس .
[ ص: 417 ] وفي معنى الطوع والكره ستة أقوال . أحدها: أن إسلام الكل كان يوم الميثاق طوعا وكرها ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، والأعمش عن مجاهد ، وبه قال السدي . والثاني: أن المؤمن يسجد طائعا ، والكافر يسجد ظله وهو كاره ، روي عن ابن عباس ، ورواه ابن أبي نجيح ، وليث عن مجاهد . والثالث: أن الكل أقروا له بأنه الخالق ، وإن أشرك بعضهم ، فإقراره بذلك حجة عليه في إشراكه ، هذا قول أبي العالية ، ورواه منصور عن مجاهد . والرابع: أن المؤمن أسلم طائعا ، والكافر أسلم مخافة السيف ، هذا قول الحسن . والخامس: أن المؤمن أسلم طائعا ، والكافر أسلم حين رأى بأس الله ، فلم ينفعه في ذلك الوقت ، هذا قول قتادة . والسادس: أن إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره في جبلتهم ، لا يقدر أحد أن يمتنع من جبلة جبله عليها ، ولا على تغييرها ، هذا قول الزجاج ، وهو معنى قول الشعبي: انقاد كلهم له .
قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
قوله تعالى: (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم) في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أن رجلا من الأنصار ارتد ، فلحق بالمشركين ، فنزلت هذه الآية ، إلى قوله تعالى: (إلا الذين تابوا) فكتب بها قومه إليه ، فرجع تائبا [فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه ، وخلى عنه ] [ ص: 418 ] رواه عكرمة عن ابن عباس . وذكر مجاهد ، والسدي أن اسم ذلك الرجل: الحارث بن سويد . والثاني: أنها نزلت في عشرة رهط ارتدوا ، فيهم الحارث بن سويد ، فندم ، فرجع . رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل . والثالث: أنها في أهل الكتاب ، عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كفروا به . رواه عطية عن ابن عباس . وقال الحسن: هم اليهود والنصارى . وقيل: إن "كيف" هاهنا لفظها لفظ الاستفهام ، ومعناها الجحد ، أي: لا يهدي الله هؤلاء .
خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم .
قوله تعالى: (خالدين فيها) قال الزجاج: أي: في عذاب اللعنة (ولا هم ينظرون) أي: يؤخرون عن الوقت . قال: ومعنى: (أصلحوا) أي: أظهروا أنهم كانوا على ضلال ، وأصلحوا ما كانوا أفسدوه ، وغروا به من تبعهم ممن لا علم له .
فصل
وهذه الآية استثنت من تاب ممن لم يتب وقد زعم قوم أنها نسخت ما تضمنته الآيات قبلها من الوعيد ، وليس بنسخ .
إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون [ ص: 419 ] قوله تعالى: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم) اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال . أحدها: أنها نزلت فيمن لم يتب من أصحاب الحارث بن سويد ، فإنهم قالوا: نقيم بمكة ونتربص بمحمد ريب المنون ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني: أنها نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن ، قاله الحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني . والثالث: أنها نزلت في اليهود والنصارى ، كفروا بمحمد بعد إيمانهم بصفته ، ثم ازدادوا كفرا بإقامتهم على كفرهم ، قاله أبو العالية . قال الحسن: كلما نزلت آية كفروا بها ، فازدادوا كفرا . وفي علة امتناع قبول توبتهم أربعة أقوال . أحدها: أنهم ارتدوا ، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم ، والكفر في ضمائرهم ، قاله ابن عباس . والثاني: أنهم قوم تابوا من الذنوب في الشرك ، ولم يتوبوا من الشرك ، قاله أبو العالية . والثالث: أن: معناه: لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت ، وهو قول الحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، والسدي . والرابع: لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر ، قاله مجاهد .
إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين .
قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار) روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ، دخل من كان من أصحاب الحارث بن سويد حيا في الإسلام ، فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم كافرا . قال الزجاج: وملء الشيء: مقدار ما يملؤه . قال سيبويه ، والخليل: والملء بفتح الميم: الفعل تقول ملأت الشيء أملؤه ملأ ، المصدر بالفتح لا غير . والملاءة: التي تلبس ممدودة . والملاوة من الدهر: القطعة الطويلة [ ص: 420 ] منه ، يقولون: أبل جديدا ، وتمل حبيبا ، أي: عش معه دهرا طويلا . و(ذهبا) منصوب على التمييز . وقال ابن فارس: ربما أنث الذهب ، فقيل: ذهبة ، ويجمع على الأذهاب .
قوله تعالى: (ولو افتدى به) قال الفراء: الواو هاهنا قد يستغنى عنها ، ولو حذفت كان صوابا ، كقوله تعالى: (وليكون من الموقنين) [ الأنعام: 75 ] قال الزجاج: هذا غلط ، لأن فائدة الواو بينة ، فليست مما يلقى . قال النحاس: قال أهل النظر من النحويين في هذه الآية: الواو ليست مقحمة ، وتقديره: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا تبرعا ولو افتدى .
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم .
قوله تعالى: (لن تنالوا البر) في البر أربعة أقوال . أحدها: أنه الجنة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي في آخرين . قال ابن جرير: فيكون المعنى: لن تنالوا بر الله بكم الذي تطلبونه بطاعتكم . والثاني: التقوى ، قاله عطاء ، ومقاتل . والثالث: الطاعة ، قاله عطية . والرابع: الخير الذي يستحق به الأجر ، قاله أبو روق . قال القاضي أبو يعلى: لم يرد نفي الأصل ، وإنما نفي وجود الكمال ، فكأنه قال: لن تنالوا البر الكامل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (80)
صــ421 إلى صــ 425
قوله تعالى: (حتى تنفقوا مما تحبون) فيه قولان . أحدهما: أنه نفقة العبد من ماله ، وهو صحيح شحيح ، رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني: أنه الإنفاق من محبوب [ ص: 421 ] المال ، قاله قتادة ، والضحاك . وفي المراد بهذه النفقة ثلاثة أقوال . أحدها: أنها الصدقة المفروضة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والضحاك . والثاني: أنها جميع الصدقات ، قاله ابن عمر . والثالث: أنها جميع النفقات التي يبتغى بها وجه الله تعالى ، سواء كانت صدقة ، أو لم تكن ، نقل عن الحسن ، واختاره القاضي أبو يعلى وروى البخاري ، ومسلم في "الصحيحين" من حديث أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب . قال أنس: فلما نزلت: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة ، فقال: يا رسول الله إن الله يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وإن أحب أموالي إلي بيرحاء . وإنها صدقة لله ، أرجو برها وذخرها عند الله تعالى ، فضعها حيث أراك الله ، فقال صلى الله عليه وسلم: "بخ بخ ذاك مال رابح أو رائح [شك الراوي ] وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين" فقسمها أبو طلحة في أقاربه ، وبني عمه . وروي عن عبد الله بن عمر أنه قرأ هذه الآية فقال: لا أجد شيئا أحب إلي من جاريتي رميثة ، فهي حرة لوجه الله ، ثم قال: [ ص: 422 ] لولا أني أعود في شيء جعلته لله ، لنكحتها ، فأنكحها نافعا ، فهي أم ولده . وسئل أبو ذر: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة: عماد الإسلام ، والجهاد: سنام العمل ، والصدقة: شيء عجب . ثم قال السائل: يا أبا ذر لقد تركت شيئا هو أوثق عمل في نفسي لا أراك ذكرته قال: ما هو؟ قال: الصيام . فقال: قربة وليس هناك ، وتلا قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قال الزجاج: ومعنى قوله تعالى: (فإن الله به عليم) أي: يجازي عليه .
كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين .
قوله تعالى: (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا على ملة إبراهيم" فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل ، وتشرب ألبانها؟ فقال: "كان ذلك حلا لإبراهيم" فقالوا: كل شيء نحرمه نحن ، فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا . فنزلت هذه الآية تكذيبا لهم . قاله أبو روق ، وابن السائب و"الطعام" اسم للمأكول . قال ابن قتيبة: والحل: الحلال ، ومثله الحرم والحرام ، واللبس واللباس . وفي الذي حرمه على نفسه ، ثلاثة أقوال . أحدها: لحوم الإبل وألبانها . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وعطاء ابن أبي رباح ، [ ص: 423 ] وأبي العالية في آخرين . والثاني: أنه العروق ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وهو قول مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي في آخرين . والثالث: أنه زائدتا الكبد ، والكليتان ، والشحم إلا ما على الظهر ، قاله عكرمة . وفي سبب تحريمه لذلك أربعة أقوال . أحدها: أنه طال به مرض شديد ، فنذر: لئن شفاه الله ، ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني: أنه اشتكى عرق النسا فحرم العروق ، قاله ابن عباس في آخرين . والثالث: أن الأطباء وصفوا له حين أصابه النسا اجتناب ما حرمه ، فحرمه ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والرابع: أنه كان إذا أكل ذلك الطعام ، أصابه عرق النسا ، فيبيت وقيدا فحرمه ، قاله أبو سليمان الدمشقي . واختلفوا: هل حرم ذلك بإذن الله ، أو باجتهاده؟ على قولين . واختلفوا: بماذا ثبت تحريم الطعام الذي حرمه على اليهود ، على ثلاثة أقوال . أحدها: أنه حرم عليهم بتحريمه ، ولم يكن محرما في التوراة ، قاله عطية . وقال ابن عباس: قال يعقوب: لئن عافاني الله لا يأكله لي ولد . والثاني: أنهم وافقوا أباهم يعقوب في تحريمه ، لا أنه حرم عليهم بالشرع ، ثم أضافوا تحريمه إلى الله ، فأكذبهم الله بقوله:( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) هذا قول الضحاك . والثالث: أن الله حرمه عليهم بعد التوراة لا فيها . وكانوا إذا أصابوا ذنبا عظيما ، حرم عليهم به طعام طيب ، أو صب عليهم عذاب ، هذا قول ابن السائب . قال ابن عباس: (فأتوا بالتوراة فاتلوها) هل تجدون فيها تحريم لحوم الإبل وألبانها!
فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون .
قوله تعالى: (فمن افترى) يقول: اختلق (على الله الكذب من بعد ذلك) أي: من بعد البيان في كتبهم ، وقيل: من بعد مجيئكم بالتوراة وتلاوتكم إياها .
قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين .
قوله تعالى: (قل صدق الله) الصدق: الإخبار بالشيء على ما هو به ، وضده الكذب . واختلفوا أي خبر عنى بهذه الآية؟ على قولين . أحدهما: أنه عنى قوله تعالى: (ما كان إبراهيم يهوديا) ، قاله مقاتل ، وأبو سليمان الدمشقي . والثاني: أنه عنى قوله تعالى: (كل الطعام كان حلا) قاله ابن السائب .
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين .
قوله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس) قال مجاهد: افتخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل من الكعبة . وقال المسلمون: الكعبة أفضل ، فنزلت هذه الآية وفي معنى كونه "أول" قولان . أحدهما: أنه أول بيت كان في الأرض ، واختلف أرباب هذا القول ، كيف كان أول بيت على ثلاثة أقوال . أحدها: أنه ظهر على وجه الماء حين خلق الله الأرض ، فخلقه قبلها بألفي عام ، ودحاها من تحته ، فروى سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: كانت الكعبة حشفة على وجه الماء ، عليها ملكان يسبحان الليل والنهار قبل الأرض بألفي سنة . وقال ابن عباس: وضع البيت في الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت ، وبهذا القول يقول ابن عمر ، وابن عمرو ، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي في آخرين . والثاني: أن آدم استوحش حين أهبط ، فأوحى الله إليه ، أن ابن لي بيتا في الأرض ، فاصنع حوله نحو ما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي ، فبناه ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . والثالث: أنه أهبط مع آدم ، فلما [ ص: 425 ] كان الطوفان ، رفع فصار معمورا في السماء ، وبنى إبراهيم على أثره ، رواه شيبان عن قتادة . القول الثاني: أنه أول بيت وضع للناس للعبادة ، وقد كانت قبله بيوت ، هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والحسن ، وعطاء بن السائب في آخرين . فأما بكة ، فقال الزجاج: يصلح هذا الاسم أن يكون مشتقا من البك . يقال: بك الناس بعضهم بعضا ، أي: دفع . واختلفوا في تسميتها بكة على ثلاثة أقوال . أحدها: لازدحام الناس بها ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، والفراء ، ومقاتل . والثاني: لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي: تدقها ، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله ، روي عن عبد الله بن الزبير ، وذكره الزجاج . والثالث: لأنها تضع من نخوة المتجبرين ، يقال: بككت الرجل ، أي: وضعت منه ، ورددت نخوته ، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي ، وقطرب . واتفقوا على أن مكة اسم لجميع البلدة . واختلفوا في بكة على أربعة أقوال . أحدها: أنه اسم للبقعة التي فيها الكعبة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو مالك ، وإبراهيم . وعطية . والثاني: أنها ما حول البيت ، ومكة ما وراء ذلك ، قاله عكرمة . والثالث: أنها المسجد ، والبيت . ومكة اسم للحرم كله ، قاله الزهري ، وضمرة بن حبيب . والرابع: أن بكة هي مكة ، قاله الضحاك ، وابن قتيبة ، واحتج ابن قتيبة بأن الباء تبدل من الميم; يقال: سمد رأسه وسبد رأسه: إذا استأصله . وشر لازم ، ولازب .
قوله تعالى: (مباركا) قال الزجاج: هو منصوب على الحال . المعنى: الذي استقر بمكة في حال بركته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (81)
صــ426 إلى صــ 430
قوله تعالى: (وهدى) أي: وذا هدى . ويجوز أن يكون "هدى" في موضع رفع ، [ ص: 426 ] المعنى: وهو هدى ، فأما بركته ، ففيه تغفر الذنوب ، وتضاعف الحسنات ، ويأمن من دخله .
وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من طاف بالبيت ، لم يرفع قدما ، ولم يضع أخرى ، إلا كتب الله له بها حسنة ، وحط عنه بها خطيئة ، ورفع له بها درجة" .
قوله تعالى: (وهدى للعالمين) ، في الهدى هاهنا أربعة أقوال . أحدها: أنه بمعنى القبلة ، فتقديره: وقبلة العالمين . والثاني: أنه بمعنى: الرحمة . والثالث: أنه بمعنى: الصلاح ، لأن من قصده ، صلحت حاله عند ربه . والرابع: أنه بمعنى: البيان ، والدلالة على الله تعالى بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره ، حيث يجتمع الكلب والظبي في الحرم ، فلا الكلب يهيج الظبي ، ولا الظبي يستوحش منه ، قاله القاضي أبو يعلى .
فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين .
قوله تعالى: (فيه آيات بينات) ، الجمهور يقرؤون: آيات . وروى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ: (فيه آية بينة مقام إبراهيم) ، وبها قرأ مجاهد . والآية: مقام إبراهيم . فأما من قرأ: "آيات" فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الآيات: مقام إبراهيم ، وآمن من دخله . فعلى هذا يكون الجمع معبرا عن التثنية ، وذلك جائز في اللغة ، كقوله تعالى: وكنا لحكمهم شاهدين [ الأنبياء: 78 ] . وقال أبو رجاء: كان الحسن يعدهن ، وأنا أنظر إلى أصابعه: مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا ، ولله على الناس حج البيت . وقال ابن جرير: في [ ص: 427 ] الكلام إضمار ، تقديره: منهم مقام إبراهيم . قال المفسرون: الآيات فيه كثيرة ، منها مقام إبراهيم ، ومنها: آمن من دخله ، ومنها: امتناع الطير من العلو عليه ، واستشفاء المريض منها به ، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته ، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا إخرابه ، إلى غير ذلك . قال القاضي أبو يعلى: والمراد بالبيت هاهنا: الحرم كله ، لأن هذه الآيات موجودة فيه ، ومقام إبراهيم ليس في البيت ، والآية في مقام إبراهيم أنه قام على حجر ، فأثرث قدماه فيه ، فكان ذلك دليلا على قدرة الله ، وصدق إبراهيم .
قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا) قال القاضي أبو يعلى: لفظه لفظ الخبر ، ومعناه: الأمر ، وتقديره: ومن دخله ، فأمنوه ، وهو عام فيمن جنى جناية قبل دخوله ، وفيمن جنى فيه بعد دخوله ، إلا أن الإجماع انعقد على أن من جنى فيه لا يؤمن ، لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان ، فبقي حكم الآية فيمن جنى خارجا منه ، ثم لجأ إلى الحرم . وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال أحمد في رواية المروذي: إذا قتل ، أو قطع يدا ، أو أتى حدا في غير الحرم ، ثم دخله ، لم يقم عليه الحد ، ولم يقتص منه ، ولكن لا يبايع ، ولا يشارى ، ولا يؤاكل حتى يخرج ، فإن فعل شيئا من ذلك في الحرم ، استوفى منه وقال أحمد في رواية حنبل: إذا قتل خارج الحرم ، ثم دخله ، لم يقتل . وإن كانت الجناية دون النفس ، فإنه يقام عليه الحد ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه . وقال مالك والشافعي: يقام عليه جميع ذلك في النفس ، وفيما دون النفس .
وفي قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا) ، دليل على أنه لا يقام عليه شيء من ذلك ، وهو مذهب ابن عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وطاووس .
قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) ، الأكثرون على فتح حاء "الحج" ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم: بكسرها . قال مجاهد: لما أنزل قوله تعالى: [ ص: 428 ] ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه [ آل عمران: 85 ] قال أهل الملل كلهم: نحن مسلمون ، فنزلت هذه الآية ، فحجه المسلمون ، وتركه المشركون ، وقالت اليهود: لا نحجه أبدا .
قوله تعالى: (من استطاع إليه سبيلا) قال النحويون: من استطاع بدل من "الناس" ، وهذا بدل البعض من الكل ، كما تقول: ضربت زيدا رأسه . وقد روي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وأنس ، وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: ما السبيل؟ فقال: "من وجد الزاد والراحلة" .
قوله تعالى: (ومن كفر) ، فيه خمسة أقوال . أحدها: أن معناه: من كفر بالحج فاعتقده غير واجب ، رواه مقسم عن ابن عباس ، وابن جريج عن مجاهد ، وبه قال الحسن ، [ ص: 429 ] وعطاء ، وعكرمة ، والضحاك ، ومقاتل . والثاني: من لم يرج ثواب حجه ، ولم يخف عقاب تركه ، فقد كفر به ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وابن أبي نجيح عن مجاهد . والثالث: أنه الكفر بالله ، لا بالحج ، وهذا المعنى مروي عن عكرمة ، ومجاهد . والرابع: أنه إذا أمكنه الحج ، حتى مات ، وسم بين عينيه: كافر ، هذا قول ابن عمر . والخامس: أنه أراد الكفر بالآيات التي أنزلت في ذكر البيت ، لأن قوما من المشركين قالوا: نحن نكفر بهذه الآيات ، هذا قول ابن زيد .
قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون .
قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب) . قال الحسن: هم اليهود والنصارى ، فأما آيات الله . فقال ابن عباس: هي القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم . وأما الشهيد ، فقال ابن قتيبة: هو بمعنى الشاهد ، وقال الخطابي: هو الذي لا يغيب عنه شيء ، كأنه الحاضر الشاهد .
قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن) . قال مقاتل: دعت اليهود حذيفة ، وعمار بن ياسر ، إلى دينهم ، فنزلت هذه الآية . وفي المراد بأهل الكتاب هاهنا قولان . أحدهما: أنهم اليهود والنصارى ، قاله الحسن . والثاني: اليهود . قاله زيد بن أسلم ، ومقاتل . قال ابن عباس لم تصدون عن سبيل الله: الإسلام ، والحج . وقال قتادة: لم تصدون عن نبي الله ، وعن الإسلام . قال السدي: كانوا إذا سئلوا: هل تجدون محمدا في كتبكم؟ قالوا: لا . فصدوا عنه الناس .
قوله تعالى: (تبغونها) ، قال اللغويون: الهاء كناية عن السبيل ، والسبيل يذكر ويؤنث . وأنشدوا:
فلا تبعد فكل فتى أناس سيصبح سالكا تلك السبيلا
[ ص: 430 ] ومعنى "تبغونها": تبغون لها ، تقول العرب: ابغني خادما ، يريدون: ابتغه لي ، فإذا أرادوا: ابتغ معي ، وأعني على طلبه ، قالوا: ابغني ، ففتحوا الألف ، ويقولون: وهبتك درهما ، كما يقولون: وهبت لك . قال الشاعر:
فتولى غلامهم ثم نادى أظليما أصيدكم أم حمارا
أراد: أصيد لكم ومعنى الآية: يلتمسون لسبيل الله الزيغ والتحريف ، ويريدون رد الإيمان والاستقامة إلى الكفر والاعوجاج . ويطلبون العدول عن القصد ، هذا قول الفراء ، والزجاج ، واللغويين . قال ابن جرير: خرج هذا الكلام على السبيل ، والمعنى لأهله ، كأن المعنى: تبغون لأهل دين الله ، ولمن هو على سبيل الحق عوجا . أي: ضلالا . قال أبو عبيدة: العوج بكسر العين ، في الدين ، والكلام ، والعمل ، والعوج بفتحها ، في الحائط والجذع . وقال الزجاج: العوج بكسر العين: فيما لا ترى له شخصا ، وما كان له شخص قلت: عوج بفتحها ، تقول: في أمره ودينه عوج ، وفي العصا عوج . وروى ابن الأنباري عن ثعلب قال: العوج عند العرب بكسر العين: في كل ما لا يحاط به ، والعوج بفتح العين في كل ما لا يحصل ، فيقال: في الأرض عوج ، وفي الدين عوج ، لأن هذين يتسعان ، ولا يدركان . وفي العصا عوج ، وفي السن عوج . لأنهما يحاط بهما ، ويبلغ كنههما . وقال ابن فارس: العوج بفتح العين: في كل منتصب ، كالحائط . والعوج: ما كان في بساط أو أرض ، أو دين ، أو معاش .
قوله تعالى: (وأنتم شهداء) فيه قولان . أحدهما: أن معناه ، وأنتم شاهدون بصحة ما صددتم عنه ، وبطلان ما أنتم فيه ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، وقتادة والأكثرين . والثاني: أن معنى الشهداء هاهنا: العقلاء ، ذكره القاضي أبو يعلى في آخرين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (82)
صــ431 إلى صــ 435
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين .
سبب نزولها أن الأوس والخزرج كان بينهما حرب في الجاهلية ، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أطفأ تلك الحرب بالإسلام ، فبينما رجلان أوسي وخزرجي يتحدثان ومعهما يهودي ، جعل اليهودي يذكرهما أيامهما ، والعداوة التي كانت بينهما حتى اقتتلا ، فنادى كل واحد منهما بقومه ، فخرجوا بالسلاح ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فأصلح بينهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد ، وعكرمة ، والجماعة . قال المفسرون: والخطاب بهذه الآية للأوس والخزرج . قال زيد بن أسلم: وعنى بذلك الفريق: شاس بن قيس اليهودي وأصحابه . قال الزجاج: ومعنى طاعتهم: تقليدهم .
وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم .
قوله تعالى: (ومن يعتصم بالله) .
قال ابن قتيبة: أي: يمتنع ، وأصل العصمة: المنع ، قال الزجاج: ويعتصم جزم بـ"من" والجواب (فقد هدي) .
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون .
قال عكرمة: نزلت في الأوس والخزرج حين اقتتلوا ، وأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم . وفي "حق تقاته" ثلاثة أقوال . أحدها: أن يطاع الله فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر ، رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهو قول ابن مسعود ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، ومقاتل . والثاني: أن يجاهد في الله حق الجهاد ، وأن لا يأخذ العبد فيه [ ص: 432 ] لومة لائم ، وأن يقوموا له بالقسط ، ولو على أنفسهم ، وآبائهم ، وأبنائهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث: أن معناه: اتقوه فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه ، قاله الزجاج .
فصل
واختلف العلماء: هل هذا الكلام محكم أو منسوخ؟ على قولين . أحدهما: أنه منسوخ ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن زيد ، والسدي ، ومقاتل . قالوا: لما نزلت هذه الآية ، شقت على المسلمين ، فنسخها قوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم [ التغابن: 16 ] . والثاني: أنها محكمة ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وهو قول طاووس . قال شيخنا علي بن عبد الله: والاختلاف في نسخها وإحكامها ، يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها فالمعتقد نسخها يرى أن "حق تقاته" الوقوف على جميع ما يجب له ويستحقه ، وهذا يعجز الكل عن الوفاء به ، فتحصيله من الواحد ممتنع ، والمعتقد إحكامها يرى أن "حق تقاته" أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته ، فكان قوله تعالى: (ما استطعتم) مفسرا لـ"حق تقاته" لا ناسخا ولا مخصصا .
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون .
قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا) قال الزجاج: اعتصموا: استمسكوا . فأما الحبل ، ففيه ستة أقوال . أحدها: أنه كتاب الله: القرآن ، رواه شقيق عن ابن مسعود [ ص: 433 ] وبه قال قتادة ، والضحاك ، والسدي . والثاني: أنه الجماعة ، رواه الشعبي عن ابن مسعود . والثالث: أنه دين الله ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، ومقاتل ، وابن قتيبة . وقال ابن زيد: هو الإسلام . والرابع: عهد الله ، قاله مجاهد ، وعطاء ، وقتادة في رواية ، وأبو عبيد ، واحتج له الزجاج بقول الأعشى:
وإذا تجوزها حبال قبيلة أخذت من الأخرى إليك حبالها
وأنشد ابن الأنباري:
فلو حبلا تناول من سليمى لمد بحبلها حبلا متينا
والخامس: أنه الإخلاص ، قاله أبو العالية ، والسادس: أنه أمر الله وطاعته ، قاله مقاتل بن حيان . قال الزجاج: وقوله: "جميعا" منصوب على الحال ، أي: كونوا مجتمعين على الاعتصام به . وأصل "تفرقوا": تتفرقوا ، إلا أن التاء حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد ، والمحذوفة هي الثانية ، لأن الأولى دليلة على الاستقبال ، فلا يجوز حذف الحرف الذي يدل على الاستقبال ، وهو مجزوم بالنهي ، والأصل: ولا تتفرقون ، فحذفت النون لتدل على الجزم .
قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم) اختلفوا فيمن أريد بهذا الكلام على قولين . أحدهما: أنهم مشركو العرب ، كان القوي يستبيح الضعيف ، قاله الحسن ، وقتادة . والثاني: الأوس والخزرج ، كان بينهم حرب شديد ، قاله ابن إسحاق . والأعداء: جمع عدو . قال ابن فارس: وهو من عدا: إذا ظلم .
[ ص: 434 ] قوله تعالى: (فأصبحتم) أي: صرتم ، قال الزجاج: وأصل الأخ في اللغة أنه الذي مقصده مقصد أخيه ، والعرب تقول: فلان يتوخى مسار فلان ، أي: ما يسره . والشفا: الحرف . واعلم أن هذا مثل ضربه الله لإشرافهم على الهلاك . وقربهم من العذاب ، كأنه قال: كنتم على حرف حفرة من النار ، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا الموت على الكفر . قال السدي: فأنقذكم منها محمد صلى الله عليه وسلم .
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون .
قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة) قال الزجاج: معنى الكلام: ولتكونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير ، وتأمرون بالمعروف ، ولكن "من" هاهنا تدخل لتخض المخاطبين من سائر الأجناس ، وهي مؤكدة أن الأمر للمخاطبين ، ومثله: فاجتنبوا الرجس من الأوثان [ الحج: 20 ] معناه: اجتنبوا الأوثان ، فإنها رجس . ومثله قول الشاعر:
أخو رغائب يعطيها ويسألها يأبى الظلامة منه النوفل الزفر
وهو النوفل الزفر ، لأنه وصفه بإعطاء الرغائب . والنوفل: الكثير الإعطاء للنوافل ، والزفر: الذي يحمل الأثقال . ويدل على أن الكل أمروا بالمعروف والنهي عن المنكر . قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) قال: ويجوز أن يكون أمر منهم فرقة ، لأن الدعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون [ ص: 435 ] إليه ، وليس الخلق كلهم علماء ، والعلم ينوب بعض الناس فيه عن بعض ، كالجهاد . فأما الخير ، ففيه قولان .
أحدهما: أنه الإسلام ، قاله مقاتل .
والثاني: العمل بطاعة الله . قاله أبو سليمان الدمشقي . وأما المعروف ، فهو ما يعرف كل عاقل صوابه ، وضده المنكر ، وقيل: المعروف هاهنا: طاعة الله ، والمنكر: معصيته .
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم .
قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) فيهم قولان .
أحدهما: أنهم اليهود والنصارى ، قاله ابن عباس ، والحسن في آخرين .
والثاني: أنهم الحرورية قاله أبو أمامة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (83)
صــ436 إلى صــ 440
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون .
قوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو عمران الجوني ، وأبو نهيك: تبيض وتسود ، بكسر التاء فيهما . وقرأ الحسن ، والزهري ، وابن محيصن ، وأبو الجوزاء: تبياض وتسواد بألف ، ومدة فيهما . وقرأ أبو الجوزاء ، [ ص: 436 ] وابن يعمر: فأما الذين اسوادت وابياضت ، بألف ومدة . قال الزجاج: أخبر الله بوقت ذلك العذاب ، فقال: يوم تبيض وجوه . قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة ، وتسود وجوه أهل البدعة . وفي الذين اسودت وجوههم ، خمسة أقوال .
أحدها: أنهم كل من كفر بالله بعد إيمانه يوم الميثاق ، قاله أبي بن كعب .
والثاني: أنهم الحرورية ، قاله أبو أمامة ، وإسحاق الهمذاني .
والثالث: اليهود قاله ابن عباس .
والرابع: أنهم المنافقون ، قاله الحسن . والخامس: أنهم أهل البدع ، قاله قتادة .
قوله تعالى: (أكفرتم) قال الزجاج: معناه: فيقال لهم: أكفرتم ، فحذف القول لأن في الكلام دليلا عليه ، كقوله تعالى: وإسماعيل ربنا تقبل منا [ البقرة: 127 ] ، أي: ويقولان: ربنا تقبل منا . ومثله: من كل باب سلام عليكم [ الرعد: 25 ، 26 ] والمعنى: يقولون سلام عليكم . والألف لفظها لفظ الاستفهام ، ومعناها التقرير والتوبيخ . فإن قلنا: إنهم جميع الكفار ، فإنهم آمنوا يوم الميثاق ، ثم كفروا ، وإن قلنا: إنهم الحرورية ، وأهل البدع ، فكفرهم بعد إيمانهم: مفارقة الجماعة في الاعتقاد ، وإن قلنا: اليهود ، فإنهم آمنوا بالنبي قبل مبعثه ، ثم كفروا بعد ظهوره ، وإن قلنا: المنافقون ، فإنهم قالوا بألسنتهم ، وأنكروا بقلوبهم .
قوله تعالى: (فذوقوا العذاب) أصل الذوق إنما يكون بالفم ، وهذا استعارة منه ، فكأنهم جعلوا ما يتعرف ويعرف مذوقا على وجه التشبيه بالذي يعرف عند التطعم ، تقول العرب: قد ذقت من إكرام فلان ما يرغبني في قصده ، يعنون: عرفت ، ويقولون ذق الفرس ، فاعرف ما عنده .
[ ص: 437 ] قال تميم بن مقبل:
أو كاهتزاز رديني تذاوقه أيدي التجار فزادوا متنه لينا
وقال الآخر:
وإن الله ذاق حلوم قيس فلما راء خفتها قلاها
يعنون بالذوق: العلم . وفي كتاب الخليل: كل ما نزل بإنسان من مكروه فقد ذاقه .
وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون .
قوله تعالى: (وأما الذين ابيضت وجوههم) قال ابن عباس: هم المؤمنون . ورحمة الله جنته ، قال ابن قتيبة: وسمى الجنة رحمة ، لأن دخولهم إياها كان برحمته . وقال الزجاج: معناه: في ثواب رحمته ، قال: وأعاد ذكر "فيها" توكيدا .
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين .
قوله تعالى: (وما الله يريد ظلما للعالمين) قال بعضهم: معناه: لا يعاقبهم بلا جرم . وقال الزجاج: أعلمنا أنه يعذب من عذبه باستحقاق .
ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون .
قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) سبب نزولها أن مالك بن الضيف ووهب بن يهوذا اليهوديين ، قالا لابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة [وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ]: ديننا خير مما تدعونا إليه ، ونحن أفضل منكم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عكرمة ومقاتل . وفيمن أريد بهذه الآية ، أربعة أقوال .
أحدها: أنهم أهل بدر . والثاني: أنهم المهاجرون . والثالث: جميع الصحابة .
والرابع: جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، نقلت هذه الأقوال كلها عن ابن عباس . وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها ، وأكرمها على الله تعالى" قال الزجاج: وأصل الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 439 ] وهو يعم سائر أمته .
وفي قوله تعالى: (كنتم) ، قولان .
أحدهما: أنها على أصلها ، والمراد بها الماضي ، ثم فيه ثلاثة أقوال .
أحدها: أن معناه: كنتم في اللوح المحفوظ .
والثاني: أن معناه: خلقتم ووجدتم . ذكرهما المفسرون .
والثالث: أن المعنى: كنتم مذ كنتم ، ذكره ابن الأنباري . والثاني: أن معنى كنتم: أنتم ، كقوله تعالى: وكان الله غفورا رحيما [ النساء: 96 ] .
ذكره الفراء ، والزجاج . قال ابن قتيبة: وقد يأتي الفعل على بنية الماضي ، وهو راهن ، أو مستقبل ، كقوله تعالى: (كنتم) ومعناه: أنتم ، ومثله: (وإذ قال الله يا عيسى) [ المائدة: 116 ] ، أي: وإذ يقول . ومثله: (أتى أمر الله) [ النحل: 1 ] ، أي: سيأتي ، ومثله: (كيف نكلم من كان في المهد صبيا) [ مريم: 29 ] ، أي: من هو في المهد ، ومثله: وكان [ ص: 440 ] الله سميعا بصيرا [ النساء: 134 ] . أي: والله سميع بصير ، ومثله: فتثير سحابا فسقناه [ فاطر: 9 ] ، أي: فنسوقه .
وفي قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) قولان .
أحدهما: أن معناه: كنتم خير الناس للناس . قال أبو هريرة: يأتون بهم في السلاسل حتى يدخلوهم في الإسلام .
والثاني: أن معناه: كنتم خير الأمم التي أخرجت .
وفي قوله تعالى: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) قولان .
أحدهما: أنه شرط في الخيرية ، وهذا المعنى مروي عن عمر بن الخطاب ، ومجاهد ، والزجاج .
والثاني: أنه ثناء من الله عليهم ، قاله الربيع بن أنس . قال أبو العالية: والمعروف: التوحيد . والمنكر: الشرك . قال ابن عباس: وأهل الكتاب: اليهود والنصارى .
قوله تعالى: (منهم المؤمنون): من أسلم ، كعبد الله بن سلام وأصحابه . (وأكثرهم الفاسقون) ، يعني: الكافرين ، وهم الذين لم يسلموا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (84)
صــ441 إلى صــ 445
لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون .
قوله تعالى: (لن يضروكم إلا أذى) قال مقاتل: سبب نزولها أن رؤساء اليهود عمدوا إلى عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم ، فنزلت هذه الآية . قال ابن عباس: والأذى قولهم: عزير ابن الله [ التوبة: 30 ] و المسيح ابن الله التوبة: 30 و ثالث ثلاثة [ المائدة: 73 ] . وقال الحسن: [ ص: 441 ] هو الكذب على الله ، ودعاؤهم المسلمين إلى الضلالة . وقال الزجاج: هو البهت والتحريف . ومقصود الآية: إعلام المسلمين بأنه لن ينالهم منهم إلا الأذى باللسان من دعائهم إياهم إلى الضلال ، وإسماعهم الكفر ، ثم وعدهم النصر عليهم في قوله: (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار) .
ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .
قوله تعالى: (أين ما ثقفوا) معناه: أدركوا ووجدوا ، وذلك أنهم أين نزلوا احتاجوا إلى عهد من أهل المكان ، وأداء جزية . قال الحسن: أدركتهم هذه الأمة ، وإن المجوس لتجبيهم الجزية . وأما الحبل ، فقال ابن عباس ، وعطاء ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد: الحبل: العهد ، قال بعضهم: ومعنى الكلام: إلا بعهد يأخذونه من المؤمنين بإذن الله . قال الزجاج: وما بعد الاستثناء في قوله تعالى: (إلا بحبل من الله) ليس من الأول ، وإنما المعنى: أنهم أذلاء ، إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه . وقد سبق في "البقرة" تفسير باقي الآية .
ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون .
قوله تعالى: (ليسوا سواء) ، في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، احتبس عن صلاة العشاء ليلة حتى ذهب ثلث الليل ، [ ص: 442 ] ثم جاء فبشرهم ، فقال: "إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب" فنزلت هذه الآية ، قاله ابن مسعود .
والثاني: أنه لما أسلم ابن سلام في جماعة من اليهود ، قال أحبارهم: ما آمن بمحمد إلا أشرارنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . وفي معنى الآية قولان .
أحدهما: ليس أمة محمد واليهود سواء ، هذا قول ابن مسعود ، والسدي .
والثاني: ليس اليهود كلهم سواء ، بل فيهم من هو قائم بأمر الله ، هذا قول ابن عباس ، وقتادة . وقال الزجاج: الوقف التام (ليسوا سواء) أي: ليس أهل الكتاب متساوين . وفي معنى "قائمة" ثلاثة أقوال .
أحدها: أنها الثابتة على أمر الله ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
والثاني: أنها العادلة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وابن جريج .
والثالث: أنها المستقيمة ، قاله أبو عبيد ، والزجاج . قال الفراء: ذكر أمة واحدة ولم يذكر بعدها أخرى ، والكلام مبني على أخرى ، لأن "سواء" لا بد لها من اثنين ، وقد تستجيز العرب إضمار أحد الشيئين إذا كان في الكلام دليل عليه . قال أبو ذؤيب:
عصيت إليها القلب إني لأمره سميع فما أدري أرشد طلابها؟!
[ ص: 443 ] ولم يقل: أم لا ، ولا أم غي ، لأن الكلام معروف المعنى .
وقال آخر:
وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني
ومثله قوله تعالى: أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما [ الزمر: 9 ] ولم يذكر ضده ، لأن في قوله: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ الزمر: 9 ] . دليلا على ما أضمر من ذلك ، وقد رد هذا القول الزجاج ، فقال: قد جرى ذكر أهل الكتاب في قوله تعالى: كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق فأعلم الله أن منهم أمة قائمة . فما الحاجة إلى أن يقال: وأمة غير قائمة؟ وإنما بدأ بذكر فعل الأكثر منهم ، وهو الكفر والمشاقة فذكر من كان منهم مباينا لهؤلاء . قال: و"آناء الليل" ساعاته ، وواحد الآناء: إني . قال ابن فارس: يقال: مضى من الليل إني ، وإنيان ، والجمع: الآناء . واختلف المفسرون . هل هذه الآناء معينة من الليل أم لا؟ على قولين .
أحدهما: أنها معينة ، ثم فيها ثلاثة أقوال .
أحدها: أنها صلاة العشاء ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد .
والثاني: أنها ما بين المغرب والعشاء ، رواه سفيان عن منصور .
والثالث: جوف الليل ، قاله السدي .
[ ص: 444 ] . والثاني: أنها ساعات الليل من غير تعيين ، قاله قتادة في آخرين .
وفي قوله تعالى: (وهم يسجدون) ، قولان .
أحدهما: أنه كناية عن الصلاة ، قاله مقاتل ، والفراء ، والزجاج .
والثاني: أنه السجود المعروف ، وليس المراد أنهم يتلون في حال السجود ، ولكنهم جمعوا الأمرين ، التلاوة والسجود .
يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين .
قوله تعالى: (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم: تفعلوا ، وتكفروه ، بالتاء في الموضعين على الخطاب ، لقوله تعالى: (كنتم خير أمة) . قال قتادة: فلن تكفروه: لن يضل عنكم . وقرأ قوم ، منهم حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وعبد الوارث عن أبي عمرو: يفعلوا ، ويكفروا ، بالياء فيهما ، إخبارا عن الأمة القائمة . وبقية أصحاب أبي عمرو يخيرون بين الياء والتاء .
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون .
قوله تعالى: (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا) اختلفوا فيمن أنزلت على أربعة أقوال .
[ ص: 445 ] أحدها: أنها في نفقات الكفار ، وصدقاتهم ، قاله مجاهد .
والثاني: في نفقة سفلة اليهود على علمائهم ، قاله مقاتل .
والثالث: في نفقة المشركين يوم بدر .
والرابع: في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين ، ذكر هذين القولين أبو الحسن الماوردي . وقال السدي: إنما ضرب الإنفاق مثلا لأعمالهم في شركهم . وفي الصر ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه البرد ، قاله الأكثرون .
والثاني: أنه النار ، قاله ابن عباس ، وقال ابن الأنباري: وإنما وصفت النار بأنها صر لتصويتها عند الالتهاب .
والثالث: أن الصر: التصويت ، والحركة من الحصى والحجارة ، ومنه: صرير النعل ، ذكره ابن الأنباري . والحرث: الزرع . وفي معنى "ظلموا أنفسهم" قولان .
أحدهما: ظلموها بالكفر ، والمعاصي ، ومنع حق الله تعالى .
والثاني: بأن زرعوا في غير وقت الزرع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (85)
صــ446 إلى صــ 450
قوله تعالى: (وما ظلمهم الله) قال ابن عباس: أي: ما نقصهم ذلك بغير جرم أصابوه ، وإنما أنزل بهم ذلك لظلمهم أنفسهم بمنع حق الله منه ، وهذا مثل ضربه الله لإبطال أعمالهم في الآخرة وحدثنا عن ثعلب ، قال: بدأ الله تعالى هذه الآية بالريح ، والمعنى: على الحرث ، كقوله تعالى: كمثل الذي ينعق بما لا يسمع وإنما المعنى على المنعوق به . وقريب منه قوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن فخبر عن "الأزواج" وترك "الذين" كأنه قال: أزواج الذين يتوفون منكم يتربصن ، فبدأ بالذين ، ومراده: بعد الأزواج . وأنشد:
[ ص: 446 ]
لعلي إن مالت بي الريح ميلة على ابن أبي ديان أن يتندما
فخبر عن ابن أبي ديان ، وترك نفسه ، وإنما أراد: لعل ابن أبي ديان أن يتندما إن مالت بي الريح ميلة . وقد يبدأ بالشيء ، والمراد التأخير ، كقوله تعالى: ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة [ الزمر:60 ] والمعنى: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة يوم القيامة .
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون .
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) قال ابن عباس ، ومجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ، ويواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة ، والصداقة ، والجوار ، والرضاع ، والحلف ، فنهوا عن مباطنتهم . قال الزجاج: البطانة: الدخلاء الذين يستبطنون [أمره ] وينبسط إليهم ، يقال: فلان بطانة لفلان ، أي: مداخل له ، مؤانس . ومعنى لا يألونكم: لا يتقون غاية في إلقائكم فيما يضركم .
قوله تعالى: (ودوا ما عنتم) أي: ودوا عنتكم ، وهو ما نزل بكم من مكروه وضر ، يقال: فلان يعنت فلانا ، أي: يقصد إدخال المشقة والأذى عليه ، وأصل هذا من قولهم: أكمة عنوت ، إذا كانت طويلة ، شاقة المسلك . قال ابن قتيبة: ومعنى (من دونكم) أي: من غير المسلمين . والخبال: الشر .
قوله تعالى: (قد بدت البغضاء من أفواههم) قال ابن عباس: أي: قد ظهر لكم منهم [ ص: 447 ] الكذب ، والشتم ، ومخالفة دينكم . قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة ، ولهذا قال أحمد: لا يستعين الإمام بأهل الذمة على قتال أهل الحرب . وروي عن عمر أنه بلغه أن أبا موسى استكتب رجلا من أهل الذمة ، فكتب إليه يعنفه ، وقال: لا تردوهم إلى العز بعد إذ أذلهم الله .
ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور .
قوله تعالى: (ها أنتم أولاء تحبونهم) قال ابن عباس: كان عامة الأنصار يواصلون اليهود ويواصلونهم: فلما أسلم الأنصار بغضهم اليهود ، فنزلت هذه الآية . والخطاب بهذه الآية للمؤمنين . قال ابن قتيبة: ومعنى الكلام: ها أنتم يا هؤلاء . فأما "تحبونهم" فالهاء والميم عائدة إلى الذين نهوا عن مصافاتهم . وفي معنى محبة المؤمنين لهم أربعة أقوال .
أحدها: أنها الميل إليهم بالطباع ، لموضع القرابة ، والرضاع ، والحلف ، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس .
والثاني: أنها بمعنى الرحمة لهم ، لما يفعلون من المعاصي التي يقابلها العذاب الشديد ، وهذا المعنى منقول عن قتادة .
والثالث: أنها لموضع إظهار المنافقين الإيمان ، روي عن أبي العالية .
والرابع: أنها بمعنى إرادة الإسلام لهم ، وهم يريدون المسلمين على الكفر ، وهذا قول المفضل ، والزجاج . والكتاب: بمعنى الكتب ، قاله الزجاج .
[ ص: 448 ] قوله تعالى: (وإذا لقوكم قالوا آمنا) هذه حالة المنافقين ، وقال مقاتل: هم اليهود . والأنامل: أطراف الأصابع . قال ابن عباس: والغيظ: الحنق عليكم ، وقيل: هذا من مجاز الكلام ، ضرب مثلا لما حل بهم ، وإن لم يكن هناك عض على أنملة ، ومعنى "موتوا بغيظكم": ابقوا به حتى تموتوا ، وإنما كان غيظهم من رؤية شمل المسلمين ملتئما . قال ابن جرير: هذا أمر من الله تعالى لنبيه أن يدعو عليهم بأن يهلكهم الله كمدا من الغيظ .
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط .
قوله تعالى: (إن تمسسكم حسنة) قال قتادة: وهي الألفة والجماعة . والسيئة: الفرقة والاختلاف ، وإصابة طرف من المسلمين . وقال ابن قتيبة: الحسنة: النعمة . والسيئة: المصيبة .
قوله تعالى: (وإن تصبروا) فيه قولان . أحدهما: على أذاهم ، قاله ابن عباس .
والثاني: على أمر الله ، قاله مقاتل .
وفي قوله تعالى: (وتتقوا) قولان .
أحدهما: الشرك ، قاله ابن عباس . والثاني: المعاصي ، قاله مقاتل .
قوله تعالى: (لا يضركم) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، " يضركم " بكسر الضاد ، وتخفيف الراء . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي: " لا يضركم " بضم الضاد وتشديد الراء . قال الزجاج: الضر والضير بمعنى واحد . فأما الكيد فقال ابن قتيبة: هو المكر . قال أبو سليمان الخطابي: والمحيط: الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه ، وأحاط علمه بالأشياء كلها .
وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم
[ ص: 449 ] قوله تعالى: (وإذ غدوت من أهلك) قال المفسرون: في هذا الكلام تقديم وتأخير ، تقديره: ولقد نصركم الله ببدر ، وإذ غدوت من أهلك . وقال ابن قتيبة: تبوئ ، من قولك: بوأتك منزلا: إذا أفدتك إياه ، أو أسكنتكه . ومعنى مقاعد للقتال: المعسكر والمصاف . واختلفوا في أي يوم كان ذلك ، على ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه يوم أحد ، قاله عبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والزهري ، وقتادة ، والسدي ، والربيع ، وابن إسحاق ، وذلك أنه خرج يوم أحد من بيت عائشة إلى أحد ، فجعل يصف أصحابه للقتال . والثاني: أنه يوم الأحزاب ، قاله الحسن ، ومجاهد ، ومقاتل .
والثالث: يوم بدر ، نقل عن الحسن أيضا . قال ابن جرير: والأول أصح ، لقوله تعالى: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا وقد اتفق العلماء أن ذلك كان يوم أحد .
قوله تعالى: (والله سميع عليم) قال أبو سليمان الدمشقي: سميع لمشاورتك إياهم في الخروج ، ومرادهم للخروج ، عليم بما يخفون من حب الشهادة .
إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون .
قوله تعالى: (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) قال الزجاج: كانت التبوئة في ذلك الوقت . وتفشلا: تجبنا ، وتخورا . (والله وليهما) ، أي: ناصرهما . قال جابر بن عبد الله: نحن هم بنو سلمة ، وبنو حارثة ، وما نحب أن لو لم يكن ذلك لقول الله: (والله وليهما) . وقال الحسن هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك ، فعصمهما الله . وقيل: لما رجع عبد الله بن أبي في أصحابه يوم أحد ، همت الطائفتان باتباعه ، فعصمهما الله .
[ ص: 450 ] فصل
فأما التوكل فقال ابن عباس: هو الثقة بالله . وقال ابن فارس: هو إظهار العجز [في الأمر ] ، والاعتماد على غيرك ، ويقال: فلان وكلة تكلة ، أي: عاجز ، يكل أمره إلى غيره . وقال غيره: هو "تفعل" من الوكالة ، يقال: وكلت أمري إلى فلان فتوكل به ، أي: ضمنه ، وقام به ، وأنا متوكل عليه . وقال بعضهم: هو تفويض الأمر إلى الله ثقة بحسن تدبيره .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (86)
صــ451 إلى صــ 455
ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون .
قوله تعالى: ولقد نصركم الله ببدر في تسمية بدر قولان .
أحدهما: أنها بئر لرجل اسمه بدر ، قاله الشعبي .
والثاني: أنه اسم للمكان الذي التقوا عليه ، ذكره الواقدي عن أشياخه .
قوله تعالى: (وأنتم أذلة) أي: لقلة العدد والعدد . (لعلكم تشكرون) ، أي: لتكونوا من الشاكرين .
إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين .
قوله تعالى: (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم) قال الشعبي: قال كرز بن جابر لمشركي مكة: إني أمدكم بقومي ، فاشتد ذلك على المسلمين ، فنزلت هذه الآية . وفي أي يوم كان ذلك؟ فيه قولان .
أحدهما: يوم بدر ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، [ ص: 451 ] . والثاني: يوم أحد ، وعدهم فيه بالمدد إن صبروا ، فلما لم يصبروا ، لم يمدوا ، روي عن عكرمة ، والضحاك ، ومقاتل ، والأول أصح . والكافية: مقدار سد الخلة . والاكتفاء: الاقتصار على ذلك . والإمداد: إعطاء الشيء بعد الشيء .
قوله تعالى: (منزلين) قرأ الأكثرون بتخفيف الزاي ، وشددها ابن عامر .
بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين .
قوله تعالى: (ويأتوكم من فورهم) هذا فيه قولان .
أحدهما: أن معناه: من وجههم وسفرهم هذا ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل ، والزجاج .
والثاني: من غضبهم هذا ، قاله عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك في آخرين . قال ابن جرير: من قال: من وجههم ، أراد ابتداء مخرجهم يوم بدر ، ومن قال: من غضبهم ، أراد ابتداء غضبهم لقتلاهم يوم بدر . وأصل الفور: ابتداء الأمر يؤخذ فيه ، يقال: فارت القدر: إذا ابتدأ ما فيها بالغليان ، ثم اتصل . وقال ابن فارس: الفور: الغليان ، يقال: فارت القدر تفور ، وفار غضبه: إذا جاش ، ويقولون: فعله من فوره ، أي: قبل أن يسكن .
[ ص: 452 ] وفي يوم فورهم قولان .
أحدهما: أنه يوم بدر ، قاله قتادة .
والثاني: يوم أحد ، قال مجاهد ، والضحاك ، كانوا غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا .
قوله تعالى: (مسومين) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم بكسر الواو ، والباقون بفتحها ، فمن فتح الواو ، أراد أن الله سومها ، ومن كسرها ، أراد أن الملائكة سومت أنفسها . وقال الأخفش: سومت خيلها ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بدر: "سوموا فإن الملائكة قد سومت" ونسب الفعل إليها ، فهذا دليل الكسر . قال ابن قتيبة: ومعنى مسومين: معلمين بعلامة الحرب ، وهو من السيماء [مأخوذ ] ، والسومة: العلامة التي يعلم بها الفارس نفسه . قال علي رضي الله عنه: وكان سيماء خيل الملائكة يوم بدر ، الصوف الأبيض في أذنابها ونواصيها . وقال أبو هريرة: العهن الأحمر . وقال مجاهد: كانت أذناب خيولهم مجزوزة ، وفيها العهن . وقال هشام بن عروة: كانت الملائكة على خيل بلق ، وعليهم عمائم صفر . وروى ابن عباس عن رجل من بني غفار قال: حضرت أنا وابن عم لي بدرا ، ونحن على شركنا ، فأقبلت سحابة ، فلما دنت من الخيل سمعنا فيها حمحمة الخيل ، وسمعنا فارسا يقول: اقدم حيزوم ، فأما صاحبي فمات مكانه ، وأما أنا فكدت أهلك ، ثم انتعشت . وقال أبو داود المازني: إني لأتبع يوم بدر رجلا من المشركين لأضربه ، [ ص: 453 ] فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أن غيري قد قتله .
وفي عدد الملائكة يوم بدر خمسة أقوال .
أحدها: خمسة آلاف ، قاله الحسن . وروى جبير بن مطعم عن علي رضي الله عنه ، قال: بينا أنا أمتح من قليب بدر ، جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها ، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي كانت قبلها ، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها ، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة ، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة عن يمين رسول الله ، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله ، وكنت عن يساره ، وهزم الله أعداءه .
والثاني: أربعة آلاف ، قاله الشعبي . والثالث: ألف ، قاله مجاهد .
والرابع: تسعة آلاف ، ذكره الزجاج .
[ ص: 454 ] . والخامس: ثمانية آلاف ، ذكره بعض المفسرين .
وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم .
قوله تعالى: (وما جعله الله) يعني المدد (إلا بشرى) ، أي: إلا بشارة تطيب أنفسكم ، (ولتطمئن قلوبكم به) ، فتسكن في الحرب ، ولا تجزع ، والأكثرون على أن هذا المدد يوم بدر . وقال مجاهد: يوم أحد ، وروي عنه ما يدل على أن الله أمدهم في اليومين بالملائكة جميعا ، غير أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر .
قوله تعالى: (وما النصر إلا من عند الله) أي: ليس بكثرة العدد والعدد .
ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين .
قوله تعالى: (ليقطع طرفا) معناه: نصركم ببدر ليقطع طرفا . قال الزجاج: أي: ليقتل قطعة منهم . وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان .
أحدهما: في يوم بدر ، قاله الحسن ، وقتادة ، والجمهور .
والثاني: يوم أحد ، قتل منهم ثمانية وعشرون ، قاله السدي .
قوله تعالى: (أو يكبتهم) فيه سبعة أقوال .
أحدها: أن معناه: يهزمهم ، قاله ابن عباس ، والزجاج .
والثاني: يخزيهم ، قاله قتادة ، ومقاتل .
والثالث: يصرعهم ، قاله أبو عبيد ، واليزيدي . وقال الخليل: هو الصرع على الوجه .
والرابع: يهلكهم ، قاله أبو عبيدة . والخامس: يلعنهم ، قاله السدي .
والسادس: يظفر عليهم ، قاله المبرد . [ ص: 455 ] والسابع: يغيظهم ، قاله النضر بن شميل ، واختاره ابن قتيبة . وقال ابن قتيبة: أهل النظر يرون أن التاء فيه منقلبة عن دال ، كأن الأصل فيه: يكبدهم ، أي: يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ ، وشدة العداوة ، ومنه يقال: فلان قد أحرق الحزن كبده ، وأحرقت العداوة كبده ، والعرب تقول: العدو: أسود الكبد . قال الأعشى:
فما أجشمت من إتيان قوم هم الأعداء والأكباد سود
كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة ، اسودت ، ومنه يقال للعدو: كاشح ، لأنه يخبئ يخبأ العداوة في كشحه . والكشح: الخاصرة ، وإنما يريدون الكبد ، لأن الكبد هناك . قال الشاعر:
وأضمر أضغانا على كشوحها
والتاء والدال متقاربتا المخرج ، والعرب تدغم إحداهما في الأخرى ، وتبدل إحداهما من الأخرى ، كقولهم: هرت الثوب وهرده: إذا خرقه ، وكذلك: كبت العدو ، وكبده ، ومثله كثير .
قوله تعالى: (فينقلبوا خائبين) قال الزجاج: الخائب: الذي لم ينل ما أمل . وقال غيره: الفرق بين الخيبة واليأس ، أن الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل ، واليأس قد يكون من غير أمل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (87)
صــ456 إلى صــ 460
ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون .
قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء) في سبب نزولها خمسة أقوال .
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد ، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه ، فقال: "كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم ، وهو يدعوهم إلى ربهم ، عز وجل؟!" فنزلت هذه الآية . أخرجه مسلم في "أفراده" من حديث أنس . وهو قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والربيع .
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لعن قوما من المنافقين ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عمر .
والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم هم بسب الذين انهزموا يوم أحد ، فنزلت هذه الآية ، فكف عن ذلك ، نقل عن ابن مسعود ، وابن عباس .
والرابع: أن سبعين من أهل الصفة ، خرجوا إلى قبيلتين من بني سليم ، عصية وذكوان ، فقتلوا جميعا ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أربعين يوما ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل بن سليمان .
[ ص: 457 ] . والخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حمزة ممثلا به ، قال: "لأمثلن بكذا وكذا منهم" فنزلت هذه الآية ، قاله الواقدي . وفي معنى الآية قولان .
أحدهما: ليس لك من استصلاحهم أو عذابهم شيء .
والثاني: ليس لك من النصر والهزيمة شيء . وقيل: إن "لك" بمعنى "إليك" .
قوله تعالى: (أو يتوب عليهم) قال الفراء: في نصبه وجهان ، إن شئت جعلته معطوفا على قوله تعالى: (ليقطع طرفا) وإن شئت جعلت نصبه على مذهب "حتى" كما تقول: لا أزال معك حتى تعطيني ، ولما نفى الأمر عن نبيه ، أثبت أن جميع الأمور إليه بقوله تعالى: (ولله ما في السماوات وما في الأرض) .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا) قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: هَذِهِ الْآَيَةُ نَزَلَتْ [ ص: 458 ] فِي رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : كَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ الْمَالُ ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ ، فَيَقُولُ: أَخِّرْ عَنِّي ، وَأَزِيدُكَ عَلَى مَالِكَ ، فَتِلْكَ الْأَضْعَافُ الْمُضَاعَفَةُ .
[ ص: 459 ] وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا تَهْدِيدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، لِئَلَّا يَسْتَحِلُّوا الرِّبَا . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى: اتَّقُوا أَنْ تَحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَكْفُرُوا .
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) كُلُّهُمْ أَثْبَتَ الْوَاوَ فِي "وَسَارِعُوا" إِلَّا نَافِعًا ، وَابْنَ عَامِرٍ ، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَاهَا . وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْوَاوِ ، عَطَفَ "وَسَارِعُوا" عَلَى "وَأَطِيعُوا" وَمَنْ حَذَفَهَا ، فَلِأَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مُلْتَبِسَةٌ بِالْأُولَى ، فَاسْتَغْنَتْ عَنِ الْعَطْفِ . وَمَعْنَى الْآَيَةِ: بَادِرُوا إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ . وَفِي الْمُرَادِ بِمُوجِبِ الْمَغْفِرَةِ هَاهُنَا عَشْرَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْإِخْلَاصُ ، قَالَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالثَّانِي: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالثَّالِثُ: الْإِسْلَامُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
[ ص: 460 ] . وَالرَّابِعُ: التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى مِنَ الصَّلَاةِ ، قَالَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ .
وَالْخَامِسُ: الطَّاعَةُ ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ . وَالسَّادِسُ: التَّوْبَةُ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ .
وَالسَّابِعُ: الْهِجْرَةُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّامِنُ: الْجِهَادُ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
وَالتَّاسِعُ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، قَالَهُ يَمَانُ . وَالْعَاشِرُ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَرَادَ بِالْعَرْضِ السِّعَةَ ، وَلَمْ يُرِدِ الْعَرْضَ الَّذِي يُخَالِفُ الطُّولَ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: بِلَادٌ عَرِيضَةٌ ، أَيْ: وَاسِعَةٌ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُنْهَزِمِي نَ يَوْمَ أُحُدٍ: "لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عَرِيضَةً" .
قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلٍ
قَالَ وَأَصْلُ هَذَا مِنَ الْعَرْضِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الطُّولِ ، وَإِذَا عَرُضَ الشَّيْءُ اتَّسَعَ ، وَإِذَا لَمْ يَعْرُضْ ضَاقَ وَدَقَّ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : لَوْ أَلْصَقَ بَعْضِهِنَّ إِلَى بَعْضٍ كَانَتِ الْجَنَّةُ فِي عَرْضِهِنَّ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (88)
صــ461 إلى صــ 465
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ . وَمَعْنَى الْآَيَةِ: أَنَّهُمْ رَغِبُوا فِي مُعَامَلَةِ اللَّهِ ، فَلَمْ يَبْطُرُهُمُ الرَّخَاءُ فَيُنْسِيهِمْ ، وَلَمْ تَمْنَعْهُمُ الضَّرَّاءُ فَيَبْخَلُوا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْكاظمين الْغَيْظَ) قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ: كَظَمْتُ الْغَيْظَ: إِذَا [ ص: 461 ] أَمْسَكْتَ عَلَى مَا فِي نَفْسِكَ مِنْهُ ، وَكَظَمَ الْبَعِيرُ عَلَى جَرَّتِهِ: إِذَا رَدَّدَهَا فِي حَلْقِهِ . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : الْأَصْلُ فِي الْكَظْمِ: الْإِمْسَاكُ عَلَى غَيْظٍ وَغَمٍّ . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جُرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى" .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) فِيهِ قَوْلَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْعَفْوُ عَنِ الْمَمَالِيكِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالرَّبِيعُ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ ، فَهُمْ يَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَمُقَاتِلٌ .
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهَ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ إِلَى نَبْهَانَ التَّمَّارِ تَشْتَرِي مِنْهُ تَمَرًا فَضَمَّهَا ، وَقَبَّلَهَا ، ثُمَّ نَدِمَ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
[ ص: 462 ] . وَالثَّانِي: أَنَّ أَنْصَارِيًّا وَثَقَفِيًّا آَخَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهَا ، فَخَرَجَ الثَّقَفِيُّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ ، فَكَانَ الْأَنْصَارِيُّ يَتَعَهَّدُ أَهْلَ الثَّقَفِيِّ ، فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَبْصَرَ الْمَرْأَةَ قَدِ اغْتَسَلَتْ وَهِيَ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا ، فَدَخَلَ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ; فَذَهَبَ لِيَلْثِمَهَا فَوَضَعَتْ كَفَّهَا عَلَى وَجْهِهَا فَقَبَّلَهُ ثُمَّ نَدِمَ ، فَأَدْبَرَ رَاجِعًا ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ خُنْتَ أَمَانَتَكَ ، وَعَصَيْتَ رَبَّكَ ، وَلَمْ تُصِبْ حَاجَتَكَ: قَالَ: فَخَرَجَ يَسِيحُ فِي الْجِبَالِ ، وَيَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَنْبِهِ . فَلَمَّا قَدِمَ الثَّقَفِيُّ أَخْبَرَتْهُ الْمَرْأَةُ بِفِعْلِهِ ، فَخَرَجَ يَطْلُبُهُ حَتَّى دُلَّ عَلَيْهِ ، فَنَدِمَ عَلَى صَنِيعِهِ فَوَافَقَهُ سَاجِدًا يَقُولُ: ذَنْبِي ذَنْبِي ، قَدْ خُنْتُ أَخِي فَقَالَ لَهُ: يَا فُلَانٌ انْطَلِقْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْأَلْهُ عَنْ ذَنْبِكَ ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ مَخْرَجًا ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ بِتَوْبَتِهِ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَذَكَرَهُ مُقَاتِلٌ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَنُو إِسْرَائِيلَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنَّا! كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَذْنَبَ ، أَصْبَحَتْ كَفَّارَةُ ذُنُوبِهِ مَكْتُوبَةً فِي عَتَبَةِ بَابِهِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ" فَقَرَأَ هَذِهِ الْآَيَةَ ، وَالَّتِي قَبْلَهَا ، هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ . وَاخْتَلَفُوا هَلْ هَذِهِ الْآَيَةُ نَعْتٌ لِلْمُنْفِقِينَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ؟ أَمْ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَعْتٌ لَهُمْ قَالَهُ الْحَسَنُ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِصِنْفٍ آَخَرَ ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ .
وَالْفَاحِشَةُ الْقَبِيحَةُ وَكُلُّ شَيْءٍ جَاوَزَ قَدْرَهُ ، فَهُوَ فَاحِشٌ . وَفِي الْمُرَادِ بِهَا هَاهُنَا قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الزِّنَى . قَالَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلٌ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا كُلُّ كَبِيرَةٍ ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ .
[ ص: 463 ] وَاخْتَلَفُوا فِي "الظُّلْمِ" الْمَذْكُورِ بَعْدَهَا ، فَلَمْ يُفَرِّقْ قَوْمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَاحِشَةِ ، وَقَالُوا: الظُّلْمُ لِلنَّفْسِ فَاحِشَةٌ أَيْضًا ، وَفَرَّقَ آَخَرُونَ ، فَقَالُوا: هُوَ الصَّغَائِرُ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ذَكَرُوا اللَّهَ) قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذِكْرُ اللِّسَانِ ، وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَعَطَاءٌ فِي آَخَرِينَ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذِكْرُ الْقَلْبِ ، ثُمَّ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذِكْرُ الْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذِكْرُ السُّؤَالِ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ .
وَالثَّالِثُ: ذِكْرُ وَعِيدِ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى مَا أُتُوا ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
وَالرَّابِعُ: ذِكْرُ نَهْيِ اللَّهِ لَهُمْ عَنْهُ .
وَالْخَامِسُ: ذِكْرُ غُفْرَانِ اللَّهِ: ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ .
فَأَمَّا الْإِصْرَارُ ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الْإِقَامَةُ عَلَى الشَّيْءِ . وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الشَّيْءِ وَالثَّبَاتُ عَلَيْهِ . وَلِلْمُفَسِّرِ ينَ فِي الْمُرَادِ بِالْإِصْرَارِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُوَاقَعَةُ الذَّنْبِ عِنْدَ الِاهْتِمَامِ بِهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ مُجَاهِدٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الثُّبُوتُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِغْفَارٍ ، وَهَذَا مَذْهَبُ قَتَادَةَ ، وَابْنِ إِسْحَاقَ .
[ ص: 464 ] . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَرْكُ الِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ ، وَهَذَا مَذْهَبُ السُّدِّيِّ . وَفِي مَعْنَى (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِصْرَارَ يَضُرُّ ، وَأَنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى مِنَ التَّمَادِي ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ .
وَالثَّانِي: يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَأَبُو عِمَارَةَ .
وَالثَّالِثُ: يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ قَدْ أَذْنَبُوا ، قَالَهُ السُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلٌ .
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [ ص: 465 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) السُّنَنُ: جَمْعُ سُنَّةٍ ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ . وَفِي مَعْنَى الْكَلَامِ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: قَدْ مَضَى قَبْلَكُمْ أَهْلُ سُنَنٍ وَشَرَائِعَ ، فَانْظُرُوا مَاذَا صَنَعْنَا بِالْمُكَذِّبِي نَ مِنْهُمْ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: قَدْ مَضَتْ قَبْلَكُمْ سُنَنُ اللَّهِ فِي إِهْلَاكِ مَنْ كَذَّبَ مِنَ الْأُمَمِ ، فَاعْتَبِرُوا بِهِمْ ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٌ . وَفِي مَعْنَى (فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ) قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ: إِذَا سِرْتُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ ، عَرَفْتُمْ أَخْبَارَ الْهَالِكِينَ بِتَكْذِيبِهِمْ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ التَّفَكُّرُ . وَمَعْنَى: فَانْظُرُوا: اعْتَبِرُوا ، وَالْعَاقِبَةُ: آَخِرُ الْأَمْرِ .
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : هَذِهِ الْآَيَةُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ "آَلِ عِمْرَانَ" وَفِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِـ"هَذَا" قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقُرْآَنُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَرَحَ أَخْبَارَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ . وَالْبَيَانُ: الْكَشْفُ عَنِ الشَّيْءِ ، وَبَانَ الشَّيْءُ: اتَّضَحَ ، وَفُلَانٌ أَبْيَنُ مِنْ فُلَانٍ ، أَيْ: أَفْصَحُ . قَالَ الشَّعْبِيُّ: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ مِنَ الْعَمَى ، وَهُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ ، وَمَوْعِظَةٌ مِنَ الْجَهْلِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (89)
صــ466 إلى صــ 470
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين .
قوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا) سبب نزولها أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انهزموا يوم أحد ، أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال [ ص: 466 ] النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا يعلون علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك" فنزلت هذه الآيات ، قاله ابن عباس . قال ابن عباس ، ومجاهد: (ولا تهنوا) أي: ولا تضعفوا . وفيما نهوا عن الحزن عليه أربعة أقوال .
أحدها: أنه قتل إخوانهم من المسلمين ، قاله ابن عباس .
والثاني: أنه هزيمتهم يوم أحد ، وقتلهم ، قاله مقاتل .
والثالث: أنه ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من شجه ، وكسر رباعيته ، ذكره الماوردي .
والرابع: أنه ما فات من الغنيمة ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .
قوله تعالى: (وأنتم الأعلون) قال ابن عباس: يقول: أنتم الغالبون وآخر الأمر لكم .
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين .
قوله تعالى: (إن يمسسكم قرح) قال ابن عباس: أصابهم يوم أحد قرح ، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقوا ، فنزلت هذه الآية . فأما المس ، فهو الإصابة ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ونافع "قرح" بفتح القاف . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، عن عاصم "قرح" بضم القاف . واختلفوا هل معنى القرآءتين واحد أم لا؟ فقال أبو عبيد: القرح بالفتح: الجراح ، والقتل . والقرح بالضم: ألم الجراح . وقال الزجاج: هما في اللغة بمعنى واحد ، ومعناه الجراح وألمها ، قال: ومعنى نداولها ، أي: نجعل الدولة في وقت للكفار على المؤمنين ، إذا عصى المؤمنون ، فأما إذا أطاعوا ، فهم منصورون ، قال [ ص: 467 ] ومعنى (ليعلم الله) أي: ليعلم واقعا منهم ، لأنه عالم قبل ذلك ، وإنما يجازي على ما وقع . وقال ابن عباس: معنى العلم هاهنا: الرؤية .
قوله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء) قال أبو الضحى: نزلت في قتلى أحد ، قال ابن جريج: كان المسلمون يقولون: ربنا أرنا يوما كيوم بدر ، نلتمس فيه الشهادة ، فاتخذ منهم شهداء يوم أحد . قال ابن عباس: والظالمون هاهنا: المنافقون: وقال غيره: هم الذين انصرفوا يوم أحد مع ابن أبي المنافق .
وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين .
قوله تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا) قال الزجاج: معنى الكلام: جعل الله الأيام مداولة بين الناس ، ليمحص المؤمنين ، ويمحق الكافرين . وفي التمحيص قولان .
أحدهما: أنه الابتلاء والاختبار ، وأنشدوا:
رأيت فضيلا كان شيئا ملففا فكشفه التمحيص حتى بدا ليا
وهو قول الحسن ، ومجاهد ، والسدي ، ومقاتل ، وابن قتيبة في آخرين .
والثاني: أنه التنقية ، والتخليص ، وهو قول الزجاج . وحكي عن المبرد ، قال: يقال: محص الحبل محصا: إذا ذهب منه الوبر حتى يتخلص ، ومعنى قولهم: [اللهم ] محص عنا ذنوبنا: أذهبها عنا . وذكر الزجاج عن الخليل أن التمحيص: التخليص ، يقال: محصت الشيء أمحصه محصا: إذا أخلصته فعلى القول الأول التمحيص: ابتلاء المؤمنين بما يجري عليهم ، وعلى الثاني: هو تنقيتهم من الذنوب بذلك . قال الفراء: معنى الآية: وليمحص الله بالذنوب عن الذين آمنوا . [ ص: 468 ] قوله تعالى: (ويمحق الكافرين) فيه أربعة أقوال .
أحدها: يهلكهم قاله ابن عباس . والثاني: يذهب دعوتهم ، قاله مقاتل .
والثالث: ينقصهم ويقللهم ، قاله الفراء .
والرابع: يحبط أعمالهم ، ذكره الزجاج .
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون .
قوله تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت) قال ابن عباس: لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، بما فعل بشهداء يوم بدر من الكرامة ، رغبوا في ذلك ، فتمنوا قتالا يستشهدون فيه ، فيلحقون بإخوانهم ، فأراهم الله يوم أحد ، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم ، فنزل فيهم (ولقد كنتم تمنون الموت) يعني القتال (من قبل أن تلقوه) أي: من قبل أن تنظروا إليه يوم أحد (فقد رأيتموه) يومئذ ، قال الفراء ، وابن قتيبة: أي: رأيتم أسبابه ، وهي السيف ونحوه من السلاح . وفي معنى (وأنتم تنظرون) ثلاثة أقوال .
أحدها: تنظرون إلى السيوف ، قاله ابن عباس .
والثاني: أنه ذكر للتوكيد ، قاله الأخفش . وقال الزجاج: معناه: فقد رأيتموه ، وأنتم بصراء ، كما تقول: رأيت كذا وكذا ، وليس في عينك علة ، أي: رأيته رؤية حقيقة .
[ ص: 469 ] . والثالث: أن معناه وأنتم تنظرون ما تمنيتم . وفي الآية إضمار [أي: فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ] فلم انهزمتم؟!
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .
قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول) قال ابن عباس: صاح الشيطان يوم أحد: قتل محمد . فقال قوم لئن كان قتل لنعطينهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا ، ولو كان محمد حيا لم نهزم ، فترخصوا في الفرار فنزلت هذه الآية . وقال الضحاك: قال قوم من المنافقين: قتل محمد ، فالحقوا بدينكم الأول ، فنزلت هذه الآية . وقال قتادة: قال أناس: لو كان نبيا ما قتل ، وقال ناس من عليه أصحاب رسول الله: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى تلحقوا به ، فنزلت هذه الآية . ومعنى الآية: أنه يموت كما ماتت قبله الرسل ، أفإن مات على فراشه ، أو قتل كمن قتل قبله من الأنبياء ، أتنقلبون على أعقابكم؟! أي: ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر؟! وهذا على سبيل المثل ، يقال: لكل من رجع عما كان عليه: قد انقلب على عقبيه ، وأصله: رجعة القهقرى ، والعقب: مؤخر القدم .
قوله تعالى: (فلن يضر الله شيئا) أي: لن ينقص الله شيئا برجوعه ، وإنما يضر نفسه . (وسيجزي) أي: يثيب الشاكرين ، وفيهم ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم الثابتون على دينهم ، قاله علي رضي الله عنه ، وقال: كان أبو بكر أمير الشاكرين .
والثاني: أنهم الشاكرون على التوفيق والهداية . والثالث: على الدين .
[ ص: 470 ] وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين .
قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) في الإذن قولان .
أحدهما: أنه الأمر ، قاله ابن عباس . والثاني: الإذن نفسه ، قاله مقاتل .
قال الزجاج: ومعنى الآية: وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله .
قوله تعالى: (كتابا مؤجلا) توكيد ، والمعنى: كتب الله ذلك كتابا مؤجلا ، أي: كتابا ذا أجل . والأجل: الوقت المعلوم ، ومثله في التوكيد كتاب الله عليكم [ النساء: 24 ] لأنه لما قال: حرمت عليكم أمهاتكم [ النساء: 22 ] دل على أنه مفروض ، فأكد بقوله: كتاب الله عليكم [ النساء: 24 ] وكذلك قوله تعالى: صنع الله [ النمل: 88 ] لأنه لما قال: وترى الجبال تحسبها جامدة [ النمل: 88 ] دل على أنه خلق الله فأكد بقوله: صنع الله .
قوله تعالى: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها أي: من قصد بعمله الدنيا ، أعطي منها قليلا كان أو كثيرا ، ومن قصد الآخرة بعمله ، أعطي منها . وقال مقاتل: عنى بالآية من ثبت يوم أحد ، ومن طلب الغنيمة .
فصل
وأكثر العلماء على أن هذا الكلام محكم ، وذهبت طائفة إلى نسخه بقوله تعالى: عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد [ الإسراء: 18 ] والصحيح أنه محكم ، لأنه لا يؤتى أحد شيئا إلا بقدرة الله ومشيئته .
ومعنى قوله تعالى: (نؤته منها) أي: ما نشاء ، وما قدرنا له ، ولم يقل: ما يشاء هو .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (90)
صــ471 إلى صــ 475
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين .
قوله تعالى: (وكأين من نبي) قرأ الجمهور "وكأين" في وزن "كعين" . وقرأ ابن كثير "وكائن" في وزن "كاعن" قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: "كأين" مثل: "كعين" ينصبون الهمزة ، ويشددون الياء . وتميم يقولون: "وكائن" كأنها فاعل من "كئت" . وأنشدني الكسائي:
وكائن ترى يسعى من الناس جاهدا على ابن غدا منه شجاع وعقرب
وقال آخر:
وكائن أصابت مؤمنا من مصيبة على الله عقباها ومنه ثوابها
، وقال ابن قتيبة: كائن بمعنى "كم" مثل قوله: وكأين من قرية عتت عن أمر ربها [ الطلاق: 8 ] وفيها لغتان: "كأين" بالهمزة وتشديد الياء ، و"كائن" على وزن "قائل" [وبائع ] وقد قرئ بهما [جميعا في القرآن ] والأكثر والأفصح تخفيفها . قال الشاعر:
وكائن أرينا الموت من ذي تحية إذا ما ازدرانا أو أصر لمأثم .
وقال الآخر:
وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم
قوله تعالى: (قاتل معه ربيون) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبان ، والمفضل [ ص: 472 ] كلاهما عن عاصم: "قتل" بضم القاف ، وكسر التاء ، من غير ألف ، وقرأ الباقون: "قاتل" بألف ، وقرأ ابن مسعود ، وأبو رزين ، وأبو رجاء ، والحسن ، وابن يعمر ، وابن جبير ، وقتادة ، وعكرمة ، وأيوب: "ربيون" بضم الراء . وقرأ ابن عباس ، وأنس وأبو مجلز ، وأبو العالية ، والجحدري ، بفتحها . فعلى حذف الألف يحتمل وجهين .
أحدهما: أن يكون قتل للنبي وحده ، ويكون المعنى: وكأين من نبي قتل ، ومعه ربيون ، فما وهنوا بعد قتله .
والثاني: أن يكون قتل للربيين ، ويكون: "فما وهنوا" لمن بقي منهم . وعلى إثبات الألف يكون المعنى: أن القوم قاتلوا ، فما وهنوا . وفي معنى الربيين خمسة أقوال .
أحدها: أنهم الألوف ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس في رواية ، واختاره الفراء .
والثاني الجماعات الكثيرة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، والربيع ، واختاره ابن قتيبة .
والثالث: أنهم الفقهاء والعلماء ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، واختاره اليزيدي ، والزجاج . والرابع: أنهم الأتباع ، قاله ابن زيد .
والخامس: أنهم المتألهون العارفون بالله تعالى ، قاله ابن فارس .
قوله تعالى: (فما وهنوا) فيه قولان .
أحدهما: أنه الضعف ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة . والثاني: أنه العجز ، قاله قتادة .
قال ابن قتيبة: والاستكانة: الخشوع ، والذل ، ومنه أخذ المسكين . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما: فما وهنوا بالخوف ، وما ضعفوا بنقصان القوة ، ولا استكانوا بالخضوع .
[ ص: 473 ] . والثاني: فما وهنوا لقتل نبيهم ، ولا ضعفوا عن عدوهم ، ولا استكانوا لما أصابهم .
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين .
قوله تعالى: (وما كان قولهم) يعني الربيين . (إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا) أي: لم يكن قولهم غير الاستغفار . والإسراف: مجاوزة الحد ، وقيل: أريد بالذنوب الصغائر ، وبالإسراف الكبائر .
قوله تعالى: (وثبت أقدامنا) قال ابن عباس: على القتال . وقال الزجاج: معناه: ثبتنا على دينك ، فإن الثابت على دينه ثابت في حربه .
فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين .
قوله تعالى: (فآتاهم الله ثواب الدنيا) فيه قولان .
أحدهما: أنه النصر ، قاله قتادة . والثاني: الغنيمة ، قاله ابن جريج . وروي عن ابن عباس ، أنه قال: النصر والغنيمة .
وفي حسن ثواب الآخرة قولان . أحدهما أنه الجنة .
والثاني: الأجر والمغفرة ، وهذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين ما يفعلون ويقولون عند لقاء العدو .
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين [ ص: 474 ] قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا) قال ابن عباس: نزلت في قول ابن أبي للمسلمين لما رجعوا من أحد: لو كان نبيا ما أصابه الذي أصابه . وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم المنافقون على قول ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني: أنهم اليهود والنصارى ، قاله ابن جريج .
والثالث: أنهم عبدة الأوثان ، قاله السدي . قالوا وكانوا قد أمروا المسلمين بالرجوع عن دينهم . ومعنى (يردوكم على أعقابكم): يصرفوكم إلى الشرك ، (فتنقلبوا خاسرين) بالعقوبة .
بل الله مولاكم وهو خير الناصرين قوله تعالى: (بل الله مولاكم) أي: وليكم ينصركم عليهم ، فاستغنوا عن موالاة الكفار .
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين .
قوله تعالى: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) قال السدي: لما ارتحل المشركون يوم أحد نحو مكة ندموا في بعض الطريق ، وقالوا: قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشرذمة ، تركتموهم؟! ارجعوا فاستأصلوهم ، فقذف الله في قلوبهم الرعب ، ونزلت هذه الآية . والإلقاء: القذف . والرعب: الخوف . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، [ ص: 475 ] وحمزة "الرعب" ساكنة العين ، خفيفة وقرأ ابن عامر ، والكسائي ، ويعقوب ، وأبو جعفر ، مضمومة العين ، مثقلة ، أين وقعت . والسلطان هاهنا: الحجة في قول الجماعة . والمأوى: المكان الذي يؤوى إليه . والمثوى: المقام ، والثوى: الإقامة . قال ابن عباس: والظالمون هاهنا: الكافرون .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (91)
صــ476 إلى صــ 480
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين .
قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده) قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أحد ، قال قوم منهم: من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا الله النصر؟ فنزلت هذه الآية . وقال المفسرون: وعد الله تعالى المؤمنين النصر بأحد ، فنصرهم ، فلما خالفوا ، وطلبوا الغنيمة ، هزموا . وقال ابن عباس: ما نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في موطن ما نصر في أحد ، فأنكر ذلك عليه ، فقال: بيني وبينكم كتاب الله ، إن الله يقول: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) فأما الحس ، فهو القتل ، قاله ابن عباس ، والحسن ومجاهد ، والسدي ، والجماعة . وقال ابن قتيبة: تحسونهم ، أي: تستأصلونهم بالقتل ، يقال: سنة حسوس: إذا أتت على كل شيء ، وجراد محسوس: إذا قتله البرد .
وفي قوله تعالى: (بإذنه) ثلاثة أقوال [ ص: 476 ] أحدها: بأمره ، قاله ابن عباس . والثاني: بعلمه ، قاله الزجاج .
والثالث: بقضائه ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى: حتى إذا فشلتم قال الزجاج: أي: جبنتم . (وتنازعتم) أي: اختلفتم من بعد ما أراكم ما تحبون يعني: النصرة . وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير ، معناه: حتى إذا تنازعتم في الأمر ، فشلتم وعصيتم ، وهذه الواو زائدة ، كقوله تعالى: فلما أسلما وتله للجبين وناديناه [ الصافات: 103 ] معناه: ناديناه . فأما تنازعهم ، فإن بعض الرماة قال: قد انهزم المشركون ، فما يمنعنا من الغنيمة؟ وقال بعضهم: بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فترك المركز بعضهم ، وطلب الغنيمة ، وتركوا مكانهم ، فذلك عصيانهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصاهم: "لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تبرحوا من مكانكم" .
قوله تعالى: (منكم من يريد الدنيا) قال المفسرون: هم الذين طلبوا الغنيمة ، وتركوا مكانهم . (ومنكم من يريد الآخرة) وهم الذين ثبتوا . وقال ابن مسعود: ما كنت أظن أحدا من أصحاب محمد يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية .
قوله تعالى: (صرفكم عنهم) أي: ردكم عن المشركين بقتلكم وهزيمتكم . (ليبتليكم) أي: ليختبركم ، فيبين الصابر من الجازع .
قوله تعالى: (ولقد عفا عنكم) فيه قولان .
أحدهما: عفا عن عقوبتكم ، قاله ابن عباس .
والثاني: عفا عن استئصالكم ، قاله الحسن . وكان يقول: هؤلاء مع رسول الله في سبيل الله غضاب لله ، يقاتلون في سبيل الله ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فما تركوا حتى غموا بهذا الغم ، والفاسق اليوم يتجرم كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويزعم أن لا بأس عليه ، فسوف يعلم .
[ ص: 477 ] قوله تعالى: (والله ذو فضل على المؤمنين) فيه قولان .
أحدهما: إذ عفا عنهم ، قاله ابن عباس . والثاني: إذ لم يقتلوا جميعا ، قاله مقاتل .
إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون .
قوله تعالى: (إذ تصعدون ولا تلوون) قال المفسرون: "إذ" متعلقة بقوله تعالى: (ولقد عفا عنكم) وأكثر القراء على ضم التاء ، وكسر العين ، من قوله: "تصعدون" وهو من الإصعاد . وروى أبان عن ثعلب ، عن عاصم فتحها ، وهي قراءة الحسن ، ومجاهد ، وهو من الصعود . قال الفراء: الإصعاد في ابتداء الأسفار ، والمخارج ، تقول: أصعدنا من بغداد إلى خراسان ، فإذا صعدت على سلم أو درجة ، قلت: صعدت ، ولا تقول: أصعدت . وقال الزجاج: كل من ابتدأ مسيرا من مكان ، فقد أصعد ، فأما الصعود ، فهو من أسفل إلى فوق . ومن فتح التاء والعين ، أراد الصعود في الجبل . وللمفسرين في معنى الآية قولان .
أحدهما: أنه صعودهم في الجبل ، قاله ابن عباس ومجاهد .
والثاني: أنه الإبعاد في الهزيمة ، قاله قتادة ، وابن قتيبة ، و"تلوون" بمعنى "تعرجون" .
وقوله تعالى: (على أحد) عام ، وقد روي عن ابن عباس أنه أريد به النبي صلى الله عليه وسلم قال: والنبي صلى الله عليه وسلم يناديهم من خلفهم: "إلى عباد الله ، أنا رسول الله" وقرأت عائشة ، وأبو مجلز ، وأبو الجوزاء ، وحميد ، على أحد" بضم الألف والحاء ، يعنون الجبل .
قوله تعالى: (فأثابكم) أي: جازاكم . قال الفراء الإثابة هاهنا بمعنى عقاب ، ولكنه كما قال الشاعر:
[ ص: 478 ]
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا
المحدرجة: السياط . والسود فيما يقال: القيود .
قوله تعالى: (غما بغم) في هذه الباء أربعة أقوال .
أحدها: أنها بمعنى "مع" . والثاني: بمعنى "بعد" .
والثالث: بمعنى "على" ، فعلى هذه الثلاثة الأقوال يتعلق الغمان بالصحابة . وللمفسرين في المراد بهذين الغمين خمسة أقوال .
أحدها: أن الغم الأول ما أصابهم من الهزيمة والقتل . والثاني: إشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين عليهم ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني: أن الأول فرارهم الأول ، والثاني: فرارهم حين سمعوا أن محمدا قد قتل ، قاله مجاهد .
والثالث: أن الأول ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من القتل والجراح ، والثاني: حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل ، قاله قتادة .
والرابع: أن الأول ما فاتهم من الغنيمة ، والفتح ، والثاني: إشراف أبي سفيان عليهم ، قاله السدي .
والخامس: أن الأول إشراف خالد بن الوليد عليهم ، والثاني: إشراف أبي سفيان عليهم ، ذكره الثعلبي .
[ ص: 479 ] والقول الرابع: أن الباء بمعنى الجزاء ، فتقديره: غمكم كما غممتم غيركم ، فيكون أحد الغمين للصحابة ، وهو أحد غمومهم التي ذكرناها عن المفسرين ، ويكون الغم الذي جوزوا لأجله لغيرهم . وفي المراد بغيرهم قولان .
أحدهما: أنهم المشركون غموهم يوم بدر ، قاله الحسن .
والثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم غموه حيث خالفوه ، فجوزوا على ذلك ، بأن غمو بما أصابهم ، قاله الزجاج .
قوله تعالى: (لكيلا تحزنوا) في "لا" قولان .
أحدهما: أنها باقية على أصلها ، ومعناها النفي ، فعلى هذا في معنى الكلام قولان .
أحدهما: فأثابكم غما أنساكم الحزن على ما فاتكم وما أصابكم ، وقد روي أنهم لما سمعوا أن النبي قد قتل ، نسوا ما أصابهم وما فاتهم .
والثاني: أنه متصل بقوله: (ولقد عفا عنكم) فمعنى الكلام: عفا عنكم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم ، لأن عفوه يذهب كل غم .
والقول الثاني: أنها صلة ، ومعنى الكلام: لكي تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم عقوبة لكم في خلافكم . ومنها قوله تعالى: لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله [ الحديد: 29 ] أي: ليعلم . هذا قول المفضل . قال ابن عباس: والذي فاتهم: الغنيمة ، والذي أصابهم: القتل والهزيمة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (92)
صــ481 إلى صــ 485
ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله [ ص: 480 ] لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور .
قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة) قال ابن قتيبة: الأمنة: الأمن . يقال: وقعت الأمنة في الأرض . وقال الزجاج: معنى الآية: أعقبكم بما نالكم من الرعب أن أمنكم أمنا تنامون معه ، لأن الشديد الخوف لا يكاد ينام . و"نعاسا" منصوب على البدل من "أمنة" يقال: نعس الرجل ينعس نعاسا ، فهو ناعس . وبعضهم يقول: نعسان . قال الفراء: قد سمعتها ، ولكني لا أشتهيها . قال العلماء: النعاس: أخف النوم . وفي وجه الامتنان عليهم بالنعاس قولان .
أحدهما: أنه أمنهم بعد خوفهم حتى ناموا ، فالمنة بزوال الخوف ، لأن الخائف لا ينام . والثاني: قواهم بالاستراحة على القتال .
قوله تعالى: (يغشى طائفة منكم) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر: "يغشى" بالياء مع التفخيم ، وهو يعود إلى النعاس . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف: "تغشى" بالتاء مع الإمالة ، وهو يرجع إلى الأمنة . فأما الطائفة التي غشيها النوم ، فهم المؤمنون ، والطائفة الذين أهمتهم أنفسهم: المنافقون ، أهمهم خلاص أنفسهم ، فذهب النوم عنهم . قال أبو طلحة: كان السيف يسقط من يدي ، ثم أخذه ، ثم يسقط ، وأخذه من النعاس . وجعلت أنظر ، وما منهم أحد يومئذ إلا يميد تحت حجفته [ ص: 481 ] من النعاس . وقال الزبير: أرسل الله علينا النوم ، فما منا رجل إلا ذقنه في صدره ، فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير: (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا) فحفظتها منه .
قوله تعالى: (يظنون بالله غير الحق) فيه أربعة أقوال .
أحدها: أنهم ظنوا أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني: أنهم كذبوا بالقدر ، رواه الضحاك ، عن ابن عباس .
والثالث: أنهم ظنوا أن محمدا قد قتل ، قاله مقاتل .
والرابع: ظنوا أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم مضمحل ، قاله الزجاج .
قوله تعالى: (ظن الجاهلية) قال ابن عباس: أي: كظن الجاهلية .
قوله تعالى: (يقولون هل لنا من الأمر من شيء) لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه: الجحد ، تقديره ما لنا من الأمر من شيء . قال الحسن قالوا لو كان الأمر إلينا ما خرجنا ، وإنما أخرجنا كرها . وقال غيره: المراد بالأمر: النصر والظفر ، قالوا: إنما النصر للمشركين (قل إن الأمر كله) ، أي: النصر ، والظفر ، والقضاء والقدر (لله) والأكثرون قرؤوا (إن الأمر كله لله) بنصب اللام ، وقرأ أبو عمرو برفعها ، قال أبو علي: حجة من نصب ، أن "كله" بمنزلة "أجمعين" في الإحاطة والعموم ، فلو قال: إن الأمر [ ص: 482 ] أجمع لم يكن إلا النصب ، و"كله" بمنزلة "أجمعين" ومن رفع ، فلأنه قد ابتدأ به ، كما ابتدأ بقوله تعالى: (كلهم آتيه) .
قوله تعالى: (يخفون في أنفسهم) في الذي أخفوه ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه قولهم: (لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا) .
والثاني: أنه إسرارهم الكفر ، والشك في أمر الله .
والثالث: الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد .
قال أبو سليمان الدمشقي: والذي قال: (هل لنا من الأمر من شيء) عبد الله بن أبي . والذي قال: (لو كان لنا من الأمر من شيء) معتب بن قشير .
قوله تعالى: (قل لو كنتم في بيوتكم) أي: لو تخلفتم ، لخرج منكم من كتب عليه القتل ، ولم ينجه القعود . والمضاجع: المصارع بالقتل . قال الزجاج: ومعنى (برزوا): صاروا إلى براز ، وهو المكان المنكشف . ومعنى (وليبتلي الله ما في صدوركم) أي: ليختبره بأعمالكم ، لأنه قد علمه غيبا ، فيعلمه شهادة .
قوله تعالى: (وليمحص ما في قلوبكم) قال قتادة: أراد ليظهرها من الشك والارتياب بما يريكم من عجائب صنعه من الأمنة ، وإظهار سرائر المنافقين . وهذا التمحيص خاص للمؤمنين . وقال غيره أراد بالتمحيص . إبانة ما في القلوب من الاعتقاد لله ، ولرسوله ، وللمؤمنين ، فهو خطاب للمنافقين .
قوله تعالى: (والله عليم بذات الصدور) أي: بما فيها . وقال ابن الأنباري: معناه عليم بحقيقة ما في الصدور من المضمرات ، فتأنيث ذات بمعنى الحقيقة ، كما تقول العرب: لقيته ذات يوم . فيؤنثون لأن مقصدهم: لقيته مرة في يوم .
[ ص: 483 ] إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم .
قوله تعالى: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان) الخطاب للمؤمنين ، وتوليهم: فرارهم من العدو . والجمعان: جمع المؤمنين ، وجمع المشركين ، وذلك يوم أحد . واستزلهم: طلب زللهم ، قال ابن قتيبة: هو كما تقول: استعجلت فلانا ، أي: طلبت عجلته ، واستعملته: طلبت عمله . والذي كسبوا يريد به الذنوب . وفي سبب فرارهم يومئذ قولان .
أحدها: أنهم سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فترخصوا في الفرار ، قاله ابن عباس في آخرين .
والثاني: أن الشيطان أذكرهم خطاياهم ، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها ، قاله الزجاج .
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير
[ ص: 484 ] قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا) أي: كالمنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق ، وقيل: إخوانهم في النسب . قال الزجاج: وإنما قال: "إذا ضربوا" ولم يقل: إذ ضربوا ، لأنه يريد: شأنهم هذا أبدا ، تقول: فلان إذا حدث صدق ، وإذا ضرب صبر . و"إذا" لما يستقبل ، إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا لما قد خبر منه فيما مضى . قال المفسرون: ومعنى (ضربوا في الأرض): ساروا وسافروا . و"غزى" جمع غازي . وفي الكلام محذوف تقديره: إذا ضربوا في الأرض ، فماتوا ، أو غزوا ، فقتلوا .
قوله تعالى: (ليجعل الله ذلك) قال ابن عباس: ليجعل الله ما ظنوا من أنهم لو كانوا عندهم ، سلموا ، (حسرة في قلوبهم) أي: حزنا . قال ابن فارس: الحسرة: التلهف على الشيء الفائت .
قوله تعالى: (والله يحيي ويميت) أي: ليس تحرز الإنسان يمنعه من أجله .
قوله تعالى: (والله بما تعملون بصير) قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي: يعملون بالياء ، وقرأ الباقون بالتاء . قال أبو علي: حجة من قرأ بالياء أن قبلها غيبة ، وهو قوله تعالى: (وقالوا لإخوانهم) ومن قرأ بالتاء ، فحجته (لا تكونوا كالذين كفروا) .
ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون .
قوله تعالى: (ولئن قتلتم) اللام في "لئن" لام القسم ، تقديره: والله لئن قتلتم في الجهاد (أو متم) في إقامتكم . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم: "مت" و"متم" و"متنا" برفع الميم في جميع القرآن . وروى حفص عن عاصم: (أو متم) (ولئن متم) برفع الميم في هذين دون باقي القرآن . وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي كل ما في القرآن بالكسر .
[ ص: 485 ] قوله تعالى: (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) أي: من أعراض الدنيا التي تتركون الجهاد لجمعها . وقرأ حفص عن عاصم: يجمعون بالياء ، ومعناه: خير مما يجمع غيركم مما تركوا الجهاد لجمعه . قال ابن عباس خير: مما يجمع المنافقون في الدنيا .
ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون .
قوله تعالى: (ولئن متم) أي: في إقامتكم . (أو قتلتم) في جهادكم . (لإلى الله تحشرون) وهذا تخويف من القيامة . والحشر: الجمع مع سوق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (93)
صــ486 إلى صــ 490
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين .
قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم) قال الفراء وابن قتيبة ، والزجاج "ما" هاهنا صلة ، ومثله: (فبما نقضهم ميثاقهم) قال ابن الأنباري: دخول "ما" هاهنا يحدث توكيدا .
قال النابغة:
المرء يهوى أن يعي ش وطول عيش ما يضره
فأكد بذكر "ما" وفيمن تتعلق به هذه الرحمة قولان .
أحدهما: أنها تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم . والثاني: بالمؤمنين .
[ ص: 486 ] قال قتادة: ومعنى (لنت لهم) لأن جانبك ، وحسن خلقك ، وكثر احتمالك . قال الزجاج: والفظ: الغليظ الجانب ، السيئ الخلق ، يقال: فظظت تفظ فظاظة وفظظا ، والفظ: ماء الكرش والفرث ، وإنما سمي فظا لغلظ مشربه . فأما الغليظ القلب ، فقيل: هو القاسي القلب ، فيكون ذكر الفظاظة والغلظ - وإن كانا بمعنى واحد توكيدا . وقال ابن عباس: الفظ: في القول ، والغليظ القلب: في الفعل .
قوله تعالى: (لانفضوا) أي: تفرقوا ، وتقول فضضت عن الكتاب ختمه: إذا فرقته عنه . (فاعف عنهم) أي: تجاوز عن هفواتهم ، وسل الله المغفرة لذنوبهم (وشاورهم في الأمر) معناه: استخرج آراءهم ، واعلم ما عندهم . ويقال: إنه من: شرت العسل .
[ ص: 487 ] وأنشدوا:
وقاسمها بالله حقا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها
قال الزجاج: يقال: شاورت الرجل مشاورة وشورا ، وما يكون عن ذلك اسمه المشورة . وبعضهم يقول: المشورة . ويقال: فلان حسن الصورة والشورة ، أي: حسن الهيئة واللباس . ومعنى قولهم: شاورت فلانا ، أظهرت ما عنده وما عندي . وشرت الدابة: إذا امتحنتها ، فعرفت هيئتها في سيرها . وشرت العسل: إذا أخذته من مواضع النحل . وعسل مشار . قال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبي ل باتا بفيها وأريا مشارا
[ ص: 488 ] والأري: العسل . واختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي ، تام التدبير ، على ثلاثة أقوال .
أحدها: ليستن به من بعده ، وهذا قول الحسن ، وسفيان بن عيينة .
والثاني: لتطيب قلوبهم ، وهو قول قتادة ، والربيع ، وابن إسحاق . ومقاتل . قال الشافعي رضي الله عنه: نظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "البكر تستأمر في نفسها" ، إنما أراد استطابة نفسها ، فإنها لو كرهت ، كان للأب أن يزوجها ، وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أمر بذبحه .
والثالث: للإعلام ببركة المشاورة ، وهو قول الضحاك . ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره ، علم أن امتناع النجاح محض قدر ، فلم يلم نفسه ، ومنها أنه قد يعزم على أمر ، فيبين له الصواب في قول غيره ، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح .قال علي رضي الله عنه: الاستشارة عين الهداية ، وقد خاطر من استغنى برأيه ، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم . وقال بعض الحكماء: ما استنبط الصواب بمثل المشاورة ، ولا حصنت النعم بمثل المواساة ، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر . واعلم أنه إنما أمر [ ص: 489 ] النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي ، وعمهم بالذكر ، والمقصود أرباب الفضل والتجارب منهم . وفي الذي أمر بمشاورتهم فيه قولان . حكاهما القاضي أبو يعلى .
أحدهما: أنه أمر الدنيا خاصة . والثاني: أمر الدين والدنيا ، وهو أصح .
وقد قرأ ابن مسعود ، وابن عباس "وشاورهم في بعض الأمر" .
قوله تعالى: (فإذا عزمت) قال ابن فارس: العزم: عقد القلب على الشيء ويريد أن يفعله . وقد قرأ أبو رزين ، وأبو مجلز ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والجحدري: (فإذا عزمت) بضم التاء . فأما التوكل ، فقد سبق شرحه .
ومعنى الكلام: فإذا عزمت على فعل شيء ، فتوكل على الله ، لا على المشاورة .
إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون .
قوله تعالى: (إن ينصركم الله) قال ابن فارس: النصر العون ، والخذلان: ترك العون . وقيل: الكناية في قوله (من بعده) تعود إلى خذلانه .
وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون .
قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل) في سبب نزولها سبعة أقوال .
[ ص: 490 ] أحدها: أن قطيفة من المغنم فقدت يوم بدر ، فقال ناس: لعل النبي صلى الله عليه وسلم أخذها ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني: أن رجلا غل من غنائم هوازن يوم حنين ، فنزلت هذه الآية ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث: أن قوما من أشراف الناس طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصهم بشيء من الغنائم ، فنزلت هذه الآية ، نقل عن ابن عباس أيضا .
والرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث طلائعا ، فغنم النبي صلى الله عليه وسلم غنيمة ، ولم يقسم للطلائع ، فقالوا: قسم الفيء ولم يقسم لنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضحاك .
والخامس: أن قوما غلوا يوم بدر ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة .
والسادس: أنها نزلت في الذين تركوا مركزهم يوم أحد طلبا للغنيمة ، وقالوا: نخاف أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أخذ شيئا فهو له" فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا؟! أظننتم أنا نغل؟!" فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .
والسابع: أنها نزلت في غلول الوحي ، قاله القرظي ، وابن إسحاق .
وذكر بعض المفسرين أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وآلهتهم ، فسألوه أن يطوي ذلك ، فنزلت هذه الآية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (94)
صــ491 إلى صــ 495
واختلف القراء في "يغل" فقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو: بفتح الياء وضم الغين ، ومعناها: يخون . وفي هذه الخيانة قولان .
أحدهما: خيانة المال على قول الأكثرين .
والثاني: خيانة الوحي على قول القرظي ، وابن إسحاق . وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الغين ، ولها وجهان .
أحدهما: أن يكون المعنى يخان ، [ويجوز أن يكون يلفى خائنا ، يقال: أغللت فلانا ، أي: وجدته غالا ، كما يقال: أحمقته: وجدته أحمق ، وأحمدته: وجدته محمودا ] قاله الحسن ، وابن قتيبة .
والثاني: يخون ، قاله الفراء ، وأجازه الزجاج ، ورده ابن قتيبة ، فقال: لو أراد ، يخون لقال: يغلل كما يقال: يفسق ، ويخون ، ويفجر .
وقيل: "اللام" في قوله "لنبي" منقولة ، ومعنى الآية: وما كان النبي ليغل ، ومثله: ما كان لله أن يتخذ من ولد [ مريم: 36 ] ، أي: ما كان الله ليتخذ ولدا .
وهذه الآية من ألطف التعريض ، إذ قد ثبتت براءة ساحة النبي صلى الله عليه وسلم ، من الغلول فدل على أن الغلول في غيره ، ومثله: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ سبإ: 25 ] وقد ذكر عن السدي نحو هذا .
قوله تعالى: ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة الغلول: أخذ شيء من المغنم خفية ، ومنه الغلالة ، وهي ثوب يلبس تحت الثياب ، والغلل: وهو الماء الذي يجري بين الشجر ، والغل: وهو الحقد الكامن في الصدر ، وأصل الباب الاختفاء . وفي إتيانه بما غل ثلاثة أقوال .
[ ص: 492 ] أحدها: أنه يأتي بما غله ، يحمله ، ويدل عليه ما روى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر الغلول ، فعظمه ، وعظم أمره ، ثم قال: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، يقول: يا رسول الله أغثني ، فأقول: لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة ، فيقول: يا رسول الله أغثني ، فأقول: لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول: يا رسول الله أغثني ، فأقول: لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح ، فيقول: يا رسول الله أغثني ، فأقول: لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق ، فيقول: يا رسول الله أغثني ، فأقول: لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت ، فيقول: يا رسول الله أغثني ، فأقول: لا أملك لك شيئا ، قد أبلغتك" . الرغاء: صوت البعير ، والثغاء: صوت الشاة ، والنفس: ما يغل من السبي ، والرقاع: الثياب والصامت: المال .
والقول الثاني: أنه يأتي حاملا إثم ما غل .
والثالث: أنه يرد عوض ما غل من حسناته ، والقول الأول أصح لمكان الأثر الصحيح .
[ ص: 493 ] قوله تعالى: (ثم توفى كل نفس ما كسبت) أي: تعطى جزاء ما كسبت .
أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير .
قوله تعالى: (أفمن اتبع رضوان الله) اختلفوا في معنى هذه الآية على قولين .
أحدهما: أن معناها: أفمن اتبع رضوان الله ، فلم يغل ، (كمن باء بسخط من الله) حين غل؟! هذا قول سعيد بن جبير ، والضحاك ، والجمهور .
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر المسلمين باتباعه يوم أحد ، اتبعه المؤمنون ، وتخلف جماعة من المنافقين ، فأخبر الله بحال من تبعه ، ومن تخلف عنه ، هذا قول الزجاج .
هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون .
قوله تعالى: (هم درجات) قال الزجاج: معناه: هم ذوو درجات . وفي معنى درجات قولان .
أحدهما: أنها درجات الجنة ، قاله الحسن .
والثاني: أنها فضائلهم ، فبعضهم أفضل من بعض ، قاله الفراء ، وابن قتيبة .
وفيمن عنى بهذا الكلام قولان .
أحدهما: أنهم الذين اتبعوا رضوان الله ، والذين باؤوا بسخط من الله ، فلمن اتبع رضوان الله الثواب ، ولمن باء بسخطه العذاب ، هذا قول ابن عباس .
والثاني: أنهم الذين اتبعوا رضوان الله فقط ، فإنهم يتفاوتون في المنازل ، هذا قول سعيد بن جبير ، وأبي صالح ، ومقاتل .
[ ص: 494 ] لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .
قوله تعالى: (لقد من الله على المؤمنين) أي: أنعم عليهم . و"أنفسهم": جماعتهم ، وقيل: نسبهم ، وقرأ الضحاك ، وأبو الجوزاء: (من أنفسهم) بفتح الفاء . وفي وجه الامتنان عليهم بكونه من أنفسهم أربعة أقوال .
أحدها: لكونه معروف النسب فيهم ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
والثاني: لكونهم قد خبروا أمره ، وعلموا صدقه ، قاله الزجاج .
والثالث: ليسهل عليهم التعلم منه ، لموافقة لسانه للسانهم ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والرابع: لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم ، قاله الماوردي .
وهل هذه الآية خاصة أم عامة؟ فيه قولان .
أحدهما: أنها خاصة للعرب ، روي عن عائشة والجمهور .
والثاني: أنها عامة لسائر المؤمنين ، فيكون المعنى أنه ليس بملك ، ولا من غير بني آدم ، وهذا اختيار الزجاج . وقد سبق في (البقرة) بيان باقي الآية .
[ ص: 495 ] أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير
قوله تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لما كان يوم أحد ، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر ، من أخذهم الفداء ، فقتل منهم سبعون ، وفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فنزلت هذه الآية [ إلى قوله تعالى: (قل هو من عند أنفسكم) قال: بأخذكم الفداء ] .
قوله تعالى: (أولما) قال الزجاج: هذه واو النسق ، دخلت عليها ألف الاستفهام ، فبقيت مفتوحة على هيئتها قبل دخولها ، ومثل ذلك قول القائل: تكلم فلان بكذا وكذا فيقول المجيب له: أو هو ممن يقول ذلك؟ فأما "المصيبة" فما أصابهم يوم أحد ، وكانوا قد أصابوا مثليها من المشركين يوم بدر ، لأنهم قتل منهم سبعون ، فقتلوا يوم بدر سبعين ، وأسروا سبعين ، وهذا قول ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والجماعة ، إلا أن الزجاج قال: قد أصبتم يوم أحد مثلها ، ويوم بدر مثلها ، فجعل المثلين في اليومين .
قوله تعالى: (أنى هذا) قال ابن عباس: من أين أصابنا هذا ونحن مسلمون .
قوله تعالى: (قل هو من عند أنفسكم) فيه ثلاثة أقوال .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (95)
صــ496 إلى صــ 500
أحدها: أن معناه: بأخذكم الفداء يوم بدر ، قاله عمر بن الخطاب . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم ، فذكر ذلك للناس ، فقالوا: عشائرنا وإخواننا ، بل نأخذ منهم الفداء ، ويستشهد منا عدتهم ، فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى بدر فعلى هذا يكون المعنى: قل هو بأخذكم الفداء ، واختياركم القتل لأنفسكم .
والثاني: أنه جرى ذلك بمعصية الرماة يوم أحد ، وتركهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس ، ومقاتل في آخرين .
والثالث: أنه بمخالفتهم الرسول في الخروج من المدينة يوم أحد ، فإنه أمرهم بالتحصن فيها ، فقالوا: بل نخرج ، قاله قتادة ، والربيع . قال مقاتل: إن الله على كل شيء من النصر والهزيمة قدير .
وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون .
قوله تعالى: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان) الجمعان: النبي وأصحابه ، وأبو سفيان وأصحابه ، وذلك في يوم أحد ، وقد سبق ذكر ما أصابهم .
[ ص: 497 ] قوله تعالى: (فبإذن الله) فيه ثلاثة أقوال .
أحدها: أمره ، والثاني: قضاؤه رويا عن ابن عباس ، والثالث: علمه ، قاله الزجاج .
قوله تعالى: (وليعلم المؤمنين) أي: ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم ، ويظهر نفاق المنافقين بفشلهم وقلة صبرهم . قال ابن قتيبة: والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع ، وهو جحر من جحرته يخرج منه إذا أخذ عليه الجحر الذي دخل فيه . قال الزيادي عن الأصمعي: ولليربوع أربعة أجحرة ، النافقاء: وهو الذي يخرج منه كثيرا ، ويدخل منه كثيرا . والقاصعاء ، سمي بذلك لأنه يخرج تراب الجحر ، ثم يقصع ببعضه كأنه يسد به فم الجحر ، ومنه يقال: جرح فلان قد قصع بالدم: إذا امتلأ ولم يسل . والداماء ، سمي بذلك ، لأنه يخرج التراب من فم الجحر ، ثم يدم به فم الجحر ، كأنه يطليه به ، ومنه يقال: أدمم قدرك بشحم ، أي: اطلها به . والراهطاء ، ولم يذكر اشتقاقه ، وإنما يتخذ هذه الجحر عددا ، فإذا أخذ عليه بعضها ، خرج من بعض . قال أبو زيد: فشبه المنافق به ، لأنه يدخل في الإسلام بلفظه ، ويخرج منه بعقدة ، كما يدخل اليربوع من باب ويخرج من باب . قال ابن قتيبة: والنفاق: لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام . قال ابن عباس: والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أبي وأصحابه . قال موسى بن عقبة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، ومعه المسلمون ، وهم ألف رجل ، والمشركون ثلاثة آلاف ، فرجع عنه ابن أبي في ثلاثمائة . فأما القتال ، فمباشرة الحرب . وفي المراد بالدفع ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه التكثير بالعدد . رواه مجاهد عن ابن عباس وهو قول الحسن ، وعكرمة ، والضحاك ، والسدي ، وابن جريج في آخرين .
[ ص: 498 ] . والثاني: أن معناه ادفعوا عن أنفسكم وحريمكم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول مقاتل . والثالث: أنه بمعنى القتال أيضا . قاله ابن زيد .
قوله تعالى: (لو نعلم قتالا) فيه ثلاثة أقوال .
أحدها: أن معناه: لو نعلم أن اليوم يجري قتال ما أسلمناكم ، ذكره ابن إسحاق .
والثاني: لو كنا نحسن القتال لاتبعناكم .
والثالث: إنما معناه: أن هناك قتلا وليس بقتال ، ذكرهما الماوردي .
قوله تعالى: (هم للكفر) أي: إلى الكفر (أقرب منهم للإيمان) أي: إلى الإيمان ، وإنما قال: يومئذ ، لأنهم فيما قبل لم يظهروا مثل ما أظهروا ، فكانوا بظاهر حالهم فيما قبل أقرب إلى الإيمان .
قوله تعالى: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) فيه وجهان ذكرهما الماوردي .
أحدهما: ينطقون بالإيمان ، وليس في قلوبهم إلا الكفر .
والثاني: يقولون: نحن أنصار ، وهم أعداء . وذكر في الذي يكتمون وجهين .
أحدهما: أنه النفاق . والثاني: العداوة .
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين .
قوله تعالى: (الذين قالوا لإخوانهم) قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن أبي . وفي إخوانهم قولان .
أحدهما: أنهم إخوانهم في النفاق ، قاله ابن عباس .
[ ص: 499 ] . والثاني: إخوانهم في النسب ، قاله مقاتل . فعلى الأول يكون المعنى: قالوا لإخوانهم المنافقين: لو أطاعنا الذين قتلوا مع محمد ما قتلوا ، وعلى الثاني يكون المعنى: قالوا عن إخوانهم الذين استشهدوا بأحد: لو أطاعونا ما قتلوا .
قوله تعالى: (وقعدوا) يعني القائلين قعدوا عن الجهاد .
قوله تعالى: (فادرءوا) أي: فادفعوا (عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) أن الحذر لا ينفع مع القدر .
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون .
قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) قرأ ابن عامر: "قتلوا" بالتشديد . واختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها: أنها نزلت في شهداء أحد ، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ، وحسن مقيلهم ، قالوا: ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا ، لئلا يزهدوا في الجهاد [ولا ينكلوا عن الحرب ] قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية" وهذا قول سعيد بن جبير ، وأبي الضحى .
والثاني: أنها نزلت في شهداء بدر لما أفضوا إلى كرامة الله تعالى وقالوا: ربنا أعلم [ ص: 500 ] إخواننا ، فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وهو قول مقاتل .
والثالث: أنها نزلت في شهداء بئر معونة . روى محمد بن إسحاق عن أشياخ له ، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث المنذر بن عمرو في سبعين رجلا من خيار المسلمين إلى أهل نجد ، فلما نزلوا بئر معونة ، خرج حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم ينظر فيه عامر ، وخرج رجل من كسر البيت برمح ، فضرب به في جنب حرام حتى خرج من الشق الآخر ، فقال: الله أكبر ، فزت ورب الكعبة ، وقتل سائر أصحابه غير واحد منهم ، قال أنس بن مالك: فأنزل الله تعالى فيهم: "بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا ، فرضي عنا ورضينا عنه" ثم رفعت ، فنزلت هذه الآية: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (96)
صــ501 إلى صــ 505
فهذا اختلاف الناس فيمن نزلت ، واختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقوال .
أحدها: أن الشهداء بعد استشهادهم سألوا الله أن يخبر إخوانهم بمصيرهم ، وقد ذكرناه عن ابن عباس .
والثاني: أن رجلا قال: يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين استشهدوا ، فنزلت ، قاله مقاتل .
والثالث: أن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور ، تحسروا ، وقالوا: نحن في النعمة والسرور ، وآباؤنا ، وأبناؤنا ، وإخواننا ، في القبور ، فنزلت هذه الآية ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .
فأما التفسير ، فمعنى الآية: لا تحسبنهم أمواتا كالأموات الذين لم يقتلوا في سبيل الله ، وقد بينا هذا المعنى في (البقرة) وذكرنا أن معنى حياتهم: أن أرواحهم في حواصل طير تأكل من ثمار الجنة ، وتشرب من أنهارها . قال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة .
فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[ ص: 502 ] قوله تعالى: (فرحين) قال ابن قتيبة: الفرح: المسرة ، فأما الذي آتاهم الله ، فما نالوا من كرامة الله ورزقه ، والاستبشار: السرور بالبشارة ، (بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) إخوانهم من المسلمين . وفي سبب استبشارهم بهم ثلاثة أقوال .
أحدها: أن الله تعالى ما أخبر بكرامة الشهداء ، أخبر الشهداء بأني قد أنزلت على نبيكم ، وأخبرته بأمركم ، فاستبشروا ، وعلموا أن إخوانهم سيحرصون على الشهادة ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني: يستبشرون بإخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة ، يقولون: إن قتلوا نالوا ما نلنا من الفضل ، قاله قتادة .
والثالث: أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه وأهله ، وفيه يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ، فيستبشر بقدومه ، كما يستبشر أهل الغائب ، به هذا قول السدي . و"الهاء" و"الميم" في قوله تعالى: (ألا خوف عليهم) تعود إلى الذين لم يلحقوا بهم . قال الفراء: معناه: يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم ، ولا حزن . وفي ماذا يرتفع "الخوف" و"الحزن" عنهم؟ فيه قولان .
أحدهما: لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم ، ولا يحزنون على ما خلفوا من أموالهم .
والثاني: لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه ، ولا يحزنون على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة .
يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين .
قوله تعالى: (يستبشرون بنعمة من الله وفضل) قال مقاتل: برحمة ورزق .
قوله تعالى: (وأن الله) قرأ الجمهور بالفتح على معنى: ويستبشرون بأن الله ، وقرأ الكسائي بالكسر على الاستئناف .
الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم .
قوله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول) في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أن المشركين لما انصرفوا يوم أحد ، ندب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لاتباعهم ، ثم خرج بمن انتدب معه ، فلقي أبو سفيان قوما ، فقال: إن لقيتم محمدا ، فأخبروه أني في جمع كثير ، فلقيهم النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم عنه؟ فقالوا: لقيناه في جمع كثير ، ونراك في قلة ، فأبى إلا أن يطلبه ، فسبقه أبو سفيان ، فدخل مكة ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، والجمهور .
والثاني: أن أبا سفيان لما أراد الانصراف عن أحد ، قال: يا محمد ، موعد بيننا وبينك موسم بدر ، فلما كان العام المقبل ، خرج أبو سفيان ، ثم ألقى الله في قلبه الرعب ، فبدا له الرجوع ، فلفي نعيم بن مسعود ، فقال: إني قد واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى ، وهذا عام جدب ، لا يصلح لنا ، فثبطهم عنا ، وأعلمهم أنا في جمع كثير ، فلقيهم فخوفهم ، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ، حتى أقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان ، فنزل قوله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول) الآيات . وهذا المعنى مروي عن مجاهد ، وعكرمة . والاستجابة: الإجابة . وأنشدوا:
[ ص: 504 ]
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي: فلم يجبه .
وفي المراد النبي صلى الله عليه وسلم وخروجه وندب الناس للخروج ثلاثة أقوال .
أحدها: ليرهب العدو باتباعهم . والثاني: لموعد أبي سفيان .
والثالث: لأنه بلغه عن القوم أنهم قالوا: أصبتم شوكتهم ، ثم تركتموهم . وقد سبق الكلام في القرح .
قوله تعالى: (للذين أحسنوا منهم) أي: أحسنوا بطاعة الرسول ، واتقوا مخالفته .
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل .
قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس) في المراد بالناس ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم ركب لقيهم أبو سفيان ، فضمن لهم ضمانا لتخويف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قاله ابن عباس ، وابن إسحاق .
والثاني: أنه نعيم بن مسعود الأشجعي ، قاله مجاهد ، وعكرمة ، ومقاتل في آخرين .
[ ص: 505 ] . والثالث: أنهم المنافقون ، لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يتجهز ، نهوا المسلمين عن الخروج ، وقالوا: إن أتيتموهم في ديارهم ، لم يرجع منكم أحد ، هذا قول السدي .
قوله تعالى: (إن الناس قد جمعوا لكم) يعني أبا سفيان وأصحابه .
قوله تعالى: (فزادهم إيمانا) قال الزجاج: زادهم ذلك التخويف ثبوتا في دينهم ، وإقامة على نصرة نبيهم ، وقالوا: (حسبنا الله) أي: هو الذي يكفينا أمرهم . فأما "الوكيل" ، فقال الفراء: الوكيل: الكافي ، واختاره ابن القاسم . وقال ابن قتيبة: هو الكفيل ، قال: ووكيل الرجل في ماله: هو الذي كفله له ، وقام به . وقال الخطابي: الوكيل: الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم ، وحقيقته: أنه الذي يستقل بالأمر الموكول إليه . وحكى ابن الأنباري: أن قوما قالوا: الوكيل: الرب .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (97)
صــ506 إلى صــ 510
فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم .
قوله تعالى: (فانقلبوا بنعمة من الله) الانقلاب: الرجوع . وفي النعمة ، ثلاثة أقوال .
أحدها: أنها الأجر ، قاله مجاهد . والثاني: العافية ، قاله السدي .
[ ص: 506 ] . والثالث: الإيمان والنصر ، قاله الزجاج . وفي الفضل ، ثلاثة أقوال .
أحدها: ربح التجارة ، قاله مجاهد ، والسدي ، وهذا قول من يرى أنهم خرجوا لموعد أبي سفيان . قال الزهري: لما استنفر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لموعد أبي سفيان ببدر ، خرجوا ببضائع لهم ، وقالوا: إن لقينا أبا سفيان ، فهو الذي خرجنا إليه ، وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا ، وكانت بدر متجرا يوافى كل عام ، فانطلقوا فقضوا حوائجهم ، وأخلف أبو سفيان الموعد .
والثاني: أنهم أصابوا سرية بالصفراء ، فرزقوا منها ، قاله مقاتل .
والثالث: أنه الثواب ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى: (لم يمسسهم سوء) قال ابن عباس: لم يؤذهم أحد . (واتبعوا رضوان الله) في طلب القوم . (والله ذو فضل) أي: ذو من بدفع المشركين عن المؤمنين .
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين .
قوله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان) قال الزجاج: معناه: ذلك التخويف كان فعل الشيطان ، سوله للمخوفين .
وفي قوله تعالى: (يخوف أولياءه) قولان .
أحدهما: أن معناه يخوفكم بأوليائه ، قاله الفراء ، واستدل بقوله تعالى: لينذر بأسا شديدا [ الكهف: 4 ] ، أي: ببأس ، وب قوله تعالى: لينذر يوم التلاق [ غافر: 15 ] ، أي: بيوم التلاق . وقال الزجاج: معناه: يخوفكم من أوليائه ، بدليل قوله تعالى: فلا تخافوهم وخافون .
وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وإبراهيم ، وابن قتيبة .
[ ص: 507 ] وأنشد ابن الأنباري في ذلك:
وأيقنت التفرق يوم قالوا تقسم مال أربد بالسهام
أراد: أيقنت بالتفرق ، قال: فلما أسقط الباء أعمل الفعل فيما بعدها ونصبه . قال: والذي نختاره في الآية: أن المعنى: يخوفكم أولياءه . تقول العرب: قد أعطيت الأموال ، يريدون: أعطيت القوم الأموال ، فيحذفون القوم ، ويقتصرون على ذكر المفعول الثاني . فهذا أشبه من ادعاء "باء" ما عليها دليل ، ولا تدعوا إليها ضرورة .
والثاني: أن معناه: يخوف أولياءه المنافقين ، ليقعدوا عن قتال المشركين ، قاله الحسن ، والسدي ، وذكره الزجاج .
قوله تعالى: (فلا تخافوهم) يعني: أولياء الشيطان (وخافون) في ترك أمري . وفي "إن" قولان .
أحدهما: أنها بمعنى: "إذ" قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني: أنها للشرط ، وهو قول الزجاج في آخرين .
ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم .
قوله تعالى: (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) قرأ نافع "يحزنك" "ليحزنني" و"ليحزن" بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن ، إلا في (الأنبياء) لا (يحزنهم الفزع) [ الأنبياء: 103 ] ، فإنه فتح الياء ، وضم الزاي . وقرأ الباقون كل ما في القرآن بفتح الياء وضم الزاي . قال أبو علي: يشبه أن يكون نافع تبع في سورة (الأنبياء) أثرا ، أو أحب أن يأخذ بالوجهين . وفي الذين يسارعون في الكفر أربعة أقوال .
[ ص: 508 ] أحدها: أنهم المنافقون ، ورؤساء اليهود ، قاله ابن عباس .
والثاني: المنافقون ، قاله مجاهد . والثالث: كفار قريش ، قاله الضحاك .
والرابع: قوم ارتدوا عن الإسلام ، ذكره الماوردي .
وقيل: معنى مسارعتهم في الكفر: مظاهرتهم للكفار ، ونصرهم إياهم . فإن قيل: كيف لا يحزنه المسارعة في الكفر؟ فالجواب: لا يحزنك فعلهم ، فإنك منصور عليهم .
قوله تعالى: (إنهم لن يضروا الله شيئا) فيه قولان .
أحدهما: لن ينقصوا الله شيئا بكفرهم ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني: لن يضروا أولياء الله شيئا ، قاله عطاء . قال ابن عباس: والحظ: النصيب ، والآخرة: الجنة . (ولهم عذاب عظيم) في النار .
إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم .
قوله تعالى: (إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان) قال مجاهد: المنافقون آمنوا ثم كفروا ، وقد سبق في (البقرة) معنى الاشتراء .
ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين .
قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها: في اليهود والنصارى والمنافقين ، قاله ابن عباس .
والثاني: في قريظة والنضير ، قاله عطاء . والثالث: في مشركي مكة ، قاله مقاتل .
[ ص: 509 ] . والرابع: في كل كافر ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، (ولا يحسبن الذين كفروا) [ آل عمران: 178 ] ، (ولا يحسبن الذين يبخلون) [ آل عمران: 180 ] ، (ولا يحسبن الذين يفرحون) [ آل عمران: 188 ] ، بالياء وكسر السين ، ووافقهم ابن عامر غير أنه فتح السين ، وقرأهن حمزة بالتاء ، وقرأ عاصم والكسائي كل ما في هذه السورة بالتاء غير حرفين (ولا يحسبن الذين كفروا) (ولا يحسبن الذين يبخلون) فإنهما بالياء ، إلا أن عاصما فتح السين ، وكسرها الكسائي ، ولم يختلفوا في (ولا تحسبن الذين قتلوا) أنها بالتاء . (ونملي لهم) أي: نطيل لهم في العمر ، ومثله: (واهجرني مليا) قال ابن الأنباري: واشتقاق "نملي لهم" من الملوة ، وهي المدة من الزمان ، يقال: ملوة من الدهر ، وملوة ، وملوة ، وملاوة ، وملاوة ، وملاوة ، بمعنى واحد ، ومنه قولهم: البس جديدا وتمل حبيبا ، أي: لتطل أيامك معه .
قال متمم بن نويرة:
بودي لو أني تمليت عمره بمالي من مال طريف وتالد
ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم .
قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه) في سبب نزولها خمسة أقوال .
[ ص: 510 ] أحدها: أن قريشا قالت: تزعم يا محمد أن من اتبعك ، فهو في الجنة ، ومن خالفك فهو في النار؟! فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس .
والثاني: أن المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول أبي العالية .
والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عرضت على أمتي ، وأعلمت من يؤمن بي ، ومن يكفر ، فبلغ ذلك المنافقين ، فاستهزؤوا ، وقالوا: فنحن معه ولا يعرفنا ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول السدي .
والرابع: أن اليهود ، قالت: يا محمد قد كنتم راضين بديننا ، فكيف بكم لو مات بعضكم قبل نزول كتابكم؟! فنزلت هذه الآية . هذا قول عمر مولى غفرة .
والخامس: أن قوما من المنافقين ادعوا أنهم في إيمانهم مثل المؤمنين ، فأظهر الله نفاقهم يوم أحد ، وأنزل هذه الآية ، هذا قول أبي سليمان الدمشقي .
وفي المخاطب بهذه الآية قولان .
أحدهما: أنهم الكفار والمنافقون ، وهو قول ابن عباس ، والضحاك .
والثاني: أنهم المؤمنون ، فيكون المعنى: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق ، قال الثعلبي: وهذا قول أكثر أهل المعاني .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (98)
صــ511 إلى صــ 515
قوله تعالى: (حتى يميز الخبيث من الطيب) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن [ ص: 511 ] عامر: "حتى يميز" و"ليميز الله الخبيث" بفتح الياء والتخفيف . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، ويعقوب: "يميز" بالتشديد ، وكذلك في [ الأنفال: 37 ] (ليميز الله الخبيث) .
قال أبو علي: مزت وميزت لغتان . قال ابن قتيبة: ومعنى يميز: يخلص . فأما الطيب ، فهو المؤمن . وفي الخبيث قولان .
أحدهما: أنه المنافق ، قاله مجاهد ، وابن جريج .
والثاني: الكافر ، قاله قتادة ، والسدي . وفي الذي وقع به التمييز بينهم ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه الهجرة والقتال ، قاله قتادة ، وهو قول من قال: الخبيث: الكافر .
والثاني: أنه الجهاد ، وهو قول من قال: هو المنافق . قال مجاهد: فيميز الله يوم أحد بين المؤمنين والمنافقين ، حيث أظهروا النفاق وتخلفوا .
والثالث: أنه جميع الفرائض والتكاليف ، فإن المؤمن مستور الحال بالإقرار ، فإذا جاءت التكاليف بان أمره . هذا قول ابن كيسان .
وفي المخاطب بقوله: (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) قولان .
أحدهما: أنهم كفار قريش ، فمعناه: ما كان الله ليبين لكم المؤمن من الكافر ، لأنهم طلبوا ذلك ، فقالوا: أخبرنا بمن يؤمن ومن لا يؤمن ، هذا قول ابن عباس .
والثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فمعناه: وما كان الله ليطلع محمدا على الغيب ، قاله السدي . "ويجتبي" بمعنى يختار ، قاله الزجاج وغيره . فمعنى الكلام على القول الأول: أن الله لا يطلع على الغيب أحدا إلا الأنبياء الذين اجتباهم ، وعلى القول الثاني: أن الله لا يطلع على الغيب أحدا إلا أنه يجتبي من يشاء فيطلعه على ما يشاء .
ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل [ ص: 512 ] هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير .
قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله) اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما: أنها نزلت في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم ، وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة ، وابن عباس في رواية أبي صالح ، والشعبي ، ومجاهد وفي رواية السدي في آخرين .
والثاني: أنها في الأحبار الذين كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونبوته ، رواه عطية عن ابن عباس ، وابن جريج عن مجاهد ، واختاره الزجاج .
قال الفراء: ومعنى الكلام: لا يحسبن الباخلون البخل هو خيرا لهم ، فاكتفى بذكر "يبخلون" من البخل ، كما تقول: قدم فلان ، فسررت به ، أي: سررت بقدومه .
قال الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف
يريد: جرى إلى السفه . والذي آتاهم الله على قول من قال: البخل بالزكاة: هو المال ، وعلى قول من قال: البخل بذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم هو العلم .
[ ص: 513 ] قوله تعالى: (هو) إشارة إلى البخل وليس مذكورا ، ولكنه مدلول عليه بـ"يبخلون" وفي معنى تطويقهم به أربعة أقوال .
أحدها: أنه يجعل كالحية يطوق بها الإنسان ، روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع يفر منه ، وهو يتبعه حتى يطوق في عنقه" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة)" . وهذا مذهب ابن مسعود ، ومقاتل .
والثاني: أنه يجعل طوقا من نار ، رواه منصور عن مجاهد ، وإبراهيم .
والثالث: أن معنى تطويقهم به: تكليفهم أن يأتوا به ، رواه ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .
والرابع: أن معناه: يلزم أعناقهم إثمه ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى: (ولله ميراث السماوات والأرض) قال ابن عباس: يموت أهل السماوات وأهل الأرض ، ويبقى رب العالمين . قال الزجاج: خوطب القوم بما يعقلون ، لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثا إذا كان ملكا له ، وقال ابن الأنباري: معنى الميراث: [ ص: 514 ] انفراد الرجل بما كان لا ينفرد به ، فلما مات الخلق ، وانفرد عز وجل ، صار ذلك له وراثة .
قوله تعالى: (والله بما تعملون خبير) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو: "يعملون" بالياء إتباعا لقوله تعالى: (سيطوقون) وقرأ الباقون بالتاء ، لأن قبله (وإن تؤمنوا وتتقوا) .
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق .
قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير) في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل بيت مدراس اليهود ، فوجدهم قد اجتمعوا على رجل منهم اسمه فنحاص ، فقال أبو بكر: اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله . فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا . فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة ، وقال: والله لولا العهد الذي بيننا لضربت عنقك . فذهب فنحاص يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبره أبو بكر بما قال ، فجحد فنحاص ، فنزلت هذه الآية ، ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا [ آل عمران: 186 ] هذا قول ابن عباس وإلى نحوه ذهب مجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني: أنه لما نزل قوله من ذا الذي يقرض الله قرضا [ البقرة: 245 ] قالت اليهود: إنما يستقرض الفقير من الغني ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الحسن ، وقتادة .
وفي الذين قالوا: إن الله فقير ، أربعة أقوال .
[ ص: 515 ] أحدها: أنه فنحاص بن عازوراء اليهودي ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني: حيي بن أخطب ، قاله الحسن وقتادة .
والثالث: أن جماعة من اليهود قالوه . قال مجاهد: صك أبو بكر رجلا من الذين قالوا: (إن الله فقير ونحن أغنياء) لم يستقرضنا وهو غني؟!
والرابع: أنه النباش بن عمرو اليهودي ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى: (سنكتب ما قالوا) قرأ حمزة وحده: "سيكتب" بياء مضمومة و"قتلهم" بالرفع و"يقول" بالياء ، وقرأ الباقون: (سنكتب ما قالوا) بالنون ، و"قتلهم" بالنصب و"نقول" بالنون ، وقرأ ابن مسعود "ويقال" ، وقرأ الأعمش ، وطلحة: و"يقول"
وفي معنى (سنكتب ما قالوا) قولان .
أحدهما: سنحفظ عليهم ما قالوا ، قاله ابن عباس .
والثاني: سنأمر الحفظة بكتابته ، قاله مقاتل .
قوله تعالى: (وقتلهم الأنبياء) أي: ونكتب ذلك . فإن قيل: هذا القائل لم يقتل نبيا قط ، فالجواب أنه رضي بفعل متقدميه لذلك ، كما بينا في قوله تعالى: (ويقتلون النبيين بغير الحق) . قال الزجاج: ومعنى (عذاب الحريق) عذاب محرق ، أي: عذاب بالنار ، لأن العذاب قد يكون بغير النار .
ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد
قوله تعالى: (ذلك) إشارة إلى العذاب ، والذي قدمت أيديهم: الكفر والخطايا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (99)
صــ516 إلى صــ 520
الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين .
قوله تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا) قال ابن عباس: نزلت في كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، وحيي بن أخطب ، وجماعة من اليهود ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: إن الله عهد إلينا ، أي: أمرنا في التوراة: أن لا نؤمن لرسول ، أي: لا نصدق رسولا يزعم أنه رسول ، حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قال ابن قتيبة: والقربان: ما تقرب به إلى الله تعالى من ذبح وغيره . وإنما طلبوا القربان ، لأنه كان من سنن الأنبياء المتقدمين ، وكان نزول النار علامة القبول . قال ابن عباس: كان الرجل يتصدق ، فإذا قبلت منه ، نزلت نار من السماء ، فأكلته ، وكانت نارا لها دوي ، وحفيف . وقال عطاء: كان بنو إسرائيل يذبحون لله ، فيأخذون أطايب اللحم ، فيضعونها في وسط البيت تحت السماء ، فيقوم النبي في البيت ، ويناجي ربه ، فتنزل نار ، فتأخذ ذلك القربان ، فيخر النبي ساجدا ، فيوحي الله إليه ما يشاء . قال ابن عباس: قل يا محمد لليهود (قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات) أي: بالآيات ، (وبالذي) سألتم من القربان .
فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير .
قوله تعالى: فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك معناه: لست بأول رسول كذب . قال أبو علي: وقرأ ابن عامر وحده "بالبينات والزبر" بزيادة باء ، وكذلك في مصاحف أهل الشام ، ووجهه أن إعادة الباء ضرب من التأكيد ، ووجه قراءة الجمهور [ ص: 517 ] أن الواو قد أغنت عن تكرير العامل ، تقول: مررت بزيد وعمرو ، فتستغني عن تكرير الباء . وقال الزجاج: والزبر: جمع زبور ، والزبور: كل كتاب ذي حكمة .
قوله تعالى: (والكتاب المنير) قال أبو سليمان: يعني به الكتب النيرة بالبراهين والحجج .
كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور .
قوله تعالى: كل نفس ذائقة الموت قال ابن عباس: لما نزل قوله: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم [ السجدة:11 ] . قالوا: يا رسول الله إنما نزل في بني آدم ، فأين ذكر الموت في الجن ، والطير ، والأنعام ، فنزلت هذه الآية . وفي ذكر الموت تهديد للمكذبين بالمصير ، وتزهيد في الدنيا ، وتنبيه على اغتنام الأجل .
وفي قوله تعالى: (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) بشارة للمحسنين ، وتهديد للمسيئين .
قوله تعالى: (فمن زحزح) قال ابن قتيبة: نجي وأبعد . (فقد فاز) قال الزجاج: تأويل فاز: تباعد عن المكروه ، ولقي ما يحب ، يقال لمن نجا من هلكة ، ولمن لقي ما يغتبط به: قد فاز .
[ ص: 518 ] قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) يريد أن العيش فيها يغر الإنسان بما يمنيه من طول البقاء ، وسينقطع عن قريب . قال سعيد بن جبير : هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة ، فأما من يشتغل بطلب الآخرة ، فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها .
لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور .
قوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم) في سبب نزولها خمسة أقوال .
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي ، وعبد الله بن رواحة ، فغشي المجلس عجاجة الدابة ، فخمر ابن أبي أنفه بردائه ، وقال: لا تغبروا علينا ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دعاهم إلى الله ، وقرأ عليهم القرآن ، فقال ابن أبي: إنه لا أحسن مما تقول ، إن كان حقا فلا تؤذنا في مجالسنا . وقال ابن رواحة: اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله ، فإنا نحب ذلك ، فاستب المسلمون ، والمشركون ، واليهود ، فنزلت هذه الآية ، رواه عروة عن أسامة بن زيد .
[ ص: 519 ] . والثاني: أن المشركين واليهود كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى ، فنزلت هذه الآية ، قاله كعب بن مالك الأنصاري .
والثالث: أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر الصديق ، وبين فنحاص اليهودي ، وقد سبق ذكره عن ابن عباس .
والرابع: أنها نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر الصديق ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . واختاره مقاتل . وقال عكرمة: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر الصديق ، وفنحاص اليهودي .
[ ص: 520 ] . والخامس: أنها نزلت في كعب بن الأشرف ، كان يحرض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ، وهذا مذهب الزهري .
قال الزجاج: ومعنى "لتبلون": لتختبرن ، أي: توقع عليكم المحن ، فيعلم المؤمن حقا من غيره . و"النون" دخلت مؤكدة مع لام القسم ، وضمت الواو لسكونها ، وسكون النون . وفي البلوى في الأموال قولان .
أحدهما: ذهابها ونقصانها . والثاني: ما فرض فيها من الحقوق .
وفي البلوى في الأنفس أربعة أقوال .
أحدها: المصائب ، والقتل . والثاني: ما فرض من العبادات .
والثالث: الأمراض . والرابع: المصيبة بالأقارب ، والعشائر .
وقال عطاء: هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم ، وباعوا رباعهم ، وعذبوهم .
قوله تعالى: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب) قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى ، والذين أشركوا: مشركو العرب (وإن تصبروا) على الأذى (وتتقوا) الله بمجانبة معاصيه .
قوله تعالى: (فإن ذلك من عزم الأمور) أي: ما يعزم عليه ، لظهور رشده .
فصل
والجمهور على إحكام هذه الآية ، وقد ذهب قوم إلى أن الصبر المذكور منسوخ بآية السيف .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (100)
صــ521 إلى صــ 525
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون
[ ص: 521 ] قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) فيهم ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والسدي ، ومقاتل . فعلى هذا ، الكتاب: التوراة .
والثاني: أنهم اليهود ، والنصارى ، والكتاب: التوراة والإنجيل .
والثالث: أنهم جميع العلماء ، فيكون الكتاب اسم جنس .
قوله تعالى: (لتبيننه للناس) .
قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر ، والمفضل عن عاصم ، وزيد عن يعقوب (ليبيننه للناس ولا يكتمونه) بالياء فيهما ، وقرأ الباقون ، وحفص عن عاصم بالتاء فيهما . وفي هاء الكناية في "لتبيننه" و"تكتمونه" قولان .
أحدهما: أنها ترجع إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول من قال: هم اليهود .
والثاني: أنها ترجع إلى الكتاب ، قاله الحسن ، وقتادة ، وهو أصح ، لأن الكتاب أقرب المذكورين ، ولأن من ضرورة تبيينهم ما فيه إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول من ذهب إلى أنه عام في كل كتاب . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا .
قوله تعالى: (فنبذوه) قال الزجاج: أي: رموا به ، يقال: للذي يطرح الشيء ولا يعبأ به: قد جعلت هذا الأمر بظهر . قال الفرزدق:
تميم بن قيس لا تكونن حاجتي بظهر ولا يعيا علي جوابها
[ ص: 522 ] معناه: لا تكونن حاجتي مهملة عندك ، مطرحة . وفي هاء "فنبذوه" قولان .
أحدهما: أنها تعود إلى الميثاق . والثاني: إلى الكتاب .
قوله تعالى: (واشتروا به) يعني: استبدلوا بما أخذ الله عليهم القيام به ، ووعدهم عليه الجنة (ثمنا قليلا) أي: عرضا يسيرا من الدنيا .
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم .
قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا) وقرأ أهل الكوفة: لا تحسبن بالتاء . وفي سبب نزولها ثمانية أقوال .
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، سأل اليهود عن شيء ، فكتموه ، وأخبروه بغيره ، وأروه أنهم قد أخبروه به ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ، فنزلت هذه الآية .
[ ص: 523 ] . والثاني: أنها نزلت في قوم من اليهود ، فرحوا بما يصيبون من الدنيا ، وأحبوا أن يقول الناس: إنهم علماء ، وهذا القول ، والذي قبله عن ابن عباس .
والثالث: أن اليهود قالوا: نحن على دين إبراهيم ، وكتموا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير .
والرابع: أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن ، ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها: أن محمدا ليس بنبي ، فاثبتوا على دينكم ، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به ، ففرحوا بذلك ، وقالوا: نحن أهل الصوم والصلاة ، وأولياء الله ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الضحاك ، والسدي .
والخامس: أن يهود خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقالوا: نحن على رأيكم ، ونحن لكم ردء ، وهم مستمسكون بضلالتهم ، فأرادوا أن يحمدهم نبي لله بما لم يفعلوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة .
والسادس: أن ناسا من اليهود جهزوا جيشا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، واتفقوا عليهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله إبراهيم النخعي .
والسابع أن قوما من أهل الكتاب دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها ، فحمدوهم ، وأبطنوا خلاف ما أظهروا ، فنزلت هذه الآية ، ذكره الزجاج .
والثامن: أن رجالا من المنافقين كانوا يتخلفون عن الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا قدم ، اعتذروا إليه ، وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله [ ص: 524 ] أبو سعيد الخدري ، وهذا القول يدل على أنها نزلت في المنافقين ، وما قبله من الأقوال يدل على أنها في اليهود .
وفي الذي أتوا ثمانية أقوال .
أحدها: أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق .
والثاني: تبديلهم التوراة . والثالث: إيثارهم الفاني من الدنيا على الثواب .
والرابع: إضلالهم الناس . والخامس: اجتماعهم على تكذيب النبي .
والسادس: نفاقهم بإظهار ما في قلوبهم ضده .
والسابع: اتفاقهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه أقوال من قال: هم اليهود .
والثامن: تخلفهم في الغزوات ، وهذا قول من قال: هم المنافقون .
وفي قوله تعالى: (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) ستة أقوال .
[ ص: 525 ] أحدها: أحبوا أن يحمدوا على إجابة النبي صلى الله عليه وسلم ، عن شيء سألهم عنه وما أجابوه .
والثاني: أحبوا أن يقول الناس: هم علماء ، وليسوا كذلك .
والثالث: أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة ، والصيام ، وهذه الأقوال الثلاثة عن ابن عباس .
والرابع: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: نحن على دين إبراهيم ، وليسوا عليه ، قاله سعيد بن جبير .
والخامس: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: إنا راضون بما جاء به النبي ، وليسوا كذلك ، قاله قتادة . وهذه أقوال من قال: هم اليهود .
والسادس: أنهم كانوا يحلفون للمسلمين ، إذا نصروا: إنا قد سررنا بنصركم ، وليسوا كذلك ، قاله أبو سعيد الخدري ، وهو قول من قال: هم المنافقون .
قوله تعالى: (فلا يحسبنهم) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو: "فلا يحسبنهم" ، بالياء وضم الباء . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي: بالتاء ، وفتح الباء . قال الزجاج: إنما كررت "تحسبنهم" لطول القصة ، والعرب تعيد إذا طالت القصة "حسبت" وما أشبهها ، إعلاما أن الذي يجرى متصل بالأول ، وتوكيدا له ، فتقول: لا تظنن زيدا إذا جاء وكلمك بكذا وكذا ، فلا تظننه صادقا .
قوله تعالى: (بمفازة) قال ابن زيد ، وابن قتيبة: بمنجاة .
ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير .
قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض) فيه تكذيب القائلين: بأنه فقير .
وفي قوله تعالى: (والله على كل شيء قدير) تهديد لهم ، أي: لو شئت لعجلت عذابهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (101)
صــ526 إلى صــ 530
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب .
قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض) في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها: أن قريشا قالوا لليهود: ما الذي جاءكم به موسى ؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء . وقالوا للنصارى: ما الذي جاءكم به عيسى؟ قالوا كان يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى . فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: ادع ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ، فنزلت هذه الآية ، رواه ابن جبير عن ابن عباس .
والثاني: أن أهل مكة سألوه أن يأتيهم بآية ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث: أنه لما نزل قوله تعالى: وإلهكم إله واحد [ البقرة: 163 ] . قالت قريش: قد سوى بين آلهتنا ، ائتنا بآية ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو الضحى ، واسمه: مسلم بن صبيح ، فأما تفسير الآية فقد سبق .
[ ص: 527 ] الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار .
قوله تعالى: الذين يذكرون الله قياما وقعودا في هذا الذكر ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه الذكر في الصلاة ، يصلي قائما ، فإن لم يستطع ، فقاعدا ، فإن لم يستطع ، فعلى جنب ، هذا قول علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة .
والثاني: أنه الذكر في الصلاة وغيرها ، وهو قول طائفة من المفسرين .
والثالث: أنه الخوف ، فالمعنى: يخافون الله قياما في تصرفهم ، وقعودا في دعتهم ، وعلى جنوبهم في منامهم .
قوله تعالى: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) قال ابن فارس: التفكر: تردد القلب في الشيء . قال ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكر ، خير من قيام ليلة ، والقلب ساه .
قوله تعالى: (ربنا) قال الزجاج: معناه: يقولون: (ربنا ما خلقت هذا باطلا) ، أي: خلقته دليلا عليك ، وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك . ومعنى (سبحانك): براءة لك من السوء ، وتنزيها لك أن تكون خلقتهما باطلا ، (فقنا عذاب النار) ، فقد صدقنا أن لك جنة ونارا .
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار
[ ص: 528 ] قوله تعالى: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) قال الزجاج: المخزى في اللغة: المذل المحقور بأمر قد لزمه وبحجة . يقال: أخزيته: أي: ألزمته حجة أذللته معها . وفيمن يتعلق به هذا الخزي قولان .
أحدهما: أنه يتعلق بمن يدخلها مخلدا ، قاله أنس بن مالك ، وسعيد بن المسيب ، وابن جبير ، وقتادة ، وابن جريج ، ومقاتل .
والثاني: أنه يتعلق بكل داخل إليها ، وهذا المعنى مروي عن جابر بن عبد الله ، واختاره ابن جرير الطبري ، وأبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى: (وما للظالمين من أنصار) قال ابن عباس: وما للمشركين من مانع يمنعهم عذاب الله تعالى .
ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار .
قوله تعالى: (ربنا إننا سمعنا مناديا) في المنادي قولان .
أحدهما: أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس ، وابن جريج ، وابن زيد ، ومقاتل .
والثاني: أنه القرآن ، قاله محمد بن كعب القرظي ، واختاره ابن جرير الطبري .
قوله تعالى: (ينادي للإيمان) فيه قولان .
أحدها: أن معناه ينادي إلى الإيمان ، ومثله: الذي هدانا لهذا [ الأعراف: 43 ] ، بأن ربك أوحى لها [ الزلزلة: 5 ] ، [يريد: هدانا إلى هذا ، وأوحى إليها ] قاله الفراء .
والثاني: بأنه مقدم ومؤخر: والمعنى: سمعنا مناديا للإيمان ينادي: قاله أبو عبيدة .
[ ص: 529 ] قوله تعالى: (وكفر عنا سيئاتنا) قال مقاتل: امح عنا خطايانا . وقال غيره: غطها عنا ، وقيل: إنما جمع بين غفران الذنوب ، وتكفير السيئات ، لأن الغفران بمجرد الفضل ، والتكفير بفعل الخير (وتوفنا مع الأبرار) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي "الأبرار" و"الأشرار" و"ذات قرار" وما كان مثله بين الفتح والكسر ، وقرأ ابن كثير ، وعاصم ، بالفتح ، ومعنى: "مع الأبرار" فيهم ، قال ابن عباس: وهم الأنبياء والصالحون .
ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد .
قوله تعالى: (ربنا وآتنا ما وعدتنا) قال ابن عباس: يعنون: الجنة (على رسلك) أي: على ألسنتهم . فإن قيل: ما وجه هذه المسألة والله لا يخلف الميعاد؟ فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها: أنه خرج مخرج المسألة ، ومعناه: الخبر ، تقديره: فآمنا ، فاغفر لنا لتؤتينا ما وعدتنا .
والثاني: أنه سؤال له ، أن يجعلهم ممن آتاه ما وعده ، لا أنهم استحقوا ذلك ، إذ لو كانوا قد قطعوا أنهم من الأبرار ، لكانت تزكية لأنفسهم .
والثالث: أنه سؤال لتعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء ، لأنه وعدهم نصرا غير مؤقت ، فرغبوا في تعجيله ، ذكر هذه الأجوبة ابن جرير ، وقال: أولى الأقوال بالصواب ، أن هذه صفة المهاجرين ، رغبوا في تعجيل النصر على أعدائهم . فكأنهم قالوا: لا صبر لنا على حلمك عن الأعداء ، فعجل خزيهم ، وظفرنا بهم .
فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم [ ص: 530 ] وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب .
قوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم) روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله ، لا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فنزلت هذه الآية . واستجاب: بمعنى أجاب . والمعنى: أجابهم بأن قال لهم: إني لا أضيع عمل عامل منكم ، ذكرا كان أم أنثى .
وفي معنى قوله تعالى: (بعضكم من بعض) ثلاثة أقوال .
أحدها: بعضكم من بعض في الدين ، والنصرة والموالاة .
والثاني: حكم جميعكم في الثواب واحد ، لأن الذكور من الإناث ، والإناث من الذكور . والثالث: كلكم من آدم وحواء .
قوله تعالى: (فالذين هاجروا) أي: تركوا الأوطان والأهل والعشائر (وأخرجوا من ديارهم) يعني: المؤمنين الذين أخرجوا من مكة بأذى المشركين ، فهاجروا ، (وقاتلوا المشركين وقتلوا) . قرأ ابن كثير ، وابن عامر: "وقاتلوا وقتلوا" مشددة التاء . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : "وقاتلوا وقتلوا" خفيفة . وقرأ حمزة ، والكسائي: "وقتلوا وقاتلوا" . قال أبو علي: تقديم "قتلوا" جائز ، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولا في المعنى ، مؤخرا في اللفظ .
قوله تعالى: (ثوابا من عند الله) قال الزجاج: هو مصدر مؤكد لما قبله ، لأن معنى: [ ص: 531 ] (لأدخلنهم جنات): لأثيبنهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (102)
صــ531 إلى صــ 534
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد .
قوله تعالى: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما: أنها نزلت في اليهود ، ثم في ذلك قولان .
أحدهما: أن اليهود كانوا يضربون في الأرض ، فيصيبون الأموال ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أراد أن يستسلف من بعضهم شعيرا ، فأبى إلا على رهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أعطاني لأوفيته ، إني لأمين في السماء أمين في الأرض" فنزلت ، ذكره أبو سليمان الدمشقي .
والقول الثاني: أنها نزلت في مشركي العرب كانوا في رخاء ، فقال بعض المؤمنين: قد أهلكنا الجهد ، وأعداء الله فيما ترون ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل . قال [ ص: 532 ] قتادة: والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد غيره . وقال غيره: إنما خاطبه تأديبا ، وتحذيرا ، وإن كان لا يغتر . وفي معنى "تقلبهم" ثلاثة أقوال .
أحدها: تصرفهم في التجارات ، قاله ابن عباس ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج .
والثاني: تقلب ليلهم ونهارهم ، وما يجري عليهم من النعم ، قاله عكرمة ، ومقاتل .
والثالث: تقلبهم غير مأخوذين بذنوبهم ، ذكره بعض المفسرين . قال الزجاج: ذلك الكسب والربح متاع قليل . وقال ابن عباس: منفعة يسيرة في الدنيا . والمهاد: الفراش .
لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار .
قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم) قرأ أبو جعفر : "لكن" بالتشديد هاهنا ، وفي (الزمر) قال مقاتل: وحدوا . قال ابن عباس: "النزل" الثواب . قال ابن فارس: "النزل": ما يهيأ للنزيل ، والنزيل: الضيف .
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب .
قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله) اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها: أنها نزلت في النجاشي ، لأنه لما مات صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال قائل: يصلي على هذا العلج النصراني ، وهو في أرضه؟! فنزلت هذه الآية ، هذا قول جابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وأنس . وقال الحسن ، وقتادة: فيه وفي أصحابه .
[ ص: 533 ] . والثاني: أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد .
والثالث: في عبد الله بن سلام ، وأصحابه ، قاله ابن جريج ، وابن زيد ، ومقاتل .
والرابع: في أربعين من أهل نجران ، وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى ، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، قاله عطاء .
قوله تعالى: (وما أنزل إليكم) يعني: القرآن ، (وما أنزل إليهم) يعني: كتابهم .
والخاشع: الذليل . (لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا) أي: عرضا من الدنيا كما فعل رؤساء اليهود ، وقد سلف بيان سرعة الحساب .
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون .
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا) قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: نزلت في انتظار الصلاة بعد الصلاة ، وليس يومئذ غزو يرابط . وفي الذي أمروا بالصبر عليه خمسة أقوال .
أحدها: البلاء والجهاد ، قاله ابن عباس .
[ ص: 534 ] الثاني: الدين ، قاله الحسن ، والقرظي ، والزجاج .
والثالث: المصائب ، روي عن الحسن أيضا . والرابع: الفرائض ، قاله سعيد بن جبير .
والخامس: طاعة الله ، قاله قتادة . وفي الذي أمروا بمصابرته قولان .
أحدهما: العدو ، قاله ابن عباس ، والجمهور .
والثاني: الوعد الذي وعدهم الله: قاله عطاء ، والقرظي . وفيما أمروا بالمرابطة عليه قولان .
أحدهما: الجهاد للأعداء ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة في آخرين . قال ابن قتيبة: وأصل المرابطة والرباط: أن يربط هؤلاء خيولهم ، وهؤلاء خيولهم في الثغر ، كل يعد لصاحبه .
والثاني: أنه الصلاة ، أمروا بالمرابطة عليها ، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقد ذكرنا في (البقرة) معنى "لعل" ومعنى "الفلاح" .
تم - بعون الله تبارك وتعالى - الجزء الأول من كتاب "زاد المسير في علم التفسير" ويليه الجزء الثاني ، وأوله: تفسير سورة (النساء)
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (103)
صــ1 إلى صــ 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
4 - سُورَةُ النِّسَاءِ
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا
اختلفوا في نزولها على قولين:
أحدهما: أنها مكية ، رواه عطية عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، وجابر بن زيد ، وقتادة .
والثاني: أنها مدنية ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وهو قول مقاتل . وقيل: إنها مدنية إلا آية نزلت بمكة في عثمان بن طلحة حين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة، فيسلمها إلى العباس ، وهي قوله: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ذكره الماوردي .
قوله تعالى: اتقوا ربكم فيه قولان:
أحدهما: أنه بمعنى: الطاعة ، قاله ابن عباس . والثاني: بمعنى: الخشية . قاله مقاتل . .
والنفس الواحدة: آدم ، وزوجها حواء ، و"من" في قوله: وخلق منها للتبعيض في قول الجمهور . وقال ابن بحر : منها ، أي: من جنسها .
واختلفوا أي وقت خلقت له ، على قولين:
[ ص: 2 ] أحدهما: أنها خلقت بعد دخوله الجنة ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس .
والثاني: قبل دخوله الجنة ، قاله كعب الأحبار ، ووهب ، وابن إسحاق .
قال ابن عباس : لما خلق الله آدم ، ألقى عليه النوم ، فخلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى ، فلم تؤذه بشيء ، ولو وجد الأذى ما عطف عليها أبدا ، فلما استيقظ; قيل: يا آدم ما هذه؟ قال: حواء .
قوله تعالى: وبث منهما قال الفراء: بث: نشر ، ومن العرب من يقول: أبث الله الخلق ، ويقولون: بثثتك ما في نفسي ، وأبثثتك .
قوله تعالى: الذي تساءلون به قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والبرجمي ، عن أبي بكر ، عن عاصم . واليزيدي ، وشجاع ، والجعفي ، وعبد الوارث ، عن أبي عمرو: ( تساءلون) بالتشديد . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وكثير من أصحاب أبي عمرو عنه بالتخفيف .
قال الزجاج : الأصل: تتساءلون ، فمن قرأ بالتشديد . أدغم التاء في السين ، لقرب مكان هذه من هذه ، ومن قرأ بالتخفيف ، حذف التاء الثانية لاجتماع التاءين .
وفي معنى "تساءلون به" ثلاثة أقوال .
أحدها: تتعاطفون به ، قاله ابن عباس . والثاني: تتعاقدون ، وتتعاهدون به . قاله الضحاك ، والربيع .
[ ص: 3 ] والثالث: تطلبون حقوقكم به ، قاله الزجاج .
فأما قوله: "والأرحام" فالجمهور على نصب الميم على معنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وفسرها على هذا ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، وابن زيد . وقرأ الحسن ، وقتادة ، والأعمش ، وحمزة بخفض الميم على معنى: تساءلون به وبالأرحام ، وفسرها على هذا الحسن ، وعطاء ، والنخعي .
وقال الزجاج : الخفض في "الأرحام" خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر ، وخطأ في الدين; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم" وذهب إلى نحو هذا الفراء ، وقال ابن الأنباري: إنما أراد حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت عادتهم به ، فالمعنى: الذي كنتم تساءلون به وبالأرحام في الجاهلية . قال أبو علي: من جر عطف على الضمير المجرور بالباء ، وهو ضعيف في القياس ، قليل في الاستعمال ، فترك الأخذ به أحسن .
فأما الرقيب ، فقال: ابن عباس ، ومجاهد: الرقيب الحافظ . وقال الخطابي: هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء ، وهو في نعوت الآدميين الموكل بحفظ [ ص: 4 ] الشيء ، المترصد له ، المتحرز عن الغفلة فيه ، يقال منه: رقبت الشيء أرقبه رقبة .
وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا
قوله تعالى: وآتوا اليتامى أموالهم سبب نزولها: أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ ، طلب ماله فمنعه ، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ، قاله سعيد بن جبير . والخطاب بقوله: "وآتوا" للأولياء والأوصياء . قال الزجاج : وإنما سموا يتامى بعد البلوغ ، بالاسم الذي كان لهم ، وقد كان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يتيم أبي طالب .
[ ص: 5 ] قوله: ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب قرأ ابن محيصن: "تبدلوا" بتاء واحدة . ثم في معنى الكلام قولان .
أحدهما: أنه إبدال حقيقة ، ثم فيه قولان .
أحدهما: أنه أخذ الجيد ، وإعطاء الرديء مكانه ، قاله سعيد بن المسيب ، والضحاك ، والنخعي ، والزهري ، والسدي . قال السدي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ، ويجعل مكانها المهزولة ، ويأخذ الدراهم الجياد ، ويطرح مكانها الزيوف .
والثاني: أنه الربح على اليتيم ، واليتيم غر لا علم له ، قاله عطاء .
والقول الثاني: أنه ليس بإبدال حقيقة ، وإنما هو أخذه مستهلكا ، ثم فيه قولان .
أحدهما: أنهم كانوا لا يورثون النساء والصغار ، وإنما يأخذ الميراث الأكابر من الرجال ، فنصيب الرجل من الميراث طيب ، وما أخذه من حق اليتيم خبيث ، هذا قول ابن زيد .
والثاني: أنه أكل مال اليتيم بدلا من أكل أموالهم ، قاله الزجاج .
و"إلى" بمعنى: "مع" والحوب: الإثم . وقرأ الحسن ، وقتادة ، والنخعي ، بفتح الحاء .
قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: حوب بالضم ، وتميم يقولونه بالفتح .
قال ابن الأنباري: وقال الفراء: المضموم الاسم ، والمفتوح المصدر . قال ابن قتيبة: وفيه ثلاث لغات: حوب ، وحوب ، وحاب .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (104)
صــ6 إلى صــ 10
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا
[ ص: 6 ] قوله تعالى: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى اختلفوا في تنزيلها ، وتأويلها على ستة أقوال .
أحدها: أن القوم كانوا يتزوجون عددا كثيرا من النساء في الجاهلية ، ولا يتحرجون من ترك العدل بينهن ، وكانوا يتحرجون في شأن اليتامى ، فقيل لهم: بهذه الآية: احذروا من ترك العدل بين النساء ، كما تحذرون من تركه في اليتامى ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني: أن أولياء اليتامى كانوا يتزوجون النساء بأموال اليتامى ، فلما كثر النساء ، مالوا على أموال اليتامى ، فقصروا على الأربع حفظا لأموال اليتامى .
وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضا ، وعكرمة .
والثالث: أن معناها: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في صدقات اليتامى إذا نكحتموهن ، فانكحوا سواهن من الغرائب اللواتي أحل الله لكم ، وهذا المعنى مروي عن عائشة .
[ ص: 7 ] والرابع: أن معناها: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في نكاحهن ، وحذرتم سوء الصحبة لهن ، وقلة الرغبة فيهن ، فانكحوا غيرهن ، وهذا المعنى مروي عن عائشة أيضا ، والحسن .
والخامس: أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ، فأمروا بالتحرج من الزنى أيضا ، وندبوا إلى النكاح الحلال ، وهذا المعنى مروي عن مجاهد .
والسادس: أنهم تحرجوا من نكاح اليتامى ، كما تحرجوا من أموالهم ، فرخص الله لهم بهذه الآية ، وقصرهم على عدد يمكن العدل فيه ، فكأنه قال: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن ، فانكحوهن ، ولا تزيدوا على أربع لتعدلوا ، فإن خفتم أن لا تعدلوا فيهن ، فواحدة ، وهذا المعنى مروي عن الحسن .
قال ابن قتيبة: ومعنى قوله: وإن خفتم ، أي: [فإن] علمتم أنكم لا تعدلون ، [بين اليتامى] يقال: أقسط الرجل: إذا عدل ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة" ويقال: قسط الرجل: إذا جار ومنه قول الله" وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وفي معنى العدل في اليتامى قولان .
أحدهما: في نكاح اليتامى ، والثاني: في أموالهم .
قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم أي: ما حل لكم .
قال ابن جرير: وأراد بقوله: "ما طاب لكم" ، الفعل دون أعيان النساء ، ولذلك قال: "ما" ولم يقل: "من" واختلفوا: هل النكاح من اليتامى ، أو من غيرهن؟ على قولين قد سبقا .
قوله تعالى: مثنى وثلاث ورباع
[ ص: 8 ] قال الزجاج : هو بدل من "ما طاب لكم" ومعناه: اثنتين اثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ، وإنما خاطب الله العرب بأفصح اللغات ، وليس من شأن البليغ أن يعبر في العدد عن التسعة باثنتين ، وثلاث ، وأربع ، لأن التسعة قد وضعت لهذا العدد ، فيكون عيا في الكلام .
وقال ابن الأنباري: هذه الواو معناها التفرق ، وليست جامعة ، فالمعنى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى ، وانكحوا ثلاث في غير الحال الأولى ، وانكحوا رباع في غير الحالين .
وقال القاضي أبو يعلى: الواو هاهنا: لإباحة أي الأعداد شاء ، لا للجمع ، وهذا العدد إنما هو للأحرار ، لا للعبيد ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي .
وقال مالك: هم كالأحرار . ويدل على قولنا: أنه قال: فانكحوا ، فهذا منصرف إلى من يملك النكاح ، والعبد لا يملك ذلك بنفسه ، وقال في سياقها فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ، والعبد لا ملك له ، فلا يباح له الجمع إلا بين اثنتين .
[ ص: 9 ] قوله تعالى: فإن خفتم فيه قولان . . أحدهما: علمتم ، والثاني: خشيتم .
قوله تعالى: ألا تعدلوا قال القاضي أبو يعلى: أراد العدل في القسم بينهن .
قوله تعالى: فواحدة أي: فانكحوا واحدة ، وقرأ الحسن ، والأعمش ، وحميد: " فواحدة " بالرفع ، المعنى ، فواحدة تقنع .
قوله تعالى: أو ما ملكت أيمانكم يعني: السراري . قال ابن قتيبة: معنى الآية: فكما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم ، فخافوا [أيضا] أن لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن ، فقصرهم على أربع ، ليقدروا على العدل ، ثم قال: فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هؤلاء الأربع ، فانكحوا واحدة ، واقتصروا على ملك اليمين .
قوله تعالى: ذلك أدنى أي: أقرب . وفي معنى "تعولوا" ثلاثة أقوال .
أحدهما: تميلوا ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وإبراهيم ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل ، والفراء ، وقال أبو مالك ، وأبو عبيد: تجوروا .
قال ابن قتيبة ، والزجاج: تجوروا وتميلوا بمعنى واحد . واحتكم رجلان من العرب إلى رجل ، فحكم لأحدهما ، فقال: المحكوم عليه: إنك والله تعول علي ، أي: تميل وتجور .
[ ص: 10 ] والثاني: تضلوا ، قاله مجاهد ، والثالث: تكثر عيالكم ، قال ابن زيد ، ورواه أبو سليمان الدمشقي في "تفسيره" عن الشافعي ، ورده الزجاج : فقال: جميع أهل اللغة يقولون: هذا القول خطأ ، لأن الواحدة يعولها ، وإباحة ملك اليمين أزيد في العيال من أربع .
وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا
قوله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين .
أحدهما: أنهم الأزواج ، وهو قول الجمهور ، واحتجوا بأن الخطاب للناكحين قد تقدم ، وهذا معطوف عليه ، وقال مقاتل: كان الرجل يتزوج بلا مهر ، فيقول: أرثك وترثيني ، فتقول المرأة: نعم ، فنزلت هذه الآية . والثاني: أنه متوجه إلى الأولياء ثم فيه قولان . .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (105)
صــ11 إلى صــ 15
وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا
قوله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين .
أحدهما: أنهم الأزواج ، وهو قول الجمهور ، واحتجوا بأن الخطاب للناكحين قد تقدم ، وهذا معطوف عليه ، وقال مقاتل: كان الرجل يتزوج بلا مهر ، فيقول: أرثك وترثيني ، فتقول المرأة: نعم ، فنزلت هذه الآية . والثاني: أنه متوجه إلى الأولياء ثم فيه قولان . .
[ ص: 11 ] أحدهما: أن الرجل كان إذا زوج أيمة جاز صداقها دونها ، فنهوا بهذه الآية ، هذا قول أبي صالح ، واختاره الفراء ، وابن قتيبة .
والثاني: أن الرجل كان يعطي الرجل أخته ويأخذ أخته مكانها من غير مهر ، فنهوا عن هذا بهذه الآية ، رواه أبو سليمان التيمي عن بعض أشياخه .
قال ابن قتيبة: والصدقات: المهور ، وأحدها: صدقة . وفي قوله: "نحلة" أربعة أقوال .
أحدها: أنها بمعنى: الفريضة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج ، وابن زيد ، ومقاتل . والثاني: أنها الهبة والعطية ، قاله الفراء .
قال ابن الأنباري: كانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء شيئا من مهورهن ، فلما فرض الله لهن المهر ، كان نحلة من الله ، أي: هبة للنساء ، فرضا على الرجال .
وقال الزجاج : هو هبة من الله للنساء . قال القاضي أبو يعلى: وقيل: إنما سمي المهر نحلة ، لأن الزوج لا يملك بدله شيئا ، لأن البضع بعد النكاح في ملك المرأة ، ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة ، كان المهر لها دون الزوج ، وإنما الذي يستحقه الزوج الاستباحة ، لا الملك .
وأنها العطية بطيب نفس ، فكأنه قال: لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون ، قاله أبو عبيدة .
والرابع: أن معنى "النحلة" الديانة ، فتقديره: وآتوهن صدقاتهن ديانة ، يقال: فلان ينتحل كذا ، أي: يدين به ، ذكره الزجاج عن بعض العلماء .
[ ص: 12 ] قوله تعالى: فإن طبن لكم يعني: النساء المنكوحات . وفي "لكم" قولان .
أحدهما: أنه يعني: الأزواج .
والثاني: الأولياء . و"الهاء" في "منه" كناية عن الصداق ، قال الزجاج : و"منه" هاهنا: للجنس ، كقوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان معناه: فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن ، فكأنه قال: كلوا الشيء الذي هو مهر ، فيجوز أن يسأل الرجل المهر كله . و"نفسا": منصوب على التمييز .
فالمعنى: فإن طابت أنفسهن لكم بذلك ، فكلوه هنيئا مريئا ، وفي الهنيء ثلاثة أقوال . أحدها: أنه ما تؤمن عاقبته . والثاني: ما أعقب نفعا وشفاء .
والثالث: أنه الذي لا ينغصه شيء . وأما "المريء" فيقال: مرئ الطعام: إذا انهضم ، وحمدت عاقبته .
ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا
قوله تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم المراد بالسفهاء خمسة أقوال .
أحدها: أنهم النساء ، قاله ابن عمر .
والثاني: النساء والصبيان ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة . وعن الحسن ، ومجاهد كالقولين .
والثالث: الأولاد ، قاله أبو مالك . وهذه الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس ، وروي عن الحسن ، قال: هم الأولاد الصغار .
والرابع: اليتامى ، قاله عكرمة ، وسعيد بن جبير في رواية .
قال الزجاج : ومعنى الآية: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم ، بدليل قوله وارزقوهم فيها [ ص: 13 ] وإنما قال: "أموالكم" ذكرا للجنس الذي جعله الله أموالا للناس . وقال غيره: أضافها إلى الولاة ، لأنهم قوامها .
والخامس: أن القول على إطلاقه ، والمراد به كل سفيه يستحق الحجر عليه ، ذكره ابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي ، وغيرهما ، وهو ظاهر الآية .
وفي قوله أموالكم قولان . أحدهما: أنه أموال اليتامى . والثاني: أموال السفهاء .
قوله تعالى: التي جعل الله لكم قياما قرأ الحسن: " اللاتي جعل الله لكم قواما" . وقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو: "قياما" بالياء مع الألف هاهنا ، وقرأ نافع ، وابن عامر: "قيما" بغير ألف .
قال ابن قتيبة: قياما وقواما بمنزلة واحدة ، تقول: هذا قوام أمرك وقيامه ، أي: ما يقوم به [أمرك] . وذكر أبو علي الفارسي أن "قواما" و"قياما" و"قيما" ، بمعنى: القوام الذي يقيم الشأن ، قال: وليس قول من قال: "القيم" هاهنا: جمع: "قيمة" بشيء .
قوله تعالى: وارزقوهم فيها أي: منها . وفي "القول المعروف" ثلاثة أقوال .
أحدها: العدة الحسنة ، قال ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، ومقاتل .
[ ص: 14 ] والثاني: الرد الجميل ، قاله الضحاك . والثالث: الدعاء ، كقولك: عافاك الله ، قاله ابن زيد .
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا
قوله تعالى: وابتلوا اليتامى سبب نزولها: أن رجلا ، يقال له: رفاعة ، مات وترك ولدا صغيرا ، يقال له: ثابت ، فوليه عمه ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله؟ ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت هذه الآية ، ذكر نحوه مقاتل . والابتلاء: الاختبار . وبماذا يختبرون؟ فيه ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم يختبرون في عقولهم ، قاله ابن عباس ، والسدي ، وسفيان ، ومقاتل . والثاني: يختبرون في عقولهم ودينهم ، قاله الحسن ، وقتادة . وعن مجاهد كالقولين .
والثالث: في عقولهم ودينهم ، وحفظهم أموالهم ، ذكره الثعلبي . قال القاضي أبو يعلى: وهذا الابتلاء قبل البلوغ .
قوله تعالى: حتى إذا بلغوا النكاح قال ابن قتيبة: أي: بلغوا أن ينكحوا النساء فإن آنستم أي: علمتم ، وتبينتم . وأصل: أنست: أبصرت . وفي الرشد أربعة أقوال .
أحدها: الصلاح في الدين ، وحفظ المال ، قاله ابن عباس ، والحسن .
[ ص: 15 ] والثاني: الصلاح في العقل ، وحفظ المال ، روي عن ابن عباس والسدي .
والثالث: أنه العقل ، قاله مجاهد ، والنخعي . والرابع: العقل ، والصلاح في الدين ، روي عن السدي .
فصل
واعلم أن الله تعالى علق رفع الحجر عن اليتامى بأمرين; بالبلوغ والرشد ، وأمر الأولياء باختبارهم ، فإذا استبانوا رشدهم ، وجب عليهم تسليم أموالهم إليهم .
والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء ، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء; الاحتلام ، واستكمال خمس عشرة سنة ، والإنبات ، وشيئان يختصان بالنساء الحيض والحمل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (106)
صــ16 إلى صــ 20
قوله تعالى: ولا تأكلوها إسرافا خطاب للأولياء ، قال ابن عباس : لا تأكلوها بغير حق . و"بدارا": تبادرون أكل المال قبل بلوغ الصبي ومن كان غنيا فليستعفف بماله عن مال اليتيم . وفي الأكل بالمعروف أربعة أقوال .
أحدها: أنه الأخذ على وجه القرض ، وهذا مروي عن عمر ، وابن عباس ، وابن جبير ، وأبي العالية ، وعبيدة ، وأبي وائل ، ومجاهد ، ومقاتل .
والثاني: الأكل بمقدار الحاجة من غير إسراف ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، والنخعي ، وقتادة ، والسدي .
والثالث: أنه الأخذ بقدر الأجرة إذا عمل لليتيم عملا ، روي عن ابن عباس ، وعائشة ، وهي رواية أبي طالب ، وابن منصور ، عن أحمد رضي الله عنه .
والرابع: أنه الأخذ عند الضرورة ، فإن أيسر قضاه ، وإن لم يوسر ، فهو في حل ، وهذا قول الشعبي .
[ ص: 17 ] فصل
واختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أو منسوخة؟ على قولين .
أحدهما: محكمة ، وهو قول عمر ، وابن عباس ، والحسن ، والشعبي ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وابن جبير ، والنخعي ، وقتادة في آخرين . وحكمها عندهم أن الغني ليس له أن يأكل من مال اليتيم شيئا ، فأما الفقير الذي لا يجد ما يكفيه ، وتشغله رعاية مال اليتيم عن تحصيل الكفاية ، فله أن يأخذ قدر كفايته بالمعروف من غير إسراف .
وهل عليه الضمان إذا أيسر؟ فيه قولان . لهم .
أحدهما: أنه لا ضمان عليه ، بل يكون كالأجرة له على عمله ، وهو قول الحسن ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وأحمد بن حنبل .
والثاني: إذا أيسر وجب عليه القضاء ، روي عن عمر وغيره ، وعن ابن عباس أيضا كالقولين .
والقول الثاني: أنها منسوخة بقوله لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [النساء: 29] وهذا مروي عن ابن عباس ، ولا يصح .
قوله تعالى: فأشهدوا عليهم قال القاضي أبو يعلى: هذا على طريق الاحتياط لليتيم ، والولي ، وليس بواجب ، فأما اليتيم ، فإنه إذا كانت عليه بينة ، كان أبعد من أن يدعي عدم القبض ، وأما الولي ، فإن تظهر أمانته ، ويسقط عنه اليمين عند إنكار اليتيم للدفع ، وفي "الحسيب" ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه الشهيد ، قاله ابن عباس ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني: أنه الكافي ، من قولك: أحسبني هذا الشيء [أي: كفاني ، والله حسيبي وحسيبك ، أي:كافينا ، أي: يكون حكما بيننا كافيا . [ ص: 18 ] قال الشاعر:
ونقفي وليد الحي إن كان جائعا ونحسبه إن كان ليس بجائع
أي: نعطيه ما يكفيه حتى يقول: حسبي] قاله ابن قتيبة والخطابي .
والثالث: أنه المحاسب ، فيكون في مذهب جليس ، وأكيل ، وشريب ، حكاه ابن قتيبة والخطابي .
للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا
قوله تعالى: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون سبب نزولها: أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك ثلاث بنات وامرأة ، فقام رجلان من بني عمه ، يقال لهما: قتادة ، وعرفطة فأخذا ماله ، ولم يعطيا امرأته ، ولا بناته شيئا ، فجاءت امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له ذلك ، وشكت الفقر ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . وقال قتادة: كانوا لا يورثون النساء ، فنزلت هذه الآية .
والمراد بالرجال: الذكور ، وبالنساء: الإناث ، صغارا كانوا أو كبارا .
[ ص: 19 ] و"النصيب": الحظ من الشيء ، وهو مجمل في هذه الآية ، ومقداره معلوم من موضع آخر ، وذلك مثل قوله: وآتوا حقه يوم حصاده [الأنعام: 141] وقوله: خذ من أموالهم صدقة [التوبة: 103] والمفروض: الذي فرضه الله ، وهو آكد من الواجب .
وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا
قوله تعالى: وإذا حضر القسمة أولو القربى في هذه القسمة قولان .
أحدهما: قسمة الميراث بعد موت الموروث ، فعلى هذا يكون الخطاب للوارثين ، وبهذا قال الأكثرون ، منهم ابن عباس ، والحسن ، والزهري .
والثاني: أنها وصية الميت قبل موته ، فيكون مأمورا بأن يعين لمن لا يرثه شيئا ، روي عن ابن عباس ، وابن زيد . قال المفسرون: والمراد بأولي القربى: الذين لا يرثون ، "فارزقوهم منه" أي: أعطوهم منه ، وقيل: أطعموهم ، وهذا على الاستحباب عند الأكثرين ، وذهب قوم إلى أنه واجب في المال ، فإن كان الورثة كبارا ، تولوا إعطاءهم ، وإن كانوا صغارا ، تولى ذلك عنهم ولي مالهم ، فروي عن عبيدة أنه قسم مال أيتام ، فأمر بشاة ، فاشتريت من مالهم ، وبطعام فصنع ، وقال: لولا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي وكذلك فعل محمد بن سيرين في أيتام وليهم ، وكذلك روي عن مجاهد: أن ما تضمنته هذه الآية واجب .
وفي "القول المعروف" أربعة أقوال .
أحدها: أن يقول: لهم الولي حين يعطيهم: خذ بارك الله فيك ، رواه سالم الأفطس ، عن ابن جبير . [ ص: 20 ] والثاني: أن يقول: الولي: إنه مال يتامى ، ومالي فيه شيء ، رواه أبو بشر عن ابن جبير . وفي رواية أخرى عن ابن جبير ، قال: إن كان الميت أوصى لهم بشيء أنفذت لهم وصيتهم ، وإن كان الورثة كبارا رضخوا لهم ، وإن كانوا صغارا ، قال وليهم: إني لست أملك هذا المال ، إنما هو للصغار ، فذلك القول المعروف .
والثالث: أنه العدة الحسنة ، وهو أن يقول: لهم أولياء الورثة: إن هؤلاء الورثة صغار ، فإذا بلغوا ، أمرناهم أن يعرفوا حقكم ، رواه عطاء بن دينار ، عن ابن جبير .
والرابع: أنهم يعطون من المال ، ويقال لهم عند قسمة الأرضين والرقيق: بورك فيكم ، وهذا القول المعروف . قال الحسن والنخعي: أدركنا الناس يفعلون هذا .
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (107)
صــ21 إلى صــ 25
أحدهما: أنها محكمة ، وهو قول أبي موسى الأشعري ، وابن عباس [ ص: 21 ] والحسن ، وأبي العالية ، والشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والنخعي ، والزهري ، وقد ذكرنا أن ما تضمنته من الأمر مستحب عند الأكثرين ، وواجب عند بعضهم .
والقول الثاني: أنها منسوخة نسخها قوله: "يوصيكم الله في أولادكم" رواه مجاهد عن ابن عباس ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة في آخرين .
وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا
[ ص: 22 ] قوله تعالى: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا اختلفوا في المخاطب بهذه الآية على ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه خطاب للحاضرين عند الموصي ، وفي معنى الآية: على هذا القول قولان . . أحدهما: وليخش الذين يحضرون موصيا في ماله أن يأمروه بتفريقه فيمن لا يرثه ، فيفرقه ، ويترك ورثته ، كما لو كانوا هم الموصين لسرهم أن يحثهم من حضرهم على حفظ الأموال للأولاد ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني: على الضد من هذا القول ، وهو أنه نهي لحاضري الموصي أي: يمنعوه من الوصية لأقاربه ، وأن يأمروه بالاقتصار على ولده ، وهذا قول مقسم ، وسليمان التيمي في آخرين .
والقول الثاني: أنه خطاب لأولياء اليتامى متعلق بقوله: ولا تأكلوها إسرافا وبدارا فمعنى الكلام: أحسنوا فيمن وليتم من اليتامى ، كما تحبون أن يحسن ولاة أولادكم بعدكم ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، وابن السائب .
والثالث: أنه خطاب للأوصياء أمروا بأداء الوصية على ما رسم الموصي ، وأن تكون الوجوه التي عينها مرعية بالمحافظة كرعي الذرية الضعاف من غير تبديل ، ثم نسخ ذلك بقوله: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه [البقرة: 182] فأمر الوصي بهذه الآية إذا وجد ميلا عن الحق أن يستعمل قضية الشرع ، ويصلح بين الورثة ، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله ، وغيره ، في "الناسخ والمنسوخ" فعلى هذا تكون الآية منسوخة ، وعلى ما قبله تكون محكمة .
[ ص: 23 ] و"الضعاف": جمع ضعيف ، وهم الأولاد الصغار . وقرأ حمزة: "ضعافا" بإمالة العين .
قال أبو علي: ووجهها: أن ما كان على "فعال" وكان أوله حرفا مستعليا مكسورا ، نحو ضعاف ، وقفاف ، وخفاف; حسنت فيه الإمالة ، لأنه قد يصعد بالحرف المستعلي ، ثم يحدر بالكسر ، فيستحب أن لا يصعد بالتفخيم بعد التصوب بالكسر ، فيجعل الصوت على طريقة واحدة ، وكذلك قرأ حمزة: خافوا عليهم بإمالة الخاء ، والإمالة هاهنا: حسنة ، وإن كانت "الخاء" حرفا مستعليا ، لأنه يطلب الكسرة التي في "خفت" فينحو نحوها بالإمالة . والقول السديد: الصواب .
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا
قوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما في سبب نزولها قولان .
أحدهما ، أن رجلا من غطفان ، يقال له: مرثد بن زيد ، ولي مال ابن أخيه ، فأكله ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل بن حيان .
والثاني: أن حنظلة بن الشمردل ولي يتيما ، فأكل ماله ، فنزلت هذه الآية ، ذكره بعض المفسرين . وإنما خص الأكل بالذكر ، لأنه معظم المقصود ، وقيل: عبر به عن الأخذ .
قال سعيد بن جبير: ومعنى الظلم: أن يأخذه بغير حق . وأما ذكر "البطون" فللتوكيد ، كما تقول: نظرت بعيني ، وسمعت بأذني . وفي المراد بأكلهم النار قولان .
أحدهما: أنهم سيأكلون يوم القيامة نارا ، فسمي الأكل بما يؤول إليه أمرهم ، كقوله: أعصر خمرا [يوسف: 36] قال السدي: يبعث آكل مال اليتيم ظلما ، ولهب [ ص: 24 ] النار يخرج من فيه ، ومن مسامعه ، وأذنيه ، وأنفه ، وعينيه ، يعرفه من رآه يأكل مال اليتيم .
والثاني: أنه مثل . معناه: يأكلون ما يصيرون به إلى النار ، كقوله: ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه [آل عمران: 143] أي: رأيتم أسبابه .
قوله تعالى: وسيصلون سعيرا قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، "وسيصلون" بفتح الياء ، وقرأ الحسن ، وابن عامر ، بضم الياء ، ووافقهما ابن مقسم ، إلا أنه شدد . والمعنى: سيحرقون بالنار ، ويشوون . والسعير: النار المستعرة ، واستعار النار: توقدها .
فصل
وقد توهم قوم لا علم لهم بالتفسير وفقهه ، أن هذه الآية منسوخة ، لأنهم سمعوا أنها لما نزلت ، تحرج القوم عن مخالطة اليتامى ، فنزل قوله: وإن تخالطوهم فإخوانكم [البقرة: 220] وهذا غلط ، وإنما ارتفع عنهم الحرج بشرط قصد الإصلاح ، لا على إباحة الظلم .
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين
[ ص: 25 ] آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما
قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها: أن جابر بن عبد الله مرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: كيف أصنع في مالي يا رسول الله ، فنزلت هذه الآية ، رواه البخاري ومسلم .
والثاني: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابنتين لها ، فقالت: يا رسول قتل أبو هاتين معك يوم أحد ، وقد استفاء عمهما مالهما ، فنزلت ، روي عن جابر بن عبد الله أيضا .
والثالث: أن عبد الرحمن أخا حسان بن ثابت مات ، وترك امرأة ، وخمس بنات ، فأخذ ورثته ماله ، ولم يعطوا امرأته ، ولا بناته شيئا ، فجاءت امرأته ، تشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول السدي ،
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (108)
صــ26 إلى صــ 30
قال الزجاج : ومعنى يوصيكم: يفرض عليكم ، لأن الوصية منه فرض ، وقال غيره: إنما ذكره بلفظ الوصية لأمرين .
أحدهما: أن الوصية تزيد على الأمر ، فكانت آكد .
والثاني: أن في الوصية حقا للموصي ، فدل على تأكيد الحال بإضافته إلى حقه . وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة: "يوصيكم" بالتشديد .
قوله تعالى: للذكر مثل حظ الأنثيين يعني: ، للابن من الميراث مثل حظ الأنثيين ، ثم ذكر نصيب الإناث من الأول ، فقال: فإن كن يعني: البنات (نساء فوق اثنتين وفي قوله: "فوق" قولان .
أحدهما: أنها زائدة ، كقوله فاضربوا فوق الأعناق [الأنفال: 13]
والثاني: أنهم بمعنى: الزيادة ، قال القاضي أبو يعلى: إنما نص على ما فوق الاثنتين ، والواحدة ولم ينص على الاثنتين لأنه لما جعل لكل واحدة مع الذكر الثلث ، كان لها مع الأنثى الثلث أولى .
قوله تعالى: وإن كانت واحدة قرأ الجمهور بالنصب ، وقرأ نافع بالرفع ، على معنى: وإن وقعت ، أو وجدت واحدة .
قوله تعالى: ولأبويه قال الزجاج : أبواه تثنية أب وأبة ، والأصل في الأم أن يقال لها: أبة ، ولكن استغنى عنها بأم ، والكناية في قوله "لأبويه" عن الميت وإن لم يجر له ذكر .
وقوله تعالى: فلأمه الثلث أي: إذا لم يخلف غير أبوين ، فثلث ماله لأمه ، والباقي للأب ، وإنما خص الأم بالذكر ، لأنه لو اقتصر على قوله: وورثه أبواه ظن الظان أن المال يكون بينهما نصفين ، فلما خصها بالثلث ، دل على التفضيل .
[ ص: 27 ] وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر "فلأمه" و في بطون أمهاتكم [الزمر: 6] و في أمها [القصص: 59] وفي أم الكتاب [الزخرف: 4] بالرفع . وقرأ حمزة ، والكسائي كل ذلك بالكسر إذا وصلا ، وحجتهما: أنهما أتبعا الهمزة ما قبلها ، من ياء أو كسرة .
قوله تعالى: فإن كان له إخوة أي: مع الأبوين ، فإنهم يحجبون الأم عن الثلث ، فيردونها إلى السدس ، واتفقوا على أنهم إذا كانوا ثلاثة إخوة ، حجبوا ، فإن كانا أخوين ، فهل يحجبانها؟ فيه قولان .
أحدهما: يحجبانها عن الثلث ، قاله عمر ، وعثمان ، وعلي ، وزيد ، والجمهور .
والثاني: لا يحجبها إلا ثلاثة ، قاله ابن عباس ، واحتج بقوله: إخوة . والأخوة: اسم جمع ، واختلفوا في أقل الجمع ، فقال: الجمهور: أقله ثلاثة ، وقال قوم: اثنان ، والأول: أصح . وإنما حجب العلماء الأم بأخوين لدليل اتفقوا عليه ، وقد يسمى الاثنان بالجمع ، قال الزجاج : جميع أهل اللغة يقولون: [ ص: 28 ] إن الأخوين جماعة ، وحكى سيبويه أن العرب تقول: وضعا رحالهما ، يريدون: رحلي راحلتيهما .
قوله تعالى: من بعد وصية أي: هذه السهام إنما تقسم بعد الوصية والدين . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر ، عن عاصم "يوصى بها" بفتح الصاد في الحرفين . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي: "يوصي" فيهما بالكسر ، وقرأ حفص ، عن عاصم الأولى بالكسر ، والثانية بالفتح .
واعلم أن الدين مؤخر في اللفظ ، مقدم في المعنى ، لأن الدين حق عليه ، والوصية حق له ، وهما جميعا مقدمان على حق الورثة إذا كانت الوصية في ثلث المال ، و"أو" لا توجب الترتيب ، إنما تدل على أن أحدهما إن كان ، فالميراث بعده ، وكذلك إن كانا .
[ ص: 29 ] قوله تعالى: آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فيه قولان .
أحدهما: أنه النفع في الآخرة ثم فيه قولان .
أحدهما: أن الوالد إذا كان أرفع درجة من ولده ، رفع إليه ولده ، وكذلك الولد ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثاني: أنه شفاعة بعضهم في بعض ، رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
والقول الثاني أنه النفع في الدنيا ، قاله مجاهد . ثم في معناه: قولان .
أحدهما: أن المعنى: لا تدرون هل موت الآباء أقرب ، فينتفع الأبناء بأموالهم ، أو موت الأبناء ، فينتفع الآباء بأموالهم؟ قاله ابن بحر .
والثاني: أن المعنى: أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع ، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعا ، لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء ، والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء ، ذكره القاضي أبو يعلى .
وقال الزجاج : معنى الكلام: أن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة . ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم ، فتضعون الأموال على غير حكمة . إن الله كان عليما بما يصلح خلقه ، حكيما فيما فرض .
وفي معنى "كان" ثلاثة أقوال .
أحدها: أن معناها: كان عليما بالأشياء قبل خلقها ، حكيما فيما يقدر تدبيره منها ، قاله الحسن .
والثاني: أن معناها: لم يزل . قال سيبويه: كأن القوم شاهدوا علما وحكمة ، [ ص: 30 ] فقيل: لهم: إن الله كان كذلك ، أي: لم يزل على ما شاهدتم ، ليس ذلك بحادث .
والثالث: أن لفظة "كان" في الخبر عن الله عز وجل يتساوى ماضيها ومستقبلها ، لأن الأشياء عنده على حال واحدة ، ذكر هذه الأقوال . الزجاج .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (109)
صــ31 إلى صــ 35
ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم
قوله تعالى: وإن كان رجل يورث كلالة قرأ الحسن: "يورث" بفتح الواو ، وكسر الراء مع التشديد . وفي الكلالة أربعة أقوال .
أحدها: أنها ما دون الوالد والولد ، قاله أبو بكر الصديق . وقال عمر ابن الخطاب: أتى على حين وأنا لا أعرف ما الكلالة ، فإذا هو: من لم يكن له والدا ولا ولدا ، وهذا قول علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، [ ص: 31 ] والحسن ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والزهري ، وقتادة ، والفراء ، وذكر الزجاج عن أهل اللغة ، أن "الكلالة": من قولهم: تكلله النسب ، أي: لم يكن الذي يرثه ابنه ، ولا أباه . قال: والكلالة سوى الوالد والولد ، وإنما هو كالإكليل على الرأس . وذكر ابن قتيبة عن أبي عبيدة أنه مصدر تكلله النسب: إذا أحاط به . والابن والأب: طرفان للرجل ، فإذا مات ، ولم يخلفهما ، فقد مات عن ذهاب طرفيه ، فسمي ذهاب الطرفين: كلالة [وكأنها اسم للمصيبة في تكلل النسب مأخوذ منه; نحو هذا قولهم: وجهت الشيء" أخذت وجهه ، وثغرت الرجل: كسرت ثغره]
والثاني: أن الكلالة: من لا ولد له ، رواه ابن عباس ، عن عمر بن الخطاب ، وهو قول طاوس .
والثالث: أن الكلالة: ما عدا الوالد ، قاله الحكم .
والرابع: أن الكلالة: بنو العم الأباعد ، ذكره ابن فارس ، عن ابن الأعرابي .
واختلفوا على ما يقع اسم الكلالة على ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه اسم للحي الوارث ، وهذا مذهب أبي بكر الصديق ، وعامة [ ص: 32 ] العلماء الذين قالوا: إن الكلالة من دون الوالد والولد ، فإنهم قالوا: الكلالة: اسم للورثة إذا لم يكن فيهم ولد ولا والد ، قال بعض الأعراب: مالي كثير ، ويرثني كلالة متراخ نسبهم .
والثاني: أنه اسم للميت ، قاله ابن عباس ، والسدي ، وأبو عبيدة في جماعة . قال القاضي أبو يعلى: الكلالة: اسم للميت ، ولحاله ، وصفته ، ولذلك انتصب .
والثالث: أنه اسم للميت والحي ، قاله ابن زيد .
وفيما أخذت منه الكلالة قولان .
أحدهما: أنه اسم مأخوذ من الإحاطة ، ومنه الإكليل ، لإحاطته بالرأس .
والثاني: أنه مأخوذ من الكلال ، وهو التعب ، كأنه يصل إلى الميراث من بعد وإعياء . قال الأعشى :
فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من حفى حتى تزور محمدا
[ ص: 33 ] قوله: وله أخ أو أخت يعني: من الأم بإجماعهم .
قوله تعالى: فهم شركاء في الثلث قال قتادة: ذكرهم وأنثاهم فيه سواء .
قوله تعالى: غير مضار قال الزجاج : غير منصوب على الحال ، والمعنى: يوصي بها غير مضار ، يعني: للورثة .
تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم
قوله تعالى: تلك حدود الله قال ابن عباس : يريد ما حد الله من فرائضه في الميراث ومن يطع الله ورسوله في شأن المواريث يدخله جنات قرأ ابن عامر ، ونافع: "ندخله" بالنون في الحرفين جميعا ، والباقون بالياء فيهما .
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين
قوله تعالى: ومن يعص الله فلم يرض بقسمه (يدخله نارا فإن قيل: كيف قطع للعاصي بالخلود؟ فالجواب: أنه إذا رد حكم الله ، وكفر به ، كان كافرا مخلدا في النار .
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا
قوله تعالى: واللاتي يأتين الفاحشة قال الزجاج : "التي" تجمع اللاتي واللواتي .
قال الشاعر: [ ص: 34 ]
من اللواتي والتي واللاتي زعمن أني كبرت لداتي
وتجمع اللاتي بإثبات التاء وحذفها .
قال الشاعر:
من اللاتي لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفلا
والفاحشة: الزنى في قول الجماعة . وفي قوله: فاستشهدوا عليهن قولان .
أحدهما: أنه خطاب للأزواج .
والثاني: خطاب للحكام ، فالمعنى: اسمعوا شهادة أربعة منكم ، ذكرهما الماوردي . قال عمر بن الخطاب: إنما جعل الله عز وجل الشهور أربعة سترا ستركم به دون فواحشكم . ومعنى "منكم": من المسلمين .
قوله تعالى: فأمسكوهن في البيوت قال ابن عباس : كانت المرأة إذا زنت ، حبست في البيت حتى تموت ، فجعل الله لهن سبيلا ، وهو الجلد ، أو الرجم .
واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما
قوله تعالى: واللذان قرأ ابن كثير: "واللذان" بتشديد النون ، و"هذان" في (طه) و(الحج) و"هاتين" في (القصص): إحدى ابنتي هاتين و"فذانك" [ ص: 35 ] كله بتشديد النون . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، بتخفيف ذلك كله ، وشدد أبو عمرو "فذانك" وحدها .
وقوله: واللذان: يعني: الزانيين . وهل هو عام ، أم لا؟ فيه قولان .
أحدهما: أنه عام في الأبكار والثيب من الرجال والنساء ، قاله الحسن ، وعطاء .
والثاني: أنه خاص في البكرين إذا زنيا ، قاله أبو صالح ، والسدي ، وابن زيد ، وسفيان . قال القاضي أبو يعلى: والأول أصح ، لأن هذا تخصيص بغير دلالة .
قوله تعالى: يأتيانها يعني: الفاحشة . قوله: فآذوهما فيه قولان .
أحدهما: أنه الأذى بالكلام ، والتعيير ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والسدي ، والضحاك ، ومقاتل .
والثاني: أنه التعيير ، والضرب بالنعال ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس . فإن تابا من الفاحشة وأصلحا العمل فأعرضوا عن أذاهما . وهذا كله كان قبل الحد .
فصل
كان حد الزانيين ، فيما تقدم ، الأذى لهما ، والحبس للمرأة خاصة ، فنسخ الحكمان جميعا ، واختلفوا بماذا وقع نسخهما ، فقال: قوم: بحديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ، الثيب بالثيب جلد مائة ، ورجم بالحجارة ، والبكر بالبكر جلد مائة ، ونفي سنة وهذا على قول من يرى نسخ القرآن بالسنة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (110)
صــ36 إلى صــ 40
وقال قوم: نسخ بقوله: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة" [النور: 2] قالوا: وكان قوله: "واللذان يأتيانها" للبكرين ، فنسخ حكمهما بالجلد ، ونسخ حكم الثيب من النساء بالرجم .
وقال قوم: يحتمل أن يكون النسخ وقع بقرآن ، ثم رفع رسمه ، وبقي حكمه ، لأن في حديث عبادة "قد جعل الله لهن سبيلا" والظاهر: أنه جعل بوحي لم تستقر تلاوته . قال القاضي أبو يعلى: وهذا وجه صحيح ، يخرج على قول من لم ينسخ القرآن بالسنة . قال: ويمتنع أن يقع النسخ بحديث عبادة ، لأنه من أخبار الآحاد ، والنسخ لا يجوز بذلك .
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما
قوله تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة قال الحسن: إنما التوبة التي يقبلها الله ، فأما "السوء" ، فهو المعاصي ، سمي سوء لسوء عاقبته . [ ص: 37 ] قوله تعالى: بجهالة قال مجاهد: كل عاص فهو جاهل حين معصيته . وقال الحسن ، وعطاء ، وقتادة ، والسدي في آخرين: إنما سموا جهالا لمعاصيهم ، لا أنهم غير مميزين .
وقال الزجاج : ليس معنى الآية: أنهم يجهلون أنه سوء ، لأن المسلم لو أتى ما يجهله ، كان كمن لم يوقع سوء ، وإنما يحتمل أمران .
أحدهما: أنهم عملوه ، وهم يجهلون المكروه فيه .
والثاني: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة ، وآثروا العاجل على الآجل ، فسموا جهالا ، لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة ، والعاقبة الدائمة .
وفي "القريب" ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه التوبة في الصحة ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال السدي ، وابن السائب .
والثاني: أنه التوبة قبل معاينة ملك الموت ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال أبو مجلز .
والثالث: أنه التوبة قبل الموت ، وبه قال ابن زيد في آخرين .
[ ص: 38 ] وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما
قوله تعالى: وليست التوبة للذين يعملون السيئات في السيئات ثلاثة أقوال .
أحدها: الشرك ، قاله ابن عباس ، وعكرمة .
والثاني: أنها النفاق ، قاله أبو العالية ، وسعيد بن جبير .
والثالث: أنها سيئات المسلمين ، قاله سفيان الثوري ، واحتج بقوله ولا الذين يموتون وهم كفار .
قوله تعالى: حتى إذا حضر أحدهم الموت في الحضور قولان .
أحدهما: أنه السوق ، قاله ابن عمر .
والثاني: أنه معاينة الملائكة لقبض الروح ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقد روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال: أنزل الله تعالى بعد هذه الآية: إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [النساء: 116] . فحرم المغفرة على من مات مشركا ، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته [فلم يؤيسهم من المغفرة] . فعلى هذا تكون منسوخة في حق المؤمنين .
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها سبب [ ص: 39 ] نزولها: أن الرجل كان إذا مات ، كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاؤوا زوجوها ، وإن شاؤوا لم يزوجوها ، فنزلت هذه الآية . قاله ابن عباس . وقال في رواية أخرى: كانوا في أول الإسلام إذا مات الرجل ، قام أقرب الناس منه ، فيلقي على امرأته ثوبا ، فيرث نكاحها . وقال مجاهد: كان إذا توفي الرجل ، فابنه الأكبر أحق بامرأته ، فينكحها إن شاء ، أو ينكحها من شاء ، وقال أبو أمامة بن سهل ابن حنيف: لم توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته من بعده ، وكان ذلك لهم في الجاهلية ، فنزلت هذه الآية . قال عكرمة: واسم هذه المرأة: كبيشة بنت معن بن عاصم ، وكان هذا في العرب . وقال أبو مجلز: كانت الأنصار تفعله . وقال ابن زيد: كان هذا في أهل المدينة . وقال السدي: إنما كان ذلك للأولياء ما لم تسبق المرأة ، فتذهب إلى أهلها ، فإن ذهبت ، فهي أحق بنفسها .
وفي معنى قوله: أن ترثوا النساء كرها قولان .
أحدهما: أن ترثوا نكاح النساء ، وهذا قول الجمهور .
والثاني: أن ترثوا أموالهن كرها . روى ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال: كان يلقي حميم الميت على الجارية ثوبا ، فإن كانت جميلة تزوجها ، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت ، فيرثها .
[ ص: 40 ] 2 - واختلف القراء في فتح كاف "الكره" وضمتها في أربعة مواضع: هاهنا ، وفي "التوبة" وفي "الأحقاف" في موضعين ، فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو بفتح الكاف فيهن ، وضمهن حمزة . وقرأ عاصم ، وابن عامر بالفتح في "النساء" و"التوبة" ، وبالضم في "الأحقاف" . وهما لغتان ، قد ذكرناهما في "البقرة" .
وفيمن خوطب بقوله: "ولا تعضلوهن" ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه خطاب للأزواج ، ثم في العضل الذي نهى عنه ثلاثة أقوال .
أحدها: أن الرجل كان يكره صحبة امرأته ، ولها عليه مهر ، فيحبسها ، ويضربها لتفتدي ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي .
والثاني: أن الرجل كان ينكح المرأة الشريفة ، فلعلها لا توافقه ، فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ، ويشهد على ذلك ، فإذا خطبت ، فأرضته ، أذن لها ، وإلا عضلها قاله ابن زيد .
والثالث: أنهم كانوا بعد الطلاق يعضلون ، كما كانت الجاهلية تفعل ، فنهوا عن ذلك ، روي عن ابن زيد أيضا . وقد ذكرنا في "البقرة" أن الرجل كان يطلق المرأة ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها كذلك أبدا إلى غير غاية يقصد إضرارها ، حتى نزلت الطلاق مرتان [البقرة: 229] .
والقول الثاني: أنه خطاب للأولياء ، ثم في ما نهوا عنه ثلاثة أقوال .
أحدها: أن الرجل كان في الجاهلية إذا كانت له قرابة قريبة ، ألقى عليها ثوبه ، فلم تتزوج أبدا غيره إلا بإذنه ، قاله ابن عباس .
والثاني: أن اليتيمة كانت تكون عند الرجل فيحبسها حتى تموت ، أو تتزوج بابنه ، قاله مجاهد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (111)
صــ41 إلى صــ 45
[ ص: 41 ] والثالث: أن الأولياء كانوا يمنعون النساء من التزويج ، ليرثوهن ، روي عن مجاهد أيضا .
والقول الثالث: أنه خطاب لورثة أزواج النساء الذين قيل: لهم: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها . كان الرجل يرث امرأة قريبة ، فيعضلها حتى تموت ، أو ترد عليه صداقها . هذا قول ابن عباس في آخرين . وعلى هذا يكون الكلام متصلا بالأول ، وعلى الأقوال . التي قبله يكون ذكر العضل منفصلا عن قوله: أن ترثوا النساء .
وفي الفاحشة قولان . . أحدهما: أنها النشوز على الزوج ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة في جماعة .
والثاني: الزنى ، قاله الحسن ، وعطاء ، وعكرمة في جماعة . وقد روى معمر عن عطاء الخراساني ، قال: كانت المرأة إذا أصابت فاحشة ، أخذ زوجها ما ساق إليها ، وأخرجها ، فنسخ ذلك بالحد . قال ابن جرير: وهذا القول ليس بصحيح ، لأن الحد حق الله ، والافتداء حق للزوج ، وليس أحدهما: مبطلا للآخر ، [ ص: 42 ] والصحيح: أنها إذا أتت بأي فاحشة كانت ، من زنى الفرج ، أو بذاءة اللسان ، جاز له أن يعضلها ، ويضيق عليها حتى تفتدي . فأما قوله: "مبينة" فقرأ ابن كثير ، وأبو بكر ، عن عاصم: "مبينة" ، و"آيات مبينات" بفتح الياء فيهما جميعا . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، عن عاصم: بكسر الياء فيهما ، وقرأ نافع ، أبو عمرو "مبينة" كسرا و"آيات مبينات" فتحا . وقد سبق ذكر "العشرة" .
قوله تعالى: فعسى أن تكرهوا شيئا قال ابن عباس : ربما رزق الله منهما ولدا ، فجعل الله في ولدها خيرا كثيرا . وقد ندبت الآية إلى إمساك المرأة مع الكراهة لها ، ونبهت على معنيين . أحدهما: أن الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح ، فرب مكروه عاد محمودا ، ومحمود عاد مذموما .
والثاني: أن الإنسان لا يكاد يجد محبوبا ليس فيه ما يكره ، فليصبر على ما يكره لما يحب . وأنشدوا في هذا المعنى:
ومن لم يغمض عينه عن صديقه وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة
يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب .
[ ص: 43 ] وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا
قوله تعالى: وإن أردتم استبدال زوج هذا الخطاب للرجال . والزوج: المرأة . وقد سبق ذكر "القنطار" في (آل عمران .
قوله تعالى: فلا تأخذوا منه شيئا إنما ذلك في حق من وطئها ، أو خلا بها ، وقد بينت ذلك الآية التي بعدها . قال القاضي أبو يعلى: وإنما خص النهي عن أخذ شيء مما أعطى بحال الاستبدال ، وإن كان المنع عاما ، لئلا يظن ظان أنه لما عاد البضع إلى ملكها ، وجب أن يسقط حقها من المهر ، أو يظن ظان أن الثانية أولى بالمهر منها ، لقيامها مقامها .
وفي البهتان قولان . . أحدهما: أنه الظلم ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة .
والثاني: الباطل ، قاله الزجاج . ومعنى الكلام: أتأخذونه مباهتين آثمين .
وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا
قوله تعالى: وكيف تأخذونه أي: كيف تستجيزون أخذه . وفي "الإفضاء" قولان .
أحدهما: أنه الجماع ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، ومقاتل ، وابن قتيبة .
والثاني: الخلوة بها ، وإن لم يغشها ، قاله الفراء .
وفي المراد بالميثاق هاهنا: ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه الذي أخذه الله للنساء على الرجال; الإمساك بمعروف ، أو التسريح بإحسان . هذا قول ابن عباس ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل .
[ ص: 44 ] والثاني: أنه عقد النكاح ، قاله مجاهد ، وابن زيد .
والثالث: أنه أمانة الله ، قاله الربيع .
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا
قوله تعالى: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب ، والجمع بين الأختين ، فنزلت هذه الآية . وقال بعض الأنصار: توفي أبو قيس بن الأسلت ، فخطب ابنه قيس امرأته ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تستأذنه ، وقالت: إنما كنت أعده ولدا ، فنزلت هذه الآية .
قال أبو عمر غلام ثعلب: الذي حصلناه عن ثعلب ، عن الكوفيين ، والمبرد عن البصريين ، أن "النكاح" في أصل اللغة: اسم للجمع بين الشيئين . وقد سموا الوطء نفسه نكاحا من غير عقد .
قال الأعشى:
ومنكوحة غير ممهورة
يعني: المسبية الموطوءة بغير مهر ولا عقد . قال القاضي أبو يعلى: قد يطلق النكاح على العقد ، قال الله تعالى: إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [الأحزاب: 49] وهو حقيقة في الوطء ، مجاز في العقد ، لأنه اسم للجمع ، والجمع: إنما يكون بالوطء ، فسمي العقد نكاحا ، لأنه سبب إليه .
قوله تعالى: إلا ما قد سلف فيه ستة أقوال .
أحدها: أنها بمعنى: بعد ما قد سلف ، فإن الله يغفره ، قاله الضحاك ، والمفضل . [ ص: 45 ] وقال الأخفش: المعنى: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم ، فإنكم تعذبون به ، إلا ما قد سلف ، فقد وضعه الله عنكم .
والثاني: أنها بمعنى: سوى ما قد سلف ، قاله الفراء .
والثالث: أنها بمعنى: لكن ما قد سلف فدعوه ، قاله قطرب . وقال ابن الأنباري: لكن ما قد سلف ، فإنه كان فاحشة .
والرابع: أن المعنى: ولا تنكحوا كنكاح آبائكم النساء ، أي: كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا تجوز في الإسلام إلا ما قد سلف في جاهليتكم ، من نكاح لا يجور ابتداء مثله في الإسلام ، فإنه معفو لكم عنه ، وهذا كقول القائل: لا تفعل ما فعلت ، أي: لا تفعل مثل ما فعلت ، ذكره ابن جرير .
والخامس: أنها بمعنى: "الواو" فتقديرها: ولا ما قد سلف ، فيكون المعنى: اقطعوا ما أنتم عليه من نكاح الآباء ، ولا تبتدئوا ، قاله بعض أهل المعاني .
والسادس: أنها للاستثناء ، فتقدير الكلام: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح [الجائز الذي كان عقده بينهم] إلا ما قد سلف منهم بالزنى ، والسفاح ، فإنهن حلال لكم ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى: "إنه" يعني: النكاح ، و"الفاحشة": ما يفحش ويقبح . و"المقت": أشد البغض . وفي المراد بهذا "المقت" قولان .
أحدهما: أنه اسم لهذا النكاح ، وكانوا يسمون نكاح امرأة الأب في الجاهلية: مقتا ، ويسمون الولد منه: "المقتي" . فأعلموا أن هذا الذي حرم عليهم [من نكاح امرأة الأب] لم يزل منكرا [في قلوبهم] ممقوتا عندهم . هذا قول الزجاج .
[ ص: 46 ] والثاني: أنه يوجب مقت الله لفاعله ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله: وساء سبيلا قال ابن قتيبة: أي: قبح هذا الفعل طريقا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (112)
صــ46 إلى صــ 50
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما
قوله تعالى: حرمت عليكم أمهاتكم قال الزجاج : الأصل في أمهات: أمات ، ولكن الهاء زيدت مؤكدة ، كما زادوها في: أهرقت الماء ، وإنما أصله: أرقت .
قوله تعالى: وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم إنما سمين أمهات ، لموضع الحرمة .
واختلفوا: هل يعتبر في الرضاع العدد ، أم لا؟ فنقل حنبل ، عن أحمد: أنه يتعلق التحريم بالرضعة الواحدة ، وهو قول عمر ، وعلي ، وابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، وطاووس ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، والأوزاعي ، والثوري ، ومالك ، وأبي حنيفة وأصحابه . ونقل محمد بن العباس ، عن أحمد: أنه يتعلق التحريم بثلاث رضعات . ونقل أبو الحارث ، عن أحمد: لا يتعلق بأقل من [ ص: 47 ] خمس رضعات متفرقات ، وهو قول الشافعي .
قوله تعالى: وأمهات نسائكم أمهات النساء: يحرمن بنفس العقد على البنت ، سواء دخل بالبنت ، أو لم يدخل ، وهذا قول عمر ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وعمران بن حصين ، ومسروق ، وعطاء ، وطاووس ، والحسن والجمهور . وقال علي رضي الله عنه في رجل طلق امرأته قبل الدخول: له أن يتزوج أمها وهذا قول مجاهد ، وعكرمة .
قوله تعالى: وربائبكم الربيبة: بنت امرأة الزوج من غيره ، ومعنى الربيبة: مربوبة ، لأن الرجل يربيها ، وخرج الكلام على الأعم من كون التربية في حجر الرجل ، لا على الشرط . قوله: وحلائل أبنائكم قال الزجاج : الحلائل: الأزواج . وحليلة: بمعنى: محلة ، وهي مشتقة من الحلال . وقال غيره: سميت بذلك ، لأنها [ ص: 48 ] تحل معه أينما كان . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، قال: الحليل: الزوج ، والحليلة: المرأة ، وسميا بذلك ، إما لأنهما يحلان في موضع واحد ، أو لأن كل واحد منهما يحال صاحبه ، أي: ينازله ، أو لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه . قوله: الذين من أصلابكم قال عطاء: إنما ذكر الأصلاب ، لأجل الأدعياء . والكلام في قوله: إلا ما قد سلف على نحو ما تقدم في الآية التي قبلها . وقد زادوا في هذا قولين آخرين . أحدهما: إلا ما قد سلف من أمر يعقوب عليه السلام ، لأنه جمع بين أم يوسف وأختها ، وهذا مروي عن عطاء ، والسدي ، وفيه ضعف لوجهين .
أحدهما: أن هذا التحريم يتعلق بشريعتنا ، وليس كل الشرائع تتفق ، ولا وجه للعفو عنا فيما فعله غيرنا . والثاني: أنه لو طولب قائل هذا بتصحيح نقله ، لعسر عليه .
والقول الثاني: أن تكون فائدة هذا الاستثناء أن العقود المتقدمة على الأختين لا تنفسخ ، ويكون للإنسان أن يختار إحداهما ، ومنه حديث فيروز الديلمي قال: أسلمت وعندي أختان ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "طلق إحداهما" ذكره القاضي أبو يعلى .
[ ص: 49 ] والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما
قوله: والمحصنات من النساء أما سبب نزولها ، فروى أبو سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهن ، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فاستحللناهن .
وأما خلاف القراء ، فقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة بفتح الصاد في كل القرآن ، وفتح الكسائي الصاد في هذه وحدها ، وقرأ سائر القرآن بالكسر ، و"المحصنات" و"محصنات" . قال ابن قتيبة: والإحصان: أن يحمي الشيء ، ويمنع منه ، فالمحصنات [من النساء]: ذوات الأزواج ، لأن الأزواج أحصنوهن ، ومنعوا منهن . قال الله تعالى: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم والمحصنات: الحرائر وإن لم يكن متزوجات ، لأن الحرة تحصن وتحصن ، وليست كالأمة ، قال الله تعالى: ومن لم [ ص: 50 ] يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات [ النساء: 25] وقال: فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [النساء: 25] يعني: الحرائر ، والمحصنات: العفائف . و قال الله تعالى: والذين يرمون المحصنات [النور: 4] يعني: العفائف . وقال الله تعالى: ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها [التحريم: 12] أي: عفت .
وفي المراد بالمحصنات هاهنا: ثلاثة أقوال .
أحدها: ذوات الأزواج ، وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، وابن جبير ، والنخعي ، وابن زيد ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج .
والثاني: العفائف: فإنهن حرام على الرجال إلا بعقد نكاح ، أو ملك يمين . وهذا قول عمر بن الخطاب ، وأبي العالية ، وعطاء ، وعبيدة ، والسدي .
والثالث: الحرائر ، فالمعنى: أنهن حرام بعد الأربع اللواتي ذكرن في أول السورة ، روي عن ابن عباس ، وعبيدة .
فعلى القول الأول في معنى قوله: إلا ما ملكت أيمانكم قولان .
أحدهما: أن معناه: إلا ما ملكت أيمانكم من السبايا في الحروب ، وعلى هذا تأول الآية علي ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن عمر ، وابن عباس ، وكان هؤلاء لا يرون بيع الأمة طلاقا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (113)
صــ51 إلى صــ 55
والثاني: إلا ما ملكت أيمانكم من الإماء ذوات الأزواج ، بسبي أو غير سبي ، وعلى هذا تأول الآية ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وجابر ، وأنس ، وكان هؤلاء يرون بيع الأمة طلاقا . وقد ذكر ابن جرير ، عن ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والحسن: أنهم قالوا: بيع الأمة طلاقها ، والأول أصح ، [ ص: 51 ] لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة إذ أعتقتها عائشة ، بين المقام مع زوجها الذي زوجها منه سادتها في حال رقها ، وبين فراقه ، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم عتق عائشة إياها طلاقا ، ولو كان طلاقا لم يكن لتخييره إياها معنى . ويدل على صحة القول الأول ما ذكرناه من سبب نزول الآية .
وعلى القول الثاني: العفائف حرام إلا بملك ، والملك يكون عقدا ، ويكون ملك يمين .
وعلى القول الثالث: الحرائر حرام بعد الأربع إلا ما ملكت أيمانكم من الإماء ، فإنهن لم يحصرن بعدد .
قوله تعالى: كتاب الله عليكم قال الزجاج : هو منصوب على التوكيد ، محمول على المعنى ، لأن معنى "حرمت عليكم أمهاتكم": كتب الله عليكم هذا كتابا ، قال: ويجوز أن ينتصب على جهة الأمر ، ويكون "عليكم" مفسرا له ، فيكون المعنى: الزموا كتاب الله . قال: وأحل لكم ما وراء ذلكم أي: ما بعد هذه الأشياء ، إلا أن السنة ، قد حرمت تزويج المرأة على عمتها ، وتزويجها على خالتها ، وقرأ ابن السميفع ، وأبو عمران: ( كتب الله عليكم ) [ ص: 52 ] بفتح الكاف ، والتاء ، والباء ، من غير ألف ، ورفع الهاء . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر: وأحل بفتح الحاء ، وقرأ حمزة ، والكسائي: بضم الألف .
فصل
قال شيخنا علي بن عبيد الله: وعامة العلماء ذهبوا إلى أن قوله: وأحل لكم ما وراء ذلكم تحليل ورد بلفظ العموم ، وأنه عموم دخله التخصيص ، والمخصص له نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها ، أو على خالتها ، وليس هذا على سبيل النسخ . وذهب طائفة إلى أن التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث .
قوله تعالى: أن تبتغوا بأموالكم أي: تطلبوا إما بصداق في نكاح ، أو ثمن في ملك "محصنين" قال ابن قتيبة: متزوجين ، وقال الزجاج : عاقدين التزويج ، وقال غيرهما: متعففين غير زانين . والسفاح: الزنى ، قال ابن قتيبة: أصله من سفحت القربة: إذا صببتها ، فسمي الزنى سفاحا ، لأنه [يسافح] يصب النطفة ، وتصب المرأة النطفة . وقال ابن فارس: السفاح: صب الماء بلا عقد ، ولا نكاح ، فهو كالشيء يسفح ضياعا .
قوله تعالى: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فيه قولان .
[ ص: 53 ] أحدهما: أنه الاستمتاع في النكاح بالمهور ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والجمهور .
والثاني: أنه الاستمتاع إلى أجل مسمى من غير عقد نكاح . وقد روي عن ابن عباس: أنه كان يفتي بجواز المتعة ، ثم رجع عن ذلك وقد تكلف قوم من مفسري القراء ، فقالوا: المراد بهذه الآية نكاح المتعة ، ثم نسخت بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن متعة النساء ، وهذا تكلف لا يحتاج إليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز المتعة ، ثم منع منها ، فكان قوله منسوخا بقوله . وأما الآية ، [ ص: 54 ] فإنها لم تتضمن جواز المتعة . لأنه تعالى قال فيها: أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فدل ذلك على النكاح الصحيح . قال الزجاج : ومعنى قوله: فما استمتعتم به منهن فما نكحتموهن على الشريطة التي جرت ، وهو قوله: محصنين غير مسافحين أي: عاقدين التزويج فآتوهن أجورهن أي: مهورهن . ومن ذهب في الآية إلى غير هذا ، فقد أخطأ ، وجهل اللغة .
قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة فيه ستة أقوال .
أحدها: أن معناه: لا جناح عليكم فيما تركته المرأة من صداقها ، ووهبته لزوجها ، هذا مروي عن ابن عباس ، وابن زيد .
والثاني: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من مقام ، أو فرقة بعد أداء الفريضة ، روي عن ابن عباس أيضا .
والثالث: ولا جناح عليكم أيها الأزواج إذا أعسرتم بعد الفرض لنسائكم فيما تراضيتم به من أن ينقصنكم أو يبرئنكم ، قاله أبو سليمان التيمي .
[ ص: 55 ] والرابع: لا جناح عليكم إذا انقضى أجل المتعة أن يزدنكم في الأجل ، وتزيدونهن في الأجر من غير استبراء ، قاله السدي ، وهو يعود إلى قصة المتعة .
والخامس: لا جناح عليكم أن تهب المرأة للرجل مهرها ، أو يهب هو للتي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه . قاله الزجاج .
والسادس: أنه عام في الزيادة ، والنقصان ، والتأخير ، والإبراء ، قاله القاضي أبو يعلى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (114)
صــ56 إلى صــ 60
ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم
قوله تعالى: ومن لم يستطع منكم طولا "الطول": الغنى والسعة في قول الجماعة . و"المحصنات": الحرائر ، قال الزجاج : والمعنى: من لم يقدر على مهر [ ص: 56 ] الحرة ، يقال: قد طال فلان طولا على فلان ، أي: كان له فضل عليه في القدرة .
والمراد بالفتيات هاهنا: المملوكات ، يقال للأمة: فتاة ، وللعبد: فتى ، وقد سمي بهذا الاسم من ليس بمملوك . قرأت على شيخنا الإمام أبي منصور اللغوي قال: المتفتية: الفتاة والمراهقة ، ويقال للجارية الحدثة: فتاة ، وللغلام: فتى . قال القتيبي: وليس الفتى بمعنى: الشاب والحدث ، إنما هو بمعنى: الكامل الجزل من الرجال .
فأما ذكر الأيمان ، فشرط في إباحتهن ، ولا يجوز نكاح الأمة الكتابية ، هذا قول الجمهور ، وقال أبو حنيفة: يجوز .
قوله تعالى: والله أعلم بإيمانكم قال الزجاج : معناه: اعملوا على ظاهركم في الإيمان ، فإنكم متعبدون بما ظهر من بعضكم لبعض . قال: وفي قوله: بعضكم من بعض وجهان . [ ص: 57 ] أحدهما: أنه أراد النسب ، أي: كلكم ولد آدم . ويجوز أن يكون معناه: دينكم واحد ، لأنه ذكر هاهنا: المؤمنات . وإنما قيل لهم: ذلك ، لأن العرب كانت تطعن في الأنساب ، وتفخر بالأحساب ، وتسمي ابن الأمة: الهجين ، فأعلم الله عز وجل أن أمر العبيد وغيرهم مستو في باب الإيمان ، وإنما كره التزويج بالأمة ، وحرم إذا وجد إلى الحرة سبيلا ، لأن ولد الأمة من الحر يصيرون رقيقا ، ولأن الأمة ممتهنة في عشرة الرجال ، وذلك يشق على الزوج .
قال ابن الأنباري: ومعنى الآية: كلكم بنو آدم ، فلا يتداخلكم شموخ وأنفة من تزوج الإماء عند الضرورة .
وقال ابن جرير: في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات [المؤمنات] ، فلينكح بعضكم من بعض ، أي: لينكح هذا فتاة هذا .
قوله تعالى: فانكحوهن يعني: الإماء (بإذن أهلهن ، أي: سادتهن . و"الأجور": المهور .
وفي قوله بالمعروف قولان .
أحدهما: أنه مقدم في المعنى ، فتقديره: انكحوهن بإذن أهلهن بالمعروف ، أي: بالنكاح الصحيح وآتوهن أجورهن .
والثاني: أن المعنى: وآتوهن أجورهن بالمعروف ، كمهور أمثالهن . قال ابن عباس : "محصنات": عفائف غير زوان ولا متخذات أخدان يعني: أخلاء كان الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنى ، ويستحلون ما خفي . وقال في رواية أخرى: "المسافحات": المعلنات بالزنى . و"المتخذات أخدانا": ذات الخليل [ ص: 58 ] الواحد . وقال غيره: كانت المرأة تتخذ صديقا تزني معه ، ولا تزني مع غيره .
قوله تعالى: فإذا أحصن قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر: "أحصن" مضمومة الألف . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، والمفضل عن عاصم: بفتح الألف ، والصاد . قال ابن جرير: من قرأ بالفتح ، أراد: أسلمن ، فصرن ممنوعات الفروج عن الحرام بالإسلام ، ومن قرأ بالضم ، أراد: فإذا تزوجن ، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج .
فأما "الفاحشة" ، فهي الزنى ، و"المحصنات": الحرائر ، و"العذاب": الحد . قال القاضي أبو يعلى: وليس الإسلام والتزويج شرطا في إيجاب الحد على الأمة ، بل يجب وإن عدما ، وإنما شرط الإحصان في الحد ، لئلا يتوهم متوهم أن عليها نصف ما على الحرة إذا لم تكن محصنة ، وعليها مثل ما على الحرة إذا كانت محصنة .
قوله تعالى: ذلك الإشارة إلى إباحة تزويج الإماء ، وفي "العنت" خمسة أقوال . أحدها: أنه الزنى ، قاله ابن عباس ، والشعبي ، وابن جبير ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن زيد ، ومقاتل ، وابن قتيبة .
والثاني: أنه الهلاك ، ذكره أبو عبيدة ، والزجاج . والثالث: لقاء المشقة في محبة الأمة ، حكاه الزجاج . والرابع: أن العنت هاهنا: الإثم . والخامس: أنه العقوبة التي تعنته ، وهي الحد ، ذكرهما ابن جرير الطبري .
قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على إباحة نكاح الإماء المؤمنات بشرطين: أحدهما: عدم طول الحرة .
[ ص: 59 ] والثاني: خوف الزنى ، وهذا قول ابن عباس ، والشعبي ، وابن جبير ، ومسروق ، ومكحول ، وأحمد ، ومالك ، والشافعي . وقد روي عن علي ، والحسن ، وابن المسيب ، ومجاهد ، والزهري ، قالوا: ينكح الأمة ، وإن كان موسرا ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .
قوله تعالى: وأن تصبروا خير لكم قال ابن عباس : والجماعة: عن نكاح الإماء ، وإنما ندب إلى الصبر عنه ، لاسترقاق الأولاد .
يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم
قوله تعالى: يريد الله ليبين لكم اللام بمعنى: "أن" وهذا مذهب جماعة من أهل العربية ، واختاره ابن جرير ، ومثله وأمرت لأعدل بينكم [الشورى: 15] ، وأمرنا لنسلم [الأنعام: 71] ، يريدون ليطفئوا [الصف: 8] .
والبيان من الله تعالى بالنص تارة ، وبدلالة النص أخرى . قال الزجاج : و"السنن": الطرق ، فالمعنى: يدلكم على طاعته ، كما دل الأنبياء وتابعيهم . وقال غيره: معنى الكلام: يريد الله ليبين لكم سنن من قبلكم من أهل الحق والباطل ، لتجتنبوا الباطل وتجيبوا الحق ، ويهديكم إلى الحق .
والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما
قوله تعالى: والله يريد أن يتوب عليكم قال الزجاج : يريد أن يدلكم على ما يكون سببا لتوبتكم .
[ ص: 60 ] وفي الذين اتبعوا الشهوات أربعة أقوال .
أحدها: أنهم الزناة ، قاله مجاهد ، ومقاتل ، والثاني: اليهود والنصارى ، قاله السدي . والثالث: أنهم اليهود خاصة ، ذكره ابن جرير . والرابع: أهل الباطل ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى: أن تميلوا ميلا عظيما أي: عن الحق بالمعصية .
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا
قوله تعالى: يريد الله أن يخفف عنكم التخفيف: تسهيل التكليف ، أو إزالة بعضه . قال ابن جرير: والمعنى: يريد أن ييسر لكم بإذنه في نكاح الفتيات المؤمنات لمن لم يستطع طولا لحرة . وفي المراد بضعف الإنسان ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه الضعف في أصل الخلقة . قال الحسن: هو أنه خلق من ماء مهين . والثاني: أنه قلة الصبر عن النساء ، قاله طاوس ، ومقاتل . والثالث: أنه ضعف العزم عن قهر الهوى ، وهذا قول الزجاج ، وابن كيسان .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (115)
صــ61 إلى صــ 65
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما
قوله تعالى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الباطل: ما لا يحل في الشرع .
قوله تعالى: إلا أن تكون تجارة قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر: "تجارة" بالرفع . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم بالنصب ، وقد بينا العلة في آخر "البقرة" .
قوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم فيه خمسة أقوال .
[ ص: 61 ] أحدها: أنه على ظاهره ، وأن الله حرم على العبد قتل نفسه ، وهذا الظاهر .
والثاني: أن معناه: لا يقتل بعضكم بعضا ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل ، وابن قتيبة .
والثالث: أن المعنى: لا تكلفوا أنفسكم عملا ربما أدى إلى قتلها وإن كان فرضا ، وعلى هذا تأولها عمرو بن العاص في غزاة ذات السلاسل حيث صلى بأصحابه جنبا في ليلة باردة ، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال له: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال: يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة ، وأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فذكرت قوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 62 ] والرابع: أن المعنى: لا تغفلوا عن حظ أنفسكم ، فمن غفل عن حظها ، فكأنما قتلها ، هذا قول الفضيل بن عياض . والخامس: لا تقتلوها بارتكاب المعاصي .
ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا
قوله تعالى: ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما في المشار إليه ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه قتل النفس ، قاله ابن عباس ، وعطاء . والثاني: أنه عائد إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هاهنا ، روي عن ابن عباس أيضا ، والثالث: قتل النفس ، وأكل الأموال بالباطل ، قاله مقاتل . .
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما
قوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه اجتناب الشيء: تركه جانبا . وفي الكبائر أحد عشر قولا .
أحدها: أنها سبع ، فروى البخاري ، ومسلم في "الصحيحين" من حديث [ ص: 63 ] أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" .
وقد روي هذا الحديث من طريق آخر عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكبائر سبع ، الإشراك بالله أولهن ، وقتل النفس بغير حقها ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا ، والفرار من الزحف ، ورمي المحصنات ، وانقلاب إلى أعرابية بعد هجرة" .
وروي عن علي رضي الله عنه قال: هي سبع ، فعد هذه .
[ ص: 64 ] وروي عن عطاء أنه قال: هي سبع ، وعد هذه ، إلا أنه ذكر مكان الإشراك والتعرب شهادة الزور وعقوق الوالدين .
والثاني: أنها تسع ، روى عبيد بن عمير ، عن أبيه ، وكان من الصحابة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل ما الكبائر؟ فقال: "تسع ، أعظمهن الإشراك بالله ، وقتل نفس المؤمن بغير حق ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ، والسحر ، وأكل الربا ، وقذف المحصنة ، وعقوق الوالدين المسلمين ، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا" .
والثالث: أنها أربع: روى البخاري ، ومسلم في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الكبائر: الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس" .
[ ص: 65 ] وروى أنس بن مالك قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر ، أو سئل عنها ، فقال: "الشرك بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين" وقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور ، أو شهادة الزور" . وروي عن ابن مسعود أنه قال: الكبائر أربع: الإشراك بالله ، والأمن لمكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، والإياس من روح الله . وعن عكرمة نحوه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (116)
صــ66 إلى صــ 70
والرابع: أنها ثلاث ، فروى عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، -وكان متكئا فاحتفز- قال: والزور" . وروى البخاري ، ومسلم في "الصحيحين" من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله ، فقال: الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، -وكان متكئا فجلس- فقال: وشهادة الزور" فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت . وأخرجا في "الصحيحين" من حديث ابن مسعود قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أكبر؟ قال: "أن تجعل لله تعالى ندا وهو خلقك" . قلت: ثم أي؟ قال: "ثم أن تقتل ولدك مخافة أن [ ص: 66 ] يطعم معك" . قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" .
والخامس: أنها مذكورة من أول السورة إلى هذه الآية ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس .
والسادس: أنها إحدى عشرة: الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس ، وقتل النفس ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار من الزحف ، وقذف المحصنات ، وشهادة الزور ، والسحر ، والخيانة" . روي عن ابن مسعود أيضا .
والسابع: أنها كل ذنب يختمه الله بنار ، أو غضب ، أو لعنة ، أو عذاب ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
والثامن: أنها كل ما أوجب الله عليه النار في الآخرة ، والحد في الدنيا ، روى هذا المعنى أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك .
والتاسع: أنها كل ما عصي الله به ، روي عن ابن عباس ، وعبيدة ، وهو قول ضعيف .
والعاشر: أنها كل ذنب أوعد الله عليه النار ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك في رواية ، والزجاج .
والحادي عشر: أنها ثمان ، الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل المؤمن ، وقذف المحصنة ، والزنا ، وأكل مال اليتيم ، وقول الزور ، واقتطاع الرجل بيمينه وعهده ثمنا قليلا . رواه محرز عن الحسن البصري .
[ ص: 67 ] قوله تعالى: نكفر عنكم سيئاتكم روى المفضل ، عن عاصم: "يكفر" "ويدخلكم" بالياء فيهما ، وقرأ الباقون بالنون فيهما ، وقرأ نافع ، وأبان ، عن عاصم ، والكسائي ، عن أبي بكر ، عن عاصم: "مدخلا" بفتح الميم هاهنا ، وفي (الحج وضم الباقون "الميم" ، ولم يختلفوا في ضم "ميم" مدخل صدق و مخرج صدق [الإسراء: 80] قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون "المدخل" مصدرا ، [ ص: 68 ] ويجوز أن يكون مكانا ، سواء فتح ، أو ضم . قال السدي: السيئات هاهنا: هي الصغائر . والمدخل الكريم: الجنة . قال ابن قتيبة: والكريم: بمعنى: الشريف
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما
قوله تعالى: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها: أن أم سلمة قالت: يا رسول الله: يغزو الرجال ، ولا نغزو ، وإنما لنا نصف الميراث ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد .
والثاني: أن النساء قلن: وددن أن الله جعل لنا الغزو ، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال ، فنزلت هذه الآية ، قاله عكرمة .
والثالث: أنه لما نزل للذكر مثل حظ الأنثيين قال الرجال: إنا لنرجو [ ص: 69 ] أن نفضل على النساء بحسناتنا ، كما فضلنا عليهن في الميراث ، وقال النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال ، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة ، والسدي .
وفي معنى هذا التمني قولان . . أحدهما: أن يتمنى الرجل مال غيره ، قاله ابن عباس ، وعطاء . والثاني: أن يتمنى النساء أن يكن رجالا . وقد روي عن أم سلمة أنها قالت: يا ليتنا كنا رجالا ، فنزلت هذه الآية .
وللتمني وجوه .
أحدها: أن يتمنى الإنسان أن يحصل له مال غيره ، ويزول عن الغير ، فهذا الحسد .
والثاني: أن يتمنى مثل ما لغيره ، ولا يحب زواله عن الغير ، فهذا هو الغبطة وربما لم يكن نيل ذلك مصلحة في حق المتمني . قال الحسن: لا تمن مال فلان ، ولا مال فلان ، وما يدريك لعل هلاكه في ذلك المال؟ .
والثالث: أن تتمنى المرأة أن تكون رجلا ، ونحو هذا مما لا يقع ، فليعلم العبد أن الله أعلم بالمصالح ، فليرض بقضاء الله ، ولتكن أمانيه الزيادة من عمل الآخرة .
[ ص: 70 ] قوله تعالى: للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن فيه قولان .
أحدهما: أن المراد بهذا الاكتساب ، الميراث ، وهو قول ابن عباس ، وعكرمة .
والثاني: أنه الثواب والعقاب . فالمعنى: أن المرأة تثاب كثواب الرجل ، وتأثم كإثمه ، هذا قول قتادة ، وابن السائب ، ومقاتل . واحتج على صحته أبو سليمان الدمشقي بأن الميراث لا يحصل بالاكتساب ، وبأن الآية نزلت لأجل التمني والفضل .
قوله تعالى: واسألوا الله من فضله قرأ ابن كثير ، والكسائي ، وأبان ، وخلف في اختياره (وسلوا الله (فسل الذين (فسل بني إسرائيل (وسل من أرسلنا وما كان مثله من الأمر المواجه به ، وقبله "واو" أو "فاء" فهو غير مهموز عندهم . وكذلك نقل عن أبي جعفر ، وشيبة . وقرأ الباقون بالهمز في ذلك كله ، ولم يختلفوا في قوله: وليسألوا ما أنفقوا [الممتحنة: 10] أنه مهموز .
وفي المراد بالفضل قولان . أحدهما: أن الفضل: الطاعة ، قاله سعيد ابن جبير ، ومجاهد ، والسدي . والثاني: أنه الرزق ، قاله ابن السائب ، فيكون المعنى: سلوا الله ما تتمنوه من النعم ، ولا تتمنوا مال غيركم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (117)
صــ71 إلى صــ 75
ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا
[ ص: 71 ] قوله تعالى: ولكل جعلنا موالي الموالي: الأولياء ، وهم الورثة من العصبة وغيرهم . ومعنى الآية: لكل إنسان موالي يرثون ما ترك . وارتفاع الوالدين والأقربين على معنيين من الإعراب .
أحدهما: أن يكون الرفع على خبر الابتداء ، والتقدير: وهم الوالدان والأقربون ، ويكون تمام الكلام قوله مما ترك .
والثاني: أن يكون رفعا على أنه الفاعل الترك للمال ، فيكون الوالدان ، هم المولى .
قوله تعالى: والذين عقدت أيمانكم قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر: "عاقدت" بالألف ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، "عقدت" بلا ألف . قال أبو علي: من قرأ بالألف ، فالتقدير: والذين عاقدتهم أيمانكم ، ومن حذف الألف ، فالمعنى: عقدت حلفهم أيمانكم ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وفيهم ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم أهل الحلف ، كان الرجل يحالف الرجل ، فأيهما مات ورثه الآخر ، فنسخ ذلك بقوله: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وروى عنه عطية قال: كان الرجل يلحق الرجل [ ص: 72 ] في الجاهلية ، فيكون تابعه ، فإذا مات الرجل ، صار لأهله الميراث ، وبقي تابعه بغير شيء ، فأنزل الله ( والذين عاقدت أيمانكم ) فأعطي من ميراثه ، ثم نزل من بعد ذلك وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وممن قال هم الحلفاء: سعيد بن جبير ، وعكرمة ، وقتادة .
والثاني: أنهم الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم المهاجرون والأنصار ، كان المهاجرون يورثون الأنصار دون ذوي رحمهم للأخوة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم . رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وبه قال ابن زيد .
والثالث: :أنهم الذين كانوا يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية ، هذا قول سعيد ابن المسيب . فأما أرباب القول الأول ، فقالوا: نسخ حكم الحلفاء الذين كانوا يتعاقدون على النصرة والميراث بآخر (الأنفال ، وإليه ذهب ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، والثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، وأحمد ، والشافعي .
وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا الحكم باق غير أنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة . وذهب قوم إلى أن المراد: فآتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة من غير ميراث ، وهذا مروي عن ابن عباس ، ومجاهد . وذهب قوم آخرون إلى أن المعاقدة: إنما كانت في الجاهلية على النصرة لا غير ، والإسلام لم يغير ذلك ، وإنما قرره ، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما حلف كان في الجاهلية ، فإن الإسلام لم يزده [ ص: 73 ] إلا شدة" . أراد: النصر والعون . وهذا قول سعيد بن جبير ، وهو يدل على أن الآية محكمة .
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا
قوله تعالى: الرجال قوامون على النساء سبب نزولها: أن رجلا لطم زوجته لطمة فاستعدت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . وذكر المفسرون أنه سعد بن الربيع الأنصاري . قال ابن [ ص: 74 ] عباس: "قوامون" أي: مسلطون على تأديب النساء في الحق . وروى هشام بن محمد ، عن أبيه في قوله: الرجال قوامون على النساء قال: إذا كانوا رجالا ، وأنشد
أكل امرئ تحسبين امرءا ونارا توقد بالليل نارا
قوله تعالى: بما فضل الله بعضهم على بعض يعني: الرجال على النساء ، وفضل الرجل على المرأة بزيادة العقل ، وتوفير الحظ في الميراث ، والغنيمة ، والجمعة ، والجماعات ، والخلافة ، والإمارة ، والجهاد ، وجعل الطلاق إليه إلى غير ذلك .
قوله تعالى: وبما أنفقوا من أموالهم قال ابن عباس : يعني: المهر والنفقة عليهن .
وفي "الصالحات" قولان . أحدهما: المحسنات إلى أزواجهن ، قاله ابن عباس . والثاني: العاملات بالخير ، قاله ابن مبارك . قال ابن عباس . و"القانتات" المطيعات لله في أزواجهن ، والحافظات للغيب ، أي: لغيب أزواجهن . وقال عطاء ، [ ص: 75 ] وقتادة: يحفظن ما غاب عنه الأزواج من الأموال ، وما يجب عليهن من صيانة أنفسهن لهم .
قوله تعالى: بما حفظ الله قرأ الجمهور برفع اسم "الله" وفي معنى الكلام على قراءتهم ثلاثة أقوال .
أحدها: بحفظ الله إياهن ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، ومقاتل . وروى ابن المبارك ، عن سفيان ، قال: بحفظ الله إياها أن جعلها كذلك .
والثاني: بما حفظ الله لهن مهورهن ، وإيجاب نفقتهن ، قاله الزجاج .
والثالث: أن معناه: حافظات للغيب بالشيء الذي يحفظ به أمر الله ، حكاه الزجاج . وقرأ أبو جعفر بنصب اسم الله . والمعنى: بحفظهن الله في طاعته .
قوله تعالى: واللاتي تخافون نشوزهن في الخوف قولان .
أحدهما: أنه بمعنى: العلم ، قاله ابن عباس . والثاني: بمعنى: الظن لما يبدو من دلائل النشوز ، قاله الفراء ، وأنشد
وما خفت يا سلام أنك عائبي
قال ابن قتيبة: والنشوز" بغض المرأة للزوج ، يقال: نشزت المرأة على زوجها ، ونشصت: إذا فركته ، ولم تطمئن عنده ، وأصل النشوز: الانزعاج . قال الزجاج : أصله من النشز ، وهو المكان المرتفع من الأرض .
قوله تعالى: فعظوهن قال الخليل : الوعظ: التذكير بالخير فيما يرق له القلب .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (118)
صــ76 إلى صــ 80
[ ص: 76 ] قال الحسن: يعظها بلسانه ، فإن أبت وإلا هجرها . واختلفوا في المراد بالهجر في المضجع على أربعة أقوال .
أحدها: أنه ترك الجماع ، رواه سعيد بن جبير ، وابن أبي طلحة ، والعوفي ، عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير ، ومقاتل .
والثاني: أنه ترك الكلام ، لا ترك الجماع ، رواه أبو الضحى ، عن ابن عباس ، وخصيف ، عن عكرمة ، وبه قال السدي ، والثوري .
والثالث: أنه قول الهجر من الكلام في المضاجع ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة . فيكون المعنى: قولوا لهن في المضاجع هجرا من القول .
والرابع: أنه هجر فراشها ، ومضاجعتها . روي عن الحسن ، والشعبي ، ومجاهد ، والنخعي ، ومقسم ، وقتادة . قال ابن عباس : اهجرها في المضجع ، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح . وقال جماعة من أهل العلم: الآية على الترتيب ، فالوعظ عند خوف النشوز ، والهجر عند ظهور النشوز ، والضرب عند تكرره ، واللجاج فيه . ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز . قال القاضي أبو يعلى: وعلى هذا مذهب أحمد . وقال الشافعي: يجوز ضربها في ابتداء النشوز .
قوله تعالى: فإن أطعنكم قال ابن عباس : يعني: في المضجع فلا تبغوا عليهن سبيلا أي: فلا تتجن عليها العلل . وقال سفيان بن عيينة: لا تكلفها الحب ، لأن قلبها ليس في يدها . وقال ابن جرير: المعنى: فلا تلتمسوا سبيلا إلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل ، وذلك أن تقول لها وهي مطيعة لك: لست لي محبة ، فتضربها ، أو تؤذيها .
[ ص: 77 ] قوله تعالى: إن الله كان عليا كبيرا قال أبو سليمان الدمشقي: لا تبغوا على أزواجكم ، فهو ينتصر لهن منكم . وقال الخطابي: الكبير: الموصوف بالجلال ، وكبر الشأن ، يصغر دون جلاله كل كبير . ويقال: هو الذي كبر عن شبه المخلوقين .
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا
قوله تعالى: وإن خفتم شقاق بينهما في الخوف قولان . أحدهما: أنه الحذر من وجود ما لا يتيقن وجوده ، قاله الزجاج .
والثاني: أنه العلم ، قاله أبو سليمان الدمشقي . قال الزجاج : والشقاق: العداوة ، واشتقاقه من المتشاقين ، كل صنف منهم في شق . و"الحكم" :هو القيم بما يسند إليه ، وفي المأمور بإنفاذ الحكمين قولان . أحدهما: أنه السلطان إذا ترافعا إليه ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك . والثاني: الزوجان ، قاله السدي .
قوله تعالى: إن يريدا إصلاحا قال ابن عباس : يعني: الحكمين ، وفي قوله: يوفق الله بينهما قولان . أحدهما: أنه راجع إلى الحكمين . قاله ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، والسدي ، والجمهور . والثاني: أنه راجع إلى الزوجين ، ذكره بعض المفسرين .
فصل
والحكمان وكيلان للزوجين ، ويعتبر رضى الزوجين فيما يحكمان به ، هذا [ ص: 78 ] قول أحمد ، وأبي حنيفة ، وأصحابه . وقال مالك ، والشافعي: لا يفتقر حكم الحكمين إلى رضى الزوجين .
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا
[ ص: 79 ] قوله تعالى: واعبدوا الله قال ابن عباس : وحدوه .
قوله تعالى: وبالوالدين إحسانا قال الفراء: أغراهم بالإحسان إلى الوالدين .
قوله تعالى: والجار ذي القربى فيه قولان .
أحدهما: أنه الجار الذي بينك وبينه قرابة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد ، ومقاتل في آخرين .
والثاني: أنه الجار المسلم ، قاله نوف الشامي . فيكون المعنى: ذي القربى منكم بالإسلام .
قوله تعالى: والجار الجنب روى المفضل ، عن عاصم: والجار الجنب بفتح الجيم ، وإسكان النون . قال أبو علي: المعنى: والجار ذي الجنب ، فحذف المضاف ، وفي الجار الجنب ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه الغريب الذي ليس بينك وبينه قرابة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والضحاك ، وابن زيد ، ومقاتل في آخرين .
والثاني: أنه جارك عن يمينك ، وعن شمالك ، وبين يديك ، وخلفك ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
والثالث: أنه اليهودي والنصراني ، قاله نوف الشامي [ ص: 80 ] وفي الصاحب بالجنب ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه الزوجة ، قاله علي ، وابن مسعود ، والحسن ، وإبراهيم النخعي ، وابن أبي ليلى .
والثاني: أنه الرفيق في السفر ، قاله ابن عباس في رواية مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن قتيبة ، وعن سعيد بن جبير كالقولين .
والثالث: أنه الرفيق ، رواه ابن جريج عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة .
قال ابن زيد: هو الذي يلصق بك رجاء خيرك ، وقال مقاتل: هو رفيقك حضرا وسفرا ، وفي ابن السبيل أقوال . قد ذكرناها في (البقرة .
قوله تعالى: وما ملكت أيمانكم يعني: المملوكين . وقال بعضهم: يدخل فيه الحيوان البهيم . قال ابن عباس : والمحتال: البطر في مشيته ، والفخور: المفتخر على الناس بكبره . وقال مجاهد: هو الذي يعد ما أعطى ، ولا يشكر الله ، [ ص: 81 ] وقال ابن قتيبة: المختال: ذو الخيلاء والكبر . وقال الزجاج : المختال: الصلف التياه الجهول . وإنما ذكر الاختيال هاهنا ، لأن المختال يأنف من ذوي قراباته ، ومن جيرانه إذا كانوا فقراء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (119)
صــ81 إلى صــ 85
الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا
قوله تعالى: الذين يبخلون ذكر المفسرون أنها نزلت في اليهود ، فأما سبب نزولها فقال ابن عباس : كان كردم بن زيد ، [حليف كعب بن الأشرف] وأسامة بن حبيب ، ونافع بن أبي نافع ، وبحري بن عمرو ، وحيي ابن أخطب ، ورفاعة بن زيد بن التابوت ، يأتون رجالا من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يخالطونهم ، وينتصحون لهم ، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر [في ذهابها] ولا تسارعوا [ ص: 82 ] في النفقة ، فإنكم لا تدرون ما يكون ، فنزلت هذه الآية . وفي الذي بخلوا به وأمروا الناس بالبخل به قولان . أحدهما: أنه المال ، قاله ابن عباس ، وابن زيد .
والثاني: أنه إظهار صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والسدي .
قوله تعالى: ويأمرون الناس بالبخل قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر: بالبخل خفيفا . وقرأ حمزة ، والكسائي: بالبخل محركا ، وكذلك في سورة (الحديد وفي الذين آتاهم الله من فضله قولان .
أحدهما: أنهم اليهود ، أوتوا علم نعت محمد صلى الله عليه وسلم فكتموه ، هذا قول الجمهور .
والثاني: أنهم أرباب الأموال بخلوا بها ، وكتموا الغنى ، ذكره الماوردي . في آخرين .
قوله تعالى: وأعتدنا قال الزجاج : معناه: جعلنا ذلك عتادا لهم ، أي: مثبتا لهم .
والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا
قوله تعالى: والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس اختلفوا فيمن نزلت [ ص: 83 ] على ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم اليهود ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، ومقاتل .
والثاني: أنهم المنافقون ، قاله السدي ، والزجاج ، وأبو سليمان الدمشقي . والثالث: مشركو مكة أنفقوا على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره الثعلبي .
والقرين: الصاحب المؤالف ، وهو فعيل من الاقتران بين الشيئين . وفي معنى مقارنة الشيطان قولان . أحدها: مصاحبته في الفعل . والثاني: مصاحبته في النار .
وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما
قوله تعالى: وماذا عليهم المعنى: وأي شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ، لو آمنوا! . وفي الإنفاق المذكور هاهنا: قولان . أحدهما: أنه الصدقة ، قاله ابن عباس . والثاني: الزكاة ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي قوله: وكان الله بهم عليما تهديد لهم على سوء مقاصدهم .
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
قوله تعالى: إن الله لا يظلم مثقال ذرة قد شرحنا الظلم فيما سلف ، وهو مستحيل على الله عز وجل ، لأن قوما قالوا: الظلم: تصرف فيما لا يملك ، والكل ملكه ، وقال آخرون: هو وضع الشيء في غير موضعه ، وحكمته لا تقتضي فعلا لا فائدة تحته . ومثقال الشيء: زنة الشيء . قال ابن قتيبة: يقال: هذا على مثقال هذا ، أي: على وزنه . قال الزجاج : وهو مفعال من الثقل .
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: يظن الناس أن المثقال وزن [ ص: 84 ] دينار لا غير ، وليس كما يظنون . مثقال كل شيء: وزنه ، وكل وزن يسمى مثقالا ، وإن كان وزن ألف . قال الله تعالى: وإن كان مثقال حبة من خردل [الأنبياء: 47] قال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن صنجة مثقال الميزان ، فقال: فارسي ، ولا أدري كيف أقول ، ولكني أقول: مثقال ، فإذا قلت للرجل: ناولني مثقالا ، فأعطاك صنجة ألف ، أو صنجة حبة ، كان ممتثلا .
وفي المراد بالذرة خمسة أقوال . أحدها: أنه رأس نملة حمراء ، رواه عكرمة عن ابن عباس . والثاني: ذرة يسيرة من التراب ، رواه يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس . والثالث: أصغر النمل ، قاله ابن قتيبة ، وابن فارس . والرابع: الخردلة . والخامس: الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب ، ذكرهما الثعلبي . واعلم أن ذكر الذرة ضرب مثل بما يعقل ، والمقصود أنه لا يظلم قليلا ولا كثيرا .
قوله تعالى: وإن تك حسنة قرأ ابن كثير ، ونافع: حسنة بالرفع . وقرأ الباقون بالنصب . قال الزجاج : من رفع ، فالمعنى: وإن تحدث حسنة ، ومن نصب ، فالمعنى: وإن تك فعلته حسنة .
قوله تعالى: يضاعفها قرأ ابن عامر ، وابن كثير: يضعفها بالتشديد من غير ألف . وقرأ الباقون: يضاعفها بألف مع كسر العين . قال ابن قتيبة: يضاعفها بالألف: يعطي مثلها مرات ، ويضعفها بغير ألف: يعطي مثلها مرة . [ ص: 85 ] قوله تعالى: من لدنه أي: من قبله . والأجر العظيم: الجنة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (120)
صــ86 إلى صــ 90
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا
قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد قال الزجاج : معنى الآية: فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة ، فحذف الحال ، لأن في الكلام دليلا عليه . ولفظ "كيف" لفظ الاستفهام ، ومعناها: التوبيخ . والشهيد: نبي الأمة . وبماذا يشهد فيه أربعة أقوال .
[ ص: 86 ] أحدها: بأنه قد بلغ أمته . قاله ابن مسعود ، وابن جريج ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني: بإيمانهم ، قاله أبو العالية . والثالث: بأعمالهم ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والرابع: يشهد لهم وعليهم ، قاله الزجاج .
قوله تعالى: وجئنا بك يعني: نبينا صلى الله عليه وسلم . وفي هؤلاء ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم جميع أمته ، ثم فيه قولان . أحدهما: أنه يشهد عليهم . والثاني: يشهد لهم فتكون "على" بمعنى: اللام . والقول الثاني: أنهم الكفار يشهد عليهم بتبليغ الرسالة ، قاله مقاتل . . والثالث: اليهود والنصارى ، ذكره الماوردي .
يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا
قوله تعالى: لو تسوى بهم الأرض قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو: لو تسوى ، بضم التاء ، وتخفيف السين . والمعنى: ودوا لو جعلوا ترابا ، فكانوا هم والأرض سواء ، هذا قول الفراء في آخرين . قال أبو هريرة: إذا حشر الله الخلائق ، قال للبهائم ، والدواب ، والطير: كوني ترابا . فعندها يقول: الكافر: يا ليتني كنت ترابا .
[ ص: 87 ] وقرأ نافع ، وابن عامر: لو تسوى ، بفتح التاء ، وتشديد السين ، والمعنى: لو تتسوى ، فأدغمت التاء في السين ، لقربها منها . قال أبو علي: وفي هذه القراءة اتساع ، لأن الفعل مسند إلى الأرض ، وليس المراد: ودوا لو صارت الأرض مثلهم ، وإنما المعنى: ودوا لو يتسوون بها . ثم في المعنى للمفسرين قولان .
أحدهما: أن معناه: ودوا لو تخرقت بهم الأرض ، فساحوا فيها ، قاله قتادة ، وأبو عبيدة ، ومقاتل .
والثاني: أن معناه: ودوا أنهم لم يبعثوا ، لأن الأرض كانت مستوية بهم قبل خروجهم ، منها قاله ابن كيسان ، وذكر نحوه الزجاج . وقرأ حمزة ، والكسائي: لو تسوى ، بفتح التاء ، وتخفيف السين والواو مشددة ممالة ، وهي بمعنى: تتسوى ، فحذف التاء التي أدغمها نافع ، وابن عامر . فأما معنى القراءتين فواحد .
قوله تعالى: ولا يكتمون الله حديثا في الحديث قولان . أحدهما: أنه قولهم: ما كنا مشركين ، هذا قول الجمهور . والثاني: أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته ، قاله عطاء: فعلى الأول يتعلق الكتمان بالآخرة ، وعلى الثاني يتعلق بما كان في الدنيا ، فيكون المعنى: ودوا أنهم لم يكتموا ذلك .
وفي معنى الآية: ستة أقوال . أحدها: ودوا إذا فضحتهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس .
والثاني: أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله حديثا بعد ذلك ، روي عن ابن عباس أيضا .
والثالث: أنهم في موطن لا يكتمونه حديثا ، وفي موطن يكتمون ، ويقولون: ما كنا مشركين ، قاله الحسن . [ ص: 88 ] والرابع: أن قوله ولا يكتمون الله حديثا كلام مستأنف لا يتعلق بقوله: لو تسوى بهم الأرض ، هذا قول الفراء ، والزجاج . ومعنى: لا يكتمون الله حديثا: لا يقدرون على كتمانه ، لأنه ظاهر عند الله .
والخامس: أن المعنى: ودوا لو سويت بهم الأرض ، وأنهم لم يكتموا الله حديثا .
والسادس: أنهم لم يعتقدوا قولهم: ما كنا مشركين كذبا ، وإنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة ، ذكر القولين ابن الأنباري .
وقال القاضي أبو يعلى: أخبروا بما توهموا ، إذ كانوا يظنون أنهم ليسوا بمشركين ، وذلك لا يخرجهم عن أن يكونوا قد كذبوا .
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا
[ ص: 89 ] قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى روى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعانا ، وسقانا من الخمر ، فأخذت [الخمر] منا ، وحضرت الصلاة ، فقدموني ، فقرأت ( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون ) فنزلت هذه الآية . وفي رواية أخرى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي رضي الله عنه أن الذي قدموه ، وخلط في هذه السورة ، عبد الرحمن بن عوف .
وفي معنى قوله: لا تقربوا الصلاة قولان . أحدهما: لا تتعرضوا بالسكر في أوقات الصلاة . والثاني: لا تدخلوا في الصلاة في حال السكر ، والأول أصح ، لأن السكران لا يعقل ما يخاطب به . وفي معنى: وأنتم سكارى قولان .
أحدهما: من الخمر ، قاله الجمهور . والثاني: من النوم ، قاله الضحاك ، وفيه بعد . وهذه الآية اقتضت إباحة السكر في غير أوقات الصلاة ، ثم نسخت بتحريم الخمر . [ ص: 90 ] قوله تعالى: ولا جنبا قال ابن قتيبة: الجنابة: البعد ، قال الزجاج : يقال: رجل جنب ، ورجلان جنب ، ورجال جنب ، كما يقال: رجل رضى ، وقوم رضى ، وفي تسمية الجنب بهذا الاسم قولان . أحدهما: لمجانبة مائه محله ، والثاني: لما يلزمه من اجتناب الصلاة ، وقراءة القرآن ، ومس المصحف ، ودخول المسجد .
قوله تعالى: إلا عابري سبيل فيه قولان .
أحدهما: أن المعنى: لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء فتيمموا ، وتصلوا . وهذا المعنى مروي عن علي رضي الله عنه ، ومجاهد ، والحكم ، وقتادة ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفراء ، والزجاج .
والثاني: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم جنب إلا مجتازين ، ولا تقعدوا . وهذا المعنى مروي عن ابن مسعود ، وأنس بن مالك ، والحسن ، وسعيد بن المسيب ، وعكرمة ، وعطاء الخراساني ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، وأبي الضحى ، وأحمد ، والشافعي ، وابن قتيبة ، وعن ابن عباس ، وسعيد بن [ ص: 91 ] جبير ، كالقولين ، فعلى القول الأول: "عابر السبيل": المسافر ، و"قربان الصلاة": فعلها ، وعلى الثاني: "عابر السبيل": المجتاز في المسجد ، و"قربان الصلاة": دخول المسجد الذي تفعل فيه الصلاة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (121)
صــ91 إلى صــ 95
قوله تعالى: وإن كنتم مرضى في سبب نزول هذا الكلام قولان .
أحدهما: أن رجلا من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ، فنزلت هذه الآية وإن كنتم مرضى أو على سفر قاله مجاهد .
والثاني: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جراحات ، ففشت فيهم ، وابتلوا بالجنابة ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت وإن كنتم مرضى الآية كلها ، قاله إبراهيم النخعي . قال القاضي أبو يعلى: وظاهر الآية يقتضي جواز التيمم مع حصول المرض الذي يستضر معه باستعمال المال ، سواء كان يخاف التلف ، أو لا يخاف ، وكذلك السفر يجوز فيه التيمم عند عدم الماء ، سواء كان قصيرا ، أو طويلا ، وعدم الماء ليس بشرط في جواز التيمم للمريض ، وإنما الشرط: حصول الضرر ، وأما السفر ، فعدم الماء شرط في إباحة التيمم ، وليس السفر بشرط ، وإنما ذكر السفر ، لأن الماء يعدم فيه غالبا .
قوله تعالى: أو جاء أحد منكم من الغائط "أو" بمعنى: الواو ، لأنها لو لم تكن كذلك ، لكان وجوب الطهارة على المريض والمسافر غير متعلق [ ص: 92 ] بالحدث . والغائط: المكان المطمئن من الأرض ، فكني عن الحدث بمكانه ، قاله ابن قتيبة . وكذلك قالوا: للمزادة: راوية ، وإنما الراوية للبعير الذي يسقى عليه ، وقالوا: للنساء: ظعائن ، وإنما الظعائن: الهوادج ، وكن يكن فيها ، وسموا الحدث عذرة ، لأنهم كانوا يلقون الحدث بأفنية الدور .
قوله تعالى: أو لامستم النساء قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر: أو لامستم بألف هاهنا: وفي (المائدة) وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف في اختياره ، والمفضل عن عاصم ، والوليد بن عتبة ، عن ابن عامر "أو لمستم" بغير ألف هاهنا ، وفي (المائدة) وفي المراد بالملامسة قولان .
أحدهما: أنها الجماع ، قاله علي ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني: أنها الملامسة باليد ، قاله ابن مسعود ، وابن عمر ، والشعبي ، وعبيدة ، وعطاء ، وابن سيرين ، والنخعي ، والنهدي ، والحكم ، وحماد .
[ ص: 93 ] قال أبو علي: اللمس يكون باليد ، وقد اتسع فيه ، فأوقع على غيره ، فمن ذلك وأنا لمسنا السماء [الجن: 8] أي: عالجنا غيب السماء ، ومنا من يسترقه فيلقيه إلى الكهنة ، ويخبرهم به . فلما كان اللمس يقع على غير المباشرة باليد ، قال: فلمسوه بأيديهم [الأنعام: 7 ] فخص اليد ، لئلا يلتبس بالوجه الآخر ، كما قال: وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم [النساء: 23] لأن الابن قد يدعى وليس من الصلب .
قوله تعالى: فلم تجدوا ماء فتيمموا سبب نزولها: أن عائشة رضي الله عنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، فانقطع عقد لها ، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ، فنزلت هذه الآية ، فقال: أسيد [ ص: 94 ] ابن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، أخرجه البخاري ، ومسلم وفي رواية أخرى أخرجها البخاري ، ومسلم أيضا: أن عائشة استعارت من أسماء قلادة فهلكت ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا في طلبها ، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء ، فصلوا بغير وضوء ، وشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت آية التيمم . والتيمم في اللغة: القصد ، وقد ذكرناه في قوله: ولا تيمموا الخبيث وأما الصعيد: فهو التراب ، قاله علي ، وابن مسعود ، والفراء ، وأبو عبيد ، والزجاج ، وابن قتيبة ، وقال الشافعي: لا يقع اسم الصعيد إلا على تراب [ ص: 95 ] ذي غبار . وفي الطيب قولان . أحدهما: أنه الطاهر . والثاني: الحلال .
قوله تعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم الوجه الممسوح في التيمم: هو المحدود في الوضوء . وفيما يجب مسحه من الأيدي ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه إلى الكوعين حيث يقطع السارق ، روى عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "التيمم ضربة للوجه والكفين" وبهذا قال سعيد بن المسيب ، وعطاء ابن أبي رباح ، وعكرمة ، والأوزاعي ، ومكحول ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود .
والثاني: أنه إلى المرفقين ، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه تيمم ، فمسح ذراعيه . وبهذا قال ابن عمر ، وابنه سالم ، والحسن ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وعن الشعبي كالقولين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (122)
صــ96 إلى صــ 100
والثالث: أنه يجب المسح من رؤوس الأنامل إلى الآباط ، روى عمار بن ياسر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فنزلت الرخصة في المسح ، فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا ، وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط . وهذا قول الزهري .
قوله تعالى: إن الله كان عفوا قال الخطابي: "العفو": بناء للمبالغة . و"العفو" الصفح عن الذنوب ، وترك مجازاة المسيء . وقيل: إنه مأخوذ من: عفت الريح الأثر: إذا درسته ، وكأن العافي عن الذنوب يمحوه بصفحه عنه .
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل
قوله تعالى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال . [ ص: 97 ] أحدها: أنها نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت . والثاني: أنها نزلت في رجلين كانا إذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم لويا ألسنتهما وعاباه ، روي القولان عن ابن عباس .
والثالث: أنها نزلت في اليهود ، قاله قتادة .
وفي النصيب الذي أوتوه قولان . أحدهما: أنه علم نبوة محمد النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني: العلم بما في كتابهم دون العمل .
قوله تعالى: يشترون الضلالة قال ابن قتيبة: هذا من الاختصار ، والمعنى: يشترون الضلالة بالهدى ، ومثله وتركنا عليه في الآخرين [الصافات: 78] أي: تركنا عليه ثناء حسنا ، فحذف الثناء لعلم المخاطب .
وفي معنى اشترائهم الضلالة أربعة أقوال .
أحدها: أنه استبدالهم الضلالة بالإيمان ، قاله أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثاني: أنه استبدالهم التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره ، قاله مقاتل . [ ص: 98 ] والثالث: أنه إيثارهم التكذيب بالنبي لأخذ الرشوة ، وثبوت الرئاسة لهم ، قاله الزجاج .
والرابع: أنه إعطاؤهم أحبارهم أموالهم على ما يصنعونه من التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم ذكره الماوردي .
قوله تعالى: ويريدون أن تضلوا السبيل خطاب للمؤمنين . والمراد بالسبيل: طريق الهدى .
والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا
قوله تعالى: والله أعلم بأعدائكم فهو يعلمكم ما هم عليه ، فلا تستنصحوهم ، وهم اليهود ، وكفى بالله وليا لكم ، فمن كان وليه ، لم يضره عدوه . قال الخطابي: "الولي": الناصر ، و"الولي": المتولي للأمر ، والقائم به ، وأصله من الولي ، وهو القرب ، "والنصير": فعيل بمعنى: فاعل .
من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا
[ ص: 99 ] قوله تعالى: من الذين هادوا قال مقاتل: نزلت في رفاعة بن زيد ، ومالك ابن الضيف ، وكعب بن أسيد ، وكلهم يهود . وفي "من" قولان ذكرهما الزجاج .
أحدهما: أنها من صلة الذين أوتوا الكتاب ، فيكون المعنى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا .
والثاني: أنها مستأنفة ، فالمعنى: من الذين هادوا قوم يحرفون ، فيكون قوله: يحرفون ، صفة ، ويكون الموصوف محذوفا ، وأنشد سيبويه:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
والمعنى: فمنهما تارة أموت فيها ، قال أبو علي الفارسي: والمعنى: وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا ، أي: إن الله ينصر عليهم .
فأما "التحريف" ، فهو التغيير . و"الكلم": جمع كلمة . وقيل: إن "الكلام" مأخوذ من "الكلم" ، وهو الجرح الذي يشق الجلد واللحم ، فسمي الكلام كلاما ، لأنه يشق الأسماع بوصوله إليها ، وقيل: بل لتشقيقه المعاني المطلوبة في أنواع الخطاب .
وفي معنى تحريفهم الكلم قولان . أحدهما: أنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الشيء ، فإذا خرجوا ، حرفوا كلامه ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه تبديلهم التوراة قاله مجاهد . [ ص: 100 ] قوله تعالى: عن مواضعه أي: عن أماكنه ووجوهه .
قوله تعالى: ويقولون سمعنا وعصينا قال مجاهد: سمعنا قولك ، وعصينا أمرك .
قوله تعالى: واسمع غير مسمع فيه قولان .
أحدهما: أن معناه: اسمع لا سمعت ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، وابن قتيبة .
والثاني: أن معناه: اسمع غير مقبول ما تقول ، قاله الحسن ، ومجاهد . وقد تقدم في (البقرة) معنى: وراعنا .
قوله تعالى: ليا بألسنتهم قال قتادة: "اللي": تحريك ألسنتهم بذلك .
وقال ابن قتيبة: معنى "ليا بألسنتهم": أنهم يحرفون "راعنا" عن طريق المراعاة ، والانتظار إلى السب بالرعونة . قال ابن عباس : لكان خيرا لهم مما بدلوا ، و(أقوم) أي: أعدل ، ولكن لعنهم الله بكفرهم بمحمد .
قوله تعالى: فلا يؤمنون إلا قليلا فيه قولان . أحدهما: فلا يؤمن منهم الا قليل ، وهم عبد الله بن سلام ، ومن تبعه ، قاله ابن عباس .
[ ص: 101 ] والثاني: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا ، قاله قتادة ، والزجاج . قال مقاتل: وهو اعتقادهم أن الله خلقهم ورزقهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (123)
صــ101 إلى صــ 105
يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا
قوله تعالى: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا سبب نزولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا قوما من أحبار اليهود ، منهم عبد الله بن صوريا ، وكعب [ابن أسد] إلى الإسلام ، وقال لهم: إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق ، فقالوا: ما نعرف ذلك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس .
وفي الذين أوتوا الكتاب قولان .
أحدهما: أنهم اليهود ، قاله الجمهور . والثاني: اليهود والنصارى ، ذكره الماوردي . وعلى الأول يكون الكتاب: التوراة ، وعلى الثاني: التوراة والإنجيل . والمراد بما نزلنا: القرآن ، وقد سبق في (البقرة) بيان تصديقه لما معهم .
قوله تعالى: من قبل أن نطمس وجوها في طمس الوجوه ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه إعماء العيون ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك .
والثاني: أنه طمس ما فيها من عين ، وأنف ، وحاجب ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، واختيار ابن قتيبة . [ ص: 102 ] والثالث: أنه ردها عن طريق الهدى ، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي . وقال مقاتل: من قبل أن نطمس وجوها ، أي: نحول الملة عن الهدى والبصيرة . فعلى هذا القول يكون ذكر الوجه مجازا . والمراد: البصيرة والقلوب . وعلى القولين قبله يكون المراد بالوجه: العضو المعروف .
قوله تعالى: فنردها على أدبارها خمسة أقوال .
أحدها: نصيرها في الأقفاء ، ونجعل عيونها في الأقفاء ، هذا قول ابن عباس ، وعطية .
والثاني: نصيرها كالأقفاء ، ليس فيها فم ، ولا حاجب ، ولا عين ، وهذا قول قوم ، منهم ابن قتيبة .
والثالث: نجعل الوجه منبتا للشعر ، كالقرود ، هذا قول الفراء .
والرابع: ننفيها مدبرة عن ديارها ومواضعها . وإلى نحوه ذهب ابن زيد . قال ابن جرير: فيكون المعنى: من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها . وناحيتهم التي هم بها نزول ، فنردها على أدبارها من حيث جاؤوا بديا من الشام .
والخامس: نردها في الضلالة ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل .
قوله تعالى: أو نلعنهم يعود إلى أصحاب الوجوه . وفي معنى لعن أصحاب السبت قولان .
[ ص: 103 ] أحدهما: مسخهم قردة ، قاله الحسن ، وقتادة ، ومقاتل . والثاني: طردهم في التيه ، حتى هلك فيه أكثرهم ذكره الماوردي .
قوله تعالى: وكان أمر الله مفعولا قال ابن جرير: الأمر هاهنا: بمعنى: المأمور ، سمي باسم الأمر لحدوثه عنه .
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما
قوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به قال ابن عمر: لما نزلت يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا [الزمر: 53] قالوا: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والشرك؟ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، فنزلت هذه . وقد سبق معنى الإشراك .
والمراد من الآية: لا يغفر لمشرك مات على شركه . وفي قوله: لمن يشاء نعمة عظيمة من وجهين ، أحدهما: أنها تقتضي أن كل ميت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب ، وإن مات مصرا . والثاني: أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع [ ص: 104 ] للمسلمين ، وهو أن يكونوا على خوف وطمع .
ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا
قوله تعالى: ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم سبب نزولها: أن مرحب ابن زيد ، وبحري بن عون -وهما من اليهود- أتيا النبي صلى الله عليه وسلم بأطفالهما ، ومعهما طائفة من اليهود فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ قال: لا ، قالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم ، ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل ، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار ، فنزلت هذه الآية . هذا قول ابن عباس .
وفي قوله ألم تر قولان . أحدهما: ألم تخبر ، قاله ابن قتيبة . والثاني: ألم تعلم ، قاله الزجاج . وفي الذين يزكون أنفسهم قولان . أحدهما: اليهود على ما ذكرنا عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل . والثاني: أنهم اليهود ، والنصارى ، وبه قال الحسن ، وابن زيد ، ومعنى "يزكون أنفسهم": يزعمون أنهم أزكياء ، يقال: زكى الشيء: إذا نما في الصلاح .
وفي الذي زكوا به أنفسهم أربعة أقوال .
أحدها: أنهم برؤوا أنفسهم من الذنوب ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
[ ص: 105 ] والثاني: أن اليهود قالوا: إن أبناءنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله ، ويشفعون لنا رواه عطية ، عن ابن عباس .
والثالث: أن اليهود كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم ، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم ، هذا قول عكرمة ، ومجاهد ، وأبي مالك .
والرابع: أن اليهود والنصارى قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه [المائدة: 18] وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى [البقرة: 111] هذا قول الحسن ، وقتادة .
قوله تعالى: بل الله يزكي من يشاء أي: يجعله زاكيا ، ولا يظلم الله أحدا مقدار فتيل . قال ابن جرير: وأصل "الفتيل" المفتول ، صرف عن مفعول إلى فعيل ، كصريع ، ودهين .
وفي الفتيل قولان . أحدهما: أنه ما يكون في شق النواة ، رواه عكرمة ، عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، والضحاك ، وقتادة ، وعطية ، وابن زيد ، ومقاتل ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج .
والثاني: أنه ما يخرج بين الأصابع من الوسخ إذا دلكن ، رواه العوفي ، عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وأبو مالك ، والسدي ، والفراء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (124)
صــ106 إلى صــ 110
انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا
قوله تعالى: انظر كيف يفترون على الله الكذب وهو قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه وقولهم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقولهم :لا ذنب لنا ونحو ذلك مما كذبوا فيه (وكفى به) أي: وحسبهم بقيلهم الكذب (إثما مبينا) يتبين كذبهم لسامعيه .
[ ص: 106 ] ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا
قوله تعالى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب في سبب نزولها: أربعة أقوال .
أحدها: أن جماعة من اليهود قدموا على قريش ، فسألوهم: أديننا خير ، أم دين محمد؟ فقال: اليهود: بل دينكم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس .
والثاني: أن كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، قدما مكة ، فقالت لهما قريش: أنحن خير ، أم محمد؟ فقالا: أنتم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عكرمة في رواية . وقال قتادة: نزلت في كعب ، وحيي ، ورجلين آخرين من بني النضير قالوا: لقريش: أنتم أهدى من محمد .
[ ص: 107 ] والثالث: أن كعب بن الأشرف وهو الذي قال لكفار قريش: أنتم أهدى من محمد ، فنزلت هذه الآية . وهذا قول مجاهد ، والسدي ، وعكرمة في رواية .
والرابع: أن حيي بن أخطب قال للمشركين: نحن وإياكم خير من محمد ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن زيد . والمراد بالمذكورين في هذه الآية اليهود .
وفي "الجبت" سبعة أقوال .
أحدها: أنه السحر ، قاله عمر بن الخطاب ، ومجاهد ، والشعبي ، والثاني: الأصنام ، رواه عطية ، عن ابن عباس . وقال عكرمة: الجبت: صنم . والثالث: حيي بن أخطب ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، والفراء . والرابع: كعب بن الأشرف ، رواه الضحاك ، عن ابن عباس ، وليث عن مجاهد . والخامس: الكاهن ، روي عن ابن عباس ، وبه قال ابن سيرين ، ومكحول . والسادس: الشيطان ، قاله سعيد بن جبير في رواية ، وقتادة ، والسدي . والسابع: الساحر ، قاله أبو العالية ، وابن زيد . وروى أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال: الجبت: الساحر بلسان الحبشة .
وفي المراد بالطاغوت ها هنا ستة أقوال .
أحدها: الشيطان ، قاله عمر بن الخطاب ، ومجاهد في رواية ، والشعبي ، وابن زيد . والثاني: أنه اسم للذين يكونون بين يدي الأصنام يعبرون عنها ليضلوا الناس ، رواه العوفي عن ابن عباس . والثالث: كعب بن الأشرف ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، والفراء . والرابع: الكاهن ، وبه قال سعيد بن جبير ، وأبو العالية ، وقتادة ، والسدي . والخامس: أنه الصنم ، [ ص: 108 ] قاله عكرمة . وقال الجبت والطاغوت صنمان . والسادس: الساحر ، روي عن ابن عباس ، وابن سيرين ، ومكحول ، فهذه الأقوال . تدل على أنهما اسمان لمسميين .
وقال اللغويون منهم ابن قتيبة ، والزجاج: كل معبود من دون الله ، من حجر ، أو صورة ، أو شيطان ، فهو جبت وطاغوت .
قوله تعالى: ويقولون للذين كفروا يعني: لمشركي قريش: أنتم "أهدى" من الذين آمنوا ، يعنون النبي وأصحابه "طريقا" في الديانة والاعتقاد .
أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا
قوله تعالى: أم لهم نصيب من الملك هذا استفهام معناه: الإنكار ، فالتقدير: ليس لهم . وقال الفراء: قوله فإذا لا يؤتون الناس نقيرا جواب لجزاء مضمر ، تقديره: ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون الناس نقيرا . وفي "النقير" أربعة أقوال .
[ ص: 109 ] أحدها: أنه النقطة التي في ظهر النواة ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة في آخرين .
والثاني: أنه القشر الذي يكون في وسط النواة ، رواه التيمي ، عن ابن عباس . وروي عن مجاهد: أنه الخيط الذي يكون في وسط النواة .
والثالث: أنه نقر الرجل الشيء بطرف إبهامه ، رواه أبو العالية ، عن ابن عباس .
والرابع: أنه حبة النواة التي في وسطها ، رواه ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . قال الأزهري: و"الفتيل" و"النقير" و"القطمير": تضرب أمثالا للشيء التافه الحقير .
أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما
قوله تعالى: أم يحسدون الناس سبب نزولها: أن أهل الكتاب قالوا: يزعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع ، وله تسع نسوة ، فأي ملك أفضل من هذا ، فنزلت ، رواه العوفي ، عن ابن عباس .
[ ص: 110 ] وفي "أم" قولان . أحدهما: أنها بمعنى: ألف الاستفهام ، قاله ابن قتيبة .
والثاني: بمعنى: "بل" قاله الزجاج ، وقد سبق ذكر "الحسد" في (سورة البقرة) والحاسدون هاهنا: اليهود . وفي المراد بالناس هاهنا: أربعة أقوال .
أحدها: النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه عطية ، عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني: النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
والثالث: العرب ، قاله قتادة . والرابع: النبي ، والصحابة ، ذكره الماوردي .
وفي الذي آتاهم الله من فضله ثلاثة أقوال .
أحدها: إباحة الله تعالى نبيه أن ينكح ما شاء من النساء من غير عدد ، روي عن ابن عباس ، والضحاك ، والسدي . والثاني: أنه النبوة ، قاله ابن جريج ، والزجاج . والثالث: بعثة نبي منهم على قول من قال: هم العرب .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (125)
صــ111 إلى صــ 115
قوله تعالى: فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب يعني: التوراة ، والإنجيل ، والزبور . كله كان في آل إبراهيم ، وهذا النبي من أولاد إبراهيم . وفي الحكمة قولان .
أحدهما: النبوة ، قاله السدي ، ومقاتل . والثاني: الفقه في الدين ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
وفي الملك العظيم خمسة أقوال . أحدها: ملك سليمان ، رواه عطية ، عن ابن عباس . والثاني: ملك داود ، وسليمان في النساء ، كان لداود مائة امرأة ، ولسليمان سبعمائة امرأة ، وثلاثمائة سرية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال السدي . والثالث: النبوة ، قاله مجاهد . والرابع: التأييد بالملائكة ، قاله ابن زيد في آخرين . والخامس: الجمع بين سياسة الدنيا ، وشرع الدين ، ذكره الماوردي .
فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا
قوله تعالى: فمنهم من آمن به فيمن تعود عليه الهاء ، والميم قولان .
أحدهما: اليهود الذين أنذرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول مجاهد ، ومقاتل .
[ ص: 112 ] والفراء في آخرين . فعلى هذا القول في هاء "به" ثلاثة أقوال .
أحدها: تعود على ما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد . قال أبو سليمان: فيكون الكلام مبنيا على قوله على ما آتاهم الله من فضله وهو النبوة ، والقرآن .
والثاني: أنها تعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فتكون متعلقة بقوله أم يحسدون الناس يعني: بالناس محمدا صلى الله عليه وسلم ، ويكون المراد بقوله فمنهم من آمن به عبد الله بن سلام ، وأصحابه . والثالث: أنها تعود إلى النبإ عن آل إبراهيم ، قاله الفراء .
والقول الثاني أن الهاء ، والميم في قوله (فمنهم) تعود إلى آل إبراهيم ، فعلى هذا في هاء "به" قولان . أحدهما: أنها عائدة إلى إبراهيم ، قاله السدي . والثاني: إلى الكتاب ، قاله مقاتل .
قوله تعالى: ومنهم من صد عنه وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير ، وعكرمة ، وابن يعمر ، والجحدري: (من صد عنه) برفع الصاد . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو الجوزاء ، وأبو رجاء ، والجوني: بكسر الصاد .
إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما
قوله تعالى: سوف نصليهم نارا قال الزجاج : أي: نشويهم في نار . ويروى أن يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية ، أي: مشوية . وفي قوله بدلناهم جلودا غيرها قولان .
أحدهما: أنها غيرها حقيقة ، ولا يلزم على هذا أن يقال: كيف بدلت [ ص: 113 ] جلود التذت بالمعاصي بجلود ما التذت ، لأن الجلود آلة في إيصال العذاب إليهم ، كما كانت آلة في إيصال اللذة ، وهم المعاقبون لا الجلود .
والثاني: أنها هي بعينها تعاد بعد احتراقها ، كما تعاد بعد البلى في القبور . فتكون الغيرية عائدة إلى الصفة ، لا إلى الذات ، فالمعنى: بدلناهم جلودا غير محترقة ، كما تقول: صغت من خاتمي خاتما آخر . وقال الحسن البصري: في هذه الآية: تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة ، كلما أكلتهم قيل: لهم: عودوا ، فعادوا .
والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا
قوله تعالى: وندخلهم ظلا ظليلا قال الزجاج : هو الذي يظل من الحر والريح ، وليس كل ظل كذلك ، فأعلم الله تعالى أن ظل الجنة ظليل لا حر معه ، ولا برد . فإن قيل: أفي الجنة برد أو حر يحتاجون معه إلى ظل؟ فالجواب: أن لا ، وإنما خاطبهم بما يعقلون مثله ، كقوله: ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا [مريم: 62] وجواب آخر: وهو أنه إشارة إلى كمال وصفها ، وتمكين بنائها ، فلو كان البرد أو الحر يتسلط عليها ، لكان في أبنيتها وشجرها ظل ظليل .
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا
قوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها في سبب نزولها ثلاثة أقوال . .
[ ص: 114 ] أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ، طلب مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة ، فذهب ليعطيه إياه ، فقال: العباس: بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية ، فكف عثمان يده مخافة أن يعطيه للعباس ، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "هات المفتاح" فأعاد العباس قوله ، وكف عثمان ، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر" فقال: هاكه يا رسول الله بأمانة الله ، فأخذ المفتاح ، ففتح البيت ، فنزل جبريل بهذه الآية ، فدعا عثمان ، فدفعه إليه . رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والزهري ، وابن جريج ، ومقاتل .
والثاني: أنها نزلت في الأمراء . رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال زيد بن أسلم ، وابنه ، ومكحول ، واختاره أبو سليمان الدمشقي ، وقال: أمر الأمراء أن يؤدوا الأمانة في أموال المسلمين .
والثالث: أنها نزلت عامة ، وهو مروي عن أبي بن كعب ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، واختاره القاضي أبو يعلى . واعلم أن نزولها على سبب لا يمنع عموم حكمها ، فإنها عامة في الودائع وغيرها من الأمانات . وقال ابن مسعود: الأمانة في الوضوء ، وفي الصلاة ، وفي الصوم ، وفي الحديث ، وأشد ذلك في الودائع .
[ ص: 115 ] قوله تعالى: نعما يعظكم به يقول: نعم الشيء يعظكم به ، وقد ذكرناه في (البقرة) .
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في سبب نزولها قولان . أحدهما: أنها نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية ، أخرجه البخاري ، ومسلم ، من حديث ابن عباس .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (126)
صــ116 إلى صــ 120
والثاني: أن عمار بن ياسر كان مع خالد بن الوليد في سرية ، فهرب القوم ، ودخل رجل منهم على عمار ، فقال: إني قد أسلمت ، هل ينفعني ، أو أذهب كما ذهب قومي؟ قال عمار: أقم فأنت آمن ، فرجع الرجل ، وأقام فجاء خالد ، فأخذ الرجل ، فقال عمار: إني قد أمنته ، وإنه قد أسلم ، قال: أتجير علي وأنا الأمير؟ فتنازعا ، وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
قوله تعالى: وأطيعوا الرسول طاعة الرسول في حياته: امتثال أمره ، واجتناب نهيه ، وبعد مماته: اتباع سنته .
وفي أولي الأمر أربعة أقوال .
أحدها: أنهم الأمراء ، قاله أبو هريرة ، وابن عباس في رواية ، وزيد بن أسلم ، والسدي ، ومقاتل .
[ ص: 117 ] والثاني: أنهم العلماء ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وهو قول جابر بن عبد الله ، والحسن ، وأبي العالية ، وعطاء ، والنخعي ، والضحاك ، ورواه خصيف عن مجاهد .
والثالث: أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وبه قال بكر بن عبد الله المزني .
والرابع: أنهم أبو بكر ، وعمر ، وهذا قول عكرمة .
قوله تعالى: فإن تنازعتم في شيء قال الزجاج : معناه: اختلفتم . وقال كل فريق: القول القولي . واشتقاق المنازعة: أن كل واحد ينتزع الحجة .
قوله تعالى: فردوه إلى الله والرسول في كيفية هذا الرد قولان .
أحدهما: أن رده إلى الله رده إلى كتابه ، ورده إلى النبي رده إلى سنته ، هذا قول مجاهد ، وقتادة ، والجمهور . قال القاضي أبو يعلى: وهذا الرد يكون من وجهين . أحدهما: إلى المنصوص عليه باسمه ومعناه ، والثاني: الرد إليهما من جهة الدلالة عليه ، واعتباره من طريق القياس ، والنظائر .
والقول الثاني: أن رده إلى الله ورسوله ، أن يقول: من لا يعلم الشيء: الله ورسوله أعلم ، ذكره قوم ، منهم الزجاج .
وفي المراد بالتأويل أربعة أقوال . أحدها: أنه الجزاء ، والثواب ، وهو قول مجاهد ، وقتادة . والثاني: أنه العاقبة ، وهو قول السدي ، وابن زيد ، وابن [ ص: 118 ] قتيبة ، والزجاج . والثالث: أنه التصديق ، مثل قوله هذا تأويل رؤياي [يوسف: 100] قاله ابن زيد في رواية . والرابع: أن معناه: ردكم إياه إلى الله ورسوله أحسن من تأويلكم ، ذكره الزجاج .
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا
قوله تعالى: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا في سبب نزولها: أربعة أقوال .
أحدها: أنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة ، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد ، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف ، فأبى اليهودي ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقضى لليهودي ، فلما خرجا ، قال المنافق: ننطلق إلى عمر بن الخطاب ، فأقبلا إليه ، فقصا عليه القصة ، فقال: رويدا حتى أخرج إليكما ، فدخل البيت ، فاشتمل على السيف ، ثم خرج ، فضرب به المنافق [ ص: 119 ] حتى برد ، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله ورسوله ، فنزلت هذه الآية . رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثاني: أن أبا بردة الأسلمي كان كاهنا يقضي بين اليهود ، فتنافر إليه ناس من المسلمين ، فنزلت هذه الآي ، رواه عكرمة ، عن ابن عباس .
والثالث: أن يهوديا ومنافقا كانت بينهما خصومة ، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي ، لأنه لا يأخذ الرشوة ، ودعا المنافق إلى حكامهم ، لأنهم يأخذون الرشوة ، فلما اختلفا ، اجتمعا أن يحكما كاهنا ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الشعبي .
والرابع: أن رجلا من بني النضير قتل رجلا من بني قريظة ، فاختصموا ، فقال المنافقون منهم: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن ، فقال المسلمون من الفريقين: [ ص: 120 ] بل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأبى المنافقون ، فانطلقوا إلى الكاهن ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول السدي .
والزعم والزعم لغتان ، وأكثر ما يستعمل في قول ما لا تتحقق صحته ، وفي ( الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله ) قولان . أحدهما: أنه المنافق . والثاني: أن الذي زعم أنه آمن بما أنزل إليه المنافق ، والذي زعم أنه آمن بما أنزل من قبله اليهودي . والطاغوت: كعب بن الأشرف ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والربيع ، ومقاتل .
قوله تعالى: وقد أمروا أن يكفروا به قال مقاتل: أن يتبرؤوا من الكهنة ، و"الضلال البعيد": الطويل .
وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا
قوله تعالى: وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله قال مجاهد: هذه الآية والتي قبلها نزلتا في خصومة اليهودي ، والمنافق ، والهاء والميم في "لهم" إشارة إلى الذين يزعمون و "الذي أنزل الله": أحكام القرآن . و "إلى الرسول" أي: إلى حكمه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (127)
صــ121 إلى صــ 125
فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا
قوله تعالى: فكيف إذا أصابتهم مصيبة أي: كيف يصنعون ويحتالون إذا أصابتهم عقوبة من الله؟ وفي المراد بالمصيبة قولان . أحدهما: أنه تهديد [ ص: 121 ] ووعيد . والثاني: أنه قتل المنافق الذي قتله عمر . وفي الذي قدمت أيديهم ثلاثة أقوال . أحدها: نفاقهم واستهزاؤهم . والثاني: ردهم حكم النبي صلى الله عليه وسلم . والثالث: معاصيهم المتقدمة .
قوله تعالى: إن أردنا بمعنى: ما أردنا .
قوله تعالى: إلا إحسانا وتوفيقا فيه ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه لما قتل عمر صاحبهم ، جاؤوا يطلبون بدمه ، ويحلفون ما أردنا بالمطالبة بدمه إلا إحسانا إلينا ، وما يوافق الحق في أمرنا .
والثاني: ما أردنا بالترافع إلى عمر إلا إحسانا وتوفيقا .
والثالث: أنهم جاؤوا يعتذرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم من محاكمتهم إلى غيره ، ويقولون: ما أردنا في عدولنا عنك إلا إحسانا بالتقريب في الحكم ، وتوفيقا بين الخصوم دون الحمل على مر الحق .
أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا
قوله تعالى: أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم أي: من النفاق والزيغ . [ ص: 122 ] وقال ابن عباس : إضمارهم خلاف ما يقولون فأعرض عنهم ولا تعاقبهم وعظهم بلسانك وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي: تقدم إليهم: إن فعلتم الثانية ، عاقبتكم . وقال الزجاج : يقال: بلغ الرجل يبلغ بلاغة فهو بليغ: إذا كان يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه .
وقد تكلم العلماء في حد "البلاغة" فقال بعضهم: "البلاغة": إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ ، وقيل: "البلاغة": حسن العبارة مع صحة المعنى ، وقيل: "البلاغة": الإيجاز مع الإفهام ، والتصرف من غير إضجار .
قال خالد بن صفوان: أحسن الكلام ما قلت الفاظه ، وكثرت معانيه ، وخير الكلام ما شوق أوله إلى سماع آخره ، وقال غيره: إنما يستحق الكلام اسم البلاغة إذا سابق لفظه معناه ، ومعناه لفظه ، ولم يكن لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك .
فصل
وقد ذهب قوم إلى أن "الإعراض" المذكور في هذه الآية منسوخ بآية السيف .
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما
قوله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع قال الزجاج : "من" دخلت للتوكيد . والمعنى: وما أرسلنا رسولا إلا ليطاع . وفي قوله بإذن الله قولان . أحدهما: أنه بمعنى: الأمر ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه الأذن نفسه ، قاله مجاهد . وقال الزجاج : المعنى: إلا ليطاع بأن الله أذن له في ذلك .
[ ص: 123 ] وقوله تعالى: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم يرجع إلى المتحاكمين اللذين سبق ذكرهما . قال ابن عباس : ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرسول "جاءوك فاستغفروا الله" من صنيعهم .
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
قوله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أنها نزلت في خصومة كانت بين الزبير وبين رجل من الأنصار في شراج الحرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري ، قال: يا رسول الله: إن كان ابن عمتك! فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال للزبير: "اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر" قال الزبير: فوالله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك . أخرجه البخاري ، ومسلم .
[ ص: 124 ] والثاني: أنها نزلت في المنافق ، واليهودي اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف ، وقد سبقت قصتهما ، قاله مجاهد .
قوله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون أي: لا يكونون مؤمنين حتى يحكموك ، وقيل: "لا" رد لزعمهم أنهم مؤمنون ، والمعنى: فلا ، أي: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا ، وهم يخالفون حكمك ، ثم استأنف ، فقال: وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، أي: فيما اختلفوا فيه .
وفي "الحرج" قولان . أحدهما: أنه الشك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي في آخرين . والثاني: الضيق ، قاله أبو عبيدة ، والزجاج . وفي قوله ويسلموا تسليما قولان . أحدهما: يسلموا لما أمرتهم به ، فلا يعارضونك ، هذا قول ابن عباس ، والزجاج ، والجمهور . والثاني: يسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك ، ذكره الماوردي .
ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون [ ص: 125 ] به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما
قوله تعالى: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم سبب نزولها: أن رجلا من اليهود قال: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم ، فقتلناها . فقال ثابت بن قيس بن الشماس: والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا ، فنزلت هذه الآية . هذا قول السدي . قال الزجاج : "لو" يمتنع به الشيء لامتناع غيره ، تقول: لو جاءني زيد لجئته . والمعنى: أن مجيئك امتنع لامتناع مجيئه ، و"كتبنا" بمعنى: فرضنا . والمعنى: لو أنا فرضنا على المؤمنين بك أن اقتلوا أنفسكم . قرأ أبو عمرو: أن اقتلوا أنفسكم ، بكسر النون ، أو اخرجوا بضم الواو . وقرأ ابن عامر ، وابن كثير ، ونافع ، والكسائي: أن اقتلوا أو اخرجوا بضم النون والواو . وقرأ عاصم ، وحمزة بكسرهما ، والمعنى: لو فرضنا عليهم كما فرضنا على قوم موسى ، لم يفعله إلا قليل منهم ، هذه قراءة الجمهور . وقرأ ابن عامر: إلا قليلا بالنصب . (ولو أنهم) يعني: المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا ، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ويصدون عنك (فعلوا ما يوعظون) به أي: ما يذكرون به من طاعة الله ، والوقوف مع أمره ، (لكان خيرا لهم) وأثبت لأمورهم ، وقال السدي: (وأشد تثبيتا) أي: تصديقا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (128)
صــ126 إلى صــ 130
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما
قوله تعالى: ومن يطع الله والرسول في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
[ ص: 126 ] أحدها: أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرآه رسول الله يوما فعرف الحزن في وجهه ، فقال: يا ثوبان ما غير وجهك؟ قال: ما بي من وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك ، فأذكر الآخرة ، فأخاف أن لا أراك هناك ، فنزلت هذه الآية . رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: ما ينبغي أن نفارقك في الدنيا ، فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا ، فنزلت هذه الآية . هذا قول مسروق .
والثالث: أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي وهو محزون ، فقال: مالي أراك محزونا؟ فقال: يا رسول الله غدا ترفع مع الأنبياء ، فلا نصل إليك . فنزلت هذه الآية . هذا قول سعيد بن جبير . قال ابن عباس : ومن يطع الله في الفرائض ، والرسول في السنن . قال ابن قتيبة: والصديق: الكثير الصدق ، كما يقال: فسيق ، وسكير ، وشريب ، وخمير ، وسكيت ، وفجير ، وعشيق ، [ ص: 127 ] وضليل ، وظليم: إذا كثر منه ذلك . ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرة ، أو مرتين حتى يكثر منه ذلك ، أو يكون عادة . فأما الشهداء ، فجمع شهيد وهو القتيل في سبيل الله .
وفي تسميته بالشهيد خمسة أقوال . أحدها: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة ، قاله ثعلب . والثاني: لأن ملائكة الرحمة تشهده . والثالث: لسقوطه بالأرض ، والأرض: هي الشاهدة ، ذكر القولين ابن فارس اللغوي . والرابع: لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل ، قاله أبو سليمان الدمشقي . والخامس: لأنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل ، قاله شيخنا علي بن عبيد الله .
فأما الصالحون ، فهم اسم لكل من صلحت سريرته وعلانيته ، والجمهور على أن النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين عام في جميع من هذه صفته .
[ ص: 128 ] وقال عكرمة: المراد بالنبيين هاهنا: محمد ، والصديقين أبو بكر ، وبالشهداء عمر وعثمان وعلي ، وبالصالحين سائر الصحابة .
قوله تعالى: وحسن أولئك رفيقا قال الزجاج : "رفيقا" منصوب على التمييز ، وهو ينوب عن رفقاء . قال الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
وقال آخر:
في
حلقكم عظم وقد شجينا يريد في حلوقكم عظام
"ذلك الفضل" الذي أعطى المذكورين "من الله وكفى بالله عليما" بالمقاصد والنيات .
[ ص: 129 ] يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا
قوله تعالى: خذوا حذركم فيه قولان . أحدهما: احذروا عدوكم .
والثاني: خذوا سلاحكم .
قوله تعالى: فانفروا ثبات قال ابن قتيبة: أي: جماعات ، واحدتها: ثبة ، يريد جماعة بعد جماعة وقال الزجاج : "الثبات": الجماعات المتفرقة .
قال زهير:
وقد أغدوا على ثبة كرام نشاوى واجدين لما نشاء
قال ابن عباس : فانفروا ثبات ، أي: عصبا ، سرايا متفرقين ، أو انفروا [جميعا يعني] كلكم .
فصل
وقد نقل عن ابن عباس أن هذه الآية وقوله انفروا خفافا وثقالا [التوبة: 41] [ ص: 130 ] وقوله إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما [التوبة: 39] منسوخات بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة [التوبة: 122] قال أبو سليمان الدمشقي: والأمر في ذلك بحسب ما يراه الإمام ، وليس في هذا من المنسوخ شيء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (129)
صــ131 إلى صــ 135
وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما
قوله تعالى: وإن منكم لمن ليبطئن اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما: أنها في المنافقين ، كعبد الله بن أبي ، وأصحابه كانوا يتثاقلون عن الجهاد ، فإن لقيت السرية نكبة ، قال من أبطأ منهم: لقد أنعم الله علي ، وإن لقوا غنيمة ، قال: يا ليتني كنت معهم . هذا قول ابن عباس ، وابن جريج .
والثاني: أنها نزلت في المسلمين الذين قلت علومهم بأحكام الدين ، فتثبطوا لقلة العلم ، لا لضعف الدين ، ذكره الماوردي ، وغيره . فعلى الأول تكون إضافتهم إلى المؤمنين بقوله "منكم" لموضع نطقهم بالإسلام ، وجريان أحكامه عليهم ، وعلى الثاني تكون الإضافة حقيقة ، قال ابن جرير: اللام في "لمن" لام تأكيد .
قال الزجاج : واللام في "ليبطئن" لام القسم ، كقولك: إن منكم لمن أحلف بالله ليبطئن ، يقال: "أبطأ الرجل" و "بطؤ" . فمعنى "أبطأ": تأخر ، ومعنى "بطؤ": ثقل . وقرأ أبو جعفر: "ليبطئن" بتخفيف الهمزة ، وفي معنى "ليبطئن" قولان . أحدهما: ليبطئن هو بنفسه ، وهو قول ابن عباس . والثاني: ليبطئن غيره ، قاله ابن جريج . قال ابن عباس : و "المصيبة": النكبة . و "الفضل من الله": الفتح والغنيمة .
[ ص: 131 ] قوله تعالى: ( كأن لم يكن بينكم وبينه مودة ) قرأ ابن كثير ، وحفص ، والمفضل ، عن عاصم: كأن لم تكن بالتاء ، لأن الفاعل المسند إليه مؤنث في اللفظ وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، عن عاصم: يكن بالياء ، لأن التأنيث ليس بحقيقي . قال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى: ليقولن يا ليتني كنت معهم ، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة ، أي: كأنه لم يعاقدكم على أن يجاهد معكم ، ويجوز أن يكون هذا الكلام معترضا به ، فيكون المعنى: ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فإن أصابتكم مصيبة ، قال: قد أنعم الله علي ، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة . فيكون معنى "المودة" أي: كأنه لم يعاقدكم على الإيمان .
فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما
قوله تعالى: الذين يشرون الحياة الدنيا يشرون هاهنا: بمعنى: يبتغون في قول الجماعة . وأنشدوا
وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامة
[ ص: 132 ] و "برد": غلام له باعه . ومعنى الآية: ليكن قتال المقاتلين على وجه الإخلاص ، وطلب الآخرة .
قوله تعالى: فيقتل أو يغلب خرج مخرج الغالب ، وقد يثاب من لم يغلب ولم يقتل .
وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا
قوله تعالى: والمستضعفين من الرجال قال الفراء: تقديره: وفي المستضعفين . وكذلك روي عن ابن عباس . وقال الزجاج : المستضعفون في موضع خفض ، والمعنى: في سبيل الله ، وسبيل المستضعفين ، أي: ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء؟ قال ابن عباس : وهم ناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا . و "القرية": مكة في قول الجماعة . قال الفراء: وإنما خفض "الظالم" لأنه نعت للأهل ، فلما عاد الأهل على القرية كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها ، تقول: مررت بالرجل الواسعة داره .
[ ص: 133 ] قوله تعالى: واجعل لنا من لدنك وليا قال أبو سليمان: سألوا الله وليا من عنده يلي إخراجهم منها ، ونصيرا يمنعهم من المشركين . قال ابن عباس : فلما فتح رسول الله مكة ، جعل الله عز وجل النبي عليه السلام وليهم ، واستعمل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد ، فكان نصيرا لهم ، ينصف الضعيف من القوي .
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا
قوله تعالى: يقاتلون في سبيل الطاغوت الطاغوت هاهنا: الشيطان . وقال أبو عبيدة: الطاغوت هاهنا: في معنى جماعة ، كقوله "ولحم الخنزير" معناه: ولحم الخنازير .
قوله تعالى: إن كيد الشيطان يعني: مكره وصنيعه (كان ضعيفا) حيث خذل أصحابه يوم بدر .
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا
[ ص: 134 ] قوله تعالى: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما: أنها نزلت في نفر من المهاجرين ، كانوا يحبون أن يؤذن لهم في قتال المشركين وهم بمكة قبل أن يفرض القتال ، فنهوا عن ذلك ، فلما أذن لهم فيه ، كرهه بعضهم . روى هذا المعنى أبو صالح ، عن ابن عباس ، وهو قول قتادة ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني: أنها نزلت واصفة أحوال قوم كانوا في الزمان المتقدم ، فحذرت هذه الأمة من مثل حالهم ، روى هذا المعنى عطية ، عن ابن عباس . قال أبو سليمان الدمشقي: كأنه يومئ إلى قصة الذين قالوا: ابعث لنا ملكا . وقال مجاهد: هي في اليهود .
فأما كف اليد ، فالمراد به: الامتناع عن القتال ، ذلك كان بمكة ، و"كتب" بمعنى: فرض ، وذلك بالمدينة ، هذا على القول الأول .
قوله تعالى: إذا فريق منهم في هذا الفريق ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم المنافقون . والثاني: أنهم كانوا مؤمنين ، فلما فرض القتال ، نافقوا جبنا وخوفا . والثالث: أنهم مؤمنون غير أن طبائعهم غلبتهم ، فنفرت [ ص: 135 ] نفوسهم عن القتال .
قوله يخشون الناس في المراد بالناس قولان . أحدهما: كفار مكة . والثاني: جميع الكفار .
قوله تعالى: أو أشد خشية قيل: إن "أو" بمعنى: الواو ، و "كتبت" بمعنى: فرضت . و "لولا" بمعنى: "هلا" . قال الفراء: إذا لم تر بعدها اسما ، فهي استفهام ، بمعنى: هلا ، وإذا رأيت بعدها اسما مرفوعا ، فهي التي جوابها اللام ، تقول: لولا عبد الله لضربتك . وقال ابن قتيبة: إذا رأيتها بغير جواب ، فهي بمعنى: "هلا" تقول: لولا فعلت كذا ، ومثلها "لولا" فإذا رأيت لـ "لولا" جوابا ، فليست بمعنى: "هلا إنما هي التي تكون لأمر يقع بوقوع غيره ، كقوله فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه [الصافات: 143] قلت: فأما "لولا" التي لها جواب فكثيرة في الكلام ، وأنشدوا في ذلك:
لولا الحياء وأن رأسي قد عثا فيه المشيب لزرت أم القاسم
وأما التي بمعنى: "هلا" فأنشدوا منها:
[ ص: 136 ]
تعدون عقر النبيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (130)
صــ136 إلى صــ 140
وأما التي بمعنى: "هلا" فأنشدوا منها:
[ ص: 136 ]
تعدون عقر النبيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
أراد: فهلا تعدون الكمي ، والكمي: الداخل في السلاح .
وفي الأجل القريب قولان .
أحدهما: أنه الموت ، فكأنهم قالوا: هلا تركتنا نموت موتا ، وعافيتنا من القتل هذا قول السدي ، ومقاتل .
والثاني: أنه إمهال زمان ، فكأنهم قالوا: هلا أخرت فرض الجهاد عنا قليلا حتى نكثر ونقوى ، قاله أبو سليمان الدمشقي في آخرين .
قوله تعالى: قل متاع الدنيا قليل أي: مدة الحياة فيها قليلة .
قوله تعالى: ولا تظلمون فتيلا قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي: ولا يظلمون بالياء . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم: بالتاء ، وقد سبق ذكر المتاع والفتيل .
[ ص: 137 ] أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا
قوله تعالى: أينما تكونوا يدرككم الموت سبب نزولها: أن المنافقين قالوا: في حق شهداء أحد ، لو كانوا عندنا ما ماتوا ، وما قتلوا ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، ومقاتل ، والبروج: الحصون ، قاله ابن عباس ، وابن قتيبة . وفي "المشيدة" خمسة أقوال .
أحدها: أنها الحصينة ، قاله ابن عباس ، وقتادة . والثاني: المطولة ، قاله أبو مالك ، ومقاتل ، وابن قتيبة . والثالث: المجصصة ، قاله هلال بن خباب ، واليزيدي . والرابع: أنها المبنية بالشيد ، وهو الجص ، قاله أبو سليمان الدمشقي . والخامس: أنها بروج في السماء ، قاله الربيع بن أنس ، والثوري . وقال السدي: هي قصور بيض في السماء مبنية .
قوله تعالى: وإن تصبهم اختلفوا فيهم على ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم المنافقون واليهود ، قاله ابن عباس . والثاني: المنافقون ، قاله الحسن . والثالث: اليهود ، قاله ابن السري .
وفي الحسنة والسيئة قولان .
أحدهما: أن الحسنة: الخصب ، والمطر . والسيئة: الجدب ، والغلاء ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
[ ص: 138 ] والثاني: أن الحسنة: الفتح والغنيمة . والسيئة: الهزيمة والجراح ، ونحو ذلك ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وفي قوله تعالى: من عندك قولان .
أحدهما: بشؤمك ، قاله ابن عباس . والثاني: بسوء تدبيرك ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى: قل كل من عند الله قال ابن عباس : الحسنة والسيئة ، أما الحسنة ، فأنعم بها عليك ، وأما السيئة ، فابتلاك بها ،
قوله تعالى: فمال هؤلاء القوم وقف أبو عمرو ، والكسائي على الألف من "فما" في قوله: فمال هؤلاء القوم و مال هذا الكتاب و مال هذا الرسول و فمال الذين كفروا والباقون وقفوا على اللام . فأما "الحديث" ، فقيل: هو القرآن ، فكأنه قال: لا يفقهون القرآن ، فيؤمنون به ، ويعلمون أن الكل من عند الله .
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا
قوله تعالى: ما أصابك من حسنة فمن الله في المخاطب بهذا الكلام ثلاثة أقوال . أحدها: أنه عام ، فتقديره: ما أصابك أيها الإنسان ، قاله قتادة . والثاني: أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به غيره ، ذكره الماوردي . وقال ابن الأنباري: ما أصابك الله من حسنة ، وما أصابك الله به من سيئة ، فالفعلان يرجعان إلى الله عز وجل . وفي "الحسنة" و "السيئة" ثلاثة أقوال . أحدها: أن الحسنة: ما فتح عليه يوم بدر ، والسيئة: ما أصابه يوم أحد ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس . والثاني: الحسنة: الطاعة ، والسيئة ، المعصية ، [ ص: 139 ] قاله أبو العالية . والثالث: الحسنة: النعمة ، والسيئة: البلية ، قاله ابن قتيبة ، وعن أبي العالية نحوه ، وهو أصح ، لأن الآية عامة . وروى كرداب ، عن يعقوب: ما أصابك من حسنة فمن الله بتشديد النون ، ورفعها ، ونصب الميم ، وخفض اسم "الله" وما أصابك من سيئة فمن نفسك بنصب الميم ، ورفع السين .
و قرأ ابن عباس: وما أصابك من سيئة فمن نفسك بنصب الميم ، و رفع السين .
قوله تعالى: فمن نفسك أي: فبذنبك ، قاله الحسن ، وقتادة ، والجماعة . وذكر فيه ابن الأنباري وجها آخر ، فقال: المعنى: أفمن نفسك فأضمرت ألف الاستفهام ، كما أضمرت في قوله وتلك نعمة أي: أو تلك نعمة .
قوله تعالى: وأرسلناك للناس رسولا قال الزجاج : ذكر الرسول مؤكد لقوله: (وأرسلناك) والباء في "بالله" مؤكدة . والمعنى: وكفى بالله شهيدا .
[ ص: 140 ] و "شهيدا": منصوب على التمييز ، لأنك إذا قلت: كفى بالله ، ولم تبين في أي شيء الكفاية كنت مبهما .
وفي المراد بشهادة الله هاهنا: ثلاثة أقوال . أحدها: شهيدا لك بأنك رسوله ، قاله مقاتل . والثاني: على مقالتهم ، قاله ابن السائب . والثالث: لك بالبلاغ ، وعليهم بالتكذيب والنفاق ، قاله أبو سليمان الدمشقي . فإن قيل: كيف عاب الله هؤلاء حين قالوا: إن الحسنة من عند الله ، والسيئة من عند النبي عليه السلام ، ورد عليهم بقوله: (قل كل من عند الله) ثم عاد ، فقال: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) فهل قال القوم إلا هكذا؟ فعنه جوابان .
أحدهما: أنهم أضافوا السيئة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشاؤما به ، فرد عليهم ، فقال: كل بتقدير الله . ثم قال: ما أصابك من حسنة ، فمن الله ، أي: من فضله ، وما أصابك من سيئة ، فبذنبك ، وإن كان الكل من الله تقديرا .
والثاني: أن جماعة من أرباب المعاني قالوا: في الكلام محذوف مقدر ، تقديره: فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ، يقولون: ما أصابك من حسنة ، فمن الله ، وما أصابك من سيئة ، فمن نفسك ، فيكون هذا من قولهم . والمحذوف المقدر في القرآن كثير ، ومنه قوله: ربنا تقبل منا [البقرة: 127] أي: يقولان: ربنا . ومثله أو به أذى من رأسه ففدية [البقرة: 196] أي: فحلق ، ففدية . ومثله فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم [آل عمران: 106] أي: فيقال لهم . ومثله والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم [الرعد: 23 ، 24] أي: يقولون سلام . ومثله أو كلم به الموتى بل لله الأمر [الرعد: 31] أراد: لكان هذا القرآن . ومثله ولولا فضل الله عليكم ورحمته [ ص: 141 ] وأن الله رءوف رحيم [النور: 20] أراد: لعذبكم . ومثله ربنا أبصرنا وسمعنا [السجدة: 12] أي: يقولون . وقال النمر بن تولب
فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما
أراد: أينما ذهب . وقال غيره:
فأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
أراد: لرددناه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (131)
صــ141 إلى صــ 145
من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا
قوله تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله سبب نزولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني ، فقد أطاع الله ، ومن أحبني ، فقد أحب الله" فقال المنافقون: لقد قارب هذا الرجل الشرك ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . ومعنى الكلام: من قبل ما أتى به الرسول ، فإنما قبل ما أمر الله به ، ومن تولى ، أي: [ ص: 142 ] أعرض عن طاعته . وفي "الحفيظ" قولان . أحدهما: أنه الرقيب ، قاله ابن عباس . والثاني: المحاسب ، قاله السدي ، وابن قتيبة .
فصل
قال المفسرون: وهذا كان قبل الأمر بالقتال ، ثم نسخ بآية السيف .
ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا
قوله تعالى: ويقولون طاعة نزلت في المنافقين ، كانوا يؤمنون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمنوا ، فإذا خرجوا ، خالفوا ، هذا قول ابن عباس . قال الفراء: والرفع في "طاعة" على معنى: أمرك طاعة .
قوله تعالى: بيت طائفة قرأ أبو عمرو ، وحمزة: بيت ، بسكون "التاء" ، وإدغامها في "الطاء" ونصب الباقون "التاء" قال أبو علي: التاء والطاء والدال من حيز واحد ، فحسن الإدغام ، ومن بين ، فلانفصال الحرفين ، واختلاف المخرجين . قال ابن قتيبة: والمعنى: [فإذا برزوا من عندك ، أي: خرجوا ، بيت طائفة منهم غير الذي تقول ، أي] قالوا: وقدروا ليلا غير ما أعطوك نهارا . قال الشاعر:
أتوني فلم أرض ما بينوا وكانوا أتوني بشيء نكر
[ ص: 143 ] والعرب تقول: هذا أمر قد قدر بليل [وفرغ منه بليل ، ومنه قول الحارث بن حلزة:
أجمعوا أمرهم عشاء فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء]
وقال بعضهم: بيت ، بمعنى: بدل ، وأنشد:
وبيت قولي عند المليك قاتلك الله عبدا كفورا
وفي قوله (غير الذي تقول) قولان .
أحدهما: غير الذي تقول الطائفة عندك ، وهو قول ابن عباس ، وابن قتيبة . والثاني: غير الذي تقول أنت يا محمد ، وهو قول قتادة ، والسدي .
قوله تعالى: والله يكتب ما يبيتون فيه ثلاثة أقوال . أحدها: يكتبه في الأعمال التي تثبتها الملائكة ، قاله مقاتل في آخرين . والثاني: ينزله إليك في كتابه . والثالث: يحفظه عليهم ليجازوا به ، ذكر القولين الزجاج . قال ابن عباس : فأعرض عنهم: فلا تعاقبهم ، وثق بالله عز وجل ، وكفى بالله ثقة لك . قال: ثم نسخ هذا الإعراض ، وأمر بقتالهم .
فإن قيل: ما الحكمة في أنه ابتدأ بذكرهم جملة ، ثم قال: (بيت طائفة) والكل منافقون؟ فالجواب: من وجهين ، ذكرهما أهل التفسير .
أحدهما: أنه أخبر عمن سهر ليله ، ودبر أمره منهم دون غيره منهم . والثاني: أنه ذكر من علم أنه يبقى على نفاقه دون من علم أنه يرجع .
[ ص: 144 ] أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
قوله تعالى: أفلا يتدبرون القرآن قال الزجاج : "التدبر": النظر في عاقبة الشيء . و "الدبر": النحل ، سمي "دبرا" ، لأنه يعقب ما ينتفع به ، و "الدبر": المال الكثير ، سمي دبرا لكثرته ، لأنه يبقى للأعقاب ، والأدبار .
وقال ابن عباس : أفلا يتدبرون القرآن ، فيتفكرون فيه ، فيرون تصديق بعضه لبعض ، وأن أحدا من الخلائق لا يقدر عليه . قال ابن قتيبة: والقرآن من قولك: ما قرأت الناقة سلا قط ، أي: ما ضمت في رحمها ولدا ، وأنشد أبو عبيدة:
هجان اللون لم تقرأ جنينا . . . . . . . . . . . . .
وإنما سمي قرآنا ، لأنه جمع السور ، وضمها .
قوله تعالى: لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فيه ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه التناقض ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، والجمهور . والثاني: [ ص: 145 ] الكذب ، قاله مقاتل ، والزجاج . والثالث: أنه اختلاف تفاوت من جهة بليغ من الكلام ، ومرذول ، إذ لا بد للكلام إذا طال من مرذول ، وليس في القرآن إلا بليغ ، ذكره الماوردي . في جماعة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (132)
صــ146 إلى صــ 150
وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا
قوله تعالى: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتزل نساءه ، دخل عمر المسجد ، فسمع الناس يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فدخل على النبي عليه السلام فسأله أطلقت نساءك؟ قال: "لا" . فخرج فنادى: ألا إن رسول الله لم يطلق نساءه . فنزلت هذه الآية . فكان هو الذي استنبط الأمر . انفرد بإخراجه مسلم ، من حديث ابن عباس ، عن عمر .
والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت أو غلبت ، [ ص: 146 ] تحدثوا بذلك ، وأفشوه ، ولم يصبروا حتى يكون النبي هو المتحدث به . فنزلت هذه الآية . رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
وفي المشار إليهم بهذه الآية قولان . أحدهما: أنهم المنافقون . قاله ابن عباس ، والجمهور . والثاني: أهل النفاق ، وضعفة المسلمين ، ذكره الزجاج .
وفي المراد بالأمن أربعة أقوال .
أحدها: فوز السرية بالظفر والغنيمة ، وهو قول الأكثرين . والثاني: أنه الخبر يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه ظاهر على قوم ، فيأمن منهم ، قاله الزجاج . والثالث: أنه ما يعزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموادعة والأمان لقوم ، ذكره الماوردي .
والرابع: أنه الأمن يأتي من المأمن وهو المدينة ، ذكره أبو سليمان الدمشقي مخرجا من حديث عمر .
وفي "الخوف" ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه النكبة التي تصيب السرية ، ذكره جماعة من المفسرين . والثاني: أنه الخبر يأتي أن قوما يجمعون للنبي صلى الله عليه وسلم فيخاف منهم ، قاله الزجاج . والثالث: ما يعزم عليه النبي من الحرب والقتال ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى: أذاعوا به قال ابن قتيبة: أشاعوه . وقال ابن جرير: والهاء عائدة على الأمر .
قوله تعالى: ولو ردوه يعني: الأمر (إلى الرسول) حتى يكون هو المخبر به (وإلى أولي الأمر منهم) وفيهم أربعة أقوال .
[ ص: 147 ] أحدها: أنهم مثل أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، قاله ابن عباس .
والثاني: أنهم أبو بكر ، وعمر ، قاله عكرمة . والثالث: العلماء ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن جريج . والرابع: أمراء السرايا ، قاله ابن زيد ، ومقاتل .
وفي الذين يستنبطونه قولان .
أحدهما: أنهم الذين يتتبعونه من المذيعين له ، قاله مجاهد . والثاني: أنهم أولو الأمر ، قاله ابن زيد . و "الاستنباط" في اللغة: الاستخراج . قال الزجاج : أصله من النبط ، وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر ، يقال من ذلك: قد أنبط فلان في غضراء ، أي: استنبط الماء من طين حر . والنبط: سموا نبطا ، لاستنباطهم ما يخرج من الأرض . قال ابن جرير: ومعنى الآية: وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين بخير أو بشر أفشوه ، ولو سكتوا حتى يكون الرسول وذوو الأمر يتولون الخبر عن ذلك ، فيصححوه إن كان صحيحا ، أو يبطلوه إن كان باطلا ، لعلم حقيقة ذلك من يبحث عنه من أولي الأمر .
قوله تعالى: ولولا فضل الله عليكم
[ ص: 148 ] في المراد بالفضل أربعة أقوال . أحدها: أنه رسول الله . والثاني: الإسلام . والثالث: القرآن . والرابع: أولو الأمر .
وفي الرحمة أربعة أقوال . أحدها: أنها الوحي . والثاني: اللطف . والثالث: النعمة . والرابع: التوفيق .
قوله تعالى: لاتبعتم الشيطان إلا قليلا في معنى هذا الاستثناء ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه راجع إلى الإذاعة ، فتقديره: أذاعوا به إلا قليلا . وهذا قول ابن عباس ، وابن زيد ، واختاره الفراء ، وابن جرير .
والثاني: أنه راجع إلى المستنبطين ، فتقديره: لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا ، وهذا قول الحسن ، وقتادة ، واختاره ابن قتيبة . فعلى هذين القولين ، في الآية تقديم وتأخير .
والثالث: أنه راجع إلى اتباع الشيطان ، فتقديره: لاتبعتم الشيطان إلا قليلا منكم ، وهذا قول الضحاك ، واختاره الزجاج . وقال بعض العلماء: المعنى: لولا فضل الله بإرسال النبي إليكم ، لضللتم إلا قليلا منكم كانوا يستدركون بعقولهم معرفة الله ، ويعرفون ضلال من يعبد غيره ، كقس بن ساعدة .
فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا
قوله تعالى: فقاتل في سبيل الله سبب نزولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس لموعد أبي سفيان ببدر الصغرى بعد أحد ، كره بعضهم ذلك ، فنزلت هذه [ ص: 149 ] الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وفي "فاء" فقاتل قولان .
أحدهما: أنه جواب قوله ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب .
والثاني: أنها متصلة بقوله: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ، ذكرهما ابن السري . والمراد بسبيل الله: الجهاد .
قوله تعالى: لا تكلف إلا نفسك أي: إلا المجاهدة بنفسك . و "حرض" بمعنى: حضض . قال الزجاج : ومعنى "عسى" في اللغة: معنى الطمع والإشفاق . والإطماع من الله واجب . و "البأس": الشدة . وقال ابن عباس : والله أشد عذابا . قال قتادة: و "التنكيل": العقوبة .
من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا
[ ص: 150 ] قوله تعالى: من يشفع شفاعة حسنة في المراد بالشفاعة أربعة أقوال .
أحدها: أنها شفاعة الإنسان للإنسان ، ليجتلب له نفعا ، أو يخلصه من بلاء ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد . والثاني: أنها الإصلاح بين اثنين ، قاله ابن السائب . والثالث: أنه الدعاء للمؤمنين والمؤمنات ، ذكره الماوردي . والرابع: أن المعنى: من يصر شفعا لوتر أصحابك يا محمد ، فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله ، قاله ابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي .
وفي الشفاعة السيئة ثلاثة أقوال .
أحدها: أنها السعي بالنميمة ، قاله ابن السائب ، ومقاتل . والثاني: أنها الدعاء على المؤمنين والمؤمنات ، وكانت اليهود تفعله ، ذكره الماوردي . والثالث: أن المعنى من يشفع وتر أهل الكفر ، فيقاتل المؤمنين ، قاله ابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي . قال الزجاج : و "الكفل" في اللغة: النصيب ، وأخذ من قولهم: اكتفلت البعير: إذ أدرت على سنامه ، أو على موضع من ظهره كساء ، وركبت عليه . وإنما قيل له: كفل ، لأنه لم يستعمل الظهر كله ، وإنما استعمل نصيبا منه . وفي "المقيت" سبعة أقوال .
أحدها: أنه المقتدر ، قال أحيحة بن الجلاح:
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (133)
صــ151 إلى صــ 155
وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ، وابن جرير ، والسدي ، وابن زيد ، والفراء ، وأبو عبيد ، وابن قتيبة ، والخطابي .
والثاني: أنه الحفيظ ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والزجاج . وقال: هو بالحفيظ أشبه ، لأنه مشتق من القوت ، يقال: قت الرجل أقوته قوتا: إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته . والقوت: اسم الشيء الذي يحفظ نفسه [ولا فضل فيه على قدر الحفظ] ، فمعنى المقيت: الحافظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة من الحفظ . قال الشاعر :
ألي الفضل أم علي إذا حو سبت أني على الحساب مقيت
والثالث: أنه الشهيد ، رواه ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، واختاره أبو سليمان الدمشقي . والرابع: أنه الحسيب ، رواه خصيف عن مجاهد . والخامس: الرقيب ، رواه أبو شيبة عن عطاء . والسادس: الدائم ، رواه ابن جريج عن عبد الله بن كثير . والسابع: أنه معطي القوت ، قاله مقاتل بن سليمان . وقال الخطابي: المقيت يكون بمعنى: معطي القوت ، قال الفراء: يقال قاته وأقاته .
[ ص: 152 ] وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا
قوله تعالى: وإذا حييتم بتحية في التحية قولان .
أحدهما: أنها السلام ، قاله ابن عباس ، والجمهور . والثاني: الدعاء ، ذكره ابن جرير ، والماوردي . فأما "أحسن منها" فهو الزيادة عليها ، وردها: قول مثلها . قال الحسن: إذا قال أخوك المسلم: السلام عليكم ، فرد السلام ، وزد: ورحمة الله ، أو رد ما قال ولا تزد . وقال الضحاك: إذا قال: السلام عليك ، قلت: وعليكم السلام ورحمة الله . وإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله ، قلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وهذا منتهى السلام . وقال قتادة: بأحسن منها للمسلم ، أو ردوها على أهل الكتاب .
الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا
قوله تعالى: الله لا إله إلا هو قال مقاتل: نزلت في الذين شكوا في البعث . قال الزجاج : وللام في "ليجمعنكم" لام القسم ، كقولك: والله ليجمعنكم ، قال: وجائز أن تكون سميت القيامة ، لقيام الناس من قبورهم ، وجائز أن تكون ، لقيامهم للحساب .
قوله تعالى: ومن أصدق من الله حديثا إنما وصف نفسه بهذا ، لأن جميع الخلق يجوز عليهم الكذب ، ويستحيل في حقه .
فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا
قوله تعالى: فما لكم في المنافقين فئتين في سبب نزولها سبعة أقوال . [ ص: 153 ] أحدها: أن قوما أسلموا ، فأصابهم وباء بالمدينة وحماها ، فخرجوا فاستقبلتهم نفر من المسلمين ، فقالوا: ما لكم خرجتم؟ قالوا: أصابنا وباء بالمدينة ، واجتويناها ، فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا ، وقال بعضهم: لم ينافقوا ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه .
والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد ، رجع ناس ممن خرج معه ، فافترق فيهم أصحاب رسول الله ، ففرقة تقول: نقتلهم ، وفرقة تقول: لا نقتلهم ، فنزلت هذه الآية . هذا في "الصحيحين" من قول زيد بن ثابت .
والثالث: أن قوما كانوا بمكة تكلموا بالإسلام وكانوا يعاونون المشركين ، [ ص: 154 ] فخرجوا من مكة لحاجة لهم ، فقال قوم من المسلمين: اخرجوا إليهم ، فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عدوكم . وقال قوم: كيف نقتلهم وقد تكلموا بمثل ما تكلمنا به؟ فنزلت هذه الآية ، رواه عطية عن ابن عباس .
والرابع: أن قوما قدموا المدينة ، فأظهروا الإسلام ، ثم رجعوا إلى مكة ، فأظهروا الشرك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الحسن ، ومجاهد .
والخامس: أن قوما أعلنوا الإيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة ، فاختلف المؤمنون فيهم ، فنزلت هذه الآية ، وهذا قول الضحاك .
والسادس: أن قوما من المنافقين أرادوا الخروج من المدينة ، فقالوا للمؤمنين: إنه قد أصابتنا أوجاع في المدينة ، فلعلنا نخرج فنتماثل ، فإنا كنا أصحاب بادية ، فانطلقوا واختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية . هذا قول السدي .
والسابع: أنها نزلت في شأن ابن أبي حين تكلم في عائشة بما تكلم ، وهذا قول ابن زيد .
وقوله تعالى: فما لكم خطاب للمؤمنين . والمعنى: أي شيء لكم في الاختلاف في أمرهم؟ و" الفئة": الفرقة . وفي معنى "أركسهم" أربعة أقوال .
أحدها: ردهم ، رواه عطاء عن ابن عباس . قال ابن قتيبة: ركست [ ص: 155 ] الشيء ، وأركسته: لغتان ، أي: نكسهم وردهم في كفرهم ، وهذا قول الفراء ، والزجاج .
والثاني: أوقعهم ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس . والثالث: أهلكهم ، قاله قتادة . والرابع: أضلهم ، قاله السدي .
فأما الذي كسبوا ، فهو كفرهم ، وارتدادهم . قال أبو سليمان: إنما قال: أتريدون أن تهدوا من أضل الله ، لأن قوما من المؤمنين قالوا: إخواننا ، وتكلموا بكلمتنا .
قوله تعالى: فلن تجد له سبيلا فيه قولان . أحدهما: إلى الحجة ، قاله الزجاج . والثاني: إلى الهدى ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (134)
صــ156 إلى صــ 160
ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا
قوله تعالى: ودوا لو تكفرون كما كفروا أخبر الله عز وجل المؤمنين بما في ضمائر تلك الطائفة ، لئلا يحسنوا الظن بهم ، ويجادلوا عنهم ، وليعتقدوا عداوتهم .
قوله تعالى: فلا تتخذوا منهم أولياء أي: لا توالوهم فإنهم أعداء لكم ( حتى يهاجروا) أي: يرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : فإن تولوا عن الهجرة [ ص: 156 ] والتوحيد ، (فخذوهم) أي: ائسروهم ، واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحل والحرم .
فصل قال القاضي أبو يعلى: كانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكة . وقال الحسن: فرض الهجرة باق ، واعلم أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب: من تجب عليه ، وهو الذي لا يقدر على إظهار الإسلام في دار الحرب ، خوفا على نفسه ، وهو قادر على الهجرة ، فتجب عليه لقوله ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها والثاني: من لا تجب عليه بل تستحب له ، وهو من كان قادرا على إظهار دينه في دار الحرب . والثالث: من لا تستحب له وهو الضعيف الذي لا يقدر على إظهار دينه ، ولا على الحركة كالشيخ الفاني والزمن فلم تستحب له للحوق المشقة .
إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا
[ ص: 157 ] قوله تعالى: إلا الذين يصلون هذا الاستثناء راجع إلى القتل ، لا إلى الموالاة .
وفي (يصلون) قولان .
أحدهما: أنه بمعنى: يتصلون ويلجؤون ، قال ابن عباس : كان هلال بن عويمر الأسلمي وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، فكان من وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ، فلهم من الجوار مثل ما لهلال .
والثاني: أنه بمعنى: ينتسبون ، قاله ابن قتيبة ، وأنشد:
إذا اتصلت قالت أبكر بن وائل وبكر سبتها والأنوف رواغم
يريد: إذا انتسبت ، قالت: أبكرا ، أي: يا آل بكر .
[ ص: 158 ] وفي القوم المذكورين أربعة أقوال .
أحدها: أنهم بنو بكر بن زيد مناة ، قاله ابن عباس . والثاني: أنهم هلال بن عويمر الأسلمي ، وسراقة بن مالك ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف ، قاله عكرمة . والثالث: أنهم بنو مدلج ، قاله الحسن . والرابع: خزاعة ، وبنو مدلج ، قاله مقاتل . قال ابن عباس : "والميثاق": العهد .
[ ص: 159 ] قوله تعالى: أو جاءوكم فيه قولان .
أحدهما: أن معناه: أو يصلون إلى قوم جاؤوكم ، قاله الزجاج في جماعة .
والثاني: أنه يعود إلى المطلوبين للقتل ، فتقديره: أو رجعوا فدخلوا فيكم ، وهو بمعنى: قول السدي .
قوله تعالى: حصرت صدورهم فيه قولان . أحدهما: أن فيه إضمار "قد" .
والثاني: أنه خبر بعد خبر ، فقوله (جاءوكم): خبر قد تم ، وحصرت: خبر مستأنف ، حكاهما الزجاج . وقرأ الحسن ، ويعقوب ، والمفضل ، عن عاصم: (حصرت صدورهم) على الحال . و "حصرت" ضاقت ، ومعنى الكلام: ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم ، أو يقاتلوا قومهم ، يعني: قريشا
قال مجاهد: هلال بن عويمر هو الذي حصر صدره أن يقاتلكم ، أو يقاتل قومه .
قوله تعالى: ولو شاء الله لسلطهم عليكم قال الزجاج : أخبر أنه إنما كفهم بالرعب الذي قذف في قلوبهم . وفي "السلم" قولان . أحدهما: أنه الإسلام ، قاله الحسن . والثاني: الصلح ، قاله الربيع ، ومقاتل .
فصل
قال جماعة من المفسرين: معاهدة المشركين وموادعتهم المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية السيف . قال القاضي أبو يعلى: لما أعز الله الإسلام أمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف .
[ ص: 160 ] ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا
قوله تعالى: ستجدون آخرين اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال .
أحدها: أنها نزلت في أسد وغطفان ، كانوا قد تكلموا بالإسلام ليأمنوا المؤمنين بكلمتهم ، ويأمنوا قومهم بكفرهم ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثاني: أنها نزلت في بني عبد الدار ، رواه الضحاك ، عن ابن عباس .
والثالث: أنها نزلت في قوم أرادوا أخذ الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا ، قاله قتادة .
والرابع: أنها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي ، كان يأمن في المسلمين والمشركين ، فينقل الحديث بين النبي عليه السلام وبينهم ، ثم أسلم نعيم ، هذا قول السدي . ومعنى الآية: ستجدون قوما يظهرون الموافقة لكم ولقومهم ، ليأمنوا الفريقين ، كلما دعوا إلى الشرك ، عادوا فيه ، فإن لم يعتزلوكم في القتال ، ويلقوا إليكم الصلح ، ويكفوا أيديهم عن قتالكم ، فخذوهم ، أي: ائسروهم ، واقتلوهم حيث أدركتموهم ، وأولائكم جعلنا لكم عليهم حجة بينة في قتلهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (135)
صــ161 إلى صــ 165
فصل
قال أهل التفسير: والكف عن هؤلاء المذكورين في هذه الآية منسوخ بآية السيف .
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما
قوله تعالى: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أن عياش بن أبي ربيعة أسلم بمكة قبل هجرة رسول الله ، ثم خاف أن يظهر إسلامه لقومه ، فخرج إلى المدينة فقالت أمه لابنيها أبي جهل ، والحارث ابني هشام ، وهما أخواه لأمه: والله لا يظلني سقف ، ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتياني به . فخرجا في طلبه . ومعهما الحارث بن زيد ، حتى أتوا عياشا وهو متحصن في أطم ، فقالوا له: انزل فإن أمك لم يؤوها سقف ، ولم تذق طعاما ، ولا شرابا ، ولك علينا أن لا نحول بينك وبين دينك ، فنزل ، فأوثقوه ، وجلده كل واحد منهم مائة جلدة ، فقدموا به على أمه ، فقالت: والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر ، فطرح موثقا في الشمس حتى أعطاهم ما أرادوا ، فقال [ ص: 162 ] له الحارث بن زيد: يا عياش: لئن كان ما كنت عليه هدى لقد تركته ، وإن كان ضلالا لقد ركبته . فغضب ، وقال: والله لا ألقاك خاليا إلا قتلتك ، ثم أفلت عياش بعد ذلك ، وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، ثم أسلم الحارث بعده ، وهاجر ولم يعلم عياش ، فلقيه يوما فقتله ، فقيل له: إنه قد أسلم ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان ، وقال: لم أشعر بإسلامه ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . وهو قول سعيد بن جبير ، والسدي ، والجمهور .
والثاني: أن أبا الدرداء قتل رجلا قال لا إله إلا الله في بعض السرايا ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ما صنع ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن زيد .
قال الزجاج : معنى الآية: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة . والاستثناء ليس من الأول ، وإنما المعنى: إلا أن يخطئ المؤمن . وروى أبو عبيدة ، عن يونس: أنه سأل رؤبة عن هذه الآية ، فقال: ليس له أن يقتله عمدا ولا خطأ ، ولكنه أقام "إلا" مقام "الواو" . قال الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
[ ص: 163 ] أراد: والفرقدان . وقال بعض أهل المعاني: تقدير الآية: لكن قد يقتله خطأ ، وليس ذلك فيما جعل الله له ، لأن الخطأ لا تصح فيه الإباحة ، ولا النهي . وقيل: إنما وقع الاستثناء على ما تضمنته الآية من استحقاق الإثم ، وإيجاب القتل .
قوله تعالى: فتحرير رقبة مؤمنة قال سعيد بن جبير: عتق الرقبة واجب على القاتل في ماله ، واختلفوا في عتق الغلام الذي لا يصح منه فعل الصلاة والصيام ، فروي عن أحمد جوازه ، وكذلك روى ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وهذا قول عطاء ، ومجاهد . وروي عن أحمد: لا يجزئ إلا من صام وصلى ، وهو قول ابن عباس في رواية ، والحسن ، والشعبي ، وإبراهيم ، وقتادة .
قوله تعالى: ودية مسلمة إلى أهله قال القاضي أبو يعلى: ليس في هذه الآية بيان من تلزمه هذه الدية ، واتفق الفقهاء على أنها عاقلة القاتل ، تحملها عنه على طريق المواساة ، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين ، كل سنة ثلثها . والعاقلة: العصبات من ذوي الأنساب ، ولا يلزم الجاني منها شيء . وقال أبو حنيفة: هو كواحد من العاقلة . 50 [ ص: 164 ] وللنفس ستة أبدال: من الذهب ألف دينار ، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم ، ومن الإبل مائة ، ومن البقر مائتا بقرة ، ومن الغنم ألفا شاة ، وفي الحلل روايتان عن أحمد . إحداهما: أنها أصل ، فتكون مائتا حلة . فهذه دية الذكر الحر المسلم ، ودية الحرة المسلمة على النصف من ذلك .
قوله تعالى: إلا أن يصدقوا قال سعيد بن جبير: إلا أن يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل .
قوله تعالى: فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فيه قولان . [ ص: 165 ] أحدهما: أن معناه: وإن كان المقتول خطأ من قوم كفار ، ففيه تحرير رقبة من غير دية ، لأن أهل ميراثه كفار .
والثاني: وإن كان مقيما بين قومه ، فقتله من لا يعلم بإيمانه ، فعليه تحرير رقبة ولا دية ، لأنه ضيع نفسه بإقامته مع الكفار ، والقولان . مرويان عن ابن عباس ، وبالأول قال النخعي ، وبالثاني سعيد بن جبير . وعلى الأول تكون "من" للتبعيض ، وعلى الثاني تكون بمعنى: في .
قوله تعالى: وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فيه قولان .
أحدهما: أنه الرجل من أهل الذمة يقتل خطأ ، فيجب على قاتله الدية . والكفارة ، هذا قول ابن عباس ، والشعبي ، وقتادة ، والزهري ، وأبي حنيفة ، والشافعي . ولأصحابنا تفصيل في مقدار ما يجب من الدية .
والثاني: أنه المؤمن يقتل ، وقومه مشركون ، ولهم عقد ، فديته لقومه ، وميراثه للمسلمين ، هذا قول النخعي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (136)
صــ166 إلى صــ 170
قوله تعالى: فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين اختلفوا هل هذا الصيام بدل من الرقبة وحدها إذا عدمها ، أو بدل من الرقبة والدية؟ فقال الجمهور: عن الرقبة وحدها ، وقال مسروق ، ومجاهد ، وابن سيرين: عنهما . واتفق العلماء على [ ص: 166 ] أنه إذا تخلل صوم الشهرين إفطار لغير عذر ، فعليه الابتداء ، فأما إذا تخللها المرض ، أو الحيض ، فعندنا لا ينقطع التتابع ، وبه قال مالك . وقال أبو حنيفة: المرض يقطع ، والحيض لا يقطع ، وفرق بينهما بأنه يمكن في العادة صوم شهرين بلا مرض ، ولا يمكن ذلك في الحيض ، وعندنا أنها معذورة في الموضعين .
قوله تعالى: توبة من الله قال الزجاج : معناه: فعل الله ذلك توبة منه .
قوله وكان الله عليما أي: لم يزل عليما بما يصلح خلقه من التكليف (حكيما) فيما يقضي بينهم ، ويدبره في أمورهم .
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما
قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا سبب نزولها: أن مقيس بن صبابة وجد أخاه هشام بن صبابة قتيلا في بني النجار ، وكان مسلما ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فأرسل رسول الله رسولا من بني فهر ، فقال له: إيت بني النجار ، فأقرئهم مني السلام ، وقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام ، فادفعوه إلى مقيس بن صبابة ، وإن لم تعلموا له قاتلا ، فادفعوا إليه ديته ، فأبلغهم الفهري ذلك ، فقالوا: والله ما نعلم له قاتلا ، ولكنا نعطي ديته ، فأعطوه مائة من الإبل ، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة ، فأتى الشيطان مقيس بن صبابة ، فقال: تقبل دية أخيك ، فيكون عليك سبة ما بقيت . اقتل الذي معك مكان أخيك ، وافضل بالدية ، فرمى الفهري بصخرة ، فشدخ رأسه ، ثم ركب بعيرا منها ، وساق بقيتها راجعا إلى مكة ، وهو يقول:
قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع
وأدركت ثأري واضطجعت موسدا
وكنت إلى الأصنام أول راجع
[ ص: 167 ] فنزلت هذه الآية ، ثم أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح ، فقتل ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . وفي قوله (متعمدا) قولان . أحدهما: متعمدا لأجل أنه مؤمن ، قاله سعيد بن جبير . والثاني: متعمدا لقتله ، ذكره بعض المفسرين . وفي قوله (فجزاؤه جهنم) قولان . أحدهما: أنها جزاؤه قطعا . والثاني: أنها جزاؤه إن جازاه . واختلف العلماء هل للمؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا توبة أم لا؟ فذهب الأكثرون إلى أن له توبة ، وذهب ابن عباس إلى أنه لا توبة له .
[ ص: 168 ] فصل
اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟ فقال قوم: هي محكمة ، واحتجوا بأنها خبر ، والأخبار لا تحتمل النسخ ، ثم افترق هؤلاء فرقتين ، إحداهما قالت: هي على ظاهرها ، وقاتل المؤمن مخلد في النار . والفرقة الثانية قالت: هي عامة قد دخلها التخصيص بدليل أنه لو قتله كافر ثم أسلم الكافر ، انهدرت عنه العقوبة في الدنيا والآخرة ، فإذا ثبت كونها من العام المخصص ، فأي: دليل صلح للتخصيص ، وجب العمل به . ومن أسباب التخصيص أن يكون قتله مستحلا ، فيستحق الخلود لاستحلاله . وقال قوم: هي مخصوصة في حق من لم يتب ، واستدلوا بقوله تعالى: في الفرقان: إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما [الفرقان: 70] وقال آخرون: هي منسوخة بقوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء: 48] .
[ ص: 169 ] يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا في سبب نزولها أربعة أقوال .
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها المقداد بن الأسود ، فلما أتوا القوم ، وجدوهم قد تفرقوا ، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح ، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله ، فأهوى إليه المقداد فقتله . فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا يشهد أن لا إله إلا الله؟ لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: [ ص: 170 ] يا رسول الله إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله ، فقتله المقداد ، فقال: ادعوا لي المقداد فقال: يا مقداد أقتلت رجلا قال لا إله إلا الله ، فكيف لك بـ " لا إله إلا الله" غدا!
قال: فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: كان رجلا مؤمنا يخفي إيمانه مع قوم كفار ، فأظهر إيمانه فقتلته؟ وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل . رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثاني: أن رجلا من بني سليم مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه غنم ، فسلم ، فقالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ [منا] ، فعمدوا إليه فقتلوه ، وأخذوا غنمه ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة ، عن ابن عباس .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (137)
صــ171 إلى صــ 175
والثالث: أن قوما من أهل مكة سمعوا بسرية لرسول الله أنها تريدهم فهربوا ، وأقام رجل منهم كان قد أسلم ، يقال له: مرداس ، وكان على السرية رجل يقال له: غالب بن فضالة ، فلما رأى مرداس الخيل ، كبر ، ونزل إليهم ، فسلم عليهم ، فقتله أسامة بن زيد ، واستاق غنمه ، ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجدا شديدا ، ونزلت هذه الآية . رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . وقال السدي: كان أسامة أمير السرية .
والرابع: أن رسول الله بعث أبا حدرد الأسلمي ، وأبا قتادة ، ومحلم بن جثامة في سرية إلى إضم ، فلقوا عامر بن الأضبط الأشجعي ، فحياهم بتحية الإسلام ، فحمل عليه محلم بن جثامة ، فقتله ، وسلبه بعيرا وسقاء . فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ، أخبروه ، فقال: أقتلته بعد ما قال آمنت؟! ونزلت هذه الآية . رواه ابن أبي حدرد عن أبيه .
فأما التفسير ، فقوله إذا ضربتم في سبيل الله أي: سرتم وغزوتم .
وقوله (فتبينوا) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر: فتبينوا بالنون من التبيين للأمر قبل الإقدام عليه ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف [ ص: 172 ] (فتثبتوا) بالثاء من الثبات وترك الاستعجال ، وكذلك قرؤوا في (الحجرات)
قوله تعالى: لمن ألقى إليكم السلام قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر ، وحفص ، عن عاصم ، والكسائي: "السلام" بالألف مع فتح السين . قال الزجاج : يجوز أن يكون بمعنى: التسليم ، ويجوز أن يكون بمعنى: الاستسلام . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، وخلف ، وجبلة ، عن المفضل ، عن عاصم: "السلم" بفتح السين واللام من غير ألف ، وهو من الاستسلام . وقرأ أبان بن يزيد ، عن عاصم: بكسر السين وإسكان اللام من غير ألف ، و "السلم": الصلح . وقرأ الجمهور: لست مؤمنا ، بكسر الميم ، وقرأ علي ، وابن عباس ، وعكرمة ، وأبو العالية ، ويحيى بن يعمر ، وأبو جعفر: بفتح الميم من الأمان .
قوله تعالى: تبتغون عرض الحياة الدنيا و "عرضها": ما فيها من مال ، قل أو كثر ، قال المفسرون: والمراد به: ما غنموه من الرجل الذي قتلوه .
قوله تعالى: فعند الله مغانم كثيرة فيه قولان .
أحدهما: أنه ثواب الجنة ، قاله مقاتل .
والثاني: أنها أبواب الرزق في الدنيا ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى: كذلك كنتم من قبل فيه ثلاثة أقوال .
أحدها: أن معناه: كذلك كنتم تأمنون من قومكم المؤمنين بهذه الكلمة ، فلا تخيفوا من قالها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني: كذلك كنتم تخفون إيمانكم بمكة كما كان هذا يخفي إيمانه ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .
والثالث: كذلك كنتم من قبل مشركين ، قاله مسروق ، وقتادة ، وابن زيد .
[ ص: 173 ] قوله تعالى: فمن الله عليكم في الذي من به أربعة أقوال .
أحدها: الهجرة ، قاله ابن عباس . والثاني: إعلان الإيمان ، قاله سعيد بن جبير . والثالث: الإسلام ، قاله قتادة ، ومسروق . والرابع: التوبة على الذي قتل ذلك الرجل ، قاله السدي .
قوله تعالى: (فتبينوا) تأكيد للأول .
لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما
قوله تعالى: لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال أبو سليمان الدمشقي: نزلت هذه الآية من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود .
وقال زيد بن ثابت: إني لقاعد إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ غشيته السكينة ، ثم سري عنه ، فقال: "اكتب" ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون ) الآية ، فقام ابن أم مكتوم ، فقال: يا رسول الله ، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ فوالله ما قضى كلامه حتى غشيت رسول الله السكينة ، ثم سري عنه ، فقال: اقرأ فقرأت لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون ، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "غير أولي الضرر" فألحقها .
[ ص: 174 ] قوله تعالى: لا يستوي القاعدون يعني: عن الجهاد ، والمعنى: أن المجاهد أفضل . قال ابن عباس : وأريد بهذا الجهاد غزوة بدر . وقال مقاتل: غزاة تبوك .
قوله تعالى: غير أولي الضرر قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة: "غير" برفع الراء ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وخلف ، والمفضل: بنصبها . قال أبو علي: من رفع الراء ، جعل "غير" صفة للقاعدين ، ومن نصبها ، جعلها استثناء من القاعدين . وفي "الضرر" قولان .
أحدهما: أنه العجز بالزمانة والمرض ، ونحوهما . قال ابن عباس : هم قوم كانت تحبسهم عن الغزاة أمراض وأوجاع . وقال ابن جبير ، وابن قتيبة: هم أولو الزمانة ، وقال الزجاج : الضرر: أن يكون ضريرا أو أعمى أو زمنا .
والثاني: أنه العذر ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
قوله تعالى: فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة في هؤلاء القاعدين قولان .
أحدهما: أنهم القاعدون بالضرر ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .
والثاني: القاعدون من غير ضرر ، قاله أبو سليمان الدمشقي . قال ابن جرير: والدرجة: الفضيلة . فأما الحسنى فهي الجنة في قول الجماعة .
[ ص: 175 ] قوله تعالى: وفضل الله المجاهدين على القاعدين قال ابن عباس : القاعدون هاهنا: غير أولي الضرر ، وقال سعيد بن جبير: هم الذين لا عذر لهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (138)
صــ176 إلى صــ 180
درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما
قوله تعالى: درجات منه قال الزجاج : درجات في موضع نصب بدلا من قوله: أجرا عظيما ، وهو مفسر للأجر . وفي المراد بالدرجات قولان .
أحدهما: أنها درجات الجنة ، قال ابن محيريز: الدرجات: سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة ، وإلى نحوه ذهب مقاتل .
والثاني: أن معنى الدرجات: الفضائل ، قاله سعيد بن جبير . قال قتادة: كان يقال: الإسلام درجة ، والهجرة في الإسلام درجة ، والجهاد في الهجرة درجة ، والقتل في الجهاد درجة .
وقال ابن زيد: الدرجات: هي السبع التي ذكرها الله تعالى في براءة حين قال: ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ إلى قوله ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم [التوبة 120 ، 121] .
[ ص: 176 ] فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى ذكر في أول الكلام درجة ، وفي آخره درجات؟ فعنه جوابان .
أحدهما: أن الدرجة الأولى تفضيل المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر منزلة ، والدرجات: تفضيل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر منازل كثيرة ، وهذا معنى قول ابن عباس .
والثاني: أن الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم ، والدرجات: منازل الجنة ، ذكره القاضي أبو يعلى .
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا
قوله تعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها: أن أناسا كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر لم تدع قريش أحدا إلا أخرجوه معهم ، فقتل أولئك الذين أقروا بالإسلام ، فنزلت فيهم هذه الآية ، رواه عكرمة ، عن ابن عباس . وقال قتادة: نزلت في أناس تكلموا بالإسلام ، فخرجوا مع أبي جهل ، فقتلوا يوم بدر ، واعتذروا بغير عذر ، فأبى الله أن يقبل منهم .
[ ص: 177 ] والثاني: أن قوما نافقوا يوم بدر ، وارتابوا ، وقالوا: غر هؤلاء دينهم وأقاموا مع المشركين حتى قتلوا ، فنزلت فيهم هذه الآية . رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثالث: أنها نزلت في قوم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يخرجوا معه ، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي ، ضربت الملائكة وجهه ودبره ، رواه العوفي عن ابن عباس . وفي "التوفي" قولان .
أحدهما: أنه قبض الأرواح بالموت ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني: الحشر إلى النار ، قاله الحسن . قال مقاتل: والمراد بالملائكة: ملك الموت وحده .
وقال في موضع آخر: ملك الموت وأعوانه ، وهم ستة ، ثلاثة يلون أرواح المؤمنين ، وثلاثة يلون أرواح الكفار . قال الزجاج : "ظالمي أنفسهم" نصب على الحال ، [ ص: 178 ] والمعنى: تتوفاهم في حال ظلمهم أنفسهم ، والأصل ظالمين ، لأن النون حذفت استخفافا . فأما ظلمهم لأنفسهم ، فيحتمل على ما ذكر في قصتهم أربعة أقوال .
أحدها: أنه ترك الهجرة . والثاني: رجوعهم إلى الكفر . والثالث: الشك بعد اليقين . والرابع: إعانة المشركين .
قوله تعالى: فيم كنتم قال الزجاج : هو سؤال توبيخ ، والمعنى: كنتم في المشركين أو في المسلمين .
قوله تعالى: قالوا كنا مستضعفين في الأرض قال مقاتل: كنا مقهورين في أرض مكة ، لا نستطيع أن نذكر الإيمان ، قالت الملائكة: "ألم تكن أرض الله واسعة" يعني المدينة (فتهاجروا فيها) يعني: إليها . وقول الملائكة لهم يدل على أنهم كانوا يستطيعون الهجرة .
إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا
قوله تعالى: إلا المستضعفين سبب نزولها: أن المسلمين قالوا في حق المستضعفين من المسلمين بمكة: هؤلاء بمنزلة الذين قتلوا ببدر ، فنزلت هذه الآية . قاله مجاهد . قال الزجاج : "المستضعفين" نصب على الاستثناء من قوله: (مأواهم جهنم) قال أبو سليمان: "المستضعفون": ذوو الأسنان ، والنساء ، والصبيان .
قوله تعالى: لا يستطيعون حيلة أي: لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكة ، ولا على نفقة ، ولا قوة .
وفي قوله تعالى: ولا يهتدون سبيلا قولان . [ ص: 179 ] أحدهما: أنهم لا يعرفون الطريق إلى المدينة ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد .
والثاني: أنهم لا يعرفون طريقا يتوجهون إليه ، فإن خرجوا هلكوا ، قاله ابن زيد . وفي "عسى" قولان . أحدهما: أنها بمعنى: الإيجاب ، قاله الحسن . والثاني: أنها بمعنى: الترجي . فالمعنى: أنهم يرجون العفو ، قاله الزجاج .
ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما
قوله تعالى: يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة قال سعيد بن جبير ، ومجاهد: متزحزحا عما يكره . وقال ابن قتيبة: المراغم والمهاجر: واحد ، يقال: راغمت وهاجرت ، وأصله: أن الرجل كان إذا أسلم ، خرج عن قومه مراغما ، أي: مغاضبا لهم ، ومهاجرا ، أي: مقاطعا من الهجران ، فقيل للمذهب: مراغم ، وللمصير إلى النبي عليه السلام هجرة ، لأنها كانت بهجرة الرجل قومه . [قال الجعدي: عزيز المراغم والمذهب] .
وفي السعة قولان . أحدهما: أنها السعة في الزرق ، قاله ابن عباس ، والجمهور .
والثاني: التمكن من إظهار الدين ، قاله قتادة .
قوله تعالى: ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله اتفقوا على أنه [ ص: 180 ] نزل في رجل خرج مهاجرا ، فمات في الطريق ، واختلفوا فيه على ستة أقوال .
أحدها: أنه ضمرة بن العيص ، وكان ضريرا موسرا ، فقال: احملوني فحمل وهو مريض ، فمات عند التنعيم ، فنزل فيه هذا الكلام ، رواه سعيد بن جبير .
والثاني: أنه العيص بن ضمرة بن زنباع الخزاعي أمر أهله أن يحملوه على سريره ، فلما بلغ التنعيم ، مات ، فنزلت فيه هذه الآية ، رواه أبو بشر عن سعيد ابن جبير .
والثالث: أنه ابن ضمرة الجندعي مرض ، فقال لبنيه: أخرجوني من مكة ، فقد قتلني غمها ، فقالوا: أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة ، يريد الهجرة ، فخرجوا به ، فمات في الطريق ، فنزل فيه هذا ، ذكره ابن إسحاق . وقال مقاتل: هو جندب بن ضمرة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (139)
صــ181 إلى صــ 185
والرابع: أن اسمه سبرة ، فلما نزل قوله: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلى قوله مراغما كثيرا قال لأهله وهو مريض: احملوني ، فإني [ ص: 181 ] موسر ، ولي من المال ما يبلغني إلى المدينة ، فلما جاوز الحرم ، مات . فنزل فيه هذا ، قاله قتادة .
والخامس: أنه رجل من بني كنانة هاجر ، فمات في الطريق ، فسخر منه قومه ، فقالوا: لا هو بلغ ما يريد ، ولا أقام في أهله حتى يدفن ، فنزل فيه هذا ، قاله ابن زيد .
والسادس: أنه خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام ، خرج مهاجرا ، فمات في الطريق ، ذكره الزبير بن بكار ، وقوله: "وقع" معناه: وجب .
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا
قوله تعالى: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة روى مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، وعلى المشركين خالد بن الوليد ، [قال]: فصلينا الظهر ، فقال المشركون: لقد أصبنا غرة ، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة ، فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر . و "الضرب في الأرض": السفر ، و"الجناح": الإثم ، و "القصر": النقص ، و "الفتنة": القتل . وفي القصر قولان . [ ص: 182 ] أحدهما: أنه القصر من عدد الركعات .
والثاني: أنه القصر من حدودها . وظاهر الآية يدل على أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف ، وليس الأمر كذلك ، وإنما نزلت الآية على غالب أسفار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو . وقيل: إن قوله: (أن تقصروا من الصلاة) كلام تام . وقوله: (إن خفتم) كلام مبتدأ ، ومعناه: وإن خفتم .
واختلف العلماء هل صلاة المسافر ركعتين مقصورة أم لا؟ فقال قوم: ليست مقصورة ، وإنما فرض المسافر ذلك ، وهو قول ابن عمر ، وجابر بن [ ص: 183 ] عبد الله ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، وأبي حنيفة ، فعلى هذا القول قصر الصلاة أن تكون ركعة ولا يجوز ذلك إلا بوجود السفر والخوف ، لأن عند هؤلاء أن الركعتين في السفر إذا لم يكن فيه خوف تمام غير قصر ، واحتجوا بما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي قرد ، فصف الناس خلفه صفين ، صفا خلفه ، وصفا موازي العدو ، فصلى بالذين خلفه ركعة ، ثم انصرف هؤلاء ، إلى مكان هؤلاء ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ، ولم يقضوا . وعن ابن عباس أنه قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة .
والثاني: أنها مقصورة ، وليست بأصل ، وهو قول مجاهد ، وطاووس ، وأحمد ، والشافعي . قال يعلى بن أمية: قلت لعمر بن الخطاب: عجبت من قصر الناس اليوم ، وقد أمنوا ، وإنما قال الله تعالى: إن خفتم فقال عمر: عجبت [ ص: 184 ] مما عجبت منه ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته .
فصل
وإنما يجوز للمسافر القصر إذا كان سفره مباحا ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وقال أبو حنيفة: يجوز له القصر في سفر المعصية . فأما مدة الإقامة التي إذا نواها أتم الصلاة ، وإن نوى أقل منها ، قصر ، فقال أصحابنا: إقامة اثنين وعشرين صلاة . وقال أبو حنيفة: خمسة عشر يوما . وقال مالك ، والشافعي: أربعة أيام .
وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم [ ص: 185 ] وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا
قوله تعالى: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة سبب نزولها: أن المشركين لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه قد صلوا الظهر ، ندموا إذ لم يكن عليهم ، فقال بعضهم لبعض: دعوهم فإن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم ، يعنون العصر ، فإذا قاموا فشدوا عليهم ، فلما قاموا إلى صلاة العصر ، نزل جبريل بهذه الآية . رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
قوله تعالى: وإذا كنت فيهم خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يدل على أن الحكم مقصور عليه ، فهو كقوله: خذ من أموالهم صدقة [التوبة: 103] وقال أبو يوسف: لا تجوز صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، والهاء والميم من "فيهم" تعود على الضاربين في الأرض .
قوله تعالى: فأقمت لهم الصلاة أي: ابتدأتها ، فلتقم طائفة منهم معك أي: لتقف . ومثله وإذا أظلم عليهم قاموا [البقرة: 20] .
وليأخذوا أسلحتهم فيهم قولان .
أحدهما: أنهم الباقون ، قاله ابن عباس . والثاني: أنهم المصلون معه ، ذكره ابن جرير . قال: وهذا السلاح كالسيف ، يتقلده الإنسان ، والخنجر يشده إلى ذراعه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (140)
صــ186 إلى صــ 190
قوله تعالى: فإذا سجدوا يعني: المصلين معه (فليكونوا) في المشار إليها قولان . أحدهما: أنهم طائفة التي لم تصل ، أمرت أن تحرس الطائفة المصلية ، [ ص: 186 ] وهذا معنى قول ابن عباس . والثاني: أنهم المصلون معه أمروا إذا سجدوا أن ينصرفوا إلى الحرس .
واختلف العلماء كيف ينصرفون بعد السجود ، فقال قوم: إذا أتموا مع الإمام ركعة أتموا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا ، وانصرفوا ، وقد تمت صلاتهم .
وقال آخرون: ينصرفون عن ركعة ، واختلف هؤلاء ، فقال بعضهم: إذا صلوا مع الإمام ركعة وسلموا ، فهي تجزئهم . وقال آخرون منهم أبو حنيفة: بل ينصرفون عن تلك الركعة إلى الحرس وهم على صلاتهم ، فيكونون في وجه العدو مكان الطائفة الأخرى التي لم تصل وتأتي تلك الطائفة . واختلفوا في الطائفة الأخرى ، فقال قوم: إذا صلى بهم الإمام أطال التشهد حتى يقضوا الركعة الفائتة ، ثم يسلم بها ، وقال آخرون: بل يسلم هو عند فراغه من الصلاة بهم ، فإذا سلم قضوا ما فاتهم . وقال آخرون: بل يصلي بالطائفة الثانية ركعة ، ويسلم هو ، ولا تسلم هي ، بل ترجع إلى وجه العدو ، ثم تجيء الأولى ، فتقضي ما بقي من صلاتها وتسلم ، وتمضي وتجيء الأخرى ، فتتم صلاتها ، وهذا مذهب أبي حنيفة . [ ص: 187 ] قوله تعالى: وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم قال ابن عباس : يريد الذين صلوا أولا . وقال الزجاج : يجوز أن يريد به الذين وجاه العدو ، لأن المصلي غير مقاتل ، ويجوز أن يكون الجماعة أمروا بحمل السلاح ، لأنه أرهب للعدو ، وأحرى أن لا يقدموا عليهم . و "الجناح" الإثم ، وهو من: جنحت: إذا عدلت عن المكان ، وأخذت جانبا عن القصد . والمعنى: أنكم إذا وضعتم أسلحتكم ، لم تعدلوا عن الحق .
قوله تعالى: إن كان بكم أذى من مطر قال ابن عباس : رخص لهم في وضع الأسلحة لثقلها على المريض وفي المطر ، وقال: خذوا حذركم كي لا يتغفلوكم .
فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا
قوله تعالى: فإذا قضيتم الصلاة يعني: صلاة الخوف ، و "قضيتم" بمعنى: فزعتم .
قوله تعالى: فاذكروا الله في هذا الذكر قولان .
أحدهما: أنه الذكر لله في غير الصلاة ، وهذا قول ابن عباس ، والجمهور . قالوا: وهو التسبيح ، والتكبير ، والدعاء ، والشكر .
[ ص: 188 ] والثاني: أنه الصلاة ، فيكون المعنى: فصلوا قياما ، فإن لم تستطيعوا فقعودا ، فإن لم تستطيعوا فعلى جنوبكم ، هذا قول ابن مسعود . وفي المراد بالطمأنينة قولان .
أحدهما: أنه الرجوع إلى الوطن عن السفر ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، وقتادة . والثاني: أنه الأمن بعد الخوف ، وهو قول السدي ، والزجاج ، وأبي سليمان الدمشقي .
وفي إقامة الصلاة قولان . أحدهما: إتمامها ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والزجاج ، وابن قتيبة .
والثاني: أنه إقامة ركوعها وسجودها ، وما يجب فيها مما قد يترك في حالة الخوف ، هذا قول السدي .
قوله تعالى: كانت على المؤمنين كتابا موقوتا أي: فرضا . وفي "الموقوت" قولان . أحدهما: أنه بمعنى: المفروض ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وابن زيد . والثاني: أنه الموقت في أوقات معلومة ، وهو قول ابن مسعود ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، وابن قتيبة .
ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما
قوله تعالى: ولا تهنوا في ابتغاء القوم قال أهل التفسير: سبب نزولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما انصرفوا من أحد أن يسيروا في أثر أبي سفيان وأصحابه ، فشكوا ما بهم من الجراحات ، فنزلت هذه الآية . قال الزجاج : ومعنى "تهنوا": تضعفوا ، يقال: وهن يهن: إذا ضعف ، وكل ضعف فهو وهن . وابتغى القوم: طلبهم بالحرب . و "القوم" هاهنا: الكفار إن [ ص: 189 ] تكونوا تألمون أي: توجعون ، فإنهم يجدون من الوجع بما ينالهم من الجراح والتعب ، كما تجدون ، وأنتم مع ذلك ترجون ما لا يرجون . وفي هذا الرجاء قولان . أحدهما: أنه الأمل ، قاله مقاتل . قال الزجاج : وهو إجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم . والثاني: أنه الخوف ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . قال الفراء: ولم يوجد الخوف بمعنى: الرجاء إلا ومعه جحد ، [فإذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف وكان الرجاء كذلك] كقوله: ما لكم لا ترجون لله وقارا [نوح: 13] وقوله: لا يرجون أيام الله [الجاثية: 14] ، قال الشاعر:
لا ترتجي حين تلاقي الزائدا أسبعة لاقت معا أم واحدا
وقال الهذلي:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل
ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك ، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك
[ ص: 190 ] قال الزجاج : وإنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف ، لأنه أمل قد يخاف أن لا يتم ، فعلى القول الأول يكون المعنى: ترجون النصر وإظهار دينكم والجنة . وعلى الثاني تخافون من عذاب الله ما لا يخافون .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (141)
صــ191 إلى صــ 195
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما
قوله تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها: أن طعمة بن أبيرق سرق درعا لقتادة بن النعمان ، وكان الدرع في جراب فيه دقيق ، فجعل الدقيق ينتشر من خرق الجراب ، حتى انتهى إلى الدار ، ثم خبأها عند رجل من اليهود ، فالتمست الدرع عند طعمة ، فلم توجد عنده ، وحلف: ما لي بها علم ، فقال أصحابها: بلى والله ، لقد دخل علينا فأخذها ، وطلبنا أثره حتى دخل داره ، فرأينا أثر الدقيق ، فلما حلف تركوه ، واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه ، فقال: دفعها إلي طعمة ، فقال قوم طعمة: انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليجادل عن صاحبنا فإنه بريء ، فأتوه فكلموه في ذلك ، فهم أن يفعل ، وأن يعاقب اليهودي ، فنزلت هذه الآيات كلها . رواه أبو صالح ، عن ابن عباس .
والثاني: أن رجلا من اليهود ، استودع طعمة بن أبيرق درعا ، فخانها ، فلما خاف اطلاعهم عليها ، ألقاها في دار أبو مليل الأنصاري ، فجادل قوم طعمة عنه ، وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألوه أن يبرئه ، ويكذب اليهودي ، فنزلت الآيات ، هذا قول السدي ، ومقاتل . [ ص: 191 ] والثالث: أن مشربة رفاعة بن زيد نقبت ، وأخذ طعامه وسلاحه ، فاتهم به بنو أبيرق ، وكانوا ثلاثة بشيرا ، ومبشرا ، وبشرا ، فذهب قتادة بن النعمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أهل بيت منا فيهم جفاء نقبوا مشربة لعمي رفاعة بن زيد ، وأخذوا سلاحه ، وطعامه ، فقال: انظر في ذلك ، فذهب قوم من قوم بني أبيرق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: إن قتادة بن النعمان ، وعمه ، عمدوا إلى أهل بيت منا يرمونهم بالسرقة وهم أهل بيت إسلام وصلاح ، فقال النبي لقتادة: رميتهم بالسرقة على غير بينة! فنزلت هذه الآيات . قاله قتادة بن النعمان .
والكتاب: القرآن . والحق: الحكم بالعدل .
لتحكم بين الناس : أي: لتقضي بينهم .
وفي قوله بما أراك الله قولان .
أحدهما: أنه الذي علمه ، والذي علمه أن لا يقبل دعوى أحد على أحد إلا ببرهان . والثاني: أنه ما يؤدي إليه اجتهاده ، ذكره الماوردي . [ ص: 192 ] قوله تعالى: ولا تكن للخائنين خصيما قال الزجاج : لا تكن مخاصما ، ولا دافعا عن خائن . واختلفوا هل خاصم عنه أم لا؟ على قولين .
أحدهما: أنه قام خطيبا فعذره ، رواه العوفي ، عن ابن عباس .
والثاني: أنه هم بذلك ، ولم يفعله ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة . قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه ، وهو غير عالم بحقيقة أمره ، لأن الله تعالى عاتب نبيه على مثل ذلك .
واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما
قوله تعالى: واستغفر الله في الذي أمر بالاستغفار منه قولان .
أحدهما: أنه القيام بعذره . والثاني: أنه العزم على ذلك .
ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا
[ ص: 193 ] قوله تعالى: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أي: يخونون أنفسهم ، فيجعلونها خائنة بارتكاب الخيانة . قال عكرمة: والمراد بهم: طعمة بن أبيرق ، وقومه الذين جادلوا عنه . وفي حديث العوفي عن ابن عباس قال: انطلق نفر من عشيرة طعمة ليلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: إن صاحبنا بريء . و "الاستخفاء": الاستتار ، والمعنى: يستترون من الناس لئلا يطلعوا على خيانتهم وكذبهم ، ولا يستترون من الله ، وهو معهم بالعلم . وكل ما فكر فيه ، أو خيض فيه بليل ، فقد بيت . وجمهور العلماء على أن المشار إليه بالاستخفاء ، والتبييت ، قوم طعمة .
والذي بيتوا: احتيالهم في براءة صاحبهم بالكذب . وقال الزجاج : هو السارق نفسه ، والذي بيت أنه قال: ارم اليهودي بأنه سارق الدرع ، واحلف أني لم أسرقها ، فتقبل يميني ، ولا تقبل يمين اليهودي .
ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا
قوله تعالى: ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم قال الزجاج : "ها" للتنبيه ، وأعيدت في أوله . والمعنى: ها أنتم الذين جادلتم . و "المجادلة ، والجدال": شدة المخاصمة ، و "الجدل": شدة الفتل . والكلام يعود إلى من احتج عن السارق . فأما قوله: "عنهم" فإنه عائد إلى السارق . و " عليهم" بمعنى: "لهم" . و "الوكيل": القائم بأمر من وكله ، فكأنه قال: من الذي يتوكل لهم منكم في خصومة ربهم؟! .
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما
قوله تعالى: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه اختلفوا في نزولها على ثلاثة أقوال .
[ ص: 194 ] أحدها: أنها نزلت خطابا للسارق ، وعرضا للتوبة عليه ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال ابن زيد ، ومقاتل .
والثاني: أنها للذين جادلوا عنه من قومه ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث: أنه عنى بها كل مسيء مذنب . ذكره أبو سليمان الدمشقي . وإطلاقها لا يمنع أن تكون نزلت على سبب . وفي هذا السوء ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه السرقة . والثاني: الشرك . والثالث: أنه كل ما يأثم به . وفي هذا الظلم قولان . أحدهما: أنه رمي البريء بالتهمة . والثاني: ما دون الشرك .
ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما
قوله تعالى: ومن يكسب إثما أي: ومن يعمل ذنبا فإنما يكسبه على نفسه يقول: إنما يعود وباله عليه ، قاله مقاتل ، وهذه في طعمة أيضا .
ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا
قوله تعالى: ومن يكسب خطيئة أو إثما جمهور العلماء على أنها نزلت متعلقة [ ص: 195 ] بقصة طعمة بن أبيرق . وقد روى الضحاك عن ابن عباس: أنها نزلت في عبد الله ابن أبي بن سلول إذ رمى عائشة عليها السلام بالإفك .
وفي قوله: خطيئة أو إثما أربعة أقوال .
أحدها: أن "الخطيئة" يمين السارق الكاذبة ، و "الإثم": سرقته الدرع ، ورميه اليهودي ، قاله ابن السائب .
والثاني: أن "الخطيئة" ما يتعلق به من الذنب ، و "الإثم": قذفه البريء ، قاله مقاتل .
والثالث: أن "الخطيئة" قد تقع عن عمد ، وقد تقع عن خطإ ، و "الإثم": يختص العمد قاله ابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي . وذكر الزجاج : أن الخطيئة نحو قتل الخطإ الذي يرتفع فيه الإثم .
والرابع: أنه لما سمى الله عز وجل بعض المعاصي خطيئة ، وبعضها إثما ، أعلم أن من كسب ما يقع عليه أحد هذين الاسمين ، ثم قذف به بريئا ، فقد احتمل بهتانا ، ذكره الزجاج أيضا . فأما قوله: ثم يرم به بريئا أي: يقذف بما جناه بريئا منه .
فإن قيل: الخطيئة والإثم اثنان ، فكيف قال: به ، فعنه أربعة أجوبة .
أحدها: أنه أراد: ثم يرم بهما ، فاكتفى بإعادة الذكر على الإثم من إعادته على الخطيئة ، كقوله: انفضوا إليها فخص التجارة ، والمعنى: للتجارة واللهو .
والثاني: أن "الهاء" تعود على الكسب ، فلما دل بـ "يكسب" على الكسب ، كنى عنه . والثالث: أن "الهاء" راجعة على معنى الخطيئة والإثم ، كأنه قال: ومن يكسب ذنبا ، ثم يرم به . ذكر هذه الأقوال . ابن الأنباري .
والرابع: أن الهاء تعود على الإثم خاصة ، قاله ابن جرير الطبري .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (142)
صــ196 إلى صــ 200
وفي المراد بالبريء: الذي قذفه هذا السارق قولان . [ ص: 196 ] أحدهما: أنه كان يهوديا ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وابن سيرين ، وقتادة ، وابن زيد ، وسماه عكرمة ، وقتادة: زيد بن السمير .
والثاني: أنه كان مسلما ، روي عن ابن عباس ، وقتادة بن النعمان ، والسدي ، ومقاتل . واختلفوا في ذلك المسلم ، فقال: الضحاك عن ابن عباس: هو عائشة لما قذفها ابن أبي ، وقال قتادة بن النعمان: هو لبيد بن سهل . وقال السدي ، ومقاتل: هو أبو مليل الأنصاري . فأما البهتان: فهو الكذب الذي يحير من عظمه ، يقال: بهت الرجل: إذا تحير . قال ابن السائب: فقد احتمل بهتانا برميه البريء ، وإثما مبينا بيمينه الكاذبة .
ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
قوله تعالى: ولولا فضل الله عليك ورحمته في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أنها متعلقة بقصة طعمة وقومه ، حيث لبسوا على النبي صلى الله عليه وسلم أمر صاحبهم ، هذا قول ابن عباس من طريق ابن السائب .
والثاني: أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: جئناك نبايعك على أن لا نحشر ولا نعشر ، وعلى أن تمتعنا بالعزى سنة ، فلم يجبهم ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، في رواية الضحاك .
وفي المراد بفضل الله ورحمته قولان . أحدهما: النبوة والعصمة . والثاني: الإسلام والقرآن ، روي عن ابن عباس .
[ ص: 197 ] قال مقاتل: لولا فضل الله عليك حيث بين لك أمر طعمة ، وحولك بالقرآن عن تصديق الخائن; لهمت طائفة منهم أن يضلوك . قال الفراء: والمعنى: لقد همت .
فإن قيل: كيف قال: ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة وقد همت بإضلاله؟ فالجواب: أنه لولا فضل الله عليك ورحمته ، لظهر تأثير ما هموا به . فأما الطائفة ، فعلى رواية ابن السائب ، عن ابن عباس: قوم طعمة ، وعلى رواية الضحاك: وفد ثقيف .
وفي الإضلال قولان . أحدهما: التخطئة في الحكم . والثاني: الاستزلال عن الحق .
قال الزجاج : وما يضلون إلا أنفسهم ، لأنهم يعملون عمل الضالين ، فيرجع الضلال إليهم . فأما "الكتاب" ، فهو القرآن .
وفي "الحكمة" ثلاثة أقوال .
أحدها: القضاء بالوحي ، قاله ابن عباس . والثاني: الحلال والحرام ، قاله مقاتل . والثالث: بيان ما في الكتاب ، وإلهام الصواب ، وإلقاء صحة الجواب في الروع ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي قوله وعلمك ما لم تكن تعلم ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه الشرع ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني: أخبار الأولين والآخرين ، قاله أبو سليمان . والثالث: الكتاب والحكمة ، ذكره الماوردي .
وفي قوله: وكان فضل الله عليك عظيما ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه المنة بالإيمان . والثاني: المنة بالنبوة ، هذان عن ابن عباس .
والثالث: أنه عام في جميع الفضل الذي خصه الله به ، قاله أبو سليمان .
لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما
[ ص: 198 ] قوله تعالى: لا خير في كثير من نجواهم قال ابن عباس : هم قوم طعمة ، وقال مقاتل: وكلهم يهود تناجوا في أمر طعمة ، وقال مجاهد: هو عام في نجوى جميع الناس . قال الزجاج : ومعنى النجوى: ما تنفرد به الجماعة أو الاثنان ، سرا كان أو ظاهرا . ومعنى "نجوت الشيء" في اللغة: خلصته وألقيته ، يقال: نجوت الجلد: إذا ألقيته عن البعير وغيره . قال الشاعر:
فقلت انجوا عنها نجا الجلد إنه سيرضيكما منها سنام وغاربه
وقد نجوت فلانا: إذا استنكهته ، قال الشاعر:
نجوت مجالدا فوجدت منه كريح الكلب مات قديم عهد
[ ص: 199 ] وأصله كله من النجوة ، وهو ما ارتفع من الأرض ، قال الشاعر ، يصف سيلا:
فمن بنجوته كمن بعقوته والمستكن كمن يمشي بقرواح
والمراد بنجواهم: ما يدبرونه بينهم من الكلام .
فأما قوله: إلا من أمر بصدقة ، فيجوز أن يكون بمعنى: إلا في نجوى من أمر بصدقة ، ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول ، فيكون بمعنى: لكن من أمر بصدقة ، ففي نجواهم خير . وأما قوله: (أمر بصدقة) فالمعنى: حث عليها .
وأما المعروف ، ففيه قولان . [ ص: 200 ] أحدهما: أنه الفرض ، روي عن ابن عباس ، ومقاتل . والثاني: أنه عام في جميع أفعال البر ، وهو اختيار القاضي أبي يعلى ، وأبي سليمان الدمشقي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (143)
صــ201 إلى صــ 205
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا
قوله تعالى: ومن يشاقق الرسول في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أنه لما نزل القرآن بتكذيب طعمة ، وبيان ظلمه ، وخاف على نفسه من القطع والفضيحة ، هرب إلى مكة ، فلحق بأهل الشرك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، والسدي . وقال مقاتل: لما قدم مكة نزل على الحجاج بن علاط السلمي فأحسن نزله ، فبلغه أن في بيته ذهبا ، فخرج في الليل فنقب حائط البيت ، فعلموا به فأحاطوا البيت ، فلما رأوه ، أرادوا أن يرجموه ، فاستحيا الحجاج ، لأنه ضيفه ، فتركوه ، فخرج ، فلحق بحرة بني سليم يعبد صنمهم حتى مات على الشرك ، فنزل فيه: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وقال غيره: بل خرج مع تجار فسرق منهم شيئا ، فرموه بالحجارة حتى قتلوه ، وقيل: ركب سفينة ، فسرق فيها مالا ، فعلم به ، فألقي في البحر .
والقول الثاني: أن قوما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا ، ثم ارتدوا ، فنزلت فيهم هذه الآية ، روي عن ابن عباس . ومعنى الآية: ومن يخالف الرسول في التوحيد ، والحدود ، من بعد ما تبين له التوحيد والحكم ، ويتبع غير دين المسلمين ، نوله ما تولى ، أي: نكله إلى ما اختار لنفسه ، ونصله جهنم: ندخله إياها .
[ ص: 201 ] قال ابن فارس: تقول صليت اللحم أصليه: إذا شويته ، فإن أردت أنك أحرقته ، قلت: أصليته . وساءت مصيرا ، أي: مرجعا يصار إليه .
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا
قوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به في سبب نزولها قولان . [ ص: 202 ] أحدهما: أنها نزلت في حق طعمة بن أبيرق لما هرب من مكة ، ومات على الشرك ، وهذا قول الجمهور ، منهم سعيد بن جبير .
والثاني: أن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: إني منهمك في الذنوب ، إلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته ، وإني لنادم مستغفر ، فما حالي؟ فنزلت هذه الآية ، روي عن ابن عباس . فأما تفسيرها ، فقد تقدم .
إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا
قوله تعالى: إن يدعون من دونه إلا إناثا "إن" بمعنى: "ما" و "يدعون" بمعنى: يعبدون . و "الهاء" في "دونه" ترجع إلى الله عز وجل . والقراءة المشهورة إناثا . وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وأبو مجلز ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء: إلا وثنا ، بفتح الواو ، والثاء من غير ألف . وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين: أنثا ، برفع الهمزة والنون من غير ألف . وقرأ أبو العالية ، ومعاذ القارئ ، وأبو نهيك: أناثا ، برفع الهمزة وبألف بعد الثاء . وقرأ أبو السوار العدوي ، وأبو شيخ الهنائي: أوثانا ، بهمزة مفتوحة بعدها واو وبألف بعد الثاء . وقرأ أبو هريرة ، والحسن ، والجوني: إلا أنثى ، على وزن "فعلى" وقرأ أيوب السختياني: إلا وثنا ، برفع الواو والثاء من غير ألف . وقرأ مورق العجلي: أثنا ، برفع الهمزة والثاء من غير ألف . قال الزجاج : فمن قال: إناثا ، فهو جمع أنثى وإناث ، ومن قال: أنثا ، فهو جمع إناث ، ومن قال: أثنا ، فهو جمع وثن ، والأصل: وثن ، إلا أن الواو إذا انضمت جاز إبدالها همزة ، كقوله تعالى: وإذا الرسل أقتت [المرسلات: 11] .
[ ص: 203 ] الأصل: وقتت . وجائز أن يكون أثن أصلها أثن ، فأتبعت الضمة الضمة ، وجائز أن يكون أثن ، مثل أسد وأسد .
فأما المفسرون ، فلهم في معنى الإناث أربعة أقوال .
أحدها: أن الإناث بمعنى الأموات ، قاله ابن عباس ، والحسن في رواية ، وقتادة . قال الحسن: كل شيء لا روح فيه ، كالحجر ، والخشبة ، فهو إناث . قال الزجاج : والموات كلها يخبر عنها ، كما يخبر عن المؤنث ، تقول من ذلك: الأحجار تعجبني ، والدراهم تنفعني .
والثاني: أن الإناث: الأوثان ، وهو قول عائشة ، ومجاهد .
والثالث: أن الإناث اللات والعزى ومناة ، كلهن مؤنث ، وهذا قول أبي مالك ، وابن زيد ، والسدي . وروى أبو رجاء عن الحسن قال: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يسمونه: أنثى بني فلان ، فنزلت هذه الآية .
قال الزجاج : والمعنى: ما يدعون إلا ما يسمونه باسم الإناث .
والرابع: أنها الملائكة كانوا يزعمون أنها بنات الله ، قاله الضحاك .
وفي المراد بالشيطان ثلاثة أقوال .
أحدها: شيطان يكون في الصنم ، قال ابن عباس : في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم ، وقال أبي بن كعب: مع كل صنم جنية .
والثاني: أنه إبليس . وعبادته: طاعته فيما سول لهم ، هذا قول مقاتل ، والزجاج .
والثالث: أنه أصنامهم التي عبدوا ، ذكره الماوردي . فأما "المريد" ، فقال الزجاج : "المريد": المارد ، وهو الخارج عن الطاعة ، ومعناه: أنه قد مرد في الشر ، يقال: مرد الرجل يمرد مرودا: إذا عتا ، وخرج عن الطاعة . وتأويل [ ص: 204 ] المرود: أن يبلغ التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف ، وأصله في اللغة: املساس الشيء ، ومنه قيل للإنسان: أمرد: إذا لم يكن في وجهه شعر ، وكذلك يقال: شجرة مرداء: إذا تناثر ورقها ، وصخرة مرداء: إذا كانت ملساء .
وفي قوله: لعنه الله قولان .
أحدهما: أنه ابتداء دعاء عليه باللعن ، وهو قول من قال: هو الأوثان .
والثاني: أنه إخبار عن لعن متقدم ، وهو قول من قال: هو إبليس . قال ابن جرير: المعنى: قد لعنه الله . قاله ابن عباس: معنى الكلام: دحره الله ، وأخرجه من الجنة . وقال -يعني إبليس-: لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا . وقال ابن قتيبة: أي: حظا افترضته لنفسي منهم ، فأضلهم . وقال مقاتل: النصيب المفروض: أن من كل ألف إنسان واحد في الجنة ، وسائرهم في النار . قال الزجاج : "الفرض" في اللغة: القطع ، و "الفرضة": الثلمة تكون في النهر . و "الفرض" في القوس: الحز الذي يشد فيه الوتر ، والفرض فيما ألزمه الله العباد جعله حتما عليهم قاطعا .
ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا
قوله تعالى: ولأضلنهم قال ابن عباس : عن سبيل الهدى ، وقال غيره: ليس له من الضلال سوى الدعاء إليه ، وفي قوله: ولأمنينهم أربعة أقوال .
أحدها: أنه الكذب الذي يخبرهم به ، قال ابن عباس : يقول لهم: لا جنة ، [ ص: 205 ] ولا نار ، ولا بعث . والثاني: أنه التسويف بالتوبة ، روي عن ابن عباس . والثالث: أنه إيهامهم أنهم سينالون من الآخرة حظا ، قاله الزجاج . والرابع: أنه تزيين الأماني لهم ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى: فليبتكن آذان الأنعام قال قتادة ، وعكرمة ، والسدي: هو شق أذن البحيرة ، قال الزجاج : ومعنى "يبتكن": يشققن ، يقال: بتكت الشيء أبتكه بتكا: إذا قطعته ، وبتكه وبتك ، مثل: قطعه وقطع . وهذا في البحيرة كانت الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن ، و كان الخامس ذكرا ، شقوا أذن الناقة ، وامتنعوا من الانتفاع بها ، ولم تطرد عن ماء ، ولا مرعى ، وإذا لقيها المعيي ، لم يركبها . سول لهم إبليس أن هذا قربة إلى الله تعالى .
وفي المراد بتغيير خلق الله خمسة أقوال .
أحدها: أنه تغيير دين الله ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال الحسن في رواية ، وسعيد بن المسيب ، وابن جبير ، والنخعي ، والضحاك ، والسدي ، وابن زيد ، ومقاتل . وقيل: معنى تغيير الدين: تحليل الحرام ، وتحريم الحلال .
والثاني: أنه تغيير الخلق بالخصاء ، رواه عكرمة ، عن ابن عباس ، وهو مروي عن أنس بن مالك ، وعن مجاهد ، وقتادة ، وعكرمة كالقولين .
والثالث: أنه التغيير بالوشم وهو قول ابن مسعود ، والحسن في رواية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (144)
صــ206 إلى صــ 210
والرابع: أنه تغيير أمر الله ، رواه أبو شيبة عن عطاء .
والخامس: أنه عبادة الشمس والقمر والحجارة ، وتحريم ما حرموا من الأنعام ، وإنما خلق ذلك للانتفاع به ، قاله الزجاج .
قوله تعالى: ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله في المراد بالولي قولان .
أحدهما: أنه بمعنى: الرب ، قاله مقاتل .
والثاني: من الموالاة ، قاله أبو سليمان الدمشقي . فإن قال قائل: من أين لإبليس العلم بالعواقب حتى قال: ولأضلنهم . وقال في [الأعراف: 17]: ولا تجد أكثرهم شاكرين . وقال في "بني إسرائيل" [62]: لأحتنكن ذريته إلا قليلا فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها: أنه ظن ذلك ، فتحقق ظنه ، وذلك قوله تعالى: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه [سبأ: 20] قاله الحسن ، وابن زيد .
وفي سبب ذلك الظن قولان .
أحدهما: أنه لما قال الله تعالى له : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ص: 85] علم أنه ينال ما يريد . والثاني: أنه لما استزل آدم ، قال: ذرية هذا أضعف منه . [ ص: 207 ] والثاني: أن المعنى: لأحرضن ولأجتهدن في ذلك ، لا أنه كان يعلم الغيب ، قاله ابن الأنباري .
والثالث: أن من الجائز أن يكون علما من جهة الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلق لا يشكرون ، ذكره الماوردي . فإن قيل: فلم اقتصر على بعضهم؟ فقال: نصيبا مفروضا وقال: ولا تجد أكثرهم شاكرين [الأعراف: 17] وقال: (إلا قليلا); فعنه ثلاثة أجوبة .
أحدها: أنه يجوز أن يكون علم مآل الخلق من جهة الملائكة ، كما بينا .
والثاني: أنه لم ينل من آدم كل ما يريد ، طمع في بعض أولاده ، وأيس من بعض .
والثالث: أنه لما عاين الجنة والنار ، علم أنهما خلقتا لمن يسكنهما ، فأشار بالنصيب المفروض إلى ساكني النار .
قوله تعالى: يعدهم يعني: الشيطان يعد أولياءه . وفيما يعدهم به قولان .
أحدهما: أنه لا بعث لهم ، قاله مقاتل . والثاني: النصرة لهم ، ذكره أبو سليمان الدمشقي . وفيما يمنيهم قولان .
أحدهما: الغرور والأماني ، مثل أن يقول: سيطول عمرك ، وتنال من الدنيا مرادك . والثاني: الظفر بأولياء الله .
يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا
[ ص: 208 ] قوله تعالى: وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أي: باطلا يغرهم به ، فأما المحيص ، فقال الزجاج : هو المعدل والملجأ ، يقال: حصت عن الرجل أحيص ، ورووا: جضت أجيض بالجيم والضاد ، بمعنى: حصت ، ولا يجوز ذلك في القرآن ، وإن كان المعنى واحدا ، لأن القراءة سنة ، والذي في القرآن أفصح مما يجوز ، ويقال: حصت أحوص حوصا وحياصة: إذا خطت ، قال الأصمعي: يقال حص عين صقرك ، أي: خط عينه ، والحوص في العين: ضيق مؤخرها ، ويقال: وقع في حيص بيص . وحاص باص: إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه .
ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا
قوله تعالى: ليس بأمانيكم في سبب نزولها ثلاثة أقوال . .
أحدها: أن أهل الأديان اختصموا ، فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب ، ونبينا خير الأنبياء ، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك ، وقال المسلمون: كتابنا نسخ كل كتاب ، ونبينا خاتم الأنبياء ، فنزلت هذه الآية ، ثم خير بين [ ص: 209 ] الأديان بقوله: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله رواه العوفي ، عن ابن عباس ، وإلى هذا المعنى ذهب مسروق ، وأبو صالح ، وقتادة ، والسدي .
والثاني: أن العرب قالت: لا نبعث ، ولا نعذب ، ولا نحاسب ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول مجاهد .
والثالث: أن اليهود والنصارى قالوا: لا يدخل الجنة غيرنا ، وقالت قريش: لا نبعث ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عكرمة .
قال الزجاج : اسم "ليس" مضمر ، والمعنى: ليس ثواب الله عز وجل بأمانيكم ، وقد جرى ما يدل على الثواب ، وهو قوله: سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار . وفي المشار إليهم بقوله "أمانيكم" قولان .
أحدهما: أنهم المسلمون على قول الأكثرين .
والثاني: المشركون على قول مجاهد . فأما أماني المسلمين ، فما نقل من قولهم: كتابنا ناسخ للكتب ، ونبينا خاتم الأنبياء ، وأماني المشركين قولهم: لا نبعث ، وأماني أهل الكتاب قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه ، وإن النار لا تمسنا إلا أياما معدودة ، وإن كتابنا خير الكتب ، ونبينا خير الأنبياء ، فأخبر الله عز وجل أن دخول الجنة والجزاء بالأعمال لا بالأماني . وفي المراد "بالسوء" قولان .
أحدهما: أنه المعاصي ، ومنه حديث أبي بكر الصديق أنه قال: يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ (من يعمل سوءا يجز به) فإذا عملنا سوءا جزينا [ ص: 210 ] به فقال: غفر الله لك يا أبا بكر ، ألست تمرض ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به .
والثاني: أنه الشرك ، قاله ابن عباس ، ويحيى بن أبي كثير . وفي هذا الجزاء قولان . أحدهما: أنه عام في كل من عمل سوءا فإنه يجازى به ، وهو معنى قول أبي بن كعب ، وعائشة ، واختاره ابن جرير ، واستدل عليه بحديث أبي بكر الذي قدمناه .
والثاني: أنه خاص في الكفار يجازون بكل ما فعلوا ، فأما المؤمن فلا يجازى بكل ما جنى ، قاله الحسن البصري . وقال ابن زيد: وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيآتهم ، ولم يعد المشركين .
قوله تعالى: ولا يجد له من دون الله وليا قال أبو سليمان: لا يجد من أراد الله أن يجزيه بشيء من عمله وليا ، وهو القريب ، ولا ناصرا يمنعه من عذاب الله وجزائه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (145)
صــ211 إلى صــ 215
ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا
قوله تعالى: ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن قال مسروق: لما نزلت ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء ، فنزلت ومن يعمل من الصالحات الآية ، وهذه تدل على ارتباط الإيمان بالعمل الصالح ، فلا يقبل أحدهما إلا بوجود الآخر ، وقد سبق ذكر "النقير" .
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا
قوله تعالى: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله قال ابن عباس : خير الله بين الأديان بهذه الآية . و "أسلم" بمعنى: أخلص . وفي "الوجه" قولان .
أحدهما: أنه الدين . والثاني: العمل . وفي الإحسان قولان . أحدهما: أنه التوحيد ، قاله ابن عباس . والثاني: القيام لله بما فرض الله ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
وفي اتباع ملة إبراهيم قولان . أحدهما: اتباعه على التوحيد والطاعة .
والثاني: اتباع شريعته ، اختاره القاضي أبو يعلى . فأما الخليل ، فقال ابن عباس : الخليل: الصفي ، وقال غيره: المصافي ، وقال الزجاج : هو المحب الذي ليس في محبته خلل . قال: وقيل: الخليل: الفقير ، فجائز أن يكون إبراهيم سمي خليل الله بأنه أحبه محبة كاملة ، وجائز أن يكون لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلا إليه ، و "الخلة": الصداقة ، لأن كل واحد يسد خلل صاحبه ، و "الخلة" بفتح الخاء: الحاجة ، سميت خلة للاختلال الذي يلحق الإنسان فيما يحتاج إليه ، [ ص: 212 ] وسمي الخل الذي يؤكل خلا ، لأنه اختل منه طعم الحلاوة . وقال ابن الأنباري: الخليل: فعيل من الخلة ، والخلة: المودة . وقال بعض أهل اللغة: الخليل: المحب ، والمحب الذي ليس في محبته نقص ولا خلل ، والمعنى: أنه كان يحب الله ، ويحبه الله محبة لا نقص فيها ، ولا خلل ، ويقال: الخليل: الفقير ، فالمعنى: اتخذه فقيرا إليه ينزل فقره وفاقته به ، لا بغيره . وفي سبب اتخاذ الله له خليلا ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه اتخذه خليلا لإطعامه الطعام ، روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا جبريل لم اتخذ الله إبراهيم خليلا؟ قال: لإطعامه الطعام"
والثاني: أن الناس أصابتهم سنة فأقبلوا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام ، وكانت له ميرة من صديق له بمصر في كل سنة ، فبعث غلمانه بالإبل إلى صديقه ، فلم يعطهم شيئا ، فقالوا: لو احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة ، فملؤوا الغرائر رملا ، ثم أتوا إبراهيم عليه السلام ، فأعلموه ، فاهتم إبراهيم لأجل الخلق . فنام وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان ، ففتحت الغرائر ، فإذا دقيق حواري ، فأمرت الخبازين فخبزوا ، وأطعموا الناس ، فاستيقظ إبراهيم ، فقال: من أين هذا الطعام؟ فقالت: من عند خليلك المصري ، فقال: بل من عند خليلي الله عز وجل ، فيومئذ اتخذه الله خليلا ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث: أنه اتخذه خليلا لكسره الأصنام ، وجداله قومه ، قاله مقاتل .
[ ص: 213 ] ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا
قوله تعالى: وكان الله بكل شيء محيطا أي: أحاط علمه بكل شيء .
ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما
قوله تعالى: ويستفتونك في النساء في سبب نزولها خمسة أقوال .
أحدها: أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ، فلما فرض الله المواريث في هذه السورة ، شق ذلك عليهم ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد .
والثاني: أن ولي اليتيمة كان يتزوجها إذا كانت جميلة وهويها ، فيأكل مالها ، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت ، فإذا ماتت ورثها ، فنزلت هذه [ ص: 214 ] الآية رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
والثالث: أنهم كانوا لا يؤتون النساء صدقاتهن ، ويتملك ذلك أولياؤهن ، فلما نزل قوله: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عائشة رضي الله عنها .
والرابع: أن رجلا كانت له امرأة كبيرة ، وله منها أولاد ، فأراد طلاقها ، فقالت: لا تفعل ، واقسم لي في كل شهر إن شئت أو أكثر ، فقال: لئن كان هذا يصلح ، فهو أحب إلي ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ذلك ، فقال: "قد سمع الله ما تقول ، فإن شاء أجابك" فنزلت هذه الآية ، والتي بعدها ، رواه سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير .
[ ص: 215 ] والخامس: أن ولي اليتيمة كان إذا رغب في مالها وجمالها لم يبسط لها في صداقها ، فنزلت هذه الآية ، ونهوا أن ينكحوهن ، أو يبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق ، ذكره القاضي أبو يعلى .
وقوله: ويستفتونك أي: يطلبون الفتوى ، وهي تبيين المشكل من الأحكام . وقيل: الاستفتاء: الاستخبار . قال المفسرون: والذي استفتوه فيه ، ميراث النساء ، وذلك أنهم قالوا: كيف ترث المرأة والصبي الصغير؟
قوله تعالى: وما يتلى عليكم في الكتاب قال الزجاج : موضع "ما" رفع ، المعنى: الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب أيضا يفتيكم فيهن . وهو قوله: وآتوا اليتامى أموالهم الآية .
والذي تلي عليهم في التزويج قوله تعالى: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء
وفي يتامى النساء قولان .
أحدهما: أنهن النساء اليتامى ، فأضيفت الصفة إلى الاسم ، كما تقول: يوم الجمعة .
والثاني: أنهن أمهات اليتامى ، فأضيف إليهن أولادهن اليتامى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (146)
صــ216 إلى صــ 220
وفي الذي كتب لهن قولان .
أحدهما: أنه الميراث . قاله ابن عباس ، ومجاهد في آخرين . والثاني: أنه الصداق . ثم في المخاطب بهذا قولان . [ ص: 216 ] أحدهما: أنهم أولياء المرأة كانوا يحوزون صداقها دونها . والثاني: ولي اليتيمة ، كان إذا تزوجها لم يعدل في صداقها . وفي قوله: وترغبون أن تنكحوهن قولان .
أحدهما: وترغبون أن تنكحوهن رغبة في جمالهن ، وأموالهن ، هذا قول عائشة ، وعبيدة . والثاني: وترغبون عن نكاحهن لقبحهن ، فتمسكوهن رغبة في أموالهن ، وهذا قول الحسن .
قوله تعالى: والمستضعفين من الولدان قال الزجاج : موضع المستضعفين خفض على قوله: وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء المعنى: وفي الولدان . قال ابن عباس : يريد أنهم لم يكونوا يورثون صغيرا من الغلمان والجواري ، فنهاهم الله عن ذلك ، وبين لكل ذي سهم سهمه .
قوله تعالى: وأن تقوموا لليتامى بالقسط قال الزجاج : موضع "أن" خفض ، فالمعنى: في يتامى النساء ، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط . قال ابن عباس : يريد العدل في مهورهن ومواريثهن .
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا
قوله تعالى: وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها: أن سودة خشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني ، وأمسكني ، واجعل يومي لعائشة ، ففعل ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة ، عن ابن عباس .
[ ص: 217 ] والثاني: أن بنت محمد بن مسلمة كانت تحت رافع بن خديج ، فكره منها أمرا ، إما كبرا ، وإما غيرة ، فأراد طلاقها ، فقالت: لا تطلقني ، واقسم لي ما شئت ، فنزلت هذه الآية ، رواه الزهري عن سعيد بن المسيب . قال مقاتل: واسمها خويلة .
والثالث: قد ذكرناه عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في نزول الآية التي قبلها . وقالت عائشة: نزلت في المرأة تكون عند الرجل ، فلا يستكثر منها ويريد فراقها ، ولعلها تكون له محبة أو يكون لها ولد فتكره فراقه ، فتقول له: لا تطلقني وأمسكني ، وأنت في حل من شأني . رواه البخاري ، ومسلم .
[ ص: 218 ] وفي خوف النشوز قولان . أحدهما: أنه العلم به عند ظهوره .
والثاني: الحذر من وجوده لأماراته . قال الزجاج : والنشوز من بعل المرأة: أن يسيء عشرتها ، وأن يمنعها نفسه ونفقته . وقال أبو سليمان: نشوزا ، أي: نبوا عنها إلى غيرها ، وإعراضا عنها ، واشتغالا بغيرها .
فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر: يصالحا بينهما بفتح الياء ، والتشديد . والأصل: "يتصالحا" ، فأدغمت التاء في الصاد . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي: "يصلحا" بضم الياء ، والتخفيف . قال المفسرون: والمعنى: أن يوقعا بينهما أمرا يرضيان به ، وتدوم بينهم الصحبة ، مثل أن تصبر على تفضيله . وروي عن علي ، وابن عباس: أنهما أجازا لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها ، أو بعض أيامها ، بأن يجعله لغيرها . وفي قوله: والصلح خير قولان .
أحدهما: خير من الفرقة ، قاله مقاتل ، والزجاج .
والثاني: خير من النشوز والإعراض ، ذكره الماوردي . قال قتادة: متى ما رضيت بدون ما كان لها ، واصطلحا عليه ، جاز ، فإن أبت لم يصلح أن يحبسها على الخسف .
قوله تعالى: وأحضرت الأنفس الشح "أحضرت" بمعنى: ألزمت . و "الشح": الإفراط في الحرص على الشيء . وقال ابن فارس: "الشح": البخل مع الحرص ، وتشاح الرجلان على الأمر: لا يريدان أن يفوتهما . وفيمن يعود إليه هذا الشح من الزوجين قولان .
أحدهما: المرأة ، فتقديره: وأحضرت نفس المرأة الشح بحقها من زوجها ، هذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير . [ ص: 219 ] والثاني: الزوجان جميعا ، فالمرأة تشح على مكانها من زوجها ، والرجل يشح عليها بنفسه إذا كان غيرها أحب إليه ، هذا قول الزجاج . وقال ابن زيد: لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئا فتحلله ، ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئا من مالها ، فتعطفه عليها .
قوله تعالى: وإن تحسنوا فيه قولان .
أحدهما: بالصبر على التي يكرهها . والثاني: بالإحسان إليها في عشرتها .
قوله تعالى: وتتقوا يعني: الجور عليها فإن الله كان بما تعملون خبيرا فيجازيكم عليه .
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما
قوله تعالى: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء قال أهل التفسير: لن تطيقوا أن تسووا بينهن في المحبة التي هي ميل الطباع ، لأن ذلك ليس من كسبكم (ولو حرصتم) على ذلك (فلا تميلوا) إلى التي تحبون في النفقة [ ص: 220 ] والقسم . وقال مجاهد: لا تتعمدوا الإساءة فتذروا الأخرى كالمعلقة . قال ابن عباس : المعلقة: التي لا هي أيم ، ولا ذات بعل . وقال قتادة: المعلقة: المسجونة .
قوله تعالى: وإن تصلحوا أي: بالعدل في القسمة وتتقوا الجور فإن الله كان غفورا لميل القلوب .
وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا
قوله تعالى: وإن يتفرقا يقول: وإن أبت المرأة أن تسمح لزوجها بإيثار التي يميل إليها ، واختارت الفرقة ، فإن الله يغني كل واحد من سعته . قال ابن السائب: يغني المرأة برجل ، والرجل بامرأة . ثم ذكر ما يوجب الرغبة إليه في طلب الخير ، فقال: ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم يعني: أهل التوراة ، والإنجيل ، وسائر الكتب (وإياكم) يا أهل القرآن (أن اتقوا الله) قيل: وحدوه (وإن تكفروا) بما أوصاكم به (فإن لله ما في السماوات وما في الأرض) فلا يضره خلافكم . وقيل: له ما في السماوات ، وما في الأرض من الملائكة ، فهم أطوع له منكم . وقد ذكرنا في سورة (البقرة) معنى "الغني الحميد" ، وفي (آل عمران) معنى "الوكيل" .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (147)
صــ221 إلى صــ 225
إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا
[ ص: 221 ] قوله تعالى: إن يشأ يذهبكم أيها الناس قال ابن عباس : يريد المشركين والمنافقين (ويأت بآخرين) أطوع له منكم . وقال أبو سليمان: هذا تهدد للكفار ، يقول: إن يشأ يهلككم كما أهلك من قبلكم إذ كفروا به ، وكذبوا رسله .
من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا
قوله تعالى: من كان يريد ثواب الدنيا قيل: إن هذه الآية نزلت من أجل المنافقين كانوا لا يصدقون بالقيامة ، وإنما يطلبون عاجل الدنيا ، ذكره أبو سليمان . وقال الزجاج : كان مشركو العرب يتقربون إلى الله ليعطيهم من خير الدنيا ، ويصرف عنهم شرها ، ولا يؤمنون بالبعث ، فأعلم الله عز وجل أن خير الدنيا والآخرة عنده . وذكر الماوردي : أن المراد بثواب الدنيا: الغنيمة في الجهاد ، وثواب الآخرة: الجنة . قال: والمراد بالآية: حث المجاهد على قصد ثواب الله .
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط في سبب نزولها قولان .
[ ص: 222 ] أحدهما: أن فقيرا وغنيا اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان صغوه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول السدي .
والثاني: أنها متعلقة بقصة ابن أبيرق ، فهي خطاب للذين جادلوا عنه ، ذكره أبو سليمان الدمشقي . و "القوام": مبالغة من قائم . و "القسط": العدل . قال ابن عباس : كونوا قوالين بالعدل في الشهادة على من كانت ، ولو على أنفسكم . وقال الزجاج : معنى الكلام: قوموا بالعدل ، واشهدوا لله بالحق ، وإن كان الحق على الشاهد ، أو على والديه ، أو قريبه ، (إن يكن) المشهود له (غنيا) فالله أولى به ، وإن يكن (فقيرا) فالله أولى به . فأما الشهادة على النفس ، فهي إقرار الإنسان بما عليه من حق . وقد أمرت الآية بأن لا ينظر إلى فقر المشهود عليه ، ولا إلى غناه ، فإن الله تعالى أولى بالنظر إليهما . قال عطاء: لا تحيفوا على الفقير ، ولا تعظموا الغني ، فتمسكوا عن القول فيه . وممن قال: إن الآية نزلت في الشهادات ، ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، والزهري ، وقتادة ، والضحاك .
قوله تعالى: فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا فيه أربعة أقوال .
أحدها: أن معناه: فلا تتبعوا الهوى ، واتقوا الله أن تعدلوا عن الحق ، قاله مقاتل .
والثاني: ولا تتبعوا الهوى لتعدلوا ، قاله الزجاج . والثالث: فلا تتبعوا الهوى كراهية أن تعدلوا عن الحق . والرابع: فلا تتبعوا الهوى فتعدلوا ، ذكرهما الماوردي .
قوله تعالى: وإن تلووا قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، [ ص: 223 ] والكسائي: تلووا ، بواوين ، الأولى مضمومة ، واللام ساكنة .
وفي معنى هذه القراءة ثلاثة أقوال .
أحدها: أن يلوي الشاهد لسانه بالشهادة إلى غير الحق . قال ابن عباس : يلوي لسانه بغير الحق ، ولا يقيم الشهادة على وجهها ، أو يعرض عنها ويتركها . وهذا قول مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد .
والثاني: أن يلوي الحاكم وجهه إلى بعض الخصوم ، أو يعرض عن بعضهم ، روي عن ابن عباس أيضا .
والثالث: أن يلوي الإنسان عنقه إعراضا عن أمر الله لكبره وعتوه .
ويكون: "أو تعرضوا" بمعنى: وتعرضوا ، ذكره الماوردي . وقرأ الأعمش ، وحمزة ، وابن عامر: "تلوا" بواو واحدة ، واللام مضمومة . والمعنى: أن تلوا أمور الناس ، أو تتركوا ، فيكون الخطاب للحكام .
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أن عبد الله بن سلام ، وأسدا ، وأسيد ابني كعب ، وثعلبة بن قيس ، وسلاما ، وسلمة ، ويامين . وهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 224 ] فقالوا: يا رسول الله نؤمن بك ، وبكتابك ، وبموسى ، والتوراة ، وعزير ، ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني: أن مؤمني أهل الكتاب كان بينهم وبين اليهود كلام لما أسلموا ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل .
وفي المشار إليهم بقوله: يا أيها الذين آمنوا ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم المسلمون ، قاله الحسن ، فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا بمحمد والقرآن ، اثبتوا على إيمانكم .
والثاني: اليهود والنصارى ، قاله الضحاك ، فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى ، والتوراة ، وبعيسى ، والإنجيل: آمنوا بمحمد والقرآن .
والثالث: المنافقون ، قاله مجاهد ، فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بألسنتهم ، آمنوا بقلوبكم .
قوله تعالى: والكتاب الذي نزل على رسوله قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر: "نزل" على رسوله ، والكتاب الذي أنزل من قبل ، مضمومتين .
وقرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي: نزل على رسوله ، والكتاب الذي أنزل مفتوحتين . والمراد بالكتاب: الذي نزل على رسوله القرآن ، والكتاب الذي أنزل من قبل: كل كتاب أنزل قبل القرآن ، فيكون "الكتاب" هاهنا: اسم جنس .
إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا
[ ص: 225 ] قوله تعالى: إن الذين آمنوا ثم كفروا اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .
أحدها: أنها في اليهود آمنوا بموسى ، ثم كفروا بعد موسى ، ثم آمنوا بعزير ، ثم كفروا بعده بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، هذا قول ابن عباس . وروي عن قتادة قال: آمنوا بموسى ، ثم كفروا بعبادة العجل ، ثم آمنوا به بعد عوده ، ثم كفروا بعده بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد .
والثاني: أنها في اليهود والنصارى ، آمن اليهود بالتوراة ، وكفروا بالإنجيل ، وآمن النصارى بالإنجيل ، ثم تركوه فكفروا به ، ثم ازدادوا كفرا بالقرآن وبمحمد ، رواه شيبان عن قتادة . وروي عن الحسن قال: هم قوم من أهل الكتاب ، قصدوا تشكيك المؤمنين ، فكانوا يظهرون بالإيمان ثم الكفر ، ثم ازدادوا كفرا بثبوتهم على دينهم . وقال مقاتل: آمنوا بالتوراة وموسى ، ثم كفروا من بعد موسى ، ثم آمنوا بعيسى والإنجيل ، ثم كفروا من بعده ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن .
والثالث: أنها في المنافقين آمنوا ، ثم ارتدوا ، ثم ماتوا على كفرهم . قاله مجاهد . وروى ابن جريج عن مجاهد: (ثم ازدادوا كفرا) قال: ثبتوا عليه حتى ماتوا . قال ابن عباس : (لم يكن الله ليغفر لهم) ما أقاموا على ذلك (ولا ليهديهم سبيلا) أي: لا يجعلهم بكفرهم مهتدين . قال: وإنما علق امتناع المغفرة بكفر بعد كفر ، لأن المؤمن بعد الكفر يغفر له كفره ، فإذا ارتد طولب بالكفر الأول .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (148)
صــ226 إلى صــ 230
بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما
قوله تعالى: بشر المنافقين زعم مقاتل أنه لما نزلت المغفرة في (سورة [ ص: 226 ] الفتح) للنبي والمؤمنين قال عبد الله بن أبي ونفر معه: فما لنا؟ فنزلت هذه الآية .
وقال غيره: كان المنافقون يتولون اليهود ، فألحقوا بهم في التبشير بالعذاب . وقال الزجاج : معنى الآية: اجعل موضع بشارتهم العذاب . والعرب تقول: تحيتك الضرب ، أي: هذا بدل لك من التحية . قال الشاعر:
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا
قوله تعالى: الذين يتخذون الكافرين أولياء قال ابن عباس : يتخذون اليهود أولياء في العون والنصرة .
قوله تعالى: أيبتغون عندهم العزة أي: القوة بالظهور على محمد وأصحابه ، والمعنى: أيتقون بهم؟ قال مقاتل: وذلك أن اليهود أعانوا مشركي العرب على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الزجاج : أيبتغي المنافقون عند الكافرين العزة .
[ ص: 227 ] و "العزة": المنعة ، وشدة الغلبة ، وهو مأخوذ من قولهم: أرض عزاز . قال الأصمعي: "العزاز": الأرض التي لا تنبت . فتأويل العزة: الغلبة والشدة التي لا يتعلق بها إذلال . قالت الخنساء:
كأن لم يكونوا حمى يتقى إذ الناس إذ ذاك من عز بزا
أي: من قوي وغلب سلب . ويقال: قد استعز على المريض ، أي: اشتد وجعه . وكذلك قول الناس: يعز علي أن يفعل ، أي: يشتد ، وقولهم: قد عز الشيء: إذا لم يوجد ، معناه: صعب أن يوجد ، والباب واحد .
[ ص: 228 ] وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا
قوله تعالى: وقد نزل عليكم في الكتاب وقرأ عاصم ، ويعقوب: "نزل" بفتح النون والزأي . قال المفسرون: الذي نزل عليهم في النهي عن مجالستهم . قوله في [الأنعام: 68] وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود ، فيسخرون من القرآن ويكذبون به ، فنهى الله المسلمين عن مجالستهم . وآيات الله: هي القرآن . والمعنى: إذا سمعتم الكفر بآيات الله ، والاستهزاء بها ، فلا تقعدوا معهم حتى يأخذوا في حديث غير الكفر ، والاستهزاء . (إنكم) إن جالستموهم على ما هم عليه من ذلك ، فأنتم (مثلهم) وفي ماذا تقع المماثلة ، فيه قولان .
أحدهما: في العصيان . والثاني: في الرضى بحالهم ، لأن مجالس الكافر غير كافر . وقد نبهت الآية على التحذير من مجالسة العصاة . قال إبراهيم النخعي: إن [ ص: 229 ] الرجل ليجلس في المجلس فيتكلم بالكلمة ، فيرضي الله بها ، فتصيبه الرحمة فتعم من حوله ، وإن الرجل ليجلس في المجلس ، فيتكلم بالكلمة ، فيسخط الله بها ، فيصيبه السخط ، فيعم من حوله .
الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا
قوله تعالى: الذين يتربصون بكم قال أبو سليمان: هذه الآية نزلت في المنافقين خاصة . قال مقاتل: كان المنافقون يتربصون بالمؤمنين الدوائر ، فإن كان الفتح ، قالوا: ألم نكن معكم؟ فأعطونا من الغنيمة . وإن كان للكافرين نصيب ، أي: دولة على المؤمنين ، قالوا للكفار: ألم نستحوذ عليكم؟ قال المبرد: ومعنى: ألم نستحوذ عليكم: ألم نغلبكم على رأيكم . وقال الزجاج : ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم . و "نستحوذ" في اللغة ، بمعنى: نستولي ، يقال: حذت الإبل ، وحزتها: إذا استوليت عليها وجمعتها . وقال غيره: ألم نستول عليكم بالمعونة والنصرة؟ وقال ابن جريج: ألم نبين لكم أنا على دينكم؟ وفي قوله: ونمنعكم من المؤمنين ثلاثة أقوال .
أحدها: نمنعكم منهم بتخذيلهم عنكم . والثاني: بما نعلمكم من أخبارهم .
والثالث: بصرفنا إياكم عن الدخول في الإيمان . ومراد الكلام: إظهار المنة من المنافقين على الكفار ، أي: فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم .
[ ص: 230 ] قوله تعالى: فالله يحكم بينكم يوم القيامة يعني: المؤمنين والمنافقين . قال ابن عباس : يريد أنه أخر عقاب المنافقين .
قوله تعالى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا فيه ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه لا سبيل لهم عليهم يوم القيامة ، روى يسيع الحضرمي عن علي بن أبي طالب أن رجلا جاءه ، فقال: أرأيت قول الله عز وجل: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وهم يقاتلوننا [فيظهرون ويقتلون] ، فقال: ولن يجعل الله للكافرين يوم القيامة على المؤمنين سبيلا . هذا مروي عن ابن عباس ، وقتادة .
والثاني: أن المراد بالسبيل: الظهور عليهم ، يعني: أن المؤمنين هم الظاهرون ، والعاقبة لهم ، وهذا المعنى في رواية عكرمة ، عن ابن عباس . والثالث: أن السبيل: الحجة . قال السدي: لم يجعل الله عليهم حجة . يعني: فيما فعلوا بهم من القتل والإخراج من الديار . قال ابن جرير: لما وعد الله المؤمنين أنه لا يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة ، ولا المؤمنين مدخل المنافقين ، لم يكن للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم: أنتم كنتم أعداءنا ، وكان المنافقون أولياءنا ، وقد اجتمعتم في النار .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (149)
صــ231 إلى صــ 235
إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا
قوله تعالى: إن المنافقين يخادعون الله أي: يعملون عمل المخادع . وقيل: يخادعون نبيه ، وهو خادعهم ، أي: مجازيهم على خداعهم . وقال الزجاج : لما أمر بقبول ما أظهروا ، كان خادعا لهم بذلك . وقيل: خداعه إياهم يكون في القيامة بإطفاء نورهم ، وقد شرحنا طرفا من هذا في (البقرة) .
قوله تعالى: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى أي: متثاقلين . و "كسالى": جمع كسلان ، و "الكسل": التثاقل عن الأمر . وقرأ أبو عمران الجوني: "كسلى" بفتح الكاف ، وقرأ ابن السميفع: "كسلى" ، بفتح الكاف من غير ألف . وإنما كانوا هكذا . لأنهم يصلون حذرا على دمائهم ، لا يرجون بفعلها ثوابا ، ولا يخافون بتركها عقابا .
[ ص: 232 ] قوله تعالى: يراءون الناس أي: يصلون ليراهم الناس . قال قتادة: والله لولا الناس ما صلى المنافق . وفي تسمية ذكرهم بالقليل ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه سمي قليلا ، لأنه غير مقبول ، قاله علي رضي الله عنه ، وقتادة .
والثاني: لأنه رياء ، ولو كان لله ، لكان كثيرا ، قاله ابن عباس ، والحسن .
والثالث: أنه قليل في نفسه ، لأنهم يقتصرون على ما يظهر ، دون ما يخفى من القراءة والتسبيح ، ذكره الماوردي .
مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا
قوله تعالى: مذبذبين بين ذلك المذبذب: المتردد بين أمرين ، وأصل التذبذب: التحرك ، والاضطراب ، وهذه صفة المنافق ، لأنه محير في دينه لا يرجع إلى اعتقاد صحيح . قال قتادة: ليسوا بالمشركين المصرحين بالشرك ، ولا بالمؤمنين المخلصين . قال ابن زيد: ومعنى "بين ذلك": بين الإسلام والكفر ، لم يظهروا الكفر فيكونوا إلى الكفار ، ولم يصدقوا الإيمان ، فيكونوا إلى المؤمنين . قال ابن عباس : ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا إلى الهدى . وقد روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثل المنافق: مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة ، وإلى هذه مرة ولا تدري أيها تتبع" .
[ ص: 233 ] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا
قوله تعالى: لا تتخذوا الكافرين أولياء في المراد بالكافرين قولان .
أحدهما: اليهود ، قاله ابن عباس .
والثاني: المنافقون ، قال الزجاج : ومعنى الآية: لا تجعلوهم بطانتكم وخاصتكم .
والسلطان: الحجة الظاهرة ، وإنما قيل للأمير: سلطان ، لأنه حجة الله في أرضه ، واشتقاق السلطان: من السليط . والسليط: ما يستضاء به ، ومن هذا قيل للزيت: السليط . والعرب تؤنث السلطان وتذكره ، تقول: قضت عليك السلطان ، وأمرتك السلطان ، والتذكير أكثر ، وبه جاء القرآن ، فمن أنث ، ذهب إلى معنى الحجة ، ومن ذكر ، أراد صاحب السلطان . قال ابن الأنباري: تقدير الآية: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم بموالاة الكافرين حجة بينة تلزمكم عذابه ، وتكسبكم غضبه؟ .
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا
قوله تعالى: إن المنافقين في الدرك الأسفل قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر: بفتح الراء ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف: بتسكين الراء . قال الفراء: وهي لغتان . قال أبو عبيدة: جهنم أدراك ، أي: منازل ، [ ص: 234 ] وأطباق . فكل منزل منها: درك . وحكى ابن الأنباري عن بعض العلماء أنه قال: الدركات: مراق ، بعضها تحت بعض . وقال الضحاك: الدرج: إذا كان بعضها فوق بعضها ، والدرك: إذا كان بعضها أسفل من بعض . وقال ابن فارس: الجنة درجات ، والنار دركات . وقال ابن مسعود في هذه الآية: هم في توابيت من حديد مبهمة [عليهم] . قال ابن الأنباري: المبهمة: التي لا أقفال عليها ، يقال: أمر مبهم: إذا كان ملتبسا لا يعرف معناه ، ولا بابه .
قوله تعالى: ولن تجد لهم نصيرا قال ابن عباس : مانعا من عذاب الله .
إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما
قوله تعالى: إلا الذين تابوا قال مقاتل: سبب نزولها: أن قوما قالوا عند ذكر مستقر المنافقين: فقد كان فلان وفلان منافقين ، فتابوا ، فكيف يفعل بهم؟
[ ص: 235 ] فنزلت هذه الآية . ومعنى الآية: إلا الذين تابوا من النفاق (وأصلحوا) أعمالهم بعد التوبة (واعتصموا بالله) أي: استمسكوا بدينه . (وأخلصوا دينهم) فيه قولان .
أحدهما: أنه الإسلام ، وإخلاصه: رفع الشرك عنه ، قاله مقاتل .
والثاني: أنه العمل ، وإخلاصه: رفع شوائب النفاق والرياء منه ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى: فأولئك مع المؤمنين في "مع" قولان .
أحدهما: أنها على أصلها ، وهو الاقتران . وفي ماذا اقترنوا بالمؤمنين؟ فيه قولان .
أحدهما: في الولاية ، قاله مقاتل . والثاني: في الدين والثواب . قاله أبو سليمان .
والثاني: أنها بمعنى "من" فتقديره: فأولئك من المؤمنين ، قاله الفراء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (150)
صــ236 إلى صــ 240
ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما
قوله تعالى: ما يفعل الله بعذابكم "ما": حرف استفهام ومعناه: التقرير ، [ ص: 236 ] أي: إن الله لا يعذب الشاكر المؤمن ، ومعنى الآية: ما يصنع الله بعذابكم إن شكرتم نعمه ، وآمنتم به وبرسوله . والإيمان مقدم في المعنى وإن أخر في اللفظ . وروي عن ابن عباس: أن المراد بالشكر: التوحيد .
قوله تعالى: وكان الله شاكرا عليما أي: للقليل من أعمالكم ، عليما بنياتكم ، وقيل: شاكرا ، أي: قابلا .
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أن ضيفا تضيف قوما فأساؤوا قراه فاشتكاهم ، فنزلت هذه الآية رخصة في أن يشكوا ، قاله مجاهد .
[ ص: 237 ] والثاني: أن رجلا نال من أبي بكر الصديق والنبي صلى الله عليه وسلم حاضر ، فسكت عنه أبو بكر مرارا ، ثم رد عليه ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر: يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئا ، حتى إذا رددت عليه قمت؟! فقال: "إن ملكا كان يجيب عنك ، فلما رددت عليه ، ذهب الملك ، وجاء الشيطان" فنزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل . واختلف القراء في قراءة (إلا من ظلم) فقرأ الجمهور بضم الظاء ، وكسر اللام . وقرأ عبد الله بن عمرو ، والحسن ، وابن المسيب ، وأبو رجاء ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، بفتحهما . [ ص: 238 ] فعلى قراءة الجمهور ، في معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها: إلا أن يدعو المظلوم علة من ظلمه ، فإن الله قد أرخص له ، قاله ابن عباس . والثاني: إلا أن ينتصر المظلوم من ظالمه ، قاله الحسن ، والسدي .
والثالث: إلا أن يخبر المظلوم بظلم من ظلمه ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .
وروى ابن جريج عنه قال: إلا أن يجهر الضيف بذم من لم يضيفه . فأما قراءة من فتح الظاء ، فقال ثعلب: هي مردودة على قوله: ما يفعل الله بعذابكم إلا من ظلم وذكر الزجاج فيها قولين .
أحدهما: أن المعنى إلا أن الظالم يجهر بالسوء ظلما .
والثاني: إلا أن تجهروا بالسوء للظالم . فعلى هذا تكون "إلا" في هذا المكان استثناء منقطعا ، ومعناها: لكن المظلوم يجوز له أن يجهر لظالمه بالسوء . ولكن الظالم قد يجهر له بالسوء ، فاجهروا له بالسوء . وقال ابن زيد: إلا من ظلم ، أي: أقام على النفاق ، فيجهر له بالسوء حتى ينزع .
[ ص: 239 ] قوله تعالى: وكان الله سميعا أي: لما تجهرون به من سوء القول (عليما) بما تخفون . وقيل: سميعا لقوم المظلوم ، عليما بما في قلبه ، فليتق الله ، . ولا يقل إلا الحق وقال الحسن: من ظلم فقد رخص له أن يدعو على ظالمه من غير أن يعتدي ، مثل أن يقول: اللهم أعني عليه ، اللهم استخرج لي حقي ، اللهم حل بينه وبين ما يريد .
إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا
قوله تعالى: إن تبدوا خيرا قال ابن عباس : يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة . وقال بعضهم: إن تبدوا خيرا بدلا من السوء . وأكثرهم على أن "الهاء" في "تخفوه" تعود إلى الخير . وقال بعضهم: تعود إلى السوء .
قوله تعالى: فإن الله كان عفوا قال أبو سليمان: أي: لم يزل ذا عفو مع قدرته ، فاعفوا أنتم مع القدرة .
إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا
قوله تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله فيهم قولان . [ ص: 240 ] أحدهما: أنهم اليهود كانوا يؤمنون بموسى ، وعزير ، والتوراة ، ويكفرون بعيسى ، والإنجيل ، ومحمد ، والقرآن ، قاله ابن عباس .
والثاني: أنهم اليهود والنصارى ، آمن اليهود بالتوراة وموسى ، وكفروا بالإنجيل وعيسى ، وآمن النصارى بالإنجيل وعيسى ، وكفروا بمحمد والقرآن ، قاله قتادة . ومعنى قوله: ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله أي: يريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله ، والإيمان برسله ، ولا يصح الإيمان به والتكذيب برسله أو ببعضهم (ويريدون أن يتخذوا بين ذلك) أي: بين إيمانهم ببعض الرسل ، وتكذيبهم ببعض (سبيلا) أي: مذهبا يذهبون إليه . وقال ابن جريج: دينا يدينون به .
أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما
قوله تعالى: أولئك هم الكافرون حقا ذكر "الحق" هاهنا: توكيدا لكفرهم إزالة لتوهم من يتوهم أن إيمانهم ببعض الرسل يزيل عنهم اسم الكفر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg