التعريف بالأمراض المعدية أو التي يمكن نقلها(*):
عرّفت منظمة الصحة العالمية الأمراض المعدية أو السارية بأنها: "الأمراض التي تنتج من الإصابة بعدوى بعامل مسبب، يمكن انتقاله من إنسان لإنسان، أو من إنسان لحيوان، أو من حيوان لحيوان، أو من البيئة للإنسان والحيوان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة (1).وعرفها بعض الباحثين بأنها: "كل مرض ينتقل من كائن إلى آخر بطريق ميكروبي" (2).
فكونه مرضاً ميكروبياً يخرج الأمراض الوراثية.
والميكروب المسبب للمرض المعدي أحد أربعة أصناف:
الفيروسات: كالإنفلوانزا، والجدري، والتهاب الكبد الفيروسي، والإيدز.
البكتيريا: كالزهري، والكوليرا، والالتهاب الرئوي، والطاعون.
الفطريات: مثل بعض الأمراض الجلدية المعدية.
الطفيليات: كالملاريا، والبلهارسيا.
فهذه هي الكائنات التي تسبب الأمراض المعدية للإنسان-بقدرة الله تعالى-.
ولا يكفي دخول الميكروب إلى الجسم ليكون صاحبه مريضاً، كما لا يكفي أن يكون هذا الميكروب هو سبب الإصابة بالمرض؛ فقد يدخل الميكروب إلى جسم إنسان فيتسبب في مرضه، وتظهر عليه أعراض المرض، ويدخل الميكروب نفسه إلى جســم إنسان آخر فيحمل المرض دون أن تظهر عليه أعراضه، ويدخل إلى جسم ثالث فتحصل له بسبب دخوله مناعة تقاوم الميكروب وتقضي عليه، وهذا كله بيد الله تعالى وحده، فهو النافع والضارّ، وهو الذي إن أذن للميكروب أعدى، وإن لم يأذن لم يُعدِ، بل يكون مفيداً للجسم (3).
طرق نقل الأمراض تنتقل الأمراض المعدية من شخص إلى آخر بإحدى طرق العدوى التالية(4):
الأمراض التي تنتقل عن طريق التنفس والهواء، كأمراض الجهاز التنفسي، مثل الإنفلونزا والسِّل الرئوي.
الأمراض التي تنتقل عن طريق الجهاز الهضمي، حيث ينتقل فيها الفيروس بواسطة الفم، كالتيفوئيد والكوليرا والتهاب الكبد.
الأمراض التي تنتقل عن طريق الجماع، حيث ينتقل فيها الفيروس بواسطة الجهاز التناسلي، كالإيدز والزهري والسيلان.
الأمراض التي تنتقل عن طريق ملامسة المصاب أو مجالسته، كالأمراض الجلدية، مثل الجذام والجدري وجديري الماء "العنقز".
الأمراض التي تنتقل عن طريق الحقن أو الوخز، ويشمل نقل الدم والحقن الطبية ووخز البعوض وغيرها، مثل الملاريا والتيفوس، وجميع الأمراض المعدية إذا نقلت عن طريق الدم؛ لوجود فيروس المرض فيه.
ويلاحظ أن طرق العدوى متعددة، كما أن شدة المرض تختلف من شخص لآخر؛ ذلك أن الذي يسبب العدوى بجعل الله ذلك فيها مخلوقات متناهية في الدقة، لا ترى بالعين المجردة، بل يحتاج إلى تكبيرها آلاف المرات حتى ترى، تسمى الفيروسات والميكروبات والطفيليات.
والميكروبات التي تسبب المرض إذا دخلت الجسم تتفاعل مع المناعة الموجودة فيه فينتج عن ذلك التفاعل أحد أمور ثلاثة:
الأول: تغلب الجسم على الميكروبات والقضاء عليه، فيسلم الجسم وتحصل له المناعة من ذلك المرض، ويبقى الإنسان غير حامل لذلك الميكروب.
الثاني: تغلب الميكروب على الجسم، فيظهر المرض ويكون الشخص مصاباً به، وفي هذه الحال يعتبر الشخص مريضاً ومعدياً لغيره بإحدى طرق العدوى.
الثالث: عدم تغلّب أحدهما على الآخر، فيحصل التعايش بينهما، فيكون الشخص حاملاً للمرض غير مصاب به، فيعدي غيره ولا يصاب هو به، ويسمى "حامل المرض".
فليست الميكروبات العامل الوحيد المسبب للمرض، بل هناك عوامل وأسباب أخرى، بعضها معلوم، وكثير منها مجهول تتحكم في ظهور المرض، أولها وأهمها: جعل الله تعالى في الميكروب القدرة على الإعداء، وإذنه له في الإعداء(5)، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
التكييف الفقهي للجناية بنقل الأمراضوفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أن تكون الجناية على شخص معين:
تقدم الكلام عن طرق انتقال العدوى، وأن نتيجتها وصول الفيروس المسبب للمرض إلى داخل الجسم، فإذا أصيب الشخص السليم بالمرض بأي طريق من طرق العدوى فما الحكم؟لا يخلو إما أن يكون التسبب بنقل الجناية للشخص السليم عمداً، أو أن يكون خطأً، كما لا يخلو من أن يؤدي نقل العدوى إلى موت الشخص السليم أو لا.وسيأتي الكلام على الحكم في المطلب التالي -إن شاء الله-.
المسألة الثانية: أن تكون الجناية على وجه الإفساد العام:
إذا وقعت الجناية بنقل العدوى على وجه الإفساد العام، وكان هدفُ الناقل -سواءً أكان هو المريض أم الطبيب أم المختص- إشاعةَ هذا المرض بين المسلمين، فلا شك أنه آثم؛ لتعمده إيذاء الآخرين والإضرار بهم.
وهذه الصورة تعتبر من صور الفساد في الأرض، والحرابة التي ذكر الله تعــالى حكمها في قوله: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (6).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "المحاربة: هي المضادّة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر" (7).
فمن سعى في الإفساد في الأرض بإشاعة المرض بين المسلمين فإنه يحُكم عليه بإحدى هذه العقوبات؛ إما القتل، أو القتل والصَّلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض والإبعاد (8).
وهذا بحسب المرض الذي سعى في نقله بين الناس، وخطورته، وأثره (9).
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم (94/7/د9) بشأن مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) والأحكام الفقهية المتعلقة به ما يلي:"تعمد نقل العدوى بمرض الإيدز إلى السليم منه بأية صورة من صور التعمد عملٌ محرم، ويعد من كبائر الذنوب والآثام، كما أنه يستوجب العقوبة الدنيوية، وتتفاوت هذه العقوبة بقدر جسامة الفعل وأثره على الأفراد وتأثيره على المجتمع.فإن كان قصد المتعمد إشاعة هذا المرض الخبيث في المجتمع فعمله هذا يعد نوعًا من الحرابة والإفساد في الأرض، ويستوجب إحدى العقوبات المنصوص عليها في آية الحرابة" (10).
التسبب في نقل الأمراضوفيه مسألتان:
المسألة الأولى: التسبب في نقل الأمراض عمداً:
إذا تعمد المصابُ بالمرض المعدي نقلَ المرض لغيره بأي طريق كانت؛ فلا يخلو من حالين:
الأولى: أن لا يؤدي نقل العدوى إلى موت المجني عليه:
فحينئذ يعزَّر المتسبب بما يناسب جُرمه، ومردّ ذلك إلى القاضي.قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أجمع العلماء على أن التعزير مشروع في كل معصية لا حدَّ فيها ولا كفارة" (11).وقد يكون من التعزير إلزامُ الجاني بدفع تكاليف علاج من تعمد إصابته حتى يبرأ، وضمانُ ما أصابه من الضرر.وقواعد الشريعة قد جاءت بإزالة الضرر(12)، فيُحكم عليه بحسب ما لحق المجنيَّ عليه من ضرر؛ فإن أدَّى لتلف عضو أو فوات منفعة أو نحو ذلك مما يمكن جريان القصاص فيه، ففيه القصاص.وإن كانت الجناية في غير ذلك مما لا يمكن جريان القصاص فيه، ففيه الحكومة (13).
الثانية: أن يؤدي تعمد نقل العدوى إلى موت المجنيّ عليه:
إذا أدَّى تعمّد إصابة السليم بالمرض إلى موته، وكان هذا المرض مما يقتل غالباً؛ فإن الفقهاء المتقدمين -فيما اطلعت عليه- لم يذكروا هذه المسألة بنصّها، لكنهم تكلموا عن صور مشابهة لها من صور القتل الخفية، كالقتل بالسَّم (14) أو بالسحر(15).
ووجه الشبه بين مسألتنا ومسألة القتل بالسم:
أن كلا الصورتين من صور القتل الخفيّ.
أن القتل فيهما قتلٌ بسبب، وليس بمباشرة.
أن السم والفيروس يدخلان إلى بدن السليم، ويؤديان إلى موته في الغالب، وإن كان ليس في الحال(16).
وعليه؛ فيمكن أن تخرَّج مسألتنا هذه على مسألة إيجاب القود بالقتل بالسم.وقد اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن من سقى غيره سماً فتناوله بنفسه فمات؛ فلا قصاص عليه ولا دية، ولكنه يعزَّر على ذلك.
وهو مذهب جمهور الحنفية (17)، وقولٌ عند الشافعية (18)، ومذهب الظاهرية (19).
واستدلوا بما يلي:
الدليل الأول:
حديث أنس رضي الله عنه أن يهوديةً أتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها، فقيل: ألا تقتلها؟ قال: "لا" (20).
فلم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم اليهودية ولم يأذن بقتلها، مع كونها أطعمته شاةً مسمومة، مما يدل على عدم وجوب القصاص في مثل هذه الحال (21).
ونوقش الاستدلال بهذا الحديث: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلها؛ لأنه لم يذكر في الحديث أن أحداً مات بهذا السم(22).
وأجيب: بأنه قد ثبت أن بشر بن البراء رضي الله عنه قد مات بعد ذلك بسبب أكله من تلك الشاة المسمومة، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقُتلت به(23).
والجمع بين روايات الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتلها أولاً؛ لأنه لم يمت أحدٌ بذلك السم، فلما مات به بشر بن البراء رضي الله عنهما قُتلت به قصاصاً.
أو أن النبي صلى الله عليه وسلم تركها؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشرٍ رضي الله عنه قصاصاً.أو تركها؛ لأنها أسلمت، فأخّر قتلها حتى مات بشرٌ رضي الله عنه؛ لأنه بموته تحقق وجوب القصاص بشرطه(24).
واعترض عليه: بعدم التسليم بأنها قتلت قصاصاً، وإنما قتلت لنقضها العهد؛ لحرابها بالسم (25).وأجيب: بأنه لو كان قتلها لنقض العهد لقُتلت من حين أقرَّت أنها سمَّت الشاة، ولم يتوقف قتلها على موت الآكل منها(26).
الدليل الثاني:
أن من أكل طعاماً قدّم إليه آكلٌ باختياره، فهو كمن قدّم له سكين فطعن بها نفسه، فلا شيء على مقدم الطعام؛ لأنه متسبب، والآكل هو المباشر للقتل (27).
ونوقش: بأن هذا قياسٌ مع الفارق؛ لأن السكين لا تقدم إلى الإنسان ليقتل بها نفسه، إنما تقدم إليه لينتفع بها، وهو عالمٌ بمضرتها ونفعها، فأشبه ما لو قُدِّم إليه السم وهو عالم به (28).
الدليل الثالث:
أن من أطعم آخر سماً فمات منه لم يباشر فيه شيئاً، إنما الآكل هو المباشر قتلَ نفسه، فلا قصاص على مقدم الطعام المسموم، كمن دعا شخصاً إلى مكان فيه أسدٌ فقتله (29).
ونوقش: بأن تقديم الطعام المسموم للمجني عليه قد اجتمع فيه المباشرة مع السبب، ولا تقدَّم المباشرة على السبب إلا إذا علم المجنيُّ عليه بأن الطعام مسمومٌ ثم تناوله، ففي هذه الحالة تغلب المباشرةُ السبب، ويقطع فعلُ المجنيِّ عليه فعلَ الجاني.
وهذا قتلٌ بالسببية العرفية؛ لأنه قد جرت العادة بأن من قدّم طعاماً لآخر ضيافةً أو بثمن فإنه يكون مأموناً، والأصل أنه ملزمٌ بحفظ طعامه وصيانته عما يضر، فإذا وضع له فيه سماً فإنه يعتبر قاتلاً (30).
والقياس على مسألة من دُعي إلى مكان فيه أسد فقتله، قياسٌ مع الفارق؛ وذلك لأنه لو علم أن في الأكل سماً فلن يأكل منه، ولو علم أن في المكان أسداً فلن يدخله(31).
الدليل الرابع:
أنه لا يطلق على من سمَّ طعاماً لآخر فأكله فمات أنه قتله إلا مجازاً، لا حقيقة، ولا يعرف في لغة العرب أنه قاتل، وإنما يستعمل هذا العوام، وليس الحجة إلا في اللغة وفي الشريعة(32).
ويمكن أن يناقش: بعدم التسليم؛ فإن القتل بالسم قتلٌ بالسبب، والقتل بالسبب معروف في الشريعة، وله صور كثيرة، هذه منها.
القول الثاني: أن من قدّم لغيره سماً فتناوله فمات، فهو شبه عمد.
وهو الأظهر عند الشافعية(33).
قال الإمام النووي رحمه الله: "لو ناوله الطعام المسموم وقال: كله، أو قدَّمه إليه وضيَّفه به، فأكله ومات به، فإن كان صبياً أو مجنوناً لزمه القصاص، سواء قال لهما: هو مسموم أم لا... وإن كان بالغاً عاقلاً؛ فإن علم حال الطعام، فلا شيء على المناوِل والمقدِّم، بل الآكل هو المهلك نفسه، وإلا ففي القصاص قولان... أظهرهما: لا قصاص... فإذا قلنا: لا قصاص، وجبت الدية على الأظهر" (34).
واستدلوا:بأنه لا قصاص؛ لأن الآكل آكلٌ باختياره من غير إكراه حسي أو شرعي، والقصاص يُدرأ بالشبهة.وعليه الدية؛ لأن واضع السم قد غرّه، ولم يقصد المتناوِل إهلاكَ نفسه (35).
ويمكن أن يناقش:بعدم التسليم بأن الآكل مختارٌ؛ لأنه في الحقيقة لا يعلم أن الطعام مسموم، ولو علم لما أكل، فهو مغررٌ به، أشبه المكرَه (36).ثم إنه قد جرت العادة بأن من قُدِّم له طعام مسموم ليأكله، وهو جاهلٌ بحاله، فإنه يأكل منه بحسب العادة، ويصير من هذه الناحية أشد إلجاءً من المكرَه؛ وذلك لأن المكرَه يعلم بحال ما أُكره عليه، ويوقن بنتيجته، بخلاف الضيف فإنه يتناول ما قُدِّم إليه وهو مطمئن النفس، لا يتطرّق الشك إليه في أن ما قدِّم له قد يضرّ به، وفي هذا نوع خيانة، فهو يشبه قتل الغيلة، ولهذا تخلَّق به اليهود.ومن ثم فإنه يقتصّ من واضع السم بالطعام، ويعتبر كالمباشر للقتل(37).
القول الثالث: أن القتل بالسم قتلُ عمدٍ يوجب القود بشرطه.
وهو قولٌ عند الحنفية (38)، ومذهب المالكية(39)، وقولٌ عند الشافعية(40)، ومذهب الحنابلة (41).واستدلوا بما يلي:
الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ولا يأكل الصدقة، فأهدت له يهودية بخيبر شاةً مصْليَّةً(42) سمَّتها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وأكل القوم، فقال: ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة، فمات بشر بن البراء بن معرور الأنصاري، فأرسل إلى اليهودية: ما حملكِ على الذي صنعت؟ فقالت: إن كنتَ نبياً لم يضرك الذي صنعتُ، وإن كنتَ مَلِكاً أرحتُ الناس منك، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُتلت(43).
ووجه الاستشهاد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل اليهودية التي دسّت السم قصاصاً لمقتل بشر بن البراء رضي الله عنهما، يؤيده ما جاء في بعض روايات الحديث: أنه دفعها إلى أولياء بشر فقتلوها(44)، فدلّ ذلك على وجوب القود على من وضع سماً لإنسان فقتله به.وقد اعترض على الاستدلال بهذا الحديث بعدة اعتراضات:
الاعتراض الأول: أنه مرسلٌ فلا حجة فيه(45).
وأجيب عنه: بأن أبا داود رواه موصولاً من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه (46)، وكذا البيهقي في سننه(47).
الاعتراض الثاني: على فرض صحة حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قتلها، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرض لها(48).
فلو صحت الروايتان لم تخلُ الحال من أحد ثلاثة أوجه:
الأول: أن نترك الروايتين لتعارضهما؛ لأن القصة واحدة والسبب واحد لامرأة واحدة، ونرجع إلى الرواية التي ليس فيها اضطراب، وهي رواية جابر وأنس رضي الله عنهما، اللذين اتفقا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلها(49).
الثاني: أن نصحح الروايتين معاً، ونجمع بينهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلها إذ سمّته، بل قتلها لأمر آخر.
الثالث: أن قوله: "قتلها" من كلام أبي هريرة، وقوله: "لم يعرض لها" من كلامه أيضاً، وحديث أنس صريح في أنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه سئل: ألا تقتلها؟ فقال: "لا".
وقوله صلى الله عليه وسلم مقدَّمٌ على غيره(50).
وأجيب عنه: بأن كلا الحديثين صحيح، والقصة واحدة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قتلها ببشر بن البراء رضي الله عنهما، قال محمد بن سحنون: "أجمع أهل الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتلها"(51).
والجمع بين الروايات ممكن، كما قال القاضي عياض رحمه الله: "أنه لم يقتلها أولاً لما فعلته من السم إذ اطلع عليه، وأشار عليه من حضر بقتلها، فقال: "لا"، فلما مات بشر بن البراء من ذلك السم، وكان أكل منها أسلَمَها لأوليائه، فقتلوها، فهو قول من قال: قتلها"(52).
الاعتراض الثالث: لا يسلَّم لكم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قتلها قصاصاً، بل قتلها لنقضها العهد (53).
وأجيب عنه: بأنه لو كان قتلها لنقضها العهد، لقتلها منذ أقرّت بفعلها، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دفعها إلى أولياء بشر فقتلوها به(54).
الاعتراض الرابع: أن اليهودية أهدت الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت ملكاً له، وصار أصحابه أضيافاً له، ولم تكن هي التي قدَّمتها إليهم، فقطع فعلُه صلى الله عليه وسلم فعلَها، وهذا لا قصاص فيه(55).
وأجيب عنه: بأن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأكل وحده، بل يدعو أصحابه للأكل معه، وقد ورد أن الشاة قدمت له بعد صلاته المغرب بالناس مباشرة(56).