في الكنية والكنى

في الكنية والكنى 1

أحمد السعيدي

«سمعت الحسن بن سفيان يقول لما قدمت على علي بن حجر وكان من آدب الناس، وكان لا يرضى قراءة أصحاب الحديث فغاب القارئ عنه يومًا، فقال: هاتوا من يقرأ. فقمت فقلت أنا.. فقرأت ذلك المجلس، وهو ذا يتأمل ويجهد أن يأخذ علي شيئًا في النحو واللغة فلم يقدر عليه، فلما فرغت قال لي: يا فتى ما اسمك؟ قلت: الحسن، قال: ما كنيتك؟ قلت: لم أبلغ رتبة الكنية. فاستحسن قولي، قال: كنَّيتُك أبا العباس، قال: وكان الحسن بن سفيان يفتخر أن علي بن حجر كناه» (2).
إن الابتداء بهذا النص مقصود لما يكتنفه من تبجيل العرب والمسلمين للكنية واحتفائهم بها مقومًا رئيسًا للشخصية المتكاملة إذ تعتبر الكنية خصيصة تميز الشخص مضيفة عليه طابعًا تشريفيًّا يعتز به مثل الحسن بن سفيان وغيره، فما الكنية؟
يشير لسان العرب إلى أن «الكنية على ثلاثة أوجه أحدها: أن يكنى عن الشيء الذي يستفحش ذكره، والثاني أن يكنى الرجل باسم توقيرا وتعظيمًا، والثالث أن تقوم الكنية مقام الاسم فيعرف صاحبها بها كما يعرف باسمه (3)، أما معجم التعريفات فهي عنده «ما صدر بأب أو أم أو ابن أو ابنة» (4).
وكيفما كان التعريف فإن للكنية في العصر الإسلامي وما قبله دلالات عدة تحتفي بالإنسان عبر تأصيل هويته وتعميقها وربطه بالذاكرة الجمعية والتراثية من خلال خصيصات أربع اتسم بها، هي الاسم والكنية والنسبة واللقب.
الكنية عن العرب والمسلمين
ظهرت الكنية عند العرب والمسلمين من أجل تعريف الإنسان بمناداته بـ «أبو» متبوعة باسم ابنه أو ابنته، أما إذا كان لا يزال صغيرًا فإنها تعد رجاء أن يُرزق الشخص بذرية تخلفه وتحيي ذكره.
وإن انسحاب اسم الأب الشخصي من الواجهة إنما يُرام من خلاله تكريس قيم البذل والإيثار والتضحية والاستخلاف، حيث يكون الأب سعيدًا بحمله للكنية مفتخرًا بها» ونحن نعلم أن العرب كانت تقدر الرجل إذ تناديه بكنيته، وتحتقره إذا استعملت الاسم دون كنية» (5).
وبانتشار الإسلام في بقاع الأرض حمل معه منظومة من القيم والثقافات من بينها ثقافة الكنية، وتذكر المستشرقة أنماري شيمل (6)، أنه في بعض بلدان العالم الإسلامي مثل باكستان، لا يتنادى الزوجان بأسمائهما الخاصة بتاتا، بل يفضلان استعمال الكنية، فينادي كل منهما الآخر بأبي فلان وأم فلان، ولا تقتصر الكنية على الذكر فقط بل تنسحب على الأنثى أيضا مثل: سلمى بنت أبي سلمى، ويكنى الرجل بكنية أنثى مثل: أبورقية تميم الداري، أبوليلى، أبوريحانة.
وبهذا يكون المسلم سعيدا بحمله لهذه الكنية التي تشرف الأنثى وتسمو عن عقلية الوأد والحرمان من حق الحياة، وفي جنوب الجزيرة العربية تتحول الكنية وتتغير بنيتها من «أبو» إلى «با»، فتصبر أبويزيد مثلا إلى بايزيد، وأبوذر إلى باذر.. أما في شمال إفريقيا فتتحول إلى بليزيد وأبوالحسن إلى بلحسن (7)، ويعزى هذا إلى طبيعة نسق اللهجات المتداولة، واختلافها من منطقة إلى أخرى.
ولم تقتصر الكنى على أسماء الأولاد بل تجاوزتها إلى كنى ذات دلالة رمزية تحيل على الخير والبركة وحسن الطالع، مثل: أبوالخير، أبوالفتوح، أبوالصبر، أبوالفرج، أبواليمن... إننا نلفيها بكثرة في كتب التراث وتآليفه بكل أنواعها، وتقتصر هذه الكنى على أهل المدن بينما تندر في البوادي.
ولعل الاهتمام بالكنى طال فئات المجتمع العربي والإسلامي جميعها، فهذا هارون الرشيد يكتني بكنيتين: أبوجعفر، وأبومحمد.. هذه الكنية التي اكتسبت في الثقافة الإسلامية طابعًا خاصًّا يجعلها تكون أقرب الكنى إلى نفوس المسلمين نظرًا لاشتمالها على اسم الرسول "صلى الله عليه وسلم" ويعزز هذا القول مثالان:
- الأول: عبدالله بن المقفع «ويكنى قبل إسلامه أبا عمرو فلما أسلم تكنى بأبي محمد» (8).
- الثاني: الحافظ بن نعيم الذي قال: «إنه لما قدم على عبدالملك بن مروان، قال له غيِّر اسمك وكنيتك، قال أما الاسم فلا، وأما الكنية فأكتني بأبي محمد فغير كنيته» (9).
وتنتشر في كتب التراث أدبيات الكنية التي أفاضت في سير هذه الثقافة المتميزة، ومن بين ذلك «إن العرب يكنون بأبي الحسن من اسمه علي وبأبي يوسف من اسمه يعقوب» (10).
كنية الرسول وكنى خلفائه
وردت للرسول "صلى الله عليه وسلم" في القرآن كنى متعددة «وقد خاطب الله الأنبياء بأسمائهم: يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا داود.. وقال مخاطبًا محمدًا: يأيها النبي، يأيها المزمل، يأيها المدثر. وذلك قائم مقام الكنية» (11).
وقد اختار الرسول "صلى الله عليه وسلم" لنفسه من الكنى أبا القاسم كما سار على هديه صحابته الأجلاء ويخبرنا «عبدالوهاب بن عطاء قال: سئل سعيد بن أبي عروبة عن الرجل يكتني بأبي القاسم، فأخبرنا عن قتادة عن سليمان اليشكري عن جابر بن عبدالله أن رجلا من الأنصار اكتنى بأبي القاسم، فقالت له الأنصار: ما كنا لنكنيك بها حتى نسأل رسول الله عن ذلك، فذكروا ذلك لرسول الله فقال: تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي» (12).
وهكذا، تكنى الخلفاء الراشدون، فكانت كنية أبي بكر هي أبوقحافة، وكنية عمر بن الخطاب أو حفص، وكنية عثمان أبوعمرو، أما علي فله كنيتان: واحدة في السلم وهي أبوالحسن، وأخرى في الحرب وهي أبوالقصم، وقد تنادى بها يوم أحد، وقد سارع الصحابة إلى هذه المكرمة، فتكنوا بكنى متعددة ومختلفة.
كنى أخرى
امتدت الكنى عند العرب والمسلمين لتشمل الحيوانات التي تدور في فلكهم وتعيش في بيئاتهم كالذئب والثعلب والأسد والضبع، فاختلفت كنى هذه الحيوانات وتعددت ناهلة من المتخيل الشعبي الجمعي الذي بوأها مكانة في خانة الكنى: فمثلًا كنوا الذئب «أبوجعدة» ، والثعلب «أبوالحصين»، والأسد «أبوفراس»، والضبع «أم عامر»، والديك «أبوبرائل»، والقرد «أبوزنة، والجراد «أم عوف»، والحرباء «أم حذر».. كما أنهم كنوا بعض المعنويات التي يحتك بها الإنسان في ممارساته اليومية، فكنوا الدنيا أم شملة، والموت أم اللهيم، والحمى أم ملذم، والهرم (الشيخوخة) أبومالك، وهي كلها كنى رمزية تؤكد من وجه قدرة الإنسان العربي على تطويع لغته العربية لتشمل كل مناحي الحياة، ومن وجه آخر تبين فرادة المتخيل العربي والإسلامي وغناه في نظرته إلى خصيصات الحياة وتفاصيلها.
إن التعرض لمثل هذه المكونات التي يحفل بها المنجز التراثي العربي والإسلامي لتجعل الباحث يندهش لطبيعة هذا المنجز، وفاعليته وقدرته على جمع منظومة من تفاصيل الشخصية العربية والإسلامية في جملة مؤلفاته، وعدم إغفال بعضها بدعوى عدم أهليتها للوصف والمناقشة، هكذا تكون الكتابة عند القدماء فعلا مؤسسا، به يستطيع الفرد التأريخ خدمة للأجيال القادمة دون معرفة بمنهج علمي مسبق يتقيد بقواعده وتوجهاته، لقد بات العلم الذي كتب فيه علماء المسلمين بالأمس يعرف اليوم باسم «الطربونوميا» أي دراسة أسماء الأماكن والأشخاص، يكفيهم فخرًا خطوا كتبا عديدة في هذا الباب.
لها دلالات عدة تحتفي بالإنسان عبر تأصيل هويته وربطه بالذاكرة الجمعية والتراثية
باحث لغوي

الهوامش
1- للاستزادة ينظر: «الأسامي والكنى» لابن حنبل، «وأسماء من يعرف بكنيته» لمحمد بن الحسن الأزدي، و«الكنى والأسماء» لمسلم القشيري، و«تهذيب الأسماء» لأبي زكريا محيي الدين، و«المقتنى في سرد الكنى» لشمس الدين محمد بن أحمد الذهبي.
2- بغية الطلب في تاريخ حلب، كمال الدين عمر بن أبي جرادة، تحقيق: د.سهيل زكار، ج 5، ص 2369، دار الفكر، ط1، بيروت 1988.
3- لسان العرب ج 15 ص 233 دار صادر، بيروت ط1.
4- التعريفات، الجرجاني، ج1 ص 241.
5- أبوحيان التوحيدي، هل كان صوفيًّا أو فيلسوفًا؟ يوسف زيدان، موقع يوسف زيدان للتراث www ziedan.com
6- ينظر كتاب noms de personne en Islam الصادر عن المنشورات الجامعية بفرنسا 1998.
7- 16: noms de personne en Islam .p
8- الفهرست، ص 172.
9- تاريخ الخلفاء، تحقيق محيي الدين عبدالحميد ج1 ص 307، ط: 1 مصر 1952.
10- تعريفات أساسية، يوسف زيدان.. موقع يوسف زيدان للتراث والمخطوطات.
11- البداية والنهاية، ابن كثير، ج6 ص 265، مكتبة المعارف بيروت.
12- الطبقات الكبرى، ج 1 ص 107.