معالم فقه الخلاف 1
عبد الوهاب بن محمد الحميقاني
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن الله أرسل رسوله محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون؛ فأشرقت الأرض بنور رسالته، وانتفع وفاز وأفلح بها من تبعوه وصحبوه - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ اهتدت به نفوسهم بعد حيرتها، وتآلفت به قلوبهم بعد شتاتها، واجتمعوا به بعد تفرقهم، واعتصموا بما جاء به من الهدى وعضوا عليه بالنواجذ.
فكانوا - رضي الله عنهم - لا يصدرون إلا عن رأيه - صلى الله عليه وسلم -، ولا يسيرون إلا على طريقه، وما اختلفوا فيه من شيء أرجعوه إليه، فكان القول له، والفصل ما ينطق به، فلما أكمل الله به الدين أعظم إكمال، وأتم به النعمة على عباده المؤمنين أبلغ إتمام، اختار له خيراً مما كان فيه، وألحقه بالرفيق الأعلى.
وما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد ترك أمته على المحجّة البيضاء، والطريق الواضحة الغراء، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (( قد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك))[1]
فقام بهذا الدين من بعده ذلك الجيل الفريد، الذين آمنوا به وعزروه ونصروه، ومنَّ الله عليهم بصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
ففتحوا القلوب بجهاد العلم والحجة والدعوة والبيان، وفتحوا الأمصار بجهاد السيف والسنان، وأنقذوا الناس بالإيمان والإسلام.
فكانوا رضوان الله عليهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدر التعليم ومرجعية البشر، ورغم أنهم كانوا يختلفون في كثير من المسائل في العلم والعمل إلا أنهم كانوا يحتكمون فيها إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، دون أن يكون لاختلاف آرائهم أثر في جماعتهم؛ لإدراكهم ما يسوغ فيه تباين الآراء وما لا يسوغ فيه ذلك، ولمعرفتهم مواطن الإنكار على المخالف من مواطن الإعذار له، وبهذا كانوا جسداً واحداً مجتمعي الكلمة، مؤتلفي القلوب؛ فنصروا الملة، ونشروا الخير، وانتفع بهم الناس.
وقد نقلوا رضوان الله عليهم هذا المنهج الذي تلقوه من مشكاة النبوة خالصاً إلى قلوب التابعين، فجرى التابعون لهم بإحسان في ذلك، وساروا على طريقتهم، ولزموا جادتهم.
ثم سلك هذا المسلك الرشيد تابعوا التابعين، وهدوا إلى صراط الحميد، ثم نهج هذا المنهج أئمة الهدى من علماء هذه الأمة، ودرج عليه الموفقون من أتباعهم زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، وكان دين الله في نفوسهم أعظم وأجل من أن يقدّموا عليه قول أحد من الناس، أو يعارضوه برأي أو قياس[2].
ثم خلف من بعدهم خلوف حكَمهم الهوى، واستحكم في قلوبهم التعصب، ففرقوا دينهم شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون.
حتى وصلت الأمة المسلمة إلى ما نعيشه اليوم من واقع كبرت فيه دائرة الخلاف، واتسعت به رقعة الفرقة بين المسلمين عامة وخاصة، فتشرذموا طوائف ومذاهب وفرق وجماعات، وشاع التعصبُ لكل قول ومشرب، ووصل الأمرُ إلى أن بغى بعضهم على بعض، ورمى كل طرف الآخر بالتهم والنقائص، وظهرت الموالاة والمعاداة على الأسماء والرسوم والإشارات والرجال والزعامات، في جو من الخصام والفصام، لا يرضاه أي محب، ويسعد له كل مبغض، فأدى ذلك إلى فشلهم ووهنهم، وذهاب ريحهم، حتى سيطر وتسلط عليهم أعداؤهم، وسلبوهم ما في قصعتهم، وتحكموا في كل أمر من أمورهم.
ومثل هذا الواقع المر لا يمكن للمسلمين أن يتجاوزوه ولا أن تصلح أحوالهم إلا باعتصامهم بدينهم، وتوحيد كلمتهم على كلمة التوحيد.
وقد أصبح القيام بهذا الأمر مطلباً ضرورياً، وحاجة ملحة، وقبل ذلك أداءً لفريضة شرعية، وحفظاً لأصل من أصول الملة.
ويقع القيام بهذا الأمر العظيم في المقام الأول، على العلماء وحملة الشريعة، فهم الأقدر على إرجاع المسلمين إلى جادة الصواب، وصرف دلاهم إلى المعين الصافي، وتربيتهم على نبذ الفرقة والاختلاف.
وقد ظهرت محاولات علمية وعملية عدة لتحقيق هذا الهدف النبيل، ومن ذلك بيان فقه الخلاف في الأحكام الشرعية، والتأصيل الشرعي لذلك، مع إبراز ما دوَّنه أئمة الإسلام في هذا الشأن في ثنايا كتبهم ومسائلهم ومقالاتهم، وجمع ذلك في مؤلف جامع لشتات مسائل هذا الفقه؛ ليسهل على المريد له تناوله ومعرفته، إلا أن الأقلام الإسلامية التي تناولت هذا الموضوع لم تأت عليه حسب علمي من كل جوانبه، كما أن ما فيها يحتاج إلى جمع وترتيب وصياغة وتهذيب، ولا زالت هذه الجهود المبذولة دون الحد المطلوب لعلاج مثل هذه المشكلة البالغة الأهمية، والتي تحتاج إلى مزيد عناية واهتمام، وحظ وافر من البحث والدراسة.
فأحببت بجهد متواضع أن ألحق بركب هذه الجهود الإصلاحية، فأدليت بدلوي في هذا المجال؛ إحياءً لمنهج أهل السنة والجماعة في فقه الخلاف، ورغبة في توحيد المسلمين واجتماعهم، وإزالة بواعث فرقتهم واختلافهم، راجياً من الله المثوبة على ذلك؛ " إذ السعي في جمع كلمة المسلمين وإزالة ما بينهم من الشقاق من أفضل الجهاد في سبيل الله، وأفضل الأعمال المقربة إلى الله"[3].
وأردت أن يكون جهدي هذا هو البحث الذي أتقدم به لنيل درجة الماجستير، وقد أسميت هذا العمل المتواضع: «معالم فقه الخلاف في الشريعة الإسلامية».
أسباب اختيار الموضوع:
1- ما سبق ذكره من حاجة المسلمين اليوم إلى توحيد كلمتهم، ورص صفوفهم بعد أن تمزقوا كل ممزق، وذلك لن يتأتى إلا إذا توحد تصورهم وفهمهم لدينهم، ومما يساعد على ذلك إبراز القواعد والضوابط التي تحكم اختلافهم، وتبين لهم الموقف الشرعي من أي خلاف أو مخالف.
2- ضعف فقه الخلاف لدى كثير من طلاب العلم والدعاة إلى الله، مما أدى إلى فشوِّ الظلم والبغي والقطيعة بينهم، وإلى الهضم والإجحاف عند تقويم الأقوال والرجال والمصنفات والمذاهب والجماعات.
3- إن هذا الموضوع على أهميته لم يلق عناية كافية من العلماء والباحثين المعاصرين، وحسب علمي أن الدراسات العلمية التي تناولته لم تستوعبه، ولم تشمله من كل جوانبه، وأظن الاعتناء بهذا الفقه، وإبراز معالمه من المهمات التي ينبغي أن يتصدر لها العلماء والباحثون في هذا العصر.
4- الرغبة الشخصية في تأصيل هذا الفقه، وإبراز معالمه للمسلمين، لدلالتهم على الخير، راجياً أن يكون في ميزان الحسنات يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أهمية البحث والهدف منه:
تتضح أهمية البحث في حجم المشكلة التي يعالجها، فهو:
- يعالج مشكلة أمة مزقتها سهام الفرقة، وقطعتها سيوف الشقاق.
- ويسهم في إزالة حيرة بعض الناس لما يراه من تباين آراء علماء المسلمين في كثير من الأحكام، ويرد على سوء الفهم الذي علق بأذهان بعضهم عن حقيقة الاختلاف في دينهم، لاسيما بعض مثقفي الأمة الذين أرجف المرجفون في أذنه فأساء الظن في الإسلام وفي أحكامه.
- ويعالج ظاهرة الترخص في أخذ الأحكام الشرعية، والتشهي في اختيار ما يوافق الهوى منها، هذه الظاهرة التي برزت بين المسلمين، لا سيما في عصرنا هذا، حتى صار الكثير منهم عند استفتائه، أو بحثه عن الحكم الشرعي في مسألة ما، لا يبحث عن صحة الدليل، ولا ينظر في صحة الاستدلال به، وإنما يبحث عن أسهل الفتاوى بما يتلاءم ورغباته في التفلت من التكاليف، بحجة أن المسألة فيها خلاف ولو كان دليلها سقيماً أو الاستدلال عليها فاسداً.
- كما يعالج ظاهرة التجرؤ على علوم الكتاب والسنة، من غير المؤهلين المتجرئين على الفتوى، والعابثين بأحكام الشريعة، مع معالجته أيضاً لظاهرة التطاول على العلماء، وجحد حقوقهم وهضم منزلتهم من جهة، ومن جهة أخرى يعالج ظاهرة التعصب المذهبي، وتقديس أقوال الرجال، وتقديمها على نصوص الكتاب والسنة، والدعوة إلى التقليد المحض الذي عطل العقول والمدارك عن دورها في استنباط الأحكام الشرعية، ووظيفتها في إدراك الخطأ من الصواب.
إذاً فالهدف من هذا البحث هو: إبراز معالم فقه الخلاف من أسباب وضوابط وأحكام وآداب وفق منهج الصحابة وسلف هذه الأمة الذين اجتمعوا على الهدى والنور، لاسيما وقد ظهرت دعوات معاصرة لتوحيد المسلمين، دون النظر إلى المنهج الصحيح الذي يجب أن يجتمعوا ويتفقوا عليه، فلا هم لأصحاب هذه الدعوة إلا مجرد الاجتماع، ولو على خلاف التصور والاعتقاد الصحيح.
وفي المقابل ظهرت أيضاً دعوات أخرى إلى المنهج والفهم الصحيح للإسلام الذي يجب أن يعتصم به المسلمون ويجتمعوا عليه، إلا أنها أيضاً أخفقت في جمع المسلمين عليه لغياب الخطوات العملية التي تحقق ذلك في السلوك والعمل.
فقصرت كل من الطائفتين في جانب من الحق وحادت عن منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى، الذين هم أهل الحق الذي لا يحيدون عنه ولا يداهنون فيه، وهم الجماعة الذين اعتصموا بحبل الله جميعاً ولم يتفرقوا، والمخرج لنا من كل فتنة وفرقة وفي كل حادثة ومعضلة هو الأخذ بمنهجهم بعقد القلوب عليه وقيام الأعمال به، فبه يجتمع المسلمون على الحق ولن يتفرقوا عنه، وينأوا عن الباطل ولن يميلوا إليه، ويعيشون في ائتلاف وإن وجد بينهم ما يسوغ فيه التباين والخلاف.
منهج البحث والدراسة:
سلكت في البحث المنهج الاستقرائي الاستنباطي؛ فجمعت ما أمكن من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والآثار عن الصحابة والتابعين المتعلقة بالموضوع، وتصنيفها حسب مضمونها بما يتوافق مع خطة البحث.
كما رجعت إلى ما كتبه أهل العلم في الجماعة والفرقة والاختلاف مع الاستفادة من كتب الفقه، ومواطن الخلاف فيها لاستنباط معالم هذا الفقه من خلال ممارسة وتطبيق الفقهاء له.
وخلصت إلى أسباب وأنواع الخلاف الموجودة بين المسلمين مع بيان الضوابط والآداب التي تقلل من الخلاف وترشده، كل ذلك على أسس منهجية وعلمية بحسب دراستي وتصوري للموضوع، معتمداً على الأدلة الشرعية، وأقوال أهل العلم في ذلك.
كما قمت بعزو الآيات إلى سورها، وتخريج الأحاديث والآثار من الكتب المعتمدة للسنة ونسبة الأقوال التي اعتمدت عليها إلى أصحابها، مع إعداد فهارس علمية للموضوع بصورة تخدم البحث والباحثين.
وقد عزفت عن تراجم الأعلام حتى لا أثقل الرسالة بالحواشي، لا سيما مع تيسر معرفتها اليوم من كتب وموسوعات التراجم.
خطة البحث:
يتكون البحث من مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة.
المقدمة:
وشملت:
- أسباب اختيار موضوع البحث.
- أهمية البحث والهدف منه.
- منهج البحث والدراسة.
- خطة البحث.
التمهيد:
- نشأة الخلاف.
- أهمية فقه الخلاف.
الفصل الأول: الجماعة والخلاف، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الجماعة مفهومها، وحكم لزومها شرعاً، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم جماعة المسلمين.
المطلب الثاني: حكم لزوم جماعة المسلمين.
المطلب الثالث: ما يخرج المسلم من الجماعة.
المبحث الثاني: الخلاف مفهومه وأنواعه وحكمه الشرعي، فيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم الخلاف.
المطلب الثاني: أنواع الخلاف.
المطلب الثالث: حكم الخلاف.
الفصل الثاني: أسباب الخلاف، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الأسباب الخَلْقيّة.
المبحث الثاني: الأسباب العلمية.
المطلب الأول: تعدد أوجه قراءة القرآن الكريم.
المطلب الثاني: طرق ثبوت الحديث النبوي.
المطلب الثالث: دلالة نصوص القرآن والسنة.
المطلب الرابع: انعدام النص الشرعي في المسألة.
المطلب الخامس: وضع اللغة العربية.
المطلب السادس: التقعيد الأصولي.
المطلب السابع: التقعيد الفقهي.
المطلب الثامن: التقعيد المقاصدي.
المطلب التاسع: تحقيق مناط الحكم.
المبحث الثالث: الأسباب الخُلُقِيّة، وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: الجهل.
المطلب الثاني: البغي.
المطلب الثالث: الهوى.
المطلب الرابع: العصبية.
المطلب الخامس: كيد الأعداء.
المطلب السادس: الذنوب والمعاصي.
الفصل الثالث: ضوابط الخلاف، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: ضوابط التلقي والاستدلال للأحكام الشرعية، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الغاية المطلوبة من الأحكام الشرعية.
المطلب الثاني: الأصل الذي تبنى عليه الأحكام الشرعية.
المطلب الثاني: الطرق المسلوكة في معرفة الأحكام الشرعية.
المبحث الثاني: ضوابط الرد على المخالف والتعامل معه، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الرد على المخالف بقصد النصيحة.
المطلب الثاني: الرد على المخالف بعلم.
المطلب الثالث: الرد على المخالف بعدل.
المطلب الرابع: الرحمة بالمخالف.
الخاتمــة:
الفهارس:
- فهرس الآيات القرآنية.
- فهرس الأحاديث النبوية.
- فهرس الأعلام.
- فهرس المصادر والمراجع.
- فهرس تحليلي لموضوعات البحث.
يتبع