منهج اللغويين في تقرير العقيدة

منهج اللغويين في تقرير العقيدة


الدكتور محمد الشيخ عليو


منهج اللغويين في تقرير العقيدة وسمات أهل السنة في تعاملهم مع اللغة العربية
اللغوي نسبة الى اللغة ويقال لمن يعرف باللغة والادب ويقصد باللغويين اساسا المشتغلون بجمع الفاظ العرب ومعرفة دلالتها واشتقاقها وتصريفها ومعرفة اساليبها في الخطاب والاستدلال لذلك بلغة العرب من نثر ونظم لكنه يدخل فيهم من يشتغل بلسان العرب عامة كالنحاة والصرفيين والبلاغيين والادباء وغيرهم.
واللغويون كغيرهم من العلماء قد تأثروا بالمناهج العقدية التي راجت في عصورهم لمعايشتهم لها .
واهم المناهج التي تأثروا بها حتى نهاية القرن الرابع الهجري حسب الاهمية:
منهج اهل السنة والجماعة
منهج المعنزلة
منهج الشيعة
منهج الخوارج
وفيما يلي بيان منهج اهل السنة والجماعة السائد بين اللغويين حتى نهاية القرن الثالث الهجري نظرا لتوافر اهل السنة والجماعة في تلك القرون المفضلة وعلو مقامهم ولم يتغير هذا الحال مع محاولة بعض الخلفاء -كالماموم والمعتصم- حمل الناس على معتقدات الجهمية لان اغلب الناس كانوا على منهج اهل السنة والجماعة. ويمثل هذه الحقبة جمع من اللغويين الذين ناصروا العقيدة السلفية ونافحوا عنها منهم:
ابو عمرو بن العلاء
حماد بن سلمة
الخليل بن احمد الفارهيدي
يونس بن حبيب
النضر بن شُميل
الاصمعي
القاسم بن سلام
ابن الاعرابي
ابن قتيبة
ابراهيم الحربي
ابو العباس أحمد بن يحيى ثعلب
اعتبار اللغة العربية واجب من واجبات الدين

لا يمكن الوصول الى معاني الكتاب والسنة إلا بفقه العربية ومعرفة أسرارها ويستحيل الاستغناء عنها في فهمهما وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

التثبت في قبول اللغة ورواتها

فلا تؤخذ اللغة عندهم إلا من رواية ثقة عدل صحيح الضبط مامون على ما ادى فمن انتفت عنه هذه الشروط لم يقبل قوله فيها لان اللغة مفسرة للكتاب والسنة ومبينة لمقاصدها فلا تقبل الا من العدول الثقات

الاحتكام الى قوانين اللغة العربية وقواعدها

يحتكمون اهل السنة والجماعة إلى قواعد اللغة التي استعملها العر، ويجرونها على الاساليب العربية القياسية المعهودة معنى واعربا دونما يخالف ذلك من الوجوه الاعرابية الشاذة بخلاف غيرهم من الفرق الذين يؤصلون بدعهم ثم يفرعون اللغة العربية والادلة الشرعية عليها ويجعلونها في خدمتها.

الأخذ بالقياس دون الشاذ والغريب

اتخذ اهل السنة القياس كمرجع لهم في تفسير الادلة فلا يقيسون الشاذ او الغريب قال ابن جرير: كتاب الله عز وجل لا توجَّهُ معانيه وما فيه من البيان، إلى الشواذ من الكلام والمعاني، وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني المفهوم، وجهٌ صحيح موجودٌ(1)
وقال النحاس: انما يحمل كتاب الله على الكثير والفصيح ولا يجوز ان يقاس على ما لا يشبهه(2)

الأخذ بما تفهمه العرب من كلامها

ويقصد بالعرب الذين نزل القرآن في عهدهم وخوطبوا به وبالسنة؛ فالواجب ان تعرف اللغة والعادة والعرف الذي نزل به الكتاب والسنة وما كان الصحابة يفهمونه من الرسول عند سماع هذه الالفاظ لا بما حدث بعده (3)

الاخذ بالظاهر وعدم العدول عنه الا بقرينة

ومن مقتضيات هذه القاعدة اجراء الكلام على ظاهره فلا يحملونه على المجاز ولا يؤولونه ولا يقدرون محذوفا حتى يدل دليلا على ارادة غيره

مراعاة دلالة السياق واحوال المتكلم والمخاطب والقرائن

دلالة السياق :ومنها الامثلة التي ضربها الامام الدارمي على ذلك في نقضه عل بشر المريسي أدلة الصفات وكذلك الاتيان فالمراد في قوله تعالى: { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (النحل:26) غير المراد في الاتيان في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة ُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) لان الاول مقرون بخرور السقف فعلم انه المكر بهم، على حين ان الثاني صفة من صفات اللع عز وجل لما تواتر في الادلة الشرعية من نزوله سبحانه وتعالى يوم القيانة للفصل بين عباده (4)

احوال المتكلم والمخاطب والقرائن: هو الذي يحدد المقصود من اللفظ وهذا القيد الاخير من مبطلات تقسيم الكلام الى حقيقة ومجاز وما يتفرع عن ذلك من الاستعارة والكناية والمبالغة لن الاحوال والقرائن المحيطة باللفظ هي التي تحددالمراد به فيكون حقيقة في كل الاحوالبجميع اساليبه. قال ابن تيمية: اللفظ لا يستعمل قط إلا مقيدا بقيود لفظية موضوعة ؛ والحال حال المتكلم والمستمع لا بد من اعتباره في جميع الكلام فإنه إذا عرف المتكلم فهم من معنى كلامه ما لا يفهم إذا لم يعرف لأنه بذلك يعرف عادته في خطابه ، واللفظ إنما يدل إذا عرف لغة المتكلم التي بها يتكلم وهي عادته وعرفه التي يعتادها في خطابه ، ودلالة اللفظ على المعنى دلالة قصدية إرادية اختيارية ، فالمتكلم يريد دلالة اللفظ على المعنى ؛ فإذا اعتاد أن يعبر باللفظ عن المعنى كانت تلك لغته ولهذا كل من كان له عناية بألفاظ الرسول ومراده بها : عرف عادته في خطابه وتبين له من مراده ما لا يتبين لغيره . ولهذا ينبغي أن يقصد إذا ذكر لفظ من القرآن والحديث.(5)

مراعاة الدلالة التاريخية للالفاظ

معرفة تطور دلالت الالفاظ الشرعية والاصطلاحات الطارئة عليها لمعرفة المعنى المراد لدى الشارع ومثال ذلك لفظ (السنة) فالسنة في عرف الشارع تشمل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور وهو الاصطلاح الذي جرى عليه السلف بيد ان المتاخرين جعلوها مقابل الواجب كذلك لفظ الكراهو فهو في عرف القرآن التحريم لكن المتأخرين اصطلحوا على تخصيصها بما ليس بمحرم وتركه أرجح من فعله.

قال الامام الالباني رحمه الله: إن من الواجب على أهل العلم أن ينتبهوا للمعاني الحديثة التي طرأت على الألفاظ العربية التي تحمل معاني خاصة معروفة عند العرب هي غير هذه المعاني الحديثة لأن القرآن نزل بلغة العرب فيجب أن تفهم مفرادته وجمله في حدود ما كان يفهم العرب الذين أنزل عليهم القرآن ولا يجوز أن تفسر بهذه المعاني الاصطلاحية الطارئة التي اصطلح عليها المتأخرون و إلا وقع المفسر بهذه المعاني في الخطأ والتقول على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من حيث يشعر و قدقدمت مثلا على ذلك لفظ ( الكراهة ) وإليك مثالا آخر :
لفظ ( السنة ) : . فإنه في اللغة الطريقة وهذا يشمل كل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور فرضا كان أو نفلا وأما اصطلاحا فهو خاص بما ليس فرضا من هديه صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يفسر بهذا المعنى الاصطلاحي لفظ ( السنة ) الذي ورد في بعض الأحاديث الكريمة كقوله صلى الله عليه وسلم : " . . . وعليكم بسنتي . . . " وقوله صلى الله عليه وسلم " . . . فمن رغب عن سنتي فليس مني " ومثله الحديث الذي يورده بعض المشايخ المتأخرين في الحض على التمسك بالسنة بمعناها الاصطلاحي وهو : " من ترك سنتي لم تنله شفاعتي " فأخطأوا مرتين (6)


الابتعاد عن المصطلحات الكلامية المستحدثة:

ينبني منهج اهل السنة والجماعة على الاعتصام بألفاظ الكتاب والسنة؛ ولذلك يحملون الالفاظ العربية على المعاني الاصلية لا على المصطلحات المستحدثة لدى المتكلمين لان مرادهم بهذه الالفاظ يخالف ما عنى به الشرع او العرب فيكون ذلك سبيلا الى الوقوع في المخالفات العقدية

تقديم المدلولات الشرعية على اللغوية:

بمعنى مراعاة المصطلحات الشرعية التي نقلت من معانيها الاصلية في اللغة كالايمان والاسلام والنفقا والكفر، وعدم الاكتفاء بمعانيها اللغوية المجردة في بيان معانيها لان في ذلك تضييعا للحقيقة الشرعية وقصورا واخراجا للفظ عن مفهومه الشرعي والشارع معني ببيانه لا ببيان اللغات(7) ومثال ذلك لفظ (الايمان) فقد قالت المرجئة والاشاعرة بان معناه التصديق ولما كان كذلك فان الاعمال لا تدخل فيه ولا يزيد ولا ينقص والسبب في ذلك تجاهلهم للحقيقة الشرعية الدالة على أن الايمان يكون باعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح وعلى ذلك فهو يزيد وينقص.

الاعتماد في تفسير اللغة على القران والحديث واقوال السلف:

باعتبار ان الكتاب والسنة الصحيحة أصلان للغة العربية وان السلف هم اعرف الناس بمدلولات اللغة العربية ومقاصدهالكونهم اهلها والناقلين لها ولم يؤثر عنهم انهم فسروه بغيرها

ومما نقل عن الائمة في ذلك ما قاله ابو عبيد القاسم بن سلام:لاهل العربية لغة، ولاهل الحديث لغة ولغة اهل العربية أقيس ولا نجد بدا من اتباع لغة اهل الحديث من اجل السماع(8) ونقل عنه : ان الفقهاء اعلم بالتاويل من اهل اللغة(9)

قال ابو العباس ثعلب: السنة تقضي على اللغة واللغة لا تقضي على السنة(10) وسئل ثعلب رحمه الله انه جاء عن السلف في تفسير قوله تعالى: { وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (هود:71)} ضحكت بمعنى حاضت فقال: نسلم للتفسير كما جاء وليس في كلام العرب ضحكت الى من الضحك ضد البكاء(11)

وكذلك الافاظ النبوية فانه صلى الله عليه وسلم كان افصح العرب لسانا واجزلهم بلاغة واوفاهم مقصدا فمتى صح اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل لنحوي ولا لغيره ان يعترض عليه(12)



قام عليه
زياد أبو رجائي
من كتاب:
مناهج اللغويين في تقرير العقيدة الى نهاية القرن الرابع
الدكتور محمد الشيخ عليو محمد
الناشر: مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع بالرياض
صفحة: 48 - 64





(1) جامع البيان 7-100
(2) اعراب القرآن ( 3-263)
(3) مجموع الفتاوي (7-106)
(4) كتاب نقض الدارمي على المريسي (124، 154-155)
(5) مجموع الفتاوى(7-114)
(6) تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد ص 54-57
(7) مجموع الفتاوي (7-286)
(8) تاريخ دمشق (49-77)
(9) غريب الحديث (4-192)
(10) مجالس ثعلب(1-179)
(11) ياقوتة الصراط في تفسير غريب القران لابي عمر الزاهد ص 266
(12) اعراب القراءات السبع وعللها(1-101)