رد: مؤسسات الاجتهاد الجماعي
مؤسسات الاجتهاد الجماعي
الدكتور أحمد بن عبد الله الضويحي*
أهم الصعوبات والعوائق التي تواجه مؤسسات الاجتهاد الجماعي
إن الحديث عن أهميـة الاجتهـاد الجماعـي المنظم في النوازل وترجيحه على الاجتهاد الفردي لا يعني بالضرورة تزكية مؤسساته القائمة اليوم، فإن الناظر في واقعها يلحظ وجود جوانب من القصور والخلل تحول دون أداء المهمة المناطة بها على الوجه الصحيح، ولعل أهمها ما يلي:
1 – عدم استقلالية كثير من هذه المؤسسات، وخصوصاً مجالس الإفتاء في الدول الإسلامية، فإنها في الغالب مسيسة، وللدول سلطة ظاهرة في أنظمتها وآلية اختيار أعضائها، والمسائل التي تحـال إليها[26]، ولعل المؤسسة الوحيدة التي لديها نوع استقلال هي : مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة.
2 – الآلية التي يتم بها اختيار الأعضاء .
فإن المتأمل في واقعها يجد أن اختيار أعضاء مؤسسات الاجتهاد الجماعي المحلية منوط بالسلطة الحاكمة، فهي التي تعين العضو أو تعفيه[27]،وأما مجمع الفقه الإسلامي الدولي فقد نصت المادة السابعة من الباب الرابع من نظامه على: أن يكون لكل دولة من دول منظمة المؤتمر الإسلامي عضو عامل في المجمع، ويتم تعيينه من قبل دولته[28]، ومع أن المادة التاسعة قد حددت الشروط التي يجب توفرها في العضو الذي ترشحه كل دولة[29]، إلا أن الواقع يشهد بخلاف ذلك.
ولاشك أن في هذه الآلية خللاً ظاهراً ينعكس على أداء هذه المؤسسات، ويمكن أن يقبل هذا في أي شيء إلا في باب الاجتهاد، فإن المجتهد لا يعطى هذه الصفة بالتعيين، ولا بكونه ممثلاً لهذه الدولة أو تلك، وإنما هي رتبة يبلغها من توفرت فيه الشروط التي حددها الأصوليون- ولو بشكل نسبي- وهو أمر يعرف بالاستفاضة والشهرة، إذْ الأصل في المجتهدين أنهم أعلام يعرفهم القاصي والداني، وقد يوجد منهم في بلد معين خمسة أو عشرة، وقد ينعدمون في بلد آخر، ولذا فينبغي أن ينتخب أعضاء هذه المؤسسات من خلال تزكية أهل الحل والعقد والجامعات الشرعية ومراكز البحوث وفق ضوابط تضمن اختيار العضو المناسب الذي تبرأ الذمة بتقليده، دون اعتبار للعوامل السياسية أو غيرها.
3 – ضعف الإمكانيات في بعض هذه المؤسسات .
حيث تعـاني بعض المؤسسات من قلة الدعم المادي، وضعف المكافآت والحوافز[30]، ولا يوجد في أغلب هذه المؤسسات - حسب علمي- مراكز معلومات مرتبطة مع المؤسسات المماثلة والجامعات والمكتبات ومراكز البحوث.
ولم تستفد أغلب هذه المؤسسات من التقنية الحديثة كما يجب، فلا تزال أعمالها تدار بالوسائل التقليدية، ولا يزال التعاطي مع الوسائط الإلكترونية يسير بخطى خجولة.
4 – عدم وجود مراكز بحوث مساندة .
تفتقر أكثر مؤسسات الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي إلى وجود مراكز بحوث متخصصة تابعة لها يناط بها دراسة المسائل التي تعرض على هذه المؤسسات وتزويدها بما تحتاج إليه من البحوث والدراسات المستفيضة، وهو أمر في غاية الأهمية، خصوصاً وأن الحوادث الجديدة تحتاج إلى دراسات عميقة، نظراً لأن أغلبها يتصف بالإشكال والغموض.
وفي اعتقادي أن المنهج المتبع في أغلب هذه المؤسسات والقائم على تأليف لجان متخصصة لبحث المسائل المطروحة[31] لا يغني عن وجود مراكز بحوث متخصصة ودائمة تكون داعمة لعمل هذه المؤسسات، وتسهم في إثراء الدراسات الشرعية، ولهذا يلحظ المتتبع لقرارات وتوصيات المجامع الفقهية كثرة تأجيل البت في النوازل بسبب قصور الدراسات، وعدم استيفائها لجوانب الموضوع[32].
5 – قلة الاجتماعات ، والتباطؤ في اتخاذ القرارات .
فإن المتابع لعمل هذه المؤسسات يلاحظ قلة الاجتماعات، والتأخر في إصدار الفتاوى والأحكام، فقد نص نظام هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية على أن تجتمع الهيئة كل ستة أشهر[33]، ومع أن نظامها يسمح بانعقادها في جلسات استثنائية لبحث أمور ضرورية لا تقبل التأخير إلا أن هذا نادراً ما يحدث، وعلى مثل ذلك نص نظام المجلس العلمي الأعلى بالمغرب[34]، ونص نظام مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي على أن يعقد مجلس المجمع دورة كل سنة، كما يعقد الأعضاء المقيمون في المملكة العربية السعودية دورات حسب الحاجة والظرف[35]، ومثلهما مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر[36].
وما من شك في أن هذه الآلية تسهم في عدم مواكبة هذه المؤسسة للنوازل، خصوصاً وأن هذا العصر يشهد تسارعاً مذهلاً في الحوادث والوقائع الجديدة في كافة الجوانب التي تمس حياة المسلمين، وتباطؤ هذه المؤسسات في النظر في هذه القضايا يلحق بالناس حرجاً ومشقة لا تخفى، ويعد إخلالاً بالأمانة التي أنيطت بها.
ولعل مما يؤكد عظم حاجة المسلمين إلى تفعيل دور هذه المؤسسات وتسريع آليات الاجتهاد والفتوى فيها: هذا التهافت الذي نشهده في العصر الحاضر من قبل عامة الناس على الاستفتاء، وهذا السيل من الأسئلة التي لا نهاية لها عن قضايا ملحة تمس حياة الناس اليومية في عباداتهم ومعاملاتهم وأحوالهم الشخصية، وهو ما جعل وسائل الأعلام تلهث وراء من يجيب عن أسئلتهم ويشفي غليلهم حتى ولو كان ممن لا تبرأ به الذمة.
ويمكن للمتابع لعمل هذه المؤسسات أن يلحظ قصوراً ظاهراً في بحث النوازل العامة التي تصيب الأمة الإسلامية، وخصوصاً الوقائع ذات الصبغة السياسية، ولعل من أبرز الأمثلة لذلك: عدم وجود رأي واضح لأغلب هذه المؤسسات تجاه أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما نجم عنها من الكوارث والمآسي المتلاحقة، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لصغار طلبة العلم، فأصبحوا هم المنظرين في هذه القضية وتوابعها، بل ربما اعتمد العامة في نظرتهم لهذه الأحداث وموقفهم تجاهها على نكرات ومجاهيل من خلال شبكة الإنترنت، مما ساعد في استشراء الضلال والفتن في المجتمعات الإسلامية، وأسهم في خلق ردود أفعال غير منضبطة من بعض فئات المسلمين، وكان له دور ظاهر في تشويه صورة الدين الإسلامي، وتحجيم الدعوة، وتعطيل الزكاة، والخلط بين الأصول الشرعية الصحيحة والممارسات الباطلة، كالخلط بين الجهاد والإرهاب، والعمل الخيري ودعم المنظمات الإرهابية، ونحو ذلك.
ولو أن هذه المؤسسات قامت بدورها الشرعي كما يجب لقطعت الطريق على مثل هؤلاء، وأسهمت في تبصير الناس بحقائق هذه النوازل وما يجب عليهم تجاهها، خصوصاً وأن الناس تطمئن إلى رأي الجماعة المعروفين أكثر من اطمئنانها إلى رأي المجتهد الواحد مهما بلغ قدره ومكانته.
*أستاذ علم أصول الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
[1] انظر أبحاث ندوة الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي 1/272، 405.
[2] المصدر السابق 1/276، 279، 304، 411، 547.
[3] انظر المصدر السابق 1/34، ومنهج استنباط أحكام النوازل 237-238.
[4] انظر أبحاث ندوة الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي 1/35.
[5] الرسالة 510-511.
[6] لعل مما يؤكد أثر الاجتماع في فهم رأي المخالف ما نقله الباجي وغيره عن أبي يوسف أنه اجتمع بالإمام مالك وسأله عن المسائل فأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر، فرجع أبو يوسف عن قوله، وقال : "لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع مثلما رجعت". انظر إحكام الفصول 483-484، ومجموع الفتاوى 20/304، والبحر المحيط 529-531.
[7] انظر سنن الدارمي، المقدمة، باب اتباع السنة 1/61، رقم 115، والبرهان 2/500، وتفسير القرطبي 6/232.
[8] أخرجه الدارمي في سننه، باب اتباع السنة 1/61، ورقمه 115.
[9] انظر المستصفى 1/191، والإحكام للآمدي 1/252، والعدة 4/1170، واللمع 89-90، وشرح تنقيح الفصول 330، وأصول السرخسي 1/340، ومختصر ابن الحاجب 2/37، وروضة الناظر 2/492.
[10] انظر أبحاث ندوة الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي 1/51، 268، 394، والاجتهاد في الشريعة الإسلامية 182، وقرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي 359.
[11] سورة آل عمران آية 159.
[12] سورة الشورى آية 38
[13] انظر الفقيه والمتفقه 2/390-391.
[14] أخرجه الدارمي في مقدمة سننه ، باب التورع عن الجواب عما ليس في كتاب ولا سنه 1/61، ورقمه 117، وأخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 1/476، ورقمه 519، 2/391، ورقمه 1154، وأخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله 2/73 ورقمه 1611، 1612، وقال : "هذا حديث لا يعرف من حديث مالك إلا بهذا الإسناد، ولا أصل له في حديث مالك عندهم والله أعلم ولا في حديث غيره"، وأخرجه ابن حزم في المحلى 6/201، ولو صح هذا الحديث لكان نصاً في هذا الباب.
[15] انظر الفقيه والمتفقه 2/390.
[16] أخرجه الدارمي في مقدمة سننه، باب الفتيا وما فيه من الشدة 1/58.
[17] أخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 1/491، ورقمه 532، وفي إسناده عيسى بن المسيب، وهذا الرجل ضعفه جمع من أهل العلم منهم : يحيى بن معين، والدارقطني، والنسائي، وأبو داود. انظر ميزان الاعتدال 3/323، لكن هذا الأثر روي من طرق متعددة يعضد بعضها بعضاً فيكون صحيحاً لغيره، انظر الفقيه والمتفقه 1/491 "الهامش".
[18] انظر سير أعلام النبلاء 5/118.
[19] انظر تفسير القرطبي 6/332.
[20] التمهيد 8/368.
[21] انظر الفقيه والمتفقه 2/375-376.
[22] انظر صحيح البخاري ، كتاب العلم 1/352، ورقم الباب 26.
[23] انظر مختصر ابن الحاجب 1/34، وشرح الكوكب المنير 2/231، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد 130.
[24] أخرجه عبدالرزاق في المصنف، باب بيع أمهات الأولاد 7/291-292، وابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب البيوع والأقضية، باب في بيع أمهات الأولاد 6/436-437، والبيهقي في سننه ، كتاب عتق أمهات الأولاد، باب الخلاف في أمهات الأولاد 10/348، وابن حزم في الإحكام 6/247.
[25] انظر قرارات المجمع الفقهي الإسلامي 167-169.
[26] انظر الاجتهاد الجماعي في هيئة كبار العلماء ولجنة الإفتاء بالمملكة العربية السعودية 1/303، والاجتهاد الجماعي في تونس والمغرب والأندلس 1/545-550.
[27] انظر أبحاث ندوة الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي 1/302، 306، 548، 585، 609.
[28] انظر مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة نموذج للاجتهاد الجماعي 1/277.
[29] انظر المصدر السابق 1/278.
[30] انظر الاجتهاد الجماعي في مصر 1/204-206.
[31] كاللجان المنبثقة عن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وشعبة الدراسات والبحوث بمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء التابعة لهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية. انظر أبحاث ندوة الاجتهاد الجماعي في العالم الإسلامي 1/197-198، 272، 306-307.
[32] حاولت حصر الموضوعات المؤجلة في مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة – وهو من أهم مؤسسات الاجتهاد الجماعي القائمة اليوم- فوجدت أن نسبتها تربو على 17% من مجموع الموضوعات التي نظر فيها المجمع.
[33] انظر الاجتهاد الجماعي في هيئة كبار العلماء 1/304.
[34] انظر الاجتهاد الجماعي في تونس والمغرب والأندلس 1/548.
[35] انظر مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة نموذج للاجتهاد الجماعي 1/ 272، 290.
[36] انظر الاجتهاد الجماعي في مصر 1/197.