هكذا فليكن الآباء
يحيى بن موسى الزهراني
المقدمة:
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى..، وبعد:
أبدأ حديثي هذا بقصة عالم من العلماء، وفقيه من الفقهاء، عابد زاهد، ترك الدنيا، واشترى الآخرة، في قصة هي العجيبة الغريبة علينا اليوم!! قصة تزويجه ابنته لطالب علم فقير، فأغناه الله بذلك، ورفع ذكر العالم الفقيه، إنه أبو محمد سعيد بن المسيب؛ أحد الفقهاء السبعة بالمدينة.
كان سيد التابعين من الطراز الأول، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع، سمع من الزهري، وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة - رضي الله عنهما -.
القصة:
قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - لرجل سأله عن مسألة: "أيت ذاك فسله، يعني سعيداً، ثم ارجع إليّ فأخبرني، ففعل ذلك وأخبره، فقال: ألم أخبركم أنه أحد العلماء"، وقال أيضاً في حقه لأصحابه: "لو رأى هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – لسره". وكان قد لقي جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وسمع منهم، ودخل على أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ عنهن، وأكثر روايته المسند عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وكان زوج ابنته. وسئل الزهري ومكحول: "من أفقه من أدركتما فقالا: سعيد بن المسيب"، وروي عنه أنه قال: "حججت أربعين حجة"، وعنه أنه قال: "ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ أربعين سنة، وما نظرت إلى قفا رجل في الصلاة منذ أربعين سنة"، لمحافظته على الصف الأول، وقيل: "إنه صلى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة"، وكان يقول: "ما أعزت العباد نفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت نفسها بمثل معصية الله"، ودعي إلى نيف وثلاثين ألفاً ليأخذها فقال: "لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان، حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم".
وقال أبو وداعة -هو كثير بن المطلب بن أبي وداعة-: "كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: هلا أخبرتنا فشهدناها، قال: ثم أردت أن أقوم، فقال: هلا أحدثت امرأة غيرها، فقلت: يرحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة، فقال: إن أنا فعلت تفعل، قلت: نعم، ثم حمد الله - تعالى -وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجني على درهمين أو قال على ثلاثة، قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر ممن آخذ وأستدين، وصليت المغرب، وكنت صائماً، فقدمت عشاي لأفطر، وكان خبزاً وزيتاً، وإذا بالباب يقرع، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد، ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم ير منذ أربعين سنة إلا ما بين بيته والمسجد، فقمت وخرجت، وإذا بسعيد بن المسيب، فظننت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد، هلا أرسلت إلي فآتيك، قال: لا، أنت أحق أن تؤتى، قلت: فما تأمري؟ قال: رأيتك رجلاً عزباً قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة خلفه في طوله ثم دفعها في الباب ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم صعدت إلى السطح، فناديت الجيران، فجاءوني، وقالوا: ما شأنك؟ فقلت: زوجني سعيد بن المسيب اليوم ابنته وقد جاء بها على غفلة، وها هي في الدار، فنزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت، وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله - تعالى -وأعلمهم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعرفهم بحق الزوج، قال: فمكث شهراً لا يأتيني ولا آتيه، ثم أتيته بعد شهر وهو في حلقته، فسلمت عليه، فرد علي ولم يكلمني حتى انفض من في المسجد، فلما لم يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان، قلت: هو على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي، فوجه إلي بعشرين ألف درهم".
فوائد وفرائد:
من هذه القصة التي تبدوا اليوم وكأنها أساطير، بل من قصص ألف ليلة وليلة، بل وكأنها من قصص الغول والسعالي التي يخوف بها الأولاد، وكأنها خيال لا صحة له؛ لكنها حقيقة صحيحة لا مراء فيها، ولا جدال فيها، هل يأخذ الآباء والأولياء منها عبرة وعظة؟
للأب الصادق المخلص الذي لا يعرض ابنته للبيع والمزايدة والمساومة، بل يتق الله فيها، ويعمل جاهداً لإسعادها في الدنيا والآخرة، وذلك بتزويجها الرجل الصالح المؤمن الخائف الوجل من ربه، تحقيقاً لقول رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إِذا خَطَبَ إِليكم من تَرضَون دينه وخُلُقَه -وفي رواية- أمانته فزوجّوه، إِلا أن تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض )) [أخرجه الترمذي وحسنه الألباني].
إذا أتاكم: أي خطب إليكم بنتكم.
من ترضون خلقه: لأن الخلق مدار حسن المعاش.
ودينه: لأن الدين مدار أداء الحقوق.
إلا تفعلوا... الخ: أي إن لم تزوجوا من ترضون دينه وخلقه، وترغبوا في ذوي الحسب والمال، تكن فتنة وفساد؛ لأن الحسب والمال يؤديان إلى الفتنة والفساد عادة، وهذا هو المشاهد في كل زمان، إلا من رحم ربك.
الزمام والخطام:
نحن اليوم بحاجة ماسة، وضرورة ملحة إلى رجال يمتثلون أمر الله - عز وجل - القائل - سبحانه -: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً) [النساء34].
نعم أيها الإخوة.. نحن بحاجة إلى رجال يقومون بشأن البيوت والأسر، ولا يتركونها لبعض السفهاء وقاصرات التفكير والعلم والدين من النساء، وما نحن فيه اليوم من إسراف وتبذير إلا بسبب ذلك.
فاجعل زمام الزواج وخطام العرس بيديك أنت، ولا مانع من المشورة الأسرية في حدود العقل والمعرفة.
الأمانة العظيمة:
أيها الآباء.. اتقوا الله - عز وجل - في بناتكم ومن هن تحت ولايتكم، زوجوهن إذا رغبن الزواج وأتاكم من ترضون دينه وخلقه وأمانته، فهذا من أعظم حقوق بناتكم عليكم، وإلا سوف تلقى الله وهي متعلقة في رقبتك، تشكوك إلى جبار السموات والأرض، تقول: يا رب منعني أبي من الزواج، يا رب أبي سبب انحرافي وضياعي، قال - تعالى -: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) [الصافات24].
تذكر أيها الولي أن ابنتك أمانة عظيمة بين يديك، فما أنت صانع بها، ألا فاصنع كما صنع الشيخ العالم الرباني سعيد بن المسيب، الذي زوج ابنته لطالب علم فقير؛ لأنه يعلم أن الله سيغنيه من فضله؛ لأنه يقرأ قول الله - تعالى -: (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النور32].
وتفسير الآية: زوِّجوا أيها المؤمنون مَن لا زوج له من الأحرار والحرائر والصالحين مِن عبيدكم وجواريكم، إن يكن الراغب في الزواج للعفة فقيرًا يغنه الله من واسع رزقه، والله واسع، كثير الخير، عظيم الفضل، عليم بأحوال عباده.
فالنكاح من أسباب الغنى من الفقر، فلا يغرنك أيها الأب الفاضل غنى بعض الخطاب الفساق، فالغنى غنى النفس، وليس عن كثرة العرض كما صح الخبر بذلك، فالفقير الصالح التقي، خير من ملء الأرض من غني فاسق عاص لله، واعلم أن الزواج مما يعين الفقير على الغنى، عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: "أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى" يقصد تفسير الآية السابقة، وعن عمر وابن عباس –رضي الله عنهم- مثله، قال ابن عباس –رضي الله عنهما-: "التمسوا الرزق بالنكاح"، وقال طلحة بن مطرف: "تزوجوا فإنه أوسع لكم في رزقكم، وأوسع لكم في أخلاقكم، ويزيد في مروءتكم".
فتوى مهمة:
قال العلامة الشيخ/ صالح الفوزان -عضو هيئة كبار العلماء- في المنتقى من فتاوى الفوزان 1/55: "ويحرم على الوالد أن يعضل ابنته عن الزواج من أجل أن يحصل على مهر كثير ".
وقال - حفظه الله -: " ولا يجوز للأب أن يمنع تزويج ابنته من الكفء الصالح ".
وقال أيضاً: " يجب على ولي المرأة إذا تقدم لها كفء يناسبها ورغبت في الزواج منه فإنه يجب عليه أن يزوجها منه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد )) [رواه الترمذي في سننه من حديث أبي حاتم المزني - رضي الله عنه -]. فإذا لم يزوجها بكفئها الذي رضيت به فإنه يكون قد عضلها، والعضل محرم، وحينئذ تسقط ولايته عليها إلى من بعده من أوليائها على الترتيب، ويجب عليه أن يختار لها الكفء الذي يناسبها، أما إذا لم يكن لرفضه سبب صحيح فحرام عليه أن يمنعها وأن يعضلها، وإذا كان في المسألة أولياء آخرون، فالولاية تنتقل إليهم، ويرجع إلى القاضي في هذه القضية ليراعي المصلحة، وينقل الولاية من هذا إلى من هو بعده في الترتيب؛ لضبط هذه المسألة، وضبط الواقع فيها " [4/69].
خيانة الأمانة:
كم من الآباء من خانوا الأمانة التي حملهم الله إياها، في قوله - تعالى -: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء58].
وقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال27-28].
وتأمل أيها العبد ضعفك وجهلك، حيث يقول الحق- تبارك وتعالى -: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب72].
كثر الزنا:
لقد كثر الزنا، وانتشرت بيوت الدعارة، وسافر الشباب إلى بلاد موبوءة محمومة مشبوهة، واكتفوا بالحرام عن الحلال، فلماذا هذا أيها المسلمون؟
إنه بسبب تعنت الكثير من الآباء، بسبب ظلم الكثير من الأولياء، بسبب الجشع والطمع في راتب البنت والبنات، ونسي أولئك الآباء أنهم بفعلهم هذا يصادمون القرآن والسنة، يمنعون الزواج بكثرة الطلبات، والمغالاة في المهور، وسد الطرق إلى الحلال، وفتح الطرق إلى الحرام، فإذا لم يجد أولئك الشباب والشابات طريقاً وملاذا حلالاً يقضون فيه شهوتهم، فلا ريب أنهم سيسلكون طرق الحرام، فيكون الوزر والذنب والشؤم على الأمة جمعاء. ومن سبب ذلك إنهم - الآباء والأولياء- الذين خالفوا الفطر السليمة، والعقول الصحيحة، فأغلقوا أبواب الحلال، وفتحوا أبواب الحرام، ليلج منها أبناء المسلمين وبناتهم، بالمغالاة في المهور، والإسراف في الولائم والدعوات، ومنع الخُطاب الصلحاء الأكفاء، ولقد جاء في حقهم قولاً غليظاً، ووعيداً عظيماً، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (( إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ، مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ )) [رواه ابن ماجة].
همسة مهمة:
لقد أصبحت بيوت الدعارة التي يديرها أعداء الله - تعالى -وأعداؤنا منتشرة في بلادنا، لنشر الفاحشة والرذيلة بين أبنائنا وبناتنا، وانتشار الأمراض المهلكة في ربوع بلادنا، بلاد الحرمين، والأماكن المقدسة.
فلا تكن يداً أو ضلعاً في هذه المؤامرة القذرة ضد أبنائنا وبناتنا وبلادنا؛ وإلا دخلت في هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور19].
لأنك بمنعك زواج ابنتك، بكثرة مهرها، أو عضلها لأكل راتبها، أو منعها لأي سبب كان غير مقنع، فأنت ممن يسبب انتشار الفاحشة والزنا والفساد بين العباد في أطهر البلاد.
فما أنت فاعل أيها الأب الكريم، أيها الولي المبارك؟؟
ألا فكن أيها الأب والولي ممن حصلت له الطوبى، واحذر من الأخرى.
منقول