-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (72)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
الاية 130 إلى الاية 136
( ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ( 130 ) واتقوا النار التي أعدت للكافرين ( 131 ) )
( ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ) أراد به ما كانوا يفعلونه عند حلول أجل الدين من زيادة المال وتأخير الطلب ، ( واتقوا الله ) في أمر الربا فلا تأكلوه ، ( لعلكم تفلحون )
ثم خوفهم فقال : ( واتقوا النار التي أعدت للكافرين ) .
( وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ( 132 ) )
( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ( 133 ) )
( وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ) لكي ترحموا .
( وسارعوا ) قرأ أهل المدينة والشام سارعوا بلا واو ، ( إلى مغفرة من ربكم ) أي بادروا وسابقوا إلى الأعمال التي توجب المغفرة . [ ص: 104 ]
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إلى الإسلام ، وروي عنه : إلى التوبة ، وبه قال عكرمة ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إلى أداء الفرائض ، وقال أبو العالية : إلى الهجرة ، وقال الضحاك : إلى الجهاد ، وقال مقاتل : إلى الأعمال الصالحة . روي عن أنس بن مالك أنها التكبيرة الأولى .
( وجنة ) أي وإلى جنة ( عرضها السماوات والأرض ) أي : عرضها كعرض السماوات والأرض ، كما قال في سورة الحديد : " وجنة عرضها كعرض السماء والأرض " ( سورة الحديد - 21 ) أي : سعتها ، وإنما ذكر العرض على المبالغة لأن طول كل شيء في الأغلب أكثر من عرضه يقول : هذه صفة عرضها فكيف طولها؟ قال الزهري : إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله ، وهذا على التمثيل لا أنها كالسماوات والأرض لا غير ، معناه : كعرض السماوات السبع والأرضين السبع عند ظنكم كقوله تعالى : " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض " ( سورة هود - 107 ) يعني : عند ظنكم وإلا فهما زائلتان ، وروي عن طارق بن شهاب أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب وعنده أصحابه رضي الله عنهم وقالوا : أرأيتم قوله ( وجنة عرضها السماوات والأرض ) فأين النار؟ فقال عمر : أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار ، وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا : إنه لمثلها في التوراة ومعناه أنه حيث يشاء الله .
فإن قيل : قد قال الله تعالى : " وفي السماء رزقكم وما توعدون " ( سورة الذاريات - 22 ) وأراد بالذي وعدنا : الجنة فإذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون عرضها السماوات والأرض؟ وقيل : إن باب الجنة في السماء وعرضها السماوات والأرض كما أخبر ، وسئل أنس بن مالك رضي الله عنه عن الجنة : أفي السماء أم في الأرض؟ فقال : وأي أرض وسماء تسع الجنة؟ قيل : فأين هي؟ قال : فوق السماوات السبع تحت العرش . وقال قتادة : كانوا يرون أن الجنة فوق السماوات السبع وأن جهنم تحت الأرضين السبع ( أعدت للمتقين ) .
( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( 134 ) )
( الذين ينفقون في السراء والضراء ) أي : في اليسر والعسر فأول ما ذكر من أخلاقهم الموجبة للجنة ذكر السخاوة وقد جاء في الحديث . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا [ ص: 105 ] أبو عمرو الفراتي ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن إسماعيل العنبري ، أخبرنا أبو عبد الله بن حازم البغوي بمكة ، أخبرنا أبو صالح بن أيوب الهاشمي ، أخبرنا إبراهيم بن سعد ، أخبرنا سعيد بن محمد ، عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار ، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار ، والجاهل السخي أحب إلى الله من عابد بخيل " .
( والكاظمين الغيظ ) أي : الجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه ، والكظم : حبس الشيء عند امتلائه وكظم الغيظ أن يمتلئ غيظا فيرده في جوفه ولا يظهره . ومنه قوله تعالى : " إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين " ( سورة غافر - 18 ) أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عمرو الفراتي ، أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الاسفراييني ، أخبرنا أبو عبد الله بن محمد زكريا العلاني ، أخبرنا روح بن عبد المؤمن ، أخبرنا أبو عبد الرحمن المقري أخبرنا سعيد بن أبي أيوب قال : حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كظم غيظا وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء " . .
( والعافين عن الناس ) قال الكلبي عن المملوكين سوء الأدب ، وقال زيد بن أسلم ومقاتل : عمن ظلمهم وأساء إليهم . ( والله يحب المحسنين ) .
( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ( 135 ) )
قوله تعالى : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ) الآية قال ابن مسعود : قال المؤمنون : يا [ ص: 106 ] رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا ، كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه " اجدع أنفك وأذنك " ، افعل كذا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال عطاء : نزلت في نبهان التمار وكنيته أبو معبد أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فقال لها إن هذا التمر ليس بجيد ، وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له : اتق الله فتركها وندم على ذلك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية .
وقال مقاتل والكلبي : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاري على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم فلما أرادت المرأة أن تأخذ منه دخل على أثرها وقبل يدها ، ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه ، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حاله فقالت : لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال ، والأنصاري يسيح في الجبال تائبا مستغفرا ، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجا . فقال الأنصاري : هلكت : وذكر له القصة فقال أبو بكر : ويحك أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ، ثم أتيا عمر رضي الله عنه فقال مثل ذلك ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل مقالتهما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( والذين إذا فعلوا فاحشة ) يعني : قبيحة خارجة عما أذن الله تعالى له فيه ، وأصل الفحش القبح والخروج عن الحد قال جابر : الفاحشة : الزنا .
( أو ظلموا أنفسهم ) ما دون الزنا من القبلة والمعانقة والنظر واللمس .
وقال مقاتل والكلبي : الفاحشة ما دون الزنا من قبلة أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل أو ظلموا أنفسهم بالمعصية .
وقيل : فعلوا فاحشة الكبائر ، أو ظلموا أنفسهم بالصغائر .
وقيل : فعلوا فاحشة فعلا أو ظلموا أنفسهم قولا . [ ص: 107 ]
( ذكروا الله ) أي : ذكروا وعيد الله ، وأن الله سائلهم ، وقال مقاتل بن حيان : ذكروا الله باللسان عند الذنوب .
( فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ) أي : وهل يغفر الذنوب إلا الله .
( ولم يصروا على ما فعلوا ) أي : لم يقيموا ولم يثبتوا عليه ولكن تابوا وأنابوا واستغفروا ، وأصل الإصرار : الثبات على الشيء وقال الحسن : إتيان العبد ذنبا عمدا إصرار حتى يتوب .
وقال السدي : الإصرار : السكوت وترك الاستغفار . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أنا يحيى بن يحيى ، أنا عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن عثمان بن واقد العمري ، عن أبي نصيرة ، قال : لقيت مولى لأبي بكر رضي الله عنه فقلت له : أسمعت من أبي بكر شيئا؟ قال : نعم سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أصر من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " .
( وهم يعلمون ) قال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي : وهم يعلمون أنها معصية ، وقيل : وهم يعلمون أن الإصرار ضار ، وقال الضحاك : وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنوب ، وقال الحسين بن الفضل وهم يعلمون أن لهم ربا يغفر الذنوب ، وقيل : وهم يعلمون أن الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثرت ، وقيل : وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم .
( أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ( 136 ) )
( أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ) [ ص: 108 ] ثواب المطيعين . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أنا حميد بن زنجويه ، أنا عفان بن مسلم ، أنا أبو عوانة ، أنا عثمان بن المغيرة عن علي بن ربيعة الأسدي ، عن أسماء بن الحكم الفزاري ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول : إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته ، وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله يقول : " ما من عبد مؤمن يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له " ورواه أبو عيسى عن قتيبة عن أبي عوانة وزاد : ثم قرأ : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ) الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أبو منصور السمعاني ، أنا أبو جعفر الرياني ، أنا حميد بن زنجويه ، أنا هشام بن عبد الملك ، أخبرنا همام ، عن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي طلحة ، قال : كان قاض بالمدينة يقال له عبد الرحمن بن أبي عمرة فسمعته يقول : سمعت أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن عبدا أذنب ذنبا فقال : أي رب أذنبت ذنبا فاغفره لي قال : فقال ربه عز وجل : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، فغفر له فمكث ما شاء الله ، ثم أصاب ذنبا آخر فقال : رب أذنبت ذنبا فاغفره لي فقال ربه عز وجل : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أبو منصور السمعاني ، أنا أبو جعفر الرياني ، أنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا النعمان السدوسي ، أخبرنا المهدي بن ميمون ، أخبرنا غيلان بن جرير ، عن شهر بن حوشب عن معديكرب عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال : " قال يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ، ابن آدم إنك إن تلقاني بقراب الأرض خطايا لقيتك [ ص: 109 ] بقرابها مغفرة بعد أن لا تشرك بي شيئا ، ابن آدم إنك إن تذنب حتى تبلغ ذنوبك عنان السماء ثم تستغفرني أغفر لك " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين الحسني الشرفي ، أنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر أخبرنا إبراهيم بن الحكم بن أبان ، حدثني أبي عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى : " من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا " قال ثابت البناني : بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية ( والذين إذا فعلوا فاحشة ) إلى آخرها .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (73)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
الاية 137 إلى الاية 144
( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( 137 ) هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ( 138 ) )
قوله تعالى : ( قد خلت من قبلكم سنن ) قال عطاء : شرائع ، وقال الكلبي : مضت لكل أمة سنة ومنهاج إذا اتبعوها رضي الله عنهم ، وقال مجاهد : قد خلت من قبلكم سنن بالهلاك فيمن كذب قبلكم ، وقيل : سنن أي : أمم والسنة : الأمة قال الشاعر :
ما عاين الناس من فضل كفضلكم ولا رأوا مثلكم في سالف السنن
وقيل معناه : أهل السنن ، والسنة هي : الطريقة المتبعة في الخير والشر ، يقال : سن فلان سنة حسنة وسنة سيئة إذا عمل عملا اقتدي به من خير وشر .
ومعنى الآية : قد مضت وسلفت مني سنن فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة ، بإمهالي واستدراجي إياهم حتى يبلغ الكتاب فيهم أجلي الذي أجلته لإهلاكهم ، وإدالة أنبيائي عليهم . ( فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) أي : آخر أمر المكذبين ، وهذا في حرب أحد ، يقول الله عز وجل : فأنا أمهلهم وأستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلت في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وأوليائه وإهلاك أعدائه .
( هذا ) أي : هذا القرآن ، ( بيان للناس ) عامة ، ( وهدى ) من الضلالة ، ( وموعظة للمتقين ) [ ص: 110 ] خاصة .
( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ( 139 ) إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ( 140 ) )
قوله تعالى : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا ) هذا حث لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد ، زيادة على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أحد يقول الله تعالى : ولا تهنوا أي : لا تضعفوا ولا تجبنوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح ، وكان قد قتل يومئذ من المهاجرين خمسة منهم : حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ، وقتل من الأنصار سبعون رجلا .
( ولا تحزنوا ) فإنكم ( وأنتم الأعلون ) أي تكون لكم العاقبة بالنصرة والظفر ، ( إن كنتم مؤمنين ) يعني : إذ كنتم مؤمنين : أي : لأنكم مؤمنون ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب فأقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم لا يعلون علينا ، اللهم لا قوة لنا إلا بك وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم فذلك قوله تعالى : ( وأنتم الأعلون ) وقال الكلبي : نزلت هذه الآية بعد يوم أحد حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بطلب القوم ما أصابهم من الجراح فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية ، دليله قوله تعالى : " ولا تهنوا في ابتغاء القوم " ( النساء - 104 ) .
( إن يمسسكم قرح ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر " قرح " بضم القاف حيث جاء ، وقرأ الآخرون بالفتح وهما لغتان معناهما واحد كالجهد والجهد وقال الفراء القرح بالفتح : الجراحة وبالضم : ألم الجراحة هذا خطاب مع المسلمين حيث انصرفوا من أحد مع الكآبة والحزن ، يقول الله تعالى : ( إن يمسسكم قرح ) يوم أحد ، ( فقد مس القوم قرح مثله ) يوم بدر ، ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) فيوم لهم ويوم عليهم ، أديل المسلمون على المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين ، وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمسا وسبعين .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عمرو بن خالد ، أنا زهير ، أخبرنا أبو إسحاق قال : سمعت البراء بن عازب قال : جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير ، فقال : " إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا [ ص: 111 ] تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال : فأنا والله رأيت النساء يتشددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن ، فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا : والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين . فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين ، سبعين أسيرا وسبعين قتيلا فقال أبو سفيان : أفي القوم محمد ثلاث مرات ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ، ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات ثم قال : أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال : أما هؤلاء فقد قتلوا فما ملك عمر نفسه فقال : كذبت والله يا عدو الله ، إن الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك قال : يوم بيوم بدر ، والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ، ثم أخذ يرتجز : اعل هبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبوه " ؟ قالوا : يا رسول الله ما نقول؟ قال : قولوا الله أعلى وأجل " قال : إن لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا تجيبوه " ؟ قالوا : يا رسول الله ما نقول؟ قال : قولوا الله مولانا ولا مولى لكم "
وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي حديثه قال أبو سفيان : يوم بيوم وإن الأيام دول والحرب سجال ، فقال عمر رضي الله عنه : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار " .
قال الزجاج : الدولة تكون للمسلمين على الكفار ، لقوله تعالى : ( وإن جندنا لهم الغالبون ) وكانت يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : ( وليعلم الله الذين آمنوا ) يعني : إنما كانت هذه المداولة ليعلم الله ( أي : ليرى الله ) الذين آمنوا فيميز المؤمن من المنافق ، ( ويتخذ منكم شهداء ) يكرم أقواما بالشهادة ، ( والله لا يحب الظالمين ) .
[ ص: 112 ] ( وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ( 141 ) )
( وليمحص الله الذين آمنوا ) أي : يطهرهم من الذنوب ، ( ويمحق الكافرين ) يفنيهم ويهلكهم معناه : أنهم إن قتلوكم فهو تطهير لكم ، وإن قتلتموهم فهو محقهم واستئصالهم .
( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ( 142 ) ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ( 143 ) وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ( 144 ) )
( أم حسبتم ) أحسبتم؟ ( أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله ) [ أي : ولم يعلم الله ] ( الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين )
( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ) وذلك أن قوما من المسلمين تمنوا يوما كيوم بدر ليقاتلوا ويستشهدوا فأراهم الله يوم أحد وقوله ( تمنون الموت ) أي : سبب الموت وهو الجهاد من قبل أن تلقوه ، ( فقد رأيتموه ) يعني : أسبابه .
فإن قيل : ما معنى قوله ( وأنتم تنظرون ) بعد قوله : ( فقد رأيتموه ) قيل : ذكره تأكيدا وقيل : الرؤية قد تكون بمعنى العلم ، فقال : ( وأنتم تنظرون ) ليعلم أن المراد بالرؤية النظر ، وقيل : وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله عز وجل : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) قال أصحاب المغازي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من أحد في سبعمائة رجل ، وجعل عبد الله بن جبير وهو أخو خوات بن جبير على الرجالة وكانوا خمسين رجلا وقال : أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا ، فإن كانت لنا أو علينا فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار فقاتلوا حتى حميت الحرب فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا فقال من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى يثخن ، فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري فلما [ ص: 113 ] أخذه اعتم بعمامة حمراء وجعل يتبختر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع " ففلق به هام المشركين وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم .
وروينا عن البراء بن عازب قال : فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم .
وقال الزبير بن العوام : فرأيت هندا وصواحباتها هاربات مصعدات في الجبل ، باديات خدامهن ما دون أخذهن شيء فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا أصحابهم ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب .
فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ، ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين ، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم فهزموهم وقتلوهم ، ورمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرق عنه أصحابه ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة يعلوها ، وكان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوجب طلحة " ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد ، وأعطتها وحشيا وبقرت عن كبدة حمزة ولاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ، وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم فذب مصعب بن عمير - وهو صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمئة ، وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى المشركين وقال : إني قتلت محمدا وصاح صارخ ألا إن محمدا قد قتل ، ويقال : إن ذلك الصارخ كان إبليس ، فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : " إلي عباد الله ( إلي عباد الله ) فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته ، وقال له : ارم فداك أبي وأمي ، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا ، وكان الرجل يمر بجعبة من النبل فيقول : انثرها لأبي طلحة ، وكان إذا رمى أشرف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نبله وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست حين وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيبت عين قتادة بن [ ص: 114 ] النعمان يومئذ حين وقعت على وجنته ، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها ، فعادت كأحسن ما كانت .
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبي بن خلف الجمحي ، وهو يقول : لا نجوت إن نجوت فقال القوم : يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : دعوه حتى إذا دنا منه وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنا أقتلك إن شاء الله ، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه فخدشه خدشة فتدهدأ عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ، ويقول : قتلني محمد ، فأخذه أصحابه وقالوا : ليس عليك بأس قال : بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم ، أليس قال لي : أقتلك؟ فلو بزق علي بعد تلك المقالة لقتلني ، فلم يلبث إلا يوما حتى مات بموضع يقال له سرف .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمرو بن علي ، أنا أبو عاصم ، عن ابن جريج عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : اشتد غضب الله على من قتله نبي واشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قالوا : وفشا في الناس أن محمدا قد قتل فقال بعض المسلمين : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان ، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم ، وقال أناس من أهل النفاق : إن كان محمدا قد قتل فالحقوا بدينكم الأول ، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك : يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وموتوا على ما مات عليه ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء يعني المسلمين ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المنافقين ، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس فأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك ، قال عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلي أن اسكت فانحازت إليه طائفة من أصحابه ، فلامهم النبي صلى الله عليه وسلم على الفرار فقالوا : يا نبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فأنزل الله تعالى هذه الآية ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) [ ص: 115 ]
ومحمد هو المستغرق لجميع المحامد ، لأن الحمد لا يستوجبه إلا الكامل والتحميد فوق الحمد ، فلا يستحقه إلا المستولي على الأمر في الكمال ، وأكرم الله نبيه وصفيه باسمين مشتقين من اسمه جل جلاله ( محمد وأحمد ) وفيه يقول حسان بن ثابت :
ألم تر أن الله أرسل عبده ببرهانه والله أعلى وأمجد وشق له من اسمه ليجله
فذو العرش محمود وهذا محمد
قوله تعالى : ( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) رجعتم إلى دينكم الأول ، ( ومن ينقلب على عقبيه ) فيرتد عن دينه ، ( فلن يضر الله شيئا ) بارتداده وإنما يضر نفسه ، ( وسيجزي الله الشاكرين ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (74)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
الاية 145 إلى الاية 152
( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ( 145 ) )
( وما كان لنفس أن تموت ) قال الأخفش : اللام في ( لنفس ) منقولة تقديره : وما كانت نفس لتموت ، ( إلا بإذن الله ) بقضاء الله وقدره ، وقيل : بعلمه وقيل : بأمره ، ( كتابا مؤجلا ) أي : كتب لكل نفس أجلا لا يقدر أحد على تغييره وتأخيره ، ونصب الكتاب على المصدر ، أي : كتب كتابا ، ( ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ) يعني : من يرد بطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاء لعمله ، يريد نؤته منها ما نشاء بما قدرناه له كما قال : " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد " ( سورة الإسراء - 18 ) نزلت في الذين تركوا المركز يوم أحد طلبا للغنيمة ، ( ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ) أي أراد بعمله الآخرة ، قيل : أراد الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا . ( وسنجزي الشاكرين ) أي : المؤمنين المطيعين .
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداوودي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن موسى بن الصلت أنا أبو إسحاق إبراهيم عبد الصمد الهاشمي ، أنا أبو يحيى محمد بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن المقرئ ، أنا أبي ، أنا الربيع بن صبيح ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له " . [ ص: 116 ]
أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن محمد بن علي بن توبة الزراد ، أخبرنا أبو بكر محمد بن إدريس بن محمد الجرجاني ، وأبو أحمد محمد بن أحمد المعلم الهروي ، قالا أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني ، أخبرنا أبو العباس الحسن بن سفيان النسوي ، أخبرنا حيان بن موسى وعبد الله بن أسماء ابن أخي جويرية بن أسماء ، قال أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن وقاص الليثي ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " .
( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ( 146 ) )
قوله تعالى : ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ) قرأ ابن كثير " وكائن " بالمد والهمزة على وزن فاعل وتليين الهمزة أبو جعفر ، وقرأ الآخرون " وكأين " بالهمز والتشديد على وزن كعين ، ومعناه : وكم ، وهي كاف التشبيه ضمت إلى أي الاستفهامية ، ولم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة ويقف بعض القراء على " وكأي " بلا نون والأكثرون على الوقوف بالنون قوله ( قاتل ) قرأ ابن كثير ونافع وأهل البصرة بضم القاف وقرأ الآخرون ( قاتل ) فمن قرأ ( قاتل ) فلقوله : ( فما وهنوا ) ويستحيل وصفهم بأنهم لم يهنوا بعدما قتلوا لقول سعيد بن جبير : ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال ولأن ( قاتل ) أعم .
قال أبو عبيد : إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه ، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه غيرهم ، فكان ( قاتل ) أعم .
ومن قرأ " قتل " ) فله ثلاثة أوجه : أحدها :
أن يكون القتل راجعا إلى النبي وحده ، فيكون تمام الكلام عند قوله " قتل " ويكون في الآية إضمار معناه : ومعه ربيون كثير ، كما يقال : قتل فلان معه جيش كثير أي : ومعه .
والوجه الثاني : أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين ويكون المراد : بعض من معه ، تقول العرب قتلنا بني فلان وإنما قتلوا بعضهم ويكون قوله ( فما وهنوا ) راجعا إلى الباقين . [ ص: 117 ]
والوجه الثالث : أن يكون القتل للربيين لا غير .
وقوله ( ربيون كثير ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : جموع كثيرة ، وقال ابن مسعود : الربيون الألوف ، وقال الكلبي الربية الواحدة : عشرة آلاف ، وقال الضحاك : الربية الواحدة : ألف ، وقال الحسن : فقهاء علماء وقيل : هم الأتباع والربانيون الولاة ، والربيون الرعية ، وقيل : منسوب إلى الرب وهم الذين يعبدون الرب ، ( فما وهنوا ) أي : فما جبنوا ، ( لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا ) عن الجهاد بما نالهم من ألم الجراح وقتل الأصحاب . ( وما استكانوا ) قال مقاتل : وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم وقال السدي : وما ذلوا قال عطاء وما تضرعوا وقال أبو العالية : وما جبنوا ولكنهم صبروا على أمر ربهم وطاعة نبيهم وجهاد عدوهم ، ( والله يحب الصابرين ) .
( وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ( 147 ) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ( 148 ) )
قوله تعالى : ( وما كان قولهم ) نصب على خبر كان والاسم في أن قالوا ، ومعناه : وما كان قولهم عند قتل نبيهم ، ( إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا ) أي : الصغائر ، ( وإسرافنا في أمرنا ) أي : الكبائر ، ( وثبت أقدامنا ) كي لا تزول ، ( وانصرنا على القوم الكافرين ) يقول فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد .
( فآتاهم الله ثواب الدنيا ) النصرة والغنيمة ، ( وحسن ثواب الآخرة ) الأجر والجنة ، ( والله يحب المحسنين )
قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا ) يعني : اليهود والنصارى وقال علي رضي الله عنه يعني : المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم .
( يردوكم على أعقابكم ) يرجعوكم إلى أول أمركم الشرك بالله ، ( فتنقلبوا خاسرين ) مغبونين .
ثم قال : ( بل الله مولاكم ) ناصركم وحافظكم على دينكم ، ( وهو خير الناصرين )
.
[ ص: 118 ] ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين ( 149 ) بل الله مولاكم وهو خير الناصرين ( 150 ) سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ( 151 ) ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ( 152 ) )
( سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) وذلك أن أبا سفيان والمشركين لما ارتحلوا يوم أحد متوجهين نحو مكة انطلقوا حتى إذا بلغوا بعض الطريق ندموا وقالوا : بئس ما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ، ارجعوا فاستأصلوهم فلما عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به .
سنلقي أي : سنقذف في قلوب الذين كفروا ، الرعب : الخوف ، وقرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي ويعقوب ( الرعب ) بضم العين وقرأ الآخرون بسكونها ، ( بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ) حجة وبرهانا ، ( ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ) مقام الكافرين .
قوله تعالى : ( ولقد صدقكم الله وعده ) قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من أحد وقد أصابهم ما أصابهم ، قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا؟ وقد وعدنا الله النصر فأنزل الله تعالى :
( ولقد صدقكم الله وعده ) بالنصر والظفر وذلك أن النصر والظفر كان للمسلمين في الابتداء ، ( إذ تحسونهم بإذنه ) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل عينين ، وهو جبل عن يساره وأقام عليه الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم : احموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وأقبل المشركون فأخذوا في القتال فجعل الرماة يرشقون خيل المشركين بالنبل والمسلمون يضربونهم بالسيوف ، حتى ولوا هاربين فذلك قوله تعالى ( إذ تحسونهم بإذنه ) أي تقتلونهم قتلا ذريعا بقضاء الله . [ ص: 119 ]
قال أبو عبيدة : الحس : هو الاستئصال بالقتل .
( حتى إذا فشلتم ) أي : إن جبنتم وقيل : معناه فلما فشلتم ، ( وتنازعتم في الأمر وعصيتم ) والواو زائدة في ( وتنازعتم ) يعني : حتى إذا فشلتم تنازعتم ، وقيل : فيه تقديم وتأخير تقديره : حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم ومعنى التنازع الاختلاف .
وكان اختلافهم أن الرماة اختلفوا حين انهزم المشركون فقال بعضهم : انهزم القوم فما مقامنا؟ وأقبلوا على الغنيمة وقال بعضهم : لا تجاوزوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة .
فلما رأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ذلك حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه ، وأقبلوا على المسلمين وحالت الريح فصارت دبورا بعد ما كانت صبا وانتقضت صفوف المسلمين واختلطوا فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضا ما يشعرون من الدهش ، ونادى إبليس أن محمدا قد قتل وكان ذلك سبب الهزيمة للمسلمين .
قوله تعالى : ( وعصيتم ) يعني : الرسول صلى الله عليه وسلم وخالفتم أمره ، ( من بعد ما أراكم ) الله ( ما تحبون ) يا معشر المسلمين من الظفر والغنيمة ، ( منكم من يريد الدنيا ) يعني : الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب ، ( ومنكم من يريد الآخرة ) يعني : الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير حتى قتلوا قال عبد الله بن مسعود : ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ونزلت هذه الآية ( ثم صرفكم عنهم ) أي : ردكم عنهم بالهزيمة ، ( ليبتليكم ) ليمتحنكم وقيل : لينزل البلاء عليكم ( ولقد عفا عنكم ) يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة ، ( والله ذو فضل على المؤمنين ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (75)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
الاية 153 إلى الاية 159
( إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون ( 153 ) )
( إذ تصعدون ) يعني : ولقد عفا عنكم إذ تصعدون هاربين ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة ( تصعدون ) بفتح التاء والعين والقراءة المعروفة بضم التاء وكسر العين .
والإصعاد : السير في مستوى الأرض والصعود : الارتفاع على الجبال والسطوح ، قال أبو حاتم : يقال [ ص: 120 ] أصعدت إذا مضيت حيال وجهك وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره ، وقال المبرد : أصعد إذا أبعد في الذهاب ، وكلتا القراءتين صواب فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد وقال المفضل : صعد وأصعد وصعد بمعنى واحد .
( ولا تلوون على أحد ) أي : لا تعرجون ولا تقيمون على أحد ولا يلتفت بعضكم إلى بعض ، ( والرسول يدعوكم في أخراكم ) أي : في آخركم ومن ورائكم ، إلي عباد الله فأنا رسول الله ، من يكر فله الجنة ، ( فأثابكم ) فجازاكم جعل الإثابة بمعنى العقاب ، وأصلها في الحسنات لأنه وضعها موضع الثواب كقوله تعالى : ( فبشرهم بعذاب أليم ) جعل البشارة في العذاب ومعناه : جعل مكان الثواب الذي كنتم ترجون ( غما بغم ) وقيل : الباء بمعنى على أي : غما على غم وقيل : غما متصلا بغم فالغم الأول : ما فاتهم من الظفر والغنيمة ، والغم الثاني : ما نالهم من القتل والهزيمة .
وقيل : الغم الأول ما أصابهم من القتل والجراح ، والغم الثاني : ما سمعوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل فأنساهم الغم الأول .
وقيل : الغم الأول : إشراف خالد بن الوليد عليهم بخيل المشركين ، والغم الثاني : حين أشرف عليهم أبو سفيان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه وأراد أن يرميه ، فقال أنا رسول الله ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرح النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب ، فلما نظر المسلمون إليهم أهمهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس لهم أن يعلونا اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم .
وقيل : إنهم غموا الرسول بمخالفة أمره ، فجازاهم الله بذلك الغم ، غم القتل والهزيمة .
قوله تعالى : ( لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ) من الفتح والغنيمة ، ( ولا ما أصابكم ) أي : ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة ، ( والله خبير بما تعملون ) .
[ ص: 121 ] ( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور ( 154 ) )
( ثم أنزل عليكم ) يا معشر المسلمين ، ( من بعد الغم أمنة نعاسا ) يعني : أمنا ، والأمن والأمنة بمعنى واحد وقيل : الأمن يكون مع زوال سبب الخوف والأمنة مع بقاء سبب الخوف وكان سبب الخوف هنا قائما ، ( نعاسا ) بدل من الأمنة ( يغشى طائفة منكم ) قرأ حمزة والكسائي " تغشى " بالتاء ردا إلى الأمنة وقرأ الآخرون بالياء ردا على النعاس .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : أمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم وإنما ينعس من يأمن ، والخائف لا ينام .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن ، أنا حسين بن محمد ، أخبرنا شيبان عن قتادة أخبرنا أنس أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد قال : فجعل سيفي يسقط من يدي فآخذه ويسقط وآخذه " .
وقال ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته من النعاس .
وقال عبد الله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الحرب ، أرسل الله علينا النوم والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم ، [ ص: 122 ] يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فذلك قوله تعالى : ( يغشى طائفة منكم ) يعني : المؤمنين ، ( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ) يعني : المنافقين : قيل : أراد الله به تمييز المنافقين من المؤمنين فأوقع النعاس على المؤمنين حتى أمنوا ولم يوقع على المنافقين فبقوا في الخوف وقد أهمتهم أنفسهم أي : حملتهم على الهم يقال : أمر مهم .
( يظنون بالله غير الحق ) أي : لا ينصر محمدا ، وقيل : ظنوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل ، ( ظن الجاهلية ) أي : كظن أهل الجاهلية والشرك ، ( يقولون هل لنا ) ما لنا : لفظه استفهام ومعناه حجد ، ( من الأمر من شيء ) يعني : النصر ، ( قل إن الأمر كله لله ) قرأ أهل البصرة برفع اللام على الابتداء وخبره في ( لله ) وقرأ الآخرون بالنصب على البدل وقيل : على النعت .
( يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) وذلك أن المنافقين قال بعضهم لبعض : لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ولم يقتل رؤساؤنا ، وقيل : لو كنا على الحق ما قتلنا هاهنا .
قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يعني : التكذيب بالقدر وهو قولهم ( لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب ) قضي ، ( عليهم القتل إلى مضاجعهم ) مصارعهم ، ( وليبتلي الله ) وليمتحن الله ، ( ما في صدوركم وليمحص ) يخرج ويظهر ( ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور ) بما في القلوب من خير وشر .
( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم ( 155 ) )
( إن الذين تولوا منكم ) أي انهزموا ، ( منكم ) يا معشر المسلمين ، ( يوم التقى الجمعان ) جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد وكان قد انهزم أكثر المسلمين ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة عشر رجلا ستة من المهاجرين : وهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم .
قوله تعالى : ( إنما استزلهم الشيطان ) أي : طلب زلتهم كما يقال : استعجلت فلانا إذا طلبت [ ص: 123 ] عجلته وقيل : حملهم على الزلة وهي الخطيئة وقيل : أزل واستزل بمعنى واحد ، ( ببعض ما كسبوا ) أي : بشؤم ذنوبهم ، قال بعضهم : بتركهم المركز ، وقال الحسن : ما كسبوا هو قبولهم من الشيطان ما وسوس إليهم من الهزيمة ، ( ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم ) .
" ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير (156 ) ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ( 157 ) )
( ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ( 158 ) فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ( 159 ) )
( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ) يعني : المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه ، ( وقالوا لإخوانهم ) في النفاق والكفر وقيل : في النسب ، ( إذا ضربوا في الأرض ) أي : سافروا فيها لتجارة أو غيرها ، ( أو كانوا غزى ) أي : غزاة جمع غاز فقتلوا ، ( لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك ) يعني : قولهم وظنهم ، ( حسرة ) غما ( في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " يعملون " بالياء وقرأ الآخرون بالتاء .
( ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم ) قرأ نافع وحمزة والكسائي " متم " بكسر الميم وقرأ الآخرون بالضم فمن ضمه فهو من مات يموت كقولك : من قال يقول قلت بضم القاف ، ومن كسره فهو من مات يمات كقولك من خاف يخاف : خفت ، ( لمغفرة من الله ) في العاقبة ، ( ورحمة خير مما يجمعون ) من الغنائم قراءة العامة ، " تجمعون " ) بالتاء لقوله ( ولئن قتلتم ) وقرأ حفص عن عاصم ( يجمعون ) بالياء يعني : خير مما يجمع الناس .
( ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ) في العاقبة .
قوله تعالى : ( فبما رحمة من الله ) أي : فبرحمة من الله و " ما " ) صلة كقوله ( فبما نقضهم ) [ ص: 124 ] ( لنت لهم ) أي : سهلت لهم أخلاقك وكثرة احتمالك ولم تسرع إليهم فيما كان منهم يوم أحد ، ( ولو كنت فظا ) يعني : جافيا سيئ الخلق قليل الاحتمال ، ( غليظ القلب ) قال الكلبي : فظا في القول غليظ القلب في الفعل ، ( لانفضوا من حولك ) أي : لنفروا وتفرقوا عنك ، يقال : فضضتهم فانفضوا أي فرقتهم فتفرقوا ( فاعف عنهم ) تجاوز عنهم ما أتوا يوم أحد ، ( واستغفر لهم ) حتى أشفعك فيهم ، ( وشاورهم في الأمر ) أي : استخرج آراءهم واعلم ما عندهم من قول العرب : شرت الدابة وشورتها إذا استخرجت جريها ، وشرت العسل وأشرته إذا أخذته من موضعه واستخرجته .
واختلفوا في المعنى الذي لأجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه ووجوب طاعته على الخلق فيما أحبوا وكرهوا .
فقال بعضهم : هو خاص في المعنى أي : وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله تعالى عهد ، قال الكلبي : يعني ناظرهم في لقاء العدو ومكايد الحرب عند الغزو .
وقال مقاتل وقتادة : أمر الله تعالى بمشاورتهم تطييبا لقلوبهم ، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم ، فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم .
وقال الحسن : قد علم الله عز وجل أنه ما به إلى مشاورتهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده .
أخبرنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبد الله الفارسي : أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم بن علي الصالحاني ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان ، أخبرنا علي بن العباس المقانعي أخبرنا أحمد بن ماهان ، أخبرني أبي ، أخبرنا طلحة بن زيد ، عن عقيل عن الزهري عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
قوله تعالى : ( فإذا عزمت فتوكل على الله ) لا على مشاورتهم أي : قم بأمر الله وثق به واستعنه ، ( إن الله يحب المتوكلين ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (76)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
الاية 160 إلى الاية 165
( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( 160 ) )
( إن ينصركم الله ) يعنكم الله ويمنعكم من عدوكم ، ( فلا غالب لكم ) مثل يوم بدر ، ( وإن يخذلكم ) يترككم فلم ينصركم كما كان بأحد والخذلان : القعود عن النصرة والإسلام للهلكة ، ( فمن ذا الذي ينصركم من بعده ) أي : من بعد خذلانه ، ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) قيل : التوكل أن لا تعصي الله من أجل رزقك وقيل : أن لا تطلب لنفسك ناصرا غير الله ولا لرزقك خازنا غيره ولا لعملك شاهدا غيره .
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن شجاع البزار ببغداد ، أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد الهيثم الأنباري ، أخبرنا محمد بن أبي العوام أخبرنا وهب بن جرير ، أخبرنا هشام بن حسان عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يدخل سبعون ألفا من أمتي الجنة بغير حساب " قيل : يا رسول الله من هم؟ قال : " هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " فقال عكاشة بن محصن : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال : " أنت منهم " ثم قام آخر فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال : " سبقك بها عكاشة " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنا عبد الله بن المبارك ، عن حياة بن شريح ، حدثني بكر بن عمرو ، عن عبد الله بن هبيرة ، أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " .
[ ص: 126 ] ( وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ( 161 ) )
قوله عز وجل : ( وما كان لنبي أن يغل ) الآية روى عكرمة ومقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن هذه الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة وقالوا : نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر ، فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري " ؟ قالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم " فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال قتادة : ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه . .
وقيل : إن الأقوياء ألحوا عليه يسألونه من المغنم ، فأنزل الله تعالى : ( وما كان لنبي أن يغل ) فيعطي قوما ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بينهم بالسوية .
وقال محمد بن إسحاق بن يسار : هذا في الوحي ، يقول : ما كان لنبي أن يكتم شيئا من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة .
قوله تعالى : ( وما كان لنبي أن يغل ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة وعاصم " يغل " ) بفتح الياء وضم الغين معناه : أن يخون والمراد منه الأمة وقيل : اللام فيه منقولة معناه : ما كان النبي ليغل وقيل : معناه ما كان يظن به ذلك ولا يليق به ، وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الغين ، وله وجهان أحدهما : أن يكون من الغلول أيضا أي : ما كان لنبي أن يخان يعني : أن تخونه أمته والوجه الآخر : أن يكون من الإغلال ، معناه : ما كان لنبي أن يخون أي ينسب إلى الخيانة . [ ص: 127 ]
( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ) قال الكلبي : يمثل له ذلك الشيء في النار ثم يقال له : انزل فخذه فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ موضعه وقع في النار ثم يكلف أن ينزل إليه ، فيخرجه ففعل ذلك به .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد الفقيه ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث مولى ابن مطيع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع ، قال فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى وكان رفاعة بن زيد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا أسود يقال له مدعم قال فخرجنا حتى إذا كنا بوادي القرى فبينما مدعم يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر فأصابه فقتله فقال الناس : هنيئا له الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم تشتعل عليه نارا " فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شراك من نار أو شراكان من نار " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حيان ، عن أبي عمرة الأنصاري ، عن زيد بن خالد الجهني ، قال : توفي رجل يوم خيبر فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صلوا على صاحبكم " فتغيرت وجوه الناس لذلك فزعم زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن صاحبكم قد غل في سبيل الله " قال : ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرزات اليهود يساوين درهمين .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب المروزي ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن أبي حميد الساعدي قال : استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي لي ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال : " ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي ، فهلا جلس في بيت أمه أو في بيت أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا فوالذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو [ ص: 128 ] بقرة لها خوار أو شاة لها تيعر " ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه ثم قال : " اللهم هل بلغت " .
وروى قيس بن أبي حازم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال : " لا تصيبن شيئا بغير إذني فإنه غلول ، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " .
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه " .
وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه " . قوله تعالى : ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) .
( أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ( 162 ) هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون ( 163 ) )
( أفمن اتبع رضوان الله ) وترك الغلول ، ( كمن باء بسخط من الله ) فعل ، ( ومأواه جهنم وبئس المصير ) [ ص: 129 ]
( هم درجات عند الله ) يعني : ذوو درجات عند الله ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله مختلفو المنازل عند الله فلمن اتبع رضوان الله الثواب العظيم ، ولمن باء بسخط من الله العذاب الأليم . ( والله بصير بما يعملون ) .
( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ( 164 ) أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ( 165 ) )
( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) قيل : أراد به العرب لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وله فيهم نسب إلا بني ثعلبة دليله قوله تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ) وقال الآخرون : أراد به جميع المؤمنين ومعنى قوله تعالى : ( من أنفسهم ) أي : بالإيمان والشفقة لا بالنسب ودليله قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) ( يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) وقد كانوا ، ( من قبل ) أي : من قبل بعثه ( لفي ضلال مبين )
( أولما ) أي : حين ( أصابتكم مصيبة ) بأحد ، ( قد أصبتم مثليها ) يوم بدر وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين وقتل المسلمون منهم ببدر سبعين وأسروا سبعين ، ( قلتم أنى هذا ) من أين لنا هذا القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا؟ ( قل هو من عند أنفسكم ) روى عبيدة السلماني عن علي رضي الله عنه قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا فتضرب أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ، فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا ، لا بل نأخذ فداءهم فنقوى بها على قتال عدونا ، ويستشهد منا عدتهم [ فقتل منهم يوم أحد ] سبعون عدد أسارى أهل بدر فهذا معنى قوله تعالى : ( قل هو من عند أنفسكم ) أي : بأخذكم الفداء واختياركم القتل ، ( إن الله على كل شيء قدير ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (77)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
الاية 166 إلى الاية 169
( وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين ( 166 ) وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون ( 167 ) الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ( 168 ) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ( 169 ) )
( وما أصابكم يوم التقى الجمعان ) بأحد من القتل والجرح والهزيمة ، ( فبإذن الله ) أي : بقضائه وقدره ، ( وليعلم المؤمنين ) أي : ليميز وقيل ليرى .
( وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله ) أي : لأجل دين الله وطاعته ، ( أو ادفعوا ) عن أهلكم وحريمكم ، وقال السدي : أي كثروا سواد المسلمين ورابطوا إن لم تقاتلوا يكون ذلك دفعا وقمعا للعدو ، ( قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ) وهم عبد الله بن أبي وأصحابه الذين انصرفوا عن أحد وكانوا ثلاثمائة قال الله تعالى : ( هم للكفر يومئذ أقرب ) أي : إلى الكفر يومئذ أقرب ( منهم للإيمان ) ( أي : إلى الإيمان ) ، ( يقولون بأفواههم ) يعني : كلمة الإيمان ( ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون )
( الذين قالوا لإخوانهم ) في النسب لا في الدين وهم شهداء أحد ( وقعدوا ) يعني : قعد هؤلاء القائلون عن الجهاد ( لو أطاعونا ) وانصرفوا عن محمد صلى الله عليه وسلم وقعدوا في بيوتهم ( ما قتلوا قل ) يا محمد ، ( فادرءوا ) فادفعوا ، ( عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) إن الحذر لا يغني عن القدر .
قوله تعالى : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) الآية قيل : نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين .
وقال الآخرون : نزلت في شهداء أحد وكانوا سبعين رجلا أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار . [ ص: 131 ]
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق قال : سألنا عبد الله ( هو ابن مسعود ) رضي الله عنهما عن هذه الآية : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) الآية قال أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : " أرواحهم كطير خضر " ويروى " في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة في أيها شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربك اطلاعة فقال : سلوني ما شئتم فقالوا : يا رب كيف نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا؟ فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا شيئا قالوا : إنا نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا عبد الله بن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان ، أنا جيعوية أنا صالح بن محمد ، أنا سليمان بن عمرو ، عن إسماعيل بن أمية ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش ، فلما رأوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم ورأوا ما أعد الله لهم من الكرامة قالوا : يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله بنا كي يرغبوا في الجهاد ولا يتكلوا عنه فقال الله عز وجل أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) إلى قوله ( لا يضيع أجر المؤمنين ) " .
سمعت عبد الواحد بن أحمد المليحي ، قال : سمعت الحسن بن أحمد القتيبي قال : سمعت محمد بن عبد الله بن يوسف قال : سمعت محمد بن إسماعيل البكري ، قال : سمعت يحيى بن حبيب بن عربي [ ص: 132 ] قال : سمعت موسى بن إبراهيم قال : سمعت طلحة بن خراش قال : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول : لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : " يا جابر ما لي أراك منكسرا " ؟ قلت يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا قال : " أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك " ؟ قلت : بلى يا رسول الله قال : " ما كلم الله تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب ، وإنه أحيا أباك فكلمه كفاحا قال : يا عبدي تمن علي أعطك قال : يا رب أحيني فأقتل فيك الثانية ، قال الرب تبارك وتعالى : إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون فأنزلت فيهم ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر ، أنا حميد عن أنس رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يموت له عند الله خير يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها ، إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة ، فإنه يحب أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى " .
وقال قوم : نزلت هذه الآية في شهداء بئر معونة وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك وغيرهم من أهل العلم قال : قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ، ملاعب الأسنة وكان سيد بني عامر بن صعصعة ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأهدى إليه هدية فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها وقال لا أقبل هدية مشرك ، فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك؟ ثم عرض عليه الإسلام وأخبره بما له فيه وما أعد الله للمؤمنين وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ، ولم يبعد وقال : يا محمد إن الذي تدعو إليه حسن جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فيدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أخشى عليهم أهل نجد " .
فقال أبو البراء : أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك .
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من خيار المسلمين منهم [ ص: 133 ] الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن يزيد بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ، فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم فلما نزلوها قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء؟ فقال حرام بن ملحان : أنا فخرج بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء فلما أتاهم حرام بن ملحان لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حرام بن ملحان : يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال : الله أكبر فزت ورب الكعبة .
ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا : لن نخفر أبا براء قد عقد لهم عقدا وجوارا ثم استصرخ عليهم قبائل من بني سليم - عصية ورعلا وذكوان - فأجابوه فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى فضلوه فيهم فعاش حتى قتل يوم الخندق ، وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلم ينبههما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على المعسكر! فقالا والله إن لهذا الطير لشأنا فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري لعمرو بن أمية الضمري : ماذا ترى؟ قال : أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره فقال الأنصاري الله أكبر لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، ثم قاتل القوم حتى قتل وأخذوا عمرو بن أمية الضمري أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارها متخوفا " فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره .
وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة ، فروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول : من الرجل منهم ، لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه؟ قالوا : هو عامر بن فهيرة ، ثم بعد ذلك حمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه على فرسه فقتله . [ ص: 134 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الأعلى بن حماد ، أنا يزيد بن زريع ، أنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : " أن رعلا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو لهم فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم ، وكانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل ، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان .
قال أنس رضي الله عنه : فقرأنا ، فيهم قرآنا ، ثم إن ذلك رفع : " بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا " ثم نسخت ( فرفع بعدما قرأناه ) زمانا وأنزل الله تعالى : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) الآية .
وقيل : إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة تحسروا على الشهداء ، وقالوا : نحن في النعمة وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور ، فأنزل الله تعالى تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم ( ولا تحسبن ) ولا تظنن ( الذين قتلوا في سبيل الله ) قرأ ابن عامر " قتلوا " ) بالتشديد ، والآخرون بالتخفيف " أمواتا " ) كأموات من لم يقتل في سبيل الله ( بل أحياء عند ربهم ) قيل أحياء في الدين وقيل : في الذكر ، وقيل : لأنهم يرزقون ويأكلون ويتمتعون كالأحياء ، وقيل : لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة ، وقيل : لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض .
وقال عبيد بن عمير : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة ، ألا فأتوهم وزوروهم وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه " . ( يرزقون ) من ثمار الجنة وتحفها .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (78)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
الاية 170 إلى الاية 174
( فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 170 ) )
( فرحين بما آتاهم الله من فضله ) رزقه وثوابه ، ( ويستبشرون ) ويفرحون ( بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ) [ ص: 135 ] من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد لعلمهم أنهم إذا استشهدوا ولحقوا بهم ونالوا من الكرامة ما نالوا فهم لذلك مستبشرون ، ( ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) .
( يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ( 171 ) الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ( 172 ) )
( يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله ) أي : وبأن الله ، وقرأ الكسائي بكسر الألف على الاستئناف .
( لا يضيع أجر المؤمنين ) أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، حدثنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة " .
وقال : " والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك " .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسن بن محمد القاضي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا علي بن الحسن الدارابجردي أنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، أنا سعيد ، حدثني محمد بن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة " . [ ص: 136 ]
قوله تعالى : ( الذين استجابوا لله والرسول ) الآية ، وذلك أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم وتلاوموا وقالوا : لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم ، قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم؟ ارجعوا فاستأصلوهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه قوة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان ، فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من الجرح والقرح الذي أصابهم يوم أحد ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بن عبد الله ، فقال : يا رسول الله إن أبي كان قد خلفني على أخوات لي سبع ، وقال لي يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك على نفسي في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلف على أخواتك ، فتخلفت عليهن فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه .
وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو وليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم فينصرفوا .
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا رضي الله عنهم حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال .
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعبد الله بن الزبير : يا ابن أختي أما والله إن أباك وجدك - تعني أبا بكر والزبير - لمن الذين قال الله عز وجل فيهم : ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ) فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة - مسلمهم وكافرهم - عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك فقال : يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله تعالى كان قد أعفاك منهم ، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لقد أصبنا جل أصحابه وقادتهم لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم ، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم ، وفيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط ، قال : ويلك ما تقول ؟ قال : والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل ، [ ص: 137 ] قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم ، قال : فإني والله أنهاك عن ذلك فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا :
كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
فذكر أبياتا فرد ذلك أبا سفيان ومن معه .
ومر به ركب من عبد القيس فقال : أين تريدون؟ قالوا : نريد المدينة قال : ( ولم؟ قالوا : نريد الميرة ) قال : فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة وأحمل لكم إبلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا وافيتمونا؟ قالوا : نعم ، قال : فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم وانصرف أبو سفيان إلى مكة ، ومر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه : " حسبنا الله ونعم الوكيل " ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد الثالثة . هذا قول أكثر المفسرين .
وقال مجاهد وعكرمة : نزلت هذه الآية في غزوة بدر الصغرى وذلك أن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال : يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك بيننا وبينك إن شاء الله " فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران ثم ألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان : يا نعيم إني واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى وإن هذه عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة ولأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أني في جمع كثير لا طاقة لهم بنا ، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يدي سهيل بن عمرو ويضمنها قال : فجاء سهيل فقال له نعيم يا أبا يزيد : أتضمن لي هذه القلائص وأنطلق إلى محمد وأثبطه؟ قال : نعم . فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال : أين تريدون؟ فقالوا : واعدنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها فقال : بئس الرأي رأيتم ، أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا الشريد ، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم ، والله لا يفلت منكم أحد ، فكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده لأخرجن ولو وحدي " فأما الجبان فإنه رجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقال : " حسبنا الله ونعم الوكيل " . [ ص: 138 ]
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى وافوا بدرا الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يريدون أن يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنون : حسبنا الله ونعم الوكيل ، حتى بلغوا بدرا وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة فلم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدا من المشركين ووافقوا السوق وكانت معهم تجارات ونفقات فباعوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين فذلك قوله تعالى : ( الذين استجابوا لله والرسول ) أي أجابوا ومحل " الذين " خفض على صفة المؤمنين تقديره : إن الله لا يضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله والرسول ، ( من بعد ما أصابهم القرح ) أي : ( نالتهم الجراح ) تم الكلام هاهنا ثم ابتداء فقال : ( للذين أحسنوا منهم ) بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته إلى الغزو ، ( واتقوا ) معصيته ( أجر عظيم ) .
( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ( 173 ) )
( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ( 174 ) )
( الذين قال لهم الناس ) ومحل " الذين " خفض أيضا مردود على الذين الأول وأراد بالناس : نعيم بن مسعود ، في قول مجاهد وعكرمة فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله تعالى : ( أم يحسدون الناس ) يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم وحده وقال محمد بن إسحاق وجماعة : أراد بالناس الركب من عبد القيس ، ( إن الناس قد جمعوا لكم ) يعني أبا سفيان وأصحابه ، ( فاخشوهم ) فخافوهم واحذروهم فإنه لا طاقة لكم بهم ، ( فزادهم إيمانا ) تصديقا ويقينا وقوة ( وقالوا حسبنا الله ) أي : كافينا الله ، ( ونعم الوكيل ) أي : الموكول إليه الأمور فعيل بمعنى مفعول .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أحمد بن يونس ، أخبرنا أبو بكر ، عن أبي حصين ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا : ( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) .
( فانقلبوا ) فانصرفوا ، ( بنعمة من الله ) بعافية لم يلقوا عدوا ( وفضل ) تجارة وربح وهو ما أصابوا [ ص: 139 ] في السوق ( لم يمسسهم سوء ) يصبهم أذى ولا مكروه ، ( واتبعوا رضوان الله ) في طاعة الله وطاعة رسوله وذلك أنهم قالوا : هل يكون هذا غزوا فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم ، ( والله ذو فضل عظيم ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (79)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
الاية 175 إلى الاية 180
( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ( 175 ) ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم ( 176 ) إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم ( 177 ) ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ( 178 ) )
قوله تعالى : ( إنما ذلكم الشيطان ) يعني : ذلك الذي قال لكم : ( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) من فعل الشيطان ألقى في أفواههم ليرهبوهم ويجبنوا عنهم ، ( يخوف أولياءه ) أي يخوفكم بأوليائه ، وكذلك هو في قراءة أبي بن كعب يعني : يخوف المؤمنين بالكافرين قال السدي : يعظم أولياءه في صدورهم ليخافوهم يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود " يخوفكم أولياءه " ( فلا تخافوهم وخافون ) في ترك أمري ( إن كنتم مؤمنين ) مصدقين بوعدي فإني متكفل لكم بالنصرة والظفر .
قوله عز وجل : ( ولا يحزنك ) قرأ نافع " يحزنك " بضم الياء وكسر الزاي ، وكذلك جميع القرآن إلا قوله ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) ضده أبو جعفر وهما لغتان : حزن يحزن وأحزن يحزن إلا أن اللغة الغالبة حزن يحزن ، ( الذين يسارعون في الكفر ) قال الضحاك : هم كفار قريش وقال غيره : هم المنافقون يسارعون في الكفر بمظاهرة الكفار . ( إنهم لن يضروا الله شيئا ) بمسارعتهم في الكفر ، ( يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ) نصيبا في ثواب الآخرة ، فلذلك خذلهم حتى سارعوا في الكفر ، ( ولهم عذاب عظيم )
( إن الذين اشتروا ) استبدلوا ( الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ) وإنما يضرون أنفسهم ، ( ولهم عذاب أليم )
( ولا يحسبن الذين كفروا ) قرأ حمزة هذا والذي بعده بالتاء فيهما ، وقرأ الآخرون بالياء فمن قرأ بالياء " فالذين " في محل الرفع على الفاعل وتقديره ولا يحسبن الكفار إملاءنا لهم خيرا ، ومن قرأ بالتاء [ ص: 140 ] يعني : ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا ، وإنما نصب على البدل من الذين ، ( أنما نملي لهم خير لأنفسهم ) والإملاء الإمهال والتأخير ، يقال : عشت طويلا حميدا وتمليت حينا ومنه قوله تعالى : " واهجرني مليا " ( مريم - 46 ) أي : حينا طويلا ثم ابتدأ فقال : ( إنما نملي لهم ) نمهلهم ( ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين )
قال مقاتل : نزلت في مشركي مكة وقال عطاء : في قريظة والنضير .
أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله القفال ، أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البرونجردي ، أنا أبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي ، أنا محمد بن يونس أنا أبو داود الطيالسي ، أنا شعبة عن علي بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال : " من طال عمره وحسن عمله " قيل : فأي الناس شر؟ قال : " من طال عمره وساء عمله " .
( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ( 179 ) )
قوله تعالى : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ) اختلفوا فيها ، فقال الكلبي : قالت قريش : يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان ، وأن من اتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض ، فأخبرنا بمن يؤمن بك وبمن لا يؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال السدي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عرضت علي أمتي في صورها في الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر بي " فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء : زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ، ونحن معه وما يعرفنا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين [ ص: 141 ] الساعة إلا أنبأتكم به " فقام عبد الله بن حذافة السهمي : فقال : من أبي يا رسول الله؟ قال : حذافة فقام عمر فقال : يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبك نبيا فاعف عنا عفا الله عنك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فهل أنتم منتهون " ؟ ثم نزل عن المنبر فأنزل الله تعالى هذه الآية .
واختلفوا في حكم الآية ونظمها ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين : الخطاب للكفار والمنافقين يعني ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ) يا معشر الكفار والمنافقين من الكفر والنفاق ( حتى يميز الخبيث من الطيب )
وقال قوم : الخطاب للمؤمنين الذين أخبر عنهم ، معناه : ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق ، فرجع من الخبر إلى الخطاب .
( حتى يميز ) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بضم الياء والتشديد وكذلك التي في الأنفال ، وقرأ الباقون بالخفيف يقال : ماز الشيء يميزه ميزا وميزه تمييزا إذا فرقه فامتاز ، وإنما هو بنفسه ، قال أبو معاذ إذا فرقت بين شيئين قلت : مزت ميزا ، فإذا كانت أشياء قلت : ميزتها تمييزا وكذلك إذا جعلت الشيء الواحد شيئين قلت : فرقت بالتخفيف ومنه فرق الشعر ، فإن جعلته أشياء قلت : فرقته تفريقا ، ومعنى الآية حتى يميز المنافق من المخلص ، فميز الله المؤمنين من المنافقين يوم أحد حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال قتادة : حتى يميز الكافر من المؤمن بالهجرة والجهاد .
وقال الضحاك : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ) في أصلاب الرجال وأرحام النساء يا معشر المنافقين والمشركين حتى يفرق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين وقيل : ( حتى يميز الخبيث ) وهو المذنب ( من الطيب ) وهو المؤمن يعني : حتى يحط الأوزار عن المؤمن بما يصيبه من نكبة ومحنة ومصيبة ، ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) لأنه لا يعلم الغيب أحد غيره ، ( ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ) فيطلعه على بعض علم الغيب ، نظيره قوله تعالى : " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول " ( سورة الجن الآيتان : 26 ، 27 ) .
وقال السدي : معناه وما كان الله ليطلع محمدا صلى الله عليه وسلم على الغيب ولكن الله اجتباه ، ( فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ) .
[ ص: 142 ] ( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير ( 180 ) )
( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ) أي : ولا يحسبن الباخلون البخل خيرا لهم ، ( بل هو ) يعني : البخل ، ( شر لهم سيطوقون ) أي : سوف يطوقون ( ما بخلوا به يوم القيامة ) يعني : يجعل ما منعه من الزكاة حية تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فوقه إلى قدمه وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي وائل والشعبي والسدي .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا علي بن عبد الله المديني ، أنا هاشم بن القاسم ، أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ، ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثم تلا ( ولا يحسبن الذين يبخلون ) الآية " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمرو بن حفص بن غياث ، أنا أبي ، أنا الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : انتهيت إليه يعني : النبي صلى الله عليه وسلم قال . " والذي نفسي بيده ، أو والذي لا إله غيره ، أو كما حلف ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس " .
قال إبراهيم النخعي : معنى الآية يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقا من النار قال مجاهد : يكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم .
وروى عطية عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم [ ص: 143 ] ونبوته وأراد بالبخل كتمان العلم كما قال في سورة النساء " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله " ( النساء - 37 ) .
ومعنى قوله " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " أي : يحملون وزره وإثمه كقوله تعالى : " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم " ( الأنعام - 31 ) .
( ولله ميراث السماوات والأرض ) يعني : أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم نظيره ، قوله تعالى : " إنا نحن نرث الأرض ومن عليها " ( مريم - 40 ( والله بما تعملون خبير ) قرأ أهل البصرة ومكة يعملون بالياء وقرأ الآخرون بالتاء .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (80)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
الاية 181 إلى الاية 186
( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ( 181 ) )
قوله تعالى : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) قال الحسن ومجاهد : لما نزلت : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) قالت اليهود : إن الله فقير استقرض منا ونحن أغنياء ، وذكر الحسن : أن قائل هذه المقالة حيي بن أخطب .
وقال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق : كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فدخل أبو بكر رضي الله عنه ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسا كثيرا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ، ومعه حبر آخر يقال له أشيع . فقال أبو بكر لفنحاص : اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة فآمن وصدق وأقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب .
فقال فنحاص : يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني؟ فإن كان ما تقول حقا فإن الله إذا لفقير ونحن أغنياء ، وإنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا .
فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه : " ما حملك على ما صنعت " ؟ [ ص: 144 ] فقال : يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيما زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فغضبت لله فضربت وجهه ، فجحد ذلك فنحاص ، فأنزل الله تعالى ردا على فنحاص وتصديقا لأبي بكر رضي الله عنه : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا ) من الإفك والفرية على الله فنجازيهم به ، وقال مقاتل : سنحفظ عليهم ، وقال الواقدي : سنأمر الحفظة بالكتابة ، نظيره قوله تعالى : ( وإنا له كاتبون ) ، ( وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ) قرأ حمزة " سيكتب " بضم الياء ، " وقتلهم " برفع اللام " ويقول " بالياء و ( ذوقوا عذاب الحريق ) أي : النار وهو بمعنى المحرق كما يقال : لهم عذاب أليم أي : مؤلم .
( ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ( 182 ) الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ( 183 ) )
( ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ) فيعذب بغير ذنب .
قوله تعالى : ( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ) الآية قال الكلبي : نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوت وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد تزعم أن الله تعالى بعثك إلينا رسولا وأنزل عليك الكتاب وأن الله تعالى قد عهد إلينا في التوراة ( ألا نؤمن لرسول ) يزعم أنه جاء من عند الله ، ( حتى يأتينا بقربان تأكله النار ) فإن جئتنا به صدقناك؛ قال فأنزل الله تعالى : ( الذين قالوا ) أي : سمع الله قول الذين قالوا ومحل ( الذين ) خفض ردا على ( الذين ) الأول ، ( إن الله عهد إلينا ) أي : أمرنا وأوصانا في كتبه أن لا نؤمن برسول أي : لا نصدق رسولا يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار فيكون دليلا على صدقه ، والقربان : كل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من نسيكة وصدقة وعمل صالح فعلان من القربة وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل وكانوا إذا قربوا قربانا أو غنموا غنيمة جاءت نار [ ص: 145 ] بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وحفيف فتأكله وتحرق ذلك القربان وتلك الغنيمة فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم يقبل بقيت على حالها .
وقال السدي : إن الله تعالى أمر بني إسرائيل من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد ، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم ، ( قل ) يا محمد ( قد جاءكم ) يا معشر اليهود ( رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم ) القربان ( فلم قتلتموهم ) يعني : زكريا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء ، وأراد بذلك أسلافهم فخاطبهم بذلك لأنهم رضوا بفعل أسلافهم ( إن كنتم صادقين ) معناه تكذيبهم مع علمهم بصدقك ، كقتل آبائهم الأنبياء ، مع الإتيان بالقربان والمعجزات ، ثم قال معزيا لنبيه صلى الله عليه وسلم :
( فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ( 184 ) كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ( 185 ) )
( فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر ) قرأ ابن عامر " وبالزبر " أي : بالكتب المزبورة يعني : المكتوبة ، واحدها زبور مثل : رسول ورسل ، ( والكتاب المنير ) الواضح المضيء .
قوله عز وجل : ( كل نفس ) منفوسة ، ( ذائقة الموت ) وفي الحديث : " لما خلق الله تعالى آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها فوعدها أن يرد فيها ما أخذ منها فما من أحد إلا يدفن في التربة التي خلق منها " ، ( وإنما توفون أجوركم ) توفون جزاء أعمالكم ، ( يوم القيامة ) إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، ( فمن زحزح ) نجي وأزيل ، ( عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) ظفر بالنجاة ونجا من الخوف ، ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) يعني منفعة ومتعة كالفأس والقدر والقصعة ثم تزول ولا تبقى .
وقال الحسن : كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل له . [ ص: 146 ]
قال قتادة : هي متاع متروكة يوشك أن تضمحل بأهلها فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم والغرور : الباطل .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أخبرنا محمد بن يحيى ، أخبرنا ابن هارون ، أخبرنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " واقرءوا إن شئتم " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون " ( السجدة - 17 ) وإن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا إن شئتم : وظل ممدود ( الواقعة - 30 ) ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما عليها واقرءوا إن شئتم ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) .
( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ( 186 ) )
( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ) الآية قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريج : نزلت الآية في أبي بكر وفنحاص بن عازوراء . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص بن عازوراء سيد بني قينقاع ليستمده ، وكتب إليه كتابا وقال لأبي بكر رضي الله عنه " لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع " فجاء أبو بكر رضي الله عنه وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال : قد احتاج ربك إلى أن نمده ، فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع " فكف فنزلت هذه الآية .
وقال الزهري : نزلت في كعب بن الأشرف فإنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسب المسلمين ، [ ص: 147 ] ويحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ويشبب بنساء المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من لي بابن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله " ؟ .
فقال محمد بن مسلمة الأنصاري : أنا لك يا رسول الله ، أنا أقتله قال : " فافعل إن قدرت على ذلك " .
فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق نفسه ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه وقال له : لم تركت الطعام والشراب؟ قال : يا رسول الله قلت قولا ولا أدري هل أفي به أم لا فقال : إنما عليك الجهد .
فقال : يا رسول الله إنه لا بد لنا من أن نقول قال : قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك ، فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلام وأبو نائلة ، وكان أخا كعب من الرضاعة ، وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأبو عيسى بن جبير فمشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم ، وقال : " انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم " ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في ليلة مقمرة .
فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه فقدموا أبا نائلة فجاءه فتحدث معه ساعة وتناشدا الشعر ، وكان أبو نائلة يقول الشعر ، ثم قال : ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم علي قال أفعل قال : كان قدوم هذا الرجل بلادنا بلاء عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة ، وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس ، فقال كعب : أنا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أخبرتك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى هذا ، فقال أبو نائلة : إن معي أصحابا أردنا أن تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك قال : أترهنوني أبناءكم قال : إنا نستحي إن يعير أبناؤنا فيقال هذا رهينة وسق وهذا رهينة وسقين قال : ترهنوني نساءكم قالوا : كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ولا نأمنك وأية امرأة تمتنع منك لجمالك؟ ولكنا نرهنك الحلقة يعني : السلاح وقد علمت حاجتنا إلى السلاح ، قال : نعم وأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا رآه فوعده أن يأتيه فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره .
فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ليلا فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس ، فوثب من ملحفته فقالت امرأته : أسمع صوتا يقطر منه الدم ، وإنك رجل محارب وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة فكلمهم من فوق الحصن فقال : إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة وإن هؤلاء لو وجدوني نائما ما أيقظوني ، وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب ، فنزل إليهم فتحدث معهم ساعة ثم قالوا : يا ابن الأشرف هل لك إلى أن نتماشى إلى شعب العجوز نتحدث فيه بقية ليلتنا هذه؟ قال : إن شئتم؟ فخرجوا يتماشون وكان أبو نائلة قال : لأصحابه إني فاتل شعره فأشمه فإذا رأيتموني استمكنت [ ص: 148 ] من رأسه فدونكم فاضربوه ، ثم إنه شام يده في فود رأسه ثم شم يده فقال : ما رأيت كالليلة طيب عروس قط ، قال : إنه طيب أم فلان يعني امرأته ، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعة فعاد لمثلها ثم أخذ بفودي رأسه حتى استمكن ثم قال : اضربوا عدو الله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار ، قال فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله ، وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا ، فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث ونزفه الدم ، فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه وتفل على جرح صاحبنا .
فرجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود وقعتنا بعدو الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه " فوثب محيصة بن مسعود على سنينة رجل من تجار اليهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول : أي عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله .
قال محيصة : والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك ، قال : لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال : نعم قال والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب؟ ! فأسلم حويصة وأنزل الله تعالى في شأن كعب : ( لتبلون ) لتخبرن اللام للتأكيد وفيه معنى القسم ، والنون لتأكيد القسم ( في أموالكم ) بالجوائح والعاهات والخسران ( وأنفسكم ) بالأمراض وقيل : بمصائب الأقارب والعشائر ، قال عطاء : هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم ورباعهم وعذبوهم وقال الحسن : هو ما فرض عليهم في أموالهم وأنفسهم من الحقوق ، كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة ، ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) يعني : اليهود والنصارى ، ( ومن الذين أشركوا ) يعني : مشركي العرب ، ( أذى كثيرا وإن تصبروا ) على أذاهم ( وتتقوا ) الله ، ( فإن ذلك من عزم الأمور ) من حق الأمور وخيرها وقال عطاء : من حقيقة الإيمان .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (81)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
الاية 187 إلى الاية 192
( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ( 187 ) )
( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة [ ص: 149 ] وأبو بكر بالياء فيهما لقوله تعالى : ( فنبذوه وراء ظهورهم ) وقرأ الآخرون بالتاء فيها على إضمار القول ، ( فنبذوه وراء ظهورهم ) أي : طرحوه وضيعوه وتركوا العمل به ، ( واشتروا به ثمنا قليلا ) يعني : المآكل والرشا ، ( فبئس ما يشترون ) قال قتادة : هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة .
وقال أبو هريرة رضي الله عنه : لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ) الآية .
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ، أخبرنا أبو معاذ الشاه بن عبد الرحمن ، أخبرنا أبو بكر عمر بن سهل بن إسماعيل الدينوري ، أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي ، أخبرنا أبو حذيفة موسى بن مسعود أخبرنا إبراهيم بن طهمان عن سماك بن حرب ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " .
وقال الحسن بن عمارة : أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت : إن رأيت أن تحدثني؟ فقال : أما علمت أني قد تركت الحديث؟ فقلت : إما أن تحدثني وإما أن أحدثك فقال : حدثني فقلت : حدثني الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار قال : سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال : فحدثني أربعين حديثا .
( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ( 188 ) )
قوله : ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ) الآية قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( لا تحسبن ) بالتاء ، [ ص: 150 ] أي : لا تحسبن يا محمد الفارحين وقرأ الآخرون بالياء " لا يحسبن " الفارحون فرحهم منجيا لهم من العذاب ( فلا يحسبنهم ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالياء وضم الباء خبرا عن الفارحين ، أي فلا يحسبن أنفسهم ، وقرأ الآخرون بالتاء وفتح الباء أي : فلا تحسبنهم يا محمد وأعاد قوله ( فلا تحسبنهم ) تأكيدا وفي حرف عبد الله بن مسعود ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا بمفازة من العذاب ) من غير تكرار .
واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا سعيد بن أبي مريم ، أنا محمد بن جعفر ، حدثني زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ) الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا إبراهيم بن موسى ، أنا هشام ، أن ابن جريج أخبرهم : أخبرني ابن أبي مليكة أن علقمة بن وقاص أخبره أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقل له : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه فأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ، ثم قرأ ابن عباس رضي الله عنهما ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ) كذلك حتى قوله : ( يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ) .
قال عكرمة : نزلت في فنحاص وأشيع وغيرهما من الأحبار يفرحون بإضلالهم الناس وبنسبة الناس إياهم إلى العلم وليسوا بأهل العلم . وقال مجاهد : هم اليهود فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه . [ ص: 151 ]
وقال سعيد بن جبير : هم اليهود فرحوا بما أعطى الله آل إبراهيم وهم برآء من ذلك .
وقال قتادة ومقاتل : أتت يهود خيبر نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : نحن نعرفك ونصدقك وإنا على رأيكم ونحن لكم ردء ، وليس ذلك في قلوبهم فلما خرجوا قال لهم المسلمون : ما صنعتم؟ قالوا : عرفناه وصدقناه فقال لهم المسلمون : أحسنتم هكذا فافعلوا فحمدوهم ودعوا لهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال : ( يفرحون بما أتوا ) قال الفراء بما فعلوا كما قال الله تعالى : " لقد جئت شيئا فريا " ( مريم - 27 ) أي : فعلت ، ( ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة ) بمنجاة ، ( من العذاب ولهم عذاب أليم ) .
( ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير ( 189 ) إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ( 190 ) )
( ولله ملك السماوات والأرض ) يصرفها كيف يشاء ، ( والله على كل شيء قدير )
( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الاسفراييني ، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ ، أنا أحمد بن عبد الجبار ، أنا ابن فضيل ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه رقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه استيقظ فتسوك ثم توضأ وهو يقول : ( إن في خلق السماوات والأرض ) حتى ختم السورة ثم قام فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام والركوع والسجود ، ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات كل ذلك يستاك ثم يتوضأ ثم يقرأ هؤلاء الآيات ، ثم أوتر بثلاث ركعات ثم أتاه المؤذن فخرج إلى الصلاة وهو يقول : " اللهم اجعل في بصري نورا وفي سمعي نورا وفي لساني نورا واجعل خلفي نورا وأمامي نورا واجعل من فوقي نورا ومن تحتي نورا اللهم أعطني نورا " .
ورواه كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما وزاد : " اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا وعن يساري نورا " . [ ص: 152 ]
قوله تعالى : ( لآيات لأولي الألباب ) ذوي العقول ثم وصفهم فقال :
( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ( 191 ) ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ( 192 ) )
( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم والنخعي وقتادة : هذا في الصلاة يصلي قائما فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنب .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، أنا هناد أنا وكيع عن إبراهيم بن طهمان ، عن حسين المعلم ، عن عبد الله بن بريدة ، عن عمران بن حصين قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض فقال : " صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب " . .
وقال سائر المفسرين أراد به المداومة على الذكر في عموم الأحوال لأن الإنسان قل ما يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث ، نظيره في سورة النساء " فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم . . . "
( النساء - 103 ) ، ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) وما أبدع فيهما ليدلهم ذلك على قدرة الله ويعرفوا أن لها صانعا قادرا مدبرا حكيما قال ابن عون : الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات ، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة ، ( ربنا ) أي : ويقولون ربنا ( ما خلقت هذا ) رده إلى الخلق فلذلك لم يقل هذه ، ( باطلا ) أي : عبثا وهزلا بل خلقته لأمر عظيم وانتصب الباطل بنزع الخافض ، أي : بالباطل ، ( سبحانك فقنا عذاب النار )
( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) أي : أهنته ، وقيل : أهلكته ، وقيل : فضحته ، لقوله تعالى : ( ولا تخزون في ضيفي ) ( هود - 78 ) فإن قيل : قد قال الله تعالى : " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه " ( التحريم - 8 ) ومن أهل الإيمان من يدخل النار وقد قال : ( إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) قيل : قال أنس وقتادة معناه : إنك من تخلد في النار فقد أخزيته وقال سعيد بن المسيب هذه خاصة لمن لا يخرج منها فقد روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله يدخل قوما النار ثم يخرجون منها " . ( وما للظالمين من أنصار ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (82)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
الاية 193 إلى الاية 200
( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ( 193 ) ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ( 194 ) )
( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ( 195 ) )
( ربنا إننا سمعنا مناديا ) يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم قاله ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما ، وأكثر الناس ، وقال القرظي : يعني القرآن فليس كل أحد يلقى النبي صلى الله عليه وسلم ، ( ينادي للإيمان ) أي إلى الإيمان ، ( أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ) أي : في جملة الأبرار .
( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ) أي : على ألسنة رسلك ، ( ولا تخزنا ) ولا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنا ، ( يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد )
فإن قيل : ما وجه قولهم : ( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ) وقد علموا أن الله لا يخلف الميعاد؟ قيل : لفظه دعاء ومعناه خبر أي : لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك تقديره : ( فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا ( ولا تخزنا يوم القيامة ) لتؤتينا ما وعدتنا على رسلك من الفضل والرحمة وقيل : معناه ربنا واجعلنا ممن يستحقون ثوابك وتؤتيهم ما وعدتهم على ألسنة رسلك لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها ، وقيل : إنما سألوه تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء ، قالوا : قد علمنا أنك لا تخلف ولكن لا صبر لنا على حلمك فعجل خزيهم وانصرنا عليهم .
قوله تعالى : ( فاستجاب لهم ربهم أني ) أي : بأني ، ( لا أضيع ) لا أحبط ، ( عمل عامل منكم ) أيها المؤمنون ( من ذكر أو أنثى ) قال مجاهد : قالت أم سلمة يا رسول الله إني أسمع الله يذكر [ ص: 154 ] الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فأنزل الله تعالى هذه الآية ( بعضكم من بعض ) قال الكلبي : في الدين والنصرة والموالاة ، وقيل : كلكم من آدم وحواء ، وقال الضحاك : رجالكم شكل نسائكم ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعة ، كما قال : " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " ( التوبة - 71 ) .
( فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي ) أي : في طاعتي وديني ، وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة ، ( وقاتلوا وقتلوا ) قرأ ابن عامر وابن كثير " وقتلوا " بالتشديد وقال الحسن : يعني أنهم قطعوا في المعركة ، والآخرون بالتخفيف وقرأ أكثر القراء : ( وقاتلوا وقتلوا ) يريد أنهم قاتلوا العدو ثم أنهم قتلوا وقرأ حمزة والكسائي ( وقتلوا وقاتلوا ) وله وجهان أحدهما : معناه وقاتل من بقي منهم ، ومعنى قوله ( وقتلوا ) أي : قتل بعضهم تقول العرب قتلنا بني فلان وإنما قتلوا بعضهم والوجه الآخر ( وقتلوا ) وقد قاتلوا ، ( لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله ) نصب على القطع قاله الكسائي ، وقال المبرد : مصدر أي : لأثيبنهم ثوابا ، ( والله عنده حسن الثواب ) .
( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ( 196 ) متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ( 197 ) لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار ( 198 ) )
قوله عز وجل : ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ) نزلت في المشركين ، وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله تعالى فيما نرى من الخير ونحن في الجهد؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ) وضربهم في الأرض وتصرفهم في البلاد للتجارات وأنواع المكاسب فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه غيره .
( متاع قليل ) أي : هو متاع قليل وبلغة فانية ومتعة زائلة ، ( ثم مأواهم ) مصيرهم ، ( جهنم وبئس المهاد ) الفراش .
( لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا ) جزاء وثوابا ، ( من عند الله ) نصب على التفسير وقيل : جعل ذلك نزلا ( وما عند الله خير للأبرار ) من متاع الدنيا . [ ص: 155 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد العزيز بن عبد الله ، أنا سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبيد بن حنين أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وإن عند رجليه قرظا مصبورا ، وعند رأسه أهب معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه ، فبكيت فقال : ما يبكيك؟ فقلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله؟ فقال : " أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة " ؟ .
( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ( 199 ) )
قوله عز وجل : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ) الآية قال ابن عباس وجابر وأنس وقتادة : نزلت في النجاشي ملك الحبشة ، واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم النجاشي ، فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات ، واستغفر له فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال عطاء : نزلت في أهل نجران أربعين رجلا [ من بني حارث بن كعب ] اثنين وثلاثين من أرض الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن جريج : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه . [ ص: 156 ]
وقال مجاهد : نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم ، ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ) ( وما أنزل إليكم ) يعني : القرآن ، ( وما أنزل إليهم ) يعني : التوراة والإنجيل ، ( خاشعين لله ) خاضعين متواضعين لله ، ( لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ) يعني : لا يحرفون كتبهم ولا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل الرياسة والمأكلة كفعل غيرهم من رؤساء اليهود ، ( أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ) .
( ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ( 200 ) )
قوله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ) قال الحسن : اصبروا على دينكم ولا تدعوه لشدة ولا رخاء ، وقال قتادة : اصبروا على طاعة الله .
وقال الضحاك ومقاتل بن سليمان : على أمر الله .
وقال مقاتل بن حيان : على أداء فرائض الله تعالى ، وقال زيد بن أسلم : على الجهاد . وقال الكلبي : على البلاء ، وصابروا يعني : الكفار ، ورابطوا يعني : المشركين ، قال أبو عبيدة ، أي داوموا واثبتوا ، والربط الشد ، وأصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم ، وهؤلاء خيولهم ، ثم قيل : لكل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه ، وإن لم يكن له مركب .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن منير ، سمع أبا النضر ، أنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها ، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها " .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجوربذي ، أنا يونس بن عبد الأعلى ، أنا ابن وهب ، أخبرني عبد الرحمن بن شريح ، عن عبد الكريم بن الحارث ، عن أبي عبيدة بن عقبة ، عن شرحبيل بن السمط عن سلمان الخير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان له أجر صيام [ ص: 157 ] شهر مقيم ، ومن مات مرابطا جرى له مثل ذلك الأجر ، وأجري عليه من الرزق ، وأمن من الفتان " .
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد الفقيه ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط فذلكم الرباط " .
( واتقوا الله لعلكم تفلحون ) قال بعض أرباب اللسان : اصبروا على النعماء وصابروا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (83)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 1 إلى الاية 5
[ سُورَةِ النِّسَاءِ ]
سُورَةُ النِّسَاءِ - مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( 1 ) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ( 2 ) [ ص: 159 ]
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) يَعْنِي : آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، ( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) يَعْنِي : حَوَّاءَ ، ( وَبَثَّ مِنْهُمَا ) نَشَرَ وَأَظْهَرَ ، ( رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ ) أَيْ : تَتَسَاءَلُونَ بِهِ ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِتَخْفِيفِ السِّينِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلَا تَعَاوَنُوا ) ، ( وَالْأَرْحَامَ ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالنَّصْبِ ، أَيْ : وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِالْخَفْضِ ، أَيْ : بِهِ وَبِالْأَرْحَام ِ كَمَا يُقَالُ : سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ وَالْأَرْحَامِ ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَفْصَحُ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَكَادُ =تُنَسِّقُ بِظَاهِرٍ عَلَى مُكَنَّى ، إِلَّا أَنْ تُعِيدَ الْخَافِضَ فَتَقُولُ : مَرَرْتُ بِهِ وَبِزَيْدٍ ، إِلَّا أَنَّهُ جَائِزٌ مَعَ قِلَّتِهِ ، ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) أَيْ : حَافِظًا .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ : نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ كَانَ مَعَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لِابْنِ أَخٍ لَهُ يَتِيمٍ ، فَلَمَّا بَلَغَ الْيَتِيمُ طَلَبَ الْمَالَ فَمَنَعَهُ عَمُّهُ فَتَرَافَعَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، فَلَمَّا سَمِعَهَا الْعَمُّ قَالَ : أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحُوبِ الْكَبِيرِ ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَيُطِعْ رَبَّهُ هَكَذَا فَإِنَّهُ يَحُلُّ دَارَهُ " ، يَعْنِي : جَنَّتَهُ ، فَلَمَّا قَبَضَ الْفَتَى مَالَهُ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ثَبَتَ الْأَجْرُ وَبَقِيَ الْوِزْرُ " فَقَالُوا : كَيْفَ بَقِيَ الْوِزْرُ؟ فَقَالَ : " ثَبَتَ الْأَجْرُ لِلْغُلَامِ وَبَقِيَ الْوِزْرُ عَلَى وَالِدِهِ " .
وَقَوْلُهُ ( وَآتُوا ) خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاء ِ ، وَالْيَتَامَى : جَمْعُ يَتِيمٍ ، وَالْيَتِيمُ : اسْمٌ لِصَغِيرٍ لَا أَبَ لَهُ وَلَا جَدَّ ، وَإِنَّمَا يُدْفَعُ الْمَالُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، وَسَمَّاهُمْ يَتَامَى هَاهُنَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَامَى . [ ص: 160 ]
( وَلَا تَتَبَدَّلُوا ) أَيْ : لَا تَسْتَبْدِلُوا ، ( الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) أَيْ : مَالُهُمُ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ ، عَلَيْكُمْ بِالْحَلَالِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّبَدُّلِ ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ : كَانَ أَوْلِيَاءُ الْيَتَامَى يَأْخُذُونَ الْجَيِّدَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَيَجْعَلُونَهُ مَكَانَ الرَّدِيءِ ، فَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمَا يَأْخُذُ الشَّاةَ السَّمِينَةَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَيَجْعَلُ مَكَانَهَا الْمَهْزُولَةَ ، وَيَأْخُذُ الدِّرْهَمَ الْجَيِّدَ وَيَجْعَلُ مَكَانَهُ =الزَّيْفَ ، وَيَقُولُ : دِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ .
وَقِيلَ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَيَأْخُذُ الْأَكْبَرُ الْمِيرَاثَ ، فَنَصِيبُهُ مِنَ الْمِيرَاثِ طَيِّبٌ ، وَهَذَا الَّذِي يَأْخُذُهُ خَبِيثٌ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : لَا تَتَعَجَّلِ الرِّزْقَ الْحَرَامَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ الْحَلَالُ .
( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ) أَيْ : مَعَ أَمْوَالِكُمْ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ) أَيْ : مَعَ اللَّهِ ، ( إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ) أَيْ : إِثْمًا عَظِيمًا .
( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ( 3 ) )
وقوله تعالى : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) الآية . اختلفوا في تأويلهم ، فقال بعضهم : معناه إن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن فانكحوا غيرهن من الغرائب مثنى وثلاث ورباع .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، قال : كان عروة بن الزبير يحدث أنه سأل عائشة رضي الله عنها ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) قالت : هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها ، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق ، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء ، قالت عائشة رضي الله عنها : ثم استفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ) إلى قوله تعالى ( وترغبون أن تنكحوهن ) . فبين الله تعالى في هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال أو مال ، رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها بإكمال الصداق ، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء ، قال : فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها الأوفى من الصداق ويعطوها حقها . [ ص: 161 ]
قال الحسن : كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه كراهية أن =يدخله غريب فيشاركه في مالها ، ثم يسيء صحبتها ويتربص بها أن تموت ويرثها ، فعاب الله تعالى ذلك ، وأنزل الله هذه الآية .
وقال عكرمة : كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر فإذا صار معدما من مؤن نسائه مال إلى مال يتيمه الذي في حجره فأنفقه ، فقيل لهم : لا تزيدوا على أربع حتى لا يحوجكم إلى أخذ أموال اليتامى ، وهذه رواية طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وقال بعضهم : كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء ، فيتزوجون ما شاءوا وربما عدلوا وربما لم يعدلوا ، فلما أنزل الله تعالى في أموال اليتامى ( وآتوا اليتامى أموالهم ) أنزل هذه الآية ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) يقول كما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن فلا تتزوجوا أكثر مما يمكنكم القيام بحقهن ، لأن النساء في الضعف كاليتامى ، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي ، ثم رخص في نكاح أربع فقال : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا ) فيهن ( فواحدة ) وقال مجاهد : معناه إن تحرجتم من ولاية اليتامى وأموالهم إيمانا فكذلك تحرجوا من الزنا فانكحوا النساء الحلال نكاحا طيبا ، ثم بين لهم عددا ، وكانوا يتزوجون ما شاءوا من غير عدد ، قوله تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) أي : من طاب كقوله تعالى : " والسماء وما بناها " ( الشمس - 5 ) أي ومن بناها " قال فرعون وما رب العالمين " ( الشعراء - 23 ) والعرب تضع " من " و " ما " كل واحدة موضع الأخرى ، كقوله تعالى : " فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين " ( النور - 45 ) ، وطاب أي : حل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، معدولات عن اثنين ، وثلاث ، وأربع ، ولذلك لا ينصرفن ، والواو بمعنى أو ، للتخيير ، كقوله تعالى : " أن تقوموا لله مثنى وفرادى " ( سبأ - 46 ) : " أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " ( غافر - 1 ) وهذا إجماع أن أحدا من الأمة لا يجوز له أن يزيد على أربع نسوة ، وكانت الزيادة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، لا مشاركة معه لأحد من الأمة فيها ، وروي أن قيس بن الحارث كان تحته ثمان نسوة فلما نزلت هذه الآية قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " طلق أربعا وأمسك أربعا " قال فجعلت أقول للمرأة التي لم تلد يا فلانة أدبري والتي قد ولدت يا فلانة أقبلي . وروي أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم [ ص: 162 ] وعنده عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أمسك أربعا وفارق سائرهن " .
وإذا جمع الحر بين أربع نسوة حرائر يجوز ، فأما العبد فلا يجوز له أن ينكح أكثر من امرأتين عند أكثر أهل العلم ، أخبرنا عبد الوهاب بن أحمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان ، عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة ، عن سليمان بن يسار ، عن عبد الله بن عتبة ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ينكح العبد امرأتين ويطلق طلقتين وتعتد الأمة بحيضتين ، فإن لم تكن تحيض فبشهرين أو شهر ونصف " وقال ربيعة : يجوز للعبد أن ينكح أربع نسوة كالحر .
( فإن خفتم ) خشيتم ، وقيل : علمتم ، ( ألا تعدلوا ) بين الأزواج الأربع ، ( فواحدة ) أي فانكحوا واحدة . وقرأ أبو جعفر ( فواحدة ) بالرفع ، ( أو ما ملكت أيمانكم ) يعني السراري لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق ما يلزم في الحرائر ، ولا =قسم لهن ، ولا وقف في عددهن ، وذكر الأيمان بيان ، تقديره : أو ما ملكتم ، وقال بعض أهل المعاني : أو ما ملكت أيمانكم أي : ما ينفذ فيه إقسامكم ، جعله من يمين الحلف ، لا يمين الجارحة ، ( ذلك أدنى ) أقرب ، ( ألا تعولوا ) أي : لا تجوروا ولا تميلوا ، يقال : ميزان عائل ، أي : جائر مائل ، هذا قول أكثر المفسرين ، وقال مجاهد : أن لا تضلوا ، وقال الفراء : أن لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم ، وأصل العول : المجاوزة ، ومنه عول الفرائض ، وقال الشافعي رحمه الله : أن لا تكثر عيالكم ، وما قاله أحد ، إنما يقال من كثرة العيال : أعال يعيل إعالة ، إذا كثر عياله . وقال أبو حاتم : كان الشافعي رضي الله عنه أعلم بلسان العرب منا ولعله لغة ، ويقال : هي لغة حمير ، وقرأ طلحة بن مصرف ( " أن لا تعيلوا . . . " ) وهي حجة لقول الشافعي رضوان الله عليه .
( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ( 4 ) )
( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ) قال الكلبي ومجاهد : هذا الخطاب للأولياء ، وذلك أن ولي المرأة [ ص: 163 ] كان إذا زوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيرا ، وإن كان زوجها غريبا حملوها إليه على بعير ولم يعطوها من مهرها غير ذلك . فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله .
[ قال الحضرمي : كان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته ، ولا مهر بينهما ، فنهوا عن ذلك وأمروا بتسمية المهر في العقد . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن الشغار " .
والشغار : أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوج الرجل الآخر ابنته ، وليس بينهما صداق "
وقال الآخرون : الخطاب للأزواج أمروا بإيتاء نسائهم الصداق ، وهذا أصح ، لأن الخطاب فيما قبل مع الناكحين ، والصدقات : المهور ، واحدها صدقة ( نحلة ) قال قتادة : فريضة ، وقال ابن جريج : فريضة مسماة ، قال أبو عبيدة : ولا تكون النحلة إلا مسماة معلومة ، وقال الكلبي : عطية وهبة ، وقال أبو عبيدة : عن طيب نفس ] ، وقال الزجاج : تدينا .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا الليث ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج " .
( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ) يعني : فإن طابت نفوسهن بشيء من ذلك فوهبن منكم ، فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها فخرجت النفس مفسرا ، فلذلك وحد النفس ، كما قال الله تعالى : " وضاق بهم ذرعا " ( هود - 77 ) ( العنكبوت - 33 ) " وقري عينا " ( مريم - 26 ) وقيل : لفظها واحد ومعناها جمع ، ( فكلوه هنيئا مريئا ) سائغا طيبا ، يقال هنأ في الطعام يهنأ بفتح النون في الماضي وكسرها في الباقي ، وقيل : الهنأ : الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء ، والمريء : المحمود العاقبة التام [ ص: 164 ] الهضم الذي لا يضر ، قرأ أبو جعفر ( هنيا مريا ) بتشديد الياء فيهما من غير همز ، وكذلك " بري " ، " وبريون " ، " وبريا " " وكهية " والآخرون يهمزونها .
( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ( 5 ) )
قوله تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) اختلفوا في هؤلاء السفهاء فقال قوم : هم النساء ، وقال الضحاك : النساء من أسفه السفهاء ، وقال مجاهد : نهى الرجال أن يؤتوا النساء أموالهم وهن سفهاء ، من كن ، أزواجا أو بنات أو أمهات ، وقال آخرون : هم الأولاد ، قال الزهري : يقول لا تعط ولدك السفيه مالك الذي هو قيامك بعد الله تعالى فيفسده ، وقال بعضهم : هم النساء والصبيان ، وقال الحسن : هي امرأتك السفيهة وابنك السفيه ، وقال ابن عباس : لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك فيكونوا هم الذين يقومون عليك ، ثم تنظر إلى ما في أيديهم ، ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في رزقهم ومؤنتهم ، قال الكلبي : إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد فلا ينبغي أن يسلط واحدا منهما على ماله فيفسده . وقال سعيد بن جبير وعكرمة : هو مال اليتيم يكون عندك ، يقول لا تؤته إياه وأنفق عليه حتى يبلغ ، وإنما أضاف إلى الأولياء فقال : ( أموالكم ) لأنهم قوامها ومدبروها .
والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله هو المستحق للحجر عليه ، وهو أن يكون مبذرا في ماله أو مفسدا في دينه ، فقال جل ذكره : ( ولا تؤتوا السفهاء ) أي : الجهال بموضع الحق أموالكم التي جعل الله لكم قياما .
قرأ نافع وابن عامر ( قياما ) بلا ألف ، وقرأ الآخرون ( قياما ) وأصله : قواما ، فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وهو ملاك الأمر وما يقوم به الأمر . وأراد هاهنا قوام عيشكم الذي تعيشون به . قال الضحاك : به يقام الحج والجهاد وأعمال البر وبه فكاك الرقاب من النار .
( وارزقوهم فيها ) أي : أطعموهم ، ( واكسوهم ) لمن يجب عليكم رزقه ومؤنته ، وإنما قال ( فيها ) ولم يقل : منها ، لأنه أراد : اجعلوا لهم فيها رزقا فإن الرزق من الله : العطية من غير حد ، ومن العباد إجراء موقت محدود . ( وقولوا لهم قولا معروفا ) عدة جميلة ، وقال عطاء : إذا ربحت أعطيتك وإن غنمت جعلت لك حظا ، وقيل : هو الدعاء ، وقال ابن زيد : إن لم يكن ممن تجب عليكم نفقته ، فقل له : [ ص: 165 ] عافاك الله وإيانا ، بارك الله فيك ، وقيل : قولا لينا تطيب به أنفسهم .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (84)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 6 إلى الاية 9
( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ( 6 ) )
قوله تعالى : ( وابتلوا اليتامى ) الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه ، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتا وهو صغير ، فجاء عمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ( وابتلوا اليتامى ) اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحفظهم أموالهم ، ( حتى إذا بلغوا النكاح ) أي : مبلغ الرجال والنساء ، ( فإن آنستم ) أبصرتم ، ( منهم رشدا ) فقال المفسرون يعني : عقلا وصلاحا في الدين وحفظا للمال وعلما بما يصلحه . وقال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي : لا يدفع إليه ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده .
والابتلاء يختلف باختلاف أحوالهم فإن كان ممن يتصرف في السوق فيدفع الولي إليه شيئا يسيرا من المال وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في السوق فيتخبره في نفقة داره ، والإنفاق على عبيده وأجرائه ، وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها ، فإذا رأى حسن تدبيره ، وتصرفه في الأمور مرارا =يغلب على القلب رشده ، دفع المال إليه .
واعلم أن الله تعالى علق زوال الحجر عن الصغير وجواز دفع المال إليه بشيئين : بالبلوغ والرشد ، فالبلوغ يكون بأحد ( أشياء أربعة ) ، اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء ، واثنان تختصان بالنساء :
فما يشترك فيه الرجال والنساء أحدهما السن ، والثاني الاحتلام ، أما السن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة حكم ببلوغه غلاما كان أو جارية ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة ، فردني ، ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ، قال نافع : [ ص: 166 ] فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز ، فقال : هذا فرق بين المقاتلة والذرية ، وكتب أن يفرض لابن خمس عشرة سنة في المقاتلة ، ومن لم يبلغها في الذرية . وهذا قول أكثر أهل العلم .
وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة ، وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة .
وأما الاحتلام فنعني به نزول المني سواء كان بالاحتلام أو بالجماع ، أو غيرهما ، فإذا وجدت ذلك بعد استكمال تسع سنين من أيهما كان حكم ببلوغه ، لقوله تعالى : ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ في الجزية حين بعثه إلى اليمن : " خذ من كل حالم دينارا " .
وأما الإنبات ، وهو نبات الشعر الخشن حول الفرج : فهو بلوغ في أولاد المشركين ، لما روي عن عطية القرظي قال : كنت من سبي قريظة ، فكانوا ينظرون فمن =أنبت الشعر قتل ، ومن لم ينبت لم يقتل ، فكنت ممن لم ينبت .
وهل يكون ذلك بلوغا في أولاد المسلمين؟ فيه قولان ، أحدهما : يكون بلوغا كما في أولاد الكفار ، والثاني : لا يكون بلوغا لأنه يمكن الوقوف على مواليد المسلمين بالرجوع إلى آبائهم ، وفي الكفار لا يوقف على مواليدهم ، ولا يقبل قول آبائهم فيه لكفرهم ، فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغا في حقهم .
وأما ما يختص بالنساء : فالحيض والحبل ، فإذا حاضت المرأة بعد استكمال تسع سنين يحكم ببلوغها ، وكذلك إذا ولدت يحكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل .
وأما الرشد : فهو أن يكون مصلحا في دينه وماله ، فالصلاح في الدين هو أن يكون مجتنبا عن الفواحش والمعاصي التي تسقط العدالة ، والصلاح في المال هو أن لا يكون مبذرا ، والتبذير : هو أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية ، أو لا يحسن التصرف فيها ، فيغبن في البيوع فإذا بلغ الصبي وهو مفسد في دينه وغير مصلح لماله ، دام الحجر عليه ، ولا يدفع إليه ماله ولا ينفذ تصرفه .
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه إذا كان مصلحا لماله زال الحجر عنه وإن كان مفسدا في دينه ، وإذا [ ص: 167 ] كان مفسدا لماله قال : لا يدفع إليه المال حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة ، غير أن تصرفه يكون نافذا قبله . والقرآن حجة لمن استدام الحجر عليه ، لأن الله تعالى قال : ( حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد ، والفاسق لا يكون رشيدا وبعد بلوغه خمسا وعشرين سنة ، وهو مفسد لماله بالاتفاق غير رشيد ، فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن .
وإذا بلغ وأونس منه الرشد ، زال الحجر عنه ، ودفع إليه المال رجلا كان أو امرأة تزوج أو لم يتزوج .
وعند مالك رحمه الله تعالى : إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج ، فإذا تزوجت دفع إليها ، ولكن لا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج ، ما لم تكبر وتجرب .
فإذا بلغ الصبي رشيدا وزال الحجر عنه ثم عاد سفيها ، نظر : فإن عاد مبذرا لماله حجر عليه ، وإن عاد مفسدا في دينه فعلى وجهين : أحدهما : يعاد الحجر عليه كما يستدام الحجر عليه إذا بلغ بهذه الصفة ، والثاني : لا يعاد لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء .
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى : لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال ، والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة رضي الله عنهم ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين ألف درهم ، فقال علي : لآتين عثمان فلأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك [ فقال الزبير : أنا شريكك في بيعتك ، فأتى علي عثمان وقال : احجر على هذا ] ، فقال الزبير : أنا شريكه ، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير ، فكان ذلك اتفاقا منهم على جواز الحجر حتى احتال الزبير في دفعه .
قوله تعالى : ( ولا تأكلوها ) يا معشر الأولياء ( إسرافا ) بغير حق ، ( وبدارا ) أي مبادرة ( أن يكبروا ) ( أن ) في محل النصب ، يعني : لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذرا من أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم ، ثم بين ما يحل لهم من مالهم فقال : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) أي ليمتنع من مال اليتيم فلا يرزأه قليلا ولا كثيرا ، والعفة : الامتناع مما لا يحل ( ومن كان فقيرا ) محتاجا إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده فليأكل بالمعروف .
أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر السجزي ، أخبرنا الإمام أبو سليمان الخطابي ، أخبرنا أبو بكر بن داسة التمار ، أخبرنا أبو داؤد السجستاني ، أخبرنا حميد بن مسعدة ، أن خالد بن الحارث [ ص: 168 ] حدثهم أخبرنا حسين يعني المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم؟ فقال : " كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل " .
واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء؟ فذهب بعضهم إلى أنه يقضي إذا أيسر ، وهو المراد من قوله ( فليأكل بالمعروف ) فالمعروف القرض ، أي : يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه ، فإذا أيسر قضاه ، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم : إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت .
وقال الشعبي : لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة .
وقال قوم : لا قضاء عليه .
ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف ، فقال عطاء وعكرمة : يأكل بأطراف أصابعه ، ولا يسرف ولا يكتسي منه ، ولا يلبس الكتان ولا الحلل ، ولكن ما سد الجوعة ووارى العورة .
وقال الحسن وجماعة : يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه ، فأما الذهب والفضة فلا؛ فإن أخذ شيئا منه رده .
وقال الكلبي : المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم ، وليس له أن يأكل من ماله شيئا .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، أنه قال سمعت القاسم بن محمد يقول : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن لي يتيما وإن له إبلا أفأشرب من لبن إبله؟ فقال : إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب . [ ص: 169 ]
وقال بعضهم : والمعروف أن يأخذ من جميع ماله بقدر قيامه وأجرة عمله ، ولا قضاء عليه ، وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم .
قوله تعالى : ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ) هذا أمر إرشاد ، ليس بواجب ، أمر الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعدما بلغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة ، ( وكفى بالله حسيبا ) محاسبا ومجازيا وشاهدا .
( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ( 7 ) وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ( 8 ) )
قوله تعالى : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ) الآية ، نزلت في أوس بن ثابت الأنصاري ، توفي وترك امرأة يقال لها أم كجة وثلاث بنات له منها . فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه سويد وعرفجة ، فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا ، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغار ، وإن كان الصغير ذكرا وإنما كانوا يورثون الرجال ، ويقولون : لا نعطي إلا من قاتل وحاز الغنيمة ، فجاءت أم كجة فقالت : يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات وترك علي بنات وأنا امرأته ، وليس عندي ما أنفق عليهن ، وقد ترك أبوهن مالا حسنا ، وهو عند سويد وعرفجة ، ولم يعطياني ولا بناتي شيئا وهن في حجري ، لا يطعمن ولا يسقين ، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوا ، فأنزل الله عز وجل ، ( للرجال ) يعني : للذكور من أولاد الميت وأقربائه ( نصيب ) حظ ( مما ترك الوالدان والأقربون ) من الميراث ، ( وللنساء ) للإناث منهم ، ( نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه ) أي : من المال ، ( أو كثر ) منه ( نصيبا مفروضا ) نصب على القطع ، وقيل : جعل ذلك نصيبا فأثبت لهن الميراث ، ولم يبين كم هو ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة لا تفرقا من مال أوس بن ثابت شيئا ، فإن الله تعالى جعل لبناته نصيبا مما ترك ، ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل فيهن ، فأنزل الله تعالى ( يوصيكم الله في أولادكم ) فلما نزلت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة " أن ادفع إلى أم كجة الثمن مما ترك وإلى بناته الثلثين ، ولكما باقي المال . [ ص: 170 ]
قوله تعالى : ( وإذا حضر القسمة ) يعني : قسمة المواريث ، ( أولو القربى ) الذين لا يرثون ، ( واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ) أي : فارضخوا لهم من المال قبل القسمة ، ( وقولوا لهم قولا معروفا )
اختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : هي منسوخة ، وقال سعيد بن المسيب والضحاك : كانت هذه قبل آية الميراث ، فلما نزلت آية الميراث جعلت المواريث لأهلها ، ونسخت هذه الآية .
وقال الآخرون : هي محكمة ، وهو قول ابن عباس والشعبي والنخعي والزهري ، وقال مجاهد : هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم .
وقال الحسن : كانوا يعطون التابوت والأواني ورث الثياب والمتاع والشيء الذي يستحيا من قسمته .
وإن كان بعض الورثة طفلا فقد اختلفوا فيه ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : إن كانت الورثة كبارا رضخوا لهم ، وإن كانت صغارا اعتذروا إليهم ، فيقول الولي والوصي : إني لا أملك هذا المال إنما هو للصغار ، ولو كان لي منه شيء لأعطيتكم ، وإن يكبروا فسيعرفون حقوقكم ، هذا هو القول بالمعروف .
وقال بعضهم : ذلك حق واجب في أموال الصغار والكبار ، فإن كانوا كبارا تولوا إعطاءهم ، وإن كانوا صغارا أعطى وليهم . روى محمد بن سيرين أن عبيدة السلماني قسم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت فصنع طعاما لأهل هذه الآية ، وقال : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي .
وقال قتادة عن يحيى بن يعمر : ثلاث آيات محكمات مدنيات تركهن الناس ، هذه الآية وآية الاستئذان : ( ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ) ( النور - 58 ) الآية ، وقوله تعالى ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) ( الحجرات - 13 ) الآية .
وقال بعضهم - وهو أولى الأقاويل - : إن هذا على الندب والاستحباب ، لا على الحتم والإيجاب .
( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ( 9 ) )
قوله تعالى : ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا ) أولادا صغارا ، خافوا عليهم ، [ ص: 171 ] الفقر ، هذا في الرجل يحضره الموت ، فيقول من بحضرته : انظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئا ، قدم لنفسك ، أعتق وتصدق وأعط فلانا كذا وفلانا كذا ، حتى يأتي على عامة ماله ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، وأمرهم أن يأمروه أن ينظر لولده ولا يزيد في وصيته على الثلث ، ولا يجحف بورثته كما لو كان هذا القائل هو الموصي يسره أن يحثه من بحضرته على حفظ ماله لولده ، ولا يدعهم عالة مع ضعفهم وعجزهم .
وقال الكلبي : هذا الخطاب لولاة اليتامى يقول : من كان في حجره يتيم فليحسن إليه وليأت إليه في حقه ما يجب أن يفعل بذريته من بعده .
قوله تعالى : ( فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ) أي : عدلا والسديد : العدل ، والصواب من القول ، وهو أن يأمره بأن يتصدق بما دون الثلث ويخلف الباقي لولده .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (85)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 10 إلى الاية 14
( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ( 10 ) )
قوله تعالى : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) قال مقاتل بن حيان : نزلت في رجل من بني غطفان ، يقال له مرثد بن زيد ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله ، فأنزل الله تعالى فيه ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) حراما بغير حق ، ( إنما يأكلون في بطونهم نارا ) أخبر عن مآله ، أي عاقبته تكون كذلك ، ( وسيصلون سعيرا ) قراءة العامة بفتح الياء ، أي : يدخلونها يقال : صلي النار يصلاها صلا قال الله تعالى : " إلا من هو صالي الجحيم " ( الصافات - 163 ) ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بضم الياء ، أي : يدخلون النار ويحرقون ، نظيره قوله تعالى : " فسوف نصليه نارا " ( النساء - 30 ) " سأصليه سقر " ( المدثر - 26 ) وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رأيت ليلة أسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل ، إحداهما قالصة على منخريه والأخرى على بطنه ، وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما .
[ ص: 172 ] ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ( 11 ) )
قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) الآية ، اعلم أن الوراثة كانت في الجاهلية بالذكورة والقوة فكانوا يورثون الرجال دون النساء والصبيان ، فأبطل الله ذلك بقوله : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ) الآية ، وكانت أيضا في الجاهلية وابتداء الإسلام بالمحالفة ، قال الله تعالى : " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " ( النساء - 33 ) ثم صارت الوراثة بالهجرة ، قال الله تعالى " والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا " ( الأنفال - 72 ) فنسخ ذلك كله وصارت الوراثة بأحد الأمور الثلاثة بالنسب أو النكاح أو الولاء ، فالمعني بالنسب أن القرابة يرث بعضهم من بعض ، لقوله تعالى " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " ( الأحزاب - 6 ) ، والمعني بالنكاح : أن أحد الزوجين يرث صاحبه ، وبالولاء : أن المعتق وعصباته يرثون المعتق ، فنذكر بعون الله تعالى فصلا وجيزا في بيان من يرث من الأقارب ، وكيفية توريث الورثة فنقول :
إذا مات ميت وله مال فيبدأ بتجهيزه ثم بقضاء ديونه ثم بإنفاذ وصاياه فما فضل يقسم بين الورثة . ( ثم الورثة ) على ثلاثة أقسام : منهم من يرث بالفرض ومنهم من يرث بالتعصيب ، ومنهم من يرث بهما جميعا ، فمن يرث بالنكاح لا يرث إلا بالفرض ، ومن يرث بالولاء لا يرث إلا بالتعصيب ، أما من يرث بالقرابة فمنهم من يرث بالفرض كالبنات والأخوات والأمهات والجدات ، وأولاد الأم ، ومنهم من يرث بالتعصيب كالبنين والإخوة وبني الإخوة والأعمام وبنيهم ، ومنهم من يرث بهما كالأب يرث بالتعصيب إذا لم يكن للميت ولد ، فإن كان للميت ابن : يرث الأب بالفرض السدس ، وإن كان للميت بنت فيرث الأب السدس بالفرض ويأخذ الباقي بعد نصيب البنت بالتعصيب ، وكذلك الجد ، وصاحب التعصيب من يأخذ جميع المال عند الانفراد ويأخذ ما فضل عن أصحاب الفرائض .
وجملة الورثة سبعة عشر : عشرة من الرجال وسبع من النساء ، فمن الرجال : الابن وابن الابن وإن [ ص: 173 ] سفل والأب والجد أبو الأب وإن علا والأخ سواء كان لأب وأم أو لأب أو لأم ، وابن الأخ للأب والأم أو للأب وإن سفل والعم للأب والأم أو للأب وأبناؤهما وإن سفلوا ، والزوج ومولى العتاق ، ومن النساء البنت وبنت الابن وإن سفلت ، والأم والجدة أم الأم وأم الأب ، والأخت سواء كانت لأب وأم أو لأب أو لأم ، والزوجة ومولاة العتاق .
وستة من هؤلاء لا يلحقهم حجب الحرمان بالغير : الأبوان والولدان ، والزوجان ، لأنه ليس بينهم وبين الميت واسطة .
والأسباب التي توجب حرمان الميراث أربعة : اختلاف الدين ، والرق ، والقتل وعمي الموت .
ونعني باختلاف الدين أن الكافر لا يرث المسلم والمسلم لا يرث الكافر ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أنا ابن عيينة عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " .
فأما الكفار فيرث بعضهم من بعض مع اختلاف مللهم ، لأن الكفر كله ملة واحدة ، لقوله تعالى : " والذين كفروا بعضهم أولياء بعض " ( الأنفال - 73 ) .
وذهب بعضهم إلى أن اختلاف الملل في الكفر يمنع التوارث حتى لا يرث اليهودي النصراني ولا النصراني المجوسي ، وإليه ذهب الزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يتوارث أهل ملتين شتى " ، وتأوله الآخرون على الإسلام مع الكفر فكله ملة واحدة فتوريث بعضهم من بعض لا يكون فيه إثبات التوارث بين أهل ملتين شتى .
والرقيق لا يرث أحدا ولا يرثه أحد لأنه لا ملك له ، ولا فرق فيه بين القن والمدبر والمكاتب وأم الولد .
والقتل يمنع الميراث عمدا كان أو خطأ لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه [ ص: 174 ] قال : " القاتل لا يرث " .
ونعني بعمي الموت أن المتوارثين إذا عمي موتهما بأن غرقا في ماء أو انهدم عليهما بناء فلم يدر أيهما سبق موته فلا يورث أحدهما من الآخر ، بل ميراث كل واحد منهما لمن كانت حياته يقينا بعد موته من ورثته .
والسهام المحدودة في الفرائض ستة : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس .
فالنصف فرض ثلاثة : فرض الزوج عند عدم الولد وفرض البنت الواحدة للصلب أو بنت الابن عند عدم ولد الصلب ، وفرض الأخت الواحدة للأب والأم أو للأب إذا لم يكن ولد لأب وأم .
والربع فرض الزوج إذا كان للميتة ولد وفرض الزوجة إذا لم يكن للميت ولد .
والثمن : فرض الزوجة إذا كان للميت ولد .
والثلثان فرض البنتين للصلب فصاعدا ولبنتي الابن فصاعدا عند عدم ولد الصلب ، وفرض الأختين لأب وأم أو للأب فصاعدا .
والثلث فرض ثلاثة : فرض الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا اثنان من الأخوات والإخوة ، إلا في مسألتين : إحداهما زوج وأبوان ، والثانية زوجة وأبوان ، فإن للأم فيهما ثلث ما بقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة ، وفرض الاثنين فصاعدا من أولاد الأم ، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء ، وفرض الجد مع الإخوة إذ لم يكن في المسألة صاحب فرض ، وكان الثلث خيرا للجد من المقاسمة مع الإخوة .
وأما السدس ففرض سبعة : فرض الأب إذا كان للميت ولد ، وفرض الأم إذا كان للميت ولد أو اثنان من الإخوة والأخوات ، وفرض الجد إذا كان للميت ولد ومع الإخوة والأخوات إذا كان في المسألة صاحب فرض ، وكان السدس خيرا للجد من المقاسمة مع الإخوة ، وفرض الجدة والجدات وفرض الواحد من أولاد الأم ذكرا أو أنثى ، وفرض بنات الابن إذا كان للميت بنت واحدة للصلب تكملة الثلثين ، وفرض الأخوات للأب إذا كان للميت أخت واحدة لأب وأم تكملة الثلثين . [ ص: 175 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم ، أنا وهيب أنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر " .
وفي الحديث دليل على أن بعض الورثة يحجب البعض ، والحجب نوعان حجب نقصان وحجب حرمان :
فأما حجب النقصان فهو أن الولد وولد الابن يحجب الزوج من النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن ، والأم من الثلث إلى السدس ، وكذلك الاثنان فصاعدا من الإخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس .
وحجب الحرمان هو أن الأم تسقط الجدات ، وأولاد الأم - وهم الإخوة والأخوات للأم - يسقطون بأربعة : بالأب والجد وإن علا وبالولد وولد الابن وإن سفل ، وأولاد الأب والأم يسقطون بثلاثة بالأب والابن وابن الابن وإن سفلوا ، ولا يسقطون بالجد على مذهب زيد بن ثابت ، وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم ، وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله .
وأولاد الأب يسقطون بهؤلاء الثلاثة وبالأخ للأب والأم ، وذهب قوم إلى أن الإخوة جميعا يسقطون بالجد كما يسقطون بالأب ، وهو قول أبي بكر الصديق وابن عباس ومعاذ وأبي الدرداء وعائشة رضي الله عنهم ، وبه قال الحسن وعطاء وطاوس وأبو حنيفة رحمهم الله .
وأقرب العصبات يسقط الأبعد من العصوبة ، وأقربهم الابن ثم ابن الابن وإن سفل ، ثم الأب ثم الجد أبو الأب وإن علا فإن كان مع الجد أحد من الإخوة أو الأخوات للأب والأم أو للأب فيشتركان في الميراث ، فإن لم يكن جد فالأخ للأب والأم ثم الأخ للأب ثم بنو الإخوة يقدم أقربهم سواء كان لأب وأم أو لأب ، فإن استويا في الدرجة فالذي هو لأب وأم أولى ثم العم للأب والأم ثم العم للأب ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة ، ثم عم الأب ثم عم الجد على هذا الترتيب .
فإن لم يكن أحد من عصبات النسب وعلى الميت ولاء فالميراث للمعتق ، فإن لم يكن حيا فلعصبات المعتق .
وأربعة من الذكور يعصبون الإناث ، الابن وابن الابن والأخ للأب والأم والأخ للأب ، حتى لو مات عن ابن وبنت أو عن أخ وأخت لأب وأم أو لأب فإنه يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ، ولا يفرض [ ص: 176 ] للبنت والأخت .
وكذلك ابن الابن يعصب من في درجته من الإناث ، ومن فوقه إذا لم يأخذ من الثلثين شيئا حتى لو مات عن بنتين وبنت ابن فللبنتين الثلثان ولا شيء لبنت الابن ، فإن كان في درجتها ابن ابن أو أسفل منها ابن ابن ابن كان الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين .
والأخت للأب والأم وللأب تكون عصبة مع البنت حتى لو مات عن بنت وأخت كان النصف للبنت والباقي للأخت ، فلو مات عن بنتين وأخت فللبنتين الثلثان والباقي للأخت .
والدليل عليه ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا آدم ، أنا شعبة ، أنا أبو قيس ، قال : سمعت هذيل بن شرحبيل قال : سئل أبو موسى عن ابنة وبنت ابن وأخت فقال : للبنت النصف وللأخت النصف ، وائت ابن مسعود فسيتابعني فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم : للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت ، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود رضي الله عنه ، فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم .
رجعنا إلى تفسير الآية : واختلفوا في سبب نزولها . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو الوليد ، أنا شعبة عن محمد بن المنكدر : سمعت جابرا يقول جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب علي من وضوئه فعقلت ، فقلت : يا رسول الله لمن الميراث إنما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض .
وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كجة امرأة أوس بن ثابت وبناته .
وقال عطاء : استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أحد وترك امرأة وبنتين وأخا ، فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتي سعد [ فقالت : يا رسول الله إن هاتين ابنتا سعد وإن سعدا قتل يوم أحد شهيدا ، وإن عمهما أخذ مالهما ولا تنكحان إلا ولهما مال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك " ، فنزل ( يوصيكم الله ) إلى آخرها ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمهما فقال له : " أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك " ، فهذا أول ميراث قسم في الإسلام . [ ص: 177 ]
قوله عز وجل : ( يوصيكم الله في أولادكم ) أي : يعهد إليكم ويفرض عليكم في أولادكم ، أي : في أمر أولادكم إذا متم ، للذكر مثل حظ الأنثيين . ( فإن كن ) يعني : المتروكات من الأولاد ، ( نساء فوق اثنتين ) أي : ابنتين فصاعدا ( فوق ) صلة ، كقوله تعالى : " فاضربوا فوق الأعناق " ( الأنفال - 12 ) ، ( فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت ) يعني : البنت ، ( واحدة ) قراءة العامة بالنصب على خبر كان ، ورفعها أهل المدينة على معنى : إن وقعت واحدة ، ( فلها النصف ولأبويه ) يعني لأبوي الميت ، كناية عن غير مذكور ، ( لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ) أراد أن الأب والأم يكون لكل واحد منهما سدس الميراث عند وجود الولد أو ولد الابن ، والأب يكون صاحب فرض ( فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ) قرأ حمزة والكسائي ( فلأمه ) بكسر الهمزة استثقالا للضمة بعد الكسرة ، وقرأ الآخرون بالضم على الأصل ( فإن كان له إخوة ) اثنان أو أكثر ذكورا أو إناثا ( فلأمه السدس ) والباقي يكون للأب إن كان معها أب ، والإخوة لا ميراث لهم مع الأب ، ولكنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لا يحجب الإخوة الأم من الثلث إلى السدس إلا أن يكونوا ثلاثة ، وقد تفرد به ، وقال : لأن الله تعالى قال : ( فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) ولا يقال للاثنين إخوة ، فنقول اسم الجمع قد يقع على التثنية لأن الجمع ضم شيء إلى شيء وهو موجود في الاثنين كما قال الله تعالى : " فقد صغت قلوبكما " ( التحريم - 4 ) ذكر القلب بلفظ الجمع ، وأضافه إلى الاثنين
قوله تعالى : ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر ( يوصي ) بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله ، وكذلك الثانية ، ووافق حفص في الثانية ، وقرأ الآخرون بكسر الصاد لأنه جرى ذكر الميت من قبل ، بدليل قوله تعالى : ( من بعد وصية يوصين بها ) و ( توصون )
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه " إنكم تقرءون الوصية قبل الدين ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية " . وهذا إجماع أن الدين مقدم على الوصية . ومعنى الآية الجمع لا الترتيب ، وبيان أن [ ص: 178 ] الميراث مؤخر عن الدين والوصية جميعا ، معناه : من بعد وصية إن كانت ، أو دين إن كان ، فالإرث مؤخر عن كل واحد منهما .
( آباؤكم وأبناؤكم ) يعني : الذين يرثونكم آباؤكم وأبناؤكم ، ( لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) أي : لا تعلمون أنهم أنفع لكم في الدين والدنيا فمنكم من يظن أن الأب أنفع له ، فيكون الابن أنفع له ، ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له ، وأنا العالم بمن هو أنفع لكم ، وقد دبرت أمركم على ما فيه المصلحة فاتبعوه ، وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أطوعكم لله عز وجل من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة ، والله تعالى يشفع المؤمنين بعضهم في بعض ، فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة رفع إليه ولده وإن كان الولد أرفع درجة رفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم ، ( فريضة من الله ) أي : ما قدر من المواريث ، ( إن الله كان عليما ) بأمور العباد ، ( حكيما ) بنصب الأحكام .
( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم ( 12 ) )
قوله تعالى : ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ) وهذا في ميراث الأزواج ، ( ولهن الربع ) يعني : للزوجات الربع ، ( مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين ) هذا في ميراث الزوجات وإذا كان للرجل أربع نسوة فهن يشتركن في الربع والثمن .
قوله تعالى : ( وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ) تورث كلالة ، ونظم الآية : وإن كان رجل أو [ ص: 179 ] امرأة يورث كلالة وهو نصب على المصدر ، وقيل : على خبر ما لم يسم فاعله ، وتقديره : إن كان رجل يورث ماله كلالة .
واختلفوا في الكلالة فذهب أكثر الصحابة إلى أن الكلالة من لا ولد له ولا والد له . وروي عن الشعبي قال : سئل أبو بكر رضي الله عنه عن الكلالة فقال : إني سأقول فيها قولا برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ، أراه ما خلا الوالد والولد ، فلما استخلف عمر رضي الله عنهما قال : إني لأستحيي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر رضي الله عنه .
وذهب طاوس إلى أن الكلالة من لا ولد له ، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وأحد القولين عن عمر رضي الله عنه ، واحتج من ذهب إلى هذا بقول الله تعالى : ( قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد ) وبيانه عند العامة مأخوذ من حديث جابر بن عبد الله ، لأن الآية نزلت فيه ولم يكن له يوم نزولها أب ولا ابن ، لأن أباه عبد الله بن حرام قتل يوم أحد ، وآية الكلالة نزلت في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فصار شأن جابر بيانا لمراد الآية لنزولها فيه .
واختلفوا في أن الكلالة اسم لمن؟ منهم من قال : اسم للميت ، وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما ، لأنه مات عن ذهاب طرفيه ، فكل عمود نسبه ، ومنهم من قال : اسم للورثة ، وهو قول سعيد بن جبير ، لأنهم يتكللون الميت من جوانبه ، وليس في عمود نسبه أحد ، كالإكليل يحيط بالرأس ووسط الرأس منه خال ، وعليه يدل حديث جابر رضي الله عنه حيث قال : إنما يرثني كلالة ، أي : يرثني ورثة ليسوا بولد ولا والد .
وقال النضر بن شميل : الكلالة اسم للمال ، وقال أبو الخير : سأل رجل عقبة عن الكلالة فقال : ألا تعجبون من هذا يسألني عن الكلالة ، وما أعضل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما أعضلت بهم الكلالة .
وقال عمر رضي الله عنه " ثلاث لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بينهن لنا أحب إلينا من الدنيا وما فيها : الكلالة والخلافة وأبواب الربا " .
وقال معدان بن أبي طلحة : خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة ، ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة ، وما أغلظ لي في [ ص: 180 ] شيء ما أغلظ لي في الكلالة ، حتى طعن بأصبعه في صدري قال : " يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء " وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن .
وقوله ألا تكفيك آية الصيف؟ أراد : أن الله عز وجل أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول سورة النساء والأخرى في الصيف ، وهي التي في آخرها ، وفيها من البيان ما ليس في آية الشتاء ، فلذلك أحاله عليها .
قوله تعالى : ( وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ) أراد به الأخ والأخت من الأم بالاتفاق ، قرأ سعد بن أبي وقاص " وله أخ أو أخت من أم " ولم يقل لهما مع ذكر الرجل والمرأة من قبل ، على عادة العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما ، وكانا في الحكم سواء ربما أضافت إلى أحدهما ، وربما أضافت إليهما ، كقوله تعالى : " واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة " ( البقرة - 153 ) ، ( فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ) فيه إجماع أن أولاد الأم إذا كانوا اثنين فصاعدا يشتركون في الثلث ذكرهم وأنثاهم ، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته : ألا إن الآية التي أنزل الله تعالى في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد . والآية الثانية في الزوج والزوجة والإخوة من الأم ، والآية التي ختم بها سورة النساء في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، ( من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ) أي : غير مدخل الضرر على الورثة بمجاوزته الثلث في الوصية ، قال الحسن هو أن يوصي بدين ليس عليه ، ( وصية من الله والله عليم حليم ) قال قتادة : كره الله الضرار في الحياة وعند الموت ، ونهى عنه وقدم فيه .
( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ( 13 ) ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ( 14 ) )
( تلك حدود الله ) يعني : ما ذكر من الفروض المحدودة ، ( ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم )
( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ) قرأ أهل [ ص: 181 ] المدينة وابن عامر " ندخله جنات ، وندخله نارا " ، وفي سورة الفتح ( ندخله ) و ( نعذبه ) وفي سورة التغابن ( نكفر ) و ( ندخله ) وفي سورة الطلاق ( ندخله ) بالنون فيهن ، وقرأ الآخرون بالياء .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (86)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 15 إلى الاية 19
( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ( 15 ) )
قوله عز وجل : ( واللاتي يأتين الفاحشة ) يعني : الزنا ، ( من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ) يعني : من المسلمين ، وهذا خطاب للحكام ، أي : فاطلبوا عليهن أربعة من الشهود ، وفيه بيان أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة من الشهود . ( فإن شهدوا فأمسكوهن ) فاحبسوهن ، ( في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) وهذا كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود ، كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ، ثم نسخ ذلك في حق البكر بالجلد والتغريب ، وفي حق الثيب بالجلد والرجم .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أخبرنا الشافعي رضي الله عنه أخبرنا عبد الوهاب عن يونس عن الحسن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خذوا عني خذوا عني : قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " ، قال الشافعي رضي الله عنه : وقد حدثني الثقة أن الحسن كان يدخل بينه وبين عبادة حطان الرقاشي ، ولا أدري أدخله عبد الوهاب بينهما فنزل عن كتابي أم لا .
قال شيخنا الإمام : الحديث صحيح رواه مسلم بن الحجاج عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله عن عبادة ، ثم نسخ الجلد في حق الثيب وبقي الرجم عند أكثر أهل العلم .
وذهب طائفة إلى أنه يجمع بينهما . روي عن علي رضي الله عنه : أنه جلد شراحة الهمدانية يوم [ ص: 182 ] الخميس مائة ثم رجمها يوم الجمعة ، وقال : " جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وعامة العلماء على أن الثيب لا يجلد مع الرجم لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما .
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : التغريب أيضا منسوخ في حق البكر . وأكثر أهل العلم على أنه ثابت ، روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب ، وأن أبا بكر رضي الله عنه ضرب وغرب ، وأن عمر رضي الله عنه ضرب وغرب .
واختلفوا في أن الإمساك في البيت كان حدا فنسخ أم كان حبسا ليظهر الحد؟ على قولين .
( واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ( 16 ) )
قوله تعالى : ( واللذان يأتيانها منكم ) يعني : الرجل والمرأة ، والهاء راجعة إلى الفاحشة ، قرأ ابن كثير " اللذان ، واللذين ، وهاتان ، وهذان " مشددة النون للتأكيد ، ووافقه أهل البصرة في ( فذانك ) والآخرون بالتخفيف ، قال أبو عبيد : خص أبو عمرو ( فذانك ) بالتشديد لقلة الحروف في الاسم ( فآذوهما ) قال عطاء وقتادة : فعيروهما باللسان : أما خفت الله؟ أما استحييت من الله حيث زنيت؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما : سبوهما واشتموهما ، قال ابن عباس : هو باللسان واليد يؤذى بالتعيير وضرب النعال .
فإن قيل : ذكر الحبس في الآية الأولى وذكر في هذه الآية الإيذاء ، فكيف وجه الجمع؟ . قيل : الآية الأولى في النساء وهذه في الرجال ، وهو قول مجاهد ، وقيل : الآية الأولى في الثيب وهذه في البكر .
( فإن تابا ) من الفاحشة ( وأصلحا ) العمل فيما بعد ، ( فأعرضوا عنهما ) فلا تؤذوهما ، ( إن الله كان توابا رحيما )
وهذا كله كان قبل نزول الحدود ، فنسخت بالجلد والرجم ، فالجلد في القرآن قال الله تعالى : " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " ( النور - 2 ) والرجم في السنة . أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود ، عن أبي هريرة وزيد بن [ ص: 183 ] خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما أخبراه أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : اقض يا رسول الله بيننا بكتاب الله ، وقال الآخر وكان أفقههما : أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله ، وائذن لي أن أتكلم ، قال : تكلم ، قال : إن ابني كان عسيفا على هذا ، فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم ، فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب سنة ، وإنما الرجم على امرأته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فرد عليك ، وجلد ابنه مائة وغربه عاما ، وأمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها " فاعترفت ، فرجمها .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال : قال عمر رضي الله عنه " أن الله تعالى بعث محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله تعالى آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله تعالى ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى ، والرجم في كتاب الله تعالى حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف " .
وجملة حد الزنا : أن الزاني إذا كان محصنا - وهو الذي اجتمع فيه أربعة أوصاف : العقل والبلوغ والحرية والإصابة بالنكاح الصحيح - فحده الرجم ، مسلما كان أو ذميا ، وهو المراد من الثيب المذكور في الحديث ، وذهب أصحاب الرأي إلى أن الإسلام من شرائط الإحصان ، ولا يرجم الذمي ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديين زنيا ، وكانا قد أحصنا .
وإن كان الزاني غير محصن بأن لم تجتمع فيه هذه الأوصاف نظر : إن كان غير بالغ أو كان مجنونا فلا حد عليه ، وإن كان حرا عاقلا بالغا ، غير أنه لم يصب بنكاح صحيح فعليه جلد مائة وتغريب عام ، وإن كان عبدا فعليه جلد خمسين ، وفي تغريبه قولان ، إن قلنا يغرب ، فيه قولان ، أصحهما نصف سنة ، كما يجلد خمسين على نصف حد الحر .
[ ص: 184 ] ( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ( 17 ) )
قوله تعالى : ( إنما التوبة على الله ) قال الحسن : يعني التوبة التي يقبلها ، فيكون على بمعنى عند ، وقيل : من الله ، ( للذين يعملون السوء بجهالة ) قال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي به الله فهو جهالة عمدا كان أو لم يكن ، وكل من عصى الله فهو جاهل . وقال مجاهد : المراد من الآية : العمد ، قال الكلبي : لم يجهل أنه ذنب لكنه جهل عقوبته ، وقيل : معنى الجهالة : اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية .
( ثم يتوبون من قريب ) قيل : معناه قبل أن يحيط السوء بحسناته فيحبطها ، وقال السدي والكلبي : القريب : أن يتوب في صحته قبل مرض موته ، وقال عكرمة : قبل الموت ، وقال الضحاك : قبل معاينة ملك الموت .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، أنا علي بن الجعد ، أنا ابن ثوبان وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول ، عن جبير بن نفير ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " .
وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنا حميد بن زنجويه ، أنا أبو الأسود ، أنا ابن لهيعة ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان قال : وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الرب : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني " . [ ص: 185 ]
قوله تعالى : ( فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ) .
( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ( 18 ) يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ( 19 ) )
( وليست التوبة للذين يعملون السيئات ) يعني : المعاصي ( حتى إذا حضر أحدهم الموت ) ووقع في النزع ، ( قال إني تبت الآن ) وهي حالة السوق حين تساق روحه ، لا يقبل من كافر إيمان ولا من عاص توبة ، قال الله تعالى : " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا " ( غافر - 85 ) ، ولذلك لم ينفع إيمان فرعون حين أدركه الغرق . ( ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا ) أي : هيأنا وأعددنا ، ( لهم عذابا أليما )
( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) نزلت في أهل المدينة كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام ، إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فألقى ثوبه على تلك المرأة وعلى خبائها ، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره ، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها ، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج يضارها لتفتدي منه بما ورثته من الميت ، أو تموت هي فيرثها ، فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبه فهي أحق بنفسها ، فكانوا على هذا حتى توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية ، فقام ابن له من غيرها يقال له حصن ، وقال مقاتل بن حيان : اسمه قيس بن أبي قيس ، فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ، ثم تركها ولم ينفق عليها ، يضارها لتفتدي منه ، فأتت كبيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أبا قيس توفي وورث نكاحي ابنه فلا هو ينفق علي ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي ، فقال : " اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله " ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : [ ص: 186 ]
( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) .
قرأ حمزة والكسائي : كرها بضم الكاف ، هاهنا وفي التوبة وقرأ الباقون بالفتح ، قال الكسائي : هما لغتان . قال الفراء : الكره بالفتح ما أكره عليه ، وبالضم ما كان من قبل نفسه من المشقة .
( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) أي : لا تمنعوهن من الأزواج لتضجر فتفتدي ببعض مالها ، قيل : هذا خطاب لأولياء الميت ، والصحيح أنه خطاب للأزواج .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا في الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي وترد إليه ما ساق إليها من المهر ، فنهى الله تعالى عن ذلك ، ثم قال : ( إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) فحينئذ يحل لكم إضرارهن ليفتدين منكم .
واختلفوا في الفاحشة ، قال ابن مسعود وقتادة : هي النشوز ، وقال بعضهم وهو قول الحسن : هي الزنا ، يعني : المرأة إذا نشزت ، أو زنت حل للزوج أن يسألها الخلع ، وقال عطاء : كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها ، فنسخ الله تعالى ذلك بالحدود .
وقرأ ابن كثير وأبو بكر " مبينة ومبينات " بفتح الياء ، ووافق أهل المدينة والبصرة في " مبينات " والباقون بكسرها ، .
( وعاشروهن بالمعروف ) قال الحسن : رجع إلى أول الكلام ، يعني ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ( وعاشروهن بالمعروف ) والمعاشرة بالمعروف : هي الإجمال في القول والمبيت والنفقة ، وقيل : هو أن يتصنع لها كما تتصنع له ، ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) قيل : هو ولد صالح ، أو يعطفه الله عليها .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (87)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 20 إلى الاية 24
( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ( 20 ) )
( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ) أراد بالزوج الزوجة ولم يكن من قبلها نشوز ولا فاحشة ، ( وآتيتم إحداهن قنطارا ) وهو المال الكثير ، صداقا ، ( فلا تأخذوا منه ) من القنطار ، ( شيئا أتأخذونه ) استفهام بمعنى التوبيخ ، ( بهتانا وإثما مبينا ) انتصابهما من وجهين أحدهما بنزع الخافض ، والثاني بالإضمار تقديره : تصيبون في أخذه بهتانا وإثما ثم قال : ( وكيف تأخذونه ) [ ص: 187 ] ( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ( 21 ) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ( 22 ) )
( وكيف تأخذونه ) على طريق الاستعظام ، ( وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) أراد به المجامعة ، ولكن الله حيي يكني ، وأصل الإفضاء : الوصول إلى الشيء من غير واسطة .
( وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة : هو قول الولي عند العقد : زوجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، وقال الشعبي وعكرمة : هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله تعالى واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى " .
قوله عز وجل : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) كان أهل الجاهلية ينكحون أزواج آبائهم ، قال الأشعث بن سوار : توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت : إني اتخذتك ولدا وأنت من صالحي قومك ، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره ، فأتته فأخبرته ، فأنزل الله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) ، قيل : بعد ما سلف ، وقيل : معناه لكن ما سلف ، أي : ما مضى في الجاهلية فهو معفو عنه ، ( إنه كان فاحشة ) أي : إنه فاحشة ، و " كان " فيه صلة ، والفاحشة أقبح المعاصي ، ( ومقتا ) أي : يورث مقت الله ، والمقت : أشد البغض ، ( وساء سبيلا ) وبئس ذلك طريقا وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه ( مقيت ) وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية .
أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمرو السجزي ، أنا الإمام أبو سليمان الخطابي ، أنا أحمد بن هشام الحضرمي ، أنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، عن حفص بن غياث ، عن أشعث بن سوار ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب قال : مر بي خالي ومعه لواء فقلت : أين تذهب؟ قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه " .
[ ص: 188 ] ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ( 23 ) )
قوله تعالى : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) الآية ، بين الله تعالى في هذه الآية المحرمات بسبب الوصلة ، وجملة المحرمات في كتاب الله تعالى أربع عشرة : سبع بالنسب ، وسبع بالسبب .
فأما السبع بالسبب فمنها اثنتان بالرضاع وأربع بالصهرية والسابعة المحصنات ، وهن ذوات الأزواج .
وأما السبع بالنسب فقوله تعالى : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) وهي جمع أم فيدخل فيهن الجدات وإن علون من قبل الأم ومن قبل الأب ، ( وبناتكم ) جمع : البنت ، فيدخل فيهن بنات الأولاد وإن سفلن ، ( وأخواتكم ) جمع الأخت سواء كانت من قبل الأب والأم أو من قبل أحدهما ، ( وعماتكم ) جمع العمة ، ويدخل فيهن جميع أخوات آبائك وأجدادك وإن علون ، ( وخالاتكم ) جمع خالة ، ويدخل فيهن جميع أخوات أمهاتك وجداتك ، ( وبنات الأخ وبنات الأخت ) ويدخل فيهن بنات أولاد الأخ والأخت وإن سفلن ، وجملته : أنه يحرم على الرجل أصوله وفصوله وفصول أول أصوله وأول فصل من كل أصل بعده ، والأصول هي الأمهات والجدات ، والفصول البنات وبنات الأولاد ، وفصول أول أصوله هي الأخوات وبنات الإخوة والأخوات ، وأول فصل من كل أصل بعده هن العمات والخالات وإن علون .
وأما المحرمات بالرضاع فقوله تعالى : ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ) [ ص: 189 ]
وجملته : أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ، أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن سليمان بن يسار عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، قال : أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة ، فقالت عائشة رضي الله عنها فقلت : يا رسول الله لو كان فلان حيا - لعمها من الرضاعة - أيدخل علي؟ فقال رسول الله صلى الله نعم إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة .
وإنما تثبت حرمة الرضاع بشرطين أحدهما : أن يكون قبل استكمال المولود حولين ، لقوله تعالى " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ( البقرة - 233 ) وروي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء " . وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم " ، وإنما يكون هذا في حال الصغر .
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : مدة الرضاع ثلاثون شهرا ، لقوله تعالى : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " ( الأحقاف - 15 ) ، وهو عند الأكثرين لأقل مدة الحمل ، وأكثر مدة الرضاع وأقل مدة الحمل ستة أشهر .
والشرط الثاني أن يوجد خمس رضعات متفرقات ، يروى ذلك عن عائشة رضي الله عنها ، وبه قال عبد الله بن الزبير وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى .
وذهب أكثر أهل العلم إلى أن قليل الرضاع وكثيره يحرم ، وهو قول ابن عباس وابن عمر ، وبه قال [ ص: 190 ] سعيد بن المسيب وإليه ذهب سفيان الثوري ، ومالك ، والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وأصحاب الرأي .
واحتج من ذهب إلى أن القليل لا يحرم بما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنا أنس بن عياض ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحرم المصة من الرضاع والمصتان " هكذا روى بعضهم هذا الحديث ، ورواه عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الصحيح .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت : كان فيما أنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن .
وأما المحرمات بالصهرية فقوله : ( وأمهات نسائكم ) وجملته : أن كل من عقد النكاح على امرأة تحرم على الناكح أمهات المنكوحة وجداتها وإن علون من الرضاعة والنسب بنفس العقد .
( وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ) والربائب جمع : ربيبة : وهي بنت المرأة ، سميت ربيبة لتربيته إياها ، وقوله : ( في حجوركم ) أي : في تربيتكم ، يقال : فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته ، ( دخلتم بهن ) أي : جامعتموهن .
ويحرم عليه أيضا بنات المنكوحة وبنات أولادها ، وإن سفلن من الرضاع والنسب بعد الدخول بالمنكوحة ، حتى لو فارق المنكوحة قبل الدخول بها أو ماتت جاز له أن ينكح بنتها ، [ ولا يجوز له أن ينكح أمها ] لأن الله تعالى أطلق تحريم الأمهات وقال في تحريم الربائب .
( فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ) يعني : في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن أو متن ، وقال علي رضي الله عنه : أم المرأة لا تحرم إلا بالدخول بالبنت كالربيبة .
( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) يعني : أزواج أبنائكم ، واحدتها : حليلة ، والذكر حليل ، [ ص: 191 ] سميا بذلك لأن كل واحد منهما [ حلال لصاحبه ، وقيل : سميا بذلك لأن كل واحد منهما ] يحل حيث يحل صاحبه من الحلول وهو النزول ، وقيل : إن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه من الحل وهو ضد العقل .
وجملته : أنه يحرم على الرجل حلائل أبنائه وأبناء أولاده وإن سفلوا من الرضاع والنسب بنفس العقد ، وإنما قال " من أصلابكم " ليعلم أن حليلة المتبنى لا تحرم على الرجل الذي تبناه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة زيد بن حارثة ، وكان زيد تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والرابع من المحرمات بالصهرية : حليلة الأب والجد وإن علا فيحرم على الولد وولد الولد بنفس العقد سواء كان الأب من الرضاع أو من النسب ، لقوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) وقد سبق ذكره .
وكل امرأة تحرم عليك بعقد النكاح تحرم بالوطء في ملك اليمين ، والوطء بشبهة النكاح ، حتى لو وطئ امرأة بالشبهة أو جارية بملك اليمين فتحرم على الواطئ أم الموطوءة وابنتها وتحرم الموطوءة على أب الواطئ وعلى ابنه .
ولو زنى بامرأة فقد اختلف فيه أهل العلم : فذهبت جماعة إلى أنه لا تحرم على الزاني أم المزني بها وابنتها ، وتحرم الزانية على أب الزاني وابنه ، وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال سعيد بن المسيب وعروة والزهري ، وإليه ذهب مالك والشافعي رحمهم الله تعالى .
وذهب قوم إلى التحريم ، يروى ذلك عن عمران بن حصين وأبي هريرة رضي الله عنهما ، وبه قال جابر بن زيد والحسن وهو قول أصحاب الرأي .
ولو لمس امرأة بشهوة أو قبلها ، فهل يجعل ذلك كالدخول في إثبات حرمة المصاهرة؟ وكذلك لو لمس امرأة بشهوة فهل يجعل كالوطء في تحريم الربيبة؟ فيه قولان ، أصحهما وهو قول أكثر أهل العلم : أنه تثبت به الحرمة ، والثاني : لا تثبت كما لا تثبت بالنظر بالشهوة .
قوله تعالى : ( وأن تجمعوا بين الأختين ) لا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في النكاح سواء كانت الأخوة بينهما بالنسب أو بالرضاع ، فإذا نكح امرأة ثم طلقها بائنا جاز له نكاح أختها ، وكذلك لو ملك أختين بملك اليمين لم يجز له أن يجمع بينهما في الوطء ، فإذا وطئ إحداهما لم يحل له وطء الأخرى حتى يحرم الأولى على نفسه .
وكذلك لا يجوز أن يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها ، لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، [ ص: 192 ] أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يجمع بين المرأة وعمتها ، ولا بين المرأة وخالتها " .
قوله تعالى : ( إلا ما قد سلف ) يعني : لكن ما مضى فهو معفو عنه ، لأنهم كانوا يفعلونه قبل الإسلام ، وقال عطاء والسدي : إلا ما كان من يعقوب عليه السلام فإنه جمع بين ليا أم يهوذا وراحيل أم يوسف ، وكانتا أختين . ( إن الله كان غفورا رحيما ) .
( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما ( 24 ) )
قوله تعالى : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) يعني : ذوات الأزواج ، لا يحل للغير نكاحهن قبل مفارقة الأزواج ، وهذه السابعة من النساء اللاتي حرمت بالسبب .
قال أبو سعيد الخدري : نزلت في نساء كن يهاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواج فيتزوجهن بعض المسلمين ، ثم قدم أزواجهن مهاجرين فنهى الله المسلمين عن نكاحهن ، ثم استثنى فقال : ( إلا ما ملكت أيمانكم ) يعني : السبايا اللواتي سبين ولهن أزواج في دار الحرب فيحل لمالكهن وطؤهن بعد الاستبراء ، لأن بالسبي يرتفع النكاح بينها وبين زوجها .
قال أبو سعيد الخدري : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين جيشا إلى أوطاس فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين ، فكرهوا غشيانهن ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال عطاء : أراد بقوله ( إلا ما ملكت أيمانكم ) أن تكون أمته في نكاح عبده فيجوز أن ينزعها منه . [ ص: 193 ]
وقيل : أراد بالمحصنات الحرائر ، ومعناه : أن ما فوق الأربع حرام منهن إلا ما ملكت أيمانكم ، فإنه لا عدد عليكم في الجواري .
قوله تعالى : ( كتاب الله عليكم ) نصب على المصدر ، أي : كتب الله عليكم كتاب الله ، وقيل : نصب على الإغراء ، أي : الزموا كتاب الله عليكم ، أي : فرض الله تعالى .
قوله تعالى : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص " أحل " بضم الأول وكسر الحاء ، لقوله ( حرمت عليكم ) وقرأ الآخرون بالنصب ، أي : أحل الله لكم ما وراء ذلكم ، أي : ما سوى ذلكم الذي ذكرت من المحرمات ، ( أن تبتغوا ) تطلبوا ، ( بأموالكم ) أي تنكحوا بصداق أو تشتروا بثمن ، ( محصنين ) أي : متزوجين أو متعففين ، ( غير مسافحين ) أي : غير زانين ، مأخوذ من سفح الماء وصبه وهو المني ، ( فما استمتعتم به منهن ) اختلفوا في معناه ، فقال الحسن ومجاهد : أراد ما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح ، ( فآتوهن أجورهن ) أي : مهورهن ، وقال آخرون : هو نكاح المتعة وهو أن ينكح امرأة إلى مدة فإذا انقضت تلك المدة بانت منه بلا طلاق ، وتستبرئ رحمها وليس بينهما ميراث ، وكان ذلك مباحا في ابتداء الإسلام ، ثم نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج ، أنا محمد بن عبد الله بن نمير ، أنا أبي ، أنا عبد العزيز بن عمر ، حدثني الربيع بن سبرة الجهني ، أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله تعالى قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي ، عن أبيهما ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية .
وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم : أن نكاح المتعة حرام ، والآية منسوخة . [ ص: 194 ]
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يذهب إلى أن الآية محكمة ، ويرخص في نكاح المتعة . وروي عن أبي نضرة قال سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن المتعة ، فقال : أما تقرأ في سورة النساء : " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى " ؟ قلت : لا أقرأها هكذا ، قال ابن عباس : هكذا أنزل الله ، ثلاث مرات .
وقيل : إن ابن عباس رضي الله عنهما رجع عن ذلك .
وروى سالم عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها؟ ، لا أجد رجلا نكحها إلا رجمته بالحجارة ، وقال : هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث .
قال الربيع بن سليمان : سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول : لا أعلم في الإسلام شيئا أحل ثم حرم ثم أحل ثم حرم غير المتعة .
قوله تعالى : ( فآتوهن أجورهن ) أي : مهورهن ، ( فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) فمن حمل ما قبله على نكاح المتعة أراد أنهما [ إذا عقد عقدا إلى أجل بمال ] [ ص: 195 ]
فإذا تم الأجل فإن شاءت المرأة زادت في الأجل وزاد الرجل في الأجر ، وإن لم يتراضيا فارقها ، ومن حمل الآية على الاستمتاع بالنكاح الصحيح ، قال المراد بقوله ( ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به ) الإبراء عن المهر والافتداء والاعتياض ( إن الله كان عليما حكيما ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (88)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 25 إلى الاية 29
[ فصل في قدر الصداق وفيما يستحب منه ]
اعلم أنه لا تقدير لأكثر الصداق لقوله تعالى : ( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) والمستحب أن لا يغالى فيه ، قال عمر بن الخطاب : ألا لا تغالوا صدقة النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا جعفر بن محمد المفلس ، أنا هارون بن إسحاق ، أنا يحيى بن محمد الحارثي ، أنا عبد العزيز بن محمد ، عن يزيد بن عبد الله بن الهادي ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة قال : سألت عائشة رضي الله عنها كم كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه؟ قالت : كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا ، قالت : أتدري ما النش؟ قلت : لا قالت : نصف أوقية ، فتلك خمسمائة درهم ، هذا صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه .
أما أقل الصداق فقد اختلفوا فيه : فذهب جماعة إلى أنه لا تقدير لأقله ، بل ما جاز أن يكون مبيعا أو ثمنا جاز أن يكون صداقا ، وهو قول ربيعة وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق ، قال عمر بن الخطاب : في ثلاث قبضات زبيب مهر ، وقال سعيد بن المسيب : لو أصدقها سوطا جاز .
وقال قوم : يتقدر : بنصاب السرقة ، وهو قول مالك وأبي حنيفة ، غير أن نصاب السرقة عند مالك ثلاثة دراهم وعند أبي حنيفة عشرة دراهم .
والدليل على أنه لا يتقدر : ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، قال : أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك ، فقامت قياما طويلا فقام [ ص: 196 ] رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك فيها حاجة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل عندك من شيء تصدقها " ؟ قال : ما عندي إلا إزاري هذا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أعطيتها جلست لا إزار لك ، فالتمس شيئا " ، فقال : ما أجد ، فقال : " فالتمس ولو خاتما من حديد " ، فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل معك من القرآن شيء " ؟ قال : نعم سورة كذا وسورة كذا - لسور سماها - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد زوجتكها بما معك من القرآن " .
وفيه دليل على أنه لا تقدير لأقل الصداق ، لأنه قال : " التمس شيئا " فهذا يدل على جواز أي شيء كان من المال ، وقال : " ولو خاتما من حديد " ولا قيمة لخاتم الحديد إلا القليل التافه .
وفي الحديث دليل على أنه يجوز تعليم القرآن صداقا وهو قول الشافعي رحمه الله ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز ، وهو قول أصحاب الرأي ، وكل عمل جاز الاستئجار عليه مثل البناء والخياطة وغير ذلك من الأعمال جاز أن يجعل صداقا ، ولم يجوز أبو حنيفة رضي الله عنه أن يجعل منفعة الحر صداقا ، والحديث حجة لمن جوزه بعدما أخبر الله تعالى عن شعيب عليه السلام حيث زوج ابنته من موسى عليهما السلام على العمل ، فقال : " إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج " ( القصص - 27 ) .
( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم ( 25 ) )
قوله تعالى : ( ومن لم يستطع منكم طولا ) أي : فضلا وسعة ، ( أن ينكح المحصنات ) الحرائر ( المؤمنات ) قرأ الكسائي ( المحصنات ) بكسر الصاد حيث كان ، إلا قوله في هذه السورة والمحصنات من النساء ، وقرأ الآخرون بفتح جميعها ، ( فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم ) إمائكم ، ( المؤمنات ) [ ص: 197 ] أي : من لم يقدر على مهر الحرة المؤمنة ، فليتزوج الأمة المؤمنة .
وفيه دليل على أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين ، أحدهما : أن لا يجد مهر حرة ، والثاني أن يكون خائفا على نفسه من العنت ، وهو الزنا ، لقوله تعالى في آخر الآية : ( ذلك لمن خشي العنت منكم ) وهو قول جابر رضي الله عنه ، وبه قال طاوس وعمرو بن دينار ، وإليه ذهب مالك والشافعي .
وجوز أصحاب الرأي للحر نكاح الأمة إلا أن تكون في نكاحه حرة ، أما العبد فيجوز له نكاح الأمة وإن كان في نكاحه حرة أو أمة ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجوز إذا كانت تحته حرة ، كما يقول في الحر .
وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابية لأنه قال ( فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) جوز نكاح الأمة بشرط أن تكون مؤمنة ، وقال في موضع آخر : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب " ( المائدة - 5 ) أي : الحرائر ، جوز نكاح الكتابية ، بشرط أن تكون حرة ، وجوز أصحاب الرأي للمسلم نكاح الأمة الكتابية ، وبالاتفاق يجوز وطؤها بملك اليمين .
[ ( والله أعلم بإيمانكم ) أي : لا تتعرضوا للباطن في الإيمان وخذوا بالظاهر فإن الله أعلم بإيمانكم ] .
( بعضكم من بعض ) قيل : بعضكم إخوة لبعض ، وقيل : كلكم من نفس واحدة فلا تستنكفوا من نكاح الإماء ، ( فانكحوهن ) يعني : الإماء ( بإذن أهلهن ) أي : مواليهن ، ( وآتوهن أجورهن ) مهورهن ، ( بالمعروف ) من غير مطل وضرار ، ( محصنات ) عفائف بالنكاح ، ( غير مسافحات ) أي : غير زانيات ، ( ولا متخذات أخدان ) أي : أحباب تزنون بهن في السر ، قال الحسن : المسافحة هي أن كل من دعاها تبعته ، وذات أخدان أي : تختص بواحد لا تزني إلا معه ، والعرب كانت تحرم الأولى وتجوز الثانية ، ( فإذا أحصن ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بفتح الألف والصاد ، أي : حفظن فروجهن ، وقال ابن مسعود : أسلمن ، وقرأ الآخرون : ( أحصن ) بضم الألف وكسر الصاد ، أي : زوجن ( فإن أتين بفاحشة ) يعني : الزنا ، ( فعليهن نصف ما على المحصنات ) أي : ما على الحرائر الأبكار إذا زنين ، ( من العذاب ) يعني : الحد ، فيجلد الرقيق إذا زنى خمسين جلدة ، وهل يغرب؟ فيه قولان ، فإن قلنا يغرب فيغرب نصف سنة على القول الأصح ولا رجم على العبيد .
روي عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال : أمرني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فتية من [ ص: 198 ] قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين في الزنا .
ولا فرق في حد المملوك بين من تزوج أو لم يتزوج عند أكثر أهل العلم ، وذهب بعضهم إلى أنه لا حد على من لم يتزوج من المماليك إذا زنى ، لأن الله تعالى قال : ( فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات ) وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال طاوس .
ومعنى الإحصان عند الآخرين الإسلام ، وإن كان المراد منه التزويج فليس المراد منه أن التزويج شرط لوجوب الحد عليه ، بل المراد منه التنبيه على أن المملوك وإن كان محصنا بالتزويج فلا رجم عليه ، إنما حده الجلد بخلاف الحر ، فحد الأمة ثابت بهذه الآية ، وبيان أنه بالجلد في الخبر وهو ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني الليث ، عن سعيد يعني المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر " .
قوله تعالى : ( ذلك ) يعني : نكاح الأمة عند عدم الطول ، ( لمن خشي العنت منكم ) يعني : الزنا ، يريد المشقة لغلبة الشهوة ، ( وإن تصبروا ) عن نكاح الإماء متعففين ، ( خير لكم ) لئلا يخلق الولد رقيقا ( والله غفور رحيم ) .
( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ( 26 ) )
قوله تعالى : ( يريد الله ليبين لكم ) أي : أن يبين لكم ، كقوله تعالى : " وأمرت لأعدل بينكم " ( الشورى - 15 ) أي : أن أعدل ، وقوله : " وأمرنا لنسلم لرب العالمين " ( الأنعام - 71 ) ، وقال في موضع آخر " وأمرت أن أسلم " ( غافر - 66 ) .
ومعنى الآية : يريد الله أن يبين لكم ، أي : يوضح لكم شرائع دينكم ومصالح أموركم ، قال عطاء : يبين لكم ما يقربكم منه ، قال الكلبي : يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير لكم ، ( ويهديكم ) ويرشدكم ، ( سنن ) شرائع ، ( الذين من قبلكم ) في تحريم الأمهات والبنات والأخوات ، فإنها كانت محرمة على من قبلكم . [ ص: 199 ]
وقيل : ويهديكم الملة الحنيفية وهي ملة إبراهيم عليه السلام ، ( ويتوب عليكم ) ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم ، وقيل : يرجع بكم من المعصية التي كنتم عليها إلى طاعته ، وقيل : يوفقكم للتوبة ( والله عليم ) بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم ، ( حكيم ) فيما دبر من أمورهم .
( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ( 27 ) يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ( 28 ) يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ( 29 ) )
( والله يريد أن يتوب عليكم ) إن وقع منكم تقصير في أمر دينه ( ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ) عن الحق ، ( ميلا عظيما ) بإتيانكم ما حرم عليكم ، واختلفوا في الموصوفين باتباع الشهوات ، قال السدي : هم اليهود والنصارى ، وقال بعضهم : هم المجوس لأنهم يحلون نكاح الأخوات وبنات الأخ والأخت ، وقال مجاهد : هم الزناة يريدون أن تميلوا عن الحق فتزنون كما يزنون ، وقيل : هم جميع أهل الباطل .
( يريد الله أن يخفف عنكم ) يسهل عليكم في أحكام الشرع ، وقد سهل كما قال جل ذكره : " ويضع عنهم إصرهم " ( الأعراف - 157 ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بعثت بالحنيفية السمحة السهلة " ، ( وخلق الإنسان ضعيفا ) قال طاوس والكلبي وغيرهما في أمر النساء : لا يصبر عنهن ، وقال ابن كيسان : ( وخلق الإنسان ضعيفا ) يستميله هواه وشهوته ، وقال الحسن : هو أنه خلق من ماء مهين ، بيانه قوله تعالى : " الله الذي خلقكم من ضعف " ( الروم - 54 ) .
قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) بالحرام ، يعني : بالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة ونحوها ، وقيل : هو العقود الفاسدة ( إلا أن تكون تجارة ) ، قرأ أهل الكوفة ( تجارة ) نصب على خبر كان ، أي : إلا أن تكون الأموال تجارة ، وقرأ الآخرون بالرفع ، أي : إلا أن تقع تجارة ، ( عن تراض منكم ) أي : بطيبة نفس كل واحد منكم .
وقيل : هو أن يجيز كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد البيع ، فيلزم ، وإلا فلهما الخيار ما لم يتفرقا [ ص: 200 ] لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ، ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار " .
( ولا تقتلوا أنفسكم ) قال أبو عبيدة : أي لا تهلكوها ، كما قال : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ( البقرة - 195 ) ، وقيل : لا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل .
وقيل : أراد به قتل المسلم نفسه ، أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا ابن عيينة ، عن أيوب ، عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة " .
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ، أخبرنا أبو معاذ عبد الرحمن المزني ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن حماد القاضي ، أنا أبو موسى الزمن ، أنا وهب بن جرير ، أخبرنا أبي ، قال سمعت الحسن : أخبرنا جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خرج برجل فيمن كان قبلكم أراب فجزع منه ، فأخرج سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات " فقال الله عز وجل : بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة "
وقال الحسن : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) يعني : إخوانكم ، أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، ( إن الله كان بكم رحيما ) أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا سليمان بن حرب ، أنا شعبة ، عن علي بن مدرك ، قال : سمعت أبا زرعة بن عمرو بن جرير عن جده قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " استنصت الناس " ثم قال : " لا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (89)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 30 إلى الاية 34
( ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ( 30 ) إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ( 31 ) )
( ومن يفعل ذلك ) يعني : ما سبق ذكره من المحرمات ، ( عدوانا وظلما ) فالعدوان مجاوزة [ ص: 201 ] الحد ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه ، ( فسوف نصليه ) ندخله في الآخرة ، ( نارا ) يصلى فيها ، ( وكان ذلك على الله يسيرا ) هينا .
قوله تعالى : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) اختلفوا في الكبائر التي جعل الله اجتنابها تكفيرا للصغائر : أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا محمد بن مقاتل ، أنا النضر ، أخبرنا شعبة ، أنا فراس ، قال : سمعت الشعبي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا مسدد ، أنا بشر بن المفضل ، أنا الجريري ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " ثلاثا قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " الإشراك بالله عز وجل ، وعقوق الوالدين ، وجلس وكان متكئا فقال : ألا وقول الزور ألا وقول الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، أنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي ، أنا محمد بن كثير ، أنا سفيان الثوري ، عن الأعمش ومنصور ، وواصل الأحدب عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله رضي الله عنهما قال : قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك ، قلت : ثم أي؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك ، قلت : ثم أي؟ قال : أن تزاني حليلة جارك " ، فأنزل الله تعالى تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ) الآية . [ ص: 202 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني سليمان ، عن ثور بن زيد ، عن أبي الغيث ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات : ، قالوا : يا رسول الله وما هن؟ قال : " الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أكبر الكبائر : الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي ، أنا علي بن الجعد ، أنا شعبة ، عن سعيد بن إبراهيم ، قال : سمعت حميد بن عبد الرحمن يحدث عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من الكبائر أن يسب الرجل والديه ، قالوا : وكيف يسب الرجل والديه؟ قال : يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه " .
وعن سعيد بن جبير : أن رجلا سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن الكبائر : أسبع هي؟ قال : هن إلى السبعمائة أقرب إلا أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ، وقال : كل شيء عصي الله به فهو كبيرة ، فمن عمل شيئا منها فليستغفر فإن الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الإسلام أو جاحدا فريضة أو مكذبا بقدر .
وقال عبد الله بن مسعود : ما نهى الله تعالى عنه في هذه السورة إلى قوله تعالى : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " فهو كبيرة .
وقال علي بن أبي طلحة : هي كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . [ ص: 203 ]
وقال الضحاك : ما أوعد الله عليه حدا في الدنيا أو عذابا في الآخرة .
وقال الحسن بن الفضل : ما سماه الله في القرآن كبيرا أو عظيما نحو قوله تعالى : " إنه كان حوبا كبيرا " ( النساء - 2 ) ، " إن قتلهم كان خطئا كبيرا " ( الإسراء - 31 ) ، " إن الشرك لظلم عظيم " ( لقمان - 13 ) ، " إن كيدكن عظيم " ( يوسف - 28 ) " سبحانك هذا بهتان عظيم " ( النور - 16 ) " إن ذلكم كان عند الله عظيما " ( الأحزاب - 53 ) .
قال سفيان الثوري : الكبائر ما كان فيه المظالم بينك وبين العباد ، والصغائر ما كان بينك وبين الله تعالى ، لأن الله كريم يعفو ، واحتج بما أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكرماني ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن سعيد ، أنا الحسين بن داؤد البلخي ، أنا يزيد بن هارون ، أنا حميد الطويل ، عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينادي مناد من بطنان العرش يوم القيامة : يا أمة محمد إن الله عز وجل قد عفا عنكم جميعا المؤمنين والمؤمنات ، تواهبوا المظالم وادخلوا الجنة برحمتي " .
وقال مالك بن مغول : الكبائر ذنوب أهل البدع ، والسيئات ذنوب أهل السنة .
وقيل : الكبائر ذنوب العمد ، والسيئات الخطأ والنسيان وما أكره عليه ، وحديث النفس المرفوع عن هذه الأمة .
وقيل : الكبائر ذنوب المستحلين مثل ذنب إبليس ، والصغائر ذنوب المستغفرين مثل ذنب آدم عليه السلام .
وقال السدي : الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب الكبائر ، والسيئات مقدماتها وتوابعها مما يجتمع فيه الصالح والفاسق ، مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباهها . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " العينان تزنيان ، واليدان تزنيان ، والرجلان تزنيان ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه " .
وقيل : الكبائر ما يستحقره العباد ، والصغائر ما يستعظمونه فيخافون مواقعته ، كما أخبرنا عبد الواحد [ ص: 204 ] المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو الوليد ، أنا مهدي بن غيلان ، عن أنس قال : إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر ، إن كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات .
وقيل : الكبائر الشرك وما يؤدي إليه ، وما دون الشرك فهو السيئات ، قال الله تعالى : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ( النساء - 48 ، 116 ) .
وقوله تعالى : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) أي : من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ومن رمضان إلى رمضان .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج ، حدثني هارون بن سعيد الأيلي أنا ابن وهب عن أبي صخر أن عمر بن إسحاق مولى زائدة حدثه عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر " .
قوله تعالى : ( وندخلكم مدخلا كريما ) أي : حسنا وهو الجنة ، قرأ أهل المدينة ( مدخلا ) بفتح الميم هاهنا وفي الحج ، وهو موضع الدخول ، وقرأ الباقون بالضم على المصدر بمعنى الإدخال . ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما ( 32 ) )
قوله تعالى : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) الآية ، قال مجاهد : قالت أم سلمة : يا رسول الله إن الرجال يغزون ولا نغزو ولهم ضعف ما لنا من الميراث ، فلو كنا رجالا غزونا كما غزوا وأخذنا من الميراث مثل ما أخذوا . فنزلت هذه الآية .
وقيل : لما جعل الله عز وجل للذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث ، قالت النساء : نحن أحق وأحوج إلى الزيادة من الرجال ، لأنا ضعفاء وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش ، فأنزل الله تعالى : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) [ ص: 205 ]
وقال قتادة والسدي لما نزل قوله : ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) قال الرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كما فضلنا عليهن في الميراث فقال الله تعالى : ( للرجال نصيب مما اكتسبوا ) من الأجر ( وللنساء نصيب مما اكتسبن )
معناه : أن الرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء ، وذلك أن الحسنة تكون بعشر أمثالها يستوي فيها الرجال والنساء ، وإن فضل الرجال في الدنيا على النساء .
وقيل : معناه للرجال نصيب مما اكتسبوا من أمر الجهاد وللنساء نصيب مما اكتسبن من طاعة الأزواج وحفظ الفروج ، يعني إن كان للرجال فضل الجهاد فللنساء فضل طاعة الأزواج وحفظ الفروج .
قوله تعالى : ( واسألوا الله من فضله ) قرأ ابن كثير والكسائي وسلوا ، وسل ، وفسل إذا كان قبل السين واو أو فاء بغير همز ، ونقل حركة الهمزة إلى السين ، والباقون بسكون السين مهموزا . فنهى الله تعالى عن التمني لما فيه من دواعي الحسد ، والحسد أن يتمنى زوال النعمة عن صاحبه ويتمناها لنفسه ، وهو حرام ، والغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ما لصاحبه وهو جائز . قال الكلبي : لا يتمنى الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا خادمه ، ولكن ليقل اللهم ارزقني مثله ، وهو كذلك في التوراة كذلك في القرآن . قوله : ( واسألوا الله من فضله ) قال ابن عباس : واسألوا الله من فضله : أي : من رزقه ، قال سعيد بن جبير : من عبادته ، فهو سؤال التوفيق للعبادة ، قال سفيان بن عيينة : لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي . ( إن الله كان بكل شيء عليما ) .
( ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا ( 33 ) )
قوله تعالى : ( ولكل جعلنا موالي ) أي : ولكل واحد من الرجال والنساء جعلنا موالي ، أي : عصبة يعطون ( مما ترك الوالدان والأقربون ) والوالدان والأقربون هم المورثون ، [ وقيل : معناه ولكل جعلنا موالي أي : ورثة ، مما ترك أي : من الذين تركهم ويكون " ما " بمعنى ( من ) ، ثم فسر ( الموالي ) فقال : " الوالدان والأقربون " ، هم الوارثون ] .
( والذين عقدت أيمانكم ) قرأ أهل الكوفة ( عقدت ) بلا ألف ، أي : عقدت لهم أيمانكم ، وقرأ [ ص: 206 ] الآخرون : " عاقدت أيمانكم " والمعاقدة : المحالفة والمعاهدة ، والأيمان جمع يمين ، من اليد والقسم ، وذلك أنهم كانوا عند المحالفة يأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد . ومحالفتهم أن الرجل كان في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك وهدمي هدمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمي سلمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من مال الحليف ، وكان ذلك ثابتا في ابتداء الإسلام فذلك قوله تعالى : ( فآتوهم نصيبهم ) أي : أعطوهم حظهم من الميراث ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " ( الأحزاب 6 ) .
وقال إبراهيم ومجاهد : أراد فآتوهم نصيبهم من النصر والرفد ولا ميراث ، وعلى هذا تكون هذه الآية غير منسوخة لقوله تعالى : " أوفوا بالعقود " ( المائدة - 1 ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم فتح مكة : " لا تحدثوا حلفا في الإسلام ، وما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا فيه فإنه لم يزده الإسلام إلا شدة " .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أنزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار حين قدموا المدينة وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة دون الرحم ، فلما نزلت ( ولكل جعلنا موالي ) نسخت ، ثم قال : ( والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) النصر والرفادة والنصيحة ، وقد ذهب الميراث فيوصي له . وقال سعيد بن المسيب : كانوا يتوارثون بالتبني وهذه الآية فيه ثم نسخ . ( إن الله كان على كل شيء شهيدا ) .
( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا ( 34 ) )
قوله عز وجل : ( الرجال قوامون على النساء ) الآية نزلت في سعد بن الربيع وكان من النقباء وفي [ ص: 207 ] امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير ، قاله مقاتل ، وقال الكلبي : امرأته حبيبة بنت محمد بن مسلمة ، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها ، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم [ فقال : أفرشته كريمتي فلطمها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لتقتص من زوجها " ، فانصرفت مع أبيها ] لتقتص منه فجاءجبريل عليه السلام [ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ارجعوا هذا جبريل أتاني بشيء " ، فأنزل الله هذه الآية ] ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أردنا أمرا وأراد الله أمرا ، والذي أراد الله خير " ، ورفع القصاص .
قوله تعالى : ( الرجال قوامون على النساء ) أي : مسلطون على تأديبهن ، والقوام والقيم بمعنى واحد ، والقوام أبلغ وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب .
( بما فضل الله بعضهم على بعض ) يعني : فضل الرجال على النساء بزيادة العقل والدين والولاية ، وقيل : بالشهادة ، لقوله تعالى : " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان " ( البقرة - 282 ) وقيل : بالجهاد ، وقيل : بالعبادات من الجمعة والجماعة ، وقيل : هو أن الرجل ينكح أربعا ولا يحل للمرأة إلا زوج واحد ، وقيل : بأن الطلاق بيده ، وقيل : بالميراث ، وقيل : بالدية ، وقيل : بالنبوة .
( وبما أنفقوا من أموالهم ) يعني : إعطاء المهر والنفقة ، أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، قال : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، أنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي أنا أبو حذيفة ، أنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " .
قوله تعالى : ( فالصالحات قانتات ) أي : مطيعات ( حافظات للغيب ) أي : حافظات للفروج في غيبة الأزواج ، وقيل : حافظات لسرهم ( بما حفظ الله ) قرأ أبو جعفر ( بما حفظ الله ) بالنصب ، أي : يحفظن الله في الطاعة ، وقراءة العامة بالرفع ، أي : بما حفظهن الله بإيصاء الأزواج بحقهن وأمرهم بأداء المهر والنفقة .
وقيل : حافظات للغيب بحفظ الله ، أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو عبد الله بن فنجويه ، أخبرنا عمر بن الخطاب ، أنا محمد بن إسحاق المسوحي ، أنا الحارث بن عبد الله ، أنا أبو معشر [ ص: 208 ] عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها " ، ثم تلا ( الرجال قوامون على النساء ) الآية .
( واللاتي تخافون نشوزهن ) عصيانهن ، وأصل النشوز : التكبر والارتفاع ، ومنه النشز للموضع المرتفع ، ( فعظوهن ) بالتخويف من الله والوعظ بالقول ، ( واهجروهن ) يعني : إن لم ينزعن عن ذلك بالقول فاهجروهن ( في المضاجع ) قال ابن عباس : يوليها ظهره في الفراش ولا يكلمها ، وقال غيره : يعتزل عنها إلى فراش آخر ، ( واضربوهن ) يعني : إن لم ينزعن مع الهجران فاضربوهن ضربا غير مبرح ولا شائن ، وقال عطاء : ضربا بالسواك وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " حق المرأة أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت " .
( فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ) أي : لا تجنوا عليهن الذنوب ، وقال ابن عيينة : لا تكلفوهن محبتكم فإن القلب ليس بأيديهن . ( إن الله كان عليا كبيرا ) متعاليا من أن يكلف العباد مالا يطيقونه ، وظاهر الآية يدل على أن الزوج يجمع عليها بين الوعظ والهجران والضرب ، فذهب بعضهم إلى ظاهرها وقال : إذا ظهر منها النشوز جمع بين هذه الأفعال ، وحمل الخوف في قوله ( واللاتي تخافون نشوزهن ) على العلم كقوله تعالى : " فمن خاف من موص جنفا " ( البقرة - 182 ) أي : علم ، ومنهم من حمل الخوف على الخشية لا على حقيقة العلم ، كقوله تعالى : " وإما تخافن من قوم خيانة " ( الأنفال - 58 ) ، وقال : هذه الأفعال على ترتيب الجرائم ، فإن خاف نشوزها بأن ظهرت أمارته منها من المخاشنة وسوء الخلق وعظها ، فإن أبدت النشوز هجرها ، فإن أصرت على ذلك ضربها .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (90)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 35 إلى الاية 37
( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ( 35 ) )
قوله تعالى : ( وإن خفتم شقاق بينهما ) يعني : شقاقا بين الزوجين ، [ والخوف بمعنى اليقين ، وقيل : [ ص: 209 ] هو بمعنى الظن يعني : إن ظننتم شقاق بينهما .
وجملته : أنه إذا ظهر بين الزوجين ] شقاق واشتبه حالهما فلم يفعل الزوج الصفح ولا الفرقة ولا المرأة تأدية الحق ولا الفدية وخرجا إلى ما لا يحل قولا وفعلا بعث الإمام حكما من أهله إليه وحكما من أهلها إليها ، رجلين حرين عدلين ، ليستطلع كل واحد من الحكمين رأي من بعث إليه إن كانت رغبته في الوصلة أو في الفرقة ، ثم يجتمع الحكمان فينفذان ما يجتمع عليه رأيهما من الصلاح ، فذلك قوله عز وجل : ( فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا ) يعني : الحكمين ، ( يوفق الله بينهما ) يعني : بين الزوجين ، وقيل : بين الحكمين ، ( إن الله كان عليما خبيرا ) [ أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا الثقفي ، عن أيوب عن ابن سيرين عن ] عبيدة أنه قال في هذه الآية ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ) قال : جاء رجل وامرأة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومع كل واحد منهما فئام من الناس ، فأمرهم علي رضي الله عنه فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ثم قال للحكمين : أتدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، قالت المرأة رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي ، فقال الرجل : أما الفرقة فلا فقال علي رضي الله عنه : كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به .
واختلف القول في جواز بعث الحكمين من غير رضا الزوجين : وأصح القولين أنه لا يجوز إلا برضاهما ، وليس لحكم الزوج أن يطلق دون رضاه ، ولا لحكم المرأة أن يخالع على مالها إلا بإذنها ، وهو قول أصحاب الرأي لأن عليا رضي الله عنه ، حين قال الرجل : أما الفرقة فلا قال : كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به . فثبت أن تنفيذ الأمر موقوف على إقراره ورضاه .
والقول الثاني : يجوز بعث الحكمين دون رضاهما ، ويجوز لحكم الزوج أن يطلق دون رضاه ولحكم المرأة أن يخلع دون رضاها ، إذا رأيا الصلاح ، كالحاكم يحكم بين الخصمين وإن لم يكن على وفق مرادهما ، وبه قال مالك ، ومن قال بهذا قال : ليس المراد من قول علي رضي الله عنه للرجل حتى تقر : أن رضاه شرط ، بل معناه : أن المرأة رضيت بما في كتاب الله [ فقال الرجل : أما الفرقة فلا يعني : الفرقة ليست في كتاب الله ] ، فقال علي : كذبت ، حيث أنكرت أن الفرقة في كتاب الله ، بل هي في كتاب الله ، [ فإن [ ص: 210 ] قوله تعالى : ( يوفق الله بينهما ) يشتمل على الفراق وغيره ] لأن التوفيق أن يخرج كل واحد منهما من الوزر وذلك تارة يكون بالفرقة وتارة بصلاح حالهما في الوصلة .
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ( 36 ) )
قوله تعالى : ( واعبدوا الله ) أي : وحدوه وأطيعوه ، ( ولا تشركوا به شيئا ) [ أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أنا علي أبو إسماعيل محمد بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون الأودي ] عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس؟ قال قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال : قلت الله ورسوله أعلم ، قال : فإن حق الناس على الله أن لا يعذبهم ، قال قلت : يا رسول الله ألا أبشر الناس؟ قال : دعهم يعملون " .
قوله تعالى : ( وبالوالدين إحسانا ) برا بهما وعطفا عليهما ، ( وبذي القربى ) أي : أحسنوا بذي القربى ، ( واليتامى والمساكين ) [ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمرو بن زرارة ، أنا عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ] " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا " .
[ أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنا عبد الله بن مبارك ، عن يحيى بن أيوب ، عن عبد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد عن القاسم ] عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة تمر عليها يده [ ص: 211 ] حسنات ، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين أصبعيه "
قوله تعالى : ( والجار ذي القربى ) أي : ذي القرابة ، ( والجار الجنب ) أي : البعيد الذي ليس بينك وبينه قرابة . [ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، أنا علي بن الجعد ، أنا شعبة عن أبي عمران الجوني قال : سمعت ] طلحة قال : قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال : " إلى أقربهما منك بابا " .
أخبرنا الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني ، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق ، أنا يزيد بن سنان ، أخبرنا عثمان بن عمر ، أخبرنا أبو عامر الخزاز ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ، وإذا طبخت مرقة فأكثر ماءها واغرف لجيرانك منها " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا محمد بن منهال ، أنا يزيد بن زريع ، أنا عمر بن محمد ، عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " .
قوله تعالى : ( والصاحب بالجنب ) يعني : الرفيق في السفر ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة وعكرمة وقتادة ، وقال علي وعبد الله والنخعي : هو المرأة تكون معه إلى جنبه ، وقال ابن جريج وابن زيد : هو الذي يصحبك رجاء نفعك .
( وابن السبيل ) قيل : هو المسافر لأنه ملازم للسبيل ، والأكثرون : على أنه الضيف ، أخبرنا الأستاذ الإمامأبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الاسفراييني ، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق ، أنا شعيب بن عمرو الدمشقي ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ، أنه سمع نافع بن جبير ، عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر [ ص: 212 ] فليحسن إلى جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب ، عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الكعبي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، جائزته يوم وليلة ، والضيافة ثلاثة أيام ، وما كان بعد ذلك فهو صدقة ، ولا يحل أن يثوي - أي : أن يقيم - عنده حتى يحرجه " .
قوله تعالى : ( وما ملكت أيمانكم ) أي : المماليك أحسنوا إليهم ، أخبرنا محمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو العباس الطحان ، أنا أبو أحمد محمد بن قريش ، أنا علي بن عبد العزيز المكي أنا أبو عبيد القاسم بن سلام ، أنا يزيد ، عن همام ، عن قتادة ، عن صالح أبي الخليل ، عن سفينة ، عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في مرضه : " الصلاة وما ملكت أيمانكم " ، فجعل يتكلم وما يفيض بها لسانه .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمر بن حفص ، أنا أبي ، أنا الأعمش ، عن المعرور ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : رأيت عليه بردا وعلى غلامه برد ، فقلت : لو أخذت هذا فلبسته كانا حلة وأعطيته ثوبا آخر ، فقال : كان بيني وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية فنلت منها فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي أساببت فلانا؟ قلت : نعم ، قال : أفنلت أمه؟ قلت : نعم ، قال إنك امرؤ فيك جاهلية ، قلت : على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال : نعم ، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه ، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه " .
أخبرنا الإمام أبو الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو طاهر الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمرو بن [ ص: 213 ] حفص التاجر ، أنا سهل بن عمار ، أنا يزيد بن هارون ، أخبرنا صدقة بن موسى ، عن فرقد السبخي ، عن مرة الطيب ، عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة سيئ الملكة " .
( إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) المختال : المتكبر ، والفخور : الذي يفتخر على الناس بغير الحق تكبرا ، ذكر هذا بعدما ذكر من الحقوق ، لأن المتكبر يمنع الحق تكبرا .
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنا أبو طاهر الزيادي ، أنا محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق أنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال : أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء " .
( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ( 37 ) )
( الذين يبخلون ) البخل في كلام العرب : منع السائل من فضل ما لديه ، وفي الشرع : منع الواجب ، ( ويأمرون الناس بالبخل ) قرأ حمزة والكسائي ( بالبخل ) بفتح الباء والخاء ، وكذلك في سورة الحديد ، وقرأ الآخرون بضم الباء وسكون الخاء ، نزلت في اليهود بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها . [ ص: 214 ]
قال سعيد بن جبير : هذا في كتمان العلم .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما وابن زيد : نزلت في كردم بن زيد وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو كانوا يأتون رجالا من الأنصار ويخالطونهم فيقولون لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ) يعني المال ، وقيل : يعني يبخلون بالصدقة ( وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (91)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 38 إلى الاية 42
( والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ( 38 ) وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما ( 39 ) إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ( 40 ) )
( والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) محل " الذين " نصب ، عطفا على الذين يبخلون ، وقيل : خفض عطفا على قوله : و ( أعتدنا للكافرين ) نزلت في اليهود ، وقال السدي : في المنافقين ، وقيل : في مشركي مكة المتفقين على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم .
( ومن يكن الشيطان له قرينا ) صاحبا وخليلا ( فساء قرينا ) أي : فبئس الشيطان قرينا وهو نصب على التفسير ، وقيل : على القطع بإلقاء الألف واللام كما تقول : نعم رجلا عبد الله ، وكما قال تعالى : " بئس للظالمين بدلا " ( الكهف - 50 ) " ساء مثلا " ( الأعراف - 177 ) .
( وماذا عليهم ) أي : ما الذي عليهم وأي شيء عليهم؟ ( لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما )
( إن الله لا يظلم مثقال ذرة ) [ أدخل ابن عباس يده في التراب ثم نفخ فيها وقال : كل واحد من هذه الأشياء ذرة ، والمراد أنه لا يظلم . لا قليلا ولا كثيرا ] . ونظمه : وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا فإن الله لا يظلم أي : لا يبخس ولا ينقص أحدا من ثواب عمله مثقال ذرة ، وزن ذرة ، [ ص: 215 ] والذرة : هي النملة الحمراء الصغيرة ، وقيل : الذر أجزاء الهباء في الكوة وكل جزء منها ذرة ولا يكون لها وزن ، وهذا مثل ، يريد : إن الله لا يظلم شيئا ، كما قال في آية أخرى : " إن الله لا يظلم الناس شيئا " ( يونس 44 )
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو عمر بكر بن محمد المزني ، أنا أبو بكر محمد بن عبد الله الحفيد ، أنا الحسين بن الفضل البجلي ، أنا عفان ، أنا همام ، أنا قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة ، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة " ، قال : " وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أبو الطيب الربيع بن محمد بن أحمد بن حاتم البزار الطوسي ، أنا أحمد بن محمد بن الحسن ، أن محمد بن يحيى حدثهم ، أخبرنا عبد الرزاق وأخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا ، فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلو النار ، قال : يقولون ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا فأدخلتهم النار ، قال : فيقول اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم لا تأكل النار صورهم فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى كعبيه فيخرجونهم ، فيقولون : ربنا قد أخرجنا من أمرتنا ، قال : ثم يقول : أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان ، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار ، حتى يقول : من كان في قلبه مثقال ذرة " ، قال أبو سعيد رضي الله عنه : فمن لم يصدق هذا فليقرأ هذه الآية : " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " قال : فيقولون ربنا قد أخرجنا من أمرتنا فلم يبق في النار أحد فيه خير ، ثم يقول الله عز وجل : شفعت الملائكة ، وشفعت الأنبياء ، وشفع المؤمنون ، وبقي أرحم الراحمين ، قال : فيقبض قبضة من النار ، أو قال : قبضتين لم يعملوا لله خيرا قط قد احترقوا حتى صاروا حمما فيؤتى بهم إلى ماء يقال له : ماء الحياة فيصب عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، قال : فتخرج أجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم : عتقاء الله فيقال لهم : ادخلوا الجنة فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم ، قال فيقولون : ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين ، قال : فيقول فإن لكم أفضل منه ، فيقولون : ربنا وما أفضل من ذلك؟ فيقول : " رضاي عنكم فلا أسخط عليكم أبدا " . [ ص: 216 ]
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنا محمد بن أحمد بن الحرث ، أنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله بن الخلال ، أنا عبد الله بن المبارك ، عن ليث بن سعد ، حدثني عامر بن يحيى ، عن أبي عبد الرحمن المعافري ، ثم الجيلي ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ، ثم يقول الله : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول : لا يا رب ، فيقول : أفلك عذر أو حسنة؟ فبهت الرجل ، قال : لا يا رب ، فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فيقول : أحضر وزنك ، فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ، فيقول : إنك لا تظلم ، قال : فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، قال : فلا يثقل مع اسم الله شيء " . وقال قوم : هذا في الخصوم .
وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد ألا من كان يطلب مظلمة فليجيء إلى حقه فليأخذه ، فيفرح المرء أن يذوب له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه ، فيأخذ منه وإن كان صغيرا ، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى : ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) ويؤتى بالعبد فينادي مناد على رءوس الأولين والآخرين : هذا فلان ابن فلان فمن كان له عليه حق فليأت إلى حقه فيأخذه ، ويقال آت هؤلاء حقوقهم فيقول : يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا ، فيقول الله عز وجل لملائكته انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة : يا ربنا بقي له مثقال ذرة من حسنة ، فيقول : ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة . ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ) وإن كان عبدا شقيا قالت الملائكة : إلهنا فنيت حسناته وبقي طالبون؟ فيقول الله عز وجل : خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ، ثم صكوا له صكا إلى النار .
فمعنى الآية هذا التأويل : أن الله لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم بل أخذ له منه ولا [ ص: 217 ] يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضعفها له ، فذاك قوله تعالى : ( وإن تك حسنة يضاعفها ) قرأ أهل الحجاز ( حسنة ) بالرفع ، أي : وإن توجد حسنة ، وقرأ الآخرون بالنصب على معنى : وإن تك زنة الذرة حسنة يضاعفها ، أي : يجعلها أضعافا كثيرة . ( ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) قال أبو هريرة رضي الله عنه : إذا قال الله تعالى أجرا عظيما فمن يقدر قدره؟ .
( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ( 41 ) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا ( 42 ) )
قوله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) [ أي : فكيف الحال وكيف يصنعون إذا جئنا من كل أمة بشهيد ] يعني : بنبيها يشهد عليهم بما عملوا ، ( وجئنا بك ) يا محمد ، ( على هؤلاء شهيدا ) شاهدا يشهد على جميع الأمم على من رآه وعلى من لم يره .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا محمد بن يوسف ، أنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقرأ علي " ، قلت : يا رسول الله أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال : نعم فقرأت سورة النساء حتى إذا أتيت هذه الآية ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال : " حسبك الآن " فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان .
قوله عز وجل : ( يومئذ ) أي يوم القيامة ، ( يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ) قرأ أهل المدينة وابن عامر " تسوى " بفتح التاء وتشديد السين على معنى تتسوى ، فأدغمت التاء الثانية في السين ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وتخفيف السين على حذف تاء التفعل كقوله تعالى " لا تكلم نفس إلا بإذنه " ( هود - 11 ) وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين على المجهول ، أي : لو سويت بهم الأرض وصاروا هم والأرض شيئا واحدا .
وقال قتادة وأبو عبيدة : يعني لو تخرقت الأرض فساخوا فيها وعادوا إليها ثم تسوى بهم ، أي : عليهم الأرض .
وقيل : ودوا لو أنهم لم يبعثوا لأنهم إنما نقلوا من التراب ، وكانت الأرض مستوية عليهم . [ ص: 218 ]
وقال الكلبي : يقول الله عز وجل للبهائم والوحوش والطير والسباع : كونوا ترابا فتسوى بهن الأرض ، فعند ذلك يتمنى الكافر أن لو كان ترابا كما قال الله تعالى : " ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا " ( النبإ 40 ) .
( ولا يكتمون الله حديثا ) قال عطاء : ودوا لو تسوى بهم الأرض وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا نعته . وقال الآخرون : بل هو كلام مستأنف ، يعني : ولا يكتمون الله حديثا لأن ما عملوا لا يخفى على الله ولا يقدرون على كتمانه . وقال الكلبي وجماعة : ( ولا يكتمون الله حديثا ) لأن جوارحهم تشهد عليهم .
قال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي ، قال : هات ما اختلف عليك ، قال : " فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " ( المؤمنون - 101 ) ، " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " ( الطور - 25 ) وقال : " ولا يكتمون الله حديثا " ، وقال " والله ربنا ما كنا مشركين " ( الأنعام - 23 ) فقد كتموا ، وقال : " أم السماء بناها " ، إلى قوله تعالى : " والأرض بعد ذلك دحاها " ، فذكر خلق السماء قبل الأرض ، ثم قال : " أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين " ، إلى قوله : " طائعين " ( فصلت 9 - 11 ) فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء ، وقال : وكان الله غفورا رحيما وكان الله عزيزا حكيما فكأنه كان ثم مضى؟ .
فقال ابن عباس رضي الله عنهما : فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى قال الله تعالى : " ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله " ( الزمر - 68 ) ، فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الآخرة ( أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) ، وأما قوله : ( ما كنا مشركين ( ولا يكتمون الله حديثا ) ، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، فيقول المشركون : تعالوا نقل لم نكن مشركين ، فيختم على أفواههم وتنطق أيديهم فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا ، وعنده ( يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ) ، و ( خلق الأرض في يومين ) ، ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض ، ودحيها : أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين ، فقال : : خلق الأرض في يومين فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السموات في يومين ، ( وكان الله غفورا رحيما ) أي : لم يزل كذلك ، فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله .
وقال الحسن : إنها مواطن ، ففي موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسا ، وفي موطن يتكلمون ويكذبون ويقولون : ما كنا مشركين ، وما كنا نعمل من سوء ، وفي موضع يعترفون على أنفسهم وهو قوله : [ ص: 219 ] ( فاعترفوا بذنبهم ) وفي موضع لا يتساءلون ، وفي موطن يسألون الرجعة ، وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم ، وهو قوله تعالى : ( ولا يكتمون الله حديثا ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (92)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 43 إلى الاية /
( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا ( 43 ) )
قوله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) الآية ، والمراد من السكر : السكر من الخمر ، عند الأكثرين ، وذلك أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه صنع طعاما ودعا ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوها قبل تحريم الخمر وسكروا فحضرت صلاة المغرب فقدموا رجلا ليصلي بهم فقرأ ( قل يا أيها الكافرون ) أعبد ما تعبدون ، بحذف ( لا ) هكذا إلى آخر السورة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصلوات حتى نزل تحريم الخمر .
وقال الضحاك بن مزاحم : أراد به سكر النوم ، نهى عن الصلاة عند غلبة النوم ، أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن المغلس أنا هارون بن إسحاق الهمذاني ، أخبرنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه " .
قوله تعالى : ( حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا ) نصب على الحال ، يعني : ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب ، يقال : رجل جنب وامرأة جنب ، ورجال جنب ونساء جنب . [ ص: 220 ]
وأصل الجنابة : البعد وسمي جنبا لأنه يتجنب موضع الصلاة ، أو لمجانبته الناس وبعده منهم ، حتى يغتسل .
قوله تعالى : ( إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) اختلفوا في معناه ، فقالوا : [ إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون الماء فتيمموا ، منع الجنب من الصلاة حتى يغتسل ] إلا أن يكون في سفر ولا يجد ماء فيصلي بالتيمم ، وهذا قول علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد رضي الله عنهم .
وقال الآخرون : المراد من الصلاة موضع الصلاة ، كقوله تعالى : " وبيع وصلوات " ( الحج - 40 ) ، ومعناه : لا تقربوا المسجد وأنتم جنب إلا مجتازين فيه للخروج منه ، مثل أن ينام في المسجد فيجنب أو تصيبه جنابة والماء في المسجد أو يكون طريقه عليه ، فيمر فيه ولا يقيم وهذا قول عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والضحاك والحسن وعكرمة والنخعي والزهري ، وذلك أن قوما من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ولا ممر لهم إلا في المسجد ، فرخص لهم في العبور .
واختلف أهل العلم فيه : فأباح بعضهم المرور فيه على الإطلاق ، وهو قول الحسن وبه قال مالك والشافعي رحمهم الله ، ومنع بعضهم على الإطلاق وهو قول أصحاب الرأي ، وقال بعضهم : يتيمم للمرور فيه .
أما المكث فلا يجوز عند أكثر أهل العلم لما روينا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " ، وجوز أحمد المكث فيه وضعف الحديث لأن راويه مجهول ، وبه قال المزني .
ولا يجوز للجنب الطواف كما لا يجوز له الصلاة ولا يجوز له قراءة القرآن ، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا شعبة أخبرني عمرو بن مرة قال سمعت عبد الله بن سلمة يقول : دخلت على علي رضي الله عنه فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الحاجة ويأكل معنا اللحم ويقرأ القرآن وكان لا يحجبه أو لا يحجزه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة " . [ ص: 221 ]
وغسل الجنابة يجب بأحد الأمرين : إما بنزول المني أو بالتقاء الختانين ، وهو تغييب الحشفة في الفرج وإن لم ينزل ، وكان الحكم في الابتداء أن من جامع امرأته فأكسل لا يجب عليه الغسل ثم صار منسوخا .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان ، عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى الأشعري سأل عائشة رضي الله عنها عن التقاء الختانين فقالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا التقى الختانان ، أو مس الختان الختان فقد وجب الغسل " .
قوله تعالى : ( وإن كنتم مرضى ) جمع مريض ، وأراد به مريضا يضره إمساس الماء مثل الجدري ونحوه ، أو كان على موضع طهارته جراحة يخاف من استعمال الماء فيها التلف أو زيادة الوجع ، فإنه يصلي بالتيمم وإن كان الماء موجودا ، وإن كان بعض أعضاء طهارته صحيحا والبعض جريحا غسل الصحيح منها وتيمم للجريح ، لما أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني ، أنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي ، أنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، أنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي ، أنا محمد بن سلمة عن الزبير بن خريق عن جابر بن عبد الله قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ، فاحتلم فسأل أصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : " قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك الراوي - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده " .
ولم يجوز أصحاب الرأي الجمع بين التيمم والغسل ، وقالوا : إن كان أكثر أعضائه صحيحا غسل [ ص: 222 ] الصحيح ولا يتيمم عليه ، وإن كان الأكثر جريحا اقتصر على التيمم .
والحديث حجة لمن أوجب الجمع بينهما .
قوله تعالى : ( أو على سفر ) أراد أنه إذا كان في سفر طويلا كان أو قصيرا ، وعدم الماء فإنه يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه ، لما روي عن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشره " .
أما إذا لم يكن الرجل مريضا ولا في سفر لكنه عدم الماء في موضع لا يعدم فيه الماء غالبا بأن كان في قرية انقطع ماؤها فإنه يصلي بالتيمم ثم يعيد إذا قدر على الماء عند الشافعي ، وعند مالك والأوزاعي لا إعادة عليه ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه يؤخر الصلاة حتى يجد الماء .
قوله تعالى : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) أراد به إذا أحدث ، والغائط : اسم للمطمئن من الأرض ، وكانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث فكني عن الحدث بالغائط ، ( أو لامستم النساء ) قرأ حمزة والكسائي " لمستم " هاهنا وفي المائدة ، وقرأ الباقون ( لامستم النساء )
واختلفوا في معنى اللمس والملامسة ، فقال قوم : المجامعة ، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ، وكني باللمس [ عن الجماع لأن الجماع لا يحصل إلا باللمس ] .
وقال قوم : هما التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غير جماع ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر ، والشعبي والنخعي .
واختلف الفقهاء في حكم الآية فذهب جماعة إلى أنه إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة ولا حائل بينهما ، ينتقض وضوءهما ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ، وبه قال الزهري والأوزاعي والشافعي رضي الله عنهم .
وقال مالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق : إن كان اللمس بشهوة نقض الطهر ، وإن لم يكن [ ص: 223 ] بشهوة فلا ينتقض .
وقال قوم : لا ينتقض الوضوء باللمس بحال ، وهو قول ابن عباس وبه قال الحسن والثوري .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا ينتقض إلا أن يحدث الانتشار .
واحتج من لم يوجب الوضوء باللمس بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبد الله ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وإذا قام بسطتهما ، قالت والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته من الليل فلمسته بيدي فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد وهو يقول : " أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .
واختلف قول الشافعي رضي الله عنه فيما لو لمس امرأة من محارمه كالأم والبنت والأخت أو لمس أجنبية صغيرة ، أصح القولين أنه لا ينقض الوضوء لأنها ليست بمحل الشهوة كما لو لمس رجلا .
واختلف قوله في انتقاض وضوء الملموس على قولين ، أحدهما : ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ كما يجب الغسل عليهما بالجماع ، والثاني : لا ينتقض لحديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت : فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد .
ولو لمس شعر امرأة أو سنها أو ظفرها لم ينتقض وضوءه عنده .
واعلم أن المحدث لا تصح صلاته ما لم يتوضأ إذا وجد الماء أو يتيمم إذا لم يجد الماء . أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن همام بن منبه ، أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ ص: 224 ] صلى الله عليه وسلم : " لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " .
والحدث هو خروج الخارج من أحد الفرجين عينا كان أو أثرا ، والغلبة على العقل بجنون أو إغماء على أي حال كان ، وأما النوم فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يوجب الوضوء إلا أن ينام قاعدا متمكنا فلا وضوء عليه ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا الثقة عن حميد الطويل ، عن أنس رضي الله عنهما قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون ، أحسبه قال قعودا حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون .
وذهب قوم إلى أن النوم يوجب الوضوء بكل حال وهو قول أبي هريرة رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها ، وبه قال الحسن وإسحاق والمزني ، وذهب قوم إلى أنه لو نام قائما أو قاعدا أو ساجدا فلا وضوء عليه حتى ينام مضطجعا وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي .
واختلفوا في مس الفرج من نفسه أو من غيره فذهب جماعة إلى أنه يوجب الوضوء وهو قول عمر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنها ، وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير ، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي ، وأحمد وإسحاق ، وكذلك المرأة تمس فرجها ، غير أن الشافعي رضي الله عنه يقول لا ينتقض إلا أن يمس ببطن الكف أو بطون الأصابع .
واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر محمد بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول : دخلت على مروان بن الحكم فذكرنا ما يكون منه الوضوء ، فقال مروان : من مس الذكر الوضوء ، فقال عروة : ما علمت ذلك ، فقال مروان : أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ " . [ ص: 225 ]
وذهب جماعة إلى أنه لا يوجب الوضوء ، روي ذلك عن علي وابن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة وبه قال الحسن ، وإليه ذهب الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي .
واحتجوا بما روي عن طلق بن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الرجل ذكره ، فقال : " هل هو إلا بضعة منك " ؟ ويروى " هل هو إلا بضعة أو مضغة منه " .
ومن أوجب الوضوء منه قال : هذا منسوخ بحديث بسرة لأن أبا هريرة يروي أيضا : أن الوضوء من مس الذكر ، وهو متأخر الإسلام ، وكان قدوم طلق بن علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زمن الهجرة حين كان يبني المسجد .
واختلفوا في خروج النجاسة من غير الفرجين بالفصد والحجامة وغيرهما من القيء ونحوه ، فذهب جماعة إلى أنه لا يوجب الوضوء ، روي ذلك عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس ، وبه قال عطاء وطاوس والحسن وسعيد بن المسيب وإليه ذهب مالك والشافعي .
وذهبت جماعة إلى إيجاب الوضوء بالقيء والرعاف والفصد والحجامة منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق .
واتفقوا على أن القليل منه وخروج الريح من غير السبيلين لا يوجب الوضوء ولو أوجب الوضوء كثيره لأوجب قليله كالفرج .
( فلم تجدوا ماء فتيمموا ) اعلم أن التيمم من خصائص هذه الأمة ، روى حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا [ ص: 226 ] الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء " .
وكان بدء التيمم ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس أبا بكر رضي الله عنه فقالوا ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال : أحبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، قالت : فعاتبني أبو بكر رضي الله عنه وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء ، فأنزل الله تعالى آية التيمم ( فتيمموا ) فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء : ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، قالت عائشة رضي الله عنها : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته .
وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبيد بن إسماعيل ، أنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم . فقال أسيد بن حضير : جزاك الله خيرا فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجا وجعل للمسلمين فيه بركة .
( فتيمموا ) أي : اقصدوا ، ( صعيدا طيبا ) أي : ترابا طاهرا نظيفا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الصعيد هو التراب .
واختلف أهل العلم فيما يجوز به التيمم ، فذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنه يختص بما يقع عليه اسم التراب مما يعلق باليد منه غبار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وجعلت تربتها لنا طهورا " . [ ص: 227 ]
وجوز أصحاب الرأي التيمم بالزرنيخ والجص والنورة وغيرها من طبقات الأرض ، حتى قالوا : لو ضرب يديه على صخرة لا غبار عليها أو على التراب ثم نفخ فيه حتى زال كله فمسح به وجهه ويديه صح تيممه ، وقالوا : الصعيد وجه الأرض ، لما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " .
وهذا مجمل ، وحديث حذيفة في تخصيص التراب مفسر ، والمفسر من الحديث يقضي على المجمل .
وجوز بعضهم التيمم بكل ما هو متصل بالأرض من شجر ونبات ، ونحوهما وقال : إن الصعيد اسم لما تصاعد على وجه الأرض .
والقصد إلى التراب شرط لصحة التيمم ، لأن الله تعالى قال : ( فتيمموا ) والتيمم : القصد ، حتى لو وقف في مهب الريح فأصاب الغبار وجهه ونوى لم يصح .
قوله تعالى : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا ) اعلم أن مسح الوجه واليدين واجب في التيمم ، واختلفوا في كيفيته : فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يمسح الوجه واليدين مع المرفقين ، بضربتين ، يضرب كفيه على التراب فيمسح جميع وجهه ، ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور ، ثم يضرب ضربة أخرى فيمسح يديه إلى المرفقين ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد بن الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن أبي الحويرث ، عن الأعرج ، عن أبي الصمة قال : مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد علي حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه ، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم رد علي " ففيه دليل على وجوب مسح اليدين إلى المرفقين كما يجب غسلهما في الوضوء إلى المرفقين ، ودليل على أن التيمم لا يصح ما لم يعلق باليد غبار التراب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حت الجدار بالعصا ، ولو كان مجرد الضرب كافيا لما كان حته .
وذهب الزهري إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين ، لما روي عن عمار أنه قال : تيممنا إلى المناكب .
وذلك حكاية فعله لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما روي أنه قال : أجنبت فتمعكت في التراب ، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوجه والكفين .
وذهب جماعة إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين ، وهو قول علي وابن عباس رضي الله عنهم ، [ ص: 228 ] وبه قال الشعبي وعطاء بن أبي رباح ومكحول ، وإليه ذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق ، واحتجوا بما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا آدم ، أنا شعبة ، أخبرنا الحكم ، عن ذر ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إني أجنبت فلم أصب الماء ، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب : أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت فصليت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما كان يكفيك هكذا ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه " .
وقال محمد بن إسماعيل أنا محمد بن كثير عن شعبة بإسناده فقال عمار لعمر رضي الله عنه : تمعكت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يكفيك الوجه والكفان " .
وفي الحديث دليل على أن الجنب إذا لم يجد الماء يصلي بالتيمم ، وكذا الحائض والنفساء إذا طهرتا وعدمتا الماء .
وذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما إلى أن الجنب لا يصلي بالتيمم بل يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء فيغتسل ، وحملا قوله تعالى : ( أو لامستم النساء ) على اللمس باليد دون الجماع ، وحديث عمار رضي الله عنه حجة ، وكان عمر نسي ما ذكر له عمار فلم يقنع بقوله . وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه رجع عن قوله وجوز التيمم للجنب ، والدليل عليه أيضا : ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد بن عياد بن منصور ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن عمران بن حصين رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا كان جنبا أن يتيمم ثم يصلي فإذا وجد الماء اغتسل .
وأخبرنا عمر بن عبد العزيز ، أنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنا أبو علي اللؤلؤي ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا مسدد ، أنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن أبي عمرو ، عن بجدان ، عن أبي ذر رضي الله عنهم قال : اجتمعت غنيمة من الصدقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا ذر ابد فيها ، فبدوت إلى الربذة [ ص: 229 ] وكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين ، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير " .
ومسح الوجه واليدين في التيمم ، تارة يكون بدلا من غسل جميع البدن في حق الجنب والحائض والنفساء والميت ، وتارة يكون بدلا عن غسل الأعضاء الأربع في حق المحدث ، وتارة يكون بدلا عن غسل بعض أعضاء الطهارة ، بأن يكون على بعض أعضاء طهارته جراحة لا يمكنه غسل محلها ، فعليه أن يتيمم بدلا عن غسله .
ولا يصح التيمم لصلاة الوقت إلا بعد دخول الوقت ، ولا يجوز أن يجمع بين فريضتين بتيمم واحد ، لأن الله تعالى قال : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) إلى أن قال : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) ظاهر الآية يدل على وجوب الوضوء أو التيمم إذا لم يجد الماء عند كل صلاة ، إلا أن الدليل قد قام في الوضوء فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات بوضوء واحد ، فبقي التيمم على ظاهره ، وهذا قول علي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة ، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق .
وذهب جماعة إلى أن التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة ، ويجوز أن يصلي به ما شاء من الفرائض ما لم يحدث ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي .
واتفقوا على أنه يجوز أن يصلي بتيمم واحد مع الفريضة ما شاء من النوافل ، قبل الفريضة وبعدها ، وأن يقرأ القرآن إن كان جنبا ، وإن كان تيممه بعذر السفر وعدم الماء فيشترط طلب الماء ، وهو أن يطلبه من رحله ورفقائه .
وإن كان في صحراء لا حائل دون نظره ينظر حواليه ، وإن كان دون نظره حائل قريب من تل أو جدار عدل عنه ، لأن الله تعالى قال : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا ) ولا يقال : لم يجد الماء : إلا لمن طلب .
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : طلب الماء ليس بشرط ، فإن رأى الماء ولكن بينه وبين الماء حائل من عدو أو سبع يمنعه من الذهاب إليه ، أو كان الماء في البئر وليس معه آلة الاستقاء ، فهو كالمعدوم ، يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (93)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 44 إلى الاية49
( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ( 44 ) والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ( 45 ) من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ( 46 ) )
قوله عز وجل ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ) يعني : يهود المدينة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم ، كان إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لويا بألسنتهما وعاباه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( يشترون ) يستبدلون ، ( الضلالة ) يعني : بالهدى ، ( ويريدون أن تضلوا السبيل ) أي : عن السبيل يا معشر المؤمنين
( والله أعلم بأعدائكم ) منكم فلا تستنصحوهم فإنهم أعداؤكم ، ( وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ) قال الزجاج : معناه اكتفوا بالله وليا واكتفوا بالله نصيرا .
( من الذين هادوا ) قيل : هي متصلة بقوله ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ( من الذين هادوا ) وقيل : هي مستأنفة ، معناه : من الذين هادوا من يحرفون ، كقوله تعالى : " وما منا إلا له مقام معلوم " ( الصافات - 164 ) أي : من له مقام معلوم ، يريد : فريق ، ( يحرفون الكلم ) يغيرون الكلم ( عن مواضعه ) يعني : صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن الأمر ، فيخبرهم ، فيرى أنهم يأخذون بقوله ، فإذا انصرفوا من عنده حرفوا كلامه ، ( ويقولون سمعنا ) قولك ( وعصينا ) أمرك ، ( واسمع غير مسمع ) أي : اسمع منا ولا نسمع منك ، ( غير مسمع ) أي : غير مقبول منك ، وقيل : كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : اسمع ، ثم يقولون في أنفسهم : لا سمعت ، ( وراعنا ) أي : ويقولون راعنا ، يريدون به النسبة إلى الرعونة ، ( ليا بألسنتهم ) تحريفا ( وطعنا ) قدحا ( في الدين ) أن قوله : " وراعنا " من المراعاة ، وهم يحرفونه ، يريدون به الرعونة ، ( ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا ) أي : انظر إلينا مكان قولهم راعنا ، ( لكان خيرا لهم وأقوم ) أي أعدل وأصوب ، ( ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) إلا نفرا قليلا منهم ، وهو عبد الله بن سلام ومن أسلم معه منهم .
( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا ( 47 ) )
قوله عز وجل : ( ياأيها الذين أوتوا الكتاب ) يخاطب اليهود ، ( آمنوا بما نزلنا ) يعني : القرآن ، ( مصدقا لما معكم ) يعني : التوراة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم أحبار اليهود : عبد الله بن صوريا وكعب بن الأشرف ، فقال : " يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا ، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق " ، قالوا : ما نعرف ذلك ، وأصروا على الكفر ، فنزلت هذه الآية .
( من قبل أن نطمس وجوها ) قال ابن عباس : نجعلها كخف البعير ، وقال قتادة والضحاك : نعميها ، والمراد بالوجه العين ، ( فنردها على أدبارها ) أي : نطمس الوجه فنرده على القفا ، وقيل : نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة ، لأن منابت شعور الآدميين في أدبارهم دون وجوههم ، وقيل : معناه نمحو آثارها وما فيها من أنف وعين وفم وحاجب فنجعلها كالأقفاء ، وقيل : نجعل عينيه على القفا فيمشي قهقرى .
روي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ، ويده على وجهه ، وأسلم وقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي ، وكذلك كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله عنه ، فقال : يا رب آمنت ، يا رب أسلمت ، مخافة أن يصيبه وعيد هذه الآية .
فإن قيل : قد أوعدهم بالطمس إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك؟ .
قيل : هذا الوعيد باق ، ويكون طمس ومسخ في اليهود قبل قيام الساعة .
وقيل : كان هذا وعيدا بشرط ، فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه دفع ذلك عن الباقين .
وقيل : أراد به القيامة ، وقال مجاهد أراد بقوله : ( نطمس وجوها ) أي : نتركهم في الضلالة ، فيكون المراد طمس وجه القلب ، والرد عن بصائر الهدى على أدبارها في الكفر والضلالة .
وأصل الطمس : المحو والإفساد والتحويل ، وقال ابن زيد : نمحو آثارهم من وجوههم ونواحيهم التي [ ص: 232 ] هم بها ، فنردها على أدبارهم؟ حتى يعودوا إلى حيث جاءوا منه بدءا وهو الشام ، وقال : قد مضى ذلك ، وتأوله في إجلاء بني النضير إلى أذرعات وأريحاء من الشام ( أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ) فنجعلهم قردة وخنازير ، ( وكان أمر الله مفعولا ) .
( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ( 48 ) )
( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) قال الكلبي : نزلت في وحشي بن حرب وأصحابه ، وذلك أنه لما قتل حمزة كان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك ، فلما قدم مكة ندم على صنيعه هو وأصحابه فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا قد ندمنا على الذي صنعنا وأنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة : " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " الآيات ( الفرقان - 68 ) ، وقد دعونا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله وزنينا ، فلولا هذه الآيات لاتبعناك ، فنزلت : " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا " الآيتين ، ( الفرقان - 70 - 71 ) فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فلما قرأوا كتبوا إليه : إن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا ، فنزل : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ، فبعث بها إليهم فبعثوا إليه : إنا نخاف أن لا نكون من أهل المشيئة فنزلت : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " ( الزمر - 53 ) ، فبعث بها إليهم فدخلوا في الإسلام ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبل منهم ، ثم قال لوحشي : أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلما أخبره قال : " ويحك غيب وجهك عني " ، فلحق وحشي بالشام فكان بها إلى أن مات .
وقال أبو مجلز عن ابن عمر رضي الله عنه لما نزلت : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " ، الآية قام رجل فقال : والشرك يا رسول الله ، فسكت ثم قام إليه مرتين أو ثلاثا فنزلت ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) .
وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير : قال ابن عمر رضي الله عنه : كنا على عهد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) فأمسكنا عن الشهادات . [ ص: 233 ]
حكي عن علي رضي الله عنه أن هذه الآية أرجى آية في القرآن " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " .
( ومن يشرك بالله فقد افترى ) اختلق ، ( إثما عظيما ) أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال : " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو معمر ، أنا عبد الوارث ، عن الحسين يعني : المعلم ، عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الدؤلي حدثه أن أبا ذر حدثه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم ، ثم أتيته وقد استيقظ ، فقال : " ما من عبد قال : لا إله إلا الله ، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة " قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال " وإن زنى وإن سرق " قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : " وإن زنى وإن سرق " قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : " وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر " ، وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال : وإن رغم أنف أبي ذر .
( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ( 49 ) )
قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ) الآية ، قال الكلبي : نزلت في رجال من اليهود منهم بحري بن عمرو والنعمان بن أوفى ومرحب بن زيد ، أتوا بأطفالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال : لا قالوا : ما نحن إلا كهيئتهم ، ما عملنا بالنهار يكفر عنا بالليل ، وما عملنا بالليل يكفر عنا بالنهار ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . .
وقال مجاهد وعكرمة : كانوا يقدمون أطفالهم في الصلاة ، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم ، فتلك التزكية .
وقال الحسن والضحاك وقتادة ومقاتل : نزلت في اليهود والنصارى حين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه ، " وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " ( البقرة - 111 ) وقال عبد الله بن مسعود رضي [ ص: 234 ] الله عنه : هو تزكية بعضهم لبعض ، روى طارق بن شهاب عن ابن مسعود قال : إن الرجل ليغدو من بيته ومعه دينه فيأتي الرجل لا يملك له ولا لنفسه ضرا ولا نفعا فيقول : والله إنك كيت وكيت!! ويرجع إلى بيته وما معه من دينه شيء ، ثم قرأ : " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " ، الآية . قوله تعالى : ( بل الله يزكي ) أي : يطهر ويبرئ من الذنوب ويصلح ، ( من يشاء ولا يظلمون فتيلا ) وهو اسم لما في شق النواة ، والقطمير اسم للقشرة التي على النواة ، والنقير اسم للنقطة التي على ظهر النواة ، وقيل : الفتيل من الفتل وهو ما يجعل بين الأصبعين من الوسخ عند الفتل .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (94)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 50 إلى الاية56
( انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ( 50 ) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ( 51 ) )
( أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ( 52 ) )
قوله تعالى : ( انظر ) يا محمد ، ( كيف يفترون على الله ) يختلقون على الله ، ( الكذب ) في تغييرهم كتابه ، ( وكفى به ) بالكذب ( إثما مبينا )
قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ) اختلفوا فيهما فقال عكرمة : هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله ، وقال أبو عبيدة : هما كل معبود يعبد من دون الله . قال الله تعالى " أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " ( النحل - 36 ) ، وقال عمر : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان . وهو قول الشعبي ومجاهد . وقيل : الجبت : الأوثان ، والطاغوت : شياطين الأوثان . ولكل صنم شيطان ، يعبر عنه ، فيغتر به الناس . وقال محمد بن سيرين ومكحول : الجبت : الكاهن ، والطاغوت : الساحر . وقال سعيد بن جبير وأبو العالية : الجبت : الساحر بلسان الحبشة ، والطاغوت : الكاهن . وروي عن عكرمة : الجبت بلسان الحبشة : شيطان .
وقال الضحاك : الجبت : حيي بن أخطب ، والطاغوت : كعب بن الأشرف . دليله قوله تعالى : " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " ( النساء - 60 ) أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسين بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنا عبد الرزاق أنا معمر عن عوف العبدي عن حيان عن قطن بن قبيصة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العيافة والطرق والطيرة من الجبت " . [ ص: 235 ]
وقيل : الجبت كل ما حرم الله ، والطاغوت كل ما يطغي الإنسان .
( ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ) قال المفسرون : خرج كعب بن الأشرف في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش ، فقال أهل مكة : إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما ففعلوا ذلك ، فذلك قوله تعالى : ( يؤمنون بالجبت والطاغوت )
ثم قال كعب لأهل مكة : ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب هذا البيت لنجهدن على قتال محمد ففعلوا .
ثم قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم ، فأينا أهدى طريقة ، نحن أم محمد؟
قال كعب : اعرضوا علي دينكم .
فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم ، وديننا القديم ودين محمد الحديث .
فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد فأنزل الله تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ) يعني : كعبا وأصحابه ( يؤمنون بالجبت والطاغوت ) يعني : الصنمين ( ويقولون للذين كفروا ) أبي سفيان وأصحابه ( هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ) محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ( سبيلا ) دينا . [ ص: 236 ]
( أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ) .
( أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ( 53 ) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ( 54 ) فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ( 55 ) )
( أم لهم ) يعني : ألهم؟ والميم صلة ( نصيب ) حظ ( من الملك ) وهذا على جهة الإنكار ، يعني : ليس لهم من الملك شيء ولو كان لهم من الملك شيء ، ( فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ) لحسدهم وبخلهم ، والنقير : النقطة التي تكون في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة ، وقال أبو العالية : هو نقر الرجل الشيء بطرف أصبعه كما ينقر الدرهم .
( أم يحسدون الناس ) يعني : اليهود ، ويحسدون الناس : قال قتادة : المراد بالناس العرب ، حسدهم اليهود على النبوة ، وما أكرمهم الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : أراد محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وجماعة : المراد بالناس : رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده حسدوه على ما أحل الله له من النساء ، وقالوا : ما له هم إلا النكاح ، وهو المراد من قوله : ( على ما آتاهم الله من فضله ) وقيل : حسدوه على النبوة وهو المراد من الفضل المذكور في الآية ، ( فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ) أراد بآل إبراهيم : داود وسليمان ، وبالكتاب : ما أنزل الله عليهم وبالحكمة النبوة ( وآتيناهم ملكا عظيما ) فمن فسر الفضل بكثرة النساء فسر الملك العظيم في حق داود وسليمان عليهما السلام بكثرة النساء ، فإنه كان لسليمان ألف امرأة ثلاثمائة حرة وسبعمائة سرية وكان لداود مائة امرأة ، ولم يكن يومئذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسع نسوة ، فلما قال لهم ذلك سكتوا .
قال الله تعالى : ( فمنهم من آمن به ) يعني : بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه ، ( ومنهم من صد عنه ) أعرض عنه ولم يؤمن به ، ( وكفى بجهنم سعيرا ) وقودا ، وقيل : الملك العظيم : ملك سليمان . وقال السدي : الهاء في قوله ( من آمن به ومنهم من صد عنه ) راجعة إلى إبراهيم ، وذلك أن إبراهيم زرع ذات سنة ، وزرع الناس فهلك زرع الناس وزكا زرع إبراهيم عليه السلام ، فاحتاج إليه الناس فكان يقول : من آمن بي أعطيته فمن آمن به أعطاه ، ومن لم يؤمن به منعه .
( إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما ( 56 ) )
قوله تعالى : ( إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا ) ندخلهم نارا ، ( كلما نضجت ) احترقت ( جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ) غير الجلود المحترقة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يبدلون جلودا بيضاء كأمثال القراطيس .
وروي أن هذه الآية قرئت عند عمر رضي الله عنه ، فقال عمر رضي الله عنه للقارئ : أعدها فأعادها ، وكان عنده معاذ بن جبل ، فقال معاذ : عندي تفسيرها : تبدل في ساعة مائة مرة ، فقال عمر رضي الله عنه : هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الحسن : تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا معاذ بن أسيد ، أنا الفضل بن موسى ، أنا الفضيل ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج ، أنا شريح بن يونس ، أنا حميد بن عبد الرحمن ، عن الحسن بن صالح ، عن هارون بن سعد ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد ، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام " .
فإن قيل : كيف تعذب جلود لم تكن في الدنيا ولم تعصه؟
قيل يعاد الجلد الأول في كل مرة .
وإنما قال : ( جلودا غيرها ) لتبدل صفتها ، كما تقول : صنعت من خاتمي خاتما غيره ، فالخاتم الثاني هو الأول إلا أن الصناعة والصفة تبدلت ، وكمن يترك أخاه صحيحا ثم بعد ، مرة يراه مريضا دنفا فيقول : [ ص: 238 ] أنا غير الذي عهدت ، وهو عين الأول ، إلا أن صفته تغيرت .
وقال السدي : يبدل الجلد جلدا غيره من لحم الكافر ثم يعيد الجلد لحما ثم يخرج من اللحم جلدا آخر وقيل : يعذب الشخص في الجلد لا الجلد ، بدليل أنه قال : ( ليذوقوا العذاب ) ولم يقل : لتذوق وقال عبد العزيز بن يحيى : إن الله عز وجل يلبس أهل النار جلودا لا تألم ، فيكون زيادة عذاب عليهم ، كلما احترق جلد بدلهم جلدا غيره ، كما قال : " سرابيلهم من قطران " ( إبراهيم - 50 ) فالسرابيل تؤلمهم وهي لا تألم . قوله تعالى : ( ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (95)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 57 إلى الاية60
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا ( 57 ) إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ( 58 ) )
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا ) كنينا لا تنسخه الشمس ولا يؤذيهم حر ولا برد .
قوله تعالى : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار ، وكان سادن الكعبة ، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ، فقيل : إنه مع عثمان ، فطلبه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى ، وقال : لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه المفتاح ، فلوى علي رضي الله عنه يده فأخذ منه المفتاح وفتح الباب فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وصلى فيه ركعتين ، فلما خرج سأله العباس المفتاح ، أن يعطيه ويجمع له بين السقاية والسدانة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه ، ففعل ذلك علي رضي الله عنه ، فقال له عثمان : أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق ، فقال علي : لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآنا وقرأ عليه الآية ، فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، وكان المفتاح معه ، فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة ، فالمفتاح والسدانة في أولادهم إلى يوم القيامة .
وقيل : المراد من الآية جميع الأمانات . أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الزراد ، أنا أبو بكر محمد بن [ ص: 239 ] إدريس الجرجاني وأبو أحمد بن محمد بن أحمد المعلم الهروي ، قال : أنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني ، أنا الحسن بن سفيان النسوي ، أنا شيبان بن أبي شيبة ، أخبرنا أبو هلال عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال : كلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له " .
قوله تعالى : ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) أي : بالقسط ، ( إن الله نعما ) أي : نعم الشيء الذي ( يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنا أبو جعفر محمد بن حمد بن عبد الجبار الزيات ، أنا حميد بن زنجويه ، حدثنا ابن عباد ، ثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن أوس ، أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، هم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، أنا علي بن الجعد ، أنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل ، وإن أبغض الناس إلى الله وأشدهم عذابا إمام جائر " .
( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ( 59 ) )
قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) اختلفوا في ( أولي الأمر ) قال ابن عباس وجابر رضي الله عنهم : هم الفقهاء والعلماء الذين يعلمون الناس معالم دينهم ، وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد ، ودليله قوله تعالى : " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " ( النساء - 83 ) .
وقال أبو هريرة : هم الأمراء والولاة . [ ص: 240 ]
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعد المنيعي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن همام بن منبه أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد ، أنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله حدثني ، نافع ، عن عبد الله رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " .
[ أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن محمد الدراوردي ] أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، أخبرنا عبادة بن الوليد بن عبادة أن أباه أخبره عن عبادة بن الصامت قال : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في اليسر والعسر والمنشط والمكره ، وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله ، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم " .
أخبرنا أبو عبد الله عبد الرحمن بن عبيد الله بن أحمد القفال ، أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البروجردي ، أنا أبو بكر بن محمد بن همدان الصيرفي ، أنا محمد بن يوسف الكديمي ، قال أخبرنا أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي التياح ، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر : " اسمع وأطع ولو لعبد حبشي كأن رأسه زبيبة " . [ ص: 241 ]
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أنا أبو العباس ، أنا محمد بن أحمد المحبوبي ، أنا أبو عيسى الترمذي ، أنا موسى بن عبد الرحمن الكندي ، أنا زيد بن الحباب أنا معاوية بن صالح ، حدثني سليم بن عامر ، قال : سمعت أبا أمامة رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال : " اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم " .
وقيل : المراد أمراء السرايا ، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا صدقة بن الفضل ، أنا حجاج بن محمد ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، في قوله تعالى : ( وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) قال : نزلت في عبيد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية
وقال عكرمة : أراد بأولي الأمر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما . حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد التيمي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم ، أخبرنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، أنا عمرو بن أبي عرزة بالكوفة ، أخبرنا ثابت بن موسى العابد ، عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي ، عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " ، رضي الله عنهما .
وقال عطاء : هم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان بدليل قوله تعالى ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) الآية . أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمود ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنا عبد الله بن المبارك ، عن إسماعيل المكي ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح " قال : قال [ ص: 242 ] الحسن : قد ذهب ملحنا فكيف نصلح .
قوله عز وجل : ( فإن تنازعتم ) أي : اختلفتم ، ( في شيء ) من أمر دينكم ، والتنازع : اختلاف الآراء وأصله من النزع فكأن المتنازعين يتجاذبان ويتمانعان ، ( فردوه إلى الله والرسول ) أي : إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حيا وبعد وفاته إلى سنته ، والرد إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما ، فإن لم يوجد فسبيله الاجتهاد . وقيل : الرد إلى الله تعالى والرسول أن يقول لما لا يعلم : الله ورسوله أعلم . ( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك ) أي : الرد إلى الله والرسول ، ( خير وأحسن تأويلا ) أي : أحسن مآلا وعاقبة .
( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ( 60 ) )
قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ) الآية قال الشعبي : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد ، لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة ولا يميل في الحكم ، وقال المنافق : نتحاكم إلى اليهود لعلمه أنهم يأخذون الرشوة ويميلون في الحكم ، فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه ، فنزلت هذه الآية .
قال جابر : كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها واحد في جهينة وواحد في أسلم ، وفي كل حي كهان .
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر ، كان بينه وبين يهودي خصومة فقال اليهودي : ننطلق إلى محمد ، وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف ، وهو الذي سماه الله الطاغوت ، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي ، فلما خرجا من عنده لزمه المنافق ، وقال : انطلق بنا إلى عمر رضي الله عنه ، فأتيا عمر ، فقال اليهودي : اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك ، فقال عمر رضي الله عنه للمنافق : أكذلك؟ قال : نعم ، قال لهما رويدكما [ ص: 243 ] حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت وأخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج فضرب به المنافق حتى برد ، وقال : هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله . فنزلت هذه الآية . وقال جبريل : إن عمر رضي الله عنه فرق بين الحق والباطل ، فسمي الفاروق .
وقال السدي : كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضهم وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النضير قتل به أو أخذ ديته مائة وسق من تمر ، وإذا قتل رجل من بني النضير رجلا من قريظة لم يقتل به وأعطى ديته ستين وسقا ، وكانت النضير وهم حلفاء الأوس أشرف وأكثر من قريظة وهم حلفاء الخزرج ، فلما جاء الله بالإسلام وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فاختصموا في ذلك ، فقالت بنو النضير : كنا وأنتم قد اصطلحنا على أن نقتل منكم ولا تقتلون منا ، وديتكم ستون وسقا وديتنا مائة وسق ، فنحن نعطيكم ذلك ، فقالت الخزرج : هذا شيء كنتم فعلتموه في الجاهلية لكثرتكم وقلتنا فقهرتمونا ، ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد فلا فضل لكم علينا ، فقال المنافقون منهم : انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي ، وقال المسلمون من الفريقين : لا بل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى المنافقون وانطلقوا إلى أبي بردة ليحكم بينهم ، فقال : أعظموا اللقمة ، يعني الحظ ، فقالوا : لك عشرة أوسق ، قال : لا بل مائة وسق ديتي ، فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم ، فأنزل الله تعالى آية القصاص ، وهذه الآية : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ) يعني الكاهن أو كعب بن الأشرف ، ( وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (96)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 61 إلى الاية69
( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ( 61 ) فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ( 62 ) )
( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ) أي : يعرضون عنك إعراضا .
( فكيف إذا أصابتهم مصيبة ) هذا وعيد ، أي : فكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة ، ( بما قدمت أيديهم ) يعني : عقوبة صدودهم ، وقيل : هي كل مصيبة تصيب جميع المنافقين في الدنيا [ ص: 244 ] والآخرة ، وتم الكلام هاهنا ، ثم عاد الكلام إلى ما سبق ، يخبر عن فعلهم فقال : ( ثم جاءوك ) يعني : يتحاكمون إلى الطاغوت ، ( ثم جاءوك ) [ يحيونك ويحلفون ] .
وقيل : أراد بالمصيبة قتل عمر رضي الله عنه المنافق ، ثم جاءوا يطلبون ديته ، ( يحلفون بالله إن أردنا ) ما أردنا بالعدول عنه في المحاكمة أو بالترافع إلى عمر ، ( إلا إحسانا وتوفيقا ) قال الكلبي : إلا إحسانا في القول ، وتوفيقا : صوابا ، وقال ابن كيسان : حقا وعدلا نظيره : ليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ، وقيل : هو إحسان بعضهم إلى بعض ، وقيل : هو تقريب الأمر من الحق ، لا القضاء على أمر الحكم ، والتوفيق : هو موافقة الحق ، وقيل : هو التأليف والجمع بين الخصمين .
( أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ( 63 ) وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ( 64 ) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ( 65 ) )
( أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ) من النفاق ، أي : علم أن ما في قلوبهم خلاف ما في ألسنتهم ، ( فأعرض عنهم ) أي : عن عقوبتهم وقيل : فأعرض عن قبول عذرهم وعظهم باللسان ، وقل لهم قولا بليغا ، وقيل : هو التخويف بالله ، وقيل : أن توعدهم بالقتل إن لم يتوبوا ، قال الحسن : القول البليغ أن يقول لهم : إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قتلتم لأنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ ، وقال الضحاك : ( فأعرض عنهم وعظهم ) في الملإ ( وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ) في السر والخلاء ، وقال : قيل هذا منسوخ بآية القتال .
قوله عز وجل ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) أي : بأمر الله لأن طاعة الرسول وجبت بأمر الله ، قال الزجاج : ليطاع بإذن الله لأن الله قد أذن فيه وأمر به ، وقيل : إلا ليطاع كلام تام كاف ، بإذن الله تعالى أي : بعلم الله وقضائه ، أي : وقوع طاعته يكون بإذن الله ، ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم ) بتحاكمهم إلى الطاغوت ( جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما )
قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ) الآية . [ ص: 245 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير : أن الزبير رضي الله عنه كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به . كلاهما ، فقال رسول الله للزبير : اسق يا زبير ، ثم أرسل إلى جارك ، فغضب الأنصاري ، ثم قال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال للزبير : اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ، فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد به سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم .
قال عروة : قال الزبير : والله ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) الآية .
وروي أن الأنصاري الذي خاصم الزبير كان اسمه حاطب بن أبي بلتعة فلما خرجا مر على المقداد فقال : لمن كان القضاء ، فقال الأنصاري : قضى لابن عمته ولوى شدقه ففطن له يهودي كان مع المقداد ، فقال : قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم ، وايم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى عليه السلام فدعا موسى إلى التوبة منه ، فقال : اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا ، فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إن الله ليعلم مني الصدق ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت ، فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ) .
وقال مجاهد والشعبي : نزلت في بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر رضي الله عنه .
قوله تعالى : ( فلا ) أي : ليس الأمر كما يزعمون أنهم مؤمنون ثم لا يرضون بحكمك ، ثم استأنف [ ص: 246 ] القسم ( وربك لا يؤمنون ) ويجوز أن يكون ( لا ) في قوله ( فلا ) صلة ، كما في قوله ( فلا أقسم ) حتى يحكموك : أي يجعلوك حكما ، ( فيما شجر بينهم ) أي : اختلف واختلط من أمورهم والتبس عليهم حكمه ، ومنه الشجر لالتفاف أغصانه بعضها ببعض ، ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ) قال مجاهد : شكا ، وقال غيره : ضيقا ، ( مما قضيت ) قال الضحاك : إثما ، أي : يأثمون بإنكارهم ما قضيت ، ( ويسلموا تسليما ) أي : وينقادوا لأمرك انقيادا .
( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ( 66 ) وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ( 67 ) ولهديناهم صراطا مستقيما ( 68 ) ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ( 69 ) )
قوله تعالى : ( ولو أنا كتبنا ) أي : فرضنا وأوجبنا ، ( عليهم أن اقتلوا أنفسكم ) كما أمرنا بني إسرائيل ( أو اخرجوا من دياركم ) كما أمرنا بني إسرائيل بالخروج من مصر ، ( ما فعلوه ) معناه : أنا ما كتبنا عليهم إلا طاعة الرسول والرضى بحكمه ، ولو كتبنا عليهم القتل والخروج عن الدور ما كان يفعله ، ( إلا قليل منهم ) نزلت في ثابت بن قيس وهو من القليل الذي استثنى الله ، قال الحسن ومقاتل لما نزلت هذه الآية قال عمر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليل ، والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن من أمتي لرجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي " .
قرأ ابن عامر وأهل الشام ( إلا قليلا ) بالنصب على الاستثناء ، وكذلك هو في مصحف أهل الشام ، وقيل : فيه إضمار ، تقديره : إلا أن يكون قليلا منهم ، وقرأ الآخرون قليل بالرفع على الضمير الفاعل في قوله ( فعلوه ) تقديره : إلا نفر قليل فعلوه ، ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ) من طاعة الرسول والرضى بحكمه ، ( لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ) تحقيقا وتصديقا لإيمانهم .
( وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ) ثوابا وافرا .
( ولهديناهم صراطا مستقيما ) أي : إلى الصراط المستقيم . [ ص: 247 ]
قوله تعالى : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) الآية ، نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه ، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما غير لونك " ؟ فقال : يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك لأنك ترفع مع النبيين ، وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك ، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدا ، فنزلت هذه الآية .
وقال قتادة : قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : كيف يكون الحال في الجنة وأنت في الدرجات العلى ونحن أسفل منك؟ فكيف نراك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
( ومن يطع الله ) في أداء الفرائض ، ( والرسول ) في السنن ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) أي لا تفوتهم رؤية الأنبياء ومجالستهم لا أنهم يرفعون إلى درجة الأنبياء ، ( والصديقين ) وهم أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، والصديق المبالغ في الصدق ، ( والشهداء ) قيل : هم الذين استشهدوا في يوم أحد ، وقيل : الذين استشهدوا في سبيل الله ، وقال عكرمة : النبيون هاهنا : محمد صلى الله عليه وسلم والصديقون أبو بكر ، والشهداء عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، ( والصالحين ) سائر الصحابة رضي الله عنهم ، ( وحسن أولئك رفيقا ) يعني : رفقاء الجنة ، والعرب تضع الواحد موضع الجمع ، كقوله تعالى : ( ثم نخرجكم طفلا ) ( غافر - 67 ) أي : أطفالا ( ويولون الدبر ) أي : الأدبار .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي ، أنا أبو العباس السراج ، أنا قتيبة بن سعد ، أنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله الرجل يحب قوما ولما يلحق بهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " المرء مع من أحب " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي وأبو عمرو محمد بن عبد الرحمن النسوي قالا أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا أبو يحيى زكريا بن يحيى المروزي ، أنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله متى الساعة؟ قال : " وما أعددت لها " ؟ قال : فلم يذكر كثيرا ، إلا أنه يحب الله ورسوله قال : " فأنت مع من أحببت " .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (97)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 70 إلى الاية77
( ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ( 70 ) يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ( 71 ) وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ( 72 ) )
( ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ) أي : بثواب الآخرة ، وقيل : بمن أطاع رسول الله وأحبه ، وفيه بيان أنهم لن ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم ، وإنما نالوها بفضل الله عز وجل .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا عبد الرحيم بن منيب ، أنا يعلى بن عبيد ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قاربوا وسددوا واعلموا أنه لا ينجو أحد منكم بعمله " ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " .
قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ) من عدوكم ، أي : عدتكم وآلتكم من السلاح ، والحذر والحذر واحد ، كالمثل والمثل والشبه والشبه ، ( فانفروا ) اخرجوا ( ثبات ) أي : سرايا متفرقين سرية بعد سرية ، والثبات جماعات في تفرقة واحدتها ثبة ، ( أو انفروا جميعا ) أي : مجتمعين كلكم مع النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : ( وإن منكم لمن ليبطئن ) نزلت في المنافقين
وإنما قال ( منكم ) لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسب وإظهار الإسلام ، لا في حقيقة الإيمان ، ( ليبطئن ) أي : ليتأخرن ، وليتثاقلن عن الجهاد ، وهو عبد الله بن أبي المنافق ، واللام في ( ليبطئن ) لام القسم ، والتبطئة : التأخر عن الأمر ، يقال : ما أبطأ بك؟ أي : ما أخرك عنا؟ ويقال : أبطأ إبطاء وبطأ يبطئ تبطئة . ( فإن أصابتكم مصيبة ) أي : قتل وهزيمة ، ( قال قد أنعم الله علي ) بالقعود ، ( إذ لم أكن معهم شهيدا ) أي : حاضرا في تلك الغزاة فيصيبني ما أصابهم .
( ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ( 73 ) فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ( 74 ) )
( ولئن أصابكم فضل من الله ) فتح وغنيمة ( ليقولن ) هذا المنافق ، وفيه تقديم وتأخير ، وقوله ( كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ) متصل بقوله ( فإن أصابتكم مصيبة ) تقديره : فإن أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ، كأن لم تكن بينكم وبينه مودة أي : معرفة .
قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب ( تكن ) بالتاء ، والباقون بالياء ، أي : ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن : ( يا ليتني كنت معهم ) في تلك الغزاة ، ( فأفوز فوزا عظيما ) أي : آخذ نصيبا وافرا من الغنيمة ، وقوله ( فأفوز ) نصب على جواب التمني بالفاء ، كما تقول : وددت أن أقوم فيتبعني الناس .
قوله تعالى : ( فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ) قيل : نزلت في المنافقين ، ومعنى يشرون أي : يشترون ، يعني الذين يختارون الدنيا على الآخرة ، معناه : آمنوا ثم قاتلوا ، وقيل : نزلت في المؤمنين المخلصين ، معناه فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون أي : يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة ويختارون الآخرة ( ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل ) يعني يستشهد ، ( أو يغلب ) يظفر ، ( فسوف نؤتيه ) في كلا الوجهين ( أجرا عظيما ) ويدغم أبو عمرو والكسائي الباء في الفاء حيث كان .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة " .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر ، أنا إسماعيل بن جعفر ، أنا محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل المجاهد [ ص: 250 ] في سبيل الله كمثل القانت الصائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجعه الله إلى أهله بما يرجعه من غنيمة وأجر ، أو يتوفاه فيدخله الجنة " .
( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ( 75 ) الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ( 76 ) ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ( 77 ) )
قوله تعالى : ( وما لكم لا تقاتلون ) لا تجاهدون ( في سبيل الله ) في طاعة الله ، يعاتبهم على ترك الجهاد ، ( والمستضعفين ) أي : عن المستضعفين ، وقال ابن شهاب : في سبيل المستضعفين لتخليصهم ، وقيل : في تخليص المستضعفين من أيدي المشركين ، وكان بمكة جماعة ، ( من الرجال والنساء والولدان ) يلقون من المشركين أذى كثيرا ، ( الذين ) يدعون و ( يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ) يعني : مكة ، الظالم أي : المشرك ، أهلها يعني القرية التي من صفتها أن أهلها مشركون ، وإنما خفض ( الظالم ) لأنه نعت للأهل ، فلما عاد الأهل إلى القرية صار كأن الفعل لها ، كما يقال مررت برجل حسنه عينه ، ( واجعل لنا من لدنك وليا ) أي : من يلي أمرنا ، ( واجعل لنا من لدنك نصيرا ) أي : من يمنع العدو عنا ، فاستجاب الله دعوتهم ، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ولى عليهم عتاب بن أسيد وجعله الله لهم نصيرا ينصف المظلومين من الظالمين .
قوله تعالى : ( الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ) أي : في طاعته ، ( والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ) أي : في طاعة الشيطان ، ( فقاتلوا ) أيها المؤمنون ( أولياء الشيطان ) أي : حزبه وجنوده وهم الكفار ، ( إن كيد الشيطان ) مكره ، ( كان ضعيفا ) كما فعل يوم بدر لما رأى الملائكة خاف أن يأخذوه فهرب وخذلهم .
قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ) الآية ، قال الكلبي : نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وقدامة بن مظعون الجمحي ، وسعد بن أبي وقاص ، [ ص: 251 ] وجماعة كانوا يلقون من المشركين بمكة أذى كثيرا قبل أن يهاجروا ، ويقولون : يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا ، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كفوا أيديكم فإني لم أؤمر بقتالهم " .
( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم ، قال الله تعالى : ( فلما كتب ) فرض ، ( عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس ) يعني : يخشون مشركي مكة ، ( كخشية الله ) أي : كخشيتهم من الله ، ( أو أشد ) أكثر ، ( خشية ) وقيل : معناه وأشد خشية ، ( وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ) الجهاد ( لولا ) هلا ( أخرتنا إلى أجل قريب ) يعني : الموت أي : هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا؟ .
واختلفوا في هؤلاء الذين قالوا ذلك ، قيل : قاله قوم من المنافقين لأن قوله : ( لم كتبت علينا القتال ) لا يليق بالمؤمنين .
وقيل : قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم قالوه خوفا وجبنا لا اعتقادا ، ثم تابوا ، وأهل الإيمان يتفاضلون في الإيمان .
وقيل : هم قوم كانوا مؤمنين فلما فرض عليهم القتال نافقوا من الجبن وتخلفوا عن الجهاد ، ( قل ) يا محمد ، ( متاع الدنيا ) أي : منفعتها والاستمتاع بها ( قليل والآخرة ) أي : وثواب الآخرة خير وأفضل ، ( لمن اتقى ) الشرك ومعصية الرسول ، ( ولا تظلمون فتيلا ) قرأ ابن كثير وأبو جعفر وحمزة والكسائي بالياء والباقون تظلمون بالتاء .
أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن معاوية الصيدلاني ، أخبرنا الأصم ، أنا عبد الله بن محمد بن شاكر ، أنا محمد بن بشر العبدي ، أنا مسعر بن كدام عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم ، حدثني المستورد بن شداد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع " .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (98)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 78 إلى الاية83
( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ( 78 ) ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ( 79 ) )
قوله عز وجل : ( أينما تكونوا يدرككم الموت ) أي : ينزل بكم الموت ، نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فرد الله عليهم بقوله : ( أينما تكونوا يدرككم الموت ) ، ( ولو كنتم في بروج مشيدة ) والبروج : الحصون والقلاع ، والمشيدة : المرفوعة المطولة ، قال قتادة : معناه في قصور محصنة ، وقال عكرمة : مجصصة ، والشيد : الجص ، ( وإن تصبهم حسنة ) نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم قالوا لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه .
قال الله تعالى : ( وإن تصبهم ) يعني : اليهود ( حسنة ) أي خصب ورخص في السعر ، ( يقولوا هذه من عند الله ) لنا ، ( وإن تصبهم سيئة ) يعني : الجدب وغلاء الأسعار ( يقولوا هذه من عندك ) أي : من شؤم محمد وأصحابه ، وقيل : المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر ، وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أحد ، يقولوا هذه من عندك أي : أنت الذي حملتنا عليه يا محمد ، فعلى هذا يكون هذا من قول المنافقين ، ( قل ) لهم يا محمد ، ( كل من عند الله ) أي : الحسنة والسيئة كلها من عند الله ، ثم عيرهم بالجهل فقال : ( فمال هؤلاء القوم ) يعني : المنافقين واليهود ، ( لا يكادون يفقهون حديثا ) أي : لا يفقهون قولا وقيل : الحديث هاهنا هو القرآن أي : لا يفقهون معاني القرآن .
قوله : ( فمال هؤلاء ) قال الفراء : كثرت في الكلام هذه الكلمة حتى توهموا أن اللام متصلة بها وأنهما حرف واحد ، ففصلوا اللام مما بعدها في بعضه ، ووصلوها في بعضه ، والاتصال القراءة ، ولا يجوز الوقف على اللام لأنها لام خافضة .
قوله عز وجل : ( ما أصابك من حسنة ) خير ونعمة ( فمن الله وما أصابك من سيئة ) بلية أو أمر تكرهه ، ( فمن نفسك ) أي : بذنوبك ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره ، نظيره قوله تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ( الشورى - 30 ) ويتعلق أهل القدر بظاهر هذه الآية ، [ ص: 253 ] فقالوا : نفى الله تعالى السيئة عن نفسه ونسبها إلى العبد فقال : ( وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) ولا متعلق لهم فيه ، لأنه ليس المراد من الآية حسنات الكسب ولا سيآته من الطاعات والمعاصي ، بل المراد منهم ما يصيبهم من النعم والمحن ، وذلك ليس من فعلهم بدليل أنه نسبها إلى غيرهم ولم ينسبها إليهم ، فقال : ( ما أصابك ) ولا يقال في الطاعة والمعصية أصابني ، إنما يقال : أصبتها ، ويقال في النعم : أصابني ، بدليل أنه لم يذكر عليه ثوابا ولا عقابا ، فهو كقوله تعالى ( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ) ( الأعراف - 131 ) ، ولما ذكر حسنات الكسب وسيئاته نسبها إليه ، ووعد عليها الثواب والعقاب ، فقال ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ) ( الأنعام - 160 ) .
وقيل : معنى الآية : ما أصابك من حسنة من النصر والظفر يوم بدر فمن الله ، أي : من فضل الله ، وما أصابك من سيئة من القتل والهزيمة يوم أحد فمن نفسك ، أي : بذنب نفسك من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل كيف وجه الجمع بين قوله ( قل كل من عند الله ) وبين قوله ( فمن نفسك ) قيل : قوله ( قل كل من عند الله ) أي : الخصب والجدب والنصر والهزيمة كلها من عند الله ، وقوله : ( فمن نفسك ) أي : ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك ، كما قال الله تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ( الشورى - 30 ) يدل عليه ما روى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه قرأ ( وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) وأنا كتبتها عليك .
وقال بعضهم : هذه الآية متصلة بما قبلها ، والقول فيه مضمر تقديره : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ، يقولون : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ( قل كل من عند الله ) ( وأرسلناك ) يا محمد ( للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ) على إرسالك وصدقك ، وقيل : وكفى بالله شهيدا على أن الحسنة والسيئة كلها من الله تعالى .
( من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ( 80 ) )
قوله تعالى : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحب الله " فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم ربا ، فأنزل الله تعالى : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) أي : من يطع الرسول فيما أمر به فقد أطاع الله ، ( ومن تولى ) عن طاعته ، ( فما أرسلناك ) يا محمد ، [ ص: 254 ] ( عليهم حفيظا ) أي : حافظا ورقيبا ، بل كل أمورهم إليه تعالى ، وقيل : نسخ الله عز وجل هذا بآية السيف ، وأمره بقتال من خالف الله ورسوله .
( ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ( 81 ) أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ( 82 ) وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ( 83 ) )
( ويقولون طاعة ) يعني : المنافقين يقولون باللسان للرسول صلى الله عليه وسلم : إنا آمنا بك فمرنا فأمرك طاعة ، قال النحويون : أي أمرنا وشأننا أن نطيعك ، ( فإذا برزوا ) خرجوا ، ( من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول ) قال قتادة والكلبي : بيت أي : غير وبدل الذي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون التبييت بمعنى التبديل ، وقال أبو عبيدة والقتيبي : معناه : قالوا وقدروا ليلا غير ما أعطوك نهارا ، وكل ما قدر بليل فهو تبييت ، وقال أبو الحسن الأخفش : تقول العرب للشيء إذا قدر ، قد بيت ، يشبهونه بتقدير بيوت الشعر ، ( والله يكتب ) أي : يثبت ويحفظ ، ( ما يبيتون ) ما يزورون ويغيرون ويقدرون ، وقال الضحاك عن ابن عباس : يعني ما يسرون من النفاق ، ( فأعرض عنهم ) يا محمد ولا تعاقبهم ، وقيل : لا تخبر بأسمائهم ، منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الإخبار بأسماء المنافقين ، ( وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ) أي : اتخذه وكيلا وكفى بالله وكيلا وناصرا .
قوله تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن ) يعني : أفلا يتفكرون في القرآن ، والتدبر هو النظر في آخر الأمر ، ودبر كل شيء آخره . ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) أي تفاوتا وتناقضا كثيرا ، قاله ابن عباس ، وقيل : لوجدوا فيه أي : في الإخبار عن الغيب بما كان وبما يكون اختلافا كثيرا ، أفلا يتفكرون فيه فيعرفوا - بعدم التناقض فيه وصدق ما يخبر - أنه كلام الله تعالى لأن ما لا يكون من عند الله لا يخلو عن تناقض واختلاف .
قوله تعالى : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا فإذا غلبوا أو غلبوا بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم ، فيفشون ويحدثون به قبل أن [ ص: 255 ] يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضعفون به قلوب المؤمنين فأنزل الله تعالى ( وإذا جاءهم ) يعني : المنافقين ( أمر من الأمن ) أي : الفتح والغنيمة ( أو الخوف ) القتل والهزيمة ( أذاعوا به ) أشاعوه وأفشوه ، ( ولو ردوه إلى الرسول ) أي : لو لم يحدثوا به حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ، ( وإلى أولي الأمر منهم ) أي : ذوي الرأي من الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) أي : يستخرجونه وهم العلماء ، أي : علموا ما ينبغي أن يكتم وما ينبغي أن يفشى ، والاستنباط : الاستخراج ، يقال : استنبط الماء إذا استخرجه ، وقال عكرمة : يستنبطونه أي : يحرصون عليه ويسألون عنه ، وقال الضحاك : يتبعونه ، يريد الذين سمعوا تلك الأخبار من المؤمنين والمنافقين ، لو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى ذوي الرأي والعلم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، أي : يحبون أن يعلموه على حقيقته كما هو .
( ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان ) كلكم ( إلا قليلا ) فإن قيل : كيف استثنى القليل ولولا فضله لاتبع الكل الشيطان؟ قيل : هو راجع إلى ما قبله ، قيل : معناه أذاعوا به إلا قليلا لم يفشه ، عني بالقليل المؤمنين ، وهذا قول الكلبي واختيار الفراء ، وقال : لأن علم السر إذا ظهر علمه المستنبط وغيره ، والإذاعة قد تكون في بعض دون بعض ، وقيل : لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا ثم قوله : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان ) كلام تام .
وقيل : فضل الله : الإسلام ، ورحمته : القرآن ، يقول لولا ذلك لاتبعتم الشيطان إلا قليلا وهم قوم اهتدوا قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن ، مثل زيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل وجماعة سواهما .
وفي الآية دليل على جواز القياس ، فإن من العلم ما يدرك بالتلاوة والرواية وهو النص ، ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس على المعاني المودعة في النصوص .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (99)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 84 إلى الاية88
( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ( 84 ) )
قوله تعالى : ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم واعد أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم ، فأنزل الله عز وجل ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ) أي : لا تدع جهاد العدو والانتصار للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك ، فإن الله قد وعدك النصرة وعاتبهم على ترك القتال ، والفاء [ ص: 256 ] في قوله تعالى : ( فقاتل ) جواب عن قوله ( ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) فقاتل ، ( وحرض المؤمنين ) على القتال أي حضهم على الجهاد ورغبهم في الثواب ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا فكفاهم الله القتال ، فقال جل ذكره ( عسى الله ) أي : لعل الله ، ( أن يكف بأس الذين كفروا ) أي : قتال الذين كفروا المشركين و " عسى " من الله واجب ، ( والله أشد بأسا ) أي : أشد صولة وأعظم سلطانا ، ( وأشد تنكيلا ) أي : عقوبة .
( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا ( 85 ) )
قوله عز وجل : ( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ) أي : نصيب منها ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الشفاعة الحسنة هي الإصلاح بين الناس ، والشفاعة السيئة هي المشي بالنميمة بين الناس .
وقيل : الشفاعة الحسنة هي حسن القول في الناس ينال به الثواب والخير ، والسيئة هي : الغيبة وإساءة القول في الناس ينال به الشر .
وقوله ( كفل منها ) أي : من وزرها ، وقال مجاهد : هي شفاعة الناس بعضهم لبعض ، ويؤجر الشفيع على شفاعته وإن لم يشفع .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا سفيان الثوري ، عن أبي بردة ، أخبرني جدي أبو بردة ، عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل يسأل أو طالب حاجة أقبل علينا بوجهه ، فقال : " اشفعوا لتؤجروا ليقضي الله على لسان نبيه ما شاء " .
قوله تعالى : ( وكان الله على كل شيء مقيتا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : مقتدرا مجازيا ، قال الشاعر :
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا
وقال مجاهد : شاهدا : وقال قتادة : حافظا ، وقيل : معناه على كل حيوان مقيتا أي : يوصل القوت إليه . [ ص: 257 ]
وجاء في الحديث " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ويقيت " .
( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا ( 86 ) )
قوله تعالى : ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) التحية : هي دعاء الحياة ، والمراد بالتحية هاهنا ، السلام ، يقول : إذا سلم عليكم مسلم فأجيبوا بأحسن منها أو ردوها كما سلم ، فإذا قال : السلام عليكم ، فقل : وعليكم السلام ورحمة الله ، وإذا قال : السلام عليكم ورحمة الله ، فقل : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، فإذا قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد مثله ، روي أن رجلا سلم على ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ثم زاد شيئا ، فقال ابن عباس : إن السلام ينتهي إلى البركة .
وروي عن عمران بن حصين : أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم ، فرد عليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " عشر " ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله ، فرد عليه فجلس ، فقال : " عشرون " ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد عليه ، فقال : " ثلاثون " .
واعلم أن السلام سنة ورد السلام فريضة ، وهو فرض على الكفاية ، وكذلك السلام سنة على الكفاية فإذا سلم واحد من جماعة كان كافيا في السنة ، وإذا سلم واحد على جماعة ورد واحد منهم سقط الفرض عن جميعهم .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر ، أنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكير الكوفي ، أنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم " . [ ص: 258 ]
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا قتيبة ، أنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير؟ قال : " أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " . ومعنى قوله : أي الإسلام خير ، يريد : أي خصال الإسلام خير .
وقيل : ( فحيوا بأحسن منها ) معناه أي إذا كان الذي سلم مسلما ، ( أو ردوها ) بمثلها إذا لم يكن مسلما .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم : فإنما يقول السام عليكم ، فقل عليك " .
قوله تعالى : ( إن الله كان على كل شيء حسيبا ) أي : على كل شيء من رد السلام بمثله أو بأحسن منه ، حسيبا أي : محاسبا مجازيا ، وقال مجاهد : حفيظا ، وقال أبو عبيدة : كافيا ، يقال : حسبي هذا أي كفاني .
( الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا ( 87 ) فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ( 88 ) )
قوله تعالى : ( الله لا إله إلا هو ليجمعنكم ) اللام لام القسم تقديره : والله ليجمعنكم في الموت وفي القبور ، ( إلى يوم القيامة ) وسميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون من قبورهم ، قال الله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا ( المعارج - 43 ) وقيل : لقيامهم إلى الحساب ، قال الله تعالى : " يوم يقوم الناس لرب العالمين " ، ( المطففين - 6 ( ومن أصدق من الله حديثا ) أي : قولا ووعدا ، وقرأ حمزة والكسائي ( أصدق ) صاد ساكنة بعدها دال بإشمام الزاي .
( فما لكم في المنافقين فئتين ) اختلفوا في سبب نزولها فقال قوم : نزلت في الذين تخلفوا يوم أحد [ ص: 259 ] من المنافقين ، فلما رجعوا قال بعض الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتلهم فإنهم منافقون ، وقال بعضهم : اعف عنهم فإنهم تكلموا بالإسلام .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو الوليد ، أنا شعبة ، عن عدي بن ثابت ، قال : سمعت عبد الله بن يزيد ، يحدث عن زيد بن ثابت ، قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين ، فرقة تقول نقاتلهم وفرقة تقول لا نقاتلهم ، فنزلت : ( فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ) وقال : " إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة " .
وقال مجاهد : قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ثم ارتدوا واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة ، فاختلف المسلمون فيهم ، فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون .
وقال بعضهم : نزلت في ناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنزهين حتى باعدوا من المدينة فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ولكنا اجتوينا المدينة واشتقنا إلى أرضنا ، ثم إنهم خرجوا في تجارة لهم نحو الشام فبلغ ذلك المسلمين ، فقال بعضهم : نخرج إليهم فنقتلهم ونأخذ ما معهم لأنهم رغبوا عن ديننا ، وقالت طائفة : كيف تقتلون قوما على دينكم إن لم يذروا ديارهم ، وكان هذا بعين النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساكت لا ينهى واحدا من الفريقين ، فنزلت هذه الآية .
وقال بعضهم : هم قوم أسلموا بمكة ثم لم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين ، فنزلت ( فما لكم ) يا معشر المؤمنين ( في المنافقين فئتين ) أي : صرتم فيهم فئتين ، أي : فرقتين ، ( والله أركسهم ) أي : نكسهم وردهم إلى الكفر ، ( بما كسبوا ) بأعمالهم غير الزاكية ( أتريدون أن تهدوا ) أي : أن ترشدوا ( من أضل الله ) وقيل : معناه أتقولون أن هؤلاء مهتدون وقد أضلهم الله ، ( ومن يضلل الله ) أي : من يضلله الله عن الهدى ، ( فلن تجد له سبيلا ) أي : طريقا إلى الحق .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (100)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 89 إلى الاية92
( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ( 89 ) إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ( 90 ) )
قوله تعالى : ( ودوا ) تمنوا ، يعني أولئك الذين رجعوا عن الدين تمنوا ( لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) في الكفر ، وقوله ( فتكونون ) لم يرد به جواب التمني لأن جواب التمني بالفاء منصوب ، إنما أراد النسق ، أي : ودوا لو تكفرون وودوا لو تكونون سواء ، مثل قوله ودوا لو تدهن فيدهنون ( القلم - 9 ) أي : ودوا لو تدهن وودوا لو تدهنون ، ( فلا تتخذوا منهم أولياء ) منع من موالاتهم ، ( حتى يهاجروا في سبيل الله ) معكم .
قال عكرمة : هي هجرة أخرى ، والهجرة على ثلاثة أوجه : هجرة المؤمنين في أول الإسلام ، وهي قوله تعالى " للفقراء المهاجرين " ( الحشر - 8 ) وقوله : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله " ( النساء - 100 ) ، ونحوهما من الآيات ، وهجرة المنافقين : وهي الخروج في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صابرا محتسبا [ كما حكي هاهنا ] منع من موالاتهم حتى يهاجروا في سبيل الله ، وهجرة سائر المؤمنين وهي ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " .
قوله تعالى : ( فإن تولوا ) أعرضوا عن التوحيد والهجرة ، ( فخذوهم ) أي : خذوهم أسارى ، ومنه يقال للأسير أخيذ ، ( واقتلوهم حيث وجدتموهم ) في الحل والحرم ، ( ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ) ثم استثنى طائفة منهم فقال :
( إلا الذين يصلون إلى قوم ) وهذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة ، لأن موالاة الكفار والمنافقين لا تجوز بحال ، ومعنى ( يصلون ) أي : ينتسبون إليهم ويتصلون بهم ويدخلون فيهم بالحلف والجوار ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريدون ويلجئون إلى قوم ، ( بينكم وبينهم ميثاق ) أي : عهد ، وهم الأسلميون ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر الأسلمي قبل خروجه إلى مكة على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ولجأ إليه فلهم من الجوار مثل ما لهلال ، . [ ص: 261 ] وقال الضحاك عن ابن عباس : أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة كانوا في الصلح والهدنة ، وقال مقاتل : هم خزاعة .
وقوله : ( أو جاءوكم ) أي : يتصلون بقوم جاءوكم ، ( حصرت صدورهم ) أي : ضاقت صدورهم ، قرأ الحسن ويعقوب " حصرة " ) منصوبة منونة أي : ضيقة صدورهم ، [ يعني القوم الذين جاءوكم وهم بنو مدلج ، كانوا عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشا أن لا يقاتلوهم ، حصرت : ضاقت صدورهم ] ، ( أن يقاتلوكم ) أي : عن قتالكم للعهد الذي بينكم ، ( أو يقاتلوا قومهم ) يعني : من أمن منهم ، ويجوز أن يكون معناه أنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ولا يقاتلون قومهم معكم ، يعنيقريشا قد ضاقت صدورهم لذلك .
وقال بعضهم : أو بمعنى الواو ، كأنه يقول : إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم ، أي : حصرت صدورهم عن قتالكم والقتال معكم ، وهم قوم هلال الأسلميون وبنو بكر ، نهى الله سبحانه عن قتال هؤلاء المرتدين إذا اتصلوا بأهل عهد للمسلمين ، لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد فله حكمهم في حقن الدم .
قوله تعالى : ( ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم ) يذكر منته على المسلمين بكف بأس المعاهدين ، يقول : إن ضيق صدورهم عن قتالكم لما ألقى الله في قلوبهم من الرعب وكفهم عن قتالكم ، ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم مع قومهم ، ( فإن اعتزلوكم ) أي : اعتزلوا قتالكم ، ( فلم يقاتلوكم ) ومن اتصل بهم ، ويقال : يوم فتح مكة يقاتلوكم مع قومهم ، ( وألقوا إليكم السلم ) أي : الصلح فانقادوا واستسلموا ( فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) أي : طريقا بالقتل والقتال .
( ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ( 91 ) )
قوله تعالى : ( ستجدون آخرين ) قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : هم أسد وغطفان كانوا حاضري المدينة تكلموا بالإسلام رياء وهم غير مسلمين ، وكان الرجل منهم يقول له قومه بماذا أسلمت؟ فيقول آمنت بهذا القرد وبهذا العقرب والخنفساء ، وإذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : إنا على دينكم ، يريدون بذلك الأمن في الفريقين . [ ص: 262 ]
وقال الضحاك عن ابن عباس هم بنو عبد الدار كانوا بهذه الصفة ، ( يريدون أن يأمنوكم ) فلا تتعرضوا لهم ، ( ويأمنوا قومهم ) فلا يتعرضوا لهم ، ( كلما ردوا إلى الفتنة ) أي : دعوا إلى الشرك ، ( أركسوا فيها ) أي : رجعوا وعادوا إلى الشرك ، ( فإن لم يعتزلوكم ) أي : فإن لم يكفوا عن قتالكم حتى تسيروا إلى مكة ، ( ويلقوا إليكم السلم ) أي : المفاداة والصلح ، ( ويكفوا أيديهم ) ولم يقبضوا أيديهم عن قتالكم ، ( فخذوهم ) أسراء ، ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) أي : وجدتموهم ، ( وأولئكم ) أي : أهل هذه الصفة ، ( جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ) أي : [ حجة بينة ظاهرة بالقتل والقتال ] .
( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما ( 92 ) )
قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ) الآية ، نزلت في عياش ( بن أبي ربيعة ) المخزومي ، وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فأسلم ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله فخرج هاربا إلى المدينة ، وتحصن في أطم من آطامها ، فجزعت أمه لذلك جزعا شديدا وقالت لابنيها الحارث وأبي جهل بن هشام وهما أخواه لأمه : والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتوني به ، فخرجا في طلبه ، وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أتوا المدينة ، فأتوا عياشا وهو في الأطم ، قالا له : انزل فإن أمك لم يئوها سقف بيت بعدك ، وقد حلفت ألا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى ترجع إليها ( ولك عهد الله ) علينا أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك ، فلما ذكروا له جزع أمه وأوثقوا له بالله نزل إليهم فأخرجوه من المدينة ثم أوثقوه بنسعة ، فجلده كل واحد منهم مائة جلدة ، ثم قدموا به على أمه فلما أتاها قالت : والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به ، ثم تركوه موثقا مطروحا في الشمس ما شاء الله ، فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال : يا عياش أهذا الذي [ ص: 263 ] كنت عليه فوالله لئن كان هدى لقد تركت الهدى ، ولئن كانت ضلالة لقد كنت عليها ، فغضب عياش من مقالته ، وقال : والله لا ألقاك خاليا أبدا إلا قتلتك ، ثم إن عياشا أسلم بعد ذلك وهاجر ثم أسلم الحارث بن زيد بعده وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عياش حاضرا يومئذ ولم يشعر بإسلامه ، فبينا عياش يسير بظهر قباء إذ لقي الحارث فقتله ، فقال الناس : ويحك أي شيء صنعت؟ إنه قد أسلم ، فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت ، وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته ، فنزل : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) .
وهذا نهي عن قتل المؤمن كقوله تعالى : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ( الأحزاب - 53 ) .
( إلا خطأ ) استثناء منقطع معناه : لكن إن وقع خطأ ، ( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ) أي : فعليه إعتاق رقبة مؤمنة كفارة ، ( ودية مسلمة ) كاملة ، ( إلى أهله ) أي : إلى أهل القتيل الذي يرثونه ، ( إلا أن يصدقوا ) أي : يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية ، ( فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ) أراد به إذا كان الرجل مسلما في دار الحرب منفردا مع الكفار فقتله من لم يعلم بإسلامه فلا دية فيه ، وعليه الكفارة ، وقيل : المراد منه إذا كان المقتول مسلما في دار الإسلام وهو من نسب قوم كفار ، وقرابته في دار الحرب حرب للمسلمين ففيه الكفارة ولا دية لأهله ، وكان الحارث بن زيد من قوم كفار حرب للمسلمين وكان فيه تحرير رقبة ولم يكن فيه دية لأنه لم يكن بين قومه وبين المسلمين عهد .
قوله تعالى : ( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ) أراد به إذا كان المقتول كافرا ذميا أو معاهدا فيجب فيه الدية والكفارة ، والكفارة تكون بإعتاق رقبة مؤمنة سواء كان المقتول مسلما أو معاهدا ، رجلا كان أو امرأة ، حرا كان أو عبدا ، وتكون في مال القاتل ، ( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) والقاتل إن كان واجدا للرقبة أو قادرا على تحصيلها بوجود ثمنها فاضلا عن نفقته ونفقة عياله وحاجته من مسكن ونحوه فعليه الإعتاق ، ولا يجوز أن ينتقل إلى الصوم فإن عجز عن تحصيلها فعليه صوم شهرين متتابعين ، فإن أفطر يوما متعمدا في خلال الشهرين أو نسي النية ونوى صوما آخر وجب عليه استئناف الشهرين .
وإن أفطر يوما بعذر مرض أو سفر فهل ينقطع التتابع؟ اختلف أهل العلم فيه ، فمنهم من قال : ينقطع وعليه استئناف الشهرين ، وهو قول النخعي وأظهر قولي الشافعي رضي الله عنه لأنه أفطر مختارا ، ومنهم من قال : لا ينقطع وعليه أن يبني ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي . [ ص: 264 ]
ولو حاضت المرأة في خلال الشهرين أفطرت أيام الحيض ولا ينقطع التتابع ، فإذا طهرت بنت على ما صامت ، لأنه أمر مكتوب على النساء لا يمكنهن الاحتراز عنه .
فإن عجز عن الصوم فهل يخرج عنه بإطعام ستين مسكينا؟ فيه قولان ، أحدهما : يخرج كما في كفارة الظهار ، والثاني : لا يخرج لأن الشرع لم يذكر له بدلا فقال : ( فصيام شهرين متتابعين )
( توبة من الله ) أي : جعل الله ذلك توبة لقاتل الخطإ ( وكان الله عليما ) بمن قتل خطأ ( حكيما ) فيما حكم به عليكم .
أما الكلام في بيان الدية ، فاعلم أن القتل على ثلاثة أنواع : عمد محض ، وشبه عمد ، وخطأ محض .
أما العمد المحض فهو : أن يقصد قتل إنسان بما يقصد به القتل غالبا فقتله ففيه القصاص عند وجود التكافؤ ، أو دية مغلظة في مال القاتل حالة .
وشبه العمد : أن يقصد ضربه بما لا يموت مثله من مثل ذلك الضرب غالبا ، بأن ضربه بعصا خفيفة ، أو حجر صغير ضربة أو ضربتين ، فمات فلا قصاص فيه ، بل يجب فيه دية مغلظة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين .
والخطأ المحض هو : أن لا يقصد ضربه بل قصد شيئا آخر فأصابه فمات منه فلا قصاص فيه ، بل تجب دية مخففة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين .
وتجب الكفارة في ماله في الأنواع كلها ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : قتل العمد لا يوجب الكفارة ، لأنه كبيرة كسائر الكبائر .
ودية الحر المسلم مائة من الإبل فإذا عدمت الإبل وجبت قيمتها من الدراهم أو الدنانير في قول ، وفي قول يجب بدل مقدر منها وهو ألف دينار ، أو اثنا عشر ألف درهم ، لما روي عن عمر رضي الله عنه : فرض الدية على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثنى عشر ألف درهم " .
وذهب قوم إلى أن الواجب في الدية مائة من الإبل ، أو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم ، وهو قول عروة بن الزبير والحسن البصري رضي الله عنهما ، وبه قال مالك .
وذهب قوم إلى أنها مائة من الإبل أو ألف دينار ، أو عشرة آلاف درهم ، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي . [ ص: 265 ]
ودية المرأة نصف دية الرجل ، ودية أهل الذمة والعهد ثلث دية المسلم ، إن كان كتابيا ، وإن كان مجوسيا فخمس الدية ، روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ، ودية المجوسي ثمانمائة ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه .
وذهب قوم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دية المسلم ، روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي .
وقال قوم : دية الذمي نصف دية المسلم وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله .
والدية في العمد المحض وشبه العمد مغلظة بالسن فيجب ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها ، وهو قول عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما ، وبه قال عطاء ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي رضي الله عنه ، أنا ابن عيينة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن القاسم بن ربيعة ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إن في قتل العمد الخطإ بالسوط أو العصا مائة من الإبل مغلظة ، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها " .
وذهب قوم إلى أن الدية المغلظة أرباع : خمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وهو قول الزهري وربيعة وبه قال مالك وأحمد وأصحاب الرأي .
وأما دية الخطإ فمخففة ، وهي أخماس بالاتفاق ، غير أنهم اختلفوا في تقسيمها ، فذهب قوم إلى أنها عشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة ، وبه قال مالك والشافعي رحمهم الله ، وأبدل قوم بني اللبون ببنات المخاض ، يروى ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وبه قال أحمد وأصحاب الرأي .
ودية الأطراف على هذا التقدير ، ودية المرأة فيها على النصف من دية الرجل ، والدية في قتل الخطإ وشبه العمد على العاقلة ، وهم عصبات القاتل من الذكور ، ولا يجب على الجاني منها شيء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها على العاقلة .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (101)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 93 إلى الاية96
( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ( 93 ) )
قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) الآية ، نزلت في مقيس بن صبابة الكناني ، وكان قد أسلم هو وأخوه هشام ، فوجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه رجلا من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن صبابة أن تدفعوه إلى مقيس فيقتص منه ، وإن لم تعلموا أن تدفعوا إليه ديته ، فأبلغهم الفهري ذلك فقالوا : سمعا وطاعة لله ولرسوله ، والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي ديته ، فأعطوه مائة من الإبل ، ثم انصرفا راجعين نحو المدينة فأتى الشيطان مقيسا فوسوس إليه ، فقال : تقبل دية أخيك فتكون عليك مسبة ، اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية؛ فتغفل الفهري فرماه بصخرة فشدخه ، ثم ركب بعيرا وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا فنزل فيه : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ( فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) بكفره وارتداده ، وهو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ، عمن أمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة .
قوله تعالى : ( وغضب الله عليه ولعنه ) أي : طرده عن الرحمة ، ( وأعد له عذابا عظيما ) اختلفوا في حكم هذه الآية .
فحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن قاتل المؤمن عمدا لا توبة له ، فقيل له : أليس قد قال الله في سورة الفرقان : ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق إلى أن قال ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب ( الفرقان 67 - 70 ) ، فقال : كانت هذه في الجاهلية ، وذلك أن أناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تدعوا إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلتوالذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله إلا من تاب وآمن فهذه لأولئك .
وأما التي في النساء فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم . [ ص: 267 ]
وقال زيد بن ثابت : لما نزلت التي في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ، عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة ، وأراد بالغليظة هذه الآية ، وباللينة آية الفرقان .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : تلك آية مكية وهذه مدنية نزلت ولم ينسخها شيء .
والذي عليه الأكثرون ، وهو مذهب أهل السنة : أن قاتل المسلم عمدا توبته مقبولة لقوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ( طه - 82 ) وقال : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( النساء - 48 ) وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل ، كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : إن لم يقتل يقال له : لا توبة لك ، وإن قتل ثم جاء يقال : لك توبة . ويروى مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وليس في الآية متعلق لمن يقول بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر ، لأن الآية نزلت في قاتل وهو كافر ، وهو مقيس بن صبابة ، وقيل : إنه وعيد لمن قتل مؤمنا مستحلا لقتله بسبب إيمانه ، ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافرا مخلدا في النار ، وقيل في قوله تعالى : ( فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) معناه : هي جزاؤه إن جازاه ، ولكنه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له بكرمه ، فإنه وعد أن يغفر لمن يشاء .
حكي أن عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال له : هل يخلف الله وعده؟ فقال : لا فقال : أليس قد قال الله تعالى ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) فقال له أبو عمرو بن العلاء : من العجمة أتيت يا أبا عثمان ! إن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفا وذما ، وإنما تعد إخلاف الوعد خلفا وذما ، وأنشد :
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
والدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، قال أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن ، عبادة بن [ ص: 268 ] الصامت رضي الله عنه - وكان شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة - وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه : " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة ، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله ، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه " ، فبايعناه على ذلك .
( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا ( 94 ) )
قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ) الآية ، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك ، وكان من أهل فدك وكان مسلما لم يسلم من قومه غيره ، فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم ، وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي ، فهربوا وأقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين ، فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل ، وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون ، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكبر ونزل وهو يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم ، فتغشاه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجدا شديدا ، وكان قد سبقهم قبل ذلك الخبر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قتلتموه إرادة ما معه " ؟ ثم قرأ هذه الآية على أسامة بن زيد ، فقال : يا رسول الله استغفر لي ، فقال فكيف بلا إله إلا الله؟ قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، قال أسامة : فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات ، وقال : " اعتق رقبة " .
وروى أبو ظبيان عن أسامة رضي الله عنه قال قلت : يا رسول الله إنما قال خوفا من السلاح ، قال : " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفا أم لا " ؟
وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له فسلم عليهم ، قالوا : ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا [ ص: 269 ] بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ) . .
( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ) يعني إذا سافرتم في سبيل الله ، يعني : الجهاد .
( فتبينوا ) قرأ حمزة والكسائي هاهنا في موضعين وفي سورة الحجرات بالتاء والثاء من التثبيت ، أي : قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر ، وقرأ الآخرون بالياء والنون من التبين ، يقال : تبينت الأمر إذا تأملته ، ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم ) هكذا قراءة أهل المدينة وابن عامر وحمزة ، أي : المقادة ، وهو قول " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، وقرأ الآخرون السلام ، وهو السلام الذي هو تحية المسلمين لأنه كان قد سلم عليهم ، وقيل : السلم والسلام واحد ، أي : لا تقولوا لمن سلم عليكم لست مؤمنا ، ( تبتغون عرض الحياة الدنيا ) يعني : تطلبون الغنم والغنيمة ، و " عرض الحياة الدنيا " منافعها ومتاعها ، ( فعند الله مغانم ) أي غنائم ، ( كثيرة ) وقيل : ثواب كثير لمن اتقى قتل المؤمن ، ( كذلك كنتم من قبل ) قال سعيد بن جبير : كذلك كنتم تكتمون إيمانكم من المشركين ( فمن الله عليكم ) بإظهار الإسلام ، وقال قتادة : كنتم ضلالا من قبل فمن الله عليكم بالإسلام والهداية .
وقيل معناه : كذلك كنتم من قبل تأمنون في قومكم بلا إله إلا الله قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها فمن الله عليكم بالهجرة ، فتبينوا أن تقتلوا مؤمنا .
( إن الله كان بما تعملون خبيرا ) قلت : إذا رأى الغزاة في بلد أو قرية شعار الإسلام فعليهم أن يكفوا عنهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوما فإن سمع أذانا كف عنهم ، وإن لم يسمع أغار عليهم .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان ، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق ، عن ابن عصام ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 270 ] كان إذا بعث سرية قال : " إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلوا أحدا " .
( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ( 95 ) )
قوله تعالى : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين ) الآية ، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، ثنا عبد العزيز بن عبد الله ، ثنا إبراهيم بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد الزهري ، حدثني صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال : رأيت مروان بن الحكم جالسا في المسجد فأقبلت حتى جلست إلى جنبه ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله ) قال : فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي ، فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، وكان رجلا أعمى ، فأنزل الله تعالى عليه وفخذه على فخذي ، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ، ثم سري عنه فأنزل الله ( غير أولي الضرر ) .
فهذه الآية في الجهاد والحث عليه ، فقال : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين ) عن الجهاد ( غير أولي الضرر ) قرأ أهل المدينة وابن عامر والكسائي بنصب الراء ، أي : إلا أولي الضرر ، وقرأ الآخرون برفع الراء على نعت " القاعدين " يريد : لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر ، أي : غير أولي الزمانة والضعف في البدن والبصر ، ( والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ) غير أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين ، لأن العذر أقعدهم .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا عبد الرحيم بن منيب ، أنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حميد الطويل ، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك ، فدنا من المدينة قال : " إن في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه " ، قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال : " نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر " [ ص: 271 ]
وروى القاسم عن ابن عباس قال : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين ) عن بدر والخارجون إلى بدر .
قوله تعالى : ( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ) أي : فضيلة ، وقيل : أراد بالقاعدين هاهنا أولي الضرر ، فضل الله المجاهدين عليهم درجة لأن المجاهد باشر الجهاد مع النية وأولو الضرر كانت لهم نية ولكنهم لم يباشروا ، فنزلوا عنهم بدرجة ، ( وكلا ) يعني المجاهد والقاعد ( وعد الله الحسنى ) يعني : الجنة بإيمانهم ، وقال مقاتل : يعني المجاهد والقاعد المعذور ، ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) يعني : على القاعدين من غير عذر .
( درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ( 96 ) )
( درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ) قال ابن محيريز في هذه الآية : هي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين خريفا .
وقيل : الدرجات هي الإسلام والجهاد والهجرة والشهادة فاز بها المجاهدون ، أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي ، أنا عبد الله بن مسلم أبو بكر الجوربذي ، أنا يونس بن عبد الأعلى ، أنا ابن وهب ، حدثني أبو هانئ الخولاني ، عن أبي عبد الرحمن الجبلي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا سعيد من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة " قال فعجب لها أبو سعيد فقال : أعدها علي يا رسول الله ، ففعل ، قال : " وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " قال : وما هي يا رسول الله؟ فقال : " الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله " .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي بن الشاه ، أنا أبي ، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن صالح المطرز ، أنا محمد بن يحيى ، أنا شريح بن النعمان ، أنا فليح ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة ، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها " ، قالوا : أفلا ننذر الناس بذلك؟ قال : " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين كل من الدرجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس [ ص: 272 ] فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة " .
واعلم أن الجهاد في الجملة فرض ، غير أنه ينقسم إلى فرض العين وفرض الكفاية .
ففرض العين : أن يدخل الكفار دار قوم من المؤمنين ، فيجب على كل مكلف من الرجال ، ممن لا عذر له من أهل تلك البلدة الخروج إلى عدوهم ، حرا كان أو عبدا ، غنيا كان أو فقيرا ، دفعا عن أنفسهم وعن جيرانهم .
وهو في حق من بعد منهم من المسلمين فرض على الكفاية ، فإن لم تقع الكفاية بمن نزل بهم يجب على من بعد منهم من المسلمين عونهم ، وإن وقعت الكفاية بالنازلين بهم فلا فرض على الأبعدين إلا على طريق الاختيار ، ولا يدخل في هذا القسم العبيد والفقراء ، ومن هذا القبيل أن يكون الكفار قارين في بلادهم ، فعلى الإمام أن لا يخلي سنة عن غزوة يغزوها بنفسه أو بسراياه حتى لا يكون الجهاد معطلا والاختيار للمطيق الجهاد مع وقوع الكفاية بغيره : أن لا يقعد عن الجهاد ، ولكن لا يفترض ، لأن الله تعالى وعد المجاهد والقاعد الثواب في هذه الآية فقال : ( وكلا وعد الله الحسنى ) ولو كان فرضا على الكافة لاستحق القاعد العقاب لا الثواب .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (102)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 97 إلى الاية101
( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ( 97 ) )
قوله تعالى : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) الآية ، نزلت في ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا ، منهم : قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما ، فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم فقتلوا مع الكفار ، فقال الله تعالى : ( إن الذين توفاهم الملائكة ) أراد به ملك الموت وأعوانه ، أو أراد ملك الموت وحده ، كما قال تعالى : " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " ( السجدة - 11 ) ، والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع ( ظالمي أنفسهم ) بالشرك ، وهو نصب على الحال أي : في حال ظلمهم ، قيل : أي بالمقام في دار الشرك لأن الله تعالى لم يقبل الإسلام بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالهجرة ، ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا هجرة بعد الفتح " ، وهؤلاء قتلوا يوم بدر وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ، وقالوا لهم : فيم كنتم؟ فذلك قوله تعالى : ( قالوا فيم كنتم ) أي : في ماذا كنتم؟ أو في أي الفريقين كنتم؟ أفي المسلمين؟ [ ص: 273 ] أم في المشركين؟ سؤال توبيخ وتعيير فاعتذروا بالضعف عن مقاومة أهل الشرك ، و ( قالوا كنا مستضعفين ) عاجزين ، ( في الأرض ) يعني أرض مكة ، ( قالوا ) يعني : الملائكة ( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) يعني : إلى المدينة وتخرجوا من مكة ، من بين أهل الشرك؟ فأكذبهم الله تعالى وأعلمنا بكذبهم ، وقال : ( فأولئك مأواهم ) منزلهم ( جهنم وساءت مصيرا ) أي : بئس المصير إلى جهنم .
( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ( 98 ) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ( 99 ) ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ( 100 ) )
ثم استثنى أهل العذر منهم ، فقال : ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ) لا يقدرون على حيلة ولا على نفقة ولا قوة للخروج منها ، ( ولا يهتدون سبيلا ) أي : لا يعرفون طريقا إلى الخروج . وقال مجاهد : لا يعرفون طريق المدينة .
( فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ) يتجاوز عنهم ، وعسى من الله واجب ، لأنه للإطماع ، والله تعالى إذا أطمع عبدا وصله إليه ، ( وكان الله عفوا غفورا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : كنت أنا وأمي ممن عذر الله ، يعني المستضعفين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهؤلاء المستضعفين في الصلاة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا معاذ بن فضالة ، أنا هشام ، عن يحيى هو ابن أبي كثير ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قال : سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد في الركعة الآخرة من صلاة العشاء قنت اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج الوليد اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف " .
قوله تعالى : ( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ) قال علي بن أبي [ ص: 274 ] طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( مراغما ) أي : متحولا يتحول إليه ، وقال مجاهد : متزحزحا عما يكره ، وقال أبو عبيدة : المراغم : يقال : راغمت قومي وهاجرتهم ، وهو المضطرب والمذهب .
روي أنه لما نزلت هذه الآية سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير مريض يقال له جندع بن ضمرة ، فقال : والله ما أبيت الليلة بمكة ، أخرجوني ، فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التنعيم فأدركه الموت ، فصفق يمينه على شماله ثم قال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك ، فمات فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لو وافى المدينة لكان أتم وأوفى أجرا ، وضحك المشركون وقالوا : ما أدرك هذا ما طلب ، فأنزل الله : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت ) . أي : قبل بلوغه إلى مهاجره ، ( فقد وقع ) أي : وجب ( أجره على الله ) بإيجابه على نفسه فضلا منه ، ( وكان الله غفورا رحيما ) .
( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ( 101 ) )
قوله عز وجل : ( وإذا ضربتم في الأرض ) أي : سافرتم ، ( فليس عليكم جناح ) أي : حرج وإثم ( أن تقصروا من الصلاة ) يعني من أربع ركعات إلى ركعتين ، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء ( إن خفتم أن يفتنكم ) أي : يغتالكم ويقتلكم ( الذين كفروا ) في الصلاة ، نظيره قوله تعالى : " على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم " ( يونس - 83 ) أي : يقتلهم .
( إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) أي : ظاهر العداوة .
اعلم أن قصر الصلاة في السفر جائز بإجماع الأمة ، واختلفوا في جواز الإتمام : فذهب أكثرهم إلى أن القصر واجب ، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة وهو قول مالك وأصحاب الرأي ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر " .
وذهب قوم إلى جواز الإتمام ، روي ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ، وبه قال الشافعي رضي الله عنه ، إن شاء أتم وإن شاء قصر ، والقصر أفضل . [ ص: 275 ]
[ أخبرنا الإمام عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : " كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وأتم " .
وظاهر القرآن يدل على هذا ، لأنه قال : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) ولفظ لا جناح إنما يستعمل في الرخص لا فيما يكون حتما ، فظاهر الآية [ يوجب أن القصر ] لا يجوز إلا عند الخوف وليس الأمر على ذلك ، إنما نزلت الآية على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو .
والقصر جائز في السفر في حال الأمن عند عامة أهل العلم ، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا مسلم بن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن ابن جريج ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار ، عن عبد الله بن باباه ، عن يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما قال الله تعالى ( أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) وقد أمن الناس ، فقال عمر رضي الله عنه : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته " .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا عبد الوهاب ، عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سافر رسول الله بين مكة والمدينة آمنا لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين " .
وذهب قوم إلى أن ركعتي المسافر ليستا بقصر إنما القصر أن يصلي ركعة واحدة في الخوف ، يروى ذلك عنجابر رضي الله عنه وهو قول عطاء وطاوس والحسن ومجاهد ، وجعلوا شرط الخوف المذكور في الآية : باقيا وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الاقتصار على ركعة واحدة لا يجوز خائفا كان أو آمنا .
واختلف أهل العلم في مسافة القصر ، فقالت طائفة : يجوز القصر في السفر الطويل والقصير ، روي [ ص: 276 ] ذلك عن أنس رضي الله عنه ، وقال عمرو بن دينار : قال لي جابر بن زيد : اقصر بعرفة ، أما عامة الفقهاء فلا يجوزون القصر في السفر القصير .
واختلف في حد ما يجوز به القصر ، فقال الأوزاعي : مسيرة يوم ، وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخا ، وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق ، وقول الحسن والزهري قريب من ذلك ، قالا مسيرة يومين ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه ، قال : مسيرة ليلتين قاصدتين ، وقال في موضع : ستة وأربعون ميلا بالهاشمي ، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : مسيرة ثلاثة أيام .
وقيل : قوله ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) متصل بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله ، روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال : نزل قوله ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) هذا القدر ، ثم بعد حول سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) وإذا كنت فيهم ) الآية . ومثله في القرآن كثير ، أن يجيء الخبر بتمامه ثم ينسق عليه خبر آخر ، وهو في الظاهر كالمتصل به ، وهو منفصل عنه ، كقوله تعالى : " الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين " ( يوسف - 51 ) ، وهذه حكاية عن امرأة العزيز ، وقوله : " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " ( يوسف - 52 ) إخبار عن يوسف عليه السلام .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (103)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 102 إلى الاية105
( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ( 102 ) )
قوله تعالى : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس [ ص: 277 ] وجابر رضي الله عنهم أن المشركين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلون جماعة ندموا أن لو كانوا كبوا عليهم ، فقال بعضهم لبعض : دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم ، يعني صلاة العصر ، فإذا قاموا فيها فشدوا عليهم فاقتلوهم ، فنزل جبريل عليه السلام فقال : يا محمد إنها صلاة الخوف وإن الله عز وجل يقول : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) فعلمه صلاة الخوف .
وجملته : أن العدو إذا كانوا في معسكرهم في غير ناحية القبلة فيجعل الإمام القوم فرقتين فتقف طائفة وجاه العدو تحرسهم ، ويشرع الإمام مع طائفة في الصلاة ، فإذا صلى بهم ركعة قام وثبت قائما حتى أتموا صلاتهم ، ذهبوا إلى وجاه العدو ثم أتت الطائفة الثانية فصلى بهم الركعة الثانية ، وثبت جالسا حتى أتموا لأنفسهم الصلاة ، ثم يسلم بهم ، وهذه رواية سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بذات الرقاع ، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق .
أنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات ، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف : أن طائفة صفت معه وصفت طائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم . قال مالك : وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا مسدد أنا يحيى عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا .
وذهب قوم إلى أن الإمام إذا قام إلى الركعة الثانية تذهب الطائفة الأولى في خلال الصلاة إلى وجاه العدو وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم الركعة الثانية ويسلم وهم لا يسلمون بل يذهبون إلى وجاه العدو ، وتعود الطائفة الأولى فتتم صلاتها ، ثم تعود الطائفة الثانية فتتم صلاتها ، وهذه رواية عبد الله بن عمر رضي [ ص: 278 ] الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك . وهو قول أصحاب الرأي .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أنا أبو عيسى الترمذي ، أنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، أنا يزيد بن زريع ، أنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا فقاموا في مقام أولئك وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ثم سلم بهم ، فقام هؤلاء فصلوا ركعتهم .
وكلتا الروايتين صحيحة ، فذهب قوم إلى أن هذا من الاختلاف المباح ، وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى حديث سهل بن أبي حثمة لأنه أشد موافقة لظاهر القرآن وأحوط للصلاة وأبلغ في حراسة العدو ، وذلك لأن الله تعالى قال : ( فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ) أي : إذا صلوا ، ثم قال : ( ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا ) وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلوا ، وقال : ( فليصلوا معك ) فمقتضاه أن يصلوا تمام الصلاة ، فظاهره يدل أن كل طائفة تفارق الإمام بعد تمام الصلاة ، والاحتياط لأمر الصلاة من حيث أنه لا يكثر فيها العمل والذهاب والمجيء والاحتياط لأمر الحرب من حيث أنهم إذا لم يكونوا في الصلاة كان أمكن للحرب والهرب إن احتاجوا إليه .
ولو صلى الإمام أربع ركعات بكل طائفة ركعتين جاز . أنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفرايني ، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ ، قال أنا الصنعاني ، أنا عفان بن مسلم ، ثنا أبان العطار ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة فأخذ سيف نبي الله صلى الله عليه وسلم فاخترطه فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتخافني؟ قال : لا . قال : فمن يمنعك مني؟ قال : الله يمنعني منك ، قال فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فأغمد السيف وعلقه فنودي بالصلاة ، قال فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين : قال : فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان " .
أخبرنا عبد الوهاب بن الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي أخبرني الثقة ابن علية أو غيره ، عن يونس ، عن الحسن ، عن جابر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 279 ] كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخل ، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم ، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم .
وروي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف أنه صلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا " ورواه زيد بن ثابت وقال : " كانت للقوم ركعة واحدة وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان " .
وتأوله قوم على صلاة شدة الخوف ، وقالوا : الفرض في هذه الحالة ركعة واحدة .
وأكثر أهل العلم على أن الخوف لا ينقص عدد الركعات ، وإن كان العدو في ناحية القبلة في مستوى إن حملوا عليهم رأوهم صلى الإمام بهم جميعا وحرسوا في السجود ، كما أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو نعيم الإسفرايني ، أنا أبو عوانة الحافظ ، أنا عمار ، أنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن جابر رضي الله عنهما قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصففنا خلفه صفين ، والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ، ثم انحدر للسجود والصف الذي يليه ، وقام الصف المؤخر نحر العدو فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود [ ثم قاموا ثم ] تقدم الصف المؤخر ، وتأخر المقدم ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى ، وقام الصف المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعا قال جابر رضي الله عنه : كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم .
واعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم . عند عامة أهل العلم . ويحكى عن بعضهم عدم الجواز ولا وجه له . [ ص: 280 ]
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه : كل حديث روي في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز ، روي فيها ستة أوجه أو سبعة أوجه .
وقال مجاهد في سبب نزول هذه الآية عن ابن عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر ، فقال المشركون : لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم ، وهم في الصلاة فنزلت الآية بين الظهر والعصر .
قوله تعالى : ( وإذا كنت فيهم ) أي : شهيدا معهم فأقمت لهم الصلاة ، ( فلتقم طائفة منهم معك ) أي : فلتقف ، كقوله تعالى : " وإذا أظلم عليهم قاموا " ( البقرة - 20 ) أي : وقفوا ، ( وليأخذوا أسلحتهم ) واختلفوا في الذين يأخذون أسلحتهم ، فقال بعضهم : أراد هؤلاء الذين وقفوا مع الإمام يصلون يأخذون الأسلحة في الصلاة ، فعلى هذا إنما يأخذه إذا كان لا يشغله عن الصلاة ، ولا يؤذي من بجنبه [ فإذا شغلته حركته وثقلته عن الصلاة كالجعبة والترس الكبير أو كان يؤذي من جنبه ] كالرمح فلا يأخذه .
وقيل : وليأخذوا أسلحتهم أي : الباقون الذين قاموا في وجه العدو ، ( فإذا سجدوا ) أي : صلوا ، ( فليكونوا من ورائكم ) يريد مكان الذين هم وجاه العدو ، ( ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا ) وهم الذين كانوا في وجه العدو ، ( فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) قيل : هؤلاء الذين أتوا ، وقيل : هم الذين صلوا ، ( ود الذين كفروا ) يتمنى الكفار ، ( لو تغفلون ) أي : لو وجدوكم غافلين ، ( عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ) فيقصدونكم ويحملون عليكم حملة واحدة .
( ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم ) رخص في وضع السلاح في حال المطر والمرض ، لأن السلاح يثقل حمله في هاتين الحالتين ، ( وخذوا حذركم ) أي : راقبوا العدو كيلا يتغفلوكم ، والحذر ما يتقى به من العدو .
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه غزا محاربا وبنى أنمار ، فنزلوا ولا يرون من العدو أحدا ، فوضع الناس أسلحتهم ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة له قد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء ترش ، فحال الوادي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة فبصر به غورث بن الحارث المحاربي فقال : قتلني الله إن لم أقتله ، ثم انحدر من الجبل ومعه السيف فلم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سله من غمده فقال : يا محمد من يعصمك مني الآن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله ، ثم قال : اللهم اكفني [ ص: 281 ] غورث بن الحارث بما شئت ، ثم أهوى بالسيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضربه فأكب لوجهه من زلخة زلخها من بين كتفيه ، وندر سيفه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ثم قال : يا غورث من يمنعك مني الآن؟ قال : لا أحد ، قال تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأعطيك سيفك؟ قال : لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ، فقال غورث : والله لأنت خير مني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أجل أنا أحق بذلك منك ، فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا : ويلك ما منعك منه؟ قال : لقد أهويت إليه بالسيف لأضربه فوالله ما أدري من زلخني بين كتفي فخررت لوجهي ، وذكر حاله قال : وسكن الوادي فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلى أصحابه فأخبرهم الخبر وقرأ عليهم هذه الآية : ( ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ) أي : من عدوكم .
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية كان عبد الرحمن بن عوف جريحا .
( إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ) يهانون فيه ، والجناح : الإثم ، من جنحت : إذا عدلت عن القصد .
( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ( 103 ) )
( فإذا قضيتم الصلاة ) يعني : صلاة الخوف ، أي : فرغتم منها ، ( فاذكروا الله ) أي صلوا لله ( قياما ) في حال الصحة ، ( وقعودا ) في حال المرض ، ( وعلى جنوبكم ) عند الحرج والزمانة ، وقيل : اذكروا الله بالتسبيح والتحميد والتهليل والتمجيد ، على كل حال .
أخبرنا عمرو بن عبد العزيز الكاشاني ، أنا القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا محمد بن العلاء ، أنا ابن أبي زائدة ، عن أبيه ، عن خالد بن سلمة ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه " .
( فإذا اطمأننتم ) أي : سكنتم وأمنتم ، ( فأقيموا الصلاة ) أي : أتموها أربعا بأركانها ، ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) قيل : واجبا مفروضا مقدرا في الحضر أربع ركعات وفي السفر [ ص: 282 ] ركعتان ، وقال مجاهد : أي فرضا مؤقتا وقته الله عليهم .
وقد جاء بيان أوقات الصلاة في الحديث ، أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا أبو بكر عبد الله بن هاشم ، حدثنا وكيع ، أنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن الحارس ، عن عياش بن أبي ربيعة الزرقي ، عن حكيم بن حكيم عن عباد بن حنيف ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمني جبريل عند البيت مرتين فصلى بي المغرب حين أفطر الصائم ، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق ، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم ، وصلى بي الغد الظهر حين كان ظل كل شيء مثله ، وصلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثليه ، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم ، وصلى بي العشاء ثلث الليل الأول ، وصلى بي الفجر فأسفر ، ثم التفت إلي قال : يا محمد هذا وقت النبيين من قبلك ، الوقت ما بين هذين الوقتين " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر بن الحسن الحيري ، أنا وكيع ، أنا حاجب بن أحمد ، ثنا عبد الله بن هشام ، ثنا وكيع ثنا بدر بن عثمان ، ثنا أبو بكر بن أبي موسى الأشعري ، عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سائلا أتاه فسأله عن مواقيت الصلاة ، قال : فلم يرد عليه شيئا ثم أمر بلالا فأذن ثم أمره فأقام الصلاة حين انشق الفجر فصلى ، ثم أمره فأقام الظهر ، والقائل يقول : قد زالت الشمس أو لم تزل ، وهو كان أعلم منهم ، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية ، ثم أمره فأقام المغرب حين وقعت الشمس ، ثم أمره فأقام العشاء حين سقوط الشفق ، قال : وصلى الفجر من الغد ، والقائل يقول : طلعت الشمس أو لم تطلع ، وصلى الظهر قريبا من وقت العصر بالأمس وصلى العصر والقائل يقول قد احمرت الشمس وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق الأحمر ، وصلى العشاء ثلث الليل الأول ، ثم قال : أين السائل عن الوقت؟ فقال الرجل : أنا يا رسول الله ، قال : " ما بين هذين الوقتين وقت " .
( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما ( 104 ) )
قوله تعالى : ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم ) الآية ، سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا يوم [ ص: 283 ] أحد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة في آثارهم فشكوا ألم الجراحات ، فقال الله تعالى : ( ولا تهنوا ) أي : لا تضعفوا ( في ابتغاء القوم ) في طلب أبي سفيان وأصحابه ، ( إن تكونوا تألمون ) تتوجعون من الجراح ، ( فإنهم يألمون ) أي : يتوجعون ، يعني الكفار ، ( كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ) أي : وأنتم مع ذلك تأملون من الأجر والثواب في الآخرة والنصر في الدنيا ما لا يرجون ، وقال بعض المفسرين : المراد بالرجاء الخوف ، لأن كل راج خائف أن لا يدرك مأموله .
ومعنى الآية : وترجون من الله أي : تخافون من الله أي : تخافون من عذاب الله ما لا يخافون ، قال الفراء رحمه الله : ولا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد ، كقوله تعالى : " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله " ( الجاثية - 14 ) أي : لا يخافون ، وقال تعالى : " ما لكم لا ترجون لله وقارا " ( نوح - 13 ) أي : لا تخافون لله عظمته ، ولا يجوز رجوتك بمعنى : خفتك ولا خفتك وأنت تريد رجوتك ( وكان الله عليما حكيما ) .
( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ( 105 ) )
قوله تعالى : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) الآية ، روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعا من جار له يقال له قتادة بن النعمان ، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار ، ثم خبأها عند رجل من اليهود ، يقال له زيد بن السمين ، فالتمست الدرع عند طعمة فحلف : بالله ما أخذها وما له بها من علم ، فقال أصحاب الدرع : لقد رأينا أثر الدقيق حتى دخل داره ، فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي فأخذوه منه ، فقال اليهودي دفعها إلي طعمة بن أبيرق ، فجاء بنو ظفر وهم قوم طعمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يجادل عن صاحبهم ، وقالوا له : إنك إن لم تفعل افتضح صاحبنا ، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاقب اليهودي . ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى أن طعمة سرق الدرع في جراب فيه نخالة فخرق الجراب حتى كان يتناثر منه النخالة طول الطريق فجاء به إلى دار زيد السمين وتركه على بابه ، وحمل الدرع إلى بيته ، فلما أصبح صاحب الدرع جاء على أثر النخالة إلى دار زيد السمين فأخذه وحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يد زيد اليهودي ، وقال مقاتل : إن زيدا [ ص: 284 ] السمين أودع درعا عند طعمة فجحدها طعمة فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ) بالأمر والنهي والفصل ، ( لتحكم بين الناس بما أراك الله ) بما علمك الله وأوحى إليك ، ( ولا تكن للخائنين ) [ طعمة ] ( خصيما ) معينا مدافعا عنه .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (104)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 106 إلى الاية116
( واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ( 106 ) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ( 107 ) يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ( 108 ) )
( واستغفر الله ) مما هممت من معاقبة اليهودي ، وقال مقاتل : واستغفر الله من جدالك عن طعمة ( إن الله كان غفورا رحيما )
( ولا تجادل ) لا تخاصم ، ( عن الذين يختانون أنفسهم ) أي : يظلمون أنفسهم بالخيانة والسرقة ، ( إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ) يريد خوانا في الدرع ، أثيما في رميه اليهودي ، قيل : إنه خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به غيره ، كقوله تعالى : " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك " ، والاستغفار في حق الأنبياء بعد النبوة على أحد الوجوه الثلاثة : إما لذنب تقدم على النبوة أو لذنوب أمته وقرابته ، أو لمباح جاء الشرع بتحريه فيتركه بالاستغفار ، فالاستغفار يكون معناه : السمع والطاعة لحكم الشرع .
( يستخفون من الناس ) أي : يستترون ويستحيون من الناس ، يريد بني ظفر بن الحارث ، ( ولا يستخفون من الله ) أي : لا يستترون ولا يستحيون من الله ، ( وهو معهم إذ يبيتون ) يقولون ويؤلفون ، والتبييت : تدبير الفعل ليلا ( ما لا يرضى من القول ) وذلك أن قوم طعمة قالوا فيما بينهم : نرفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسمع قوله ويمينه لأنه مسلم ولا يسمع من اليهودي فإنه كافر ، فلم يرض الله ذلك [ ص: 285 ] منهم ، ( وكان الله بما يعملون محيطا ) ثم يقول لقوم طعمة :
( ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ( 109 ) ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ( 110 ) ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ( 111 ) ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ( 112 ) ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ( 113 ) )
( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ( 114 ) )
( ها أنتم هؤلاء ) أي : يا هؤلاء ، ( جادلتم ) أي : خاصمتم ، ( عنهم ) يعني : عن طعمة ، وفي قراءة أبي بن كعب : عنه ( في الحياة الدنيا ) والجدال : شدة المخاصمة من الجدل ، وهو شدة الفتل ، فهو يريد فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج ، وقيل : الجدال من الجدالة ، وهي الأرض ، فكأن كل واحد من الخصمين يروم قهر صاحبه وصرعه على الجدالة ، ( فمن يجادل الله عنهم ) يعني : عن طعمة ، ( يوم القيامة ) إذا أخذه الله بعذابه ، ( أم من يكون عليهم وكيلا ) كفيلا أي : من الذي يذب عنهم ، ويتولى أمرهم يوم القيامة؟ ثم استأنف فقال :
( ومن يعمل سوءا ) يعني السرقة ، ( أو يظلم نفسه ) برميه البريء ، وقيل : ومن يعمل سوءا أي : شركا أو يظلم نفسه : يعني : إثما دون الشرك ، ( ثم يستغفر الله ) أي : يتب إليه ويستغفره ، ( يجد الله غفورا رحيما ) يعرض التوبة على طعمة في هذه الآية .
( ومن يكسب إثما ) يعني : يمين طعمة بالباطل ، أي : ما سرقته إنما سرقه اليهودي ( فإنما يكسبه على نفسه ) فإنما يضر به نفسه ، ( وكان الله عليما ) بسارق الدرع ( حكيما ) حكم بالقطع على السارق .
( ومن يكسب خطيئة ) أي : سرقة الدرع ، ( أو إثما ) يمينه الكاذبة ، ( ثم يرم به ) أي : يقذف بما جنى ( بريئا ) منه وهو نسبة السرقة إلى اليهودي ( فقد احتمل بهتانا ) البهتان : هو البهت ، وهو الكذب الذي يتحير في عظمه ، ( وإثما مبينا ) أي : ذنبا بينا ، وقوله ( ثم يرم به ) ولم يقل بهما بعد ذكر الخطيئة والإثم ، رد الكناية إلى الإثم ، أو جعل الخطيئة والإثم كالشيء الواحد .
قوله تعالى : ( ولولا فضل الله عليك ورحمته ) يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : ( لهمت ) لقد همت أي : [ ص: 286 ] أضمرت ، ( طائفة منهم ) يعني : قوم طعمة ، ( أن يضلوك ) يخطئوك في الحكم ويلبسوا عليك الأمر حتى تدافع عن طعمة ، ( وما يضلون إلا أنفسهم ) يعني يرجع وباله عليهم ، ( وما يضرونك من شيء ) يريد أن ضرره يرجع إليهم ، ( وأنزل الله عليك الكتاب ) يعني : القرآن ، ( والحكمة ) يعني : القضاء بالوحي ( وعلمك ما لم تكن تعلم ) من الأحكام ، وقيل : من علم الغيب ، ( وكان فضل الله عليك عظيما ) .
قوله تعالى : ( لا خير في كثير من نجواهم ) يعني : قوم طعمة ، وقال مجاهد : الآية عامة في حق جميع الناس ، والنجوى : هي الإسرار في التدبير ، وقيل : النجوى ما ينفرد بتدبيره قوم سرا كان أو جهرا ، فمعنى الآية : لا خير في كثير مما يدبرونه بينهم ، ( إلا من أمر بصدقة ) أي : إلا في نجوى من أمر بصدقة ، فالنجوى تكون فعلا وقيل : هذا استثناء منقطع ، يعني : لكن من أمر بصدقة ، وقيل النجوى هاهنا : الرجال المتناجون ، كما قال الله تعالى " وإذ هم نجوى " ( الإسراء - 47 ) . ( إلا من أمر بصدقة ) أي : حث عليها ، ( أو معروف ) أي : بطاعة الله وما يعرفه الشرع ، وأعمال البر كلها معروف ، لأن العقول تعرفها .
( أو إصلاح بين الناس ) أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم هو ابن أبي الجعد ، عن أم الدرداء رضي الله عنها ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة " ؟ قال : قلنا بلى ، قال : " إصلاح ذات البين . وفساد ذات البين هي الحالقة " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنا إسماعيل [ ص: 287 ] ابن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة ، وكانت من المهاجرات الأول ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس بالكذاب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى خيرا " .
قوله تعالى : ( ومن يفعل ذلك ) أي : هذه الأشياء التي ذكرها ، ( ابتغاء مرضاة الله ) أي : طلب رضاه ، ( فسوف نؤتيه ) في الآخرة ، ( أجرا عظيما ) قرأ أبو عمرو وحمزة ( يؤتيه ) بالياء ، يعني : يؤتيه الله ، وقرأ الآخرون بالنون .
( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ( 115 ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ( 116 ) )
قوله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول ) نزلت في طعمة بن أبيرق وذلك أنه لما ظهرت عليه السرقة خاف على نفسه من قطع اليد والفضيحة ، فهرب إلى مكة وارتد عن الدين ، فقال تعالى : ( ومن يشاقق الرسول ) أي : يخالفه ، ( من بعد ما تبين له الهدى ) التوحيد والحدود ( ويتبع غير سبيل المؤمنين ) [ أي : غير طريق المؤمنين ( نوله ما تولى ) أي : نكله في الآخرة ] إلى ما تولى في الدنيا ، ( ونصله جهنم وساءت مصيرا )
روي أن طعمة بن أبيرق نزل على رجل من بني سليم من أهل مكة يقال له الحجاج بن علاط ، فنقب بيته فسقط عليه حجر فلم يستطع أن يدخل ولا أن يخرج حتى أصبح ، فأخذ ليقتل ، فقال بعضهم : دعوه فإنه قد لجأ إليكم فتركوه فأخرجوه من مكة ، فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام ، فنزلوا منزلا فسرق بعض متاعهم وهرب ، فطلبوه وأخذوه ورموه بالحجارة حتى قتلوه ، فصار قبره تلك الحجارة ، وقيل : إنه ركب سفينة إلى جدة فسرق فيها كيسا فيه دنانير فأخذ ، فألقي في البحر ، وقيل : إنه نزل في حرة بني سليم وكان يعبد صنما إلى أن مات فأنزل الله تعالى فيه :
( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ) أي : ذهب عن الطريق وحرم الخير كله ، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، إن [ ص: 288 ] هذه الآية نزلت في شيخ من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إني شيخ متهتك في الذنوب ، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ، ولم أتخذ من دونه وليا ولم أواقع المعاصي جرأة على الله ، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا ، وإني لنادم تائب مستغفر فما حالي؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (105)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 117 إلى الاية125
( إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ( 117 ) لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ( 118 ) )
قوله تعالى : ( إن يدعون من دونه إلا إناثا ) نزلت في أهل مكة ، أي : ما يعبدون ، كقوله تعالى : " وقال ربكم ادعوني " ( غافر - 60 ) أي : اعبدوني ، بدليل قوله تعالى : " إن الذين يستكبرون عن عبادتي " ( غافر - 60 ) ، قوله : ( من دونه ) أي : من دون الله ، ( إلا إناثا ) أراد بالإناث الأوثان لأنهم كانوا يسمونها باسم الإناث ، فيقولون : اللات والعزى ومناة ، وكانوا يقولون لصنم كل قبيلة : أنثى بني فلان فكان في كل واحدة منهن شيطان يتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم ، ولذلك قال : ( وإن يدعون إلا شيطانا ) هذا قول أكثر المفسرين .
يدل على صحة هذا التأويل - أن المراد بالإناث الأوثان - : قراءة ابن عباس رضي الله عنه ( إن يدعون من دونه إلا أثنا ) جمع جمع الوثن فصير الواو همزة ، وقال الحسن وقتادة : إلا إناثا أي : مواتا لا روح فيه ، لأن أصنامهم كانت من الجمادات ، سماها إناثا لأنه يخبر عن الموات ، كما يخبر عن الإناث ، ولأن الإناث أدون الجنسين ، كما أن الموات أرذل من الحيوان ، وقال الضحاك : أراد بالإناث الملائكة ، وكان بعضهم يعبدون الملائكة ويقولون : الملائكة إناث ، كما قال الله تعالى : " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا " ( الزخرف - 19 ( وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ) أي : وما يعبدون إلا شيطانا مريدا لأنهم إذا عبدوا الأصنام فقد أطاعوا الشيطان ، والمريد : المارد ، وهو المتمرد العاتي الخارج عن الطاعة ، وأراد : إبليس .
( لعنه الله ) أي : أبعده الله من رحمته ، ( وقال ) يعني : قال إبليس ، ( لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ) أي : حظا معلوما ، فما أطيع فيه إبليس فهو مفروضه ، وفي بعض التفاسير : من كل ألف واحد لله تعالى وتسعمائة وتسعة وتسعون لإبليس ، وأصل الفرض في اللغة : القطع ، ومنه الفرضة في [ ص: 289 ] النهر وهي الثلمة تكون فيه ، وفرض القوس والشراك : للشق الذي يكون فيه الوتر والخيط الذي يشد به الشراك .
( ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ( 121 ) )
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ( 123 ) )
( ولأضلنهم ) يعني : عن الحق ، أي : لأغوينهم ، يقوله إبليس ، وأراد به التزيين ، وإلا فليس إليه من الإضلال شيء ، كما قال : لأزينن لهم في الأرض ( الحجر - 39 ) ( ولأمنينهم ) قيل : أمنينهم ركوب الأهواء ، وقيل : أمنينهم أن لا جنة ولا نار ولا بعث ، وقيل : أمنينهم إدراك الآخرة مع ركوب المعاصي ، ( ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ) أي : يقطعونها ويشقونها ، وهي البحيرة ( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد وسعيد بن المسيب والضحاك : يعني دين الله ، نظيره قوله تعالى : " لا تبديل لخلق الله " ( الروم - 30 ) أي : لدين الله ، يريد وضع الله في الدين بتحليل الحرام وتحريم الحلال .
وقال عكرمة وجماعة من المفسرين : فليغيرن خلق الله بالخصاء والوشم وقطع الآذان حتى حرم بعضهم الخصاء وجوزه بعضهم في البهائم ، لأن فيه غرضا ظاهرا ، وقيل : تغيير خلق الله هو أن الله تعالى خلق الأنعام للركوب والأكل فحرموها ، وخلق الشمس والقمر والأحجار لمنفعة العباد فعبدوها من دون الله ، ( ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله ) أي : ربا يطيعه ، ( فقد خسر خسرانا مبينا )
( يعدهم ويمنيهم ) فوعده وتمنيته ما يوقع في قلب الإنسان من طول العمر ونيل الدنيا ، وقد يكون بالتخويف بالفقر فيمنعه من الإنفاق وصلة الرحم كما قال الله تعالى : " الشيطان يعدكم الفقر " ( البقرة - 268 ) ويمنيهم بأن لا بعث ولا جنة ولا نار ( وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) أي : باطلا .
( أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ) أي : مفرا ومعدلا عنها .
قوله تعالى : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) [ ص: 290 ] أي : من تحت الغرف والمساكن ، ( خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا )
قوله تعالى : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ) الآية . قال مسروق وقتادة والضحاك : أراد ليس بأمانيكم أيها المسلمون ولا أماني أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى ، وذلك أنهم افتخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب ، وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أولى .
وقال مجاهد : ( ليس بأمانيكم ) يا مشركي أهل الكتاب ، وذلك أنهم قالوا : لا بعث ولا حساب ، وقال أهل الكتاب : " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " ( البقرة - 80 ) " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " ( البقرة - 111 ) ، فأنزل الله تعالى : ( ليس بأمانيكم ) أي : ليس الأمر بالأماني وإنما الأمر بالعمل الصالح .
( من يعمل سوءا يجز به ) وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وجماعة : الآية عامة في حق كل عامل .
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين وقالوا : يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا غيرك فكيف الجزاء؟ قال : " منه ما يكون في الدنيا ، فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات ، ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشر ، وبقيت له تسع حسنات ، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره ، وأما ما يكون جزاء في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته ، فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل ، فيعطى الجزاء في الجنة فيؤتي كل ذي فضل فضله " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد العبدوسي ، ثنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ببغداد ، ثنا يحيى بن جعفر بن الزبرقان والحرث بن محمد ، قالا ثنا روح هو ابن عبادة ، ثنا موسى بن عبيدة ، أخبرني مولى بن سباع : سمعت عبد الله بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت علي؟ قال : قلت بلى ، قال : فأقرأنيها ، قال : ولا أعلم إلا أني وجدت انفصاما في ظهري حتى تمطيت لها ، فقال رسول [ ص: 291 ] الله صلى الله عليه وسلم : ما لك يا أبا بكر؟ فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوءا؟ إنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ، وليست لكم ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا يوم القيامة " .
( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ( 125 ) )
قوله تعالى : ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ) أي : مقدار النقير ، وهو النقرة التي تكون في ظهر النواة ، قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل البصرة وأبو بكر ( يدخلون ) بضم الياء وفتح الخاء هاهنا وفي سورة مريم وحم المؤمن ، زاد أبو عمرو : " يدخلونها " في سورة فاطر ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء .
روى الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال : لما نزلت ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) قال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء ، فنزلت هذه الآية : ( ومن يعمل من الصالحات ) الآية ، ونزلت أيضا :
( ومن أحسن دينا ) أحكم دينا ( ممن أسلم وجهه لله ) أي أخلص عمله لله ، وقيل : فوض أمره إلى الله ، ( وهو محسن ) أي : موحد ، ( واتبع ملة إبراهيم ) يعني : دين إبراهيم عليه السلام ، ( حنيفا ) أي : مسلما مخلصا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ومن دين إبراهيم الصلاة إلى الكعبة [ ص: 292 ] والطواف بها ومناسك الحج ، وإنما خص إبراهيم لأنه كان مقبولا عند الأمم أجمع ، وقيل : لأنه بعث على ملة إبراهيم وزيد له أشياء .
( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) صفيا ، والخلة : صفاء المودة ، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان إبراهيم عليه السلام أبا الضيفان ، وكان منزله على ظهر الطريق يضيف من مر به من الناس ، فأصاب الناس سنة فحشروا إلى باب إبراهيم عليه السلام يطلبون الطعام وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر ، فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي له بمصر ، فقال خليله لغلمانه : لو كان إبراهيم عليه السلام إنما يريده لنفسه احتملنا ذلك له ، فقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة ، فرجع رسلإبراهيم عليه السلام ، فمروا ببطحاء فقالوا : [ إنا لو ] حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة ، فإنا نستحي أن نمر بهم وإبلنا فارغة ، فملئوا تلك الغرائر سهلة ثم أتوا إبراهيم فأعلموه وسارة نائمة ، فاهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه ، فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار ، فقالت : سبحان الله ما جاء الغلمان؟ قالوا : بلى ، قالت : فما جاءوا بشيء؟ قالوا : بلى ، فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هي أجود دقيق حواري يكون ، فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس فاستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام ، فقال : يا سارة من أين هذا؟ قالت : من عند خليلك المصري ، فقال : هذا من عند خليلي الله ، قال : فيومئذ اتخذه الله خليلا . قال الزجاج : معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل ، والخلة : الصداقة ، فسمي خليلا لأن الله أحبه واصطفاه . وقيل : هو من الخلة وهي الحاجة ، سمي خليلا أي : فقيرا إلى الله [ لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلا إلى الله عز وجل ] والأول أصح لأن قوله ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) يقتضي الخلة من الجانبين ، ولا يتصور الحاجة من الجانبين .
ثنا أبو المظفر بن أحمد التيمي ، ثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم ، ثنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، ثنا أبو قلابة الرقاشي ، ثنا بشر بن عمر ، ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أبا بكر أخي وصاحبي ، ولقد اتخذ الله صاحبكم خليلا " .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (106)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 126 إلى الاية130
( ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ( 126 ) )
قوله عز وجل : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ) أي : أحاط [ ص: 293 ] علمه بجميع الأشياء .
( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ( 127 ) )
قوله تعالى : ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ) الآية : قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في بنات أم كجة وميراثهن وقد مضت القصة في أول السورة .
وقالت عائشة رضي الله عنها : هي اليتيمة تكون في حجر الرجل ، وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سنة صداقها ، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركها ، وفي رواية هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب أن يتزوجها لدمامتها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها حتى تموت فيرثها ، فنهاهم الله عن ذلك .
قوله عز وجل : ( ويستفتونك ) أي : يستخبرونك في النساء ، ( قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب ) قيل معناه ويفتيكم في ما يتلى عليكم ، وقيل معناه : ونفتيكم ما يتلى عليكم ، يريد : الله يفتيكم وكتابه يفتيكم فيهن ، وهو قوله عز وجل : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) قوله ( في يتامى النساء ) هذا إضافة الشيء إلى نفسه لأنه أراد باليتامى النساء ، ( اللاتي لا تؤتونهن ) أي : لا تعطونهن ، ( ما كتب لهن ) من صداقهن ، ( وترغبون أن تنكحوهن ) أي : في نكاحهن لمالهن وجمالهن بأقل من صداقهن ، وقال الحسن وجماعة أراد أن تؤتونهن حقهن من الميراث ، لأنهم كانوا لا يورثون النساء ، وترغبون أن تنكحوهن ، أي : عن نكاحهن لدمامتهن .
( والمستضعفين من الولدان ) يريد : ويفتيكم في المستضعفين من الولدان وهم الصغار ، أن تعطوهم حقوقهم ، لأنهم كانوا لا يورثون الصغار ، يريد ما يتلى عليكم في باب اليتامى من قوله ( وآتوا اليتامى أموالهم ) [ ص: 294 ] يعني بإعطاء حقوق الصغار ، ( وأن تقوموا لليتامى بالقسط ) أي : ويفتيكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط بالعدل في مهورهن ومواريثهن ، ( وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ) يجازيكم عليه .
( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ( 128 ) )
قوله تعالى : ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ) الآية ، نزلت في عمرة ويقال في خولة بنت محمد بن مسلمة ، وفي زوجها سعد بن الربيع - ويقال رافع بن خديج - تزوجها وهي شابة فلما علاها الكبر تزوج عليها امرأة شابة ، وآثرها عليها ، وجفا ابنة محمد بن سلمة ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه فنزلت فيها هذه الآية .
وقال سعيد بن جبير : كان رجل له امرأة قد كبرت وله منها أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوج عليها غيرها ، فقالت : لا تطلقني ودعني أقوم على أولادي واقسم لي من كل شهرين إن شئت ، وإن شئت فلا تقسم لي . فقال : إن كان يصلح ذلك فهو أحب إلي ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ، فأنزل الله تعالى : ( وإن امرأة خافت ) أي علمت ( من بعلها ) أي : من زوجها ( نشوزا ) أي : بغضا ، قال الكلبي : يعني ترك مضاجعتها ، ( أو إعراضا ) بوجهه عنها وقلة مجالستها ، ( فلا جناح عليهما ) أي : على الزوج والمرأة ، أن يصالحا أي : يتصالحا ، وقرأ أهل الكوفة ( أن يصلحا ) من أصلح ، ( بينهما صلحا ) يعني : في القسمة والنفقة ، وهو أن يقول الزوج لها : إنك قد دخلت في السن وإني أريد أن أتزوج امرأة شابة جميلة أوثرها عليك في القسمة ليلا ونهارا فإن رضيت بهذا فأقيمي وإن كرهت خليت سبيلك ، فإن رضيت كانت هي المحسنة ولا تجبر على ذلك ، وإن لم ترض بدون حقها من القسم كان على الزوج أن يوفيها حقها من القسم والنفقة أو يسرحها بإحسان ، فإن أمسكها ووفاها حقها مع كراهية فهو محسن . [ ص: 295 ]
وقال سليمان بن يسار في هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما : فإن صالحته عن بعض حقها من القسم والنفقة فذلك جائز ما رضيت ، فإن أنكرته بعد الصلح فذلك لها ولها حقها .
وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية : هو أن الرجل يكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة ، فيقول للكبيرة : [ أعطيتك من ] مالي نصيبا على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك فترضى بما اصطلحا عليه ، فإن أبت أن ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم .
وعن علي رضي الله عنه في هذه الآية قال : تكون المرأة عند الرجل فتنبو عينه عنها من دمامة أو كبر فتكره فرقته ، فإن أعطته من مالها فهو له حل ، وإن أعطته من أيامها فهو له حل ( والصلح خير ) يعني : إقامتها بعد تخييره إياها ، والمصالحة على ترك بعض حقها من القسم والنفقة خير من الفرقة ، كمايروى أن سودة رضي الله عنها كانت امرأة كبيرة وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها ، فقالت : لا تطلقني وإنما بي أن أبعث في نسائك وقد جعلت نوبتي لعائشة رضي الله عنها فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يقسم لعائشة يومها ويوم سودة رضي الله عنها .
قوله تبارك وتعالى : ( وأحضرت الأنفس الشح ) يريد : شح كل واحد من الزوجين بنصيبه من الآخر ، والشح : أقبح البخل ، وحقيقته . الحرص على منع الخير ، ( وإن تحسنوا ) أي : تصلحوا ( وتتقوا ) الجور ، وقيل : هذا خطاب مع الأزواج ، أي : وإن تحسنوا بالإقامة معها على الكراهة وتتقوا ظلمها ( فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) فيجزيكم بأعمالكم .
( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ( 129 ) )
قوله تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ) أي : لن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب وميل القلب ، ( ولو حرصتم ) على العدل ، ( فلا تميلوا ) أي : إلى التي تحبونها ، ( كل الميل ) في القسم والنفقة ، أي : لا تتبعوا أهواءكم أفعالكم ، ( فتذروها كالمعلقة ) أي فتدعوا الأخرى كالمنوطة لا أيما ولا ذات بعل . وقال قتادة : كالمحبوسة ، وفي قراءة أبي بن كعب : كأنها مسجونة . [ ص: 296 ]
وروي عن أبي قلابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه ، فيعدل ويقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " ، ورواه بعضهم عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة رضي الله عنها متصلا .
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " . ( وإن تصلحوا وتتقوا ) الجور ، ( فإن الله كان غفورا رحيما ) .
( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ( 130 ) )
( وإن يتفرقا ) يعني : الزوج والمرأة بالطلاق ، ( يغن الله كلا من سعته ) من رزقه ، يعني : المرأة بزوج آخر والزوج بامرأة أخرى ، ( وكان الله واسعا حكيما ) واسع الفضل والرحمة حكيما فيما أمر به ونهى عنه .
وجملة حكم الآية : أن الرجل إذا كانت تحته امرأتان أو أكثر فإنه يجب عليه التسوية بينهن في القسم ، فإن ترك التسوية بينهن في فعل القسم عصى الله تعالى ، وعليه القضاء للمظلومة ، والتسوية شرط في البيتوتة ، أما في الجماع فلا لأنه يدور على النشاط وليس ذلك إليه ولو كانت في نكاحه حرة وأمة فإنه يبيت عند الحرة ليلتين وعند الأمة ليلة واحدة ، وإذا تزوج جديدة على قديمات عنده يخص الجديدة بأن يبيت عندها سبع ليال على التوالي إن كانت بكرا ، وإن كانت ثيبا فثلاث ليال ثم يسوي بعد ذلك بين الكل ، ولا يجب قضاء هذه الليالي للقديمات .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، ثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، ثنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يوسف بن راشد ، ثنا أبو أسامة ، ثنا سفيان الثوري ، ثنا أيوب وخالد ، عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال : من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا ، ثم قسم ، وإذا تزوج [ ص: 297 ] الثيب أقام عندها ثلاثا ، ثم قسم . قال أبو قلابة : ولو شئت لقلت : إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وإذا أراد الرجل سفر حاجة فيجوز له أن يحمل بعض نسائه مع نفسه بعد أن يقرع بينهن فيه ، ثم لا يجب عليه أن يقضي للباقيات مدة سفره ، وإن طالت إذا لم يزد مقامه في بلده على مدة المسافرين ، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، ثنا الربيع ، ثنا الشافعي ، ثنا عمي محمد بن علي بن شافع ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها ، أما إذا أراد سفر نقلة فليس له تخصيص بعضهن لا بالقرعة ولا بغيرها " .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (107)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 131 إلى الاية136
( ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ( 131 ) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ( 132 ) )
قوله تعالى : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) عبيدا وملكا ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) يعني : أهل التوراة والإنجيل وسائر الأمم المتقدمة في كتبهم ، ( وإياكم ) أهل القرآن في كتابكم ، ( أن اتقوا الله ) أي : وحدوا الله وأطيعوه ، ( وإن تكفروا ) بما أوصاكم الله به ( فإن لله ما في السماوات وما في الأرض ) قيل : فإن لله ملائكة في السماوات والأرض هي أطوع له منكم ، ( وكان الله غنيا ) عن جميع خلقه غير محتاج إلى طاعتهم ، ( حميدا ) محمودا على نعمه .
( ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ) قال عكرمة عن ابن عباس : يعني شهيدا أن فيها عبيدا ، وقيل : دافعا ومجيرا .
فإن قيل : فأي فائدة في تكرار قوله تعالى ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) قيل : لكل واحد منهما وجه ، أما الأول : فمعناه لله ما في السماوات وما في الأرض وهو يوصيكم بالتقوى فاقبلوا وصيته ، وأما الثاني فيقول : فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيا أي : هو الغني وله الملك فاطلبوا منه ما تطلبون وأما الثالث فيقول : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ) أي : له الملك فاتخذوه وكيلا ولا تتوكلوا على غيره .
( إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ( 133 ) من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا ( 134 ) )
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ( 135 ) )
قوله تعالى : ( إن يشأ يذهبكم ) يهلككم ( أيها الناس ) يعني : الكفار ، ( ويأت بآخرين ) يقول : بغيركم خير منكم وأطوع ، ( وكان الله على ذلك قديرا ) قادرا .
( من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ) يريد من كان يريد بعمله عرضا من الدنيا ولا يريد بها الله عز وجل آتاه الله من عرض الدنيا أو دفع عنه فيها ما أراد الله ، وليس له في الآخرة من ثواب ، ومن أراد بعمله ثواب الآخرة آتاه الله من الدنيا ما أحب وجزاه الجنة في الآخرة : ( وكان الله سميعا بصيرا )
( ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ) يعني : كونوا قائمين بالشهادة بالقسط ، أي : بالعدل لله ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كانت ، ( ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) في الرحم ، أي : قولوا الحق ولو على أنفسكم بالإقرار أو الوالدين والأقربين ، فأقيموها عليهم لله ، ولا تحابوا غنيا لغناه ولا ترحموا فقيرا لفقره ، فذلك قوله تعالى : ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) منكم أي أقيموا على المشهود عليه وإن كان غنيا وللمشهود له وإن كان فقيرا فالله أولى بهما منكم ، أي كلوا أمرهما إلى الله . وقال الحسن : معناه الله أعلم بهما ، ( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) أي تجوروا وتميلوا إلى الباطل من الحق ، وقيل : معناه لا تتبعوا الهوى لتعدلوا ، أي : لتكونوا عادلين كما يقال : لا تتبع الهوى لترضي ربك .
( وإن تلووا ) أي : تحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق ( أو تعرضوا ) عنها فتكتموها ولا تقيموها ، ويقال : تلووا أي تدافعوا في إقامة الشهادة ، يقال : لويته حقه إذا دفعته ، ومطلته ، وقيل : هذا خطاب مع الحكام في ليهم الأشداق ، يقول : وإن تلووا أي تميلوا إلى أحد الخصمين أو تعرضوا عنه ، قرأ ابن عامر وحمزة ( تلوا ) بضم اللام ، قيل : أصله تلووا ، فحذفت إحدى الواوين تخفيفا ، وقيل : معناه وإن تلوا القيام بأداء [ ص: 299 ] الشهادة أو تعرضوا فتتركوا أداءها ( فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) .
( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ( 136 ) )
قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) الآية ، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب ، وثعلبة بن قيس وسلام بن أخت عبد الله بن سلام ، وسلمة بن أخيه ويامين بن يامين فهؤلاء مؤمنوا أهل الكتاب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن وبموسى والتوارة ، وبكل كتاب قبله " ، فأنزل الله هذه الآية ( يا أيها الذين آمنوا ) بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبموسى عليه السلام والتوراة ( آمنوا بالله ورسوله ) محمد صلى الله عليه وسلم ، ( والكتاب الذي نزل على رسوله ) يعني القرآن ، ( والكتاب الذي أنزل من قبل ) من التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب .
قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو " نزل وأنزل " بضم النون والألف ، وقرأ الآخرون " نزل وأنزل " بالفتح أي أنزل الله .
( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ) فلما نزلت هذه الآية قالوا : فإنا نؤمن بالله ورسوله والقرآن وبكل رسول وكتاب كان قبل القرآن ، والملائكة واليوم الآخر لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون .
وقال الضحاك : أراد به اليهود والنصارى ، يقول : ( يا أيها الذين آمنوا ) بموسى وعيسى ( آمنوا ) بمحمد والقرآن ، وقال مجاهد : أراد به المنافقين ، يقول : يا أيها الذين آمنوا باللسان آمنوا بالقلب وقال أبو العالية وجماعة : هذا خطاب للمؤمنين يقول : ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا ) أي أقيموا واثبتوا على الإيمان ، كما يقال للقائم : قم حتى أرجع إليك ، أي اثبت قائما ، وقيل : المراد به أهل الشرك ، يعني ( يا أيها الذين آمنوا ) باللات والعزى ( آمنوا ) بالله ورسوله .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (108)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 137 إلى الاية143
( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ( 137 ) بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ( 138 ) الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ( 139 ) )
قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا ) قال قتادة : هم اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا من بعد بعبادتهم العجل ، ثم آمنوا بالتوراة ثم كفروا بعيسى عليه السلام ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : هو في جميع أهل الكتاب آمنوا بنبيهم ثم كفروا به ، وآمنوا بالكتاب الذي نزل عليه ثم كفروا به ، وكفرهم به : تركهم إياه ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : هذا في قوم مرتدين آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا .
ومثل هذا هل تقبل توبته؟ حكي عن علي رضي الله عنه : أنه لا تقبل توبته بل يقتل ، لقوله تعالى : ( لم يكن الله ليغفر لهم ) وأكثر أهل العلم على قبول توبته ، وقال مجاهد : ثم ازدادوا كفرا أي ماتوا عليه ، ( لم يكن الله ليغفر لهم ) ما أقاموا على ذلك ، ( ولا ليهديهم سبيلا ) أي طريقا إلى الحق ، فإن قيل : ما معنى قوله ( لم يكن الله ليغفر لهم ) ومعلوم أنه لا يغفر الشرك إن كان أول مرة؟ .
قيل : معناه أن الكافر إذا أسلم أول مرة ودام عليه يغفر له كفره السابق ، فإن أسلم ثم كفر ثم أسلم ثم كفر لا يغفر له كفره السابق ، الذي كان يغفر له لو دام على الإسلام .
( بشر المنافقين ) أخبرهم يا محمد ، ( بأن لهم عذابا أليما ) والبشارة : كل خبر يتغير به بشرة الوجه سارا كان أو غير سار ، وقال الزجاج : معناه اجعل في موضع بشارتك لهم العذاب ، كما تقول العرب : تحيتك الضرب وعتابك السيف ، أي : [ بدلا لك ] من التحية ، ثم وصف المنافقين فقال :
( الذين يتخذون الكافرين أولياء ) يعني : يتخذون اليهود أولياء وأنصارا أو بطانة ( من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة ) أي : المعونة والظهور على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه : وقيل : أيطلبون عندهم القوة والغلبة ، ( فإن العزة ) أي : الغلبة والقوة والقدرة ، ( لله جميعا ) .
[ ص: 301 ] ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ( 140 ) )
( الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ( 141 ) )
( وقد نزل عليكم في الكتاب ) قرأ عاصم ويعقوب " نزل " بفتح النون والزاي ، أي : نزل الله ، وقرأ الآخرون " نزل " بضم النون وكسر الزاي ، أي : عليكم يا معشر المسلمين ، ( أن إذا سمعتم آيات الله ) يعني القرآن ، ( يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم ) يعني : مع الذي يستهزئون ، ( حتى يخوضوا في حديث غيره ) أي : يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وهذا إشارة إلى ما أنزل الله في سورة الأنعام " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره " ( الأنعام - 68 ) .
وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة ، ( إنكم إذا مثلهم ) أي : إن قعدتم عندهم وهم يخوضون ويستهزئون ورضيتم به فأنتم كفار مثلهم ، وإن خاضوا في حديث غيره فلا بأس بالقعود معهم مع الكراهة ، وقال الحسن : لا يجوز القعود معهم وإن خاضوا في حديث غيره ، لقوله تعالى : ( وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) والأكثرون على الأول . وآية الأنعام مكية وهذه مدنية والمتأخر أولى : ( إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا )
( الذين يتربصون بكم ) [ ينتظرون بكم الدوائر ] ، يعني : المنافقين ، ( فإن كان لكم فتح من الله ) يعني : ظفر وغنيمة ، ( قالوا ) لكم ( ألم نكن معكم ) على دينكم في الجهاد ، كنا معكم فاجعلوا لنا نصيبا من الغنيمة ، ( وإن كان للكافرين نصيب ) يعني دولة وظهور على المسلمين ، ( قالوا ) يعني : المنافقين للكافرين ، ( ألم نستحوذ عليكم ) والاستحواذ : هو الاستيلاء والغلبة ، قال تعالى : " استحوذ عليهم الشيطان " ( المجادلة - 19 ) أي : استولى وغلب ، يقول : ألم نخبركم بعورة محمد [ ص: 302 ] صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونطلعكم على سرهم؟
قال المبرد : يقول المنافقون للكفار ألم نغلبكم على رأيكم ( ونمنعكم ) ونصرفكم ، ( من المؤمنين ) أي : عن الدخول في جملتهم ، وقيل : معناه ألم نستول عليكم بالنصرة لكم ونمنعكم من المؤمنين؟ أي : ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إياكم بأخبارهم وأمورهم ، ومراد المنافقين بهذا الكلام إظهار المنة على الكافرين .
( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) يعني : بين أهل الإيمان وأهل النفاق ، ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) قال علي : في الآخرة ، وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم : أي حجة ، وقيل : ظهورا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ( 142 ) مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ( 143 ) )
( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) أي يعاملونه معاملة المخادعين وهو خادعهم ، أي : مجازيهم على خداعهم وذلك أنهم يعطون نورا يوم القيامة كما للمؤمنين ، فيمضي المؤمنون بنورهم على الصراط ، ويطفأ نور المنافقين ، ( وإذا قاموا إلى الصلاة ) يعني : المنافقين ( قاموا كسالى ) أي : متثاقلين لا يريدون بها الله فإن رآهم أحد صلوا وإلا انصرفوا فلا يصلون ، ( يراءون الناس ) أي : يفعلون ذلك مراءاة للناس لا اتباعا لأمر الله ، ( ولا يذكرون الله إلا قليلا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن : إنما قال ذلك لأنهم يفعلونها رياء وسمعة ، ولو أرادوا بذلك القليل وجه الله تعالى لكان كثيرا ، وقال قتادة : إنما قل ذكر المنافقين لأن الله تعالى لم يقبله ، وكل ما قبل الله فهو كثير .
( مذبذبين بين ذلك ) أي : مترددين متحيرين بين الكفر والإيمان ، ( لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) أي : ليسوا من المؤمنين فيجب لهم ما يجب للمؤمنين ، وليسوا من الكفار فيؤخذ منهم ما يؤخذ من الكفار ، ( ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) أي : طريقا إلى الهدى .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، قال أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج ، أنا محمد بن المثنى ، أنا عبد الوهاب ، يعني الثقفي أنا عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تعير إلى [ ص: 303 ] هذه مرة وإلى هذه مرة " .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (109)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 144 إلى الاية157
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ( 144 ) إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ( 145 ) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ( 146 ) ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ( 147 ) )
قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار ، وقال : ( أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ) أي حجة بينة في عذابكم ، ثم ذكر منازل المنافقين ، فقال جل ذكره :
( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) قرأ أهل الكوفة ( في الدرك ) بسكون الراء والباقون بفتحها وهما لغتان كالظعن والظعن والنهر والنهر ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : ( في الدرك الأسفل ) في توابيت من حديد مقفلة في النار ، وقال أبو هريرة : بيت مقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم ، ( ولن تجد لهم نصيرا ) مانعا من العذاب .
( إلا الذين تابوا ) من النفاق وآمنوا ( وأصلحوا ) عملهم ( واعتصموا بالله ) وثقوا بالله ( وأخلصوا دينهم لله ) أراد الإخلاص بالقلب ، لأن النفاق كفر القلب ، فزواله يكون بإخلاص القلب ، ( فأولئك مع المؤمنين ) قال الفراء : من المؤمنين ، ( وسوف يؤت الله المؤمنين ) في الآخرة ( أجرا عظيما ) يعني : الجنة ، وحذفت الياء من ( يؤت الله ) في الخط لسقوطها في اللفظ ، وسقوطها في اللفظ لسكون اللام في " الله " .
قوله تعالى : ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم ) أي : إن شكرتم نعماءه ( وآمنتم ) به ، فيه تقديم وتأخير ، تقديره : إن آمنتم وشكرتم ، لأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان ، وهذا استفهام بمعنى التقرير ، معناه : إنه لا يعذب المؤمن الشاكر ، فإن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه ، وتركه عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه ، والشكر : ضد الكفر والكفر ستر النعمة ، والشكر : إظهارها ، ( وكان الله شاكرا عليما ) فالشكر من الله تعالى هو الرضى بالقليل من عباده وإضعاف الثواب عليه ، والشكر من العبد : [ ص: 304 ] الطاعة ، ومن الله : الثواب .
( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ( 148 ) إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ( 149 ) )
قوله : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) يعني : لا يحب الله الجهر بالقبح من القول إلا من ظلم ، فيجوز للمظلوم أن يخبر عن ظلم الظالم وأن يدعو عليه ، قال الله تعالى : " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " ( الشورى - 41 ) ، قال الحسن : دعاؤه عليه أن يقول : اللهم أعني عليه اللهم استخرج حقي منه ، وقيل : إن شتم جاز أن يشتم بمثله لا يزيد عليه .
أخبرنا أبو عبد الله الخرقي ، أنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، أنا العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم " .
وقال مجاهد هذا في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكو ويذكر ما صنع به . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ، أنا قتيبة بن سعيد ، أنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر ، أنه قال : قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم " .
وقرأ الضحاك بن مزاحم وزيد بن أسلم : ( إلا من ظلم ) بفتح الظاء واللام ، معناه : لكن الظالم اجهروا له بالسوء من القول ، وقيل معناه : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لكن يجهر من ظلم ، والقراءة الأولى هي المعروفة ، ( وكان الله سميعا ) لدعاء المظلوم ، ( عليما ) بعقاب الظالم .
قوله تعالى : ( إن تبدوا خيرا ) يعني : حسنة فيعمل بها كتبت له عشرا ، وإن هم بها ولم يعملها كتبت له حسنة واحدة ، وهو قوله ( أو تخفوه ) وقيل المراد من الخير : المال ، يريد : إن تبدوا صدقة تعطونها جهرا أو تخفوها فتعطوها سرا ، ( أو تعفوا عن سوء ) أي : عن مظلمة ، ( فإن الله كان عفوا قديرا ) أولى بالتجاوز عنكم يوم القيامة .
[ ص: 305 ] ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ( 153 ) )
قوله عز وجل : ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ) الآية ، نزلت في اليهود ، وذلك أنهم آمنوا بموسى عليه السلام والتوراة وعزير ، وكفروا بعيسى والإنجيل وبمحمد والقرآن ، ( ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ) أي : دينا بين اليهودية والإسلام ومذهبا يذهبون إليه .
( أولئك هم الكافرون حقا ) حقق كفرهم ليعلم أن الكفر ببعضهم كالكفر بجميعهم ( وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا )
( والذين آمنوا بالله ورسله ) كلهم ( ولم يفرقوا بين أحد منهم ) يعني : بين الرسل وهم المؤمنون ، يقولون : لا نفرق بين أحد من رسله ، ( أولئك سوف يؤتيهم أجورهم ) بإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، قرأ حفص عن عاصم ( يؤتيهم ) بالياء ، أي : ( يؤتيهم الله ) ، والباقون بالنون ( وكان الله غفورا رحيما )
قوله تعالى : ( يسألك أهل الكتاب ) الآية ، وذلك أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء من اليهود قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبيا فأتنا بكتاب جملة من السماء ، كما أتى بهموسى عليه السلام ، فأنزل الله عليه : ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ) . [ ص: 306 ]
وكان هذا السؤال منهم سؤال تحكم واقتراح ، لا سؤال انقياد ، والله تعالى لا ينزل الآيات على اقتراح العباد . قوله : ( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ) أي : أعظم من ذلك ، يعني : السبعين الذي خرج بهم موسى عليه السلام إلى الجبل ، ( فقالوا أرنا الله جهرة ) أي : عيانا ، قال أبو عبيدة : معناه قالوا جهرة أرنا الله ، ( فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل ) يعني إلها ، ( من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك ) ولم نستأصلهم ، قيل : هذا استدعاء إلى التوبة ، معناه : أن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم ، فتوبوا أنتم حتى نعفو عنكم ، ( وآتينا موسى سلطانا مبينا ) أي : حجة بينة من المعجزات ، وهي الآيات التسع .
( ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ( 154 ) )
( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ( 155 ) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ( 156 ) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا ( 157 ) )
قوله تعالى : ( ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت ) قرأ أهل المدينة بتشديد الدال وفتح العين نافع برواية ورش ويجزمها الآخرون ، ومعناه : لا تعتدوا ولا تظلموا باصطياد الحيتان فيه ، ( وأخذنا منهم ميثاقا غليظا )
قوله تعالى : ( فبما نقضهم ميثاقهم ) أي : فبنقضهم ، و " ما " صلة كقوله تعالى : " فبما رحمة من الله " ( آل عمران - 159 ) ، ونحوها ، ( وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم ) أي : ختم عليها ، ( فلا يؤمنون إلا قليلا ) يعني : ممن كذب الرسل لا ممن طبع على قلبه ، لأن من طبع الله على قلبه لا يؤمن أبدا ، وأراد بالقليل : عبد الله بن سلام وأصحابه ، وقيل : معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا .
( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ) حين رموها بالزنا .
( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ) [ ص: 307 ] وذلك أن الله تعالى ألقى شبه عيسى عليه السلام على الذي دل اليهود عليه ، وقيل : إنهم حبسوا عيسى عليه السلام في بيت وجعلوا عليه رقيبا فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه السلام على الرقيب فقتلوه ، وقيل غير ذلك ، كما ذكرنا في سورة آل عمران .
قوله تبارك وتعالى : ( وإن الذين اختلفوا فيه ) في قتله ، ( لفي شك منه ) أي : في قتله ، قال الكلبي : اختلافهم فيه هو أن اليهود قالت نحن قتلناه ، وقالت طائفة من النصارى نحن قتلناه ، وقالت طائفة منهم ما قتله هؤلاء ولا هؤلاء بل رفعه الله إلى السماء ، ونحن ننظر إليه ، وقيل : كان الله تعالى ألقى شبه وجهعيسى عليه السلام على وجه صطيافوس ولم يلقه على جسده ، فاختلفوا فيه فقال بعضهم قتلنا عيسى ، فإن الوجه وجه عيسى عليه السلام وقال بعضهم لم نقتله لأن جسده ليس جسد عيسى عليه السلام ، فاختلفوا . قال السدي : اختلافهم من حيث أنهم قالوا : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ قال الله تعالى : ( ما لهم به من علم ) من حقيقة أنه قتل أو لم يقتل ، ( إلا اتباع الظن ) لكنهم يتبعون الظن في قتله . قال الله جل جلاله : ( وما قتلوه يقينا ) أي : ( ما قتلوا عيسى يقينا ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (110)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 158 إلى الاية164
( بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ( 158 ) وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ( 159 ) )
( بل رفعه الله إليه ) وقيل قوله " يقينا " ترجع إلى ما بعده وقوله " وما قتلوه " كلام تام تقديره : بل رفعه الله إليه يقينا ، والهاء في " ما قتلوه " كناية عن عيسى عليه السلام ، وقال الفراء رحمه الله : معناه وما قتلوا الذي ظنوا أنه عيسى يقينا ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه : ما قتلوا ظنهم يقينا ، ( وكان الله عزيزا ) منيعا بالنقمة من اليهود ، ( حكيما ) حكم باللعنة والغضب عليهم ، فسلط عليهم ضيطوس بن اسبسيانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة .
قوله تعالى : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) أي : وما من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى عليه السلام ، هذا قول أكثر المفسرين وأهل العلم ، وقوله " قبل موته " اختلفوا في هذه الكناية : فقال عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي : إنها كناية عن الكتابي ، ومعناه : وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى عليه السلام قبل موته ، إذا وقع في البأس حين لا ينفعه إيمانه سواء احترق أو غرق أو تردى في بئر أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو مات فجأة ، وهذه رواية عن أبي طلحة عن ابن [ ص: 308 ] عباس رضي الله عنهم . قال : فقيل لابن عباس رضي الله عنهما : أرأيت إن خر من فوق بيت؟ قال : يتكلم به في الهواء قال : فقيل أرأيت إن ضرب عنق أحدهم؟ قال : يتلجلج به لسانه .
وذهب قوم إلى أن الهاء في " موته " كناية عن عيسى عليه السلام ، معناه : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى عليه السلام ، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد إلا آمن به حتى تكون الملة واحدة ، ملة الإسلام .
وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويقتل الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون " ، وقال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) قبل موت عيسى بن مريم ، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات .
وروي عن عكرمة : أن الهاء في قوله ( ليؤمنن به ) كناية عن محمد صلى الله عليه وسلم يقول لا يموت كتابي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : هي راجعة إلى الله عز وجل يقول : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن بالله عز وجل ، قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانه .
قوله تعالى : ( ويوم القيامة يكون ) يعني : عيسى عليه السلام ، ( عليهم شهيدا ) أنه قد بلغهم رسالة ربه ، وأقر بالعبودية على نفسه [ كما قال تعالى مخبرا عنه " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم " ( المائدة - 117 ) وكل نبي شاهد على أمته ] قال الله تعالى : " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " ( النساء - 41 ) .
( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ( 160 ) )
قوله عز وجل : ( فبظلم من الذين هادوا ) وهو ما تقدم ذكره من نقضهم الميثاق وكفرهم بآيات الله وبهتانهم على مريم ، وقولهم : إنا قتلنا المسيح ( حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) وهي ما ذكر في [ ص: 309 ] سورة الأنعام ، فقال : " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر " ( الأنعام - 146 ) .
ونظم الآية : فبظلم من الذين هادوا وهو ما ذكرنا ، ( وبصدهم ) وبصرفهم أنفسهم وغيرهم ، ( عن سبيل الله كثيرا ) أي : عن دين الله صدا كثيرا .
( وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ( 161 ) لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ( 162 ) )
( وأخذهم الربا وقد نهوا عنه ) في التوراة ( وأكلهم أموال الناس بالباطل ) من الرشا في الحكم ، والمآكل التي يصيبونها من عوامهم ، عاقبناهم بأن حرمنا عليهم طيبات ، فكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرم عليهم شيء من الطيبات التي كانت حلالا لهم ، قال الله تعالى : " ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون " ( الأنعام - 146 ) ، ( وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما )
( لكن الراسخون في العلم منهم ) يعني : ليس كل أهل الكتاب بهذه الصفة ، لكن الراسخون البالغون في العلم أولو البصائر منهم ، وأراد به الذين أسلموا من علماء اليهود مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ، ( والمؤمنون ) يعني : المهاجرون والأنصار ، ( يؤمنون بما أنزل إليك ) يعني : القرآن ، ( وما أنزل من قبلك ) يعني : سائر الكتب المنزلة ، ( والمقيمين الصلاة ) اختلفوا في وجه انتصابه ، فحكي عن عائشة رضي الله عنها وأبان بن عثمان : أنه غلط من الكتاب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة وكذلك قوله في سورة المائدة " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون " ( المائدة - 62 ) ، وقوله " إن هذان لساحران " ( طه - 63 ) قالوا : ذلك خطأ من الكاتب . [ ص: 310 ]
وقال عثمان : إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له : ألا تغيره؟ فقال : دعوه فإنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا .
وعامة الصحابة وأهل العلم على أنه صحيح ، واختلفوا فيه ، قيل : هو نصب على المدح ، وقيل : نصب بإضمار فعل تقديره : أعني المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة ، وقيل : موضعه خفض .
واختلفوا في وجهه ، فقال بعضهم : معناه لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة ، وقيل : معناه يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة ، ثم قوله : ( والمؤتون الزكاة ) رجوع إلى النسق الأول ، ( والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ) قرأ حمزة سيؤتيهم بالياء والباقون بالنون .
( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ( 163 ) )
قوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك ) هذا بناء على ما سبق من قوله يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ( النساء - 153 ) ، فلما ذكر الله عيوبهم وذنوبهم غضبوا وجحدوا كل ما أنزل الله عز وجل ، وقالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فنزل : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " ( الأنعام - 91 ) وأنزل : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) فذكر عدة من الرسل الذين أوحى إليهم ، وبدأ بذكر نوح عليه السلام لأنه كان أبا البشر مثل آدم عليه السلام ، قال الله تعالى : " وجعلنا ذريته هم الباقين " ( الصافات - 77 ) ولأنه أول نبي من أنبياء الشريعة ، وأول نذير على الشرك ، وأول من عذبت أمته لردهم دعوته ، وأهلك أهل الأرض بدعائه وكان أطول الأنبياء [ ص: 311 ] عمرا وجعلت معجزته في نفسه ، لأنه عمر ألف سنة فلم تسقط له سن ولم تشب له شعرة ولم تنتقص له قوة ، ولم يصبر نبي على أذى قومه ما صبر هو على طول عمره .
قوله تعالى : ( وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ) وهم أولاد يعقوب ، ( وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ) قرأ الأعمش وحمزة : ( زبورا ) والزبور بضم الزاي حيث كان ، بمعنى : جمع زبور ، أي آتينا داود كتبا وصحفا مزبورة ، أي : مكتوبة ، وقرأ الآخرون بفتح الزاي وهو اسم الكتاب الذي أنزل الله تعالى على داود عليه السلام ، وكان فيه التحميد والتمجيد والثناء على الله عز وجل ، وكان داود يبرز إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور ويقوم معه علماء بني إسرائيل ، فيقومون خلفه ويقوم الناس خلف العلماء ، ويقوم الجن خلف الناس ، الأعظم فالأعظم ، والشياطين خلف الجن وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه تعجبا لما يسمعن منه ، والطير ترفرف على رءوسهم ، فلما قارف الذنب لم ير ذلك ، فقيل له : ذاك أنس الطاعة ، وهذه وحشة المعصية .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو بكر الجوزقي ، أنا أبو العباس ، أنا يحيى بن زكريا ، أنا الحسن بن حماد ، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن طلحة بن يحيى ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود " ، فقال : أما والله يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحبرته لحبرته " وكان عمر رضي الله عنه إذا رآه يقول : ذكرنا يا أبا موسى ، فيقرأ عنده .
( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ( 164 ) )
قوله تعالى : ( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ) أي : وكما أوحينا إلى نوح وإلى الرسل ، ( ورسلا ) نصب بنزع حرف الصفة ، وقيل : معناه وقصصنا عليك رسلا وفي قراءة أبي " ورسل قد قصصناهم عليك من قبل " ( ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما ) قال الفراء : العرب تسمي ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ، ولكن لا تحققه بالمصدر ، فإذا حقق بالمصدر ، ولم يكن إلا حقيقة الكلام - كالإرادة - يقال : أراد فلان إرادة ، يريد حقيقة الإرادة ، [ ص: 312 ] ويقال : أراد الجدار ، ولا يقال أراد الجدار إرادة لأنه مجاز غير حقيقة .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (111)
- تفسير البغوى
الجزء الثانى
سُورَةِ النِّسَاءِ
الاية 165 إلى الاية175
( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا ( 167 ) )
قوله تعالى : ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) فيقولوا : ما أرسلت إلينا رسولا وما أنزلت إلينا كتابا ، وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثه الرسول ، قال الله تعالى : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " ( الإسراء - 15 ) ، ( وكان الله عزيزا حكيما ) أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، ثنا موسى بن إسماعيل ، أنا أبو عوانة ، أنا عبد الملك ، عن وراد كاتب المغيرة ، عن المغيرة قال : قال سعد بن عبادة رضي الله عنه : لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " تعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه ، والله أغير مني ، ومن أجل غيرة الله حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، ومن أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله ، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة " .
قوله تعالى : ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك ) قال ابن عباس رضي الله عنهما أن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم فزعموا أنهم لا يعرفونك ، ودخل عليه جماعة من اليهود فقال لهم : إني - والله - أعلم إنكم لتعلمون أني رسول الله ، فقالوا : ما نعلم ذلك ، فأنزل الله عز وجل : ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك ) إن جحدوك وكذبوك ( أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا )
( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) بكتمان نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، ( قد ضلوا ضلالا بعيدا ) .
[ ص: 313 ] ( إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ( 168 ) إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا ( 169 ) يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ( 170 ) )
( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ( 171 ) )
( إن الذين كفروا وظلموا ) قيل : إنما قال " وظلموا " - مع أن ظلمهم بكفرهم - تأكيدا ، وقيل : معناه كفروا بالله وظلموا محمدا صلى الله عليه وسلم بكتمان نعته ، ( لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ) يعني : دين الإسلام .
( إلا طريق جهنم ) يعني اليهودية ، ( خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا ) وهذا في حق من سبق حكمه فيهم أنهم لا يؤمنون .
( ياأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم ) تقديره : فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم ، ( وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما )
( ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ) نزلت في النصارى وهم أصناف : اليعقوبية والملكانية والنسطورية والمرقوسية فقالت اليعقوبية : عيسى هو الله ، وكذلك الملكانية ، وقالت النسطورية : عيسى هو ابن الله ، وقالت : المرقوسية ثالث ثلاثة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
ويقال الملكانية يقولون : عيسى هو الله ، واليعقوبية يقولون : ابن الله ، والنسطورية يقولون : ثالث ثلاثة . علمهم رجل من اليهود يقال له بولس ، سيأتي في سورة التوبة إن شاء الله تعالى . [ ص: 314 ]
وقال الحسن : يجوز أن تكون نزلت في اليهود والنصارى ، فإنهم جميعا غلوا في أمر عيسى ، فاليهود بالتقصير ، والنصارى بمجاوزة الحد ، وأصل الغلو : مجاوزة الحد ، وهو في الدين حرام .
قال الله تعالى : ( لا تغلوا في دينكم ) لا تشددوا في دينكم فتفتروا على الله ( ولا تقولوا على الله إلا الحق ) لا تقولوا إن له شريكا وولدا ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ) وهي قوله " كن " فكان بشرا من غير أب ، [ وقيل غيره ] ، ( ألقاها إلى مريم ) أي أعلمها وأخبرها بها ، كما يقال : ألقيت إليك كلمة حسنة ، ( وروح منه ) قيل : هو روح كسائر الأرواح إلا أن الله تعالى أضافه إلى نفسه [ تشريفا ] .
وقيل : الروح هو النفخ الذي نفخه جبريل عليه السلام في درع مريم فحملته بإذن الله تعالى ، سمي النفخ روحا لأنه ريح يخرج من الروح وأضافه إلى نفسه لأنه كان بأمره .
وقيل : " روح منه " أي ورحمة ، فكان عيسى عليه السلام رحمة لمن تبعه وأمن به .
وقيل : الروح : الوحي ، أوحى إلى مريم بالبشارة ، وإلى جبريل عليه السلام بالنفخ ، وإلى عيسى أن كن فكان ، كما قال الله تعالى : ينزل الملائكة بالروح من أمره ( النحل - 2 ) يعني : بالوحي ، وقيل : أراد بالروح جبريل عليه السلام ، معناه : وكلمته ألقاها إلى مريم ، وألقاها إليها أيضا روح منه بأمره وهو جبريل عليه السلام ، كما قال : تنزل الملائكة والروح ( القدر - 4 ) يعني : جبريل فيها ، وقال : " فأرسلنا إليها روحنا " ( مريم - 17 ) ، يعني : جبريل .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أنا صدقة بن الفضل ، أنا الوليد ، عن الأوزاعي ، حدثنا عمرو بن هاني ، حدثني جنادة بن أمية ، عن عبادة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " . [ ص: 315 ]
( فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة ) أي : ولا تقولوا هم ثلاثة ، وكانت النصارى تقول : أب وابن وروح قدس ، ( انتهوا خيرا لكم ) تقديره : انتهوا يكن الانتهاء خيرا لكم ، ( إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد ) واعلم أن التبني لا يجوز لله تعالى ، لأن التبني إنما يجوز لمن يتصور له ولد ، ( له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ) .
( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ( 172 ) )
قوله تعالى : ( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ) وذلك أن وفد نجران قالوا : يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول : إنه عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه ليس بعار لعيسى عليه السلام أن يكون عبدا لله " ، فنزل : ( لن يستنكف المسيح ) لن يأنف ولن يتعظم ، والاستنكاف : التكبر مع الأنفة ، ( ولا الملائكة المقربون ) وهم حملة العرش ، لا يأنفون أن يكونوا عبيدا لله ، ويستدل بهذه الآية من يقول بتفضيل الملائكة على البشر ، لأن الله تعالى ارتقى من عيسى إلى الملائكة ، ولا يرتقى إلا إلى الأعلى ، لا يقال : لا يستنكف فلان من هذا ولا عبده ، إنما يقال : فلان لا يستنكف من هذا ولا مولاه ، ولا حجة لهم فيه لأنه لم يقل ذلك رفعا لمقامهم على مقام البشر ، بل ردا على الذين يقولون الملائكة آلهة ، كما رد على النصارى قولهم المسيح ابن الله ، وقال ردا على النصارى بزعمهم ، فإنهم يقولون بتفضيل الملائكة . قوله تعالى : ( ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ) قيل الاستنكاف هو التكبر مع الأنفة ، والاستكبار هو العلو والتكبر من غير أنفة .
( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ( 174 ) )
( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) من التضعيف ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ( وأما الذين استنكفوا واستكبروا ) عن عبادته ، ( فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا )
قوله عز وجل : ( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ) يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم ، هذا قول أكثر المفسرين ، وقيل : هو القرآن ، والبرهان : الحجة ، ( وأنزلنا إليكم نورا مبينا ) مبينا يعني القرآن .
[ ص: 316 ] ( فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ( 175 ) )
( فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به ) امتنعوا به من زيغ الشيطان ، ( فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ) يعني الجنة ، ( ويهديهم إليه صراطا مستقيما )
قوله تعالى : ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) نزلت في جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل ، فتوضأ وصب علي من وضوئه ، فعقلت فقلت : يا رسول الله لمن الميراث إنما يرثني الكلالة؟ فنزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ، وقد ذكرنا معنى الكلالة وحكم الآية في أول السورة .
وفي هذه الآية بيان حكم ميراث الأخوة للأب والأم أو للأب .
قوله ( يستفتونك ) أي : يستخبرونك ويسألونك ، ( قل الله يفتيكم في الكلالة ( إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ) يعني إذا ماتت الأخت فجميع ميراثها للأخ ، ( إن لم يكن لها ولد ) فإن كان لها ابن فلا شيء للأخ ، وإن كان ولدها أنثى فللأخ ما فضل عن فرض البنات ، ( فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ) أراد اثنتين فصاعدا ، وهو أن من مات وله أخوات فلهن الثلثان ، ( وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ) ، ( يبين الله لكم أن تضلوا ) قال الفراء رحمة الله عليه وأبو عبيدة : معناه أن لا تضلوا ، وقيل : معناه يبين الله لكم كراهة أن تضلوا ، ( والله بكل شيء عليم )
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن رجاء ، أنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء رضي الله عنهم قال : آخر سورة نزلت [ ص: 317 ] كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة )
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن آخر آية نزلت آية الربا ، وآخر سورة نزلت ( إذا جاء نصر الله والفتح ) . وروي عنه أن آخر آية نزلت قوله تعالى " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " ( البقرة - 281 ) .
وروي بعد ما نزلت سورة النصر عاش النبي صلى الله عليه وسلم عاما ، ونزلت بعدها سورة براءة وهي آخر سورة نزلت كاملة فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها ستة أشهر ، ثم نزلت في طريق حجة الوداع " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " فسميت آية الصيف ، ثم نزلت وهو واقف بعرفة : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " ( المائدة - 3 ) فعاش بعدها أحدا وثمانين يوما ، ثم نزلت آيات الربا ، ثم نزلت " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (112)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 1 إلى الاية2
[ سُورَةِ الْمَائِدَةِ ]
سُورَةُ الْمَائِدَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ آيَةً ، نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ كُلُّهَا إِلَّا قَوْلَهُ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) الْآيَةَ ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِعَرَفَاتٍ .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
روي عن أبي ميسرة قال : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكما لم ينزلها في غيرها ، قوله : ( والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ( وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) وتمام الطهور في قوله : ( إذا قمتم إلى الصلاة ( والسارق والسارقة ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) الآية ، ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ) وقوله : ( شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ) .
( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد ( 1 ) )
قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) أي بالعهود ، قال الزجاج : هي أوكد العهود ، يقال : عاقدت فلانا وعقدت عليه أي : ألزمته ذلك باستيثاق ، وأصله من عقد الشيء بغيره ووصله به ، كما [ ص: 6 ] يعقد الحبل بالحبل [ إذا وصل ] .
واختلفوا في هذه العقود ، قال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب ، يعني : يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود التي عهدتها إليكم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس " ( سورة آل عمران ، 187 ) .
وقال الآخرون : هو عام ، وقال قتادة : أراد بها الحلف الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : هي عهود الإيمان والقرآن ، وقيل : هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم .
( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) قال الحسن وقتادة : هي الأنعام كلها ، وهي الإبل والبقر والغنم ، وأراد تحليل ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام .
وروى أبو ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بهيمة الأنعام هي الأجنة ، ومثله عن الشعبي قال : هي الأجنة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت أو نحرت ، ذهب أكثر أهل العلم إلى تحليله .
[ قال الشيخ الإمام ] قرأت على أبي عبد الله محمد بن الفضل الخرقي فقلت : قرئ على أبي سهل محمد بن عمر بن طرفة وأنت حاضر ، فقيل له : حدثكم أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر بن داسة أنا أبو داود السجستاني أنا مسدد أنا هشيم عن مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم قال : قلنا : يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله؟ فقال : " كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه " . وروى أبو الزبير عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 7 ] قال : " ذكاة الجنين ذكاة أمه " .
وشرط بعضهم الإشعار ، قال ابن عمر : ذكاة ما في بطنها في ذكاتها إذا تم خلقه ونبت شعره ، ومثله عن سعيد بن المسيب .
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يحل أكل الجنين إذا خرج ميتا بعد ذكاة الأم .
وقال الكلبي : بهيمة الأنعام : وحشيها ، وهي الظباء وبقر الوحش ، سميت بهيمة لأنها أبهمت عن التمييز ، وقيل : لأنها لا نطق لها ، ( إلا ما يتلى عليكم ) أي : ما ذكر في قوله : " حرمت عليكم الميتة " إلى قوله : " وما ذبح على النصب " ، ( غير محلي الصيد ) وهو نصب على الحال ، أي : لا محلي الصيد ، ومعنى الآية : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما كان منها وحشيا فإنه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام ، فذلك قوله تعالى : ( وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد ) .
( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ( 2 ) )
قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ) نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة البكري ، أتى المدينة وخلف خيله [ خارج ] المدينة ، ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إلى ما تدعو الناس؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، [ وأن محمدا رسول الله ] وإقام الصلاة [ ص: 8 ] وإيتاء الزكاة ، فقال : [ حسن ] إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم [ بلسان ] شيطان ، ثم خرج شريح من عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم ، فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق ، فاتبعوه فلم يدركوه ، فلما كان العام القابل خرج حاجا في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة ، وقد قلد الهدي ، فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا الحطم قد خرج حاجا فخل بيننا وبينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه قد قلد الهدي ، فقالوا : يا رسول الله هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية ، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ) .
قال ابن عباس ومجاهد : هي مناسك الحج ، وكان المشركون يحجون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك .
وقال أبو عبيدة : شعائر الله هي الهدايا المشعرة ، والإشعار من الشعار ، وهي العلامة ، وإشعارها : إعلامها بما يعرف أنها هدي ، والإشعار هاهنا : أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم ، فيكون ذلك علامة أنها هدي ، وهي سنة في الهدايا إذا كانت من الإبل ، لما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا أبو نعيم أنا أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ، ثم قلدها وأشعرها وأهداها ، فما حرم عليه شيء كان أحل له .
وقاس الشافعي البقر على الإبل في الإشعار ، وأما الغنم فلا تشعر بالجرح ، فإنها لا تحتمل الجرح لضعفها ، وعند أبي حنيفة : لا يشعر الهدي .
وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا تحلوا شعائر الله : هي أن تصيد وأنت محرم ، بدليل قوله تعالى : " وإذا حللتم فاصطادوا " ، وقال السدي : أراد حرم الله ، وقيل : المراد منه النهي عن القتل في الحرم ، وقال عطاء : شعائر الله حرمات الله واجتناب سخطه واتباع طاعته .
قوله : ( ولا الشهر الحرام ) أي : بالقتال فيه ، وقال ابن زيد : هو النسيء ، وذلك أنهم كانوا يحلونه في الجاهلية عاما ويحرمونه عاما ، ( ولا الهدي ) وهو كل ما يهدى إلى بيت الله من بعير أو [ ص: 9 ] بقرة أو شاة ، ( ولا القلائد ) أي : الهدايا المقلدة ، يريد ذوات القلائد ، وقال عطاء : أراد أصحاب القلائد ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم وإبلهم بشيء من لحاء شجر الحرم كيلا يتعرض لهم ، فنهى الشرع عن استحلال شيء منها . وقال مطرف بن الشخير : هي القلائد نفسها وذلك أن المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكة ويتقلدونها فنهوا عن نزع شجرها .
قوله تعالى : ( ولا آمين البيت الحرام ) أي : قاصدين البيت الحرام ، يعني : الكعبة فلا تتعرضوا لهم ، ( يبتغون ) يطلبون ( فضلا من ربهم ) يعني الرزق بالتجارة ، ( ورضوانا ) أي : على زعمهم؛ لأن الكافرين لا نصيب لهم في الرضوان ، وقال قتادة : هو أن يصلح معاشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها ، وقيل : ابتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامة ، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة؛ لأن المسلمين والمشركين كانوا يحجون ، وهذه الآية إلى هاهنا منسوخة بقوله : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " ( سورة التوبة ، 5 ) وبقوله : " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " ( سورة التوبة ، 28 ) ، فلا يجوز أن يحج مشرك ولا أن يأمن كافر بالهدي والقلائد .
قوله عز وجل : ( وإذا حللتم ) من إحرامكم ، ( فاصطادوا ) أمر إباحة ، أباح للحلال أخذ الصيد ، كقوله تعالى : " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض " ( الجمعة ، 10 ) .
( ولا يجرمنكم ) قال ابن عباس وقتادة : لا يحملنكم ، يقال : جرمني فلان على أن صنعت كذا ، أي حملني ، وقال الفراء : لا يكسبنكم ، يقال : جرم أي : كسب ، وفلان جريمة أهله ، أي : كاسبهم ، وقيل : لا يدعونكم ، ( شنآن قوم ) أي : بغضهم وعداوتهم ، وهو مصدر شنئت ، قرأ ابن عامر وأبو بكر ( شنآن قوم ) بسكون النون الأولى ، وقرأ الآخرون بفتحها ، وهما لغتان ، والفتح أجود ، لأن المصادر أكثرها فعلان ، بفتح العين مثل الضربان والسيلان والنسلان ونحوها ، ( أن صدوكم عن المسجد الحرام ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الألف على الاستئناف ، وقرأ الآخرون بفتح الألف ، أي : لأن صدوكم ، ومعنى الآية : ولا يحملنكم عداوة قوم على الاعتداء لأنهم صدوكم . وقال محمد بن جرير : لأن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية ، وكان الصد قد تقدم ، ( أن تعتدوا ) عليهم بالقتل وأخذ الأموال ، ( وتعاونوا ) أي : ليعين بعضكم بعضا ، ( على البر والتقوى ) قيل : البر متابعة الأمر ، والتقوى مجانبة النهي ، وقيل : البر : الإسلام ، والتقوى : السنة ، ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) قيل : الإثم : الكفر ، والعدوان : الظلم ، وقيل : الإثم : المعصية ، والعدوان : البدعة . [ ص: 10 ]
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أبي طاهر الدقاق ببغداد أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الزبير القرشي أنا الحسن بن علي بن عفان أنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير بن مالك الحضرمي عن أبيه عن النواس بن سمعان الأنصاري قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ، قال : " البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " . ( واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (113)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 3 إلى الاية4
( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ( 3 ) )
قوله عز وجل ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ) أي : ما ذكر على ذبحه اسم غير الله تعالى ، ( والمنخنقة ) وهي التي تختنق فتموت ، قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها ، ( والموقوذة ) هي المقتولة بالخشب ، قال قتادة : كانوا يضربونها بالعصا فإذا ماتت أكلوها ، ( والمتردية ) هي التي تتردى من مكان عال أو في بئر فتموت ، ( والنطيحة ) وهي التي تنطحها أخرى فتموت ، وهاء التأنيث تدخل في الفعيل إذا كان بمعنى الفاعل ، فإذا كان بمعنى المفعول استوى فيه المذكر والمؤنث ، نحو عين كحيل وكف خضيب ، فإذا حذفت الاسم وأفردت الصفة ، أدخلوا الهاء فقالوا : رأينا كحيلة وخضيبة ، وهنا أدخل الهاء لأنه لم يتقدمها الاسم ، فلو أسقط الهاء لم يدر أنها صفة مؤنث أم مذكر ، ومثله الذبيحة والنسيكة ، وأكيلة السبع ( وما أكل السبع ) يريد ما بقي مما أكل السبع ، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ، ( إلا ما ذكيتم ) يعني : إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء . [ ص: 11 ]
وأصل التذكية الإتمام ، يقال : ذكيت النار إذا أتممت إشعالها ، والمراد هنا : إتمام فري الأوداج وإنهار الدم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل غير السن والظفر " .
وأقل الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع المريء والحلقوم وكما له أن يقطع الودجين معهما ، ويجوز بكل محدد يقطع من حديد أو قصب أو زجاج أو حجر إلا السن والظفر ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بهما ، وإنما يحل ما ذكيته بعدما جرحه السبع وأكل شيئا منه إذا أدركته والحياة فيه مستقرة فذبحته ، فأما ما صار بجرح السبع إلى حالة المذبوح ، فهو في حكم الميتة ، فلا يكون حلالا وإن ذبحته ، وكذلك المتردية والنطيحة إذا أدركتها حية قبل أن تصير إلى حالة المذبوح فذبحتها تكون حلالا ولو رمى إلى صيد في الهواء فأصابه فسقط على الأرض فمات كان حلالا؛ لأن الوقوع على الأرض من ضرورته ، فإن سقط على جبل أو شجر أو سطح ثم تردى منه فمات فلا يحل ، وهو من المتردية إلا أن يكون السهم أصاب مذبحه في الهواء فيحل كيف ما وقع؛ لأن الذبح قد حصل بإصابة السهم المذبح .
( وما ذبح على النصب ) قيل : النصب جمع واحده نصاب ، وقيل : هو واحد وجمعه أنصاب مثل عنق وأعناق ، وهو الشيء المنصوب .
واختلفوا فيه ، فقال مجاهد وقتادة : كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا منصوبة ، كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون لها ، وليست هي بأصنام ، إنما الأصنام هي المصورة المنقوشة ، وقال الآخرون : هي الأصنام المنصوبة ، ومعناه : وما ذبح على اسم النصب ، قال ابن زيد : وما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به : هما واحد ، قال قطرب : على بمعنى اللام أي : وما ذبح لأجل النصب .
( وأن تستقسموا بالأزلام ) أي : ويحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، والاستقسام هو طلب القسم والحكم من الأزلام ، والأزلام هي : القداح التي لا ريش لها ولا نصل ، واحدها : زلم ، وزلم بفتح الزاي وضمها ، وكانت أزلامهم سبعة قداح مستوية من شوحط يكون عند سادن الكعبة ، مكتوب على واحد : نعم ، وعلى واحد : لا وعلى واحد : منكم ، وعلى واحد : من غيركم ، وعلى [ ص: 12 ] واحد : ملصق ، وعلى واحد : العقل ، وواحد غفل ليس عليه شيء ، فكانوا إذا أرادوا أمرا من سفر أو نكاح أو ختان أو غيره ، أو تدارءوا في نسب أو اختلفوا في تحمل عقل جاءوا إلى هبل ، وكان أعظم أصنام قريش بمكة ، وجاءوا بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح حتى يجيل القداح ، ويقولون : يا إلهنا إنا أردنا كذا وكذا ، فإن خرج نعم ، فعلوا ، وإن خرج لا لم يفعلوا ذلك حولا ثم عادوا إلى القداح ثانية ، فإذا أجالوا على نسب ، فإن خرج منكم كان وسطا منهم ، وإن خرج من غيركم كان حليفا ، وإن خرج ملصق كان على منزلته لا نسب له ولا حلف ، وإذا اختلفوا في عقل فمن خرج عليه قدح العقل حمله ، وإن خرج الغفل أجالوا ثانيا حتى يخرج المكتوب ، فنهى الله عز وجل عن ذلك وحرمه ، وقال : ( ذلكم فسق ) قال سعيد بن جبير : الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها ، وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها ، وقال الشعبي وغيره : الأزلام للعرب ، والكعاب للعجم ، وقال سفيان بن وكيع : هي الشطرنج ، وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العيافة والطرق والطيرة من الجبت " والمراد من الطرق : الضرب بالحصى .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أنا ابن فنجويه أنا ابن الفضل الكندي أخبرنا الحسن بن داود الخشاب أنا سويد بن سعيد أنا [ أبو المختار ] عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلا من الجنة يوم القيامة " .
قوله عز وجل : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) يعني : أن ترجعوا إلى دينهم كفارا ، وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم فلما قوي الإسلام يئسوا ، ويئس وأيس بمعنى واحد .
( فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) نزلت هذه الآية يوم الجمعة ، يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء ، فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت . [ ص: 13 ]
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل حدثني الحسن بن الصباح سمع جعفر بن عون أنا أبو العميس أنا قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له : " يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرأونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : أية آية؟ قال : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة . أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان عيدا لنا " .
قال ابن عباس : كان في ذلك اليوم خمسة أعياد : جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس ، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده .
روى هارون بن عنترة عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك يا عمر " ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكن شيء قط إلا نقص ، قال : صدقت .
وكانت هذه الآية نعي النبي صلى الله عليه وسلم وعاش بعدها إحدى وثمانين يوما ، ومات يوم الاثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول [ سنة إحدى عشرة من الهجرة ، وقيل : توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ] وكانت هجرته في الثاني عشر .
قوله عز وجل : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) يعني : يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم ، يعني الفرائض والسنن والحدود والجهاد والأحكام والحلال والحرام ، فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ، ولا شيء من الفرائض . هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وروي عنه أن آية الربا نزلت بعدها .
وقال سعيد بن جبير وقتادة : أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك .
وقيل : أظهرت دينكم وأمنتكم من العدو . [ ص: 14 ]
قوله عز وجل : ( وأتممت عليكم نعمتي ) يعني : وأنجزت وعدي في قول " ولأتم نعمتي عليكم " ( سورة البقرة ، 150 ) ، فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين ، وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين ، ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) سمعت عبد الواحد المليحي قال : سمعت أبا محمد بن أبي حاتم ، قال : سمعت أبا بكر النيسابوري سمعت أبا بكر محمد بن الحسن بن المسيب المروزي ، سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ، سمعت عبد الملك بن مسلمة أنا مروان المصري سمعت إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر رضي الله عنه ، سمعت عمي محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال جبريل عليه السلام قال الله تعالى : هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق ، فأكرموه بهما ما صحبتموه "
قوله عز وجل : ( فمن اضطر في مخمصة ) أي : أجهد في مجاعة ، والمخمصة خلو البطن من الغذاء ، يقال : رجل خميص البطن إذا كان طاويا خاويا ، ( غير متجانف لإثم ) أي : مائل إلى إثم وهو أن يأكل فوق الشبع ، وقال قتادة : غير متعرض لمعصية في مقصده ، ( فإن الله غفور رحيم ) وفيه إضمار ، أي : فأكله فإن الله غفور رحيم .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان أنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز المكي أنا أبو عبيد القاسم بن سلام أنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي قال رجل : يا رسول الله إنا نكون بالأرض فتصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا الميتة؟ فقال : " ما لم تصطبحوا أو [ ص: 15 ] تغتبقوا أو تحتفئوا بها بقلا فشأنكم بها " .
( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب ( 4 ) )
قوله عز وجل : ( يسألونك ماذا أحل لهم ) الآية ، قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير ، قالا يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت هذه الآية .
وقيل : سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب قالوا : يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية فلما نزلت أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أنا إسماعيل بن محمد الصفار أنا أحمد بن منصور الرمادي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط " والأول أصح في سبب نزول هذه الآية .
( قل أحل لكم الطيبات ) يعني : الذبائح على اسم الله تعالى ، وقيل : كل ما تستطيبه العرب [ ص: 16 ] وتستلذه من غير أن يرد بتحريمه نص من كتاب أو سنة ( وما علمتم من الجوارح ) يعني : وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح .
واختلفوا في هذه الجوارح ، فقال الضحاك والسدي : هي الكلاب دون غيرها ، ولا يحل ما صاده غير الكلب إلا أن يدرك ذكاته ، وهذا غير معمول به ، بل عامة أهل العلم على أن المراد من الجوارح والكواسب من سباع البهائم كالفهد والنمر والكلب ، ومن سباع الطير كالبازي والعقاب والصقر ونحوها مما يقبل التعليم ، فيحل صيد جميعها ، سميت جارحة : لجرحها لأربابها أقواتهم من الصيد ، أي : كسبها ، يقال : فلان جارحة أهله ، أي : كاسبهم ، ( مكلبين ) والمكلب الذي يغري الكلاب على الصيد ، ويقال للذي يعلمها أيضا : مكلب ، والكلاب : صاحب الكلاب ، ويقال للصائد بها أيضا كلاب ، ونصب مكلبين على الحال ، أي : في حال تكليبكم هذه الجوارح أي إغراؤكم إياها على الصيد ، وذكر الكلاب لأنها أكثر وأعم ، والمراد جميع جوارح الصيد ، ( تعلمونهن ) تؤدبونهن آداب أخذ الصيد ، ( مما علمكم الله ) أي : من العلم الذي علمكم الله ، وقال السدي : أي كما علمكم الله ، " من " بمعنى الكاف ، ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) أراد أن الجارحة المعلمة إذا خرجت بإرسال صاحبها فأخذت الصيد وقتلته كان حلالا ، والتعليم هو أن يوجد فيها ثلاثة أشياء : إذا أشليت استشلت ، وإذا زجرت انزجرت ، وإذا أخذت الصيد أمسكت ولم تأكل ، وإذا وجد ذلك منه مرارا وأقله ثلاث مرات كانت معلمة ، يحل قتلها إذا خرجت بإرسال صاحبها .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا موسى بن إسماعيل أنا ثابت بن زيد عن عاصم عن الشعبي عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فأمسك وقتل فكل ، وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ، وإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنك لا تدري أيها قتل ، وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل "
واختلفوا فيما إذا أخذت الصيد وأكلت منه شيئا : فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وهو قول عطاء وطاوس والشعبي ، وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي [ ص: 17 ] وهو أصح قولي الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم : " وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه " .
ورخص بعضهم في أكله ، روي ذلك عن ابن عمر ، وسلمان الفارسي ، وسعد بن أبي وقاص ، وبه قال مالك : لما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله تعالى فكل وإن أكل منه " .
وأما غير المعلم من الجوارح إذا أخذ صيدا ، أو المعلم إذا خرج بغير إرسال صاحبه فأخذ وقتل فلا يكون حلالا إلا أن يدركه صاحبه حيا فيذبحه ، فيكون حلالا .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن يزيد أنا حيوة أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس عن أبي ثعلبة الخشني قال قلت : يا نبي الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم ، وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم ، وبكلبي المعلم فما يصح لي؟ قال : " أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل " .
قوله عز وجل : ( واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب ) ففيه بيان أن ذكر اسم الله عز وجل على الذبيحة شرط حالة ما يذبح ، وفي الصيد حالة ما يرسل الجارحة أو السهم .
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي أنا أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن علوية الجوهري قال : حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد بن الأثرم المقري بالبصرة حدثنا عمر بن شيبة أنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أنس قال : " ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ، قال : رأيته واضعا قدمه على صفاحهما ويذبحهما بيده [ ص: 18 ] ويقول : بسم الله والله أكبر " .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (114)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 5 إلى الاية6
( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ( 5 ) )
قوله عز وجل : ( اليوم أحل لكم الطيبات ) يعني : الذبائح على اسم الله عز وجل ، ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) يريد : ذبائح اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم حلال لكم ، فأما من دخل في دينهم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلا تحل ذبيحته ، ولو ذبح يهودي أو نصراني على اسم غير الله كالنصراني يذبح باسم المسيح فاختلفوا فيه ، قال عمر لا يحل ، وهو قول ربيعة ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل ، وهو قول الشعبي وعطاء والزهري ومكحول ، سئل الشعبي ومكحول عن النصراني يذبح باسم المسيح ، قالا يحل فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون ، وقال الحسن : إذا ذبح اليهودي أو النصراني فذكر اسم غير الله وأنت تسمع فلا تأكله فإذا غاب عنك فكل فقد أحل الله لك .
قوله عز وجل : ( وطعامكم حل لهم ) فإن قيل : كيف شرع لهم حل طعامنا وهم كفار ليسوا من أهل الشرع؟ قال الزجاج : معناه حلال لكم أن تطعموهم فيكون خطاب الحل مع المسلمين ، وقيل : لأنه ذكر عقيبه حكم النساء ، ولم يذكر حل المسلمات لهم فكأنه قال حلال لكم أن تطعموهم حرام عليكم أن تزوجوهم .
قوله عز وجل : ( والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) هذا راجع إلى الأول منقطع عن قوله : " وطعامكم حل لهم " . [ ص: 19 ]
اختلفوا في معنى " المحصنات " فذهب أكثر العلماء إلى أن المراد منهن الحرائر ، وأجازوا نكاح كل حرة ، مؤمنة كانت أو كتابية ، فاجرة كانت أو عفيفة ، وهو قول مجاهد ، وقال هؤلاء : لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابية لقوله تعالى : " فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " ( سورة النساء ، 25 ) جوز نكاح الأمة بشرط أن تكون مؤمنة ، وجوز أكثرهم نكاح الأمة الكتابية الحربية ، وقال ابن عباس : لا يجوز وقرأ " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله " إلى قوله " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " ( التوبة ، 29 ) ، فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه ومن لم يعطها فلا يحل لنا نساؤه .
وذهب قوم إلى أن المراد من المحصنات في الآية : العفائف من الفريقين حرائر كن أو إماء وأجازوا نكاح الأمة الكتابية ، وحرموا البغايا من المؤمنات والكتابيات ، وهو قول الحسن ، وقال الشعبي : إحصان الكتابية أن تستعف من الزنا وتغتسل من الجنابة .
( إذا آتيتموهن أجورهن ) مهورهن ( محصنين غير مسافحين ) غير معالنين بالزنا ، ( ولا متخذي أخدان ) أي : يسرون بالزنا ، قال الزجاج : حرم الله الجماع على جهة السفاح وعلى جهة اتخاذ الصديقة ، وأحله على جهة الإحصان وهو التزوج .
( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ) قال مقاتل بن حيان : يقول ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر أو يغني عنهن شيئا وهي للناس عامة : " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين " .
قال ابن عباس ومجاهد في معنى قوله تعالى : " ومن يكفر بالإيمان " أي : بالله الذي يجب [ ص: 20 ] الإيمان به .
وقال الكلبي : بالإيمان أي : بكلمة التوحيد وهي شهادة أن لا إله إلا الله .
وقال مقاتل : بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن ، وقيل : من يكفر بالإيمان أي : يستحل الحرام ويحرم الحلال فقد حبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين قال ابن عباس : خسر الثواب .
( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ( 6 ) )
قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) أي : إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، كقوله تعالى : " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " ، ( سورة النحل ، 98 ) ، أي : إذا أردت القراءة .
وظاهر الآية يقتضي وجوب الوضوء عند كل مرة يريد القيام إلى الصلاة ، لكن أعلمنا ببيان السنة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد من الآية : " إذا قمتم إلى الصلاة " وأنتم على غير طهر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " .
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد ، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنيفي أنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري أنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حليم أنا أبو الموجه محمد بن عمرو بن الموجه أنا عبدان أنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة صلى الصلوات بوضوء واحد ، ومسح على خفيه .
وقال زيد بن أسلم : معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من النوم .
وقال بعضهم : هو أمر على طريق الندب ، ندب من قام إلى الصلاة أن يجدد لها طهارته وإن كان على طهر ، روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات " .
وروي عن عبد الله بن حنظلة بن عامر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا أو [ ص: 21 ] غير طاهر ، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة " .
وقال بعضهم : هذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال ، فأذن له أن يفعل بعد الحدث ما بدا له من الأفعال غير الصلاة ، أخبرنا أبو القاسم الحنيفي أنا أبو الحارث الطاهري أنا الحسن بن محمد بن حليم أنا أبو الموجه أنا صدقة أنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار سمع سعيد بن الحويرث سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : ( كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فرجع من الغائط فأتي بطعام فقيل له : ألا تتوضأ؟ " فقال : لم؟ أأصلي فأتوضأ؟ ) .
قوله عز وجل : ( فاغسلوا وجوهكم ) وحد الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا وما بين الأذنين عرضا ، ويجب غسل جميعه في الوضوء ، ويجب أيضا إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والشارب والعذار أو العنفقة وإن كانت كثيفة وأما العارض واللحية فإن كانت كثيفة لا ترى البشرة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوضوء ، بل يجب غسل ظاهرها .
وهل يجب إمرار الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الذقن؟ فيه قولان :
أحدهما : لا يجب ، وبه قال أبو حنيفة ، لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المسح عليه ، كذلك النازل عن حد الوجه لا يكون حكمه حكم الوجه في وجوب غسله .
والقول الثاني : يجب إمرار الماء على ظاهره ، لأن الله تعالى أمر بغسل الوجه ، والوجه ما يقع في المواجهة من هذا العضو ، ويقال في اللغة بقل وجه فلان وخرج وجهه : إذا نبتت لحيته .
قوله تعالى : ( وأيديكم إلى المرافق ) أي : مع المرافق ، كما قال الله تعالى : " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " ( سورة النساء ، 2 ) أي : مع أموالكم ، وقال : " من أنصاري إلى الله " ( سورة آل عمران ، 52 وسورة الصف ، 14 ) ، أي : مع الله .
وأكثر العلماء على أنه يجب غسل المرفقين ، وفي الرجل يجب غسل الكعبين ، وقال الشعبي [ ص: 22 ] ومحمد بن جرير : لا يجب غسل المرفقين والكعبين في غسل اليد والرجل لأن حرف " إلى " للغاية والحد ، فلا يدخل في المحدود .
قلنا : ليس هذا بحد ولكنه بمعنى مع كما ذكرنا ، وقيل : الشيء إذا حد إلى جنسه يدخل فيه الغاية ، وإذا حد إلى غير جنسه لا يدخل ، كقوله تعالى : " ثم أتموا الصيام إلى الليل " ( سورة البقرة ، 187 ) ، لم يدخل الليل فيه لأنه ليس من جنس النهار .
قوله تعالى : ( وامسحوا برءوسكم ) اختلف العلماء في قدر الواجب من مسح الرأس ، فقال مالك : يجب مسح جميع الرأس كما يجب مسح جميع الوجه في التيمم ، وقال أبو حنيفة : يجب مسح ربع الرأس ، وعند الشافعي رحمه الله : يجب قدر ما يطلق عليه اسم المسح .
واحتج من أجاز مسح بعض الرأس بما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا يحيى بن حسان عن حماد بن زيد وابن علية عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن عمرو بن وهب الثقفي عن المغيرة بن شعبة " أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفيه " ، فأجاز بعض أهل العلم المسح على العمامة بهذا الحديث ، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق .
ولم يجوز أكثر أهل العلم المسح على العمامة بدلا من المسح على الرأس ، وقالوا : في حديث المغيرة إن فرض المسح سقط عنه بمسح الناصية ، وفيه دليل على أن مسح جميع الرأس غير واجب .
قوله عز وجل : ( وأرجلكم إلى الكعبين ) ، قرأ نافع وابن عامر والكسائي ويعقوب وحفص " وأرجلكم " بنصب اللام ، وقرأ الآخرون " وأرجلكم " بالخفض ، فمن قرأ " وأرجلكم " بالنصب فيكون عطفا على قوله : " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم " أي : واغسلوا أرجلكم ، ومن قرأ بالخفض فقد ذهب قليل من أهل العلم إلى أنه يمسح على رجلين ، وروي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان ، ويروى ذلك عن عكرمة وقتادة ، وقال الشعبي : نزل جبريل بالمسح وقال : ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا ؟
وقال محمد بن جرير الطبري يتخير المتوضئ بين المسح على الخفين وبين غسل الرجلين .
وذهب عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم إلى وجوب غسل الرجلين ، وقالوا : [ ص: 23 ] خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ لا على موافقة الحكم ، كما قال تبارك وتعالى : " عذاب يوم أليم " ، فالأليم صفة العذاب ، ولكنه أخذ إعراب اليوم للمجاورة ، وكقولهم : جحر ضب خرب ، فالخرب نعت للجحر ، وأخذ إعراب الضب للمجاورة .
والدليل على وجوب غسل الرجلين : ما أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي الخطيب أنا أبو عبد الله الحافظ أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب أنا يحيى بن محمد بن يحيى أنا الحجبي ومسدد قالا أخبرنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال : " تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ، ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته : " ويل للأعقاب من النار " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل حدثنا عبدان أنا عبد الله أنا معمر حدثني الزهري عن عطاء بن يزيد عن حمران مولى عثمان قال : " رأيت عثمان رضي الله عنه توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا ثم مضمض واستنشق واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاثا ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ثم اليسرى ثلاثا ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال : من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء غفر الله له ما تقدم من ذنبه " .
وقال بعضهم : أراد بقوله ( وأرجلكم ) المسح على الخفين كما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع وضع يديه على ركبتيه " وليس المراد منه أنه لم يكن بينهما حائل ، ويقال : قبل فلان رأس الأمير ويده ، وإن كانت العمامة على رأسه ، ويده في كمه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو نعيم أنا زكريا عن عامر عن عروة بن المغيرة عن أبيه رضي الله عنهما قال : " كنت مع [ ص: 24 ] النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في سفر فقال : " أمعك ماء؟ " فقلت : نعم ، فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى عني في سواد الليل ، ثم جاء فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه ويديه ، وعليه جبة من صوف فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة فغسل ذراعيه ، ثم مسح برأسه ، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " ، فمسح عليهما .
قوله تعالى : ( إلى الكعبين ) فالكعبان هما العظمان الناتئان من جانبي القدمين ، وهما مجتمع مفصل الساق والقدم ، فيجب غسلهما مع القدمين كما ذكرنا في المرفقين .
وفرائض الوضوء : غسل الأعضاء الثلاثة كما ذكر الله تعالى ، ومسح الرأس ، واختلف أهل العلم في وجوب النية : فذهب أكثرهم إلى وجوبها لأن الوضوء يفتقر إلى النية كسائر العبادات ، وذهب بعضهم إلى أنها غير واجبة وهو قول الثوري وأصحاب الرأي .
واختلفوا في وجوب الترتيب ، وهو أن يغسل أعضاءه على الولاء كما ذكر الله تبارك وتعالى : فذهب جماعة إلى وجوبه ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله ، ويروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه .
واحتج الشافعي بقول الله تعالى : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، ( سورة البقرة ، 158 ) . وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفا ، وقال : " نبدأ بما بدأ الله به " وكذلك هاهنا بدأ الله تعالى بذكر غسل الوجه فيجب علينا أن نبدأ فعلا بما بدأ الله تعالى به ذكرا .
وذهب جماعة إلى أن الترتيب سنة ، وقالوا : الواوات المذكورة في الآية للجميع لا للترتيب كما قال الله تعالى : " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " الآية ( سورة التوبة ، 60 ) ، واتفقوا على أنه لا تجب مراعاة الترتيب في صرف الصدقات إلى أهل السهمان ، ومن أوجب الترتيب أجاب بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه راعى الترتيب بين أهل السهمان ، وفي الوضوء لم ينقل أنه توضأ إلا مرتبا كما ذكر الله تعالى ، وبيان الكتاب يؤخذ من السنة كما قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا " ( سورة الحج ، 77 ) ، لما قدم ذكر الركوع على السجود ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل إلا كذلك [ ص: 25 ] فكان مراعاة الترتيب فيه واجبة ، كذلك الترتيب هنا .
قوله عز وجل : ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) أي : اغتسلوا ، أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ، ثم يفيض الماء على جلده كله "
قوله تعالى : ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) فيه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب ، ( ما يريد الله ليجعل عليكم ) بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم ، ( من حرج ) ضيق ، ( ولكن يريد ليطهركم ) من الأحداث والجنابات والذنوب ، ( وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) قال محمد بن كعب القرظي : إتمام النعمة تكفير الخطايا بالوضوء كما قال الله تعالى : " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " ( سورة الفتح ، 2 ) ، فجعل تمام نعمته غفران ذنوبه .
أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران : أن عثمان توضأ بالمقاعد ثلاثا ثلاثا ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من توضأ وضوئي هذا خرجت خطاياه من وجهه ويديه ورجليه " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران مولى عثمان : أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جلس على المقاعد يوما فجاءه المؤذن فآذنه بصلاة العصر فدعا بماء فتوضأ ، ثم قال : والله لأحدثنكم حديثا لولا [ ص: 26 ] آية في كتاب الله ما حدثتكموه ، ثم قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من امرئ [ مسلم ] يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها " قال مالك : أراه يريد هذه الآية ( وأقم الصلاة لذكري ) ورواه ابن شهاب وقال عروة : الآية إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات ( سورة البقرة ، 159 ) .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا يحيى بن بكير أنا الليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر قال رقيت مع أبي هريرة رضي الله عنه على ظهر المسجد ، فتوضأ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع أن يطيل منكم غرته فليفعل " .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (115)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 7 إلى الاية12
( واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور ( 7 ) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ( 8 ) وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم ( 9 ) )
قوله تعالى : ( واذكروا نعمة الله عليكم ) يعني النعم كلها ، ( وميثاقه الذي واثقكم به ) عهده الذي عاهدكم به أيها المؤمنون ، ( إذ قلتم سمعنا وأطعنا ) وذلك حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا ، وهو قول أكثر المفسرين ، وقال مجاهد ومقاتل : يعني الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام ، ( واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور ) بما في القلوب من خير وشر . [ ص: 27 ]
قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ) أي : كونوا قائمين بالعدل [ قوالين ] بالصدق ، أمرهم بالعدل والصدق في أفعالهم وأقوالهم ، ( ولا يجرمنكم ) ولا يحملنكم ، ( شنآن قوم ) بغض قوم ، ( على ألا تعدلوا ) أي : على ترك العدل فيهم لعداوتهم . ثم قال : ( اعدلوا ) يعني : في أوليائكم وأعدائكم ، ( هو أقرب للتقوى ) يعني : إلى التقوى ، ( واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون )
( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم ) وهذا في موضع النصب؛ لأن فعل الوعد واقع على المغفرة ، ورفعها على تقدير أي : وقال لهم مغفرة وأجر عظيم .
( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ( 10 ) يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( 11 ) )
قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم ) بالدفع عنكم ، ( إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ) بالقتل .
قال قتادة : نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخل فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله تبارك وتعالى نبيه على ذلك ، وأنزل الله صلاة الخوف .
وقال الحسن : كان النبي صلى الله عليه وسلم محاصرا غطفان بنخل ، فقال رجل من المشركين : هل لكم في أن أقتل محمدا؟ قالوا : وكيف تقتله؟ قال : أفتك به ، قالوا : وددنا أنك قد فعلت ذلك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم متقلد سيفه ، فقال : يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرة إلى السيف ومرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : من يمنعك مني يا محمد؟ قال : الله ، فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشام السيف ومضى ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . [ ص: 28 ]
وقال مجاهد وعكرمة والكلبي وابن يسار عن رجاله : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي ، وهو أحد النقباء ليلة العقبة ، في ثلاثين راكبا من المهاجرين والأنصار إلى بني عامر بن صعصعة ، فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل على بئر معونة ، وهي من مياه بني عامر ، فاقتتلوا ، فقتل المنذر بن عمرو وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم ، أحدهم عمرو بن أمية الضمري ، فلم يرعهم إلا الطير تحوم في السماء ، يسقط من بين خراطيمها علق الدم ، فقال أحد النفر : قتل أصحابنا ، ثم تولى يشتد حتى لقي رجلا فاختلفا ضربتين فلما خالطته الضربة رفع [ رأسه ] إلى السماء وفتح عينيه وقال : الله أكبر الجنة ورب العالمين ، فرجع صاحباه فلقيا رجلين من بني سليم وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة ، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية ، فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم ، حتى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستعينهم في عقلهما ، وكانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات ، قالوا : نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي سألته فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فخلا بعضهم ببعض وقالوا : إنكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمر بن جحاش : أنا ، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده وجاء جبريل وأخبره ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة ثم دعا عليا فقال : لا تبرح مقامك ، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عني فقل : توجه إلى المدينة ، ففعل ذلك علي رضي الله عنه حتى تناهوا إليه ثم تبعوه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال : ( فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) .
( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ( 12 ) )
قوله عز وجل : ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ) وذلك أن الله عز وجل وعد موسى عليه السلام أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي الشام ، وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون ، فلما استقرت لبني إسرائيل الدار بمصر أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحاء من أرض الشام وهي الأرض المقدسة ، وكانت لها ألف قرية في كل قرية ألف بستان ، وقال : يا موسى إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصرك عليهم ، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا [ ص: 29 ] من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به ، فاختار موسى النقباء وسار موسى ببني إسرائيل حتى قربوا من أريحاء فبعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الأخبار ويعلمون علمها ، فلقيهم رجل من الجبابرة يقال له عوج ابن عنق ، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثا وثلاثين ذراعا وثلث ذراع ، وكان يحتجر بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله ، ويروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يدي موسى عليه السلام ، وذلك أنه جاء وقلع صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام ، وكان فرسخا في فرسخ ، وحملها ليطبقها عليهم فبعث الله الهدهد فقور الصخرة بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته ، فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله ، وكانت أمه عنق إحدى بنات آدم وكان مجلسها جريبا من الأرض ، فلما لقي عوج النقباء وعلى رأسه حزمة حطب أخذ الاثني عشر وجعلهم في حجزته وانطلق بهم إلى امرأته ، وقال انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا ، وطرحهم بين يديها وقال : ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته : لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ، ففعل ذلك . [ ص: 30 ]
وروي أنه جعلهم في كمه وأتى بهم إلى الملك فطرحهم بين يديه ، فقال الملك : ارجعوا فأخبروهم بما رأيتم ، وكان لا يحمل عنقودا من عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة ، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع منها حبها خمسة أنفس ، فرجع النقباء وجعلوا يتعرفون أحوالهم ، وقال بعضهم لبعض يا قوم : إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم ارتدوا عن نبي الله ولكن اكتموا ، وأخبروا موسى وهارون فيريان رأيهما وأخذ بعضهم على بعضهم الميثاق بذلك ، ثم إنهم نكثوا العهد وجعل كل واحد [ ص: 31 ] منهم ينهى سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى : إلا رجلان فذلك قوله تعالى : " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا
( وقال الله إني معكم ) ناصركم على عدوكم ، ثم ابتدأ الكلام فقال : ( لئن أقمتم الصلاة ) يا معشر بني إسرائيل ، ( وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم ) نصرتموهم ، وقيل : ووقرتموهم وعظمتموهم؛ ( وأقرضتم الله قرضا حسنا ) قيل : هو إخراج الزكاة ، وقيل : هو النفقة على الأهل ، ( لأكفرن عنكم سيئاتكم ) لأمحون عنكم سيئاتكم ، ( ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ) أي : أخطأ قصد السبيل ، يريد طريق [ الحق ] وسواء كل شيء : وسطه .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (116)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 13 إلى الاية20
( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ( 13 ) ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ( 14 ) )
( فبما نقضهم ) أي : فبنقضهم ، و " ما " صلة ، ( ميثاقهم ) قال قتادة : نقضوه من وجوه لأنهم كذبوا الرسل الذين جاءوا بعد موسى وقتلوا أنبياء الله ونبذوا كتابه وضيعوا فرائضه ( لعناهم ) قال [ عطاء ] أبعدناهم من رحمتنا ، قال الحسن ومقاتل : عذبناهم بالمسخ ، ( وجعلنا قلوبهم قاسية ) قرأ حمزة والكسائي قسية بتشديد الياء من غير ألف ، وهما لغتان مثل الذاكية والذكية ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : قاسية أي : يابسة . وقيل : غليظة لا تلين ، وقيل معناه : إن قلوبهم ليست بخالصة للإيمان بل إيمانهم مشوب بالكفر والنفاق ، ومنه الدراهم القاسية وهي الردية المغشوشة .
( يحرفون الكلم عن مواضعه ) قيل : هو تبديلهم نعت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : تحريفهم بسوء التأويل ، ( ونسوا حظا مما ذكروا به ) أي : وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته ، ( ولا تزال ) [ يا محمد ] ( تطلع على خائنة منهم ) أي : على خيانة ، فاعلة بمعنى المصدر كالكاذبة واللاغية ، وقيل : هو بمعنى الفاعل والهاء للمبالغة مثل [ رواية ] ونسابة وعلامة وحسابة ، وقيل : على فرقة خائنة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : على خائنة أي : على معصية ، وكانت خيانتهم نقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله وسمه ، ونحوهما من خياناتهم التي ظهرت ، ( إلا قليلا منهم ) لم يخونوا ولم ينقضوا العهد وهم الذين أسلموا من أهل الكتاب ، ( فاعف عنهم واصفح ) أي : أعرض عنهم ولا تتعرض لهم ، ( إن الله يحب المحسنين ) [ ص: 32 ] وهذا منسوخ بآية السيف .
قوله عز وجل : ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ) قيل : أراد بهم اليهود والنصارى فاكتفى بذكر أحدهما ، والصحيح أن الآية في النصارى خاصة لأنه قد تقدم ذكر اليهود ، وقال الحسن : فيه دليل على أنهم نصارى بتسميتهم لا بتسمية الله تعالى ، أخذنا ميثاقهم في التوحيد والنبوة ، ( فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) بالأهواء المختلفة والجدال في الدين ، قال مجاهد وقتادة : يعني بين اليهود والنصارى ، وقال قوم : هم النصارى وحدهم صاروا فرقا ، منهم اليعقوبية والنسطورية والملكانية ، وكل فرقة تكفر الأخرى ، ( وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ) في الآخرة .
( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ( 15 ) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ( 16 ) لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير ( 17 ) )
قوله عز وجل : ( يا أهل الكتاب ) يريد : يا أهل الكتابين ، ( قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ) [ ص: 33 ] أي : من التوراة والإنجيل مثل صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك ، ( ويعفو عن كثير ) أي : يعرض عن كثير مما أخفيتم فلا يتعرض له ولا يؤاخذكم به ، ( قد جاءكم من الله نور ) يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم ، وقيل : الإسلام ، ( وكتاب مبين ) أي : بين ، وقيل : مبين وهو القرآن .
( يهدي به الله من اتبع رضوانه ) رضاه ، ( سبل السلام ) قيل : السلام هو الله عز وجل ، وسبيله دينه الذي شرع لعباده ، وبعث به رسله ، وقيل : السلام هو السلامة ، كاللذاذ واللذاذة بمعنى واحد ، والمراد به طرق السلامة ، ( ويخرجهم من الظلمات إلى النور ) أي : من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ( بإذنه ) بتوفيقه وهدايته ، ( ويهديهم إلى صراط مستقيم ) وهو الإسلام .
قوله عز وجل : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) وهم اليعقوبية من النصارى يقولون المسيح هو الله تعالى ، ( قل فمن يملك من الله شيئا ) أي : من يقدر أن يدفع من أمر الله شيئا إذا قضاه؟ ( إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير ) .
( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير ( 18 ) )
قوله عز وجل : ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ) قيل : أرادوا أن الله تعالى لنا كالأب في الحنو والعطف ، ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة ، وقال إبراهيم النخعي : إن اليهود وجدوا في التوراة يا أبناء أحباري ، فبدلوا يا أبناء أبكاري ، فمن ذلك قالوا : نحن أبناء الله ، وقيل : معناه نحن أبناء رسل الله . [ ص: 34 ]
قوله تعالى : ( قل فلم يعذبكم بذنوبكم ) يريد إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحباؤه فإن الأب لا يعذب ولده ، والحبيب لا يعذب حبيبه ، وأنتم مقرون أنه معذبكم؟ وقيل : فلم يعذبكم أي : لم عذب من قبلكم بذنوبهم فمسخهم قردة وخنازير؟ ( بل أنتم بشر ممن خلق ) كسائر بني آدم مجزيون بالإساءة والإحسان ، ( يغفر لمن يشاء ) فضلا ( ويعذب من يشاء ) عدلا ( ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير ) .
( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير ( 19 ) وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ( 20 ) )
( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا ) محمد صلى الله عليه وسلم ، ( يبين لكم ) أعلام الهدى وشرائع الدين ، ( على فترة من الرسل ) أي انقطاع من الرسل .
واختلفوا في مدة الفترة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم ، قال أبو عثمان النهدي : ستمائة سنة ، وقال قتادة : خمسمائة وستون سنة ، وقال معمر والكلبي ، خمسمائة وأربعون سنة وسميت فترة لأن الرسل كانت تترى بعد موسى عليه السلام من غير انقطاع إلى زمن عيسى عليه السلام ، ولم يكن بعد عيسى عليه السلام سوى رسولنا صلى الله عليه وسلم . ( أن تقولوا ) كيلا تقولوا ، ( ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير ) [ ص: 35 ]
قوله عز وجل : ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء ) [ أي : منكم أنبياء ] ( وجعلكم ملوكا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني أصحاب خدم وحشم ، قال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم . وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا " .
وقال أبو عبد الرحمن الحبلي : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها؟ قال : نعم . قال : ألك مسكن تسكنه؟ قال : نعم ، قال : فأنت من الأغنياء ، قال : فإن لي خادما ، قال : فأنت من الملوك .
قال السدي : وجعلكم ملوكا أحرارا تملكون أمر أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم ، قال الضحاك : كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك ( وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ) يعني عالمي زمانكم ، قال مجاهد : يعني المن والسلوى والحجر وتظليل الغمام .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (117)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 21 إلى الاية26
( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ( 21 ) قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ( 22 ) )
قوله تعالى : ( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ) اختلفوا في الأرض المقدسة ، قال مجاهد : هي الطور وما حوله ، وقال الضحاك : إيليا وبيت المقدس ، وقال عكرمة والسدي : هي أريحاء ، وقال الكلبي : هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن ، وقال قتادة : هي الشام [ ص: 36 ] كلها ، قال كعب : وجدت في كتاب الله المنزل أن الشام كنز الله في أرضه [ وبها أكثر ] عباده .
قوله عز وجل : ( كتب الله لكم ) يعني : كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكن لكم ، وقال ابن إسحاق : وهب الله لكم ، وقيل : جعلها لكم ، وقال السدي : أمركم الله بدخولها ، [ وقال قتادة ] أمروا بها كما أمروا بالصلاة ، أي : فرض عليكم . ( ولا ترتدوا على أدباركم ) أعقابكم بخلاف أمر الله ، ( فتنقلبوا خاسرين ) قال الكلبي : صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقيل له : انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك .
( قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين ) وذلك أن النقباء الذين خرجوا يتجسسون الأخبار لما رجعوا إلى موسى وأخبروه بما عاينوا ، قال لهم موسى : اكتموا شأنهم ولا تخبروا به أحدا من أهل العسكر فيفشلوا ، فأخبر كل رجل منهم قريبه وابن عمه إلا رجلان وفيا بما قال لهما موسى ، أحدهما يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف عليهم السلام فتى موسى ، والآخر كالب بن يوقنا ختن موسى عليه السلام على أخته مريم بنت عمران ، وكان من سبط يهود وهما من النقباء فعلمت جماعة من بني إسرائيل ذلك ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا يا ليتنا في أرض مصر ، وليتنا نموت في هذه [ البرية ] ولا يدخلنا الله أرضهم فتكون نساؤنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم ، وجعل الرجل يقول لصاحبه : تعال نجعل علينا رأسا وننصرف إلى مصر ، فذلك قوله تعالى إخبارا عنهم ( قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ) أصل الجبار : المتعظم الممتنع عن القهر ، يقال : نخلة جبارة إذا كانت طويلة ممتنعة عن وصول الأيدي إليها ، وسمي أولئك القوم جبارين لامتناعهم بطولهم وقوة أجسادهم ، وكانوا من العمالقة وبقية قوم عاد ، فلما قال بنو إسرائيل ما قالوا وهموا بالانصراف إلى مصر خر موسى وهارون ساجدين ، وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبر الله تعالى عنهما في قوله تعالى : ( قال رجلان من الذين يخافون ) .
( قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ( 23 ) )
( قال رجلان من الذين يخافون ) أي : يخافون الله تعالى ، قرأ سعيد بن جبير " يخافون " [ ص: 37 ] بضم الياء ، وقال : الرجلان كانا من الجبارين فأسلما واتبعا موسى ، ( أنعم الله عليهما ) بالتوفيق والعصمة قالا ( ادخلوا عليهم الباب ) يعني : قرية الجبارين ، ( فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ) لأن الله تعالى منجز وعده ، وإنا رأيناهم وأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة ، فلا تخشوهم ، ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوهما .
( قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ( 26 ) )
( قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ) أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو نعيم أنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال سمعت ابن مسعود يقول : لقد شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين ، فقال : لا نقول كما قال قوم موسى عليه السلام : اذهب أنت وربك فقاتلا ، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره ما قال . فلما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من مخالفتهم أمر ربهم وهمهم بيوشع وكالب غضب موسى عليه السلام ودعا عليهم .
( قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ) [ قيل : معناه وأخي لا يملك إلا نفسه ، وقيل : معناه لا يطيعني إلا نفسي وأخي ] ( فافرق ) فافصل ، ( بيننا ) قيل : فاقض بيننا ، ( وبين القوم الفاسقين ) العاصين .
قال الله تعالى : ( فإنها محرمة عليهم ) قيل : هاهنا تم الكلام ، معناه تلك البلدة محرمة [ ص: 38 ] عليهم أبدا لم يرد به تحريم تعبد ، وإنما أراد تحريم منع ، فأوحى الله تعالى إلى موسى : [ بي حلفت ] لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب ، ولأتيهنهم في هذه البرية ( أربعين سنة ) [ يتيهون ] مكان كل يوم من الأيام التي تحبسون فيها سنة ، ولألقين جيفهم في هذه القفار ، وأما بنوهم الذين لم يعملوا الشر فيدخلونها ، فذلك قوله تعالى : ( فإنها محرمة عليهم أربعين سنة ) ( يتيهون : ) يتحيرون ، ( في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ) أي : لا تحزن على مثل هؤلاء القوم ، فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ وهم ستمائة ألف مقاتل ، وكانوا يسيرون كل يوم جادين فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه .
وقيل : إن موسى وهارون عليهما السلام لم يكونا فيهم ، والأصح أنهما كانا فيهم ولم يكن لهما عقوبة إنما كانت العقوبة لأولئك القوم ، ومات في التيه كل من دخلها ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع وكالب ، ولم يدخل أريحاء أحد ممن قالوا إنا لن ندخلها أبدا فلما هلكوا وانقضت الأربعون سنة ، ونشأت النواشئ من ذراريهم ساروا إلى حرب الجبارين .
واختلفوا فيمن تولى تلك الحرب وعلى يدي من كان الفتح ، فقال قوم : وإنما فتح موسى أريحاء وكان يوشع على مقدمته ، فسار موسى عليه السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل ، فدخلها يوشع فقاتل الجبابرة ثم دخلها موسى عليه السلام فأقام فيها ما شاء الله تعالى ، ثم قبضه الله تعالى إليه ، ولا يعلم قبره أحد ، وهذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء أن عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام .
وقال الآخرون : إنما قاتل الجبارين يوشع ولم يسر إليهم إلا بعد موت موسى عليه السلام ، [ وقالوا : مات موسى ] وهارون جميعا في التيه . [ ص: 39 ]
قصة وفاة هارون
قال السدي : أوحى الله عز وجل إلى موسى أني متوفي هارون فأت به جبل كذا وكذا ، فانطلق موسى وهارون عليهما السلام نحو ذلك الجبل فإذا هما بشجرة لم ير مثلها وإذا ببيت مبني وفيه سرير عليه فرش وإذا فيه ريح طيبة ، فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه ، فقال : يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال : فنم عليه ، فقال : إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي ، قال له موسى : لا ترهب إني أكفيك أمر رب هذا البيت فنم ، قال : يا موسى نم أنت معي فإن جاء رب البيت غضب علي وعليك جميعا فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد منيته قال : يا موسى خدعتني ، فلما قبض رفع البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير به إلى السماء ، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون قالوا : إن موسى قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له ، فقال موسى عليه السلام : ويحكم كان أخي فكيف أقتله ، فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى ونزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : صعد موسى وهارون عليهما السلام الجبل فمات هارون [ وبقي موسى ] فقالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته فآذوه فأمر الله الملائكة فحملوه حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات ، فبرأه الله تعالى مما قالوا ، ثم إن الملائكة حملوه ودفنوه فلم يطلع على موضع قبره أحد إلا الرخم فجعله الله أصم وأبكم .
وقال عمرو بن ميمون : مات هارون قبل موت موسى عليه السلام في التيه ، وكانا قد خرجا إلى بعض الكهوف فمات هارون ودفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل ، فقالوا : قتلته لحبنا إياه ، وكان محببا في بني إسرائيل ، فتضرع موسى عليه السلام إلى ربه عز وجل فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه ، فانطلق بهم إلى قبره [ فناداه موسى ] فخرج من قبره ينفض رأسه ، فقال : أنا قتلتك؟ قال : لا ولكني مت ، قال : فعد إلى مضجعك ، وانصرفوا . [ ص: 40 ]
وأما وفاة موسى عليه السلام ، قال ابن إسحاق : كان موسى عليه الصلاة والسلام قد كره الموت وأعظمه فأراد الله أن يحبب إليه الموت ، فنبأ يوشع بن نون فكان يغدو ويروح عليه ، قال : فيقول له موسى عليه السلام يا نبي الله ما أحدث الله إليك؟ [ فيقول له يوشع : يا نبي الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة ، فهل كنت أسألك شيئا مما أحدث الله إليك ] حتى تكون أنت الذي تبتدئ به وتذكره؟ ولا يذكر له شيئا ، فلما رأى ذلك كره موسى الحياة وأحب الموت .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال : أخبرنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جاء ملك الموت إلى موسى بن عمران ، فقال له : أجب ربك ، قال : فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها ، قال : فرجع ملك الموت إلى الله تعالى فقال : إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني قال فرد الله إليه عينه ، وقال : ارجع إلى عبدي فقل له : الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور ، فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة ، قال : ثم مه؟ قال : ثم تموت ، قال : فالآن من قريب ، رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر " .
وقال وهب : خرج موسى لبعض حاجته فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير شيئا قط أحسن منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة ، فقال لهم : يا ملائكة الله لم تحفرون هذا القبر؟ قالوا : لعبد كريم على ربه ، فقال : إن هذا العبد من الله لهو بمنزلة ، ما رأيت كاليوم مضجعا قط ، فقالت الملائكة : يا صفي الله تحب أن يكون لك؟ قال : وددت ، قالوا : فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك ، قال : فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس أسهل تنفس فقبض الله تبارك وتعالى روحه ، ثم سوت عليه الملائكة .
وقيل : إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض روحه .
وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة فلما مات موسى عليه السلام وانقضت الأربعون سنة بعث [ ص: 41 ] الله يوشع نبيا فأخبرهم أن الله قد أمره بقتال الجبابرة ، فصدقوه وتابعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء ومعه تابوت الميثاق ، فأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر ، فلما كان السابع نفخوا في القران وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة ، ودخلوا فقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم ، وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها حتى يقطعونها ، فكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت ، فقال : اللهم اردد الشمس علي وقال للشمس : إنك في طاعة الله سبحانه وتعالى وأنا في طاعته فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله تعالى قبل دخول السبت ، فردت عليه الشمس وزيدت في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين ، وتتبع ملوك الشام فاستباح منهم أحدا وثلاثين ملكا حتى غلب على جميع أرض الشام ، وصارت الشام كلها لبني إسرائيل وفرق عماله في نواحيها وجمع الغنائم ، فلم تنزل النار ، فأوحى الله إلى يوشع أن فيها غلولا فمرهم فليبايعوا فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال : هلم ما عندك فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجواهر كان قد غله ، فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان ، ثم مات يوشع ودفن في جبل أفرائيم ، وكان عمره مائة وستا وعشرين سنة ، وتدبيره أمر بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام سبعا وعشرين سنة .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (118)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 27 إلى الاية31
( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين ( 27 ) )
قوله تعالى : ( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق ) وهما هابيل وقابيل ويقال له قابين ، ( إذ قربا قربانا ) وكان سبب قربانهما على ما ذكره أهل العلم أن حواء كانت تلد لآدم عليه السلام في كل بطن غلاما وجارية ، وكان جميع ما ولدته أربعين ولدا في عشرين بطنا أولهم قابيل وتوأمته أقليما ، وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أمة المغيث ، ثم بارك الله عز وجل في نسل آدم عليه السلام ، قال ابن عباس : لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا .
واختلفوا في مولد قابيل وهابيل ، فقال بعضهم : غشي آدم حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة ، فولدت له قابيل وتوأمته أقليما في بطن واحد ، ثم ولدت هابيل وتوأمته لبودا في بطن . [ ص: 42 ]
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة ، فحملت فيها بقابيل وتوأمته أقليما ، فلم تجد عليهما وحما ولا وصبا ولا طلقا حتى ولدتهما ، ولم تر معهما دما فلما هبط إلى الأرض تغشاها فحملت بهابيل وتوأمته ، فوجدت عليهما الوحم والوصب والطلق والدم ، وكان آدم إذا شب أولاده يزوج غلام هذا البطن جارية بطن أخرى ، فكان الرجل منهم يتزوج أية أخواته شاء إلا توأمته التي ولدت معه لأنه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم ، فلما ولد قابيل وتوأمته أقليما ثم هابيل وتوأمته لبودا ، وكان بينهما سنتان في قول الكلبي وأدركوا ، أمر الله تعالى آدم عليه السلام أن ينكح قابيل لبودا أخت هابيل وينكح هابيل أقليما أخت قابيل ، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل ، فذكر ذلك آدم لولده فرضي هابيل وسخط قابيل ، وقال : هي أختي أنا أحق بها ، ونحن من [ ولادة ] الجنة وهما من [ ولادة ] الأرض ، فقال له أبوه : إنها لا تحل لك فأبى أن يقبل ذلك ، وقال : إن الله لم يأمره بهذا وإنما هو من رأيه ، فقال لهما آدم عليه السلام : فقربا قربانا فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بها ، وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء بيضاء فأكلتها ، وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلته الطير والسباع ، فخرجا ليقربا [ قربانا ] وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من الطعام من أردأ زرعه وأضمر في نفسه ما أبالي أيقبل مني أم لا ، لا يتزوج أختي أبدا ، وكان هابيل صاحب غنم فعمد إلى أحسن كبش في غنمه فقرب به وأضمر في نفسه رضا الله عز وجل فوضعا قربانهما أعلى الجبل ، ثم دعا آدم عليه السلام فنزلت نار من السماء وأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل فذلك قوله عز وجل : ( فتقبل من أحدهما ) [ يعني هابيل ] ( ولم يتقبل من الآخر ) يعني : قابيل فنزلوا على الجبل وقد غضب قابيل لرد قربانه وكان يضمر الحسد في نفسه إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت ، فلما غاب آدم أتى قابيل هابيل وهو في غنمه ، ( قال لأقتلنك ) قال : ولم؟ قال : لأن الله تعالى قبل قربانك ورد قرباني ، وتنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة ، فيتحدث الناس أنك خير مني ويفتخر ولدك على ولدي ، ( قال ) هابيل : وما ذنبي؟ ( إنما يتقبل الله من المتقين ) .
[ ص: 43 ] ( لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ( 28 ) إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ( 30 ) )
( لئن بسطت ) أي : مددت ، ( إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ) قال عبد الله بن عمر : وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط إلى أخيه يده ، وهذا في شرع آدم جائز لمن أريد قتله أن ينقاد ويستسلم طلبا للأجر كما فعل عثمان رضي الله عنه ، قال مجاهد : كتب عليهم في ذلك الوقت إذا أراد رجل قتل رجل أن لا يمتنع ويصبر .
( إني أريد أن تبوء ) ترجع ، وقيل : تحتمل ، ( بإثمي وإثمك ) أي : بإثم قتلي إلى إثمك ، أي : إثم معاصيك التي عملت من قبل ، هذا قول أكثر المفسرين . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : معناه إني أريد أن يكون عليك خطيئتي التي عملتها أنا إذا قتلتني وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعا ، وقيل : معناه أن ترجع بإثم قتلي وإثم معصيتك التي لم يتقبل لأجلها قربانك ، أو إثم حسدك .
فإن قيل : كيف قال إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ، وإرادة القتل والمعصية لا تجوز؟ قيل ليس ذلك بحقيقة إرادة ولكنه لما علم أنه يقتله لا محالة وطن نفسه على الاستسلام طلبا للثواب فكأنه صار مريدا لقتله مجازا ، وإن لم يكن مريدا حقيقة ، وقيل : معناه إني أريد أن تبوء بعقاب قتلي فتكون إرادة صحيحة ، لأنها موافقة لحكم الله عز وجل ، فلا يكون هذا إرادة للقتل ، بل لموجب القتل من الإثم والعقاب ، ( فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين )
قوله عز وجل : ( فطوعت له نفسه ) أي : طاوعته وشايعته وعاونته ، ( قتل أخيه ) أي في قتل أخيه ، [ وقال مجاهد : فشجعته ، وقال قتادة : فزينت له نفسه ، وقال يمان : سهلت له نفسه ذلك ، أي : جعلته سهلا ] تقديره : صورت له نفسه أن قتل أخيه طوع له أي سهل عليه ، فقتله فلما قصد قابيل قتل هابيل لم يدر كيف يقتله ، قال ابن جريج : فتمثل له إبليس وأخذ طيرا فوضع رأسه على حجر ثم شدخ رأسه بحجر آخر وقابيل ينظر إليه فعلمه القتل ، فرضخ قابيل رأس هابيل بين [ ص: 44 ] حجرين قيل : قتل وهو مستسلم ، وقيل : اغتاله وهو في النوم فشدخ رأسه فقتله ، وذلك قوله تعالى : ( فقتله فأصبح من الخاسرين ) وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة .
واختلفوا في موضع قتله [ قيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم فاسود جسم القاتل وسأله آدم عليه السلام عن أخيه فقال لم أكن عليه وكيلا فقال : بل قتلته ولذلك اسود جسدك ، مكث آدم مائة سنة لم يضحك قط منذ قتله ] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : على جبل [ ثور ] وقيل عند عقبة حراء ، فلما قتله تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بني آدم ، وقصدته السباع ، فحمله في جراب على ظهره أربعين يوما ، وقال ابن عباس : سنة ، حتى أروح ، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمى به فتأكله ، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم ألقاه في الحفرة وواراه ، وقابيل ينظر إليه ، فذلك قوله تعالى : ( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه ) .
( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين ( 31 ) )
( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه ) فلما رأى قابيل ذلك قال : يا ويلتا ، كلمة تحسر فقيل لما رأى الدفن من الغراب أنه أكبر علما منه وأن ما فعله كان جهلا فندم وتحسر ( قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي ) أي : جيفته ، وقيل : عورته لأنه قد سلب ثيابه ، ( فأصبح من النادمين ) على حمله على عاتقه لا على قتله ، وقيل : على فراق أخيه ، وقيل : ندم لقلة النفع بقتله فإنه أسخط والديه ، وما انتفع بقتله شيئا ولم يكن ندمه على القتل وركوب الذنب .
قال عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب : لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها سبعة أيام ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء ، فناداه آدم أين أخوك هابيل؟ قال : ما أدري ما كنت عليه [ ص: 45 ] رقيبا ، فقال الله تعالى : إن دم أخيك ليناديني من الأرض ، فلم قتلت أخاك؟ قال : فأين دمه إن كنت قتلته؟ فحرم الله عز وجل على الأرض يومئذ أن تشرب دما بعده أبدا .
وقال مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : لما قتل قابيل هابيل وآدم عليه السلام بمكة اشتاك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه ، وأمر الماء واغبرت الأرض ، فقال آدم عليه السلام : قد حدث في الأرض حدث ، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل فأنشأ يقول وهو أول من قال الشعر :
تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم
وقل بشاشة الوجه الصبيح
وروي : المليح .
وروي عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من قال إن آدم عليه السلام قال شعرا فقد كذب ، إن محمدا صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم عليهم السلام في النهي عن الشعر سواء ، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني ، فلما قال آدم مرثيته قال لشيث : يا بني إنك وصي احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه ، لم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان ، وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط بالعربية ، وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فرد المقدم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدم ، فوزنه شعرا وزاد فيه أبياتا منها :
وما لي لا أجود بسكب دمع وهابيل تضمنه الضريح
أرى طول الحياة علي غما فهل أنا من حياتي مستريح
فلما مضى من عمر آدم عليه السلام مائة وثلاثون سنة ، وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حواء شيثا ، وتفسيره : هبة الله ، يعني إنه خلف من هابيل علمه الله تعالى ساعات الليل والنهار ، وعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منها ، وأنزل عليه خمسين صحيفة فصار وصي آدم وولي عهده ، وأما قابيل فقيل له اذهب طريدا شريدا فزعا مرعوبا لا تأمن من تراه ، فأخذ بيد أخته أقليما وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن ، فأتاه إبليس فقال له إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النار فانصب أنت نارا أيضا تكون لك ولعقبك ، فبنى بيتا للنار فهو أول من عبد النار ، وكان لا يمر به أحد إلا رماه ، فأقبل ابن له أعمى ومعه ابن له ، فقال ابنه : هذا أبوك قابيل ، فرمى الأعمى أباه فقتله ، فقال ابن الأعمى : قتلت أباك؟ فرفع يده فلطم ابنه ، فمات فقال الأعمى : ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي . [ ص: 46 ]
وقال مجاهد : فعلقت إحدى رجلي قابيل إلى فخذها وساقها وعلقت من يومئذ إلى يوم القيامة ووجهه إلى الشمس ما دارت عليه ، في الصيف حظيرة من نار وفي الشتاء حظيرة من ثلج .
قال : واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطبول والمزامير والعيدان والطنابير ، وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى غرقهم الله بالطوفان أيام نوح عليه السلام ، وبقي نسل شيث .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل أنا عمر بن حفص بن غياث ثنا أبي ثنا الأعمش حدثني عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل " .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (119)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 32 إلى الاية34
( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ( 32 )
قوله عز وجل : ( من أجل ذلك ) قرأ أبو جعفر من اجل ذلك بكسر النون موصولا وقراءة العامة بجزم النون ، أي : من جراء ذلك القاتل وجنايته ، يقال : أجل يأجل أجلا إذا جنى ، مثل أخذ يأخذ أخذا ، ( كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس ) قتلها فيقاد منه ، ( أو فساد في الأرض ) يريد بغير نفس وبغير فساد في الأرض من كفر أو زنا أو قطع طريق ، أو نحو ذلك ( فكأنما قتل الناس جميعا ) اختلفوا في تأويلها ، قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة : من قتل نبيا أو إماما عدلا فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن شد عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا .
قال مجاهد : من قتل نفسا محرمة يصلى النار بقتلها ، كما يصلاها لو قتل الناس جميعا " ومن أحياها " : من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا . [ ص: 47 ]
قال قتادة : عظم الله أجرها وعظم وزرها ، معناه من استحل قتل مسلم بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا في الإثم لأنهم لا يسلمون منه ، ( ومن أحياها ) وتورع عن قتلها ، ( فكأنما أحيا الناس جميعا ) [ في الثواب لسلامتهم منه . قال الحسن : فكأنما قتل الناس جميعا ] يعني : أنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعا ، ومن أحياها : أي عفى عمن وجب عليه القصاص له فلم يقتله فكأنما أحيا الناس جميعا ، قال سليمان بن علي قلت للحسن : يا أبا سعيد : هي لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ قال : إي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا ، ( ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون )
( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ( 33 ) )
( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ) الآية . قال الضحاك : نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض .
وقال الكلبي : نزلت في قوم هلال بن عويمر ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج ، فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من أسلم من قوم هلال بن عويمر ، ولم يكن هلال شاهدا [ فشدوا ] عليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزل جبريل عليه السلام بالقضاء فيهم ، وقال سعيد بن جبير : نزلت في ناس من عرينة وعكل أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة ، فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل . [ ص: 48 ]
[ أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا علي بن عبد الله ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو قلابة الجرمي ] عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم نفر من عكل فأسلموا واجتووا المدينة فأمرهم [ النبي صلى الله عليه وسلم ] أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ، ففعلوا فصحوا فارتدوا وقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم لم يحسمهم حتى ماتوا .
ورواه أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال : فقطع أيديهم وأرجلهم ثم أمر بمسامير فكحلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فما يسقون حتى ماتوا ، قال أبو قلابة : قتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا [ وهو المراد من قوله تعالى : " ويسعون في الأرض فسادا ] .
واختلفوا في حكم هؤلاء العرنيين : فقال بعضهم : هي منسوخة لأن المثلة لا تجوز ، وقال بعضهم : حكمه ثابت إلا السمل [ والمثلة ] وروى قتادة عن ابن سيرين أن ذلك كان قبل أن [ ينزل الحد ] وقال أبو الزناد : فلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهم أنزل الله الحدود ونهاه عن المثلة فلم يعد .
وعن قتادة قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة وقال سليمان التيمي عن أنس : إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة . وقال الليث بن سعد : نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليما منه إياه عقوبتهم ، وقال : إنما جزاؤهم هذا لا المثلة ، ولذلك ما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا إلا نهى عن المثلة .
واختلفوا في المحاربين الذين يستحقون هذا الحد ، فقال قوم : هم الذين يقطعون الطريق ويحملون السلاح ، والمكابرون في الأمصار ، وهو قول الأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي رحمهم الله . [ ص: 49 ]
وقال قوم : المكابرون في الأمصار ليس لهم حكم المحاربين في استحقاق هذه الحدود وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه .
وعقوبة المحاربين ما ذكر الله سبحانه وتعالى : ( أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) فذهب قوم إلى أن الإمام بالخيار في أمر المحاربين بين القتل والقطع والصلب ، [ والنفي ] كما هو ظاهر الآية ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والنخعي ومجاهد .
وذهب الأكثرون إلى أن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم لا على التخيير ، [ لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن صالح مولى التوأمة ] عن ابن عباس رضي الله عنهما في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، فإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض .
وهو قول قتادة والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي رحمهم الله تعالى .
[ وإذا قتل قاطع الطريق يقتل ] حتما حتى لا يسقط بعفو ولي الدم ، وإذا أخذ من المال نصابا وهو ربع دينار تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ، وإذا قتل وأخذ المال يقتل ويصلب .
واختلفوا في كيفيته : فظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه أن يقتل ثم يصلب وقيل : يصلب حيا ثم يطعن حتى يموت مصلوبا ، وهو قول الليث بن سعد ، وقيل : يصلب ثلاثة أيام حيا ثم ينزل فيقتل ، وإذا أخاف السبيل ينفى .
واختلفوا في النفي : فذهب قوم إلى أن الإمام يطلبه ففي كل بلدة يوجد ينفى عنه ، وهو قول سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز ، وقيل : يطلب لتقام الحدود عليه ، وهو قول ابن عباس والليث بن [ ص: 50 ] سعد ، وبه قال الشافعي : وقال أهل الكوفة : النفي هو الحبس ، وهو نفي من الأرض ، وقال محمد بن جرير : ينفى من بلده إلى غيره ويحبس في السجن [ في البلد الذي نفي إليه حتى تظهر توبته . كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون ] وقال : أحبسه حتى أعلم منه التوبة ، ولا أنفيه إلى بلد فيؤذيهم ، ( ذلك ) الذي ذكرت من الحد ، ( لهم خزي ) عذاب وهوان وفضيحة ، ( في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) .
( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ( 34 ) )
( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) فمن ذهب إلى أن الآية نزلت في الكفار ، قال معناه : إلا الذين تابوا من شركهم وأسلموا قبل القدرة عليهم فلا سبيل عليهم بشيء من الحدود ولا تبعة عليهم فيما أصابوا في حال الكفر من دم أو مال ، وأما المسلمون المحاربون فمن [ تاب ] منهم قبل القدرة عليهم وهو قبل أن يظفر به الإمام تسقط عنه كل عقوبة وجبت حقا لله ، ولا يسقط ما كان من حقوق العباد فإن كان قد قتل في قطع الطريق يسقط عنه بالتوبة قبل القدرة عليه تحتم القتل ، ويبقى عليه القصاص لولي القتيل فإن شاء عفا عنه وإن شاء استوفاه ، وإن كان قد أخذ المال يسقط عنه [ القطع ] وإن كان قد جمع بينهما يسقط عنه تحتم القتل والصلب ، ويجب ضمان المال وهو قول الشافعي رضي الله عنه .
وقال بعضهم : إذا جاء تائبا قبل القدرة عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلا أن يوجد معه مال بعينه فيرده إلى صاحبه .
وروي عن علي رضي الله عنه في حارثة بن يزيد كان خرج محاربا فسفك الدماء وأخذ المال ، ثم جاء تائبا قبل أن يقدر عليه فلم يجعل علي رضي الله عنه عليه تبعة [ في دم ولا مال ، إلا أن يوجد معه مال فيرد إلى صاحبه ] أما من تاب بعد القدرة عليه فلا يسقط عنه شيء منها .
وقيل : كل عقوبة تجب حقا لله عز وجل من عقوبات قطع الطريق وقطع السرقة وحد الزنا والشرب تسقط بالتوبة بكل حال ، والأكثرون على أنها لا تسقط .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (120)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 35 إلى الاية41
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون ( 35 ) إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم ( 36 ) ( يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم ( 37 ) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ( 38 ) )
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا ) اطلبوا ، ( إليه الوسيلة ) أي : القربة ، فعيلة من توسل إلى فلان بكذا ، أي : تقرب إليه وجمعها وسائل ، ( وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون ) [ تلخيصه : امتثلوا أمر الله تنجوا ] .
( إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ) أخبر أن الكافر لو ملك الدنيا كلها ومثلها معها ثم فدى بذلك نفسه من العذاب لم يقبل منه ذلك الفداء ، ( ولهم عذاب أليم )
( يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ) فيه وجهان ، أحدهما : أنهم يقصدون ويطلبون المخرج منها ، كما قال الله تعالى : " كلما أرادوا أن يخرجوا منها " ( الحج - 22 ) والثاني : أنهم يتمنون ذلك بقلوبهم ، كما قال الله تعالى إخبارا عنهم : " ربنا أخرجنا منها " ( المؤمنون - 107 ( ولهم عذاب مقيم )
( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) أراد به أيمانهما ، وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
وحكمه أن من سرق نصابا من المال من حرز لا شبهة له فيه تقطع يده اليمنى من الرسغ ، ولا يجب القطع في سرقة ما دون النصاب عند عامة أهل العلم ، حكي عن ابن الزبير أنه كان يقطع في الشيء القليل ، وعامة العلماء على خلافه . [ ص: 52 ]
واختلفوا في القدر الذي يقطع فيه : فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقطع في أقل من ربع دينار ، فإن سرق ربع دينار أو متاعا قيمته ربع دينار يقطع ، وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم ، وبه قال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي والشافعي رحمهم الله ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا ابن عيينة عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " القطع في ربع دينار فصاعدا " .
أخبرنا أبو الحسن الشيرزي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن ثمنه ثلاثة دراهم .
وروي عن عثمان أنه قطع سارقا في أترجة قومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار . وهذا قول مالك رحمه الله تعالى أنه يقطع في ثلاثة دراهم .
وذهب قوم إلى أنه لا تقطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم ، يروى ذلك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي .
وقال قوم لا يقطع إلا في خمسة دراهم يروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وبه قال ابن أبي ليلى ، أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمر بن حفص بن غياث أخبرني أبي أنا الأعمش قال : سمعت أبا صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " وقال الأعمش : كانوا يرون أنه بيض الحديد والحبل . يرون أن منها ما يساوي دراهم .
ويحتج بهذا الحديث من يرى القطع في الشيء القليل ، وهو عند الأكثرين محمول على ما قاله الأعمش لحديث عائشة رضي الله عنها " وإذا سرق شيئا من غير حرز كثمر في حائط لا [ ص: 53 ] حارس له أو حيوان في برية لا حافظ له ، أو متاع في بيت منقطع عن البيوت لا قطع عليه " .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن " .
وروي عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع " .
وإذا سرق مالا له فيه شبهة كالعبد يسرق من مال سيده أو الولد يسرق من مال والده أو الوالد يسرق من مال ولده أو أحد الشريكين يسرق من مال المشترك شيئا : لا قطع عليه .
وإذا سرق السارق أول مرة تقطع يده اليمنى من الكوع ، ثم إذا سرق ثانيا تقطع رجله اليسرى من مفصل القدم .
واختلفوا فيما إذا سرق ثالثا : فذهب أكثرهم إلى أنه تقطع يده اليسرى ، ثم إذا سرق رابعا تقطع رجله اليمنى ، ثم إذا سرق بعده شيئا يعزر ويحبس حتى تظهر توبته ، وهو المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو قول قتادة ، وبه قال مالك والشافعي لما روي عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " في السارق يسرق إن سرق فاقطعوا يده ، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ، ثم إن سرق فاقطعوا يده ، ثم إن سرق فاقطعوا رجله " .
وذهب قوم إلى أنه إن سرق ثالثا بعدما قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى لا يقطع بل يحبس ، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه ، وقال : " إني لأستحي أن لا أدع له يدا يستنجي بها ولا رجلا [ ص: 54 ] يمشي بها " وهو قول الشعبي والنخعي ، وبه قال الأوزاعي وأحمد وأصحاب الرأي . قوله تعالى : ( جزاء بما كسبا ) نصب على الحال والقطع . ومثله : ( نكالا ) أي : عقوبة ، ( من الله والله عزيز حكيم ) .
( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ( 39 ) ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير ( 40 ) يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ( 41 ) )
( فمن تاب من بعد ظلمه ) أي : سرقته ، ( وأصلح ) العمل ، ( فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) هذا فيما بينه وبين الله تعالى ، فأما القطع فلا يسقط عنه بالتوبة عند الأكثرين ، قال مجاهد : قطع السارق توبته ، فإذا قطع حصلت التوبة ، والصحيح أن القطع للجزاء على الجناية ، كما قال : ( جزاء بما كسبا ) فلا بد من التوبة بعد ، وتوبته الندم على ما مضى والعزم على تركه في المستقبل ، وإذا قطع السارق يجب عليه غرم ما سرق من المال عند أكثر أهل العلم ، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : لا غرم عليه ، وبالاتفاق إن كان المسروق باقيا عنده يسترد وتقطع يده لأن القطع حق الله تعالى والغرم حق العبد ، فلا يمنع أحدهما الآخر ، كاسترداد العين . [ ص: 55 ]
قوله تعالى : ( ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ) الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الجميع ، وقيل : معناه ألم تعلم أيها الإنسان فيكون خطابا لكل أحد من الناس ، ( يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء ) قال السدي والكلبي : يعذب من يشاء : من مات على كفره ، ويغفر لمن يشاء الكبيرة ، من تاب من كفره ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - يعذب من يشاء على الصغيرة ، ويغفر لمن يشاء على الكبيرة ، ( والله على كل شيء قدير )
قوله تعالى : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) أي : في موالاة الكفار فإنهم لم يعجزوا الله ، ( من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ) وهم المنافقون ، ( ومن الذين هادوا ) يعني : اليهود ، ( سماعون ) أي : قوم سماعون ، ( للكذب ) أي : قائلون للكذب ، كقول المصلي : سمع الله لمن حمده ، أي : قبل الله ، وقيل : سماعون لأجل الكذب ، أي يسمعون منك ليكذبوا عليك ، وذلك أنهم كانوا يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يخرجون ويقولون سمعنا منه كذا ولم يسمعوا ذلك منه ، ( سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) أي هم جواسيس ، يعني : بني قريظة لقوم آخرين ، وهم أهل خيبر .
وذلك أن رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا وكانا محصنين ، وكان حدهما الرجم في التوراة ، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما ، فقالوا : إن هذا الرجل الذي بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكنه الضرب ، فأرسلوا إلى إخوانكم من بني قريظة فإنهم جيرانه وصلح له فليسألوه عن ذلك . فبعثوا رهطا منهم مستخفين وقالوا لهم : سلوا محمدا عن الزانيين إذا أحصنا ما حدهما؟ فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه ، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه ، وأرسلوا معهم الزانيين فقدم الرهط حتى نزلوا على بني قريظة والنضير فقالوا لهم : إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده وقد حدث فينا حدث فلان وفلانة قد فجرا وقد أحصنا ، فنحب أن تسألوا لنا محمدا عن قضائه فيه ، فقالت لهم قريظة والنضير : إذا والله يأمركم بما تكرهون .
ثم انطلق قوم ، منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسعية بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما في كتابك؟
فقال صلى الله عليه وسلم : هل ترضون بقضائي؟ قالوا : نعم ، فنزل جبريل عليه السلام بالرجم فأخبرهم بذلك [ ص: 56 ] فأبوا أن يأخذوا به .
فقال له جبريل عليه السلام : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، ووصفه له .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل تعرفون شابا أمرد أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا : نعم ، قال : فأي رجل هو فيكم؟ فقالوا : هو أعلم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله سبحانه وتعالى على موسى عليه السلام في التوراة .
قال : فأرسلوا إليه ، ففعلوا فأتاهم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أنت ابن صوريا " ؟ قال : نعم ، قال : وأنت أعلم اليهود؟ قال : كذلك يزعمون ، قال : أتجعلونه بيني وبينكم؟ قالوا : نعم .
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام وأخرجكم من مصر ، وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، والذي ظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى ، وأنزل عليكم كتابه وفيه حلاله وحرامه هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟ " .
قال ابن صوريا : نعم والذي ذكرتني به لولا خشية أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك ، ولكن كيف هي في كتابك يا محمد؟ قال : " إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم " ، فقال ابن صوريا : والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله عز وجل في التوراة على موسى عليه السلام ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " فما كان أول ما ترخصتم به أمر الله؟ " ، قال : كنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ، ثم زنى رجل آخر من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه ، فقالوا : والله لا ترجمه حتى يرجم فلان - لابن عم الملك - فقلنا : تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الوضيع والشريف ، فوضعنا الجلد والتحميم ، وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسود وجوههما ، ثم يحملان على حمارين ووجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما ، فجعلوا هذا مكان الرجم ، فقالت اليهود لابن صوريا ما أسرع ما أخبرته به ، وما كنا لما أثنينا عليك بأهل ولكنك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك ، فقال لهم : إنه قد أنشدني بالتوراة ولولا خشية التوراة أن تهلكني لما أخبرته ، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب مسجده ، وقال : اللهم [ ص: 57 ] إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ، فأنزل الله عز وجل ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال : إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، قال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها لآية الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله : ارفع يدك ، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، قالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ، فقال عبد الله بن عمر : فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة .
وقيل : سبب نزول هذه الآية القصاص ، وذلك أن بني النضير كان لهم فضل على بني قريظة فقال بنو قريظة : يا محمد إخواننا بنو النضير وأبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد ، إذا قتلوا منا قتيلا واحدا لم يقيدونا وأعطونا ديته سبعين وسقا من تمر ، وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر ، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منا وبالرجل منهم الرجلين منا ، وبالعبد الحر منا ، وجراحتنا على التضعيف من جراحاتهم ، فاقض بيننا وبينهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
والأول أصح لأن الآية في الرجم .
قوله : ( ومن الذين هادوا سماعون للكذب ) قيل : اللام بمعنى إلى ، وقيل : هي لام كي ، أي : يسمعون لكي يكذبوا عليك ، واللام في قوله : ( لقوم ) أي : لأجل قوم ( آخرين لم يأتوك ) وهم أهل خيبر ، ( يحرفون الكلم ) [ جمع كلمة ] ( من بعد مواضعه ) أي : من بعد وضعه مواضعه ، ذكر الكناية ردا على لفظ الكلم ، ( يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه ) أي : [ إن ] أفتاكم [ ص: 58 ] محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد والتحميم فاقبلوا ، ( وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته ) كفره وضلالته ، قال الضحاك : هلاكه ، وقال قتادة : عذابه ، ( فلن تملك له من الله شيئا ) فلن تقدر على دفع أمر الله فيه ، ( أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ) وفيه رد على من ينكر القدر ، ( لهم في الدنيا خزي ) أي : للمنافقين واليهود ، فخزي المنافقين الفضيحة وهتك الستر بإظهار نفاقهم ، وخزي اليهود الجزية والقتل والسبي والنفي ، ورؤيتهم من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيهم ما يكرهون ، ( ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) الخلود في النار .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (121)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 42 إلى الاية45
( سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ( 42 ) )
قوله تعالى : ( سماعون للكذب أكالون للسحت ) قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل البصرة والكسائي " للسحت " بضم الحاء ، والآخرون بسكونها ، وهو الحرام ، وأصله الهلاك والشدة ، قال الله تعالى : ( فيسحتكم بعذاب ) ( طه ، 61 ) ، نزلت في حكام اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله ، كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم .
قال الحسن : كان الحاكم منهم إذا أتاه أحد برشوة جعلها في كمه فيريها إياه ويتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه ، فيسمع الكذب ويأكل الرشوة .
وعنه أيضا قال : إنما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلا أو يبطل عنك حقا . فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه فلا بأس ، فالسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن ومقاتل وقتادة والضحاك ، وقال ابن مسعود : هو الرشوة في كل شيء ، وقال ابن مسعود : من يشفع شفاعة ليرد بها حقا أو يدفع بها ظلما فأهدي له فقبل فهو سحت ، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم ، فقال : الأخذ على الحكم كفر قال الله [ ص: 59 ] تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) " سورة المائدة ، 44 " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد أنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله الراشي والمرتشي " . .
والسحت كل كسب لا يحل .
قوله عز وجل : ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا ) خير الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك .
واختلفوا في حكم الآية اليوم هل للحاكم الخيار في الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا؟ فقال أكثر أهل العلم : هو حكم ثابت ، وليس في سورة المائدة منسوخ ، وحكام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب إن شاءوا حكموا وإن شاءوا لم يحكموا ، وإن حكموا حكموا بحكم الإسلام ، وهو قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة .
وقال قوم : يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم ، والآية منسوخة نسخها قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ( سورة المائدة ، 49 ) ، وهو قول مجاهد وعكرمة ، وروي ذلك عن ابن عباس وقال : لم ينسخ من المائدة إلا آيتان ، قوله تعالى : لا تحلوا شعائر الله نسخها قوله تعالى : فاقتلوا المشركين وقوله : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " نسخها قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله " فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما لا يختلف القول فيه ، لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة قوله ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ) أي : بالعدل ، ( إن الله يحب المقسطين ) أي : العادلين ، روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المقسطون عند الله على منابر من نور " .
[ ص: 60 ] ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ( 43 ) إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ( 44 ) )
قوله تعالى : ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة ) هذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه اختصار ، أي : كيف يجعلونك حكما بينهم فيرضون بحكمك وعندهم التوراة؟ ( فيها حكم الله ) وهو الرجم ، ( ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ) أي بمصدقين لك .
قوله عز وجل : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا ) أي : أسلموا وانقادوا لأمر الله تعالى ، كما أخبر عن إبراهيم عليه السلام : " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " ( سورة البقرة ، 131 ) ، وكما قال : وله أسلم من في السماوات والأرض ( سورة آل عمران ، 83 ) ، وأراد بهم النبيين الذين بعثوا من بعد موسى عليه السلام ليحكموا بما في التوراة ، وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها ، فإن من النبيين من لم يؤمر بحكم التوراة منهم عيسى عليه السلام ، قال الله سبحانه وتعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ( سورة المائدة 48 ) .
وقال الحسن والسدي : أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم ، ذكر بلفظ الجمع كما قال : " إن إبراهيم كان أمة قانتا " ( سورة النحل 120 ) .
وقوله تعالى : ( للذين هادوا ) فيه تقديم وتأخير ، تقديره : فيها هدى ونور للذين هادوا . ثم قال : يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون ، وقيل : هو على موضعه ، ومعناه : يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا ، كما قال : " وإن أسأتم فلها " ( سورة الإسراء 7 ) أي : فعليها ، وقال : " أولئك لهم اللعنة " ( سورة الرعد ، 25 ) أي : عليهم ، وقيل : فيه حذف ، كأنه قال : للذين هادوا وعلى الذين هادوا فحذف أحدهما اختصارا . [ ص: 61 ]
( والربانيون والأحبار ) يعني العلماء : واحدهم حبر ، وحبر بفتح الحاء وكسرها ، والكسر أفصح ، وهو العالم المحكم للشيء ، قال الكسائي وأبو عبيد : هو من الحبر الذي يكتب به وقال قطرب هو من الحبر الذي هو بمعنى الجمال بفتح الحاء وكسرها ، وفي الحديث " يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره " أي : حسنه وهيئته ، ومنه التحبير وهو التحسين ، فسمي العالم حبرا لما عليه من جمال العلم وبهائه ، وقيل : الربانيون هاهنا من النصارى ، والأحبار من اليهود ، وقيل : كلاهما من اليهود .
قوله عز وجل : ( بما استحفظوا من كتاب الله ) أي : استودعوا من كتاب الله ، ( وكانوا عليه شهداء ) أنه كذلك .
( فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال قتادة والضحاك : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة . روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) والظالمون والفاسقون كلها في الكافرين ، وقيل : هي على الناس كلهم .
وقال ابن عباس وطاوس : ليس بكفر ينقل عن الملة ، بل إذا فعله فهو به كافر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر .
قال عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، وقال عكرمة معناه : ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به فقد كفر ، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق .
وسئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات ، فقال : إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه ، فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق ، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك ، ثم لم يحكم بجميع ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات . وقال العلماء : هذا إذا رد نص حكم الله عيانا عمدا ، فأما من خفي عليه أو أخطأ في تأويل فلا .
[ ص: 62 ] [ ص: 63 ] ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ( 45 ) )
قوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها ) أي : أوجبنا على بني إسرائيل في التوراة ، ( أن النفس بالنفس ) يعني : نفس القاتل بنفس المقتول وفاء يقتل به ، ( والعين بالعين ) تفقأ بها ، ( والأنف بالأنف ) يجدع به ، ( والأذن بالأذن ) تقطع بها ، قال ابن عباس : أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة وهو : أن النفس بالنفس إلى آخرها ، فما بالهم يخالفون فيقتلون بالنفس النفسين ، ويفقأون بالعين العينين ، وخفف نافع الأذن في جميع القرآن وثقلها الآخرون ، ( والسن بالسن ) تقلع بها وسائر الجوارح قياس عليها في القصاص ، ( والجروح قصاص ) فهذا تعميم بعد تخصيص ، لأنه ذكر العين والأنف والأذن والسن ، ثم قال : ( والجروح قصاص ) أي فيما يمكن الاقتصاص منه كاليد والرجل واللسان ونحوها ، وأما ما لا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم أو جرح لحم كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه ، لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته ، وقرأ الكسائي " والعين " وما بعدها بالرفع ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وأبو عمرو " والجروح " بالرفع فقط وقرأ الآخرون كلها بالنصب كالنفس . [ ص: 64 ]
قوله تعالى : ( فمن تصدق به ) أي بالقصاص ( فهو كفارة له ) قيل : الهاء في " له " كناية عن المجروح وولي القتيل ، أي : كفارة للمتصدق وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص والحسن والشعبي وقتادة .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أنا عبد الله الحسين بن محمد الدينوري أنا عمر بن الخطاب أنا عبد الله بن الفضل أخبرنا أبو خيثمة أنا جرير عن مغيرة عن الشعبي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تصدق من جسده بشيء كفر الله عنه بقدره من ذنوبه " .
وقال جماعة : هي كناية عن الجارح والقاتل ، يعني : إذا عفا المجني عليه عن الجاني فعفوه كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة ، كما أن القصاص كفارة له ، فأما أجر العافي فعلى الله عز وجل ، قال الله تعالى : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " ( الشورى - 40 ) ، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو قول إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (122)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 46 إلى الاية52
( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ( 46 ) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ( 47 ) وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ( 48 ) )
قوله تعالى : ( وقفينا على آثارهم ) أي : على آثار النبيين الذين أسلموا ، ( بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه ) [ ص: 65 ] أي : في الإنجيل ، ( هدى ونور ومصدقا ) يعني الإنجيل ، ( لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين )
( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ) قرأ الأعمش وحمزة " وليحكم " بكسر اللام وفتح الميم ، أي لكي يحكم ، وقرأ الآخرون بسكون اللام وجزم الميم على الأمر ، قال مقاتل بن حيان : أمر الله الربانيين والأحبار أن يحكموا بما في التوراة ، وأمر القسيسين والرهبان أن يحكموا بما في الإنجيل ، فكفروا وقالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) الخارجون عن أمر الله تعالى .
قوله - سبحانه وتعالى - : ( وأنزلنا إليك ) يا محمد ) ( الكتاب ) القرآن ، ( بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ) أي : من الكتب المنزلة من قبل ، ( ومهيمنا عليه ) روى الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أي شاهدا عليه وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والكسائي .
قال حسان :
إن الكتاب مهيمن لنبينا والحق يعرفه ذوو الألباب
يريد : شاهدا ومصدقا .
وقال عكرمة : دالا . وقال سعيد بن جبير وأبو عبيدة : مؤتمنا عليه . وقال الحسن : أمينا . وقيل : أصله مؤيمن ، مفيعل من أمين ، كما قالوا : مبيطر من البيطار ، فقلبت الهمزة هاء ، كما قالوا : أرقت الماء وهرقته ، وإيهات وهيهات ، ونحوها . ومعنى أمانة القرآن ما قال ابن جريج : القرآن أمين على ما قبله من الكتب ، فما أخبر أهل الكتاب عن [ كتابهم ] فإن كان في القرآن فصدقوا وإلا فكذبوا .
وقال سعيد بن المسيب والضحاك : قاضيا ، وقال الخليل : رقيبا وحافظا ، والمعاني متقاربة ، ومعنى الكل : أن كل كتاب يشهد بصدقه القرآن فهو كتاب الله تعالى ، وما لا فلا . ) ( فاحكم ) [ ص: 66 ] يا محمد ، ) ( بينهم ) بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك ، ( بما أنزل الله ) بالقرآن ، ( ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) أي لا تعرض عما جاءك من الحق ولا تتبع أهواءهم ، ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) قال ابن عباس والحسن ومجاهد : أي سبيلا وسنة ، فالشرعة والمنهاج الطريق الواضح ، وكل ما شرعت فيه فهو شريعة وشرعة ، ومنه شرائع الإسلام لشروع أهلها فيها ، وأراد بهذا أن الشرائع مختلفة ، ولكل أهل ملة شريعة .
قال قتادة : الخطاب للأمم الثلاث : أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ، للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللفرقان شريعة ، والدين واحد وهو التوحيد . ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) أي : على ملة واحدة ، ) ( ولكن ليبلوكم ) ليختبركم ، ( في ما آتاكم ) من الكتب وبين لكم من الشرائع فيتبين المطيع من العاصي والموافق من المخالف ، ) ( فاستبقوا الخيرات ) فبادروا إلى الأعمال الصالحة ، ( إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) .
( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون ( 49 ) أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ( 50 ) )
قوله عز وجل : ) ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال كعب بن [ أسد ] وعبد الله بن [ صوريا ] وشاس بن قيس من رؤساء اليهود بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وأنا إن اتبعناك لم يخالفنا اليهود ، وإن بيننا وبين الناس خصومات فنحاكمهم إليك فاقض لنا عليهم نؤمن بك ، ويتبعنا غيرنا ، ولم يكن قصدهم الإيمان ، وإنما كان قصدهم التلبيس ودعوته إلى الميل في الحكم فأنزل الله عز وجل الآية . ) ( فإن تولوا ) أي : أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن ، ( فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ) أي : فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم ، ( وإن كثيرا من الناس ) يعني اليهود ، ) ( لفاسقون ) [ ص: 67 ]
( أفحكم الجاهلية يبغون ) قرأ ابن عامر " تبغون " بالتاء وقرأ الآخرون بالياء ، أي : يطلبون ( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) .
( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( 51 ) فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ( 52 ) )
( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ) اختلفوا في نزول هذه الآية وإن كان حكمها عاما لجميع المؤمنين .
فقال قوم : نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول ، وذلك أنهما اختصما ، فقال عبادة : إن لي أولياء من اليهود ، كثير عددهم شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم وولاية اليهود ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله ، فقال عبد الله : لكني لا أبرأ من ولاية اليهود ، لأني أخاف الدوائر ، ولا بد لي منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه ، قال : إذا أقبل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قال السدي : لما كانت وقعة أحد اشتدت على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين : أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أمانا إني أخاف أن يدال علينا اليهود ، وقال رجل آخر : أما أنا فألحق بفلان النصراني من أهل الشام وآخذ منه أمانا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهما .
وقال عكرمة : نزلت في [ أبي لبابة ] بن عبد المنذر بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة [ حين حاصرهم ] فاستشاروه في النزول ، وقالوا : ماذا يصنع بنا إذا نزلنا ، فجعل أصبعه على حلقه أنه [ ص: 68 ] الذبح ، أي : يقتلكم ، فنزلت هذه الآية .
( بعضهم أولياء بعض ) في العون والنصرة ويدهم واحدة على المسلمين ، ( ومن يتولهم منكم ) [ فيوفقهم ويعنهم ] ( فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )
( فترى الذين في قلوبهم مرض ) أي : نفاق يعني عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين الذين يوالون اليهود ، ) ( يسارعون فيهم ) في معونتهم وموالاتهم ، ( يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ) دولة ، يعني : أن يدول الدهر دولة فنحتاج إلى نصرهم إيانا ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا ، وقيل : نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه من جدب وقحط فلا يعطونا الميرة والقرض ( فعسى الله أن يأتي بالفتح ) قال قتادة ومقاتل : بالقضاء الفصل من نصر محمد صلى الله عليه وسلم على من خالفه ، وقال الكلبي والسدي : فتح مكة ، وقال الضحاك : فتح قرى اليهود مثل خيبر وفدك ، ( أو أمر من عنده ) قيل : بإتمام أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هو عذاب لهم ، وقيل : إجلاء بني النضير ، ) ( فيصبحوا ) يعني : هؤلاء المنافقون ، ( على ما أسروا في أنفسهم ) من موالاة اليهود ودس الأخبار إليهم ، ) ( نادمين ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (123)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 53 إلى الاية56
( ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ( 53 ) ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ( 54 ) )
( و ) حينئذ ، ( ويقول الذين آمنوا ) [ قرأ أهل الكوفة : " ويقول " بالواو والرفع ] وقرأ أهل [ ص: 69 ] البصرة بالواو ونصب اللام عطفا على ) ( أن يأتي ) أي : وعسى أن يقول الذين آمنوا ، وقرأ الآخرون بحذف الواو ورفع اللام ، وكذلك هو في مصاحف أهل [ العالية ] استغناء عن حرف العطف بملابسة هذه الآية بما قبلها ، يعني يقول الذين آمنوا في وقت إظهار الله تعالى نفاق المنافقين ( أهؤلاء الذين أقسموا بالله ) حلفوا بالله ، ) ( جهد أيمانهم ) أي : حلفوا بأغلظ الأيمان ، ) ( إنهم لمعكم ) أي : إنهم مؤمنون ، يريد : أن المؤمنين حينئذ يتعجبون من كذبهم وحلفهم بالباطل . قال الله تعالى : ) ( حبطت أعمالهم ) بطل كل خير عملوه ، ) ( فأصبحوا خاسرين ) خسروا الدنيا بافتضاحهم ، والآخرة بالعذاب وفوات الثواب .
قوله عز وجل : ) ( ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) قرأ أهل المدينة والشام " يرتدد " بدالين على إظهار التضعيف " عن دينه " فيرجع إلى الكفر .
قال الحسن : علم الله تبارك وتعالى أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه سيأتي بقوم يحبهم الله ويحبونه .
واختلفوا في أولئك القوم من هم؟ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وقتادة : هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة الزكاة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب إلا أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس ، ومنع بعضهم الزكاة ، وهم أبو بكر رضي الله عنه بقتالهم فكره ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال عمر رضي الله عنه : كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله عز وجل؟ " فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني [ عناقا ] كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها " .
قال أنس بن مالك رضي الله عنه : كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة وقالوا : أهل القبلة ، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده ، فلم يجدوا بدا من الخروج على أثره . [ ص: 70 ] قال ابن مسعود : كرهنا ذلك في الابتداء ثم حمدناه عليه في الانتهاء .
قال أبو بكر بن عياش : سمعت أبا حصين يقول : ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر رضي الله عنه ، لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة .
وكان قد ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق :
منهم [ بنو مذحج ] ورئيسهم ذو الخمار عبهلة بن كعب العنسي ، ويلقب بالأسود ، وكان كاهنا مشعبذا فتنبأ باليمن واستولى على بلادها ، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين ، وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم ، وعلى النهوض إلى حرب الأسود ، فقتله فيروز الديلمي على فراشه ، قال ابن عمر رضي الله عنه فأتى الخبر النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قتل الأسود البارحة ، قتله رجل مبارك " ، قيل : ومن هو؟ قال : " فيروز ، [ فاز فيروز ] فبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود ، وقبض صلى الله عليه وسلم من الغد ، وأتى [ خبر ] مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعدما خرج أسامة وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رضي الله عنه .
والفرقة الثانية : بنو حنيفة باليمامة ، ورئيسهم مسيلمة الكذاب ، [ واسمه ثمامة بن قيس ] وكان قد تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر ، وزعم أنه أشرك مع محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك ، وبعث [ بذلك ] إليه مع رجلين من أصحابه ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ أتشهدان أن مسيلمة رسول الله؟ قالا : نعم . قال النبي صلى الله عليه وسلم ] " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " ، ثم أجاب : " من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين " ، ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي ، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب في جيش كثير حتى أهلكه الله على يدي وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب ، بعد حرب شديد ، وكان وحشي يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام . [ ص: 71 ]
والفرقة الثالثة : بنو أسد ، ورئيسهم طليحة بن خويلد بن الوليد ، وكان طليحة آخر من ارتد ، وادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأول من قوتل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الردة ، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إليه ، فهزمهم خالد بعد قتال شديد ، وأفلت طليحة فمر على وجهه هاربا نحو الشام ، ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه .
وارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم [ في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ] خلق كثير ، حتى كفى الله المسلمين أمرهم ونصر دينه على يدي أبي بكر رضي الله عنه .
قالت عائشة : " توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب واشرأب النفاق ، ونزل بأبي بكر ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها " .
وقال قوم : المراد بقوله : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) هم الأشعريون ، روي عن عياض بن غنم الأشعري قال : لما نزلت هذه الآية : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هم قوم هذا ، وأشار إلى أبي موسى الأشعري " وكانوا من اليمن .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا أبو عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن [ علي الكشميهني ، حدثنا علي بن ] حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتاكم أهل اليمن ، هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة ، الإيمان يمان والحكمة يمانية "
وقال الكلبي : هم أحياء من اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أفياء الناس ، فجاهدوا في سبيل الله يوم القادسية في أيام عمر رضي الله عنه . [ ص: 72 ]
قوله عز وجل : ( أذلة على المؤمنين ) يعني : أرقاء رحماء ، لقوله عز وجل : " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " ، ولم يرد به الهوان ، بل أراد به أن جانبهم لين على المؤمنين ، وقيل : هو من الذل من قولهم " دابة ذلول " ، يعني أنهم متواضعون كما قال الله تعالى : " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا " ، ( أعزة على الكافرين ) أي : أشداء غلاظ على الكفار يعادونهم ويغالبونهم ، من قولهم : عزه أي : غلبه ، قال عطاء : أذلة على المؤمنين : كالولد لوالده والعبد لسيده ، أعزة على الكافرين : كالسبع على فريسته ، نظيره قوله تعالى : " أشداء على الكفار رحماء بينهم " . ( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) يعني : لا يخافون في الله لوم الناس ، وذلك أن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم ، وروينا عن عبادة بن الصامت قال : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم " .
( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) أي : محبتهم لله ولين جانبهم للمسلمين ، وشدتهم على الكافرين ، من فضل الله عليهم ، ( والله واسع عليم ) .
( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ( 55 ) ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ( 56 ) )
( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) [ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول حين تبرأ عبادة من اليهود ، وقال : أتولى الله ورسوله والذين آمنوا ، فنزل فيهم من قوله : " ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " ، إلى قوله : " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " يعني عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال جابر بن عبد الله : جاء عبد الله بن سلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن قومنا قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا أن لا يجالسونا ، فنزلت هذه الآية ، فقرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " يا رسول الله رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء " . وعلى هذا التأويل أراد بقوله : ( وهم راكعون ) [ ص: 73 ] صلاة التطوع بالليل والنهار ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما .
وقال السدي : قوله : " والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " ، أراد به علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه .
وقال جويبر عن الضحاك في قوله : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) قال : هم المؤمنون بعضهم أولياء بعض ، وقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) نزلت في المؤمنين ، فقيل له : إن أناسا يقولون إنها نزلت في علي رضي الله عنه ، فقال : هو من المؤمنين .
( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا ) يعني : يتولى القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد المهاجرين والأنصار ، ( فإن حزب الله ) يعني : أنصار دين الله ، ( هم الغالبون ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (124)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 57 إلى الاية64
( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ( 57 ) ( وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ( 58 ) قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ( 59 ) )
قوله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا ) قال ابن عباس كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ، ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية " ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا " ، بإظهار ذلك بألسنتهم قولا وهم مستبطنون الكفر ، ( من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) يعني : اليهود ، ) ( والكفار ) قرأ أهل البصرة والكسائي " الكفار " ، بخفض الراء ، [ يعني : [ ص: 74 ] ومن الكفار ] وقرأ الآخرون بالنصب ، أي : لا تتخذوا الكفار ، ( أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين )
قوله تعالى : ( وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) قال الكلبي : كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون إليها ، قالت اليهود : قد قاموا لا قاموا ، وصلوا لا صلوا ، على طريق الاستهزاء ، وضحكوا ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية .
وقال السدي : نزلت في رجل من النصارى بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمدا رسول الله ، قال : حرق الكاذب ، فدخل خادمه ذات ليلة بنار [ وهو وأهله نيام ] فتطايرت منها شرارة فاحترق البيت واحترق هو وأهله .
وقال الآخرون : إن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا المسلمين فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : يا محمد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت - فيما أحدثت - الأنبياء قبلك ، ولو كان فيه خير لكان أولى الناس به الأنبياء ، فمن أين لك صياح كصياح [ العنز ] ؟ فما أقبح من صوت وما أسمج من أمر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ونزل " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله " ، الآية .
قوله عز وجل : ( قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا ) الآية . قرأ الكسائي : " هل تنقمون " ، بإدغام اللام في التاء ، وكذلك يدغم لام هل في التاء والثاء والنون ، ووافقه حمزة في التاء والثاء وأبو عمرو في " هل ترى " في موضعين .
قال ابن عباس : أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود ، أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع وغيرهما ، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ، فقال : أومن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إلى قوله : ونحن له مسلمون فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوته ، وقالوا : والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شرا من دينكم ، فأنزل الله هذه الآية " قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا " [ ص: 75 ] أي : تكرهون منا ، ( إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ) أي : هل تكرهون منا إلا إيماننا وفسقكم ، أي : إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على حق ، لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لحب الرياسة وحب الأموال .
( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ( 60 ) وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون ( 61 ) وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ( 62 ) لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ( 63 ) )
. . . ثم قال : ) ( قل ) يا محمد ، ) ( هل أنبئكم ) أخبركم ، ) ( بشر من ذلك ) الذي ذكرتم ، يعني قولهم لم نر أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم ، فذكر الجواب بلفظ الابتداء ، وإن لم يكن الابتداء شرا كقوله تعالى : قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار ( الحج ، 72 ) ، ) ( مثوبة ) ثوابا وجزاء ، نصب على التفسير ، ( عند الله من لعنه الله ) أي : هو من لعنه الله ، ( وغضب عليه ) يعني : اليهود ، ( وجعل منهم القردة والخنازير ) فالقردة أصحاب السبت ، والخنازير كفار مائدة عيسى عليه السلام .
وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الممسوخين كلاهما من أصحاب السبت ، فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير . ( وعبد الطاغوت ) أي : جعل منهم من عبد الطاغوت ، أي : أطاع الشيطان فيما سول له ، وتصديقها قراءة ابن مسعود : ومن عبدوا الطاغوت ، وقرأ حمزة " وعبد " بضم الباء " الطاغوت " بجر التاء ، أراد العبد وهما لغتان عبد بجزم الباء وعبد بضم الباء ، مثل سبع وسبع ، وقيل : هو جمع العباد ، وقرأ الحسن وعبد الطاغوت ، على الواحد ، ( أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ) أي : عن طريق الحق .
( وإذا جاءوكم قالوا ) يعني : هؤلاء المنافقين ، وقيل : هم الذين قالوا : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : آمنا بك وصدقناك فيما قلت ، وهم يسرون الكفر ، ( وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ) يعني : دخلوا كافرين وخرجوا كافرين ، ( والله أعلم بما كانوا يكتمون ) [ ص: 76 ]
( وترى كثيرا منهم ) يعني : من اليهود ( يسارعون في الإثم والعدوان ) قيل : الإثم المعاصي والعدوان الظلم ، وقيل : الإثم ما كتموا من التوراة ، والعدوان وما زادوا فيها ، ( وأكلهم السحت ) الرشا ، ( لبئس ما كانوا يعملون )
( لولا ) هلا ( ينهاهم الربانيون والأحبار ) يعني : العلماء ، قيل : الربانيون علماء النصارى والأحبار علماء اليهود ، ( عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ) .
( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ( 64 ) )
( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة : إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف الله عنهم ما بسط عليهم من السعة ، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء : يد الله مغلولة ، أي : محبوسة مقبوضة عن الرزق نسبوه إلى البخل ، تعالى الله عن ذلك .
قيل : إنما قال هذه المقالة فنحاص ، فلما لم ينهه الآخرون ورضوا بقوله أشركهم الله فيها .
وقال الحسن : معناه " يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا ما تبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل . والأول أولى لقوله : " ينفق كيف يشاء " .
( غلت أيديهم ) أي : [ أمسكت ] أيديهم عن الخيرات . وقال الزجاج : أجابهم الله تعالى فقال : أنا الجواد وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسكة . وقيل : هو من الغل في النار يوم القيامة لقوله تعالى : " إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل " ( غافر ، 71 ) . ) ( ولعنوا ) عذبوا ، ) ( بما قالوا ) فمن لعنهم أنهم مسخوا قردة وخنازير وضربت عليهم الذلة والمسكنة في الدنيا وفي الآخرة بالنار ، ( بل يداه مبسوطتان ) ويد الله صفة من [ صفاته ] كالسمع ، والبصر والوجه ، وقال جل [ ص: 77 ] ذكره : " لما خلقت بيدي " ( ص ، 75 ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كلتا يديه يمين " والله أعلم بصفاته ، فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم .
وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات : " أمروها كما جاءت بلا كيف " .
) ( ينفق ) يرزق ، ( كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) أي : كلما نزلت آية كفروا بها وازدادوا طغيانا وكفرا ، [ كلما نزلت آية ] ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء ) يعني : بين اليهود والنصارى ، قاله الحسن ومجاهد : وقيل بين طوائف اليهود جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين ( إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) يعني : اليهود أفسدوا وخالفوا حكم التوراة ، فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم طيطوس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين .
وقيل : كلما أجمعوا أمرهم ليفسدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأوقدوا نار المحاربة أطفأها الله ، فردهم وقهرهم ونصر نبيه ودينه ، هذا معنى قول الحسن ، وقال قتادة : هذا عام في كل حرب طلبته اليهود فلا تلقى اليهود في البلد إلا وجدتهم من أذل الناس ، ( ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (125)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 65 إلى الاية71
( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ( 65 ) ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ( 67 ) )
( ولو أن أهل الكتاب آمنوا ) بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ) ( واتقوا ) الكفر ، ( لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ) [ ص: 78 ]
( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ) يعني : أقاموا أحكامهما وحدودهما وعملوا بما فيهما ، ( وما أنزل إليهم من ربهم ) يعني : القرآن ، وقيل : كتب أنبياء بني إسرائيل ، ( لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) قيل : من فوقهم هو المطر ، ومن تحت أرجلهم نبات الأرض .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لأنزلت عليهم القطر وأخرجت لهم من نبات الأرض .
وقال الفراء أراد به التوسعة في الرزق كما يقال فلان في الخير من قرنه إلى قدمه ، ونظيره قوله تعالى : " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " ( الأعراف ، 96 ) .
( منهم أمة مقتصدة ) يعني : مؤمني أهل الكتاب ، عبد الله بن سلام وأصحابه ، مقتصدة أي عادلة غير غالية ، ولا مقصرة جافية ، ومعنى الاقتصاد في اللغة : الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير .
( وكثير منهم ) كعب بن الأشرف وأصحابه ( ساء ما يعملون ) بئس شيئا عملهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : عملوا القبيح مع التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم .
قوله عز وجل : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) الآية ، روي عن مسروق قال : قالت عائشة رضي الله عنها من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل الله فقد كذب ، وهو يقول : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية . روى الحسن : أن الله تعالى لما بعث رسوله ضاق ذرعا وعرف أن من الناس من يكذبه ، فنزلت هذه الآية .
وقيل : نزلت في عيب اليهود ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام ، فقالوا أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ، فيقولون له : تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حنانا ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سكت فنزلت هذه الآية ، وأمره أن يقول لهم : " ياأهل الكتاب لستم على شيء " الآية .
وقيل : بلغ ما أنزل إليك من الرجم والقصاص ، نزلت في قصة اليهود .
وقيل : نزلت في أمر زينب بنت جحش ونكاحها .
وقيل : في الجهاد ، وذلك أن المنافقين كرهوه ، كما قال الله تعالى : فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت [ ص: 79 ] ( محمد ، 20 ) وكرهه بعض المؤمنين قال الله تعالى : " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم " الآية ( النساء ، 70 ) ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك في بعض الأحايين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة بعضهم ، فأنزل الله هذه الآية .
قوله تعالى : ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) قرأ أهل المدينة ( رسالاته ) ، على الجمع والباقون رسالته على التوحيد .
ومعنى الآية : إن لم تبلغ الجميع وتركت بعضه ، فما بلغت شيئا ، أي : جرمك في ترك تبليغ البعض كجرمك في ترك تبليغ الكل ، كقوله : " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا " ( النساء ، 150 - 151 ) ، أخبر أن كفرهم بالبعض محبط للإيمان بالبعض .
وقيل : بلغ ما أنزل إليك أي : أظهر تبليغه ، كقوله : " فاصدع بما تؤمر " ( الحجر ، 94 ) وإن لم تفعل : فإن لم تظهر تبليغه فما بلغت رسالته ، أمره بتبليغ ما أنزل إليه مجاهرا محتسبا صابرا ، غير خائف ، فإن أخفيت منه شيئا لخوف يلحقك فما بلغت رسالته .
( والله يعصمك من الناس ) يحفظك ويمنعك من الناس ، فإن قيل : أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته وأوذي بضروب من الأذى؟
قيل : معناه يعصمك من القتل فلا يصلون إلى قتلك .
وقيل : نزلت هذه الآية بعدما شج رأسه لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن .
وقيل : والله يخصك بالعصمة من بين الناس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم .
( إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري أنا سنان بن أبي سنان الدؤلي وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قفل معه وأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق بها سيفه ونمنا نومة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا وإذا عنده أعرابي ، فقال : " إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم ، فاستيقظت وهو في يده صلتا ، فقال : من يمنعك مني؟ فقلت : الله " ثلاثا " ، ولم يعاقبه وجلس . . [ ص: 80 ]
وروى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الأعرابي سل سيفه وقال : من يمنعك مني يا محمد قال : الله ، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا إسماعيل بن خليل أخبرنا علي بن مسهر أنا يحيى بن سعيد أنا عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم سهر فلما قدم المدينة قال ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة ، إذ سمعنا صوت سلاح ، فقال : من هذا؟ قال : أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك ، فنام النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال عبد الله بن شقيق عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية : ( والله يعصمك من الناس ) فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم : " أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله سبحانه وتعالى " .
( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين ( 68 ) إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 69 ) لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ( 70 ) وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون ( 71 ) )
قوله عز وجل : ) ( قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) [ ص: 81 ] أي : تقيموا أحكامهما وما يجب عليكم فيهما ، ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس ) فلا تحزن ، ( على القوم الكافرين )
( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى ) وكان حقه : ) ( والصابئين ) وقد ذكرنا في سورة البقرة وجه ارتفاعه . وقال سيبويه : فيه تقديم وتأخير تقديره : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله إلى آخر الآية ، والصابئون كذلك ، وقوله : ( إن الذين آمنوا ) أي : باللسان ، وقوله : ( من آمن بالله ) أي : بالقلب ، وقيل : الذين آمنوا على حقيقة الإيمان ( من آمن بالله ) أي : ثبت على الإيمان ، ( واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
قوله تعالى : ( لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل ) في التوحيد والنبوة ، ( وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا ) عيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهما ، ( وفريقا يقتلون ) يحيى وزكريا . [ ص: 82 ]
) ( وحسبوا ) ظنوا ( ألا تكون فتنة ) أي : عذاب وقتل ، وقيل : ابتلاء واختبار ، أي : ظنوا أن لا يبتلوا ولا يعذبهم الله ، قرأ أهل البصرة وحمزة والكسائي " تكون " برفع النون على معنى أنها لا تكون ، ونصبها الآخرون كما لو لم يكن قبله لا ) ( فعموا ) عن الحق فلم يبصروه ، ) ( وصموا ) عنه فلم يسمعوه ، يعني عموا وصموا بعد موسى صلوات الله وسلامه عليه ، ( ثم تاب الله عليهم ) ببعث عيسى عليه السلام ، ( ثم عموا وصموا كثير منهم ) بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ( والله بصير بما يعملون ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (126)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 72 إلى الاية81
( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ( 72 ) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ( 73 ) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ( 74 ) )
( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ( 75 ) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم ( 76 ) ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) وهم الملكانية واليعقوبية منهم ، ( وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار )
( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) يعني : المرقوسية ، وفيه إضمار معناه : ثالث ثلاثة آلهة ، لأنهم يقولون : الإلهية مشتركة بين الله تعالى ومريم وعيسى ، وكل واحد من هؤلاء إله فهم ثلاثة آلهة ، يبين هذا قوله - عز وجل - للمسيح : " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " ؟ ( المائدة ، 116 ) ، ومن قال : إن الله ثالث ثلاثة ولم يرد به الإلهية لا يكفر ، فإن الله يقول : " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم " ( المجادلة ، 7 ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " . ثم قال ردا عليهم : ( وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن ) [ ليصيبن ] ( الذين كفروا منهم عذاب أليم ) خص الذين كفروا لعلمه أن بعضهم يؤمنون .
( أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه ) ؟ قال الفراء : هذا أمر بلفظ الاستفهام كقوله تعالى : فهل أنتم منتهون ( المائدة ، 91 ) ، أي : انتهوا ، والمعنى : أن الله [ يأمركم ] بالتوبة والاستغفار من هذا الذنب العظيم ، ( والله غفور رحيم )
قوله تعالى : ( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت ) [ مضت ] ( من قبله الرسل ) أي : ليس هو بإله بل هو كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة ) ( وأمه صديقة ) أي : كثيرة الصدق . [ ص: 83 ]
وقيل : سميت صديقة لأنها صدقت بآيات الله ، كما قال عز وجل في وصفها : " وصدقت بكلمات ربها " ( التحريم ، 12 ) ، ( كانا يأكلان الطعام ) أي : كانا يعيشان بالطعام والغذاء كسائر الآدميين ، فكيف يكون إلها من لا يقيمه إلا أكل الطعام؟
وقيل : هذا كناية عن الحدث ، وذلك أن من أكل وشرب لا بد له من البول والغائط ، ومن هذه صفته كيف يكون إلها؟
ثم قال : ( انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ) أي يصرفون عن الحق .
( قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ( 77 ) لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( 78 ) )
( قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ) أي : لا تتجاوزوا الحد ، والغلو والتقصير كل واحد منهما مذموم في الدين ، وقوله : ( غير الحق ) أي : في دينكم المخالف للحق ، وذلك أنهم خالفوا الحق في دينهم ، ثم غلوا فيه بالإصرار عليه ، ( ولا تتبعوا أهواء قوم ) والأهواء جمع الهوى وهو ما تدعو إليه شهوة النفس ( قد ضلوا من قبل ) يعني : رؤساء الضلالة من فريقي اليهود والنصارى ، والخطاب للذين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم ( وأضلوا كثيرا ) يعني : من اتبعهم [ على أهوائهم ] ( وضلوا عن سواء السبيل ) عن قصد الطريق ، أي : بالإضلال ، فالضلال الأول من الضلالة ، والثاني بإضلال من اتبعهم .
قوله تعالى : ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود ) يعني : أهل أيلة لما اعتدوا [ ص: 84 ] في السبت ، وقال داود عليه السلام : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة ( وعيسى ابن مريم ) أي : على لسان عيسى عليه السلام ، يعني : كفار أصحاب المائدة ، لما لم يؤمنوا ، قال عيسى : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير ( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون )
( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ) [ أي : لا ينهى بعضهم بعضا ] ( لبئس ما كانوا يفعلون )
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا الحسن محمد بن الحسين أنا أحمد بن محمد بن إسحاق أنا أبو يعلى الموصلي أنا وهب بن بقية أنا خالد - يعني ابن عبد الله الواسطي عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل العامل منهم الخطيئة نهاه الناهي تعذيرا فإذا كان من الغد جالسه وآكله وشاربه كأنه لم يره على الخطيئة بالأمس ، فلما رأى الله تبارك وتعالى ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ، وجعل منهم القردة والخنازير ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم عليهما السلام ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم " .
( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ( 79 ) ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ( 80 ) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون ( 81 ) )
قوله تعالى : ( ترى كثيرا منهم ) قيل : من اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه ، ( يتولون الذين كفروا ) [ ص: 85 ] مشركي مكة حين خرجوا إليهم يجيشون على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن عباس ومجاهد والحسن : منهم يعني من المنافقين يتولون اليهود ، ( لبئس ما قدمت لهم أنفسهم ) بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة ، ( أن سخط الله عليهم ) غضب الله عليهم ، ( وفي العذاب هم خالدون )
( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي ) محمد صلى الله عليه وسلم ، ( وما أنزل إليه ) يعني القرآن ، ( ما اتخذوهم ) يعني الكفار ، ( أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون ) أي خارجون عن أمر الله سبحانه وتعالى .
قوله عز وجل : ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) يعني : مشركي العرب ، ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ) لم يرد به جميع النصارى لأنهم في عداوتهم المسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وإحراق مصاحفهم ، لا ولاء ، ولا كرامة لهم ، بل الآية فيمن أسلم منهم مثل النجاشي وأصحابه ، [ وقيل : نزلت في جميع اليهود وجميع النصارى ، لأن اليهود أقسى قلبا والنصارى ألين قلبا منهم ، وكانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود ] .
قال أهل التفسير : ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم ، فافتتن من افتتن ، وعصم الله منهم من شاء ، ومنع الله تعالى رسوله بعمه أبي طالب ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد ، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة ، وقال : " إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد ، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا " وأراد به النجاشي ، واسمه أصحمة وهو بالحبشة عطية ، وإنما النجاشي اسم الملك ، كقولهم قيصر وكسرى ، فخرج إليهم سرا أحد عشر رجلا وأربع نسوة ، وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود ، [ وعبد الرحمن بن عوف ] وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية ، وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته [ ص: 86 ] ليلى بنت أبي [ حثمة ] وحاطب بن عمرو و [ سهل ] بن بيضاء رضي الله عنهم ، فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهجرة الأولى ثم خرج جعفر بن أبي طالب ، وتتابع المسلمون إليها وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان .
فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردوهم إليهم ، فعصمه الله ، وذكرت القصة في سورة آل عمران .
فلما انصرفا خائبين ، أقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا أمره ، وذلك في سنة ستة من الهجرة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان - وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها فمات زوجها ، - ويبعث إليه من عنده من المسلمين فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية يقال لها أبرهة تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها ، فأعطتها أوضاحا لها سرورا بذلك ، فأذنت لخالد بن سعيد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار ، وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي رحمه الله فأنفذ إليها النجاشي أربعمائة دينار على يد أبرهة ، فلما جاءتها بها أعطتها خمسين دينارا فردته وقالت : أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئا ، وقالت : أنا صاحبة دهن الملك وثيابه ، وقد صدقت محمدا صلى الله عليه وسلم وآمنت به ، وحاجتي منك أن تقرئيه مني السلام ، قالت نعم : وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عليها وعندها فلا ينكر .
قالت أم حبيبة : فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلت عليه وكان يسألني عن النجاشي فقرأت عليه من أبرهة السلام فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما السلام ، وأنزل الله عز وجل : " عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة " يعني : أبا سفيان مودة ، يعني : بتزويج أم حبيبة ، ولما جاء أبا سفيان تزويج أم حبيبة ، قال : ذلك الفحل لا يقرع أنفه .
وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ابنه أزهى بن أصحمة بن أبجر في ستين رجلا من الحبشة ، وكتب إليه : يا رسول الله أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت [ ص: 87 ] ابن عمك وأسلمت لله رب العالمين ، وقد بعثت إليك ابني أزهى ، وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليك يا رسول الله ، فركبوا سفينة في أثر جعفر وأصحابه حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف ، منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من [ أهل ] الشام ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة " يس " إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا ، وقال : آمنوا ، وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام ، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ) يعني : وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم السبعون ، وكانوا أصحاب الصوامع .
وقال مقاتل والكلبي كانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية روميين من أهل الشام .
[ وقال عطاء : كانوا ثمانين رجلا ، أربعون من أهل نجران من بني الحرث بن كعب ، واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميين من أهل الشام ] .
وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم صدقوه وآمنوا به فأثنى الله عز وجل بذلك عليهم . ( ذلك بأن منهم قسيسين ) أي علماء ، قال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم ، ) ( ورهبانا ) الرهبان العباد أصحاب الصوامع ، واحدهم راهب ، مثل فارس وفرسان ، وراكب وركبان ، وقد يكون واحدا وجمعه رهابين ، مثل قربان وقرابين ( وأنهم لا يستكبرون ) لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (127)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 82 إلى الاية89
( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ( 82 ) )
( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ( 83 ) )
( وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ( 84 ) فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ( 85 ) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ( 86 ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ) محمد صلى الله عليه وسلم ، ( ترى أعينهم تفيض ) تسيل ، ( من الدمع مما عرفوا من الحق ) قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء : يريد النجاشي وأصحابه قرأ عليهم جعفر بالحبشة كهيعص ، فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة . ( يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ) [ ص: 88 ] يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، دليله قوله تعالى : " لتكونوا شهداء على الناس " ( البقرة 143 ) .
( وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ) وذلك أن اليهود عيروهم وقالوا لهم : لم آمنتم؟ فأجابوهم بهذا ، ( ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ) أي : في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، بيانه ( أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) ( الأنبياء ، 105 ) .
( فأثابهم الله ) أعطاهم الله ، ( بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) وإنما أنجح قولهم وعلق الثواب بالقول لاقترانه بالإخلاص ، بدليل قوله : ( وذلك جزاء المحسنين ) يعني : الموحدين المؤمنين ، وقوله من قبل : " ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق " يدل على أن الإخلاص والمعرفة بالقلب مع القول يكون إيمانا .
( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( 87 ) )
( وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( 88 ) )
قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) الآية قال أهل التفسير : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوما ووصف القيامة ، فرق له الناس وبكوا ، فاجتمع عشرة من أصحابه في بيت عثمان بن مظعون الجمحي ، وهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر ، وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ، ومعقل بن مقرن رضي الله عنهم ، وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويجبوا مذاكيرهم ، ويصوموا الدهر ، ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ، ولا يأكلوا اللحم والودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويسيحوا في الأرض ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه ، فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية ، واسمها الخولاء ، وكانت عطارة : أحق ما بلغني [ ص: 89 ] عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهت أن تبدي على زوجها ، فقالت : يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان بشيء فقد صدقك ، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما دخل عثمان أخبرته بذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ) ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، وما أردنا إلا الخير ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إني لم أؤمر بذلك ) ، ثم قال : ( إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ، ثم جمع الناس وخطبهم فقال : ( ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات [ النساء ] ؟ أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ، ولا اتخاذ الصوامع ، وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع ) ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد حدثني ابن أنعم عن سعد بن مسعود أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ائذن لنا في الاختصاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من خصى ولا اختصى ، خصاء أمتي الصيام ) ، فقال : يا رسول الله ائذن لنا في السياحة ، فقال : ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ) ، فقال : يا رسول الله ائذن لنا في الترهب ، فقال : ( إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد وانتظار الصلاة ) .
وروي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال : يا رسول الله إني أصبت من اللحم فانتشرت وأخذتني شهوة ، فحرمت اللحم ، فأنزل الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) [ ص: 90 ] يعني : اللذات التي تشتهيها النفوس ، مما أحل لكم من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة ( ولا تعتدوا ) أي : ولا تجاوزوا الحلال إلى الحرام ، وقيل : هو جب المذاكير ( إن الله لا يحب المعتدين )
( وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ) قال عبد الله بن المبارك : الحلال ما أخذته من وجهه ، والطيب ما غذى وأنمى ، فأما الجوامد كالطين والتراب وما لا يغذي فمكروه إلا على وجه التداوي .
( واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب أنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا أحمد بن إبراهيم الدورقي وسلمة بن شبيب ومحمود بن غيلان قالوا : أخبرنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ) .
( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ( 89 ) )
قوله عز وجل : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت : ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) ، قالوا : يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه ، فأنزل الله : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) قرأ حمزة والكسائي [ وأبو بكر ] ( عقدتم ) بالتخفيف ، وقرأ ابن عامر ( عاقدتم ) بالألف وقرأ الآخرون ( عقدتم ) بالتشديد ، أي : وكدتم ، والمراد من الآية قصدتم [ ص: 91 ] وتعمدتم ، ) ( فكفارته ) أي : كفارة ما عقدتم الأيمان إذا حنثتم ( إطعام عشرة مساكين ) واختلفوا في قدره : فذهب قوم إلى أنه يطعم كل مسكين مدا من الطعام بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو رطل وثلث من غالب قوت البلد ، وكذلك في جميع الكفارات ، وهو قول زيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر ، وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم وسليمان بن اليسار وعطاء والحسن .
وقال أهل العراق : عليه لكل مسكين مدان ، وهو نصف صاع ، يروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما .
وقال أبو حنيفة : إن أطعم من الحنطة فنصف صاع ، وإن أطعم من غيرها فصاع ، وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد والحكم .
ولو غداهم وعشاهم لا يجوز ، وجوز أبو حنيفة ، ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه .
ولا تجوز الدراهم والدنانير ولا الخبز ولا الدقيق ، بل يجب إخراج الحب إليهم ، وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه كل ذلك .
ولو صرف الكل إلى مسكين واحد [ لا يجوز ] وجوز أبو حنيفة أن يصرف طعام عشرة إلى مسكين واحد في عشرة أيام ، ولا يجوز أن يصرف إلا إلى مسلم حر محتاج ، فإن صرف إلى ذمي أو عبد أو غني لا يجوز ، وجوز أبو حنيفة صرفها إلى أهل الذمة ، واتفقوا على أن صرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز .
قوله تعالى : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) أي : من خير قوت عيالكم ، وقال عبيدة السلماني : الأوسط الخبز والخل ، والأعلى الخبز واللحم ، والأدنى الخبز البحت والكل [ يجزئ ] .
قوله تعالى : ) ( أو كسوتهم ) كل من لزمته كفارة اليمين فهو فيها مخير إن شاء أطعم عشرة من المساكين ، وإن شاء كساهم ، وإن شاء أعتق رقبة ، فإن اختار الكسوة ، فاختلفوا في قدرها :
فذهب قوم إلى أنه يكسو كل مسكين ثوبا واحدا مما يقع عليه اسم الكسوة ، إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو كساء ونحوها ، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعطاء وطاوس ، وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى . [ ص: 92 ]
وقال مالك : يجب لكل إنسان ما تجوز فيه صلاته ، فيكسو الرجال ثوبا واحدا والنساء ثوبين درعا وخمارا .
وقال سعيد بن المسيب لكل مسكين ثوبان .
قوله عز وجل : ( أو تحرير رقبة ) وإذا اختار العتق يجب إعتاق رقبة مؤمنة ، وكذلك جميع الكفارات مثل كفارة القتل والظهار والجماع في نهار رمضان يجب فيها إعتاق رقبة مؤمنة ، وأجاز أبو حنيفة رضي الله عنه والثوري رضي الله عنه إعتاق الرقبة الكافرة في جميعها إلا في كفارة القتل ، لأن الله تعالى قيد الرقبة فيها بالإيمان ، قلنا : المطلق يحمل على المقيد [ كما أن الله تعالى قيد الشهادة بالعدالة في موضع فقال : " وأشهدوا ذوي عدل منكم " ، ( الطلاق 2 ) ، وأطلق في موضع ، فقال : " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " ( البقرة 282 ) ، ثم العدالة شرط في جميعها حملا للمطلق على المقيد ] كذلك هاهنا ، ولا يجوز إعتاق المرتد بالاتفاق عن الكفارة .
ويشترط أن يكون سليم الرق حتى لو أعتق عن كفارته مكاتبا أو أم ولد أو عبدا اشتراه بشرط العتق أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة ، يعتق ولكن لا يجوز عن الكفارة ، وجوز أصحاب الرأي عتق المكاتب إذا لم يكن أدى شيئا من النجوم ، وعتق القريب عن الكفارة ويشترط أن تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل ضررا بينا حتى لا يجوز مقطوع إحدى اليدين ، أو إحدى الرجلين ، ولا الأعمى ولا الزمن ولا المجنون المطبق ، ويجوز الأعور والأصم ومقطوع الأذنين والأنف لأن هذه العيوب لا تضر بالعمل ضررا بينا .
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه كل عيب يفوت جنسا من المنفعة [ على الكمال ] يمنع الجواز ، حتى جوز مقطوع إحدى اليدين ، ولم يجوز مقطوع الأذنين .
قوله عز وجل : ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) إذا عجز الذي لزمته كفارة اليمين عن الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة ، يجب عليه صوم ثلاثة أيام ، والعجز أن لا يفضل من ماله عن قوته وقوت عياله وحاجته ما يطعم أو يكسو أو يعتق فإنه يصوم ثلاثة أيام .
وقال بعضهم : إذا ملك ما يمكنه الإطعام وإن لم يفضل عن كفايته فليس له الصيام ، وهو قول الحسن وسعيد بن جبير . [ ص: 93 ]
واختلفوا في وجوب التتابع في هذا الصوم : فذهب جماعة إلى أنه لا يجب فيه التتابع بل إن شاء تابع وإن شاء فرق ، والتتابع أفضل وهو أحد قولي الشافعي ، وذهب قوم إلى أنه يجب فيه التتابع قياسا على كفارة القتل والظهار ، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ، ويدل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) ( ذلك ) أي : ذلك الذي ذكرت ( كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) وحنثتم ، فإن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث .
واختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث : فذهب قوم إلى جوازه ، لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير " . وهو قول عمر [ وابن عمر ] وابن عباس وعائشة وبه قال الحسن وابن سيرين ، وإليه ذهب مالك والأوزاعي والشافعي ، إلا أن الشافعي يقول : إن كفر بالصوم قبل الحنث لا يجوز لأنه بدني ، إنما يجوز بالإطعام أو الكسوة أو العتق كما يجوز تقديم الزكاة على الحول ، ولا يجوز تعجيل صوم رمضان قبل وقته ، وذهب قوم إلى أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث ، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه .
قوله عز وجل ( واحفظوا أيمانكم ) قيل : أراد به ترك الحلف ، أي : لا تحلفوا ، وقيل : وهو الأصح ، أراد به : إذا حلفتم فلا تحنثوا ، فالمراد منه حفظ اليمين عن الحنث هذا إذا لم تكن يمينه على ترك مندوب أو فعل مكروه ، فإن حلف على فعل مكروه أو ترك مندوب ، فالأفضل أن يحنث نفسه ويكفر ، لما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا حجاج بن منهال أنا جرير بن حازم عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير " .
قوله تعالى : ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) ( .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (128)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 90 إلى الاية95
( ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ( 90 ) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ( 91 ) ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ( 92 )
قوله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ) أي : القمار ) ( والأنصاب ) يعني : الأوثان ، سميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها ، واحدها نصب بفتح النون وسكون الصاد ، ونصب بضم النون مخففا ومثقلا ) ( والأزلام ) يعني : الأقداح التي كانوا يستقسمون بها واحدها زلم ) ( رجس ) خبيث مستقذر ، ( من عمل الشيطان ) من تزيينه ، ) ( فاجتنبوه ) رد الكناية إلى الرجس ( لعلكم تفلحون )
( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ) أما العدواة في الخمر فإن الشاربين إذا سكروا عربدوا وتشاجروا ، كما فعل الأنصاري الذي شج سعد بن أبي وقاص بلحي الجمل أما العداوة في الميسر ، قال قتادة : كان الرجل يقامر على الأهل والمال ثم يبقى حزينا مسلوب الأهل والمال مغتاظا على حرفائه . ( ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ) وذلك أن من اشتغل بشرب الخمر أو القمار ألهاه ذلك عن ذكر الله ، وشوش عليه صلاته كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف ، تقدم رجل ليصلي بهم صلاة المغرب بعدما شربوا فقرأ " قل ياأيها الكافرون " : أعبد ما تعبدون ، بحذف لا ( فهل أنتم منتهون ) أي : انتهوا ، استفهام ومعناه أمر ، كقوله تعالى : " فهل أنتم شاكرون " ؟ ( سورة الأنبياء 80 ) .
( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ) المحارم والمناهي ( فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين )
وفي وعيد شارب الخمر أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الفوراني أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ثنا أبو الحسن محمد بن محمود المحمودي أنا أبو العباس الماسرجسي بنيسابور أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أخبرنا صالح بن قدامة حدثنا أخي عبد الملك بن قدامة [ ص: 95 ] عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كل مسكر حرام ، إن حتما على الله أن لا يشربه عبد في الدنيا إلا سقاه الله تعالى يوم القيامة من طينة الخبال ، هل تدرون ما طينة الخبال؟ " قال : " عرق أهل النار " .
وأخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة " .
وأخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أحمد بن أبي أخبرنا أبو العباس الأصم أنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي من أهل مصر عن عبد الله بن عمر أنه قال : أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : " لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها " .
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ( 93 ) )
قوله عز وجل : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ) سبب نزول هذه الآية أن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا لما نزل تحريم الخمر : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين [ ص: 96 ] ماتوا وهم يشربون الخمر [ ويأكلون ] من مال الميسر؟ فأنزل الله تعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ) وشربوا من الخمر وأكلوا من مال الميسر ، ( إذا ما اتقوا ) الشرك ، ) ( وآمنوا ) وصدقوا ، ( وعملوا الصالحات ثم اتقوا ) الخمر والميسر بعد تحريمهما ، ( وآمنوا ثم اتقوا ) ما حرم الله عليهم أكله وشربه ، ( وأحسنوا والله يحب المحسنين ) وقيل : معنى الأول إذ ما اتقوا الشرك ، وآمنوا وصدقوا ثم اتقوا ، أي : داوموا على ذلك التقوى ، ) ( وآمنوا ) ازدادوا إيمانا ، ثم اتقوا المعاصي كلها وأحسنوا ، وقيل : أي : اتقوا بالإحسان ، وكل محسن متق ، ( والله يحب المحسنين ) .
( ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ( 94 ) )
قوله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد ) الآية ، نزلت عام الحديبية وكانوا محرمين ابتلاهم الله بالصيد ، وكانت الوحوش تغشى رحالهم من كثرتها فهموا بأخذها فنزلت : ( ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله ) ليختبرنكم الله ، وفائدة البلوى إظهار المطيع من العاصي ، وإلا فلا حاجة له إلى البلوى بشيء من الصيد ، وإنما بعض ، فقال ) ( بشيء ) لأنه ابتلاهم بصيد البر خاصة . ) ( تناله أيديكم ) يعني : الفرخ والبيض وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد ، ) ( ورماحكم ) يعني : الكبار من الصيد ، ( ليعلم الله ) ليرى الله ، لأنه قد علمه ، ( من يخافه بالغيب ) أي : يخاف الله ولم يره ، كقوله تعالى : " الذين يخشون ربهم بالغيب " ( الأنبياء ، 49 ) أي : يخافه فلا يصطاد في حال الإحرام ( فمن اعتدى بعد ذلك ) أي : صاد بعد تحريمه ، ( فله عذاب أليم ) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : [ يوجع ] ظهره وبطنه جلدا ، ويسلب ثيابه .
( ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام ( 95 ) )
قوله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) أي : محرمون بالحج والعمرة ، وهو جمع حرام ، يقال : رجل حرام وامرأة حرام ، وقد يكون [ من ] دخول الحرم ، يقال : [ ص: 97 ] أحرم الرجل إذا عقد الإحرام ، وأحرم إذا دخل الحرم . نزلت في رجل يقال له أبو اليسر شد على حمار وحش وهو محرم فقتله .
قوله تعالى : ( ومن قتله منكم متعمدا ) اختلفوا في هذا العمد فقال قوم : هو العمد بقتل الصيد مع نسيان الإحرام ، أما إذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم عليه ، وأمره إلى الله لأنه أعظم من أن يكون له كفارة ، وهو قول مجاهد والحسن .
وقال آخرون : هو أن يعمد المحرم قتل الصيد ذاكرا لإحرامه فعليه الكفارة .
واختلفوا فيما لو قتله خطأ ، فذهب أكثر الفقهاء إلى أن العمد والخطأ سواء في لزوم الكفارة ، قال الزهري : على المتعمد بالكتاب وعلى المخطئ بالسنة ، وقال سعيد بن [ جبير ] لا تجب كفارة الصيد بقتل الخطأ ، بل يختص بالعمد .
قوله عز وجل : ( فجزاء مثل ) قرأ أهل الكوفة ويعقوب " فجزاء " منون ، ) ( مثل ) رفع على البدل من الجزاء ، وقرأ الآخرون بالإضافة ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) معناه أنه يجب عليه مثل ذلك الصيد من النعم ، وأراد به ما يقرب من الصيد المقتول شبها من حيث الخلقة لا من حيث القيمة .
( يحكم به ذوا عدل منكم ) أي : يحكم بالجزاء رجلان عدلان ، وينبغي أن يكونا فقيهين ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به ، وممن ذهب إلى إيجاب المثل من النعم عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر وابن عباس ، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ، حكموا في بلدان مختلفة وأزمان شتى بالمثل من النعم ، يحكم حاكم في النعامة ببدنة وهي لا تساوي بدنة ، وفي حمار الوحش ببقرة [ وهي لا تساوي بقرة ] وفي الضبع بكبش وهي لا تساوي كبشا ، فدل على أنهم نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبها من حيث الخلقة [ لا من حيث القيمة ] وتجب في الحمام شاة ، وهو كل ما عب وهدر من الطير ، كالفاختة والقمري .
وروي عن عمر وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قضوا في حمام مكة بشاة ، أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي [ ص: 98 ] الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة .
قوله تعالى : ( هديا بالغ الكعبة ) أي : يهدي تلك الكفارة إلى الكعبة ، فيذبحها بمكة ويتصدق بلحمها على مساكين الحرم ، ( أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ) قال الفراء رحمه الله : العدل بالكسر : المثل من جنسه ، والعدل بالفتح : المثل من غير جنسه ، وأراد به : أنه في جزاء الصيد مخير بين أن يذبح المثل من النعم ، فيتصدق بلحمه على مساكين الحرم ، وبين أن يقوم المثل دراهم ، والدراهم طعاما ، فيتصدق بالطعام على مساكين الحرم ، أو يصوم عن كل مد من الطعام يوما وله أن يصوم حيث شاء لأنه لا نفع فيه للمساكين .
وقال مالك : إن لم يخرج المثل يقوم الصيد ثم يجعل القيمة طعاما فيتصدق به ، أو يصوم .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجب المثل من النعم ، بل يقوم الصيد فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النعم ، وإن شاء إلى الطعام فيتصدق به ، وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر أو صاع من غيره يوما .
وقال الشعبي والنخعي جزاء الصيد على الترتيب ، والآية حجة لمن ذهب إلى التخيير .
قوله تعالى : ( ليذوق وبال أمره ) أي : جزاء معصيته ، ( عفا الله عما سلف ) يعني : قبل التحريم ، ونزول الآية ، قال السدي : عفا الله عما سلف في الجاهلية ، ( ومن عاد فينتقم الله منه ) في الآخرة . ( والله عزيز ذو انتقام ) وإذا تكرر من المحرم قتل الصيد فيتعدد عليه الجزاء عند عامة أهل العلم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قتل المحرم صيدا متعمدا يسأل هل قتلت قبله شيئا من الصيد؟ فإن قال نعم لم يحكم عليه ، وقيل له : اذهب ينتقم الله منك ، وإن قال لم أقتل قبله شيئا حكم عليه ، فإن عاد بعد ذلك لم يحكم عليه ، ولكن يملأ ظهره وصدره ضربا وجيعا ، وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وج وهو واد بالطائف . [ ص: 99 ]
واختلفوا في المحرم هل يجوز له أكل لحم الصيد أو لا؟ فذهب قوم إلى أنه لا يحل له بحال ، ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول طاوس وبه قال سفيان الثوري ، واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا ، وهو بالأبواء أو بودان ، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي ، قال : " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " .
وذهب الأكثرون إلى أنه يجوز للمحرم أكله إذا لم يصطد بنفسه ولا اصطيد لأجله أو بإشارته ، وهو قول عمر وعثمان وأبي هريرة ، وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم على الصعب بن جثامة لأنه ظن أنه صيد من أجله .
والدليل على جوازه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله التيمي عن نافع مولى أبي قتادة عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة ، تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه وسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا فسألهم رمحه فأبوا فأخذه ثم شد على الحمار فقتله ، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبى بعضهم فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك ، فقال : " إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى " .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن [ ص: 100 ] جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لحم الصيد لكم في الإحرام حلال ، ما لم تصيدوه أو يصد لكم " قال أبو عيسى : المطلب لا نعرف له سماعا من جابر بن عبد الله رضي الله عنه .
وإذا أتلف المحرم شيئا من الصيد لا مثل له من النعم مثل بيض أو طائر دون الحمام ففيه قيمة يصرفها إلى الطعام ، فيتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما ، واختلفوا في الجراد فرخص فيه قوم للمحرم وقالوا هو من صيد البحر ، روي ذلك عن كعب الأحبار ، والأكثرون على أنها لا تحل ، فإن أصابها فعليه صدقة ، قال عمر : في الجراد تمرة ، وروي عنه وعن ابن عباس : قبضة من طعام .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (129)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 96 إلى الاية101
( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون ( 96 ) قوله عز وجل : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ) والمراد بالبحر جميع المياه ، قال عمر رضي الله عنه : " صيده ما اصطيد وطعامه ما رمي به " . وعن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة : طعامه ما قذفه الماء إلى الساحل ميتا .
وقال قوم : هو المالح منه وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة وسعيد بن المسيب وقتادة والنخعي .
وقال مجاهد : صيده : طريه ، وطعامه : مالحه ، متاعا لكم أي : منفعة لكم ، وللسيارة يعني : المارة .
وجملة حيوانات الماء على قسمين : سمك وغيره ، أما السمك فميتته حلال مع اختلاف أنواعها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان [ ودمان : الميتتان ] الحوت والجراد ، والدمان : [ الكبد والطحال ] ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب ، وعند أبي حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب من وقوع على حجر أو انحسار الماء عنه ونحو ذلك . [ ص: 101 ]
أما غير السمك فقسمان : قسم يعيش في البر كالضفدع والسرطان ، فلا يحل أكله ، وقسم يعيش في الماء ولا يعيش في البر إلا عيش المذبوح ، فاختلف القول فيه ، فذهب قوم إلى أنه لا يحل شيء منها إلا السمك ، وهو معنى قول أبي حنيفة رضي الله عنه وذهب قوم إلى أن [ ميت الماء كلها حلال ] لأن كلها سمك ، وإن اختلفت صورها ، [ كالجريث ] يقال له حية الماء ، وهو على شكل الحية وأكله مباح بالاتفاق ، وهو قول أبي بكر وعمر وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبي هريرة ، وبه قال شريح والحسن وعطاء ، وهو قول مالك وظاهر مذهب الشافعي .
وذهب قوم إلى أن ما له نظير في البر يؤكل ، فميتته من حيوانات البحر حلال ، مثل بقر الماء ونحوه ، وما لا يؤكل نظيره في البر لا يحل ميتته من حيوانات البحر ، مثل كلب الماء والخنزير والحمار ونحوها .
وقال الأوزاعي كل شيء عيشه في الماء فهو حلال ، قيل : فالتمساح؟ قال نعم .
وقال الشعبي : لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم ، وقال سفيان الثوري : أرجو أن لا يكون بالسرطان بأسا .
وظاهر الآية حجة لمن أباح جميع حيوانات البحر ، وكذلك الحديث . أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن صفوان بن [ سلمان ] عن سعيد بن سلمة من آل بني الأزرق أن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا نركب في البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . [ ص: 102 ]
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد أنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عمر أنه سمع جابرا رضي الله عنه يقول : غزوت جيش الخبط وأمر أبو عبيدة ، فجعنا جوعا شديدا فألقى البحر حوتا ميتا لم نر مثله ، يقال له العنبر ، فأكلنا منه نصف شهر ، فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه ، فمر الراكب تحته . وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول : قال أبو عبيدة : كلوا فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " كلوا رزقا أخرجه الله إليكم ، أطعمونا إن كان معكم " فأتاه بعضهم بشيء منه فأكلوه .
قوله تعالى : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) صيد البحر حلال للمحرم ، كما هو حلال لغير المحرم ، أما صيد البر فحرام على المحرم وفي الحرم ، والصيد هو الحيوان الوحشي الذي يحل أكله ، أما ما لا يحل أكله فلا يحرم بسبب الإحرام ، وللمحرم أخذه وقتله ، ولا جزاء على من قتله إلا المتولد بين ما لا يؤكل لحمه وما يؤكل ، كالمتولد بين الذئب والظبي لا يحل أكله ويجب بقتله الجزاء على المحرم ، لأن فيه جزاء من الصيد .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك [ ص: 103 ] عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " .
وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقتل المحرم السبع العادي " وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس قتلهن حلال في الحرم : الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور " .
وقال سفيان بن عيينة : الكلب العقور كل سبع يعقر ، ومثله عن مالك ، وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في قتل ما لا يؤكل لحمه ، من الفهد والنمر والخنزير ونحوها إلا الأعيان المذكورة في الخبر ، وقاسوا عليها الذئب فلم يوجبوا فيه الكفارة ، وقاس الشافعي رحمه الله عليها جميع ما لا يؤكل لحمه لأن الحديث يشتمل على أعيان بعضها سباع ضارية وبعضها هوام قاتلة وبعضها طير ، لا يدخل في معنى السباع ولا هي من جملة [ الهوام ] وإنما هي حيوان مستخبث اللحم ، وتحريم الأكل يجمع الكل فاعتبره ورتب الحكم عليه .
جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ( 97 ) ( اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ( 98 )
قوله عز وجل : ( جعل الله الكعبة البيت الحرام ) قال مجاهد : سميت كعبة لتربيعها ، والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة ، قال مقاتل : سميت كعبة لانفرادها من البناء ، وقيل : سميت كعبة لارتفاعها من الأرض ، وأصلها من الخروج والارتفاع ، وسمي الكعب كعبا لنتوئه ، وخروجه من جانبي [ ص: 104 ] القدم ، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرج ثديها : تكعبت . وسمي البيت الحرام : لأن الله تعالى حرمه وعظم حرمته . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض " ( قياما للناس ) قرأ ابن عامر ( قيما ) بلا ألف ، والآخرون : " قياما " بالألف ، أي : قواما لهم في أمر دينهم ودنياهم ، أما الدين لأن به يقوم الحج والمناسك ، وأما الدنيا فيما يجبى إليه من الثمرات ، وكانوا يأمنون فيه من النهار والغارة فلا يتعرض لهم أحد في الحرم ، قال الله تعالى : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) ( العنكبوت ) ( والشهر الحرام ) أراد به الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، أراد أنه جعل الأشهر الحرم قياما للناس يأمنون فيها القتال ، ( والهدي والقلائد ) أراد أنهم كانوا يؤمنون بتقليد الهدي ، فذلك القوام فيه .
( ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم ) فإن قيل : أي اتصال لهذا الكلام بما قبله ؟ قيل : أراد أن الله عز وجل جعل الكعبة قياما للناس لأنه يعلم صلاح العباد كما يعلم ما في السموات وما في الأرض ، وقال الزجاج : قد سبق في هذه السورة الإخبار عن الغيوب والكشف عن الأسرار ، مثل قوله ( سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين ) ، ومثل إخباره بتحريفهم الكتب ونحو ذلك ، فقوله ( ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ) راجع إليه .
وقوله عز وجل ( اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ) .
ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ( 99 ) قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله ياأولي الألباب لعلكم تفلحون ( 100 ) )
( ما على الرسول إلا البلاغ ) [ التبليغ ] ( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون )
) ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ) أي الحلال والحرام ، ) ( ولو أعجبك ) سرك ) ( كثرة الخبيث ) [ ص: 105 ] نزلت في شريح بن [ ضبيعة ] البكري ، وحجاج بن بكر بن وائل ) ( فاتقوا الله ) ولا تتعرضوا للحجاج وإن كانوا مشركين ، وقد مضت القصة في أول السورة ، ( ياأولي الألباب لعلكم تفلحون ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (130)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 102 إلى الاية104
( ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ( 102 ) )
قوله عز وجل : ) ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) الآية . أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا حفص بن عمر أنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه : سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ، فغضب فصعد المنبر فقال : " لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم " ، فجعلت أنظر يمينا وشمالا فإذا كان رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي ، فإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه ، فقال : يا رسول الله من أبي؟ قال " حذافة " : ثم أنشأ عمر ، فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا نعوذ بالله من الفتن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط ، إني صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط " ، وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية ( ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) .
قال يونس عن ابن شهاب : أخبرني عبيد الله بن عبد الله قال : قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة : ما سمعت بابن قط أعق منك ، أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس؟ قال عبد الله بن حذافة والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته . وروي عن عمر قال : يا رسول الله إنا حديثو عهد بجاهلية فاعف عنا يعف الله سبحانه وتعالى عنك ، فسكن غضبه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا الفضل بن سهل أخبرنا أبو النضر أنا أبو خيثمة أنا أبو جويرية عن ابن عباس قال : كان [ ص: 106 ] قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية ( ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) حتى فرغ من الآية كلها . وروي عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت : ( ولله على الناس حج البيت ) قال رجل : يا رسول الله أفي كل عام فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " ، فأنزل الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) أي : إن تظهر لكم تسؤكم ، أي : إن أمرتم بالعمل بها ، فإن من سأل عن الحج لم يأمن أن يؤمر به في كل عام فيسوءه ، ومن سأل عن نسبه لم يأمن من أن يلحقه بغيره فيفتضح .
وقال مجاهد نزلت حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، ألا تراه ذكرها بعد ذلك؟ ( وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ) معناه صبرتم حتى ينزل القرآن بحكم من فرض أو نهي أو حكم ، وليس في ظاهره شرح ما بكم إليه حاجة ومست حاجتكم إليه ، فإذا سألتم عنها حينئذ تبدى لكم ، ( عفا الله عنها والله غفور حليم ( قد سألها قوم من قبلكم ) كما سألت ثمود صالحا الناقة وسأل قوم عيسى المائدة ، ( ثم أصبحوا بها كافرين ) فأهلكوا ، قال أبو ثعلبة الخشني : " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى [ ص: 107 ] عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها .
[ ص: 109 ] ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ( 103 ) )
قوله عز وجل : ( ما جعل الله من بحيرة ) أي : ما أنزل الله ولا أمر به ، ( ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ) قال ابن عباس في بيان هذه [ الأوضاع ] البحيرة هي الناقة التي كانت إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها ، أي : شقوها وتركوا الحمل عليها وركوبها ، ولم يجزوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ ثم نظروا إلى خامس ولدها فإن كان ذكرا نحروه وأكله الرجال والنساء ، وإن كان أنثى بحروا أذنها ، أي : شقوها وتركوها وحرم على النساء لبنها ومنافعها ، وكانت منافعها خاصة للرجال ، فإذا ماتت حلت للرجال والنساء .
وقيل : كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثا سيبت فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم خلي سبيلها مع أمها في الإبل ، فلم تركب ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، كما فعل بأمها ، فهي البحيرة بنت السائبة .
وقال أبو عبيد : السائبة البعير الذي يسيب ، وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض وغاب له قريب نذر فقال إن شفاني الله تعالى أو شفي مريضي أو عاد غائبي ، فناقتي هذه سائبة ، ثم يسيبها فلا تحبس عن رعي ولا ماء ولا يركبها أحد فكانت بمنزلة البحيرة .
وقال علقمة : هو العبد يسيب على أن لا ولاء عليه ولا عقل ولا ميراث . وقال صلى الله عليه وسلم : " إنما الولاء لمن أعتق " .
والسائبة فاعلة بمعنى المفعولة ، وهي المسيبة ، كقوله تعالى ( ماء دافق ) أي : مدفوق و ) ( عيشة راضية ) [ ص: 108 ]
وأما الوصيلة : فمن الغنم ، كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإذا كان السابع ذكرا ذبحوه ، فأكل منه الرجال والنساء ، وإن كانت أنثى تركوها في الغنم وإن كان ذكرا وأنثى استحيوا الذكر من أجل الأنثى ، وقالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه ، وكان لبن الأنثى حراما على النساء ، فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا .
وأما الحام : فهو الفحل إذا ركب ولد ولده ، ويقال : إذا نتج من صلبه عشرة أبطن ، قالوا : حمي ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من كلأ ولا ماء ، فإذا مات أكله الرجال والنساء .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنح درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس ، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء .
قال أبو هريرة : [ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ، وكان أول من سيب السوائب " .
روى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن جون الخزاعي : " يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة [ بن خندق ] يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك " وذلك أنه أول من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ، ووصل الوصيلة وحمى الحام ، " فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه " ، فقال أكثم : أيضرني شبهه يا رسول الله؟ فقال : " لا إنك مؤمن وهو كافر " .
قوله عز وجل : ( ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ) في قولهم الله أمرنا بها ( وأكثرهم لا يعقلون ) .
( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ( 104 ) )
( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ) في تحليل الحرث والأنعام وبيان الشرائع والأحكام ، ( قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ) من الدين ، قال الله تعالى : ( أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (131)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 105 إلى الاية108
قوله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية : ( ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) وتضعونها في غير موضعها ولا تدرون ما هي ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه " .
وفي رواية " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن الله سبحانه وتعالى عليكم شراركم فليسومنكم سوء العذاب ، ثم ليدعون الله عز وجل خياركم فلا يستجاب [ لكم ] " .
قال أبو عبيد : خاف الصديق أن يتأول الناس الآية على غير متأولها فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف [ والنهي عن المنكر ] فأعلمهم أنها ليست كذلك وأن الذي أذن في الإمساك عن تغييره من المنكر ، هو الشرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنهم يتدينون به ، وقد صولحوا عليه ، فأما [ ص: 110 ] الفسوق والعصيان والريب من أهل الإسلام فلا يدخل فيه .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الآية في اليهود والنصارى ، يعني : عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب فخذوا منهم الجزية واتركوهم .
وعن ابن مسعود قال في هذه الآية : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم ، ثم قال : إن القرآن قد نزل منه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه آي يقع تأويلهن بعد رسول الله بيسير ، ومنه آي يقع تأويلهن في آخر الزمان ، ومنه آي يقع تأويلهن يوم القيامة ، ما ذكر من الحساب والجنة والنار ، فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض ، فأمروا وانهوا ، وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا ، وذاق بعضكم بأس بعض ، فامرؤ ونفسه ، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا أبو جعفر أحمد بن محمد العنزي أخبرنا عيسى بن نصر أنا عبد الله بن المبارك أنا عتبة بن أبي حكيم حدثني عمرو بن جارية اللخمي أنا أبو أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية؟ قال : أية آية؟ قلت : قول الله عز وجل ( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لا بد لك منه فعليك نفسك ودع أمر العوام ، فإن من ورائكم أيام الصبر ، فمن صبر فيهن قبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله " قال ابن المبارك : وزادني غيره قالوا : يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال : " أجر خمسين منكم " .
وقيل : نزلت في أهل الأهواء ، قال أبو جعفر الرازي : دخل على صفوان بن محرز شاب من أهل الأهواء فذكر شيئا من أمره ، فقال صفوان ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أولياءه ( ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) [ ص: 111 ]
قوله عز وجل : ( إلى الله مرجعكم جميعا ) الضال والمهتدي ، ( فينبئكم بما كنتم تعملون )
( ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ( 105 ) .
( ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ( 106 ) فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ( 107 ) ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ( 108 ) )
قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) سبب نزول هذه الآية ما روي أن تميم بن أوس الداري وعدي بن [ بداء ] قد خرجا من المدينة للتجارة إلى أرض الشام ، وهما نصرانيان ، ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص ، وكان مسلما فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي ، وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ، ومات بديل ففتشا متاعه وأخذا منه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة فغيباه ، ثم قضيا حاجتهما ، فانصرفا إلى المدينة ، فدفعا المتاع إلى أهل البيت ، ففتشوا وأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه فجاءوا تميما وعديا فقالوا : هل باع صاحبنا شيئا من متاعه؟ قالا : لا ، قالوا : فهل اتجر تجارة؟ قالا : لا ، قالوا : هل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا : لا فقالوا : إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما كان معه وإنا قد فقدنا منها إناء من فضة مموها بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة ، قالا : ما ندري إنما أوصى لنا بشيء فأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه وما لنا علم بالإناء ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصرا على الإنكار ، وحلفا فأنزل الله عز وجل هذه الآية ( ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ) أي : ليشهد اثنان ، لفظه خبر ومعناه أمر .
وقيل : معناه : أن الشهادة فيما بينكم على الوصية عند الموت اثنان ، واختلفوا في هذين الاثنين [ ص: 112 ] فقال قوم : هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي .
وقال آخرون : هما الوصيان ، لأن الآية نزلت فيهما ولأنه قال : ( تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان ) ولا يلزم الشاهد يمينا ، وجعل الوصي اثنين تأكيدا ، فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور ، كقولك : شهدت وصية فلان ، بمعنى حضرت ، قال الله تعالى : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) ( النور - 2 ) يريد الحضور ( ذوا عدل ) أي : أمانة وعقل ) ( منكم ) أي : من أهل دينكم يا معشر المؤمنين ( أو آخران من غيركم ) أي : من غير دينكم وملتكم في قول أكثر المفسرين ، قاله ابن عباس وأبو موسى الأشعري ، وهو قول سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد وعبيدة .
ثم اختلف هؤلاء في حكم الآية فقال النخعي وجماعة : هي منسوخة وكانت شهادة أهل الذمة مقبولة في الابتداء ثم نسخت .
وذهب قوم إلى أنها ثابتة ، وقالوا : إذا لم نجد مسلمين فنشهد كافرين .
وقال شريح : من كان بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته فأشهد كافرين على أي دين كانا من دين أهل الكتاب أو عبدة الأوثان ، فشهادتهم جائزة ، ولا تجوز شهادة كافر على مسلم إلا على وصية في سفر .
وعن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد مسلما يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، فقدما الكوفة بتركته وأتيا الأشعري ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأحلفهما ، وأمضى شهادتهما .
وقال آخرون : قوله ( ذوا عدل منكم ) أي : من حي الموصي أو آخران من غير حيكم وعشيرتكم ، وهو قول الحسن والزهري وعكرمة ، وقالوا : لا تجوز شهادة كافر في شيء من الأحكام ، ( إن أنتم ضربتم ) أي سرتم وسافرتم ، ( في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ) فأوصيتم إليهما ودفعتم إليهما مالكم فاتهمهما بعض الورثة وادعوا عليهما خيانة فالحكم فيه أن ) ( تحبسونهما ) أي : تستوقفونهما ، ( من بعد الصلاة ) أي : بعد الصلاة ، و ) ( من ) صلة يريد بعد صلاة العصر ، هذا [ ص: 113 ] قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير وقتادة وعامة المفسرين ، لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ، ويجتنبون فيه الحلف الكاذب ، وقال الحسن : أراد من بعد صلاة العصر ، وقال السدي : من بعد صلاة أهل دينهما وملتهما لأنهما لا يباليان بصلاة العصر ، ) ( فيقسمان ) يحلفان ، ( بالله إن ارتبتم ) أي : شككتم ووقعت لكم الريبة في قول الشاهدين وصدقهما ، أي : في قول اللذين ليسا من أهل ملتكم ، فإن كانا مسلمين فلا يمين عليهما ، ( لا نشتري به ثمنا ) أي : لا نحلف بالله كاذبين على عوض نأخذه أو مال نذهب به أو حق نجحده ، ( ولو كان ذا قربى ) ولو كان المشهود له ذا قرابة منا ( ولا نكتم شهادة الله ) أضاف الشهادة إلى الله لأنه أمر بإقامتها ونهى عن كتمانها ، وقرأ يعقوب " شهادة " بتنوين ، " الله " ممدود ، وجعل الاستفهام عوضا عن حرف القسم ، ويروى عن أبي جعفر " شهادة " بتنوين ، " الله " بقطع الألف وكسر الهاء من غير استفهام على ابتداء اليمين ، أي : والله : ( إنا إذا لمن الآثمين ) أي إن كتمناها كنا من الآثمين .
فلما نزلت هذه الآية صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يختانا شيئا مما دفع إليهما فحلفا على ذلك ، وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما .
ثم ظهر الإناء واختلفوا في كيفية ظهوره فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه وجد بمكة ، فقالوا : إنا اشتريناه من تميم وعدي ، وقال آخرون : لما طالت المدة أظهروه فبلغ ذلك بني سهم فأتوهما في ذلك ، فقالا إنا كنا قد اشتريناه منه فقالوا لهما : ألم تزعما أن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه؟ قالا : لم يكن عندنا بينة وكرهنا أن نقر لكم به فكتمناه لذلك ، فرفعهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : ) ( فإن عثر ) 50
) ( فإن عثر ) أي : اطلع على خيانتهما ، وأصل العثور : الوقوع على الشيء ، ) ( على أنهما ) يعني : الوصيين ) ( استحقا ) استوجبا ، ) ( إثما ) بخيانتهما وبأيمانهما [ ص: 114 ] الكاذبة ، ) ( فآخران ) من أولياء الميت ، ) ( يقومان مقامهما ) يعني : مقام الوصيين ، ( من الذين استحق ) بضم التاء على المجهول ، هذه قراءة العامة ، يعني : الذين استحق ، ) ( عليهم ) أي فيهم ولأجلهم الإثم وهم ورثة الميت استحق الحالفان بسببهم الإثم و ( على ) بمعنى في ، كما قال الله ( على ملك سليمان ) ( البقرة ، 102 ) أي : في ملك سليمان ، وقرأ حفص ( استحق ) بفتح التاء والحاء ، وهي قراءة علي والحسن ، أي : حق ووجب عليهم الإثم ، يقال : حق واستحق بمعنى واحد ، ) ( الأوليان ) نعت للآخران ، أي : فآخران الأوليان ، وإنما جاز ذلك و ) ( الأوليان ) معرفة والآخران نكرة لأنه لما وصف ال " آخران " ، فقال ) ( من الذين ) صار كالمعرفة و ) ( الأوليان ) تثنية الأولى ، والأولى هو الأقرب ، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم ويعقوب " الأولين " بالجمع فيكون بدلا من الذين ، والمراد منهم أيضا أولياء الميت .
ومعنى الآية : إذا ظهرت خيانة الحالفين يقوم اثنان آخران من أقارب الميت ، ( فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ) يعني : يميننا أحق من يمينهما ، نظيره قوله تعالى في اللعان : ( فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله ) ( النور - 6 ) . والمراد بها الأيمان ، فهو كقول القائل : أشهد بالله ، أي : أقسم بالله ، ) ( وما اعتدينا ) في أيماننا ، وقولنا أن شهادتنا أحق من شهادتهما ، ( إنا إذا لمن الظالمين )
فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان ، فحلفا بالله بعد العصر فدفعا الإناء إليهما وإلى أولياء الميت ، وكان تميم الداري بعدما أسلم يقول صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء ، فأتوب إلى الله وأستغفره ، وإنما انتقل اليمين إلى الأولياء لأن الوصيين ادعيا أنهما ابتاعاه .
والوصي إذا أخذ شيئا من مال الميت وقال : إنه أوصى لي به حلف الوارث ، إذا أنكر ذلك ، وكذلك لو ادعى رجل سلعة في يد رجل فاعترف ثم ادعى أنه اشتراها من المدعي ، حلف المدعي أنه لم يبعها منه .
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن تميم الداري قال : كنا بعنا الإناء بألف درهم فقسمتها أنا وعدي ، فلما أسلمت تأثمت فأتيت موالي الميت فأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحلف عمرو والمطلب فنزعت الخمسمائة من عدي ، ورددت أنا الخمسمائة . [ ص: 115 ] فذلك قوله تعالى : ( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها )
( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ) أي : ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين أجدر وأحرى أن يأتي الوصيان بالشهادة على وجهها ، وسائر الناس أمثالهم ، أي أقرب إلى الإتيان بالشهادة على ما كانت ، ( أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) أي : أقرب إلى أن يخافوا رد اليمين بعد يمينهم على [ المدعي ] فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا ويغرموا فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذا الحكم ، ( واتقوا الله ) أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا أمانة ، ) ( واسمعوا ) الموعظة ، ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (132)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 109 إلى الاية115
( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ( 109 ) ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ( 110 ) وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ( 111 )
قوله عز وجل ( يوم يجمع الله الرسل ) وهو يوم القيامة ، ( فيقول ماذا أجبتم ) أي : ما الذي أجابتكم أمتكم؟ وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي؟ ( قالوا ) أي : فيقولون ( لا علم لنا ) قال ابن عباس معناه : لا علم لنا إلا العلم الذي أنت أعلم به منا ، وقيل : لا علم لنا بوجه الحكمة عن سؤالك إيانا عن أمر أنت أعلم به منا ، وقال ابن جريج : لا علم لنا بعاقبة أمرهم وبما أحدثوا من بعد ، دليله أنه قال : ( إنك أنت علام الغيوب ) أي : أنت الذي تعلم ما غاب ونحن لا نعلم إلا ما نشاهد .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسلم بن إبراهيم أنا وهيب أنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي ، فيقال : [ ص: 116 ] لا تدري ما أحدثوا بعدك " .
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والسدي : إن للقيامة أهوالا وزلازل تزول فيها القلوب عن مواضعها ، فيفزعون من هول ذلك اليوم ويذهلون عن الجواب ، ثم بعدما ثابت إليهم عقولهم يشهدون على أممهم .
قوله تعالى : ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك ) قال الحسن : ذكر النعمة شكرها ، وأراد بقوله ( نعمتي ) أي : نعمي ، [ قال الحسن ] لفظه واحد ومعناه جمع ، كقوله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) ، ( وعلى والدتك ) مريم ثم ذكر النعم فقال : ( إذ أيدتك ) قويتك ، ( بروح القدس ) يعني جبريل عليه السلام ، ( تكلم الناس ) يعني : وتكلم الناس ، ( في المهد ) صبيا ، ( وكهلا ) نبيا قال ابن عباس : أرسله وهو ابن ثلاثين سنة ، فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله إليه ، ( وإذ علمتك الكتاب ) يعني الخط ، ( والحكمة ) يعني العلم والفهم ، ( والتوراة والإنجيل وإذ تخلق ) تجعل وتصور ، ( من الطين كهيئة الطير ) كصورة الطير ، ( بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا ) حيا يطير ، ( بإذني وتبرئ ) وتصحح ، ( الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى ) من قبورهم أحياء ، ( بإذني وإذ كففت ) منعت وصرفت ، ( بني إسرائيل ) يعني اليهود ، ( عنك ) حين هموا بقتلك ، ( إذ جئتهم بالبينات ) يعني : الدلالات والمعجزات ، وهي التي ذكرنا .
( فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ) يعني : ما جاءهم به من البينات ، قرأ حمزة والكسائي " ساحر مبين " هاهنا وفي سورة هود والصف ، فيكون راجعا إلى عيسى عليه السلام ، وفي هود يكون راجعا إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
( وإذ أوحيت إلى الحواريين ) ألهمتهم وقذفت في قلوبهم ، وقال أبو عبيدة يعني أمرت [ ص: 117 ] و ( إلى ) صلة ، والحواريون خواص أصحاب عيسى عليه السلام ، ( أن آمنوا بي وبرسولي ) [ عيسى ] ( قالوا ) حين وفقتهم ( آمنا واشهد بأننا مسلمون ) .
( إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ( 112 ) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ( 113 ) قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ( 114 ) قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ( إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك ( 115 )
قرأ الكسائي " هل تستطيع " بالتاء " ربك " بنصب الباء وهو قراءة علي وعائشة وابن عباس ومجاهد ، أي : هل تستطيع أن تدعو وتسأل ربك ، وقرأ الآخرون " هل يستطيع " بالياء و " ربك " برفع الباء ، ولم يقولوه شاكين في قدرة الله عز وجل ، ولكن معناه : هل ينزل ربك أم لا؟ كما يقول الرجل لصاحبه هل تستطيع أن تنهض معي وهو يعلم أنه يستطيع ، وإنما يريد هل يفعل ذلك أم لا وقيل : يستطيع بمعنى يطيع ، يقال : أطاع واستطاع بمعنى واحد ، كقولهم : أجاب واستجاب ، معناه : هل يطيعك ربك بإجابة سؤالك؟ وفي الآثار من أطاع الله أطاعه الله ، وأجرى بعضهم على الظاهر فقالوا : غلط القوم ، وقالوه قبل استحكام المعرفة وكانوا بشرا ، فقال لهم عيسى عليه السلام عند الغلط ، استعظاما لقولهم ( اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) أي : لا تشكوا في قدرته .
( أن ينزل علينا مائدة من السماء ) المائدة : الخوان الذي عليه الطعام ، وهي فاعلة من : ماده يميده إذا أعطاه وأطعمه ، كقوله ماره يميره ، وامتاد : افتعل منه ، والمائدة هي المطعمة للآكلين الطعام ، وسمي الطعام أيضا مائدة على الجواز ، لأنه يؤكل على المائدة ، وقال أهل الكوفة : سميت مائدة لأنها تميد بالآكلين ، أي : تميل . وقال أهل البصرة : فاعلة بمعنى المفعول ، أي تميد بالآكلين إليها ، كقوله تعالى ( عيشة راضية ) أي : مرضية ، ( قال ) عيسى عليه السلام مجيبا لهم : ( اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) فلا تشكوا في قدرته ، وقيل : اتقوا الله أن تسألوه شيئا لم يسأله الأمم قبلكم ، فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان .
( قالوا نريد ) أي : إنما سألنا لأنا نريد ، ( أن نأكل منها ) أكل تبرك لا أكل حاجة فنستيقن [ ص: 118 ] قدرته ، ( وتطمئن ) وتسكن ، ( قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ) بأنك رسول الله ، أي : نزداد إيمانا ويقينا ، وقيل : إن عيسى ابن مريم أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوما ، فإذا أفطروا لا يسألون الله شيئا إلا أعطاهم ، ففعلوا وسألوا المائدة ، وقالوا : " ونعلم أن قد صدقتنا " في قولك ، إنا إذا صمنا ثلاثين يوما لا نسأل الله تعالى شيئا إلا أعطانا ، ( ونكون عليها من الشاهدين ) لله بالوحدانية والقدرة ، ولك بالنبوة والرسالة ، وقيل : ونكون من الشاهدين لك عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم .
( قال عيسى ابن مريم ) عند ذلك ، ( اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء ) وقيل : إنه اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وغض بصره وبكى ، ثم قال : اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء ، ( تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ) أي : عائدة من الله علينا حجة وبرهانا ، والعيد : يوم السرور ، سمي به للعود من الترح إلى الفرح ، وهو اسم لما اعتدته ويعود إليك ، وسمي يوم الفطر والأضحى عيدا لأنهما يعودان كل سنة ، قال السدي : معناه نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيدا لأولنا وآخرنا ، أي : نعظمه نحن ومن بعدنا ، وقال سفيان : نصلي فيه ، قوله ( لأولنا ) أي : لأهل زماننا ( وآخرنا ) أي : لمن يجيء بعدنا ، وقال ابن عباس : يأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم ، ( وآية منك ) دلالة وحجة ، ( وارزقنا وأنت خير الرازقين )
( قال الله ) تعالى مجيبا لعيسى عليه السلام ، ( إني منزلها عليكم ) يعني : المائدة وقرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم " منزلها " بالتشديد لأنها نزلت مرات ، والتفعيل يدل على التكرير مرة بعد أخرى ، وقرأ الآخرون بالتخفيف لقوله : أنزل علينا ، ( فمن يكفر بعد منكم ) أي : بعد نزول المائدة ( فإني أعذبه عذابا ) أي جنس عذاب ، ( لا أعذبه أحدا من العالمين ) يعني : عالمي زمانه ، فجحد القوم وكفروا بعد نزول المائدة فمسخوا قردة وخنازير ، قال عبد الله بن عمر : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون .
واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا؟ فقال مجاهد والحسن : لم تنزل لأن الله عز وجل لما أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستعفوا ، وقالوا : لا نريدها ، فلم تنزل ، وقوله : " إني منزلها عليكم " ، يعني : إن سألتم . [ ص: 119 ]
والصحيح الذي عليه الأكثرون : أنها نزلت ، لقوله تعالى : " إني منزلها عليكم " ، ولا خلف في خبره ، لتواتر الأخبار فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين .
واختلفوا في صفتها فروى خلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها نزلت خبزا ولحما ، وقيل لهم : إنها مقيمة لكم ما لم تخونوا [ وتخبؤوا ] فما مضى يومهم حتى خانوا وخبؤوا فمسخوا قردة وخنازير .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن عيسى عليه السلام قال لهم : صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكموه ، فصاموا فلما فرغوا قالوا : يا عيسى إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا ، وسألوا الله المائدة فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها ، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم .
قال كعب الأحبار : نزلت [ مائدة ] منكوسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض ، عليها كل الطعام إلا اللحم .
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم ، قال قتادة كان عليها ثمر من ثمار الجنة .
وقال عطية العوفي : نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء .
وقال الكلبي : كان عليها خبز ورز وبقل .
وقال وهب بن منبه : أنزل الله أقرصة من شعير وحيتانا وكان قوم يأكلون ثم يخرجون ويجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوا جميعهم وفضل . [ ص: 120 ]
وعن الكلبي ومقاتل : أنزل الله خبزا وسمكا وخمسة أرغفة ، فأكلوا ما شاء الله تعالى ، والناس ألف ونيف فلما رجعوا إلى قراهم ، ونشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهد ، وقالوا : ويحكم إنما سحر أعينكم ، فمن أراد الله به الخير ثبته على بصيرته ، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره ، ومسخوا خنازير ليس فيهم صبي ولا امرأة ، فمكثوا بذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا ، ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا ، وكذلك كل ممسوخ .
وقال قتادة : كانت تنزل عليهم بكرة وعشيا حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل ، وقال عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي لما سأل الحواريون المائدة لبس عيسى عليه السلام صوفا وبكى ، وقال : " اللهم أنزل علينا مائدة من السماء " الآية فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها ، وهم ينظرون إليها وهي تهوي منقضة حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى ، وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة ، واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه ، فقال عيسى عليه السلام : ليقم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويذكر اسم الله تعالى ، فقال شمعون الصفار رأس الحواريين : أنت أولى بذلك منا [ فقام عيسى عليه السلام ] فتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى كثيرا ، ثم كشف المنديل عنها ، وقال : بسم الله خير الرازقين فإذا هو سمكة مشوية ليس عليها فلوسها ولا شوك عليها تسيل من الدسم وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد ، فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ، ولكنه شيء افتعله الله تعالى بالقدرة الغالبة ، كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم من فضله ، قالوا : يا روح الله كن أول من يأكل منها ، فقال عيسى عليه السلام : معاذ الله أن آكل منها ولكن يأكل منها من سألها فخافوا أن يأكلوا منها ، فدعا لها أهل الفاقة والمرضى وأهل البرص والجذام والمقعدين والمبتلين ، فقال : كلوا من رزق الله ولكم المهنأ ولغيركم البلاء ، فأكلوا وصدر عنها ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض وزمن ومبتلى ، كلهم شبعان ، وإذا السمكة بهيئتها حين نزلت ، ثم طارت سفرة المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتى توارت ، فلم يأكل منها زمن ولا مريض ولا مبتلى إلا عوفي ولا فقير إلا استغنى ، وندم من لم يأكل منها فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى ، فإذا نزلت اجتمعت الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء ، ولا تزال منصوبة يؤكل [ ص: 121 ] منها حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظلها حتى توارت عنهم ، وكانت تنزل غبا تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة ثمود ، فأوحى الله تعالى [ إلى عيسى عليه السلام ] اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون الأغنياء ، فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكوا وشككوا الناس فيها ، وقالوا : أترون المائدة حقا تنزل من السماء؟ فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام : إني شرطت أن من كفر بعد نزولها عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، فقال عيسى عليه السلام : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثون رجلا باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات ، ويأكلون العذرة في الحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه السلام وبكوا فلما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطيف بعيسى عليه السلام وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برءوسهم ويبكون ولا يقدرون على الكلام ، فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا .
) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (133)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
الاية 116 إلى الاية120
( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ( 116 ) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ( 117 ) ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( 118 ) قوله عز وجل : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) واختلفوا في أن هذا القول متى يكون ، فقال السدي : قال الله تعالى هذا القول لعيسى عليه السلام حين رفعه إلى السماء لأن حرف " إذ " يكون للماضي ، وقال سائر المفسرين : إنما يقول الله له هذا القول يوم القيامة بدليل قوله [ من قبل ] ( يوم يجمع الله الرسل ) ( المائدة ، 109 ) . وقال من بعدها ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) ( المائدة ، 119 ) ، وأراد بهما يوم القيامة ، وقد تجيء " إذ " بمعنى " إذا " كقوله عز وجل : ( ولو ترى إذ فزعوا ) أي : إذا فزعوا [ يوم القيامة ] والقيامة وإن لم تكن بعد ولكنها كالكائنة لأنها آتية لا محالة .
قوله : ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) ؟ فإن قيل : فما وجه هذا السؤال مع علم الله عز وجل أن عيسى لم يقله؟
قيل هذا السؤال عنه لتوبيخ قومه وتعظيم أمر هذه المقالة كما يقول القائل لآخر : أفعلت كذا [ ص: 122 ] وكذا؟ فيما يعلم أنه لم يفعله ، إعلاما واستعظاما لا استخبارا واستفهاما .
وأيضا : أراد الله عز وجل أن يقر [ عيسى عليه السلام عن ] نفسه بالعبودية ، فيسمع قومه ، ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك ، قال أبو روق : وإذا سمع عيسى عليه السلام هذا الخطاب أرعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة في جسده عين من دم ، ثم يقول مجيبا لله عز وجل : ( قال سبحانك ) تنزيها وتعظيما لك ( ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ) قال ابن عباس : تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك ، وقيل معناه : تعلم سري ولا أعلم سرك ، وقال أبو روق تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في الآخرة ، وقال الزجاج : النفس عبارة عن جملة الشيء وحقيقته ، يقول : تعلم جميع ما أعلم من حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك ، ( إنك أنت علام الغيوب ) ما كان وما يكون .
( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ) [ وحدوه ] ولا تشركوا به شيئا ، ( وكنت عليهم شهيدا ما دمت ) أقمت ، ( فيهم فلما توفيتني ) قبضتني ورفعتني إليك ، ( كنت أنت الرقيب عليهم ) والحفيظ عليهم ، تحفظ أعمالهم ، ( وأنت على كل شيء شهيد )
قوله تعالى : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فإن قيل كيف طلب المغفرة لهم وهم كفار ، وكيف قال : وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، وهذا لا يليق بسؤال المغفرة ، قيل : أما الأول فمعناه إن تعذبهم بإقامتهم على كفرهم وإن تغفر لهم بعد الإيمان وهذا يستقيم على قول السدي : إن هذا السؤال قبل يوم القيامة لأن الإيمان لا ينفع في القيامة .
وقيل : هذا في فريقين منهم ، معناه : إن تعذب من كفر منهم وإن تغفر لمن آمن منهم .
وقيل : ليس هذا على وجه طلب المغفرة ولو كان كذلك لقال : فإنك أنت الغفور الرحيم ، ولكنه على تسليم الأمر وتفويضه إلى مراده . [ ص: 123 ]
وأما السؤال الثاني : فكان ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم ، وكذلك هو في مصحفه ، وأما على القراءة المعروفة قيل فيه تقديم وتأخير تقديره : إن تغفر لهم فإنهم عبادك وإن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم .
وقيل : معناه إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز في الملك الحكيم في القضاء لا ينقص من عزك شيء ، ولا يخرج من حكمك شيء ، ويدخل في حكمته ومغفرته وسعة رحمته ومغفرته الكفار ، لكنه أخبر أنه لا يغفر وهو لا يخلف خبره .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ثنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني عمر بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم : " رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني " ، الآية . وقول عيسى عليه السلام : " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " فرفع يديه وقال : اللهم أمتي وبكى فقال الله عز وجل : يا جبريل اذهب إلى محمد ، - وربك أعلم - فسله ما يبكيه؟ فأتاه جبريل فسأله ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال ، فقال الله تعالى : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك " .
30 قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ( 119 ) )
( لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير ( 120 )
قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) قرأ نافع ( يوم ) بنصب الميم ، يعني : تكون هذه الأشياء في يوم ، فحذف في فانتصب ، وقرأ الآخرون بالرفع على أنه خبر ( هذا ) أي : ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في الآخرة ، ولو كذبوا ختم الله على أفواههم ونطقت به جوارحهم فافتضحوا ، وقيل : أرادوا بالصادقين النبيين . [ ص: 124 ]
وقال الكلبي : ينفع المؤمنين إيمانهم ، قال قتادة : متكلمان لا يخطئان يوم القيامة عيسى عليه السلام ، وهو ما قص الله عز وجل ، وعدو الله إبليس ، وهو قوله : " وقال الشيطان لما قضي الأمر " ، الآية ، فصدق عدو الله يومئذ ، وكان قبل ذلك كاذبا فلم ينفعه صدقه ، وأما عيسى عليه السلام فكان صادقا في الدنيا والآخرة ، فنفعه صدقه .
وقال عطاء : هذا يوم من أيام الدنيا لأن الدار الآخرة دار جزاء لا دار عمل ، ثم بين ثوابهم فقال : ( لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ) ثم عظم نفسه . فقال : ( لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير ) )
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (134)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
الاية 1 إلى الاية7
[ سُورَةُ الْأَنْعَامِ ]
[ ص: 125 ] ( 1 ) )
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
مكية ، وهي مائة وخمس وستون آية ، نزلت بمكة [ جملة ] ليلا معها سبعون ألف ملك قد سدوا ما بين الخافقين ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وخر ساجدا " .
وروي مرفوعا : " من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره " .
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت سورة الأنعام بمكة ، إلا قوله : " وما قدروا الله حق قدره " ، إلى آخر ثلاث آيات ، وقوله تعالى : " قل تعالوا أتل " ، إلى قوله : " لعلكم تتقون " ، فهذه الست آيات مدنيات .
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ) قال كعب الأحبار : هذه الآية أول آية في التوراة ، وآخر آية في التوراة قوله : " الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا " الآية ( الإسراء - 111 ) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : افتتح الله الخلق بالحمد ، فقال : ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ) ، وختمه بالحمد فقال : ( وقضي بينهم بالحق ) ، أي : بين الخلائق ، ( وقيل الحمد لله رب العالمين ) [ الزمر - 75 ] . [ ص: 126 ]
قوله : " الحمد لله " حمد الله نفسه تعليما لعباده ، أي : احمدوا الله الذي خلق السموات والأرض ، خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد ، وفيهما العبر والمنافع للعباد ، ( وجعل الظلمات والنور ) والجعل بمعنى الخلق ، قال الواقدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور فهو الكفر والإيمان ، إلا في هذه الآية فإنه يريد بهما الليل والنهار .
وقال الحسن : وجعل الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان ، وقيل : أراد بالظلمات الجهل وبالنور العلم .
وقال قتادة : يعني الجنة والنار .
وقيل : معناه خلق الله السموات والأرض ، وقد جعل الظلمات والنور ، لأنه خلق الظلمة والنور قبل السموات والأرض .
قال قتادة : خلق الله السموات قبل الأرض ، والظلمة قبل النور ، والجنة قبل النار ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى خلق الخلق فى ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " .
( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) أي : ثم الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون ، أي : يشركون ، وأصله من مساواة الشيء بالشيء ، ومنه العدل ، أي : يعدلون بالله غير الله تعالى ، يقال : عدلت هذا بهذا إذا ساويته ، وبه قال النضر بن شميل ، الباء بمعنى عن ، أي : عن ربهم يعدلون ، أي يميلون وينحرفون من العدول ، قال الله تعالى ( عينا يشرب بها عباد الله ) أي : منها .
وقيل : تحت قوله " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " معنى لطيف ، وهو مثل قول القائل : أنعمت عليكم بكذا وتفضلت عليكم بكذا ، ثم تكفرون بنعمتي .
( هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون ( 2 ) وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ( 3 ) )
قوله عز وجل : ( هو الذي خلقكم من طين ) يعني آدم عليه السلام ، خاطبهم به إذ كانوا من [ ص: 127 ] ولده . قال السدي : بعث الله تعالى جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها ، فقالت الأرض إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني ، فرجع جبريل ولم يأخذ وقال : يا رب إنها عاذت بك ، فبعث ميكائيل ، فاستعاذت فرجع ، فبعث ملك الموت فعاذت منه بالله ، فقال : وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره ، فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء ، فلذلك اختلفت ألوان بني آدم ، ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر ، فلذا اختلفت أخلاقهم فقال الله تعالى لملك الموت : رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها ، لا جرم أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك .
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " خلق الله آدم عليه السلام من تراب وجعله طينا ، ثم تركه حتى كان حمأ مسنونا ثم خلقه وصوره وتركه حتى كان صلصالا كالفخار ، ثم نفخ فيه روحه " .
قوله عز وجل : ( ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ) قال الحسن وقتادة والضحاك : الأجل الأول من الولادة إلى الموت ، والأجل الثاني من الموت إلى البعث ، وهو البرزخ ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وقال : لكل أحد أجلان أجل إلى الموت وأجل من الموت إلى البعث ، فإن كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر ، وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الأجل الأول أجل الدنيا ، والأجل الثاني أجل الآخرة ، وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما ( ثم قضى أجلا ) يعني : النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع عند اليقظة ، ( وأجل مسمى عنده ) يعني : أجل الموت ، وقيل : هما واحد معناه : [ ثم قضى أجلا ] يعني : جعل لأعماركم مدة تنتهون إليها ، " وأجل مسمى عنده " يعني : وهو أجل مسمى عنده ، لا يعلمه غيره ، ( ثم أنتم تمترون ) تشكون في البعث .
قوله عز وجل : ( وهو الله في السموات وفي الأرض ) يعني : وهو إله السموات والأرض ، كقوله : ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) ، وقيل : هو المعبود في السموات والأرض ، وقال محمد بن جرير : معناه هو في السموات يعلم سركم وجهركم في الأرض ، [ وقال الزجاج : فيه تقديم وتأخير تقديره : وهو الله ، ( يعلم سركم وجهركم ) في السموات والأرض ] ( ويعلم ما تكسبون ) تعملون من الخير والشر .
[ ص: 128 ] ( وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ( 4 ) فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ( 5 ) ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ( 6 ) ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( 7 ) )
( وما تأتيهم ) يعني : أهل مكة ، ( من آية من آيات ربهم ) مثل انشقاق القمر وغيره ، وقال عطاء : يريد من آيات القرآن ، ( إلا كانوا عنها معرضين ) لها تاركين بها مكذبين .
( فقد كذبوا بالحق ) بالقرآن ، وقيل : بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ( لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ) أي : أخبار استهزائهم وجزاؤه ، أي : سيعلمون عاقبة استهزائهم إذا عذبوا .
قوله عز وجل : ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن ) يعني : الأمم الماضية ، والقرن : الجماعة من الناس ، وجمعه قرون ، وقيل : القرن مدة من الزمان ، يقال ثمانون سنة ، وقيل : ستون سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ثلاثون سنة ، ويقال : مائة سنة ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بسر المازني : " إنك تعيش قرنا " ، فعاش مائة سنة
فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل قرن ، ( مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) أي : أعطيناهم ما لم نعطكم ، وقال ابن عباس : أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح وعاد وثمود ، يقال : مكنته ومكنت له ، ( وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ) يعني : المطر ، مفعال ، من الدر ، قال ابن عباس : مدرارا أي : متتابعا في أوقات الحاجات ، وقوله : " ما لم نمكن لكم " من خطاب التلوين ، رجع من الخبر من قوله : " ألم يروا " إلى خطاب ، كقوله : ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) [ يونس ، 22 ] .
وقال أهل البصرة : أخبر عنهم بقوله " ألم يروا " وفيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم خاطبهم معهم ، والعرب تقول : قلت لعبد الله : ما أكرمه ، وقلت لعبد الله : ما أكرمك ، ( وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا ) خلقنا وابتدأنا ، ( من بعدهم قرنا آخرين ) [ ص: 129 ]
قوله عز وجل : ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس ) الآية ، قال الكلبي ومقاتل نزلت في النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد ، قالوا : يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله ، فأنزل الله عز وجل : ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس ) مكتوبا من عندي ، ( فلمسوه بأيديهم ) أي : عاينوه ومسوه بأيديهم ، وذكر اللمس ولم يذكر المعاينة لأن اللمس أبلغ في إيقاع العلم من [ الرؤية ] فإن السحر يجري على المرئي ولا يجري على الملموس ، ( لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) معناه : لا ينفع معهم شيء لما سبق فيهم من علمي .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (135)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
الاية 8 إلى الاية21
( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ( 8 ) ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( 9 ) ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ( 10 ) قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( 11 ) )
( وقالوا لولا أنزل عليه ) على محمد صلى الله عليه وسلم ، ( ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ) أي : لوجب العذاب ، وفرغ من الأمر ، وهذا سنة الله في الكفار أنهم متى اقترحوا آية فأنزلت ثم لم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب ، ( ثم لا ينظرون ) أي : لا يؤجلون ولا يمهلون ، وقال قتادة : لو أنزلنا ملكا ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب ولم يؤخروا طرفة عين ، وقال مجاهد : لقضي الأمر أي لقامت القيامة ، وقال الضحاك : لو أتاهم ملك فى صورته لماتوا .
( ولو جعلناه ملكا ) [ يعني : لو أرسلنا إليهم ملكا ] ( لجعلناه رجلا ) يعني في صورة [ رجل ] آدمي ، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة ، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي ، وجاء الملكان إلى داود في صورة رجلين .
قوله عز وجل : ( وللبسنا عليهم ما يلبسون ) أي : خلطنا عليهم ما يخلطون وشبهنا عليهم فلا يدرون أملك هو أم آدمي ، وقيل معناه شبهوا على ضعفائهم فشبه عليهم ، وعن ابن عباس رضي الله [ ص: 130 ] عنهما قال : هم أهل الكتاب فرقوا دينهم وحرفوا الكلم عن مواضعه ، فلبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم وقرأ الزهري ( وللبسنا ) بالتشديد على التكرير والتأكيد .
( ولقد استهزئ برسل من قبلك ) كما استهزئ بك يا محمد يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ( فحاق ) قال الربيع [ بن أنس ] فنزل ، وقال عطاء : حل ، وقال الضحاك : أحاط ، ( بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) أي : جزاء استهزائهم من العذاب والنقمة .
( قل ) يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين ، ( سيروا في الأرض ) معتبرين ، يحتمل هذا : السير بالعقول والفكر ، ويحتمل السير بالأقدام ، ( ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) أي : آخر أمرهم وكيف أورثهم الكفر والتكذيب الهلاك ، فحذر كفار مكة عذاب الأمم الخالية .
( قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ( 12 ) وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ( 13 ) )
قوله عز وجل : ( قل لمن ما في السموات والأرض ) فإن أجابوك وإلا ف ( قل ) أنت ، ( لله ) أمره بالجواب عقيب السؤال ليكون أبلغ في التأثير وآكد في الحجة ، ( كتب ) أي : قضى ، ( على نفسه الرحمة ) هذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال عليه وإخباره بأنه رحيم بالعباد لا يعجل بالعقوبة ، ويقبل الإنابة والتوبة .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي غلبت غضبي " .
وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة : " إن رحمتي [ سبقت ] غضبي . [ ص: 131 ]
أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكركاني أنا أبو طاهر الزيادي أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا عبد الرحمن المروزي أخبرنا عبد الله بن المبارك أنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لله رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام ، فبها يتعاطفون ، وبها يتراحمون ، وبها تتعاطف الوحوش على أولادها ، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا ابن أبي مريم ثنا أبو غسان حدثني زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها ، تسعى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم : " أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقلنا : لا وهي تقدر على أن لا تطرحه ، فقال : الله أرحم بعباده من هذه بولدها " .
قوله عز وجل : ( ليجمعنكم ) اللام فيه لام القسم والنون نون التأكيد ، مجازه : والله ليجمعنكم ، ( إلى يوم القيامة ) أي : في يوم القيامة ، وقيل : معناه ليجمعنكم في قبوركم إلى يوم القيامة ، ( لا ريب فيه الذين خسروا ) غبنوا ، ( أنفسهم فهم لا يؤمنون )
( وله ما سكن في الليل والنهار ) أي : استقر ، قيل : أراد ما سكن وما تحرك ، كقوله : ( سرابيل تقيكم الحر ) أي : الحر والبرد ، وقيل : إنما خص السكون بالذكر لأن النعمة فيه أكثر ، قال محمد بن جرير : كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكن الليل والنهار ، والمراد منه جميع ما في الأرض . وقيل معناه : ما يمر عليه الليل والنهار ، ( وهو السميع ) لأصواتهم ، ( العليم ) بأسرارهم .
( قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ( 14 ) )
قوله تعالى : ( قل أغير الله أتخذ وليا ) ؟ وهذا حين دعا إلى دين آبائه ، فقال تعالى : قل يا [ ص: 132 ] محمد أغير الله أتخذ وليا ، [ ربا ومعبودا وناصرا ومعينا ] ؟ ( فاطر السماوات والأرض ) أي : خالقهما ومبدعهما ومبتديهما ، ( وهو يطعم ولا يطعم ) أي : وهو يرزق ولا يرزق كما قال : ( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ) . ( قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ) يعني : من هذه الأمة ، والإسلام بمعنى الاستسلام لأمر الله ، وقيل : أسلم أخلص ، ( ولا تكونن ) يعني : وقيل لي ولا تكونن ، ( من المشركين ) .
( قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( 15 ) من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين ( 16 ) وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ( 17 ) )
( قل إني أخاف إن عصيت ربي ) [ فعبدت غيره ] ( عذاب يوم عظيم ) يعني : عذاب يوم القيامة .
( من يصرف عنه ) يعني : من يصرف العذاب عنه ، قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب " يصرف " بفتح الياء وكسر الراء ، أي : من يصرف الله عنه العذاب ، لقوله : " فقد رحمه " وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الراء ، ( يومئذ ) يعني : يوم القيامة ، ( فقد رحمه وذلك الفوز المبين ) أي : النجاة البينة .
قوله عز وجل : ( وإن يمسسك الله بضر ) بشدة وبلية ، ( فلا كاشف له ) لا رافع ، ( إلا هو وإن يمسسك بخير ) عافية ونعمة ، ( فهو على كل شيء قدير ) من الخير والضر .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الله السلمي أنا أبو العباس الأصم أنا أحمد بن شيبان الرملي أنا عبد الله بن ميمون القداح أنا شهاب بن خراش ، [ هو ابن عبد الله ] عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال : أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة ، أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ، ثم أردفني خلفه ، ثم سار بي مليا ثم التفت إلي فقال : يا غلام ، فقلت : لبيك يا رسول الله ، قال : " احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، وقد مضى القلم بما هو كائن ، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله [ ص: 133 ] تعالى لك لم يقدروا عليه ، ولو جهدوا أن يضروك بما لم يكتب الله تعالى عليك ، ما قدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين ، فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن مع الكرب الفرج ، وأن مع العسر يسرا " .
( وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ( 18 ) ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ( 19 ) الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ( 20 ) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون ( 21 ) )
( وهو القاهر فوق عباده ) القاهر : الغالب ، وفي القهر زيادة معنى على القدرة ، وهي منع غيره عن بلوغ المراد ، وقيل : هو المنفرد بالتدبير الذي يجبر الخلق على مراده ، فوق عباده ، هو صفة الاستعلاء الذي تفرد به الله عز وجل . ( وهو الحكيم ) في أمره ، ( الخبير ) بأعمال عباده .
قوله عز وجل : ( قل أي شيء أكبر شهادة ) ؟ الآية ، قال الكلبي : أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أرنا من يشهد أنك رسول الله فإنا لا نرى أحدا يصدقك ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ، فأنزل الله تعالى : ( قل أي شيء أكبر ) أعظم ، ( شهادة ) ؟ فإن أجابوك ، وإلا ( قل الله ) هو ( شهيد بيني وبينكم ) على ما أقول ، ويشهد لي بالحق وعليكم بالباطل ، ( وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ) لأخوفكم به يا أهل مكة ، ( ومن بلغ ) يعني : ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم من الأمم إلى يوم القيامة .
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن الحنفي أنا محمد بن بشر بن محمد المزني أنا أبو بكر [ ص: 134 ] محمد بن الحسن بن بشر النقاش أنا أبو شعيب الحراني أنا يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلي أنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن أبي كبشة [ السلولي ] عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " .
أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها . فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة للمسلمين ، ولزوم جماعتهم ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " .
قال مقاتل : من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له ، وقال محمد بن كعب القرظي : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى الله عليه وسلم وسمع منه ، ( أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ) ؟ ولم يقل " أخر " لأن الجمع يلحقه التأنيث ، كقوله عز وجل : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) ( الأعراف ، 180 ) ، وقال : ( فما بال القرون الأولى ) . ( طه ، 51 ) ( قل ) يا محمد إن شهدتم أنتم ف ( لا أشهد ) ، أنا أن معه إلها ، ( قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون )
قوله عز وجل : ( الذين آتيناهم الكتاب ) ، يعني : التوراة والإنجيل ( يعرفونه ) ، يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته ، ( كما يعرفون أبناءهم ) ، من بين الصبيان . ( الذين خسروا أنفسهم ) ، غبنوا أنفسهم ( فهم لا يؤمنون ) ، وذلك أن الله جعل لكل آدمي منزلا في الجنة ومنزلا في النار ، وإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة ، ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار ، وذلك الخسران . [ ص: 135 ]
قوله عز وجل : ( ومن أظلم ) ، أكفر ، ( ممن افترى ) ، اختلق ، ( على الله كذبا ) ، فأشرك به غيره ، ( أو كذب بآياته ) ، يعني : القرآن ( إنه لا يفلح الظالمون ) : الكافرون .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (136)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
الاية 22 إلى الاية30
( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ( 22 ) ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ( 23 ) انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( 24 ) )
( ويوم نحشرهم جميعا ) ، أي : العابدين والمعبودين ، يعني : يوم القيامة ، قرأ يعقوب " يحشرهم " هاهنا ، وفي سبأ بالياء ، ووافق حفص في سبأ ، وقرأ الآخرون بالنون ، ( ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ) ، أنها تشفع لكم عند ربكم .
( ثم لم تكن فتنتهم ) ، قرأ حمزة والكسائي ويعقوب " يكن " بالياء لأن الفتنة بمعنى الافتتان ، فجاز تذكيره ، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث الفتنة ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم " فتنتهم " بالرفع جعلوه اسم كان ، وقرأ الآخرون بالنصب ، فجعلوا الاسم قوله " أن قالوا " وفتنتهم الخبر ، ومعنى قوله " فتنتهم " أي : قولهم وجوابهم ، وقال ابن عباس وقتادة : معذرتهم والفتنة التجربة ، فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل فتنة .
قال الزجاج في قوله : ( ثم لم تكن فتنتهم ) معنى لطيف وذلك مثل الرجل يفتتن بمحبوب ثم يصيبه فيه [ محنة ] فيتبرأ من محبوبه ، فيقال : لم تكن فتنت إلا هذا ، كذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام ولما رأوا العذاب تبرأوا منها ، يقول الله عز وجل : ( ثم لم تكن فتنتهم ) في محبتهم الأصنام ، ( إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) ، قرأ حمزة والكسائي " ربنا " بالنصب على نداء المضاف ، وقرأ الآخرون بالخفض على نعت والله ، وقيل : إنهم إذا رأوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى وتجاوزه عن أهل التوحيد قال بعضهم لبعض : تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجوا مع أهل التوحيد ، فيقولون : والله ربنا ما كنا مشركين ، فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالكفر .
فقال عز وجل : ( انظر كيف كذبوا على أنفسهم ) ، باعتذارهم بالباطل وتبريهم عن الشرك ، ( وضل عنهم ) زال وذهب عنهم ( ما كانوا يفترون ) من الأصنام ، وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها ، فبطل كله في ذلك اليوم .
[ ص: 136 ] ( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ( 25 ) وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ( 26 ) )
قوله عز وجل : ( ومنهم من يستمع إليك ) الآية ، قال الكلبي : اجتمع أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحارث بن عامر ، يستمعون القرآن فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ قال : ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين ، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان النضر كثير الحديث عن القرون وأخبارها . فقال أبو سفيان : إني أرى بعض ما يقول حقا ، فقال أبو جهل : كلا لا نقر بشيء من هذا ، وفي رواية : للموت أهون علينا من هذا ، فأنزل الله عز وجل : " ومنهم من يستمع إليك " وإلى كلامك ، ( وجعلنا على قلوبهم أكنة ) ، أغطية ، جمع كنان ، كالأعنة جمع عنان ، ( أن يفقهوه ) ، أن يعلموه ، قيل : معناه أن لا يفقهوه ، وقيل : كراهة أن يفقهوه ، ( وفي آذانهم وقرا ) ، صمما وثقلا هذا دليل على أن الله تعالى يقلب القلوب فيشرح بعضها للهدى ، ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام الله ولا تؤمن ، ( وإن يروا كل آية ) ، من المعجزات والدلالات ، ( لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ) ، يعني : أحاديثهم وأقاصيصهم ، والأساطير جمع : أسطورة ، وإسطارة ، وقيل : هي الترهات والأباطيل ، وأصلها من سطرت ، أي : كتبت .
( وهم ينهون عنه ) أي : ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ( وينأون عنه ) ، أي : يتباعدون عنه بأنفسهم ، نزلت في كفار مكة ، قاله محمد بن الحنفية والسدي والضحاك ، وقال قتادة : ينهون عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عنه .
وقال ابن عباس ومقاتل نزلت في أبي طالب كان ينهى الناس عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعهم وينأى عن الإيمان به ، أي : يبعد ، حتى روي أنه اجتمع إليه رءوس المشركين وقالوا : خذ شابا من أصبحنا وجها ، وادفع إلينا محمدا ، فقال أبو طالب : ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي [ ص: 137 ] ولدكم؟ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإيمان ، فقال : لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك ، ولكن أذب عنك ما حييت . وقال فيه أبياتا :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وابشر بذاك وقر بذاك منك عيونا ودعوتني وعرفت أنك ناصحي
ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرضت دينا قد علمت بأنه
من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار سبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
( وإن يهلكون ) ، أي : ما يهلكون ، ( إلا أنفسهم ) أي : لا يرجع وبال فعلهم إلا إليهم ، وأوزار الذين يصدونهم عليهم ، ( وما يشعرون ) .
( ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ( 27 ) ( بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ( 28 ) وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ( 29 ) ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ( 30 ) )
قوله عز وجل : ( ولو ترى إذ وقفوا على النار ) يعني : في النار ، كقوله تعالى : ( على ملك سليمان ) أي : في ملك سليمان ، وقيل : عرضوا على النار ، وجواب " لو " محذوف معناه : لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا ، ( فقالوا يا ليتنا نرد ) يعني : إلى الدنيا ، ( ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) قراءة العامة كلها بالرفع على معنى : يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب ، ونكون من المؤمنين ، وقرأ حمزة وحفص ويعقوب " ولا نكذب ونكون " بنصب الباء والنون على جواب التمني ، أي : ليت ردنا وقع ، وأن لا نكذب ونكون ، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصب بالفاء ، وقرأ ابن عامر " نكذب " بالرفع و " نكون " بالنصب لأنهم تمنوا أن يكونوا من المؤمنين ، وأخبروا عن أنفسهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا .
( بل بدا لهم ) قوله : " بل " تحته رد لقولهم ، أي : ليس الأمر على ما قالوا إنهم لو ردوا لآمنوا ، بل بدا لهم ، ظهر لهم ، ( ما كانوا يخفون ) يسرون ، ( من قبل ) في الدنيا من كفرهم [ ص: 138 ] ومعاصيهم ، وقيل : ما كانوا يخفون وهو قولهم " والله ربنا ما كنا مشركين " ( الأنعام ، 23 ) ، فأخفوا شركهم وكتموا حتى شهدت عليهم جوارحهم بما كتموا وستروا ، لأنهم كانوا لا يخفون كفرهم في الدنيا ، إلا أن تجعل الآية في المنافقين ، وقال المبرد : بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون ، وقال النضر بن شميل : بل بدا عنهم .
ثم قال ( ولو ردوا ) إلى الدنيا ( لعادوا لما ) يعني إلى ما ( نهوا عنه ) من الكفر ، ( وإنهم لكاذبون ) في قولهم ، لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين .
( وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ) هذا إخبار عن إنكارهم البعث ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، هذا من قولهم لو ردوا لقالوه .
قوله عز وجل : ( ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ) أي : على حكمه وقضائه ومسألته ، وقيل : عرضوا على ربهم ، ( قال ) لهم وقيل : تقول لهم الخزنة بأمر الله ، ( أليس هذا بالحق ) ؟ يعني : أليس هذا البعث والعذاب بالحق؟ ( قالوا بلى وربنا ) إنه حق ، قال ابن عباس : هذا في موقف ، وقولهم : والله ربنا ما كنا مشركين في موقف آخر ، وفي القيامة مواقف ، ففي موقف يقرون ، وفي موقف ينكرون . ( قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (137)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
الاية 31 إلى الاية39
( قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ( 31 ) وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ( 32 ) قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ( 33 ) )
( قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ) أي : خسروا أنفسهم بتكذيبهم المصير إلى الله بالبعث بعد الموت ، ( حتى إذا جاءتهم الساعة ) أي : القيامة ( بغتة ) أي : فجأة ، ( قالوا يا حسرتنا ) ندامتنا ، [ ذكر ] على وجه النداء للمبالغة ، وقال سيبويه : كأنه يقول : أيتها الحسرة هذا أوانك ( على ما فرطنا ) أي : قصرنا ( فيها ) أي : في الطاعة ، وقيل : تركنا في الدنيا من عمل الآخرة . [ ص: 139 ]
قال محمد بن جرير : الهاء راجعة إلى الصفقة ، وذلك أنه لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الآخرة بالدنيا قالوا : يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ، أي : في الصفقة [ فترك ذكر الصفقة ] اكتفاء بقوله ( قد خسر ) لأن الخسران إنما يكون في صفقة بيع ، والحسرة شدة الندم ، حتى يتحسر النادم ، كما يتحسر الذي تقوم به دابته في السفر البعيد ، ( وهم يحملون أوزارهم ) أثقالهم وآثامهم ، ( على ظهورهم ) قال السدي وغيره : إن المؤمن إذ أخرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحا فيقول له : هل تعرفني؟ فيقول : لا فيقول : أنا عملك الصالح فاركبني ، فقد طالما ركبتك في الدنيا ، فذلك قوله عز وجل : ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ) ( مريم ، 85 ) أي : ركبانا ، وأما الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا ، فيقول : هل تعرفني؟ فيقول : لا . فيقول : أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك ، فهذا معنى قوله : ( وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ) يحملون قال ابن عباس : بئس الحمل حملوا .
( وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ) باطل وغرور لا بقاء لها ( وللدار الآخرة ) قرأ ابن عامر ( ولدار الآخرة ) مضافا أضاف الدار إلى الآخرة ، ويضاف الشيء إلى نفسه عند اختلاف اللفظين ، كقوله : ( وحب الحصيد ) ، وقولهم : ربيع الأول ومسجد الجامع ، سميت الدنيا لدنوها ، وقيل : لدناءتها ، وسميت الآخرة لأنها بعد الدنيا ، ( خير للذين يتقون ) الشرك ، ( أفلا تعقلون ) أن الآخرة أفضل من الدنيا ، قرأ أهل المدينة وابن عامر ويعقوب ( أفلا تعقلون ) بالتاء هاهنا وفي الأعراف وسورة يوسف و " يس " ، ووافق أبو بكر في سورة يوسف ، ووافق حفص إلا في سورة " يس " ، وقرأ الآخرون بالياء فيهن .
قوله عز وجل : ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ) قال السدي : التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام ، فقال الأخنس لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري ، قال أبو جهل : والله إن محمدا لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية .
وقال ناجية بن كعب : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم لا نتهمك ولا نكذبك ، ولكنا نكذب الذي جئت [ ص: 140 ] به ، فأنزل الله تعالى : ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ) .
( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ) بأنك كاذب ، ( فإنهم لا يكذبونك ) قرأ نافع والكسائي بالتخفيف ، وقرأ الآخرون بالتشديد من التكذيب ، والتكذيب هو أن تنسبه إلى الكذب ، وتقول له : كذبت ، والإكذاب هو أن تجده كاذبا ، تقول العرب : أجدبت الأرض وأخصبتها إذا وجدتها جدبة ومخصبة ، ( ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) يقول : إنهم لا يكذبونك في السر لأنهم عرفوا صدقك فيما مضى ، وإنما يكذبون وحيي ويجحدون آياتي ، كما قال : " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " ( النمل ، 94 ) .
( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين ( 34 ) وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ( 35 ) )
( ولقد كذبت رسل من قبلك ) كذبهم قومهم كما كذبتك قريش ، ( فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ) بتعذيب من كذبهم ، ( ولا مبدل لكلمات الله ) لا ناقض لما حكم به ، وقد حكم في كتابه بنصر أنبيائه عليهم السلام ، فقال : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) ( الصافات ، 171 - 172 ) ، وقال : ( إنا لننصر رسلنا ) ( غافر ، 51 ) وقال : ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) ( المجادلة ، 21 ) ، وقال الحسن بن الفضل : لا خلف [ لعداته ] ( ولقد جاءك من نبأ المرسلين ) و ( من ) صلة كما تقول : أصابنا من مطر .
( وإن كان كبر عليك إعراضهم ) أي : عظم عليك وشق أن أعرضوا عن الإيمان بك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قومه أشد الحرص ، وكانوا إذ سألوا آية أحب أن يريهم الله تعالى ذلك طمعا في إيمانهم ، فقال الله عز وجل : ( فإن استطعت أن تبتغي نفقا ) تطلب وتتخد نفقا سربا [ ص: 141 ] ( وفي الأرض ) ومنه نافقاء اليربوع ، وهو أحد جحريه فيذهب فيه ، ( أو سلما ) أي : درجا ومصعدا ، ( في السماء ) فتصعد فيه ، ( فتأتيهم بآية ) فافعل ، ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) فآمنوا كلهم ، ( فلا تكونن من الجاهلين ) أي : بهذا الحرف ، وهو قوله : ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) وأن من يكفر لسابق علم الله فيه .
( إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ( 36 ) وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 37 ) وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ( 38 ) )
( إنما يستجيب الذين يسمعون ) يعني : المؤمنين الذين يسمعون الذكر فيتبعونه وينتفعون به دون من ختم الله على سمعه ، ( والموتى ) يعني الكفار ، ( يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ) فيجزيهم بأعمالهم .
قوله عز وجل : ( وقالوا ) يعني : رؤساء قريش ، ( لولا ) هلا ( نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ) ما عليهم في إنزالها .
قوله عز وجل : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ) قيد الطيران بالجناح تأكيدا كما يقال نظرت بعيني وأخذت بيدي ، ( إلا أمم أمثالكم ) قال مجاهد : أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يريد أن كل جنس من الحيوان أمة ، فالطير أمة ، والدواب أمة ، والسباع أمة ، تعرف بأسمائها ، مثل بني آدم ، يعرفون بأسمائهم ، يقال : الإنس والناس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا المبارك هو ابن فضالة عن الحسن عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها ، فاقتلوا منها كل أسود بهيم ) . [ ص: 142 ]
وقيل : أمم أمثالكم : يفقه بعضهم عن بعض ، وقيل : أمم أمثالكم في الخلق والموت والبعث ، وقال عطاء : أمم أمثالكم في التوحيد والمعرفة ، قال ابن قتيبة : أمم أمثالكم في الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك .
( ما فرطنا في الكتاب ) أي : في اللوح المحفوظ ، ( من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) قال ابن عباس والضحاك : حشرها موتها ، وقال أبو هريرة : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير ، وكل شيء فيأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كوني ترابا فحينئذ يتمنى الكافر ويقول : ( يا ليتني كنت ترابا ) .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء " .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (138)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
الاية 40 إلى الاية50
( والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ( 39 ) قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ( 40 ) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ( 41 ) ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ( 42 ) فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ( 43 ) )
قوله عز وجل : ( والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم ) لا يسمعون الخير ولا يتكلمون به ، ( في الظلمات ) في ضلالات الكفر ، ( من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) وهو الإسلام .
قوله تعالى : ( قل أرأيتكم ) هل رأيتم؟ والكاف فيه للتأكيد ، وقال الفراء : العرب تقول أرأيتك ، وهم يريدون أخبرنا ، كما يقول : أرأيتك إن فعلت كذا ماذا تفعل؟ أي : أخبرني ، وقرأ أهل [ ص: 143 ] المدينة " أرايتكم ، وأرايتم ، وأرايت " بتليين الهمزة الثانية ، والكسائي بحذفها ، قال ابن عباس : قل يا محمد لهؤلاء المشركين أرأيتكم ، ( إن أتاكم عذاب الله ) قبل الموت ، ( أو أتتكم الساعة ) يعني : القيامة ، ( أغير الله تدعون ) في صرف العذاب عنكم ، ( إن كنتم صادقين ) وأراد أن الكفار يدعون الله في أحوال الاضطرار كما أخبر الله عنهم : ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ) ( لقمان ، 32 ) .
ثم قال : ( بل إياه تدعون ) أي : تدعون الله ولا تدعون غيره ، ( فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ) قيد الإجابة بالمشيئة [ والأمور كلها بمشيئته ] ( وتنسون ) وتتركون ، ( ما تشركون )
( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء ) بالشدة والجوع ، ( والضراء ) المرض والزمانة ، ( لعلهم يتضرعون ) أي يتوبون ويخضعون ، والتضرع السؤال بالتذلل .
( فلولا ) فهلا ( إذ جاءهم بأسنا ) عذابنا ، ( تضرعوا ) فآمنوا فكشف عنهم ، أخبر الله عز وجل أنه قد أرسل إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أنهم أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا ، فذلك قوله : ( ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) من الكفر والمعاصي .
( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ( 44 ) ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ( 45 ) قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ( 46 ) )
( فلما نسوا ما ذكروا به ) تركوا ما وعظوا وأمروا به ، ( فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) قرأ أبو جعفر ، " فتحنا " بالتشديد ، في كل القرآن ، وقرأ ابن عامر ، كذلك ، إذا كان عقيبه جمع والباقون بالتخفيف ، وهذا فتح استدراج ومكر ، أي : بدلنا مكان البلاء والشدة الرخاء والصحة ، ( حتى إذا فرحوا بما أوتوا ) وهذا فرح بطر مثل فرح قارون بما أصاب من الدنيا ، ( أخذناهم بغتة ) فجأة آمن ما كانوا ، وأعجب ما كانت الدنيا إليهم ، ( فإذا هم مبلسون ) آيسون من كل خير ، وقال أبو عبيدة : [ ص: 144 ] المبلس النادم الحزين ، وأصل الإبلاس : الإطراق من الحزن والندم ، وروى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته ، فإنما ذلك استدراج ) ، ثم تلا " فلما نسوا ما ذكروا به " الآية .
( فقطع دابر القوم الذين ظلموا ) أي : آخرهم [ الذين بدبرهم ، يقال : دبر فلان القوم يدبرهم دبرا ودبورا إذا كان آخرهم ] ومعناه أنهم استؤصلوا بالعذاب فلم يبق منهم باقية ، ( والحمد لله رب العالمين ) حمد الله نفسه على أن قطع دابرهم لأنه نعمة على الرسل ، فذكر الحمد لله تعليما لهم ولمن آمن بهم ، أن يحمدوا الله على كفايته شر الظالمين ، وليحمد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ربهم إذا أهلك المكذبين .
قوله تعالى : ( قل أرأيتم ) أيها المشركون ، ( إن أخذ الله سمعكم ) حتى لا تسمعوا شيئا أصلا ( وأبصاركم ) حتى لا تبصروا شيئا ، ( وختم على قلوبكم ) حتى لا تفقهوا شيئا ولا تعرفوا مما تعرفون من أمور الدنيا ، ( من إله غير الله يأتيكم به ) ولم يقل بها مع أنه ذكر أشياء ، قيل : معناه يأتيكم بما أخذ منكم ، وقيل : الكناية ترجع إلى السمع الذي ذكر أولا ويندرج غيره تحته ، كقوله تعالى : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) ( التوبة ، 62 ) . فالهاء راجعة إلى الله ، ورضى رسوله يندرج في رضى الله تعالى ، ( انظر كيف نصرف الآيات ) أي : نبين لهم العلامات الدالة على التوحيد والنبوة ، ( ثم هم يصدفون ) يعرضون عنها مكذبين .
( قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ( 47 ) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 48 ) والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ( 49 ) قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ( 50 ) )
( قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة ) فجأة ، ( أو جهرة ) معاينة ترونه عند نزوله ، قال [ ص: 145 ] ابن عباس والحسن ليلا أو نهارا ، ( هل يهلك إلا القوم الظالمون ) المشركون .
قوله عز وجل : ( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح ) العمل ، ( فلا خوف عليهم ) حين يخاف أهل النار ، ( ولا هم يحزنون ) إذا حزنوا .
( والذين كذبوا بآياتنا يمسهم ) يصيبهم ( العذاب بما كانوا يفسقون ) يكفرون .
( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ) نزل حين اقترحوا الآيات فأمره أن يقول لهم : ( لا أقول لكم عندي خزائن الله ) أي خزائن رزقه فأعطيكم ما تريدون ، ( ولا أعلم الغيب ) فأخبركم بما غاب مما مضى ومما سيكون ، ( ولا أقول لكم إني ملك ) قال ذلك لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه الآدمي ويشاهد ما لا يشاهده الآدمي ، يريد لا أقول لكم شيئا من ذلك فتنكرون قولي وتجحدون أمري ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) أي : ما آتيكم به فمن وحي الله تعالى ، وذلك غير مستحيل في العقل مع قيام الدليل والحجج البالغة ، ( قل هل يستوي الأعمى والبصير ) ؟ قال قتادة : الكافر والمؤمن ، وقال مجاهد : الضال والمهتدي ، وقيل : الجاهل والعالم ، ( أفلا تتفكرون ) أي : أنهما لا يستويان .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (139)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
الاية 51 إلى الاية56
( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ( 51 ) ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ( 52 ) )
قوله عز وجل : ( وأنذر به ) خوف به أي : بالقرآن ، ( الذين يخافون أن يحشروا ) يجمعوا ويبعثوا إلى ربهم ، وقيل : يخافون أي يعلمون ، لأن خوفهم إنما كان من علمهم ، ( ليس لهم من دونه ) من دون الله ، ( ولي ) قريب ينفعهم ، ( ولا شفيع ) يشفع لهم ، ( لعلهم يتقون ) فينتهون عما نهوا عنه ، وإنما نفى الشفاعة لغيره - مع أن الأنبياء والأولياء يشفعون - لأنهم لا يشفعون إلا بإذنه .
( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) قرأ ابن عامر " بالغدوة " بضم الغين وسكون الدال وواو بعدها ، هاهنا وفي سورة الكهف ، وقرأ الآخرون : بفتح العين والدال وألف بعدها . [ ص: 146 ]
قال سلمان وخباب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية ، جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وذووهم من المؤلفة قلوبهم ، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المؤمنين ، فلما رأوهم حوله حقروهم ، فأتوه فقالوا : يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم - وكان عليهم جباب صوف لم يكن عليهم غيرها - لجالسناك وأخذنا عنك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم : " ما أنا بطارد المؤمنين " قالوا فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف به العرب فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا فرغنا فاقعد معهم إن شئت ، قال : نعم ، قالوا : اكتب لنا عليك بذلك كتابا ، قال : فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب ، قالوا ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بقوله : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) إلى قوله : ( بالشاكرين ) فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ، ثم دعانا فأثبته ، وهو يقول : ( سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ) ، فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله عز وجل : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) ( الكهف ، 28 ) ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد وندنو منه حتى كادت ركبنا تمس ركبته ، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم ، وقال لنا : " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي ، معكم المحيا ومعكم الممات " .
وقال الكلبي : قالوا له اجعل لنا يوما ولهم يوما ، فقال : لا أفعل ، قالوا : فاجعل المجلس واحدا فأقبل إلينا وول ظهرك عليهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي )
قال مجاهد : قالت قريش : لولا بلال وابن أم عبد لبايعنا محمدا ، فأنزل الله هذه الآية : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) قال ابن عباس : يعني يعبدون ربهم بالغداة والعشي ، يعني : صلاة الصبح وصلاة العصر ، ويروى عنه : أن المراد منه الصلوات الخمس ، وذلك أن أناسا من الفقراء كانوا مع النبي عليه السلام ، فقال ناس من الأشراف : إذا صلينا فأخر هؤلاء فليصلوا خلفنا ، فنزلت الآية . وقال مجاهد : صليت الصبح مع سعيد بن المسيب ، فلما سلم الإمام ابتدر [ ص: 147 ] الناس القاص ، فقال سعيد : ما أسرع الناس إلى هذا المجلس! قال مجاهد : فقلت يتأولون قوله تعالى ( يدعون ربهم بالغداة والعشي ) قال : أفي هذا هو ، إنما ذلك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن ، وقال إبراهيم النخعي : يعني يذكرون ربهم ، وقيل المراد منه : حقيقة الدعاء ، ( يريدون وجهه ) أي : يريدون الله بطاعتهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يطلبون ثواب الله فقال : ( ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء ) أي : لا تكلف أمرهم ولا يتكلفون أمرك ، وقيل : ليس رزقهم عليك فتملهم ، ( فتطردهم ) ولا رزقك عليهم ، قوله ( فتطردهم ) جواب لقوله ( ما عليك من حسابهم من شيء ) وقوله : ( فتكون من الظالمين ) جواب لقوله ( ولا تطرد ) أحدهما جواب النفي والآخر جواب النهي .
( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ( 53 ) وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ( 54 ) )
قوله عز وجل : ( وكذلك فتنا ) أي : ابتلينا ، ( بعضهم ببعض ) أراد ابتلاء الغني بالفقير والشريف بالوضيع ، وذلك أن الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد سبقه بالإيمان امتنع من الإسلام بسببه فكان فتنة له فذلك قوله : ( ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) فقال الله تعالى : ( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) فهو جواب لقوله ( أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) فهو استفهام بمعنى التقرير ، أي : الله أعلم بمن شكر الإسلام إذ هداه الله عز وجل .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو بن بسطام ثنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي أنا مسدد أنا جعفر بن سليمان عن المعلى بن زياد عن العلاء بن بشير المزني عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال : جلست في نفر من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري ، وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام علينا ، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت القارئ ، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " ما كنتم تصنعون؟ قلنا يا رسول الله كان قارئ يقرأ علينا فكنا نستمع إلى كتاب الله تعالى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله [ ص: 148 ] الذي جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم " قال : ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتحلقوا ، وبرزت وجوههم له ، قال فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحدا غيري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة " .
قوله عز وجل : ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ) قال عكرمة : نزلت في الذين نهى الله عز وجل نبيه عن طردهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام .
وقال عطاء : نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم وأبي عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهم أجمعين .
( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) أي : قضى على نفسه الرحمة ، ( أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ) قال مجاهد : لا يعلم حلالا من حرام فمن جهالته ركب الذنب ، وقيل : جاهل بما يورثه ذلك الذنب ، وقيل : جهالته من حيث أنه آثر المعصية على الطاعة والعاجل القليل على الآجل الكثير ، ( ثم تاب من بعده ) رجع عن ذنبه ، ( وأصلح ) عمله ، قيل : أخلص توبته ، ( فإنه غفور رحيم ) قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب " أنه من عمل منكم " " فأنه غفور رحيم " بفتح الألف فيهما بدلا من الرحمة ، أي : كتب على نفسه أنه من عمل منكم ، ثم جعل الثانية بدلا عن الأولى ، كقوله تعالى : " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون " ، ( المؤمنون ، 35 ) ، وفتح أهل المدينة الأولى منهما وكسروا الثانية على الاستئناف ، وكسرهما الآخرون على الاستئناف .
( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ( 55 ) قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ( 56 ) )
( وكذلك نفصل الآيات ) أي : وهكذا ، وقيل : معناه وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا [ ص: 149 ] وإعلامنا على المشركين كذلك نفصل الآيات ، أي : نميز ونبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل ، ( ولتستبين سبيل المجرمين ) أي : طريق المجرمين ، وقرأ أهل المدينة " ولتستبين " بالتاء ، " سبيل " نصب على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أي : ولتعرف يا محمد سبيل المجرمين ، يقال : استبنت الشيء وتبينته إذا عرفته ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر " وليستبين " بالياء " سبيل " بالرفع ، وقرأ الآخرون ( ولتستبين ) بالتاء " سبيل " رفع ، أي : ليظهر ويتضح السبيل ، يذكر ويؤنث ، فدليل التذكير قوله تعالى : " وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا " ( الأعراف ، 146 ) ، ودليل التأنيت قوله تعالى : " لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا " ( آل عمران ، 99 ) .
قوله عز وجل : ( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم ) في عبادة الأوثان وطرد الفقراء ، ( قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ) يعني : إن فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق وسلكت غير طريق الهدى .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (140)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
الاية 57 إلى الاية65
( قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين ( 57 ) قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين ( 58 ) )
( قل إني على بينة ) أي : على بيان وبصيرة وبرهان ، ( من ربي وكذبتم به ) أي : ما جئت به ، ( ما عندي ما تستعجلون به ) قيل : أراد به استعجالهم العذاب ، كانوا يقولون : " إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة " ( الأنفال ، 32 ) الآية ، قيل : أراد به القيامة ، قال الله تعالى : " يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها " ( الشورى ، 18 ) ، ( إن الحكم إلا لله يقص الحق ) قرأ أهل الحجاز وعاصم يقص بضم القاف والصاد مشددا أي يقول الحق ، لأنه في جميع المصاحف بغير ياء ، ولأنه قال الحق ولم يقل بالحق ، وقرأ الآخرون ( يقضي ) بسكون القاف والضاد مكسورة ، من قضيت ، أي : يحكم بالحق بدليل أنه قال : ( وهو خير الفاصلين ) والفصل يكون في القضاء وإنما حذفوا الياء لاستثقال الألف واللام ، كقوله تعالى : ( صال الجحيم ) ونحوها ، ولم يقل بالحق لأن الحق صفة المصدر ، كأنه قال : يقضي القضاء الحق .
( قل لو أن عندي ) وبيدي ، ( ما تستعجلون به ) من العذاب ( لقضي الأمر بيني وبينكم ) [ ص: 150 ] أي : فرغ من العذاب [ وأهلكتم ] أي : لعجلته حتى أتخلص منكم ، ( والله أعلم بالظالمين ) .
( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ( 59 ) ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ( 60 ) )
قوله عز وجل : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) مفاتح الغيب خزائنه ، جمع مفتح .
واختلفوا في مفاتح الغيب ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول : قال رسول الله : " مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، لا يعلم ما تغيض الأرحام أحد إلا الله تعالى ، [ ولا يعلم ما في الغد إلا الله عز وجل ] ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله " .
وقال الضحاك ومقاتل : مفاتح الغيب خزائن الأرض ، وعلم نزول العذاب .
وقال عطاء : ما غاب عنكم من الثواب والعقاب .
وقيل : انقضاء الآجال ، وقيل : أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم ، وقيل : هي ما لم يكن بعد ، أنه يكون أم لا يكون ، وما يكون كيف يكون ، وما لا يكون أن لو كان كيف يكون؟ وقال ابن مسعود : " أوتي نبيكم علم كل شيء إلا علم مفاتيح الغيب " . [ ص: 151 ]
( ويعلم ما في البر والبحر ) قال مجاهد : البر : المفاوز والقفار ، والبحر : القرى والأمصار ، لا يحدث فيهما شيء إلا يعلمه ، وقيل : هو البر والبحر المعروف ، ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ) يريد ساقطة وثابتة ، يعني : يعلم عدد ما يسقط من ورق الشجر وما يبقى عليه ، وقيل : يعلم كم انقلبت ظهرا لبطن إلى أن سقطت على الأرض ، ( ولا حبة في ظلمات الأرض ) قيل : هو الحب المعروف في بطون الأرض ، وقيل : هو تحت الصخرة في أسفل الأرضين ، ( ولا رطب ولا يابس ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : الرطب : الماء ، واليابس : البادية ، وقال عطاء : يريد ما ينبت وما لا ينبت ، وقيل : ولا حي ولا ميت ، وقيل : هو عبارة عن كل شيء ، ( إلا في كتاب مبين ) يعني أن الكل مكتوب في اللوح المحفوظ .
قوله تعالى : ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ) أي : يقبض أرواحكم إذا نمتم بالليل ، ( ويعلم ما جرحتم ) كسبتم ، ( بالنهار ثم يبعثكم فيه ) أي : يوقظكم في النهار ، ( ليقضى أجل مسمى ) يعني : أجل الحياة إلى الممات ، يريد استيفاء العمر على التمام ، ( ثم إليه مرجعكم ) في الآخرة ، ( ثم ينبئكم ) يخبركم ، ( بما كنتم تعملون ) .
( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ( 61 ) ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ( 62 ) قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ( 63 ) )
قوله عز وجل : ( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ) يعني : الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ، وهو جمع حافظ ، نظيره " وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين " ( الانفطار ، 11 ) ، ( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته ) قرأ حمزة ( توفيه ) و ( استهويه ) بالياء وأمالهما ، ( رسلنا ) يعني : [ ص: 152 ] أعوان ملك الموت يقبضونه فيدفعونه إلى ملك الموت فيقبض روحه ، كما قال : ( قل يتوفاكم ملك الموت ) ، وقيل الأعوان يتوفونه بأمر ملك الموت ، فكأن ملك الموت توفاه لأنهم يصدرون عن أمره ، وقيل : أراد بالرسل ملك الموت وحده ، فذكر الواحد بلفظ الجمع ، وجاء في الأخبار : أن الله تعالى جعل الدنيا بين يدي ملك الموت كالمائدة الصغيرة فيقبض من هاهنا ومن هاهنا فإذا كثرت الأرواح يدعو الأرواح فتجيب له ، ( وهم لا يفرطون ) لا يقصرون .
( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ) يعني : الملائكة ، وقيل : يعني العباد يردون بالموت إلى الله مولاهم الحق ، فإن قيل الآية في المؤمنين والكفار جميعا وقد قال في آية أخرى : " وأن الكافرين لا مولى لهم " ( محمد ، 11 ) ، فكيف وجه الجمع؟ فقيل : المولى في تلك الآية بمعنى الناصر ولا ناصر للكفار ، والمولى هاهنا بمعنى الملك الذي يتولى أمورهم ، والله عز وجل مالك الكل ومتولي الأمور ، وقيل : أراد هنا المؤمنين خاصة يردون إلى مولاهم ، والكفار فيه تبع ، ( ألا له الحكم ) أي : القضاء دون خلقه ، ( وهو أسرع الحاسبين ) أي : إذا حاسب فحسابه سريع لأنه لا يحتاج إلى فكرة وروية وعقد يد .
قوله عز وجل : ( قل من ينجيكم ) قرأ يعقوب بالتخفيف ، وقرأ العامة بالتشديد ، ( من ظلمات البر والبحر ) أي : من شدائدهما وأهوالهما ، كانوا إذا سافروا في البر والبحر فضلوا الطريق وخافوا الهلاك ، دعوا الله مخلصين له الدين فينجيهم ، فذلك قوله تعالى : ( تدعونه تضرعا وخفية ) أي : علانية وسرا ، قرأ أبو بكر عن عاصم " وخفية " بكسر الخاء هاهنا وفي الأعراف ، وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان ، ( لئن أنجانا ) أي : يقولون لئن أنجيتنا ، وقرأ أهل الكوفة : لئن أنجانا الله ، ( من هذه ) يعني : من هذه الظلمات ، ( لنكونن من الشاكرين ) والشكر : هو معرفة النعمة مع القيام بحقها .
( قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ( 64 ) قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ( 65 ) )
( قل الله ينجيكم منها ) قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر " ينجيكم " بالتشديد ، مثل قوله تعالى : [ ص: 153 ] " قل من ينجيكم " وقرأ الآخرون هذا بالتخفيف ، ( ومن كل كرب ) والكرب غاية الغم الذي يأخذ بالنفس ، ( ثم أنتم تشركون ) يريد أنهم يقرون أن الذي يدعونه عند الشدة هو الذي ينجيهم ثم تشركون معه الأصنام التي قد علموا أنها لا تضر ولا تنفع .
قوله عز وجل : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ) قال الحسن وقتادة : نزلت الآية في أهل الإيمان ، وقال قوم نزلت في المشركين .
قوله ( عذابا من فوقكم ) يعني : الصيحة والحجارة والريح والطوفان ، كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح ، ( أو من تحت أرجلكم ) يعني : الرجفة والخسف كما فعل بقوم شعيب وقارون .
وعن ابن عباس ومجاهد : ( عذابا من فوقكم ) : السلاطين الظلمة ، ومن تحت أرجلكم : العبيد السوء ، وقال الضحاك : ( من فوقكم ) من قبل كباركم ( أو من تحت أرجلكم ) أي من أسفل منكم ، ( أو يلبسكم شيعا ) أي : يخلطكم فرقا ويبث فيكم الأهواء المختلفة ، ( ويذيق بعضكم بأس بعض ) يعني : السيوف المختلفة ، يقتل بعضكم بعضا .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو النعمان أنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر قال : لما نزلت هذه الآية ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعوذ بوجهك " ، قال : ( أو من تحت أرجلكم ) قال : " أعوذ بوجهك " ، قال : ( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا أهون أو هذا أيسر " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا أبو جعفر محمد بن علي دحيم الشيباني أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة أنا يعلى بن عبيد الطنافسي أنا عثمان بن حكيم عن عامر بن سعد بن وقاص عن أبيه ، قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية فدخل فصلى ركعتين وصلينا معه فناجى ربه طويلا ثم قال : سألت ربي ثلاثا : سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعنيها " [ ص: 154 ]
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن دلويه الدقاق ثنا محمد بن إسماعيل البخاري ثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أخي عن سليمان بن بلال عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري أن عبد الله بن عمر جاءهم ثم قال : " إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد فسأل الله ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة ، سأله أن لا يسلط على أمته عدوا من غيرهم يظهر عليهم فأعطاه ذلك ، وسأله أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأس بعضهم على بعض ، فمنعه ذلك " .
قوله عز وجل : ( انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (141)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
الاية 66 إلى الاية73
( وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل ( 66 ) لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون ( 67 ) وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ( 68 ) ( وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون ( 69 ) )
( وكذب به قومك ) أي : بالقرآن ، وقيل : بالعذاب ، ( وهو الحق قل لست عليكم بوكيل ) برقيب ، وقيل : بمسلط ألزمكم الإسلام شئتم أو أبيتم ، إنما أنا رسول .
( لكل نبأ ) خبر من أخبار القرون ( مستقر ) حقيقة ومنتهى ينتهي إليه فيتبين صدقه من كذبه وحقه من باطله ، إما في الدنيا وإما في الآخرة ، ( وسوف تعلمون ) وقال مقاتل : لكل خبر يخبره الله وقت [ وقته ] ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير ، وقال الكلبي : [ لكل ] قول وفعل حقيقة ، إما في الدنيا وإما في الآخرة وسوف تعلمون ما كان في الدنيا فستعرفونه وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم . [ ص: 155 ]
قوله عز وجل : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا ) يعني : في القرآن بالاستهزاء ( فأعرض عنهم ) فاتركهم [ ولا تجالسهم ] ( حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك ) قرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد السين وقرأ الآخرون بسكون النون وتخفيف السين ، ( الشيطان ) نهينا ، ( فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) يعني : إذا جلست معهم ناسيا فقم من عندهم بعدما تذكرت .
( وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ) روي عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم ) قال المسلمون : كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا؟ وفي رواية قال المسلمون : فإنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم ، فأنزل الله عز وجل : ( وما على الذين يتقون ) الخوض ، ( من حسابهم ) أي : من آثام الخائضين ( من شيء ولكن ذكرى ) أي : ذكروهم وعظوهم بالقرآن ، والذكر والذكرى واحد ، يريد ذكروهم ذكري ، فتكون في محل النصب ، ( لعلهم يتقون ) الخوض إذا وعظتموهم فرخص في مجالستهم على الوعظ لعله يمنعهم من ذلك الخوض ، وقيل : لعلهم يستحيون .
( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ( 70 ) قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين ( 71 ) )
قوله عز وجل : ( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ) يعني : الكفار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزءوا بها وتلاعبوا عند ذكرها ، وقيل : إن الله تعالى جعل لكل قوم عيدا فاتخذ كل قوم دينهم - أي : عيدهم - لعبا ولهوا ، وعيد المسلمين الصلاة والتكبير وفعل الخير مثل الجمعة والفطر والنحر ، ( وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به ) أي : وعظ بالقرآن ، ( أن تبسل ) أي : لأن لا تبسل ، أي : لا [ ص: 156 ] تسلم ، ( نفس ) للهلاك ، ( بما كسبت ) قاله مجاهد وعكرمة والسدي ، وقال ابن عباس : تهلك ، وقال قتادة : أن تحبس ، وقال الضحاك : تحرق ، وقال ابن زيد : تؤخذ ، ومعناه : ذكرهم ليؤمنوا ، كيلا تهلك نفس بما كسبت ، قال الأخفش : تبسل تجازى ، وقيل : تفضح ، وقال الفراء : ترتهن ، وأصل الإبسال التحريم ، والبسل الحرام ، ثم جعل نعتا لكل شدة تتقى وتترك ، ( ليس لها ) أي لتلك النفس ، ( من دون الله ولي ) قريب ، ( ولا شفيع ) يشفع في الآخرة ، ( وإن تعدل كل عدل ) أي : تفد كل فداء ، ( لا يؤخذ منها ( أولئك الذين أبسلوا ) أسلموا للهلاك ، ( بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون )
( قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ) إن عبدناه ، ( ولا يضرنا ) إن تركناه ، يعني : الأصنام ليس إليها نفع ولا ضر ، ( ونرد على أعقابنا ) إلى الشرك [ مرتدين ] ( بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض ) ، أي : يكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين ، أي : أضلته ، ( حيران ) قال ابن عباس : كالذي استهوته الغيلان في المهامة فأضلوه فهو حائر بائر ، والحيران : المتردد في الأمر ، لا يهتدي إلى مخرج منه ، ( له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ) هذا مثل ضربه الله تعالى لمن يدعو إلى الآلهة ولمن يدعو إلى الله تعالى ، كمثل رجل في رفقة ضل به الغول عن الطريق يدعوه أصحابه من أهل الرفقة هلم إلى الطريق ، ويدعوه الغول [ هلم ] فيبقى حيران لا يدري أين يذهب ، فإن أجاب الغول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة ، وإن أجاب من يدعوه إلى الطريق اهتدى .
( قل إن هدى الله هو الهدى ) يزجر عن عبادة الأصنام ، كأنه يقول : لا تفعل ذلك فإن الهدى هدى الله ، لا هدى غيره ، ( وأمرنا لنسلم ) أي : أن نسلم ، ( لرب العالمين ) والعرب تقول : أمرتك لتفعل وأن تفعل وبأن تفعل .
( وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون ( 72 ) وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ( 73 ) )
( وأن أقيموا الصلاة واتقوه ) أي : وأمرنا بإقامة الصلاة والتقوى ، ( وهو الذي إليه تحشرون ) [ ص: 157 ] أي : تجمعون في الموقف للحساب .
( وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ) قيل : الباء بمعنى اللام ، أي : إظهارا للحق لأنه جعل صنعه دليلا على وحدانيته ، ( ويوم يقول كن فيكون ) قيل : هو راجع إلى خلق السموات والأرض والخلق بمعنى : القضاء والتقدير ، أي كل شيء قضاه وقدره قال له : كن ، فيكون .
وقيل : يرجع إلى القيامة ، يدل على سرعة أمر البعث والساعة ، كأنه قال : ويوم يقول للخلق : موتوا فيموتون ، وقوموا فيقومون ، ( قوله الحق ) أي : الصدق الواقع لا محالة ، يريد أن ما وعده حق كائن ، ( وله الملك يوم ينفخ في الصور ) يعني : ملك الملوك يومئذ زائل ، كقوله : " مالك يوم الدين " ، وكما قال : " والأمر يومئذ لله " ، والأمر له في كل وقت ، ولكن لا أمر في ذلك اليوم لأحد مع أمر الله ، والصور : قرن ينفخ فيه ، قال مجاهد : كهيئة البوق ، وقيل : هو بلغة أهل اليمن ، وقال أبو عبيدة : الصور هو الصور وهو جمع الصورة ، وهو قول الحسن : والأول أصح .
والدليل عليه ما أخبرنا محمد بن عبد الله [ بن أبي توبة أنا أبو طاهر المحاربي أنا محمد بن يعقوب الكسائي أنا أبو عبد الله ] بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن سليمان التيمي عن أسلم عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما الصور؟ قال : " قرن ينفخ فيه " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنا أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله الصفار أنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي أنا أبو حذيفة أنا سفيان عن الأعمش عن عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كيف أنعم وصاحب الصور قد التقمه ، وأصغى سمعه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر " ؟ فقالوا : يا رسول الله وما تأمرنا؟ قال : " قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل " .
وقال أبو العلاء عن عطية : متى يؤمر بالنفخ فينفخ . [ ص: 158 ]
( عالم الغيب والشهادة ) يعلم ما غاب عن العباد وما يشاهدونه ، لا يغيب عن علمه شيء ، ( وهو الحكيم الخبير ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (142)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
الاية 74 إلى الاية79
( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ( 74 ) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين ( 75 ) فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ( 76 ) )
قوله عز وجل : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ) قرأ يعقوب " آزر " بالرفع ، يعني : " آزر " والقراءة المعروفة بالنصب ، وهو اسم أعجمي لا ينصرف فينتصب في موضع الخفض .
قال محمد بن إسحاق والضحاك والكلبي : آزر اسم أبي إبراهيم وهو تارخ أيضا مثل إسرائيل ويعقوب وكان من كوثى قرية من سواد الكوفة ، وقال مقاتل بن حيان وغيره : آزر لقب لأبي إبراهيم ، واسمه تارخ
وقال سليمان التيمي : هو سب وعيب ، ومعناه في كلامهم المعوج ، وقيل : معناه الشيخ الهم بالفارسية ، وقال سعيد بن المسيب ومجاهد : آزر اسم صنم ، فعلى هذا يكون في محل النصب تقديره أتتخذ آزر إلها ، قوله ( أصناما آلهة ) دون الله ، ( إني أراك وقومك في ضلال مبين )
( ملكوت السموات والأرض ) أي : كما أريناه البصيرة في دينه ، والحق في خلاف قومه ، نريه ( ملكوت السموات والأرض ) والملكوت : الملك ، زيدت فيه التاء للمبالغة ، كالجبروت والرحموت والرهبوت ، قال ابن عباس : يعني خلق السموات والأرض ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير : يعني آيات السموات والأرض ، وذلك أنه أقيم على صخر وكشف له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين ونظر إلى مكانه في الجنة ، فذلك قوله تعالى : " وآتيناه أجره في الدنيا " يعني : أريناه مكانه في الجنة .
وروي عن سلمان رضي الله عنه ، ورفعه بعضهم [ عن علي رضي الله عنه ] لما أري إبراهيم [ ص: 159 ] ملكوت السموات والأرض أبصر رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك ، ثم أبصر آخر فدعا عليه فهلك ، ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال له الرب عز وجل : " يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة ، فلا تدعون على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خصال إما أن يتوب فأتوب عليه ، وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني ، وإما أن يبعث إلي فإن شئت عفوت عنه ، وإن شئت عاقبته " وفي رواية : " وإما أن يتولى فإن جهنم من ورائه " .
وقال قتادة : ملكوت السموات : الشمس والقمر والنجوم ، وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار . ( وليكون من الموقنين ) عطف على المعنى ، ومعناه : نريه ملكوت السموات والأرض ، ليستدل به وليكون من الموقنين .
( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا ) الآية ، قال أهل التفسير : ولد إبراهيم عليه السلام في زمن نمرود بن كنعان ، وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته ، وكان له كهان ومنجمون ، فقالوا له : إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه ، يقال : إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام .
وقال السدي : رأى نمرود في منامه كأن كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ، ففزع من ذلك فزعا شديدا ، فدعا السحرة والكهنة فسألهم عن ذلك ، فقالوا : هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة ، فيكون هلاكك وهلاك ملكك وأهل بيتك على يديه ، قالوا : فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة ، وأمر بعزل الرجال عن النساء ، وجعل على كل عشرة رجال رجلا فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها ، لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض ، فإذا طهرت حال بينهما ، فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها ، فحملت بإبراهيم عليه السلام .
وقال محمد بن إسحاق : بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقرية ، فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم عليه السلام ، فإنه لم يعلم بحبلها لأنها كانت جارية حديثة السن ، لم يعرف الحبل في بطنها .
وقال السدي : خرج نمرود بالرجال إلى معسكر ونحاهم عن النساء تخوفا من ذلك المولود أن [ ص: 160 ] يكون ، فمكث بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة إلى المدينة ، فلم يأتمن عليها أحدا من قومه إلا آزر ، فبعث إليه ودعاه وقال له : إن لي حاجة أحببت أن أوصيك بها ولا أبعثك إلا لثقتي بك ، فأقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك ، فقال آزر : أنا أشح على ديني من ذلك ، فأوصاه بحاجته ، فدخل المدينة وقضى حاجته ، ثم قال : لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر إلى أم إبراهيم عليه السلام لم يتمالك حتى واقعها ، فحملت بإبراهيم عليه السلام .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود : إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة ، فأمر نمرود بذبح الغلمان ، فلما دنت ولادة أم إبراهيم عليه السلام وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها ، فوضعته في نهر يابس ثم لفته في خرقة ووضعته في حلفاء ، فرجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت ، وأن الولد في موضع كذا وكذا فانطلق أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سربا عند نهر ، فواراه فيه وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع ، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه .
وقال محمد بن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم عليه السلام وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ، ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه لتنظر ما فعل فتجده حيا يمص إبهامه .
قال أبو روق : وقالت أم إبراهيم ذات يوم لأنظرن إلى أصابعه ، فوجدته يمص من أصبع ماء ، ومن أصبع لبنا ، ومن أصبع عسلا ومن أصبع تمرا ، ومن أصبع سمنا .
وقال محمد بن إسحاق : كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل؟ فقالت : ولدت غلاما فمات ، فصدقها فسكت عنها ، وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرا حتى قال لأمه أخرجيني فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض ، وقال : إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي الذي ما لي إله غيره ، ثم نظر إلى السماء فرأى كوكبا فقال : هذا ربي ، ثم أتبعه بصره لينظر إليه حتى غاب ، فلما أفل ، قال : لا أحب الآفلين ، ثم رأى القمر بازغا قال هذا ربي وأتبعه ببصره حتى غاب ، ثم طلعت الشمس هكذا إلى آخره ، ثم رجع إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم ينادهم بذلك ، فأخبره أنه ابنه وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه ، وأخبرته بما كانت صنعت في شأنه فسر آزر بذلك وفرح فرحا شديدا . [ ص: 161 ]
وقيل : إنه كان في السرب سبع سنين ، وقيل : ثلاث عشرة سنة ، وقيل : سبع عشرة سنة ، قالوا : فلما شب إبراهيم عليه السلام ، وهو في السرب قال لأمه : من ربي؟ قالت : أنا ، قال : فمن ربك؟ قالت : أبوك ، قال : فمن رب أبي؟ قالت : نمرود ، قال : فمن ربه؟ قالت له : اسكت فسكت ، ثم رجعت إلى زوجها ، فقالت : أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك ، ثم أخبرته بما قال ، فأتاه أبوه آزر ، فقال له إبراهيم عليه السلام : يا أبتاه من ربي؟ قال : أمك ، قال : ومن رب أمي؟ قال : أنا قال : ومن ربك؟ قال : نمرود قال : فمن رب نمرود؟ فلطمه لطمة وقال له : اسكت فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فأبصر كوكبا ، قال : هذا ربي .
ويقال : إنه قال لأبويه أخرجاني فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس ، فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم ، فسأل أباه ما هذه؟ فقال : إبل وخيل وغنم ، فقال : ما لهذه بد من أن يكون لها رب وخالق ، ثم نظر فإذا المشتري قد طلع ، ويقال : الزهرة ، وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فتأخر طلوع القمر فيها ، فرأى الكوكب قبل القمر ، فذلك قوله عز وجل : ( فلما جن عليه الليل ) أي : دخل ، يقال : جن الليل وأجن الليل ، وجنه الليل ، وأجن عليه الليل يجن جنونا وجنانا إذا أظلم وغطى كل شيء ، وجنون الليل سواده ، ( رأى كوكبا ) قرأ أبو عمرو ( رأى ) بفتح الراء وكسر الألف ، ويكسرهما ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ، فإن اتصل بكاف أو هاء فتحهما ابن عامر ، وإن لقيها ساكن كسر الراء وفتح الهمزة حمزة وأبو بكر ، وفتحهما الآخرون . ( قال هذا ربي )
واختلفوا في قوله ذلك : فأجراه بعضهم على الظاهر ، وقالوا : كان إبراهيم عليه السلام مسترشدا طالبا للتوحيد حتى وفقه الله تعالى وآتاه رشده فلم يضره ذلك في حال الاستدلال ، وأيضا كان ذلك في حال طفولته قبل قيام الحجة عليه ، فلم يكن كفرا .
وأنكر الآخرون هذا القول ، وقالوا : لا يجوز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله موحد وبه عارف ، ومن كل معبود سواه بريء وكيف يتوهم هذا على من عصمه الله وطهره وآتاه رشده من قبل وأخبر عنه فقال : " إذ جاء ربه بقلب سليم " ( الصافات ، 84 ) وقال : " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض " ، أفتراه أراه الملكوت ليوقن فلما أيقن رأى كوكبا قال : هذا ربي معتقدا؟ فهذا ما لا يكون أبدا .
ثم قالوا : فيه أربعة أوجه من التأويل :
أحدها : أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرج القوم بهذا القول ويعرفهم خطأهم وجهلهم [ ص: 162 ] في تعظيم ما عظموه ، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ، ويرون أن الأمور كلها إليها فأراهم أنه معظم ما عظموه وملتمس الهدى من حيث ما التمسوه ، فلما أفل أراهم النقص الداخل على النجوم ليثبت خطأ ما يدعون ، ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون الصنم ، فأظهر تعظيمه فأكرموه حتى صدروا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن دهمهم عدو فشاوروه في أمره ، فقال : الرأي أن ندعو هذا الصنم حتى يكشف عنا ما قد أظلنا ، فاجتمعوا حوله يتضرعون فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يحذرون ، فأسلموا .
والوجه الثاني من التأويل : أنه قاله على وجه الاستفهام تقديره : أهذا ربي؟ كقوله تعالى : ( أفإن مت فهم الخالدون ) ( الأنبياء ، 34 ) ؟ أي : أفهم الخالدون؟ وذكره على وجه التوبيخ منكرا لفعلهم ، يعني : ومثل هذا يكون ربا ؟ أي : ليس هذا ربي .
والوجه الثالث : أنه على وجه الاحتجاج عليهم ، يقول : هذا ربي بزعمكم؟ فلما غاب قال : لو كان إلها لما غاب ، كما قال : [ ذق إنك أنت العزيز الكريم ( الدخان ، 49 ) ، أي : عند نفسك وبزعمك ، وكما أخبر عن موسى أنه قال : ( وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ) ( طه 97 ) يريد إلهك بزعمك .
والوجه الرابع : فيه إضمار وتقديره يقولون هذا ربي ، كقوله ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا ) ، ( البقرة ، 127 ) أي : يقولون ربنا تقبل منا . ( فلما أفل قال لا أحب الآفلين ) وما لا يدوم .
( فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ( 77 ) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ( 78 ) إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ( 79 ) )
( فلما رأى القمر بازغا ) طالعا ، ( قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي ) قيل : لئن لم يثبتني على الهدى ، ليس أنه لم يكن مهتديا ، والأنبياء لم يزالوا يسألون الله تعالى الثبات على [ ص: 163 ] الإيمان ، وكان إبراهيم يقول : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) ( إبراهيم ، 35 ) ، ( لأكونن من القوم الضالين ) أي : عن الهدى .
( فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر ) أي : أكبر من الكوكب والقمر ، ولم يقل هذه مع أن الشمس مؤنثة لأنه أراد هذا الطالع ، أو رده إلى المعنى ، وهو الضياء والنور ، لأنه رآه أضوأ من النجوم والقمر ، ( فلما أفلت ) غربت ، ( قال يا قوم إني بريء مما تشركون ) .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (143)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
الاية80 إلى الاية89
( وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون ( 80 ) وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ( 81 ) )
قوله عز وجل : ( وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ) ولما رجع إبراهيم عليه السلام إلى أبيه ، وصار من الشباب بحالة سقط عنه طمع الذباحين ، وضمه آزر إلى نفسه جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليبيعها ، فيذهب بها إبراهيم عليه السلام وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه ، فلا يشتريها أحد ، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فضرب فيه رءوسها ، وقال : اشربي ، استهزاء بقومه ، وبما هم فيه من الضلالة ، حتى فشا استهزاؤه بها في قومه وأهل قريته ، فحاجه أي خاصمه وجادله قومه في دينه ، ( قال أتحاجوني في الله ) قرأ أهل المدينة وابن عامر بتخفيف النون ، وقرأ الآخرون بتشديدها إدغاما لإحدى النونين في الأخرى ، ومن خفف حذف إحدى النونين تخفيفا يقول : أتجادلونني في توحيد الله ، وقد هداني للتوحيد والحق؟ ( ولا أخاف ما تشركون به ) وذلك أنهم قالوا له : احذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسك بسوء من خبل أو جنون لعيبك إياها ، فقال لهم : ولا أخاف ما تشركون به ، ( إلا أن يشاء ربي شيئا ) وليس هذا باستثناء عن الأول بل هو استثناء منقطع ، معناه لكن إن يشأ ربي شيئا أي سوءا ، فيكون ما شاء ، ( وسع ربي كل شيء علما ) أي : أحاط علمه بكل شيء ، ( أفلا تتذكرون ) [ ص: 164 ]
( وكيف أخاف ما أشركتم ) يعني الأصنام ، وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع ، ( ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ) حجة وبرهانا ، وهو القاهر القادر على كل شيء ، ( فأي الفريقين أحق ) أولى ، ( بالأمن ) أنا وأهل ديني أم أنتم؟ ( إن كنتم تعلمون ) .
( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ( 82 ) وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ( 83 ) ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ( 84 ) )
فقال الله تعالى قاضيا بينهما : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) لم يخلطوا إيمانهم بشرك ، ( أولئك لهم الأمن وهم مهتدون )
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا إسحاق ثنا عيسى بن يونس أنا الأعمش أنا إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : لما نزلت : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) شق ذلك على المسلمين فقالوا : يا رسول الله فأينا لا يظلم نفسه؟ فقال : ليس ذلك ، إنما هو الشرك ، ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان لابنه وهو يعظه : " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " ؟ ( لقمان ، 13 ) .
قوله عز وجل : ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) حتى خصمهم وغلبهم بالحجة ، قال مجاهد : هي قوله : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن ) وقيل : أراد به الحجاج الذي حاج نمرود على ما سبق في سورة البقرة .
( نرفع درجات من نشاء ) بالعلم ، قرأ أهل الكوفة ويعقوب ( درجات ) بالتنوين هاهنا وفي سورة يوسف ، أي : نرفع درجات من نشاء بالعلم والفهم والفضيلة والعقل ، كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهتدى وحاج قومه في التوحيد ، ( إن ربك حكيم عليم ) [ ص: 165 ]
( ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ) وفقنا وأرشدنا . ( ونوحا هدينا من قبل ) أي : من قبل إبراهيم ، ( ومن ذريته ) أي ومن ذرية نوح عليه السلام ، ولم يرد من ذرية إبراهيم لأنه ذكر في جملتهم يونس ولوطا ولم يكونا من ذرية إبراهيم ( داود ) يعني : داود بن أيشا ، ( وسليمان ) يعني ابنه ، ( وأيوب ) وهو أيوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم ، ( ويوسف ) هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام ، ( وموسى ) وهو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب . ( وهارون ) هو أخو موسى أكبر منه بسنة ، ( وكذلك ) أي : وكما جزينا إبراهيم على توحيده بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولادا أنبياء أتقياء كذلك ، ( نجزي المحسنين ) على إحسانهم ، وليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم .
( وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين ( 85 ) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ( 86 ) ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ( 87 ) ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ( 88 ) أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ( 89 ) )
( وزكريا ) وهو زكريا بن آذن ، ( ويحيى ) وهو ابنه ، ( وعيسى ) وهو ابن مريم بنت عمران ، ( وإلياس ) اختلفوا فيه ، قال ابن مسعود : هو إدريس ، وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل ، والصحيح أنه غيره ، لأن الله تعالى ذكره في ولد نوح ، وإدريس جد أبي نوح وهو إلياس ياسين بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران ( كل من الصالحين )
( وإسماعيل ) وهو ولد إبراهيم ، ( واليسع ) وهو ابن أخطوب بن العجوز ، وقرأ حمزة والكسائي " واليسع " بتشديد اللام وسكون الياء هنا وفي " ص " ، ( ويونس ) وهو يونس بن متى ، ( ولوطا ) وهو لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم ، ( وكلا فضلنا على العالمين ) أي : عالمي زمانهم .
( ومن آبائهم ) " من " فيه للتبعيض ، لأن آباء بعضهم كانوا مشركين ، ( وذرياتهم ) أي : ومن ذرياتهم . وأراد به ذرية بعضهم : لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ولد ، وكان في ذرية بعضهم من كان [ ص: 166 ] كافرا ، ( وإخوانهم واجتبيناهم ) اخترناهم واصطفيناهم ، ( وهديناهم ) أرشدناهم ، ( إلى صراط مستقيم )
( ذلك هدى الله ) دين الله ، ( يهدي به ) يرشد به ، ( من يشاء من عباده ولو أشركوا ) أي : هؤلاء الذين سميناهم ، ( لحبط ) لبطل وذهب ، ( عنهم ما كانوا يعملون )
( أولئك الذين آتيناهم الكتاب ) أي : الكتب المنزلة عليهم ، ( والحكم ) يعني : العلم والفقه ، ( والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء ) الكفار يعني : أهل مكة ، ( فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ) يعني : الأنصار وأهل المدينة ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقال قتادة : فإن يكفر بها هؤلاء الكفار فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ، يعني : الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله هاهنا ، وقال أبو رجاء العطاردي : معناه فإن يكفر بها أهل الأرض فقد وكلنا بها أهل السماء ، وهم الملائكة ، ليسوا بها بكافرين .
-
رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله
الحلقة (144)
- تفسير البغوى
الجزء الثالث
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
الاية90 إلى الاية95
( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ( 90 ) ( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ( 91 ) )
( أولئك الذين هدى الله ) أي : هداهم الله ، ( فبهداهم ) فبسنتهم وسيرتهم ، ( اقتده ) الهاء فيها هاء الوقف ، وحذف حمزة والكسائي الهاء في الوصل ، والباقون بإثباتها وصلا ووقفا ، وقرأ ابن عامر : " اقتده " بإشباع الهاء كسرا ( قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو ) ما هو ، ( إلا ذكرى ) أي : تذكرة وعظة ، ( للعالمين )
قوله تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره ) أي ما عظموه حق عظمته ، وقيل : ما وصفوه حق صفته ، ( إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) قال سعيد بن جبير : جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين " وكان حبرا سمينا فغضب ، وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء . [ ص: 167 ]
وقال السدي : نزلت في فنحاص بن عازوراء ، وهو قائل هذه المقالة .
وفي القصة : أن مالك بن الصيف لما سمعت اليهود منه تلك المقالة عتبوا عليه ، وقالوا : أليس أن الله أنزل التوراة على موسى؟ فلم قلت ما أنزل الله على بشر من شيء؟ فقال مالك بن الصيف أغضبني محمد فقلت ذلك ، فقالوا له : وأنت إذا غضبت تقول [ على الله ] غير الحق فنزعوه من الحبرية ، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : قالت اليهود : يا محمد أنزل الله عليك كتابا؟ قال : نعم ، قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتابا ، فأنزل الله : " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء " ، فقال الله تعالى : ( قل ) لهم ، ( من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ) يعني التوراة ، ( تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ) أي : تكتبون عنه دفاتر وكتبا مقطعة تبدونها ، أي : تبدون ما تحبون وتخفون كثيرا من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم . قرأ ابن كثير وأبو عمرو " يجعلونه " " ويبدونها " " ويخفونها " ، بالياء جميعا ، لقوله تعالى ( وما قدروا الله حق قدره ) وقرأ الآخرون بالتاء ، لقوله تعالى ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى )
وقوله ( وعلمتم ما لم تعلموا ) [ الأكثرون على أنها خطاب لليهود ، يقول : علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لم تعلموا ] ( أنتم ولا آباؤكم ) قال الحسن : جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فضيعوه ولم ينتفعوا به .
وقال مجاهد : هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علمهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .
( قل الله ) هذا راجع إلى قوله ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ) فإن أجابوك وإلا فقل أنت : الله ، أي قل : أنزله الله ، ( ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) .
[ ص: 168 ] ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ( 92 ) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ( 93 ) )
( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) أي : القرآن كتاب مبارك أنزلناه ( مصدق الذي بين يديه ولتنذر ) يا محمد ، قرأ أبو بكر عن عاصم " ولينذر " بالياء أي : ولينذر الكتاب ، ( أم القرى ) يعني : مكة سميت أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها ، فهي أصل الأرض كلها كالأم أصل النسل ، وأراد أهل أم القرى ( ومن حولها ) أي : أهل الأرض كلها شرقا وغربا ( والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ) بالكتاب ، ( وهم على صلاتهم ) يعني : الصلوات الخمس ، ( يحافظون ) يداومون ، يعني : المؤمنين .
قوله عز وجل : ( ومن أظلم ممن افترى ) أي : اختلق ( على الله كذبا ) فزعم أن الله تعالى بعثه نبيا ، ( أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ) قال قتادة : نزلت في مسيلمة الكذاب الحنفي ، وكان يسجع ويتكهن ، فادعى النبوة وزعم أن الله أوحى إليه ، وكان قد أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما : أتشهدان أن مسيلمة نبي؟ قالا : نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " .
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينا أنا نائم إذ أتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب ، فكبرا علي وأهماني فأوحي إلي أن انفخهما ، فنفختهما فذهبا ، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما : صاحب صنعاء وصاحب اليمامة " أراد بصاحب صنعاء الأسود العنسي وبصاحب اليمامة مسيلمة الكذاب . . [ ص: 169 ]
قوله تعالى : ( ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ) قيل : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وكان قد أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وكان إذ أملى عليه : سميعا بصيرا ، كتب عليما حكيما ، وإذا قال : عليما حكيما ، كتب : غفورا رحيما ، فلما نزلت : " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين " ( المؤمنون ، 12 ) أملاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان ، فقال : تبارك الله أحسن الخالقين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتبها فهكذا نزلت ، فشك عبد الله ، وقال : لئن كان محمد صادقا فقد أوحي إلي كما أوحي إليه ، فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ، ثم رجع عبد الله إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران .
وقال ابن عباس : قوله ( ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ) يريد المستهزئين ، وهو جواب لقولهم : ( لو نشاء لقلنا مثل هذا )
قوله عز وجل : ( ولو ترى ) يا محمد ، ( إذ الظالمون في غمرات الموت ) سكراته وهي جمع غمرة ، وغمرة كل شيء : معظمه ، وأصلها : الشيء الذي [ يعم ] الأشياء فيغطيها ، ثم وضعت في موضع الشدائد والمكاره ، ( والملائكة باسطو أيديهم ) بالعذاب والضرب ، يضربون وجوههم وأدبارهم ، وقيل بقبض الأرواح ، ( أخرجوا ) أي : يقولون أخرجوا ، ( أنفسكم ) أي : أرواحكم كرها ، لأن نفس المؤمن تنشط للقاء ربها ، والجواب محذوف ، يعني : لو تراهم في هذه الحال لرأيت عجبا ، ( اليوم تجزون عذاب الهون ) أي : الهوان ، ( بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ) تتعظمون عن الإيمان بالقرآن ولا تصدقونه .
( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ( 94 ) )
( ولقد جئتمونا فرادى ) هذا خبر من الله أنه يقول للكفار يوم القيامة : ولقد جئتمونا فرادى وحدانا ، لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم ، وفرادى جمع فردان ، مثل سكران وسكارى ، وكسلان وكسالى ، وقرأ الأعرج فردى بغير ألف مثل سكرى ، ( كما خلقناكم أول مرة ) عراة حفاة غرلا [ ص: 170 ] ( وتركتم ) خلفتم ( ما خولناكم ) أعطيناكم من الأموال والأولاد والخدم ، ( وراء ظهوركم ) خلف ظهوركم في الدنيا ، ( وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) وذلك أن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده ، ( لقد تقطع بينكم ) قرأ أهل المدينة والكسائي وحفص عن عاصم بنصب النون ، أي : لقد تقطع ما بينكم من الوصل ، أو تقطع الأمر بينكم . وقرأ الآخرون " بينكم " برفع النون ، أي : لقد تقطع [ وصلكم ] وذلك مثل قوله : " وتقطعت بهم الأسباب " ( البقرة ، 166 ) ، أي : الوصلات ، والبين من الأضداد يكون وصلا ويكون هجرا ، ( وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) .