رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (76)
صـــــ(1) إلى صــ(10)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [3]
إذا أتم المصلي قراءة دعاء الاستفتاح فإنه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يبسمل سرا، ثم يقرأ الفاتحة، وهي ركن من أركان الصلاة، ثم يقول (آمين) بعد الفاتحة جهرا في الجهرية، ثم يقرأ بعدها سورة من القرآن، ويلتزم في التطويل والتخفيف بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم يركع مكبرا، وللركوع صفة معلومة، ثم يقوم من الركوع ملتزما فيه بالصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أحكام الاستعاذة والبسملة
[الاستعاذة قبل القراءة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يستعيذ ثم يبسمل سرا].
الاستعاذة: طلب العوذ،
ومعناها: ألتجئ وأعتصم بالله عز وجل نعم المولى ونعم النصير، ولذلك شرع الله هذه الاستعاذة عند قراءة كتابه العزيز،
فقال: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل:98]، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم -وأمره أمر لأمته حتى يدل الدليل على الخصوص- أنه إذا استفتح قراءة القرآن أن يستفتحها بالاستعاذة، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه استفتح قراءته بالاستعاذة،
ولذلك قال بعض العلماء: إنه ينبغي على القارئ أن يستفتح قراءته بالاستعاذة، ومن السلف من قال بوجوب الاستعاذة، وذلك لأمر الله عز وجل بها،
قالوا: فهي واجبة.
[صيغ الاستعاذة]
والاستعاذة تأتي على صيغ:
الصيغة الأولى: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وهذه الصيغة هي التي وردت في سورة النحل، وعليها جماهير القراء، وهي أفضل من غيرها، وذلك لأن الله أمر بها وحددها في افتتاح كتابه، والمعين أفضل من غير المعين، فيعتبر تعيينها دليلا على فضلها،
وقد أشار بعض الفضلاء إلى ذلك بقوله: ولتستعذ إذا قرأت واجهر مع استماع وابتداء السور إلى أن قال: ولفظه المختار ما في النحل وقد أتى الغير عن أهل النقل أي: لفظ الاستعاذة المفضل ما في سورة النحل،
وهو قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل:98].
وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه)، فهذه أيضا استعاذة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم،
وقال بعض السلف: يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم)، وبعضهم يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم)؛
لأن الله قال لنبيه: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [فصلت:36] قالوا: فيقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم).ولا شك أن الوارد أوقى من غيره؛ لأن القاعدة -كما قرر العز بن عبد السلام وغيره-
تقول: (إذا وردت ألفاظ للأذكار منها وارد ومنها مقتبس من الوارد، فالوارد أفضل من غيره -أعني: المقتبس-)،
ولذلك يقدم قولهم: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وهو أقوى الاستعاذات.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ أحيانا بقوله: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) يدل على الجواز، وما دل على الجواز ليس كما أمر به، فإن اختيار الله له يدل على الفضل.
[أوجه الاستعاذة مع البسملة وأول السورة، وأوجه البسملة بين السورتين]
والاستعاذة أدب من آداب التلاوة ينبغي لمن تلا كتاب الله أن يستفتح بها،
قالوا: لأن الإنسان يعصم بإذن الله عز وجل من دخول الدخل من الشيطان الرجيم في قراءته، فينال بركة القراءة وخيرها وحظها، ولذلك تجده أكمل الناس تدبرا ووعيا وفهما، فإنه حينما يلتجئ ويحتمي بالله عز وجل من الشيطان أن يدخل بينه وبين قراءته فإنه يأمن الفتنة، وتكون قراءته على أتم الوجوه وأفضلها وأحسنها، فشرع الله لعباده أن يفتتحوا بهذه الاستعاذة، وهذه الاستعاذة تعتبر أصلا في القراءة كما ذكرنا،
وتكون مع البسملة والابتداء بأول السورة على أربعة أوجه:
الوجه الأول: تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين)، وهذا الوجه يسميه العلماء وجه الوصل، فتصل الجميع.
الوجه الثاني: تقطع فتقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، (بسم الله الرحمن الرحيم)، (الحمد لله رب العالمين)، فتقطع الأول عن الثاني، والثاني عن الثالث.
الوجه الثالث: أن تجمع بين الأول والثاني وتفصل الثالث عنهما،
فتقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم)، (الحمد لله رب العالمين).
الوجه الرابع: أن تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين).وأما البسملة بين السورتين ففيها أربعة أوجه،
وأحدها لا يجوز: الوجه الأول: أن يقول مثلا: " {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر:3] بسم الله الرحمن الرحيم {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1] " وهذا وجه الوصل، فيصل الجميع.
الوجه الثاني: " {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر:3]،
بسم الله الرحمن الرحيم: {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1] " فيقطع الأول عن الثاني، والثاني عن الثالث.
الوجه الثالث: أن يقطع آخر السورة،
ويقول: " {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر:3] " ثم يسكت،
ويبتدئ ويقول: " بسم الله الرحمن الرحيم {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1] ".
الوجه الرابع: ولا يصح هذا الوجه،
وهو أن يصل قوله تعالى: " {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر:3] ببسم الله الرحمن الرحيم " ثم يقطع ثم يقول: " {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1] "؛ لأنه يوهم أن البسملة لآخر السور، وإنما شرعت البسملة لأوائل السور.
[الإسرار بالبسملة]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يبسمل سرا وليست من الفاتحة].
أي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فـ (البسملة) اختصار لها، كالحوقلة والحسبلة اختصارا لما ذكر من الأذكار.
والبسملة شرعت للفصل بين السور، ومذهب طائفة من العلماء وجوبها إلا فيما بين براءة والأنفال، فإنه لا يفصل بينهما بالبسملة،
ولذلك قالوا: بسمل وجوبا عند كل السور عدا براءة وذاك في الأشهر أي: على أقوى قول العلماء رحمة الله عليهم، فالأشهر يعني الأقوى والأرجح.
فالبسملة مشروعة لابتداء السور،
فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم.
وقوله: (سرا) على مذهب الجمهور.
والشافعية رحمة الله عليهم يقولون بالبسملة جهرا.
وكلا الفريقين يحتج بحديث أنس: (صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان كلهم كانوا يستفتحون القراءة: ببسم الله الرحمن الرحيم {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:2])،
والرواية الثانية: (كلهم يستفتحون القراءة: بـ {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:2]).وجمع العلماء بين الروايتين عن أنس بأن نفيه للبسملة مراده الجهر، وإثباته لها مراده السر،
أي: أنهم كانوا يقرؤون (بسم الله الرحمن الرحيم) سرا لا جهرا.فإن كان الإنسان قد ترجح عنده القول بعدم الوجوب فإنه يسر، وهذه هي السنة في حقه، وإن ترجح عنده القول بوجوب البسملة وقرأها جهرا فلا حرج، ولا ينكر على أحد بسمل جهرا،
ولذلك اختار بعض العلماء: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا تارة ويفعل هذا تارة، كما يفهم من كلام بعض المحققين، ولذلك لا ينكر على من جهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهو قول أئمة من السلف، ومعتد بقولهم وخلافهم؛ لأن له وجها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[هل البسملة من الفاتحة]
قوله: [وليست من الفاتحة] هو مذهب الجمهور.وعند الشافعية البسملة هي آية من الفاتحة،
ولذلك يصلون قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة:7] فإن قلت: إنها آية وصلت اعتبرتها آية واحدة حتى تكمل سبعا؛
لأن سورة الفاتحة سبع آيات كما قال تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} [الحجر:87] قيل: إنها الفاتحة،
وعلى هذا الوجه قالوا: إن آياتها سبع، وبناء على ذلك يقولون: إذا قرأ البسملة فإنه يصل الآية الأخيرة ولا يحسبها آيتين،
ولا يقف عند قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة:7]، أما إذا كان يرى أنها ليست من الفاتحة فإنه يعتبر هذا موقفا له وآية.
قراءة الفاتحة في الصلاة
[وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ الفاتحة].لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها،
وقال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)،
وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، فهي خداج)، وسميت فاتحة لأن الله افتتح بها كتابه، وتشرف الكتب بما تفتتح به، ولذلك كانت أفضل سورة في كتاب الله عز وجل، فأفضل آية آية الكرسي، وأفضل سورة سورة الفاتحة،
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام فيها: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) فهذا يدل على شرفها،
ولذلك قال تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} [الحجر:87]، فعطف العام على الخاص، وعطف الخاص على العام والعام على الخاص يدل على شرف الخاص وفضله،
كما قال تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر:4]، فإن اختصاصه بالذكر يدل على ثبوت شرفه وعلوه عن غيره،
فلذلك قالوا: الفاتحة هي أفضل ما في القرآن من سور.
[حكم قطع الفاتحة بذكر أو سكوت طويل]
قال رحمه الله تعالى: [فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال، أو ترك منها تشديدة أو حرفا أو ترتيبا لزم غير مأموم إعادتها].قوله: [فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال].
أما الذكر فمثاله: لو أن إنسانا قرأ وقال: {الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم} [الفاتحة:2 - 3] فقطع بين الآية الثانية والآية الثالثة بذكر غير مشروع في هذا الموضع،
كما لو قال: (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)، فهذا ذكر، لكنه غير مشروع في هذا الموضع، لكن لو قطعها بسؤال رحمته أو استعاذة من عذابه فإنه مشروع؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه كما في حديث ابن مسعود أنه: (ما مر بآية رحمة في قيام الليل إلا سأل الله من فضله، ولا مر بآية عذاب إلا استعاذ بالله عز وجل)، فلو أنه قطع بينهما بذكر مشروع لا يؤثر، وإن قطع بذكر غير مشروع أثر.فلو قال الحسبلة بين الآية الثالثة والرابعة أو الرابعة والخامسة يبتدئ من جديد قراءة الفاتحة؛ لأن هذه الحسبلة ليست من كتاب الله عز وجل، ولا يشرع ذكرها في هذا الموضع الذي ذكر، فكأنه تكلم بكلام خارجي، وخرج عن كونه قارئا، وقارئ الفاتحة لا بد أن يتمها، فإن فصل بين آياتها بالذكر الخارجي فإنه لم يتمها، فيلزمه أن يبتدئ قراءتها من أولها،
وقال بعض العلماء: يبتدئ من حيث فصل، فيقرأ الآية الأخيرة التي وقع عند الفصل ثم يتم ما بعدها والأول أحوط.وأما السكوت فهو السكوت الفاحش، وهو السكوت الطويل،
كما لو قال: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:2]، ثم سكت وطال سكوته، فإنه حينئذ يستأنف؛ لأنه لا يشرع السكوت هنا إذا كان متفاحشا.أما لو سكت للفصل بين الآيات فهذه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم،
فقد كان يقرأ: {الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين} [الفاتحة:2 - 4]، فكانت قراءته عليه الصلاة والسلام مفصلة مرتلة صلوات الله وسلامه عليه.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (77)
صـــــ(11) إلى صــ(20)
[حكم ترك بعض الحروف والتشديدات في الفاتحة]
قوله: [أو ترك منها تشديدة].
في الفاتحة إحدى عشرة تشديدة: (الله)، (رب)، (الرحمن)، (الرحيم)، (الدين)، (إياك)، (وإياك)، (الصراط)، (الذين)، (الضالين وفيها تشديدتان)، فهذه إحدى عشرة تشديدة، فإذا ترك منها تشديدة واحدة يستأنف؛ لأن الحرف المشدد يشتمل على حرفين، فـ (رب) تشتمل على بائين مدغمتين في بعضهما كأنهما حرف واحد، وهي ولكن حقيقتهما أنهما حرفان، فإذا خفف وترك التشديد كأنه أسقط حرفا من الفاتحة، ولم يقرأ الفاتحة كما أمره الله، وإنما يعتد بقراءة وقعت على السورة التي أمر الله عز وجل بها، فإن صلى الإمام وكان من هذا الجنس الذي يترك التشديد، أو يخل بالألفاظ إخلالا يخرجها عن المعنى،
كأن يضم التاء من: (أنعمت)،
أو يكسرها: (أنعمت)، فإنه حينئذ لا تصح الصلاة وراءه، فالذي يلحن لحنا يحيل المعنى في الفاتحة فإن صلاته باطلة إذا لم يكن معذورا، أما إذا كان معذورا فإنه تصح صلاته لنفسه ولمن هو مثله أو دونه.ومن ذلك أيضا الأمي الذي يلحن في الفاتحة لحنا يحيل المعنى
كما لو قال: (أهدنا)،
فإنه غير قوله: (اهدنا)،
وكذلك إذا ضم التاء أو كسرها في قوله تعالى: (أنعمت)،
فإنه حين يقول: (أنعمت) أحال المعنى، فكأنه هو المنعم، وكذلك الحال إذا كسر فإنه خطاب للأنثى، وليس ذلك بصائغ لله عز وجل.فالمقصود أن أي إخلال في الفاتحة يذهب به الحرف أو يخل به المعنى فقراءته غير معتبرة، وإن كان على سبيل السهو فحينئذ يرجع ويعيد القراءة؛ لأنها ركن في الصلاة ويتدارك، وإلا صحت صلاته إذا كان معذورا كالأمي وحديث العهد بالإسلام الذي لا يمكنه، فإذا غلط في أول مرة يتسامح له، ويصلي على حالته لنفسه، ثم إذا وسعه الوقت للتعلم فإنه يأثم.
قوله: [أو حرفا].وهكذا لو ترك حرفا،
كما لو قرأ: (الصراط) بتخفيف الصاد، فإنه ترك حرفا،
أو ترك الحرف بالكلية فقال: (أنعم) بدل (أنعمت)، فإنه تبطل قراءته، ويلزمه أن يأتي بالفاتحة على الوجه المعتبر.قوله: [أو ترتيبا].
أي: لم يرتب آياتها، فذكر آية قبل آية، فإنه لا يعتد بقراءته، ويلزمه أن يستأنف.
وقوله: [لزم غير مأموم إعادتها].أي أن الإمام يلزمه أن يعيد، وإذا أعاد أجزأ ذلك المأموم،
ولذلك قال: [غير مأموم]، وهذا على القول أن الإمام يحمل الفاتحة عن المأموم، وإن كان الصحيح أن الإمام لا يحمل الفاتحة عن المأموم، وبناء على ذلك فإنه قال على الوجه الذي يرى أن الإمام يحمل عن المأموم،
فقال: (لزم غير مأموم إعادتها)، فيلزم المنفرد والإمام أن يعيد القراءة إذا حصل واحد من هذه الإخلالات التي ذكرناها، فإذا ترك حرفا، أو تشديدة أو لحن لحنا يخل بالمعنى، فإنه يستأنف.
[قول (آمين) والجهر بها للإمام والمأموم]
قال رحمه الله تعالى: [ويجهر الكل بآمين في الجهرية].
التأمين معناه: (اللهم استجب)،
فقولك: (آمين) أي: اللهم استجب، وقد شرع التأمين جهرة لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به،
ولذلك قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا)،
وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمن) أي: بلغ موضع التأمين، وليس المراد أنه إذا أمن وقال لفظ التأمين؛ لأن هذا معروف في لغة العرب، إذ يصفون الإنسان بالشيء عند مقاربته له،
فيقال: أصبح،
أي: كاد أن يصبح،
ومنه قوله: أصبحت أصبحت،
أي: كدت أن تصبح،
فقوله عليه الصلاة والسلام: (أمن) أي: قارب التأمين ووقف عليه، فحينئذ: (إذا أمن فأمنوا)،
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإذا قال: (ولا الضالين) فقولوا: (آمين) فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)،
وثبت في الحديث تفصيل ذلك بأن الملائكة تقول في السماء: آمين،
ويقول العبد: آمين، فإذا وافق تأمين العبد تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، وهذا يدل على أنه يجهر،
لقوله: (قولوا)، والقول إنما هو اللفظ، وليس الكلام النفسي؛ فإن الكلام النفسي لا يسمى قولا، على ما هو معروف من مذهب أهل السنة والجماعة من أن الكلام إنما هو باللفظ وليس في النفس.كذلك أيضا ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان وأصحابه إذا أمن رفع صوته حتى ترتج أعواد المسجد، أو يرتج المسجد من تأمينه عليه الصلاة والسلام وتأمين الصحابة معه، ولذلك حسدت اليهود المسلمين على هذا التأمين.فالسنة أن يرفع الصوت،
وقال بعض العلماء: يرفع الصوت ولا يبالغ في الرفع إلى درجة الإزعاج، ولا يخافت، ولكن يرفع بقدر وسط.
[قراءة سورة بعد الفاتحة]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ بعدها سورة].وهذا من هديه صلوات الله وسلامه عليه،
والسورة قيل: مأخوذة من السور لارتفاعه،
فقيل: سميت سورة لارتفاعها وعلو شأنها،
وقيل: لأن المكلف بقراءته لها يرتفع درجة، فيكون بحال أحسن من حاله قبل قراءتها بفضل التلاوة،
وقيل: من السور، بمعنى الإحاطة، وكل هذه أوجه.
فقوله: [يقرأ بعدها سورة] أي: من كتاب الله عز وجل، ولا حرج عليك أن تقرأ سورة كاملة، أو تقرأ بعض السورة، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ السور كاملة، وجزأ السورة في الركعة الأولى والثانية كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة،
ففي فريضة الفجر قرأ: {قولوا آمنا} [البقرة:136]، و: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء} [آل عمران:64]، فالأولى من البقرة والثانية من آل عمران، هذه آية وهذه آية، وكذلك ثبت عنه قراءته بآخر سورة البقرة صلوات الله وسلامه عليه.وكذلك أيضا ثبت عنه في الحديث الصحيح قراءة السور كاملة، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في أكثر من حديث أنه قرأ في الصلوات الخمس السورة في الركعتين، في الفجر كما سيأتي إن شاء الله، وفي الظهر، وفي العصر، وفي المغرب، وفي العشاء، قرأ السورة كاملة، ويجوز للإنسان أن يجمع بين السورتين أيضا ولا يقتصر على سورة واحدة،
فقد ثبت في الحديث أن رجلا كان يقرأ ثم يختم بـ: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] في كل ركعة،
فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما حملك على هذا؟ - أي: ما حملك على أن تجمع بين السورة وسورة الإخلاص- قال: إني أحبها قال: حبك لها أدخلك الجنة)، فهذا يدل على جواز أن يقرن بين السور،
وقد قال ابن مسعود: (إني لأعرف السور التي كان يقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها).فعلى العموم لا حرج أن تقرأ أكثر من سورة،
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه استفتح قيام الليل، فقرأ سورة البقرة والنساء والمائدة -كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه - ولم يقرأ آل عمران) قيل: هذا قبل الترتيب في العرضة الأخيرة.
فالمقصود أن هذا كله من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شئت قرأت سورة كاملة، وإن شئت قرأت بعض السورة، وإن شئت قرأت نصف السورة في الركعة الأولى أو أكثرها، وفي الركعة الثانية أتممت، فكل هذا من هديه عليه الصلاة والسلام.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التخفيف والتطويل في الصلوات
[القراءة في الصبح بطوال المفصل]
قال رحمه الله تعالى: [وتكون في الصبح من طوال المفصل].
أي: في صلاة الفجر، والمفصل: مأخوذ من فصل الشيء،
قال بعض العلماء: إنه من الفصل بين الشيئين أن يحال بينهما بحائل.
قالوا: وصفت هذه السور بكونها مفصلة لكثرة الفصل بينها بالبسملة، بخلاف أوائل القرآن كالسبع الطوال، فإنها طويلة، والفصل بالبسملة قليل، والمفصل يبتدئ من سورة (ق) إلى آخر القرآن.
والوجه الثاني: سمي المفصل مفصلا لكثرة الفصل بين آياته، فآياته قصيرة، على خلاف السبع الطوال وما بعدها من السور، فإن غالبها طويل المقاطع.
والوجه الثالث: سمي المفصل مفصلا من الفصل بمعنى الإحكام، والسبب في ذلك قلة النسخ فيه؛ لأنه محكم وقليل النسخ، بخلاف أوائل القرآن، فإن فيه آيات منسوخة.وهذه كلها أوجه في سبب تسميته بالمفصل.والمفصل كما هو المعهود عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يعتبرونه من سورة (ق).ثم هذا المفصل فيه طواله وأواسطه وقصاره،
فيقسم على هذه الثلاثة الأقسام: طوال المفصل، وأواسط المفصل، وقصار المفصل.فأما طوال المفصل فتبتدئ من سورة (ق) إلى سورة (عم)، وأما أواسطه فمن سورة (عم) إلى (الضحى)، وأما قصاره فمن سورة (الضحى) إلى آخر القرآن، هذا بالنسبة لطوال المفصل وأواسط المفصل وقصار المفصل.
فقوله رحمه الله: [يقرأ في الفجر أو في الصبح بطوال المفصل] أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح أنه كان يقرأ بطوال المفصل، ويطيل القراءة فيها، ثبت هذا في حديث جابر وأبي برزة الأسلمي رضي الله عنه،
ففي حديث جابر: (وكان يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة آية)، فقراءة النبي صلى الله عليه وسلم كانت ما بين الستين إلى المائة، ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يطيل القراءة،
قالوا: لأن النفوس في صلاة الفجر مهيأة لسماع القرآن والتأثر به، والناس حديثو العهد بالنوم، وعلى استجمام وراحة.
وقول جابر: (ما بين الستين إلى المائة) ظاهره أن ذلك في الركعتين،
وحديث صلاة الفجر في الجمعة: (أنه كان يقرأ في الفجر (الم تنزيل) في الركعة الأولى، وسورة (هل أتى) في الركعة الثانية) يدل عليه، فإن مجموع السورتين إحدى وستين آية، وهذا يقوي أنه كان يقرأ ما بين الستين إلى المائة في الركعتين، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه طول في صلاة الصبح، ويشترط أن لا يكون في ذلك حرج على الناس وأذية بهم، فإن كان هناك على الإنسان حرج، أو كان يغلبه النعاس، أو كان خلفه مريض وأراد أن يخفف فهي السنة؛
لما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (قرأ بالزلزلة)،
وثبت عنه في الحديث الصحيح أنه استفتح صلاة الفجر التي كان يطول فيها فسمع بكاء صبي فقرأ: {إنا أعطيناك الكوثر} [الكوثر:1]،
وقال عليه الصلاة والسلام: (إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه) صلوات الله وسلامه عليه، من رحمته وحلمه وتخفيفه ولطفه بالناس.وهكذا ينبغي أن يكون عليه الإمام، والإمام الحكيم الموفق يحسن النظر لمن وراءه؛ لأن الله سائله عن جماعته، ومحاسبه عليهم، والهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف،
فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف)، فهذا خطاب للأمة.وينبغي أن ينبه على مسألة، وهي أننا إذا قلنا بالستين إلى المائة، فإن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت قراءة مرتلة مجودة تعطى فيها الحروف حقها من صفة لها ومستحقها، وكون الإنسان يصلي بالناس بالستين إلى المائة وهو يتغنى ويمطط الآيات ويتكلف فيها ليس من السنة، بل يقرأ قراءة مرتلة ولا يبالغ في التمطيط؛ لأن هذا يجحف بالناس ويضر بهم، ولذلك ينبغي إذا أراد أن يتخير الإطالة أن يحسن ترتيل القرآن، وأن يكون بعيدا عن التكلف والتقعر في تلاوته، وكذلك أيضا لا يبالغ في الهذ والإسراع في القراءة، وإنما تكون قراءته قراءة مفصلة مبينة، حتى يكون ذلك أبلغ لانتفاع الناس بقراءته، وحصول الخير لإمامته.فالسنة في صلاة الفجر الإطالة، ولكن -كما قلنا- النبي صلى الله عليه وسلم من هديه التخفيف عند وجود الحاجة، فلو علمت أن هناك مريضا، أو أن الناس في سفر، كأن تكون مع رفقة مسافرين في الليل وحضرت صلاة الفجر وهم على نعاس وتضرر من أذى السفر للتخفف عليهم وترفق بهم،
كما قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم اللهم فارفق به)، فالإمام ولاية، وهي ولاية في أمور الدين، فينبغي التخفيف في هذه الحالة.
[القراءة في المغرب بقصار المفصل]
قال رحمه الله تعالى: [وفي المغرب من قصاره].
أي: يقرأ في المغرب من قصار المفصل،
وقد جاء ذلك في حديث سلمان بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول: (ما رأيت أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، لإمام كان يصلي به)،
وهو حديث قال عنه الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح،
قال: (فنظرت فإذا به يصلي المغرب من قصار المفصل) أي: من قصار سور المفصل من الضحى فما بعد.وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ في المغرب بطوال المفصل، بل بأطول الطوال وهي سورة الأعراف صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك ثبت عنه أنه قرأ (المرسلات عرفا)، وهي من أواسط المفصل، فدل على أنه لا حرج أن الإنسان أحيانا يصلي بطوال المفصل، والحقيقة أن الأمر يرجع إلى الإمام، فإن بعض الأئمة قراءته تكون طيبة ترتاح لها القلوب والنفوس، ويكون لها أثر من ناحية الخشوع، حتى يتمنى الناس لو طول بهم أكثر مما هو عليه، وهذا كان حال الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الإمام يريد أن يطيل أو يصيب السنة بقراءة الأعراف فلا حرج، ولكن حبذا أن ينبه الناس، خاصة في هذه الأزمنة التي تكثر فيها شواغل الناس وحصول الظروف لهم، فينبه على أنه سيصلي بالأعراف، ولا حرج أن يصلي بهم بالمرسلات، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى بالطور، وهي من طوال المفصل، فلا حرج أن ينوع بين هذا الهدي، فيصلي على غالب حاله بقصار المفصل، ويصلي أحيانا بطوال المفصل، ولا حرج عليه في ذلك.
[القراءة في العشاء والظهرين بأوساط المفصل]
قال رحمه الله تعالى: [وفي الباقي من أوساطه].
أي: يقرأ في صلاة الظهر والعصر والعشاء من أوسط المفصل، أما صلاة الظهر فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ بما يقرب من ثلاثين آية، وجاء عنه أنه قرأ السجدة وهي ثلاثون آية، أو إحدى وثلاثون آية، فهذا يدل على أنه من السنة قدر الثلاثين، خمس عشرة آية تكون للركعة الأولى، وخمس عشرة آية للركعة الثانية، وجاء هذا في حديث السنن، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ في الظهر بأواسط المفصل، كما في سورة البروج فقد قرأها في صلاة الظهر، وكذلك سورة {والسماء والطارق} [الطارق:1] وسورة: {والليل إذا يغشى} [الليل:1] كله جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.وأما بالنسبة للعصر فإنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يجعله على النصف من صلاة الظهر، وكان في صلاة الظهر يطول في الركعة الأولى،
حتى ثبت في الحديث أنه: (كان الرجل يذهب إلى البقيع فيقضي حاجته ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى)،
وثبت أنه: (كان يقوم في الركعة الأولى حتى لا يسمع قرع نعال)، وهذا يدل على تطويله عليه الصلاة والسلام، وورد في حديث أبي داود أنه كان تطويله يفهم منه الصحابة أنه يريد من الناس أن يدركوا الركعة الأولى.أما العصر فإنه كانت قراءته على نفس قراءة الظهر، فلذلك يقرأ بخمسة عشر آية، أو فيما هو في حدودها.وأما العشاء فقد ثبت عنه ما يدل على أنه كان يقرأ من أواسط المفصل، والسبب في ذلك أن معاذا رضي الله عنه لما اشتكاه الرجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم -وكانت القضية في صلاة العشاء-: (هلا قرأت بـ {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1] {والليل إذا يغشى} [الليل:1])، فدل هذا على أنه كان يقرأ من أواسط المفصل،
ولا حرج أن يقرأ: {إذا السماء انفطرت} [الانفطار:1] كما جاء في بعض الروايات، وكل هذا من السنة.
[حكم القراءة في الصلاة من غير مصحف عثمان]
قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان].والسبب في ذلك أنه كان على العرضة الأخيرة، ولذلك تعتبر هذه العرضة الأخيرة بمثابة النسخ لبقية القراءات التي هي خلاف ما في المصحف الإمام، فقد أجمع المسلمون على هذا المصحف، ولذلك كانت قراءته متواترة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرأ في الناس بالمصحف الإمام، ولا حرج أن يقرأ بأي القراءات الثابتة.
لكن هنا مسألة وهي: لو قرأ بقراءة صحيحة ثابتة،
كقراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) أي: في كفارة الحلف،
فهذا فيه وجهان للعلماء: من أهل العلم من قال: إن هذه القراءة وإن صحت بالآحاد فإنها لا تثبت حكما؛ لأن القراءة إنما تكون بما ثبت بالقطع والتواتر، ولذلك لا تصح بها القراءة.
وقال بعض العلماء: إنها تصح، وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.ولكن لا ينبغي للإنسان أن يخرج بالناس عما هو الأصل الذي اتفق على صحة الصلاة به وهو مصحف الإمام، ولا حرج على الإنسان أن يقرأ بأي القراءات، ولكن نبه العلماء رحمة الله عليهم على أنه إذا كان الإنسان بين قوم يجهلون القراءات، ويكون تنويعه للقراءات تعليما لهم أنه يستحب له أن ينوع بين القراءات إذا كانت له رواية بهذه القراءات.
وقال بعض العلماء أيضا: يستثنى من هذا أن يكون بين قوم جهال، فلو قرأ بقراءات غريبة ربما أحدث الفتنة، فلا يقرأ بغير القراءة المعروفة، فلو كان بين قوم يعرفون رواية حفص فجاء وقرأ برواية ورش فلربما تكلم عليه الناس، وربما ردوا عليه وظنوا أنه قد أخطأ، والواقع أنه مصيب،
فقالوا: في مثل هذه الأمور لا ينبغي التشويش، خاصة على العامة، فربما عرضهم للكفر؛ لأنهم ربما أنكروا هذا القرآن وهو ثابت، فيكون هذا الإنكار في الأصل من حيث هو كفر، وإن كان العامي على قول طائفة يعذر بجهله إذا لم يعلم أنها قراءة.فالمقصود أن الإنسان إذا أراد أن يخرج عن القراءة المعروفة فلينتبه لحال الناس ولا يشوش عليهم، ولا يأتي بقراءة لا يعرفونها، حتى لا يحدثهم بما لا يعرفون،
قال صلى الله عليه وسلم: (حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)، وهذا في الأحاديث فكيف بالقراءات؟! أما لو كان بين طلاب علم، ويريد أن يبين لهم بعض القراءات ليستفيدوا منها، فهذا في الحقيقة أفضل وأكمل؛ لأن فيه زيادة علم وبيان للناس وتوضيح وإرشاد لهم.
فإذا قلنا: تجوز القراءة بالقراءات فهذا يشترط فيه أن يكون في كل ركعة بحسبها، فلا يصح -كما يقول بعض العلماء- أن تخلط بين القراءتين في الركعة الواحدة، فلو قرأت سورة ما من السور واستفتحت برواية حفص فلتتمها برواية حفص، ولا تدخل القراءة في القراءة، فإذا التزمت القراءة تستمر بها،
أما إذا شئت في الركعة الثانية أن تقرأ بقراءة ثانية فقالوا: لا حرج، أما أن ينوع في القراءات في الركعة الواحدة فلا، كأن يقرأ الآية الأولى بحفص، والآية الثانية بورش؛ فإن حفصا لا يقرأ المصحف كله إلا على قراءته التي رواها، فإذا التزمت استفتاح السورة بقراءة حفص تتمها بقراءة حفص، ولا تدخل فيها قراءة ورش؛ لأن هذا فيه إخلال، وإنما رخص العلماء للقراء والعلماء في أثناء الدروس في القراءات لمكان الحاجة، فله أن يقرأ بالأوجه المتعددة من باب التعليم والحاجة، أما في داخل الصلاة فلا.
الركوع وصفته قولا وفعلا
[رفع اليدين عند الركوع]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يركع مكبرا رافعا يديه].
أي: بعد أن يفرغ من القراءة يركع، وسيأتي إن شاء الله بيان ما هو الواجب منه واللازم، وما هو المندوب والمستحب؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (ثم اركع)،
وقد أمر الله بالركوع فقال: {واركعوا مع الراكعين} [البقرة:43]،
وقال: {اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم} [الحج:77] فأمر بالركوع، وهذا يعتبر من أركان الصلاة، ويركع في النافلة والفرض، يركع حال كونه مكبرا،
أي: جامعا بين الفعل والقول، وهذا التكبير يسميه العلماء تكبير الانتقال؛ لأنه انتقل من حال القيام إلى حال الركوع.
وقوله: [رافعا يديه]،
لثبوت السنة بذلك من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الركوع).
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (78)
صـــــ(21) إلى صــ(30)
[وضع الكفين على الركبتين مفرجتي الأصابع]
قال رحمه الله تعالى: [ويضعهما على ركبتيه مفرجتي الأصابع].
أي: يلقم الركبتين بكفيه، ولا يفعل مثل ما يفعل بعض العوام حين يجعل رؤوس الأصابع عند الركبة، والسنة أن يلقم أصابعه للركبتين.
[استواء الظهر مع الرأس حال الركوع]
قال رحمه الله تعالى: [مستويا ظهره].قد كان عليه الصلاة والسلام من هديه إذا ركع هصر ظهره،
فاستوى ظهره في الركوع حتى قالوا: لو صب الماء على ظهره صلوات الله وسلامه عليه لم ينكفئ، فكان يركع مستوي الظهر.ثم رأسه لا يشخصه ولا يصوبه، وإنما يجعله مساويا لظهره، كما جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبلغ ما يكون في الذلة والخضوع لله سبحانه وتعالى، فلا يبالغ الإنسان في الانحدار، ولا يبالغ في رفع الرأس، وإنما يهصر ظهره حتى يستوي، ثم يكون رأسه باستواء ذلك الظهر.
[قول: (سبحان ربي العظيم) في الركوع]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقول: سبحان ربي العظيم].وهذا التسبيح بمعنى التنزيه،
فسبحان ربي العظيم بمعنى: (أنزهه)،
وقد جاء في الحديث: (أنه لما نزل قوله تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة:74] قال عليه الصلاة والسلام: اجعلوها في ركوعكم)، فالركوع فيه فعل وقول، فالفعل هصر الظهر والانحناء،
وأما القول فهو قوله: (سبحان ربي العظيم)، والثناء على الله وتمجيده وتعظيمه،
قال صلى الله عليه وسلم: (أما الركوع فعظموا فيه الرب)، فيقول: (سبحان ربي العظيم) لثبوت السنة به، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التسبيح،
وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي) بعد نزول قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} [النصر:3]،
وكان في قيام الليل صلوات الله وسلامه عليه يقول: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، فكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه الثناء على الله في الركوع.
القيام من الركوع وصفته قولا وفعلا
[قول: (سمع الله لمن حمده) للإمام والمنفرد حال القيام من الركوع]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يرفع رأسه ويديه قائلا إمام ومنفرد: سمع الله لمن حمده].
قوله: (قائلا) أي: حال كونه قائلا، (إمام ومنفرد) أي: يقول الإمام والمنفرد: (سمع الله لمن حمده) ولا يقول المأموم: (سمع الله لمن حمده)، وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمة الله على الجميع،
فالإمام والمنفرد يقولان: (سمع الله لمن حمده)،
والمأموم لا يقول: (سمع الله لمن حمده)،
وإنما يقتصر على قوله: (ربنا ولك الحمد) أو: (ربنا لك الحمد)، ولا يزيد التسميع.
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى أنه يقول المأموم: (سمع الله لمن حمده)؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به).والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن التقسيم ينفي التشريك، وهذه قاعدة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن فأمنوا)، فدل على أنه في الأصل لا يؤمنون مع الإمام حتى يؤمروا بالتشريك،
فلما قال: (إذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا:) دل على التقسيم، والتقسيم خلاف التشريك،
وإنما قالوا بالتشريك لحديث: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)،
فنقول: هذا مطلق وهذا مقيد، والقاعدة أن المقيد مقدم على المطلق،
والأصل: حمل المطلق على المقيد،
فنقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) فيه إجمال، وإن كان الأمر فيه من حيث العموم، لكن نقول: جاء المفصل،
فقال عليه الصلاة والسلام: (فإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد)،
قالوا: هذا يدل على أنه لا يجمع المأموم بين قوله: (سمع الله لمن حمده) وقوله: (ربنا ولك الحمد).فأصح الأقوال أنه لا يجمع بينها بالنسبة للمأموم، فمحل الخلاف في المأموم،
أما الإمام والمنفرد فشبه إجماع من أهل السنة أنه يقول: (سمع الله لمن حمده).
[قول: (ربنا ولك الحمد) بعد إتمام القيام]ق
ال رحمه الله تعالى: [وبعد قيامهما: (ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) ومأموم في رفعه (ربنا ولك الحمد) فقط].أي: يقول حال رفعه أثناء الانتقال: (سمع الله لمن حمده)،
حتى إذا استتم قائما قال: (ربنا ولك الحمد)، سواء أكان إماما أم مأموما أم منفردا، فالإمام والمنفرد إذا أراد أن يسمع فأثناء الفعل، وبعضهم يترك التسميع حتى ينتصب قائما، وهذا ليس من السنة،
والسنة أن يكون التسميع أثناء رفعه من الركوع فيقول: (سمع الله لمن حمده) و (سمع) قيل معناه: استجاب الله دعاء من حمده،
ولذلك كان من السنة استفتاح الأدعية بالحمد وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بالحمد لله)، قالوا: وهذا يدل على أن من علامات إجابة الدعاء الاستفتاح بحمد الله تبارك وتعالى والثناء عليه.
فإذا انتصب الإمام قائما قال: (ربنا ولك الحمد)،
أو قال: (ربنا لك الحمد)، فهذا كله وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
واستحب طائفة من العلماء رواية الواو: (ربنا ولك الحمد)،
وفضلها على رواية: (ربنا لك الحمد)؛ لأن رواية الواو فيها زيادة معنى،
فأنت تقول: (ربنا) أي: أنت ربنا، (ولك الحمد) أي: فيه معنى زائد، فتثبت له الربوبية مع الثناء عليه بالحمد،
لكن إذا قلت: (ربنا لك الحمد) قالوا: هذا معنى واحد، والأفضل الأول، وبالنسبة للإمام أو المنفرد فإنه يجمع بينهما، فيقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)،
أو: (ربنا لك الحمد)،
والمأموم يقتصر على قوله: (ربنا ولك الحمد).
ولهذا يقول المؤلف عليه رحمة الله: [ثم يرفع رأسه ويديه قائلا إمام ومنفرد: (سمع الله لمن حمده)، وبعد قيامهما: (ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) ومأموم في رفعه: (ربنا ولك الحمد) فقط].فذكر رحمه الله ما ينبغي على المصلي بعد انتهائه من الركوع من رفعه، وهذا الرفع أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح من حديث المسيء صلاته، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على لزومه في الصلاة، وإن كانوا قد اختلفوا في الطمأنينة في هذا الرفع، وقد تقدم بيان الأذكار وخلاف العلماء رحمهم الله في مسألة الجمع،
ثم ذكر المصنف رحمه الله الدعاء المأثور الذي يقوله بعد قوله: (سمع الله لمن حمده)،
أو قول الإمام: (سمع الله لمن حمده) وهو أن يقول: (ربنا ولك الحمد)،
أو على الرواية الثانية: (ربنا لك الحمد)، ورواية الواو أوجه عند بعض العلماء، والسبب في هذا أن رواية الواو فيها زيادة معنى،
كأنك تقول: (أنت ربنا)،
ثم تقول: (ولك الحمد).
وذكر رحمه الله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه بقوله: (ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد)،
وفي رواية: (لا مانع لما أعطيت)،
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ملء): أي حال كونه ملء السماوات وملء الأرض، وهي رواية الفتح.وقد احتج بهذا الحديث طائفة من العلماء رحمهم الله على أن الأعمال توزن يوم القيامة، وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، فهل الذي يوضع في الميزان هو الإنسان نفسه يوم القيامة، وعلى قدر صلاحه وفساده يكون الوزن، أم أن الذي يوزن هو عمله قولا كان أو فعلا أو اعتقادا، أم مجموع الأمرين؟
فقال بعض العلماء: الذي يوزن هو الإنسان نفسه؛
لقوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} [الكهف:105]،
ولقوله عليه الصلاة والسلام لما اهتزت الشجرة بـ ابن مسعود فضحك الصحابة من دقة ساقيه: (ما يضحككم من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده إنهما أثقل في الميزان من أحد)، فهذا يدل على أن الموزون هو الإنسان نفسه.
وقال بعض العلماء: إن الموزون هو العمل؛
لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقليتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).فقد دل هذا الحديث الصحيح على أن قول الإنسان للذكر هو الموزون،
قالوا: فالعمل شامل للقول والفعل، وكله يوزن.والصحيح أنه يوزن الإنسان نفسه وعمله؛ لأن النصوص وردت بالجميع،
والقاعدة تقول: (النصوص إذا وردت بأمرين فلا يصح إثبات أحدهما ونفي الآخر إلا بدليل)، فكما أن الله أخبر في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بما يدل على أن الإنسان يوزن،
وأخبر بما يدل على أن العمل يوزن فنقول: كل صحيح، وكل خرج من مشكاة واحدة، فالإنسان يوزن، وعمله يوزن، وعرصات القيامة مختلفة -كما هو جواب ابن عباس رضي الله عنهما أن عرصات يوم القيامة مختلفة-
والمراد بالعرصات: المواقف -نسأل الله أن يلطف بنا وبكم فيها-، فتارة توزن الأعمال، وتارة يوزن أصحاب الأعمال، وكل على حسب ما يكون منه من خير وشر.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (ملء السماوات وملء الأرض) دل على أن الحمد موزون، وأن له ثقل، فقال في هذا الثقل: (ملء السماوات وملء الأرض)، وهذا يدل على عظم ما للعمل الصالح من عاقبة، وكونه له أثر في ثقل ميزان العبد يوم القيامة.وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع بعض أصحابه يقول وراءه: (حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه)، فقال صلى الله عليه وسلم: (من المتكلم بها؟ فقال: أنا يا رسول الله فقال: لقد رأيت اثني عشر ملكا يبتدرونها أيهم يرفعها) وفي رواية: (رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول)، فلو نظرت في حروف هذه الكلمات لوجدتها ما يقارب اثنين وثلاثين حرفا، فكان هذا مناسبا، كأن لكل حرف ملك يرفعه، وهذا يدل على فضل ذكر الله عز وجل، وأن له عند الله عز وجل شأنا عظيما، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين.
فورد عن النبي صلى الله عليه وسلم التحميد بقوله: (ربنا لك الحمد)،
وقوله: (اللهم ربنا لك الحمد) (اللهم ربنا ولك الحمد).
وقوله: (ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) إنما يقع بعد التحميد، ولا يكون من الإمام جهرا.
وقال بعض العلماء: يستحب للإمام أن يرفع صوته قليلا ببعض الأذكار إذا كان بين قوم يجهلونها وهذا على سبيل التعليم؛ فإن العوام والجهال قد يحتاجون من طلاب العلم ومن الأئمة إلى بيان بعض السنن، ويفتقر هذا البيان إلى نوع من الوضوح، كأن يرفع الإمام صوته قليلا، ولذلك جهر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدعاء الاستفتاح، لكي يعلم الناس دعاء الاستفتاح.
قالوا: فلا حرج أن يجهر الإمام أحيانا بمثل هذه الأدعية المأثورة تعليما للناس بالسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأسئلة
[حكم السلام على الجالسين عند دخول المسجد]
q حينما يدخل المصلي المسجد، فهل أن يسلم على الجالسين في المسجد لأن السلام سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، أم لا؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد: فالسنة لمن دخل المسجد أن يبدأ بتحية المسجد قبل السلام على الناس، وهذه السنة دل عليها حديث أبي هريرة في الصحيح: (أن المسيء صلاته لما دخل ابتدأ بالصلاة، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال له: ارجع فصل فإنك لم تصل)، فدل على أن السنة أن يبتدأ بالصلاة قبل السلام على الناس؛ إذ لو كان من السنة أن يستفتح بالسلام لابتدأ الأعرابي السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصلاة، فكونه يبتدئ بتحية المسجد دل على أن الهدي الذي كان معروفا أن يبدأ بتحية المسجد قبل السلام، ولذلك قالوا: السنة لمن قدم المدينة أن يبتدئ بتحية المسجد، ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التحية.وهذا مبني على ما ذكرنا من حديث المسيء صلاته، ولذلك هذا هو الهدي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحكم المسجد فليركع ركعتين).وبعد أن ينتهي من التحية يسلم على الناس ويحدث من شاء، أما قبل التحية فلا يشرع له أن يسلم.والذي يظهر والله أعلم ترجيح القول الأول، وهو أنه يبتدئ بتحية المسجد، ثم يثني بعد ذلك بالسلام على الناس؛ لأنه حق خاص، والحق الخاص مقدم على العمومات؛ لأن هذا في موضع خاص ورد فيه دليل السنة الذي يدل على اعتبار تقديم الصلاة على السلام.والله تعالى أعلم.
[حكم قطع الفاتحة بالاستعاذة من الشيطان]
q لو أن إنسانا قطع الفاتحة بقوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)؛ لكي يذهب عنه وساوس الشيطان، فهل يعيد الصلاة، أم ماذا عليه؟
a إذا دخل على الإنسان داخل الوسواس فاستعاذ أثناء القراءة قالوا: هذا ذكر مشروع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الشيطان الذي يسمى (خنزب)، وهو شيطان الصلاة، وشيطان الوضوء (الولهان) كما ورد في الخبر عنه عليه الصلاة والسلام، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام قوله: (إذا أقيمت الصلاة أقبل -أي: الشيطان- فيوسوس على الإنسان حتى يحول بينه وبين الصلاة)، وذلك لعلمه أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، فيأتيه بالوساوس والخطرات، قال عليه الصلاة والسلام: (فيقول له: اذكر كذا.اذكر كذا.اذكر كذا)، حتى ورد: (إن العبد لينصرف من صلاته وليس له منها إلا العشر إلا الربع إلا الثلث إلا الثمن، وما فاته منها خير من الدنيا وما فيها) وهذا كله بسبب الوساوس، قال عليه الصلاة والسلام: (فإذا وجد أحدكم ذلك فليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله منه)، ولا يكون فيه التفات، وإنما يكون نفثه إلى اليسار دون حصول اللي للعنق، فيتفل عن يساره ثلاثا بريق خفيف، ويقول: (أعوذ بالله من الشيطان)، فهذا ذكر مشروع.ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بأصحابه، ثم تكعكع فتكعكع الصف الأول وتكعكع الصف الثاني بعده، وهو يقول: أعوذ بالله منك، أعوذ بالله منك.فإذا بالشيطان قد جاءه بشهاب من نار، فخنقه صلوات ربي وسلامه عليه وقال: (لولا أني ذكرت دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا يلعب به صبيان المدينة) فهذا يدل على مشروعية الاستعاذة في الصلاة من الشيطان؛ لأنها ذكر مشروع، فالإنسان إذا حيل بينه وبين القراءة وتدبر كلام الله والتأثر بآيات القرآن لا حرج عليه أن يستعيذ.
والله تعالى أعلم.
[حكم قراءة الفاتحة للمأموم]
q إذا قرأ الإمام سورة الفاتحة، فهل يقرأ المأموم بعد الإمام، أم ينصت للإمام؟ وما الخلاف في هذه المسألة، وما الراجح؟
a للعلماء في المأموم إذا كان وراء الإمام أقوال في وجوب الفاتحة عليه: القول الأول، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه: الوجوب في جميع الصلاة، سواء أكانت سرية أم جهرية، وهو مذهب الشافعية، وكذلك اختاره جمع من أهل الحديث، والظاهرية رحمة الله على الجميع، فهم يرون أن قراءة الفاتحة واجبة على المأموم والمنفرد والإمام، وأنك إذا صليت وراء الإمام في جهرية أو سرية يجب عليك قراءة الفاتحة.القول الثاني: لا تجب على المأموم قراءة الفاتحة وراء الإمام مطلقا، وهو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.القول الثالث: تجب عليه في السرية دون الجهرية، كما هو موجود في مذهب المالكية، وكذلك بعض أصحاب الإمام أحمد يميل إليه، وقالوا: إذا جهر لا يقرأ، ولا تلزمه القراءة، وإذا أسر وجبت عليه القراءة.وأصح هذه الأقوال والعلم عند الله القول بوجوب القراءة مطلقا، وذلك لما يأتي: أولا: لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)، والقاعدة في الأصول أن (أي) من ألفاظ العموم، وما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين صلاتك إماما أو مأموما أو منفردا، نافلة أو فريضة، فالأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، ولا مخصص.الدليل الثاني: أنه ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه استثنى الفاتحة في القراءة وراء الإمام حتى في الجهرية، فثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (صلى بالناس الصبح فسمع قارئا يقرأ وراءه، فقال: إنكم تقرءون وراء إمامكم؟ قالوا: نعم.قال عليه الصلاة والسلام: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فهذا نص، والذين قالوا بعدم القراءة قالوا: هذا منسوخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث جابر: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، قالوا: فهذا يعتبر ناسخا لحديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب).والجواب عن هذا القول من وجوه: أولا: إنه لا يصح النسخ بالاحتمال، حيث لم يثبت دليل يدل على تأخر هذا الحديث عن الحديث الذي ذكرناه: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب).ثانيا: أن هذا الحديث ضعيف، وجماهير المحدثين على ضعفه، فلا يقوى على معارضة ما هو أصح منه.ثالثا: أن قوله: (فقراءة الإمام له قراءة) المراد به: القراءة التي بعد الفاتحة، فبالإجماع أنك إذا صليت وراء الإمام أنك تترك قراءته، وهذا هو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر، ولذلك نهى الصحابي لما قرأ بـ: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1] فقال: (مالي أنازعها)، فلذلك يفهم من هذا أن المراد بقوله: (فقراءة الإمام له قراءة) ما بعد الفاتحة.وبناء على هذا يترجح القول بوجوب القراءة مطلقا، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج).وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).وقوله في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب).فهذه الأدلة تقوي مذهب من قال بأنه يقرأ في السرية والجهرية.أما السؤال: متى يقرأ إذا كان وراءه، فإن قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204] لا يعارض ما نحن فيه؛ فإن القاعدة: (العام يخصص إذا أمكن تخصيصه)، وقد جاءنا الحديث يقول: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فهذا مخصص، والقاعدة: (لا تعارض بين عام وخاص).فنقول قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له} [الأعراف:204] محمول على العموم إلا في الصلاة؛ لأنك مطالب بالقراءة كما يقرأ إمامك، وبناء على ذلك: فله قراءته وأنت لك قراءة، فلا يصح أن تترك الفرض للاستماع الذي هو دونه في الوجوب، حتى لو قلنا بوجوب استماع القرآن، فقد تعارض الفرض الذي هو ركن الصلاة والواجب، والقاعدة أنه إذا تعارض الفرض والركن مع الواجب يقدم الفرض والركن على الواجب، فهذا وجه.الوجه الثاني: أن أبا هريرة رضي الله عنه -كما روى البيهقي عنه بسند صحيح في جزء القراءة وراء الإمام- لما قيل له ذلك قال: (اقرأها في سرك)، وجاء عن بعض السلف: اقرأها في سكتات الإمام، فتقرؤها في سكتات الإمام كسكتته بين الفاتحة والسورة، أو سكتته قبل الركوع، فهذا الذي تميل إليه النفس.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (79)
صـــــ(1) إلى صــ(7)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [4]
إذا رفع المصلي رأسه من الركوع فإنه يسجد مكبرا، والسجود ركن من أركان الصلاة، وله صفة معلومة، ثم يرفع من السجود ويجلس بين السجدتين كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الجلسة ركن من أركان الصلاة أيضا، ثم يسجد سجدة ثانية كالأولى، ثم يرفع منها ويقوم للركعة الثانية، ويفعل فيها كما فعل في الأولى، ما عدا تكبيرة الإحرام والاستفتاح.
[السجود وأحكامه]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يخر مكبرا ساجدا].
الخرور: هو السقوط من أعلى إلى أسفل، ومنه قوله تعالى: {فخر عليهم السقف من فوقهم} [النحل:26]،
ولذلك قال بعض العلماء: إنه إذا قرأ الإنسان آية السجدة وكان جالسا فليقف حتى يأتسي بداود عليه السلام في خروره؛ لأنه لما كان الخرور من أعلى إلى أسفل فإنه يقف لكي يسجد.ويفهم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه الميل إليه، وإن فعله الإنسان فحسن، لكن الأقوى واختيار الجماهير أنه يسجد على حالته.والمراد بهذا الخرور تحصيل الركن البعدي، وهو مرحلة الانتقال من ركن الرفع بعد الركوع إلى ركن السجود،
وهذا الركن الذي يخر إليه عبر عنه بقوله: (مكبرا ساجدا) أي: حال كونه مكبرا قائلا: الله أكبر، وقد تقدم أن هذا التكبير يسميه العلماء رحمة الله عليهم تكبير الانتقال؛ لأنه ينتقل فيه من ركن إلى ركن، ما عدا تكبيرة الإحرام.
فقوله: (ثم يخر مكبرا) أي: قائلا: (الله أكبر) كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.والسنة أن يوافق تكبيره الفعل كما تقدم معنا غير مرة، لأنه إذا وجد من لا يراه ويسمع صوته فإنه يساويه في الفعل ولا يسبقه، ومن يراه ولا يسمع صوته كذلك أيضا يساويه في الفعل، فحينما يوافق تكبيره خروره فإن ذلك أنسب لحصول ائتمام الناس به إذا كان إماما.
[أدلة وجوبه ومعناه]
أمر الله بهذا السجود فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج:77]، وأجمع العلماء على أنه ركن من أركان الصلاة.
والسجود: أصله التذلل والخضوع، ويتضمن إظهار الحاجة لله عز وجل بما يشتمل عليه من الأذكار من التسبيح والتحميد والتمجيد لله عز وجل،
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي)،
وهذا السجود أمر به النبي صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته فقال: (ثم اسجد)، فأمره بالسجود، ولذلك قلنا بلزومه ووجوبه، وسيأتي أنه من أركان الصلاة.وهذا الخرور بين فيه المصنف صفة معينة هي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، على أحد القولين عند العلماء وسيأتي بيانها.
[وجوب السجود على سبعة أعضاء]
قال رحمه الله تعالى: [ساجدا على سبعة أعضاء: رجليه، ثم ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته مع أنفه] هذه السبعة الأعضاء ثبت فيها الحديث عن ابن عباس رضي لله عنهما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) ثم ذكرها، وابتداء المصنف بذكر الرجلين لأن المصلي ثابت عليهما، والسجود على الرجلين ليس المراد به أن يرفع ويعود، وإنما لبكونه ينتقل إلى الخرور فيضطر إلى ميل الرجلين، فكأنه سجد على الرجلين، وهو في الحقيقة ساجد؛ لأن السنة لمن سجد أن يستقبل بأصابع الرجلين القبلة كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حرص على أن تستقبل أصابع رجليه القبلة فإنه يتمكن من السجود أكثر، ولذلك تجد الأعضاء قد تمكنت من الأرض، وهذا أبلغ ما يكون في الذلة لله عز وجل بالسجود، فحينما يستشعر الإنسان أن أعضاءه جميعها مستغرقة للسجود، وأنه متذلل لله عز وجل، فذلك أبلغ ما يكون في التذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى، وهذا هو المقصود من الصلاة، فيستقبل بأطراف أصابعه القبلة، كما جاء في الحديث، وكذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رص العقبين، فلم تكن مفرجة، وإنما كان يرص قدميه صلوات الله وسلامه عليه، فيبتدئ بالرجلين مستقبلا بهما القبلة، فإذا انحنت الرجلان فقد سجدتا؛ لأنه قد تحصل بهما السجود من جهة الاعتماد.
[كيفية الهوي للسجود]
قوله: [ثم ركبتيه] هذا على القول بأنه يقدم الركبتين على اليدين، وهو أحد الوجهين عند العلماء رحمة الله عليهم،
وقال طائفة من أهل العلم: يقدم اليدين على الركبتين.
والسبب في ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبرك الرجل كما يبرك البعير،
قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه) أخرجه أبو داود.
ففي رواية: (يضع ركبتيه قبل يديه)،
وفي رواية: (يضع يديه قبل ركبتيه)،
فنظرا لهذا الاختلاف في الروايات اختلف العلماء رحمهم الله: فمنهم من رجح أن يقدم الركبتين كما درج عليه المصنف رحمه الله، واحتجوا برواية أبي هريرة التي تدل عليه،
وكذلك حديث وائل بن حجر رضي الله عنه وأرضاه وأنه: (قدم ركبتيه على يديه) لهذا قالوا: إنه يقدم الركبتين على اليدين.
وقالت طائفة: يقدم اليدين على الركبتين، وذلك لرواية في حديث أبي هريرة، وهي عند أبي داود في سننه بسند صحيح، وفيها تقديم اليدين على الركبتين.
وقالوا: إن رواية وائل بن حجر مطعون فيها من جهة الثبوت.
ثم قالوا: إن صدر الحديث يدل على ترجيح هذه الرواية، وذلك من جهة أن البعير يقدم ركبتيه على يديه حال بروكه، ولذلك إذا رأيت البعير أراد أن يبرك فإنه يقدم الركبتين قبل تقديمه لرجليه،
ومن ثم قالوا: إنه من السنة أن يقدم اليدين، فإذا قلنا بتقديم الركبتين شابه البعير، وإلا تناقض صدر الحديث مع عجزه.وللشيخ ناصر الدين رحمه الله في الإرواء بحث جيد في هذا يرجع إليه، وكذلك أشار إلى شيء منه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.والحقيقة أن هذا القول هو أعدل الأقوال وأولاها إن شاء الله بالصواب، وهو أنه يقدم اليدين، ولو ترجح عند الإنسان تقديم الركبتين على اليدين فليقدم الركبتين على اليدين ولا حرج عليه، فكل على خير، فمن ترجح عنده تقديم الركبتين فليقدم، ومن ترجح عنده تقديم اليدين فليقدم، لكن الخلط بين الروايتين باطل؛
إذ يقول بعض طلاب العلم: نجمع بين الروايتين بأن نفعل هذا تارة وهذا تارة.فليس الخلاف هنا من خلاف التنوع الذي يسوغ فيه الجمع بين الصفات، وذلك لورود النهي عن بعضها، فبالإجماع أنه منهي عن واحدة منها، فإذا فعلت هذا تارة وهذا تارة فقد وقعت في المحظور، ولذلك إما أن يأخذ الإنسان برواية أبي داود الثابتة في تقديم اليدين على الركبتين، إضافة إلى أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يفعل ذلك، وهذا يترجح أيضا بما جاء عن السلف، كما قال الأوزاعي وهو فقيه الشام،
ومنزلته ومكانته لا تخفى: (أدركتهم يقدمون اليدين على الركبتين) أي: إذا سجدوا.فإذا ترجح عند إنسان هذا القول عمل به، وإن ترجح عنده غيره عمل به
.وليتأكد من أن أهل اللغة يقولون: إن ركبتي البعير في مقدمته.فهذا يرجع ويحتكم إليه عند الخلاف؛
لأنه إذا ثبت قولهم: إن ركبتي البعير في يديه فحينئذ يقدم المصلي الركبتين على اليدين،
وإن قيل: إن الركبتين في موضعهما كما يفهم من قول صاحب اللسان، وهو الذي اعتمده غير واحد من أهل اللغة فحينئذ يترجح القول بتقديم اليدين على الركبتين، وهذا هو الذي تميل إليه النفس، وهو قول طائفة من السلف كما ذكرنا.
قالوا: إن مما يؤكد هذا القول أن النزول على اليدين أرفق بالإنسان، وخاصة إذا كان مع الضعف؛ فإن الغالب فيه أنه إذا خر يحتاج للاعتماد على اليدين أكثر من اعتماده على الركبتين، ولذلك تجده يتحامل عند تقديمه للركبتين على اليدين، وهو أرفق وأولى بالاعتبار من هذا الوجه.
[حكم الحائل بين أعضاء السجود والأرض]
قال رحمه الله تعالى: [ولو مع حائل ليس من أعضاء سجوده] ذكرنا أن هذه السبعة الأعضاء يسجد عليها، وهذا على سبيل الوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، خلافا لمن قال بعدم وجوب السجود عليها.وبناء على ذلك فمن سجد فإنه يراعي في سجوده سجود الرجلين بالصفة التي ذكرناها، وكذلك سجود الركبتين بالتصاقهما بالأرض، وسجود الكفين، وذلك بالتصاقهما بالأرض، وسجود الجبهة والأنف، وذلك بوضعهما على الأرض، فلو سجد ورفع رجليه فإنه يعتبر آثما، ولا يصح سجوده في قول طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود على هذا الوجه، وكذلك لو رفع إحدى الركبتين متعمدا دون حاجة فإنه يأثم ولا يصح سجوده في قول من ذكرنا.فإن وضع أعضاءه على الأرض، ووجد الحائل بينها وبين الأرض، سواء في مقدمة الإنسان أم في مؤخرته، فإن الحائل في القدمين والركبتين يكاد يكون بالإجماع أنه لا يؤثر، وتوضيح ذلك: لو صلى في نعليه، فإنه سيكون اعتماده على النعلين، وهذا مع وجود حائل متصل،
فقالوا: لا يؤثر.وكذلك الحال بالنسبة للركبتين، فإنه لو صلى سيصلي بثوبه، وبناء على ذلك فالحائل المتصل بالإنسان في هذين الموضعين بالإجماع لا يؤثر، وقد كان عليه الصلاة والسلام يصلي في نعليه وخفيه، ومن المعلوم أن الخف والنعل يحول بين الإنسان وبين إلصاقه العضو بالأرض مباشرة.أما بالنسبة لليدين والجبهة فإن كان على حصير أو سجاد أو خمرة فإنه بالإجماع لا يؤثر،
فقد ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم عند أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها قال: فقال لنا: (قوموا فلأصل لكم)،
قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، وهذا الحديث في صحيح مسلم،
قالوا: إنه صلى على حصير.
وفي الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام لـ عائشة رضي الله عنها: (ناوليني الخمرة، قالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك) والخمرة: أصلها من خمر الشيء إذا غطاه، وهي قطعة توضع لكي تحول بين الوجه وبين الأرض يسجد عليها وتكون من قماش، كالسجادة الصغيرة، وكالقطعة التي تسع مقدم الإنسان، أو تسع غالب أجزائه.فهذا يدل على أن الحائل بالسجاجيد لا يؤثر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرده ولم يعتبره مؤثرا في سجوده.والسنة أن الإنسان إذا كانت أعضاؤه على الأرض أن تلي الأرض، فإن وجد هذا الحائل الذي لا يؤثر فلا إشكال.لكن لو أن إنسانا قصد وضع الحائل للحاجة إلى ذلك، كأن يكون في حر شديد، فلو سجد ربما أضر بجبهته وأنفه فيؤثر عليه، فهل له أن يبسط طرف الثوب مثل كمه أو طرف الرداء، ويجعله تحته إذا سجد لكي يكون أرفق به؟a ثبت الحديث عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا إذا أرادوا أن يسجدوا بسط أحدهم طرف ثوبه فسجد عليه من شدة الحر في صلاتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا حرج أن يكون ما يسجد عليه حائلا، ولو بحائل متصل،
وهذا الذي دعا المصنف إلى أن يقول: (ولو مع حائل) إشارة إلى هذا الأصل الذي دلت السنة عليه.السجود مع الحائل إذا لم توجد إليه حاجة فهو ممنوع،
وشدد بعض العلماء فقال: إنه إذا احتاج إلى حركة وأفعال من أجل الحائل فإنه لا يبعد أن يأثم، كأن يسحب شيئا من أجل أن يسجد عليه، فيتكلف دون وجود الحاجة، ومن أمثلة ذلك أن يصلي المصلي فتنقلب سجادته، ويكون بإمكانه أن يسجد على الأرض، فلا ينبغي له أن يشتغل بقلب السجادة؛ لأنها حركة زائدة، خاصة في الفريضة، ومن مشايخنا رحمة الله عليهم من كان يشدد في ذلك، خاصة طلاب العلم، لمقام الهيبة والوقوف بين يدي الله عز وجل،
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن في الصلاة لشغلا)، فكونه لا توجد الحاجة ويشتغل بقلب السجادة وردها، خاصة إذا كان هناك هواء وريح، فإنه اشتغال بما لا تأثير له في الصلاة، وليس من جنس أفعال الصلاة، فليتركها على حالها، ويتفرغ لطاعته لله عز وجل بالسجود على الأرض، بل أبلغ وأعظم قربة إلى الله عز وجل أن يعفر الإنسان جبينه بالسجود لله سبحانه وتعالى.وقد ثبت عن خير خلق الله، وحبيب الله صلى الله عليه وسلم أنه سجد على الطين حتى رئي أثر الماء والطين في جبهته صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من أبلغ ما يكون من الذلة،
ولذلك لما أثنى الله على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم وزكاهم قال سبحانه: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح:29].فلذلك كلما سجد على الأرض وتذلل لله عز وجل كان أبلغ، ولا ينبغي -كما قلنا- تكلف وجود الحائل، خاصة مع الحركات في الصلاة، أما قبل الصلاة فلو وضع الحائل فلا بأس.وهنا مسألة يخشى فيها على دين الإنسان، وقد أشار إليه بعض أهل العلم وهي أن بعض المصلين يتتبع المواضع الحارة للصلاة فيها، حتى تحترق جبهته، ليكون شعار الصلاح في وجهه نسأل الله السلامة والعافية (خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) لأنه يريد الرياء ويريد ما عند الناس من التزكية والثناء، فلا يجوز للإنسان أن يبالغ في سجوده في المواضع التي يترتب على السجود فيها حصول الأثر، وهكذا الضغط على الجبين حتى يظهر في وجهه أثر السجود، فهذا لا ينبغي، إنما ينبغي أن يترك الأمر على ما هو عليه دون تقصد.وكان السلف الصالح رضوان الله عليهم يخافون من ظهور الخير من الإنسان فضلا عن أن يطلبوا أمارات الصلاح رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان الرجل منهم إذا اطلع على عبادته ربما بكى وأشفق على نفسه من الفتنة، فنسال الله السلامة والعافية، فالمبالغة في وضع الجبهة على مكان السجود حتى تؤثر في الجبين، أو تؤثر في مارن الأنف كل ذلك مما ينبغي للإنسان أن يحذره، وأن يتقي الله في عبادته، وأن يجعلها لله،
فإن الله وصف أهل النفاق بأنهم: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} [النساء:142]، فنسأل الله أن يعيذنا من أخلاقهم، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
[مجافاة العضدين حال السجود]
قال رحمه الله تعالى: [ويجافي عضديه عن جنبيه] المجافاة: أصلها البعد،
وجفاه: إذا قلاه وابتعد عنه، أو امتنع من كلامه والقرب منه، والمجافاة بين العضد والجنب هي أن لا يقرب عضده من جنبه؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث وائل، وكذلك في الأحاديث الصحيحة عنه أنه جافى،
وثبت في حديث البراء قال: (إن كنا لنأوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة ما يجافي)، فكان إذا سجد جافى حتى يرى بياض إبطيه صلوات الله وسلامه عليه.وهذه المجافاة تعين على تمكن أعضاء الإنسان من السجود، بخلاف ما إذا طبق بينها أو افترش افتراش السبع، فإن هذه الحالة لا تكون أبلغ في سجوده وتمكن أعضائه من الموضع.
فالمجافاة سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي للإنسان أن يؤذي جاره إذا كان في الصف، فهي سنة لمن تيسر له ذلك، فإذا كان بجواره من يزعجه ويضايقه حين يجافي فإنه في هذه الحالة يجافي بقدر معين؛ لأنه كما أنك تريد تحصيل السنة، كذلك هو يريد تحصيل السنة، فلو ذهب كل منكما يجافي فإنه يضر بالآخر، ولذلك يجافي الإنسان عند الإمكان، واستثنى أهل العلم من كان في الصف،
ولذلك قالوا: تأتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يتأت لغيره، وذلك لكونه إماما؛ فإن الإمام يتمكن من السجود أكثر، ويتمكن من المجافاة أكثر.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (80)
صـــــ(8) إلى صــ(14)
[مجافاة البطن عن الفخذ حال السجود]
قال رحمه الله: [وبطنه عن فخذيه] فلا يجعل الفخذين حاملين للبطن، وهذا من السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإنسان مع هذه المجافاة يجد نوعا من المشقة، ولكنها طاعة وقربة، ولذلك يحس بأثر هذا السجود، ولعله عند سجوده وحصول نوع من الأثر عليه يحس بالسجود بين يدي الله، لكنه لو ارتفق ربما ارتاح لذلك فأنست نفسه،
ولذلك قال بعض العلماء: إن المجافاة تشعر الإنسان بالسجود بين يدي الله.وجرب ذلك، فإنك كلما جافيت وحرصت على أن يكون هناك مجافاة بين وسطك وبين العضدين والجنب فإنك تجد أنك تحس بالسجود وثقله عليك، وهذا أدعى لاستشعار الإنسان مقامه بين يدي الله عز وجل، وذلك أدعى لحضور قلبه وخشوعه.
قال رحمه الله تعالى: [ويفرق ركبتيه] أي: يفرق الركبتين، فليس من السنة التصاقهما، ولذلك يرص العقبين ويفرق بين الركبتين، وهذا إذا كان رجلا، كما سيأتي.
[قول: (سبحان ربي الأعلى) في السجود]
قال رحمه الله تعالى: [ويقول: سبحان ربي الأعلى] بعد أن فرغ رحمة الله عليه من بيان صفة السجود الفعلية بدأ بما ينبغي على المكلف أن ينتبه له من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم القولي، فقد كانت للنبي صلى الله عليه وسلم أذكار وأدعية في سجوده، فيسن للإنسان أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وهذا الموضع من أبلغ المواضع ذلة لله سبحانه وتعالى،
وقال بعضهم: إنه من أشرف مواضع الصلاة.
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من مواطن الإجابة فقال: (أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجدا)، وقال عليه الصلاة والسلام في هذا الموضع: (فقمن أن يستجاب لكم) أي: حري أن يستجاب لكم من الله عز وجل، وذلك لما فيه من بالغ الذلة لله سبحانه وتعالى.
فيقول: (سبحان ربي الأعلى)، وهذا التسبيح يعتبر من أذكار السجود الواجبة فيه،
ولذلك لما نزل قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1] قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوها في سجودكم).
ولما نزل قوله تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة:74] قال: (اجعلوها في ركوعكم)،
وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا سجد قال: (سبحان ربي الأعلى)، وهذا من الدعاء بالمناسبة، فهو في أدنى ما يكون ذلة لله، فقابلها بما يكون من صفة العلو لله سبحانه وتعالى،
فقال: (سبحان ربي الأعلى)، وفيه رد على من ينفي جهة العلو لله سبحانه وتعالى، وسيأتي إن شاء الله أن هذا الذكر من واجبات الصلاة.وله أن يدعو بالأدعية التي يريدها من خيري الدنيا والآخرة، فلا مانع أن يسأل الله العظيم من فضله سواء أكان في نافلة أم فريضة.وقد جاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه افتقدته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها،
قالت: (فجالت يدي) أي: في حجرتها، وكانت حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الضيق بمكان؛ لأن الله اختار له الآخرة، ولم يختر له الدنيا، كان إذا أراد أن يسجد لا يستطيع أن يسجد حتى تقبض عائشة رجليها من أمامه،
فتقول: (افتقدته فجالت يدي فوقعت على رجله ساجدا يقول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك) فكان من أجمع الدعوات وأفضلها وأعزها وأكرمها أن يسأل الله الثبات على دينه، فجعله في هذا الموضع، فكونه ساجدا بين يدي الله، وكونه في ظلمات الليل التي هدأت فيها العيون، وسكنت فيها الجفون يدل على شرف هذا الموضع، فاختار له هذه الدعوة العظيمة وهي الثبات على الدين،
وكان من هديه أن يقول: (يا مقلب القلوب: ثبت قلبي على دينك)،
وفي رواية: (صرف قلبي في طاعتك).المقصود أن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء في السجود، فعلى الإنسان أن يدعو ويسأل الله من فضله.
[صفة الجلوس بين السجدتين]
قال رحمه الله: [ثم يرفع رأسه مكبرا] أي: إذا فرغ من السجود رفع رأسه مكبرا، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الرفع، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث المسيء صلاته،
حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع)، فأمره بالرفع من السجود لكي ينتقل إلى الركن البعدي، وهو الجلوس بين السجدتين.
قال رحمه الله تعالى: [ويجلس مفترشا يسراه ناصبا يمناه] أي: يجلس حال كونه مفترشا يسراه، فيقلبها لكي تكون حائلا بين الإلية والأرض، ولما صارت حائلا بين إليته والأرض فإنها تعتبر بمثابة الفراش الذي يحول بين البدن وبين الأرض، فمن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يفترش رجله اليسرى كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في صفة صلاته صلوات الله وسلامه عليه، فيفترش اليسرى ويجعلها بمثابة الفراش، ثم ينصب يمناه.
[دعاء الجلوس بين السجدتين]
قال رحمه الله تعالى: [ويقول: رب اغفر لي] أي: يستقبل بأطراف أصابعه اليمنى القبلة كما هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ويقول: رب اغفر لي.وهو الدعاء الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم،
فقد كان يقول: (رب اغفر لي.رب اغفر لي)،
وكان يقول عليه الصلاة والسلام دعاءه المأثور في السنن: (اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني واهدني وعافني وارزقني)، وهذه أدعية تجمع خيري الدنيا والآخرة للعبد، فسأل الله عز وجل خير دينه، وذلك بسؤاله الرحمة والمغفرة،
وقال: (اجبرني وارفعني) وهذا للدين والدنيا والآخرة، فإنه جبر لأمور الدين والدنيا، ورفعة في أمور الدين والدنيا،
وقال بعد ذلك عليه الصلاة والسلام: (وعافني وارزقني) فهذا أيضا من خير الدنيا؛ فإن الإنسان إذا عوفي فقد تمت عليه نعمة الله عز وجل بالنسبة لأمور الدنيا؛ لأن أكثر المصائب في الدنيا إنما تقع بسبب زوال عافية الله عز وجل عن العبد، وإذا سلب العبد العافية فقد هلك،
كما قال صلى الله عليه وسلم: (يا عم رسول الله سل الله العافية).فكان يسأل عليه الصلاة والسلام بين السجدتين العافية، ويكون هذا الموضع موضع دعاء،
وللعلماء في ذلك وجهان: قال بعضهم: هو موضع دعاء فيشرع أن يدعو الإنسان بما يتخير من أمور دنياه وأخراه،
وقال بعضهم: يتقيد بالوارد.وهذا أقوى، ولكن إذا لم يحفظ، كأن يكون عاميا فلا بأس أن يدعو بما تيسر له.والسبب في أنه يدعو بما تيسر له أن السنة أمران،
الأمر الأول: دعاء،
والثاني: لفظ مخصوص، فإن تعذر عليه اللفظ المخصوص فالسنة أن يسأل، وهو قول الجماهير كما نسبه غير واحد إليهم، فإذا كان لا يستطيع أن يحفظ الوارد، أو كان يجهله ودعا بما تيسر له، كدعائه له ولوالديه فلا حرج، والأفضل والأكمل أن يدعو بالدعاء المأثور،
وفرق بين قولنا: الأفضل،
وبين أن يقال: إن هذا حرام وبدعة.فلا يسوغ للإنسان أن يحرم، إنما يكون التحريم في ألفاظ الذكر المخصوصة، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يسكت عن الصحابة، ولم يأمرهم بلفظ مخصوص بين السجدتين يدل على أن الأمر واسع، وهذا قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم، وينبه على أن الحكم بالبدعة يحتاج إلى دليل، والأصل في الأذكار التوقيف، لكن إذا كان المحل محل تمجيد، أو دعاء، أو أثر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء فإن لمن دعا فيه -كأن يدعو له ولوالديه- وجه من السنة،
وإن قال: أنا لا أدعو بذلك؛ لأني لا أراه، فله أن يقول ذلك،
أما أن يقال لمن دعا: ابتدعت، ويحرم عليه، ويحكم بكونه آثما في صلاته فهذا يحتاج إلى نظر، ولذلك قال بعض العلماء: يدعو لوالديه لتعذر ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهي عن الدعاء لوالديه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك يبقى غيره على الأصل من أمر الله عز وجل له بالدعاء ولوالديه، فلا حرج عليه أن يدعو، لكن السنة والأفضل والأكمل للإنسان أن يتقيد بالوارد.
قال رحمه الله: [ويسجد الثانية كالأولى] أي: يسجد السجدة الثانية، ويفعل فيها ما فعل في الأولى من الهدي العملي والقولي.
[الانتقال من السجود إلى الركعة الثانية]
قال رحمه الله: [ثم يرفع مكبرا] أي: ثم يرفع رأسه من سجوده مكبرا لكي ينتقل إلى الركعة الثانية إذا كان في شفع، سواء أكان في الفرض أم النفل.
قال رحمه الله تعالى: [ناهضا على صدور قدميه معتمدا على ركبتيه إن سهل] هذا وجه عند أهل العلم رحمة الله عليهم، وهو أنه يعتمد القائم من السجود على ركبتيه وصدور قدميه إذا تيسر له ذلك، وهو قول بعض السلف رحمة الله عليهم.وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتماده على الأرض كما في حديث العجن،
وكذلك في حديث مالك بن الحويرث وللعلماء في ذلك وجهان: منهم من قال: إن كان الإنسان مطيقا قادرا قام على صدور القدمين والركبتين، كما جاء في بعض الروايات عنه عليه الصلاة والسلام من قيامه على هذا الوجه، فإن كان عاجزا، أو لا يستطيع الأخذ بحديث العجن فلا حرج عليه.وحديث العجن مختلف في إسناده، وإن كان حسنه بعض أهل العلم وقال بثبوته، فلا حرج في الأخذ بهذه السنة والعمل بها،
والعجن: أن يجمع أصابعه لكي يتمكن من وضعها، ثم يقوم معتمدا عليها؛ لأنه إذا أراد أن يعجن العجين جمع أصابعه ثم اتكأ عليها، هذا بالنسبة لصفة قيامه من السجود.
[تحقيق القول في جلسة الاستراحة]
مسألة جلسة الاستراحة للعلماء فيها وجهان: فمنهم من قال: هي سنة مطلقا للكبير والصغير، واحتجوا بحديث مالك بن الحويرث، وما جاء في بعض روايات حديث أبي حميد الساعدي، وما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم المسيء صلاته أمره بهذه الجلسة، ولكن هذه الزيادة في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري ضعيفة، ونبه على ضعفها غير واحد كما أشار إليه الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه، هذه الزيادة من أمره عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته بعد فراغه من السجدة الثانية أن يرجع ضعيفة، والأقوى فيما اعتمده الإمام الشافعي رحمه الله في إثبات هذه الجلسة -وهو وجه عند الحنابلة- حديث مالك بن الحويرث، وهو حديث صحيح لا يختلف اثنان في ثبوته، ولكن الإشكال أن مالك بن الحويرث قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره بعد عام الوفود.وثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في آخر عمره أخذه اللحم، بمعنى أنه بدن وثقل صلوات الله وسلامه عليه،
كما في حديث عائشة: (فلما سن وأخذه اللحم) ولذلك كان يصلي في قيام الليل جالسا، حتى إذا قرب من قدر مائة آية قام وقرأها ثم ركع.
فقالوا: كونه يراه في آخر عمره بهذه الصفة يدل على أنه كان يفعلها لحاجة، فهي سنة للمحتاج، إما لضعف أو مرض أو كبر، ولكن الحدث والقادر فإنه يقوم مباشرة.وهذا القول هو أولى الأقوال، وهو مذهب المالكية والحنفية، وقول عند الحنابلة رحمة الله عليهم،
والدليل على ذلك أنه ثبت عندنا أمر في حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع)، وهذا بعد السجود، وهو في الصحيحين، والأمر يقتضي الوجوب.وحديث مالك متردد بين أن يكون سنة جبلية لمكان الحاجة، وبين أن يكون سنة تشريعية للأمة، ولمكان هذا الاختلاف فإنه يبقى على الأصل من كونه يقوم مباشرة، ومن تأول هذه السنة وفعلها أيضا فلا حرج عليه، فلو ترجح عند الإنسان الأخذ بحديث مالك بن الحويرث واعتبرها سنة مطلقة فإنه لا حرج عليه ولا ينكر عليه، وكل على سنة وخير.فالأصل عند سلف الأمة رحمة الله عليهم أنه لا يشنع عليه ولا يبدع، ولا يؤذى من تأول سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعنده سلف من هذه الأمة يقول بقوله، فلا حرج على من جلس وهو يتأول السنة، ومثاب إن شاء الله، ولا حرج على من قام وهو يتأول السنة.ولكن لو ترجح عند الإنسان أن جلسة الاستراحة تعتبر سنة فالأفضل له أن لا يداوم عليها؛ لأن كون الصحابة كـ ابن عمر وأبي هريرة وأنس، والذين هم محافظون على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقومون بعد السجود مباشرة، ولم يحفظ عن واحد منهم أنه كان يجلس هذه الجلسة يدل ويؤكد على أنها على الأقل لا يواظب عليها؛ لأنه لو ووظب عليها لانتشر ذلك وذاع بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك الأولى والأحرى أن الإنسان إذا تأول اعتبارها أن لا يداوم عليها، وإنما يفعلها أحيانا.
وهنا مسألة وهي: لو ترجح عند الإنسان أنها سنة، فإذا سها مرة فظن أنه في الركعة الثانية، فلما رفع من السجود وفي نيته أن لا يجلس جلسة الاستراحة، فكان عليه أن يقوم، فجلس ناويا التشهد، ثم تذكر أنه في الركعة الأولى، فهل تنقلب إلى جلسة استراحة، أو تعتبر عملا زائدا في الصلاة ويسجد للسهو؟و a لو أنه ابتدأ بالتشهد وتكلم فلا إشكال،
لكن قبل أن يتكلم بالتشهد إن تذكر ثم قام فالذين يقولون: لا تشرع جلسة الاستراحة للحدث عندهم وجه واحد وهو أنه يسجد سجود السهو.
والذين قالوا بمشروعية جلسة الاستراحة اختلفوا: فقال بعضهم: يسجد للسهو؛ لأنه لم يفعلها بقصد السنية، وإنما فعلها على سبيل السهو، والسجدتان جابرتان لهذا النقص.
وقال بعض العلماء: إنها تنقلب جلسة استراحة؛ لأن سجود السهو إنما شرع لزيادة وهو في الحقيقة لم يزد، وهذا مبني على أصل، هل يغلب الظاهر أو الباطن؟ إن قلت: يغلب الباطن لزمه سجود السهو؛ لأنه في الباطن يعتقد أنها جلسة التشهد،
وإن قلت: يغلب الظاهر فإنه في هذه الحالة لا يلزمه أن يسجد؛ لأن الظاهر معتبر مأذون به شرعا.والوجهان ذكرهما الإمام النووي رحمه الله، وغيره من أصحاب الشافعي الذين يقولون بمشروعية جلسة الاستراحة، وكلا الوجهين من القوة بمكان،
لكن القول الذي يقول: إنه يسجد للسهو أقوى من ناحية النظر.
[ما يفعله المصلي في الركعة الثانية]
قال رحمه الله تعالى: [ويصلي الثانية كذلك ما عدا التحريمة والاستفتاح والتعوذ وتجديد النية] قوله: (الثانية) أي: الركعة الثانية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف للمسيء صلاته الركعة الأولى أمره أن يفعل في الثانية مثل ما فعل في الأولى، والسنة أن تكون الثانية أخف من الأولى.
قال بعض العلماء: تخفف قسطا.
وقال بعضهم: هي كالأولى في قدر المقروء.
وتوضيح هذين القولين أننا لو قلنا: تخفف قسطا -
أي: في القراءة، لأن طول القيام يقوم على القراءة-
فمعناه: أن تختار سورة أقل من السورة التي في الركعة الأولى،
وإن قلت: ليس المراد أن تخفف قسطا، وإنما باعتبار فلك أن تختار سورة مثل السورة التي في الركعة الأولى، ويكون التخفيف بفارق دعاء الاستفتاح في الأولى، فهذا الفرق بين الوجهين، تخفيفها قسطا أقوى من جهة السنة، ولكن هناك أحاديث تدل على أنه لا حرج أن تتساوى الركعة الأولى مع الثانية في القراءة، ويكون الفضل لدعاء الاستفتاح، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام قراءته للزلزلة في الركعتين،
قال الصحابي: ما أراه إلا نسي.وهو في الحقيقة لم ينس عليه الصلاة والسلام، وإنما فعل ذلك لكي يبين أنه لا حرج أن تقرأ في الركعة الثانية نفس السورة التي قرأتها في الركعة الأولى.فهذا الحديث يشير إلى أن التخفيف في الركعة الثانية قد يكون باعتبار زيادة دعاء الاستفتاح، خاصة إذا أطال الإنسان في قيام الليل، ولكن وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في تخفيفه للقراءة في الركعة الثانية عن الركعة الأولى، وبناء على هذا يكون حال الإنسان في الركعة الثانية أخف، فلا يدعو بدعاء الاستفتاح، ولا يكبر تكبيرة الإحرام، وإنما يكبر تكبيرة الانتقال، ولا يتعوذ على ما اختار المصنف، وإن كان الأقوى أنه يتعوذ،
وذلك لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل:98]،
وللعلماء في هذه المسألة وجهان: فمنهم من قال: يتعوذ.
ومنهم من قال: لا يتعوذ.والسبب في هذا الفاصل، فهل هو من جنس العبادة الواحدة، أم من جنس العبادة المختلفة؟ والأقوى أنه يتعوذ،
فالذين يقولون: إن انتقاله لا يؤثر يقولون: ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ -كما في حديث ابن مسعود - في قيام الليل، فما مر بآية رحمة إلا سأل الله من فضله، ولا مر بآية عذاب إلا استعاذ بالله،
قالوا: ففصل بين القراءة الأولى والقراءة الثانية بالتعوذ وسؤال الرحمة، ومع ذلك لم يبتدئ قراءته من جديد.فدل على أن الذكر الذي هو من جنس القراءة في حكم المقروء،
وبناء على ذلك قالوا: الفصل بالركوع والسجود وأذكارهما بمثابة كأنه في عبادة واحدة.
وقال الآخرون: إن الاستعاذة لفظ مخصوص، وزيادته في الصلاة تحتاج إلى دليل.والأقوى أنه يتعوذ لعموم الأدلة، ولا مخصص يدل على سقوطها في هذا الموضع، فيبتدئ بالاستعاذة.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (81)
صـــــ(15) إلى صــ(20)
الأسئلة
[قول: (ربنا ولك الحمد ولك الشكر) زيادة لم تثبت]
q ما حكم زيادة: (ولك الشكر) في قول: (ربنا ولك الحمد) بعد تسميع الإمام؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد: فهذه الزيادة لم تثبت، فالشكر ثابت لله عز وجل في الأصل على العموم، ولكن اختيار هذا الموضع لزيادة الشكر لا أصل له، وإنما الوارد أن يقول ما ذكرناه، وله أن يقول: (حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه)، وإن كان بعض العلماء رحمة الله عليهم سامح في الثناء على الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الصحابي حينما قال: (حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه)، قال: فالمقام مقام تمجيد، فلو مجد الله وعظمه فإنه لا حرج عليه.لكن الأولى والذي ينبغي دلالة الناس على السنة والاقتصار على الوارد، والقاعدة -كما نبه عليها العز بن عبد السلام - أن الوارد أفضل من غير الوارد، وهذا فيما شرع فيه الدعاء والثناء، فلو اخترت لفظا واردا فهو أفضل من غير الوارد، فكيف إذا كان محتملا التقيي؟! ولذلك القول بالتقيد من القوة بمكان، وينبه الناس على السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
[حكم من سجد على الجبهة دون الأنف]
q هل إذا سجد على الجبهة دون الأنف أجزأه ذلك؟
a هذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، وقد جاء في حديث ابن عباس الجمع بين الجبهة والأنف، حيث أشار عليه عليه الصلاة والسلام إلى جبهته وأنفه.واختلف العلماء، في الاقتصار على واحد منهما دون الآخر، فقال بعضهم: يجزيه، ويكون هذا على سبيل أنه عضو أو جزء العضو، وإذا سجد ببعض العضو قالوا: يجزيه السجود ولكن يأثم بالترك.فهذا هو أعدل الأقوال وهو أنه يأثم بترك الأنف لو تركه، والجبهة لو تركها، كما لو سجد على يده فاعتمد على رءوس أصابعه متعمدا فإنه يصح سجوده من جهة الإجزاء، ولكنه يأثم بترك الباطن، فهو جزء المأمور به.فإذا قلنا: إن الجبهة والأنف بمثابة العضو الواحد على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (على سبعة أعظم) فإنه في هذه الحالة يكون من جنس الجزء المشتمل على موضعين، كالحال في الكف والأصابع، فبطن اليد شيء والأصابع شيء آخر، فلو اتكأ على أطراف أصابعه، أو رفع أصابعه واعتمد على راحته فإنه يجزيه ويأثم.
[حكم السجود على العمامة]
q إذا كان المأموم لابسا عمامته فهل له أن ينحيها قليلا حتى يمكن جبهته من السجود؟
a استحب العلماء رحمة الله عليهم أن لا يغطي الإنسان جبهته؛ لأنه شعار أهل الخير والصلاح، وقد وصف الله عز وجل أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح:29]، وهذا لا يتأتى إلا برؤية الناس لهذا الموضع، ولذلك استحب لطالب العلم ولأهل الفضل والصلاح أن يكشفوا عن هذا الموضع، وكان معروفا في عهد السلف، ولذلك لما قال ابن النصرانية الأخطل في الأنصار يهجوهم -قاتله الله وأبعده ولعنه-: ذهبت قريش بالمفاخر كلها وبقى اللؤم تحت عمائم الأنصار لما قال ذلك دخل قيس بن سعد رضي الله عنه وأرضاه على معاوية وكشف جبهته وقال: أترى لؤما؟ قال: لا.والله ما أرى إلا خيرا ونبلا.قال: ما بال ابن النصرانية يقول كذا وكذا؟ قال: لك لسانه.فأهدر لسانه، ثم إنه فر.فالمقصود أنهم كانوا يرون أن من شعار أهل الصلاح والخير كشف هذا، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (مسح على ناصيته وعلى العمامة).وكان بعض العلماء رحمة الله عليهم يكشفون عن النواصي أحيانا، إيثارا للتواضع والذلة لله عز وجل، حتى يكون أبلغ في قبول الناس له وإقبالهم عليه، خاصة العلماء ومن يحتاج إليه، فإنهم إذا كانوا على سمت فيه لين ورفق بالناس كلما كان ذلك أبلغ لقرب الناس منهم، وتغطية هذا الموضع يفعلها الإنسان في الغالب على سبيل الكبر أو الخيلاء، فلذلك الأفضل أن يجلي جبهته.وإذا أراد أن يسجد -نظرا إلى أنه مأمور بالسجود على الجبهة- فإنه يجليها حتى يتمكن من السجود، والله تعالى أعلم.
[حكم تكرار الفاتحة في الركعة الواحدة]
q إذا قرأ المصلي بعد سورة الفاتحة سورة الفاتحة أيضا فهل صلاته جائزة؟
a إذا قرأ المصلي سورة الفاتحة بعد قراءتها فهذا على صور:
الصورة الأولى:
أن يقرأ ذلك متعمدا متقصدا تكرار الفاتحة، فللعلماء فيه وجهان:
قال بعض العلماء:
تبطل صلاته؛ لأنه زيادة ركن، فكما أن زيادة الأركان في الأفعال تبطل الصلاة، كذلك زيادة الأركان في الأقوال تبطل الصلاة.وهذا القول من جهة الأصول قوي؛ فإنك إذا نظرت إلى أنها زيادة مقصودة في ركن مقصود فإنها كزيادة الأفعال، ولذلك يقوى هذا القول من الوجه الذي ذكرناه.وقال بعض العلماء: أساء ولا تبطل صلاته.ولذلك هذا الفعل أقل درجاته أنه إذا تقصده فهو حدث وبدعة؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا على سبيل الفضل، ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون مبتدعا من هذا الوجه.أما لو شك هل قرأ الفاتحة أو لم يقرأها، ثم قرأها على سبيل الجزم والاحتياط فهو مأمور بقراءتها في هذه الحالة وتجزيه، فلو صليت ثم شككت: هل قرأت الفاتحة أو لم تقرأها -خاصة إذا كان الإنسان وحده، أو كان إماما في سرية من ظهر أو عصر- فإنه في هذه الحالة يعيد قراءتها، ولو ركع قبل أن يجزم بقراءتها فإنه يلزمه قضاء تلك الركعة، فيجب عليه أن يقرأها ويتأكد من قراءتها، إلا إذا كان مبتلى بوسواس فإنه في الوسوسة لا يلتفت إليها، ولا يعمل بها، والله تعالى أعلم.
[مشروعية صلاة الضحى والمداومة عليها]
q هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على صلاة الضحى أم لا؟ وهل المداومة عليها من السنة، أم نصلي بعض الأيام ونترك بعضها؟
a صلاة الضحى ورد فيها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وغيره من الأحاديث التي تدل على مشروعيتها وسنيتها، وكون عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ينكرها وغيره من الصحابة فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وكم من سنن خفيت على الأفاضل من كبار الصحابة، كما ثبت عن عمر رضي الله عنه في الصحيح أنه لما نزل بالشام أخبر بخبر الطاعون -طاعون عمواس- فامتنع من دخول الشام، فقال له أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه:
(نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله?!) فبين له أن هذا من الأسباب، وليس له علاقة بالفرار ما دامت عقيدته في الله عز وجل وأخذ بالسبب، فلا حرج عليه، ثم قام في الناس فقال:
أحرج على من كان عنده خبر من هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمنا أو يخبرنا.فقام عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه)، فحمد الله على موافقته للسنة.فهذا يدل دلالة واضحة على أنه قد تكون السنة خافية على كبار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فكيف بـ ابن عمر رضي الله عن الجميع وأرضاهم؟! وإن كان ابن عمر له فضله ومكانته وعلمه وورعه رضي الله عنه، ولكن المقصود أن كون ابن عمر لا يراها لا يدل على نفيها، فهي ثابتة، ومن السنة فعلها.والأصل أن ما جاء على الإطلاق لا يقيد إلا بدليل، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بها أبا هريرة رضي الله عنه، ويوصيه بها فإنها سنة ثابتة، فتبقى سنة ثابتة حتى يدل الدليل على التقييد بفعلها تارة أو تركها تارة.ويبقى النظر: هل فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم أو لم يفعلها؟ فهذا مما سكتت عنه الأخبار، وليس عندنا دليل يثبت أنه كان يصلي ركعتي الضحى، وليس عندنا دليل ينفي ذلك.والقاعدة أنه إذا لم يرد ما يوجب النفي وما يوجب الإثبات رجع إلى الأصل، فلما كان الأصل عندنا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بها على الإطلاق نبقى على هذا الإطلاق، ونقول: هي سنة.فلو قال قائل: كيف ولم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مداومته؟ قلنا:
ولو ثبت عنه أنه تركها فإنه لا يعتبر دليلا على نفي المداومة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك العمل وهو يحب أن يفعله خشية أن يفترض على أمته، كما ثبت في الحديث الصحيح.وبناء على ذلك نقول: السنة المداومة عليها للإطلاق، ولا حرج على الإنسان أن يداوم عليها، وهو على خير.كما أنه ثبت في الحديث الصحيح ما يدل على تقوية هذا القول من قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)، فصلاتهم هذه معناها أنه أمر ألفوه وداوموا عليه، فلا يحتاج إلى أن يقيد بدليل، فنبقى على هذا الإطلاق من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، والله تعالى أعلم.
[حكم قيام الليل لمن صلى الوتر بعد العشاء]
q هل يجوز للمسلم أن يقوم الليل إذا كان قد صلى الوتر بعد العشاء مباشرة؟
a من صلى الوتر بعد العشاء وأحب أن يقوم الليل فلا حرج عليه، وكان ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه يقوم بعد أن يوتر، وينقض وتره بركعة، ثم يصلي ركعتين ركعتين، ثم يوتر.ولا حرج على الإنسان أن يفعل ذلك؛ فإنه ربما خاف الإنسان أن لا يقوم فاحتاط بالوتر في أول ليله، ثم يريد الله به الخير فيستيقظ من آخر ليله، فلا حرج عليه أن يصلي، وأن يسأل الله من فضله؛ لعموم الأدلة الثابتة في ذلك، وإن صلى ركعتين ركعتين ولم يوتر فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- صلى ركعتين بعدما أوتر.فدل هذا على أنه من السنة ولا حرج، وقد ألف فيه الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه رسالة في إثبات سنية الشفع بعد الوتر، ولكن السنة والأفضل والذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم جعل الوتر في آخر الصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا).نسأل الله العظيم أن يرزقنا علما نافعا وعملا صالحا، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (82)
صـــــ(1) إلى صــ(7)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [5]
للتشهد صفة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وله صور وحالات معلومة، وينقسم إلى: التشهد الأول، والتشهد الثاني، فإذا أتم التشهد الثاني فإنه يسلم من صلاته، وللتسليم صور واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يكون قد أتم صلاته على أكمل وجه وأحسنه.
[صفة الجلوس للتشهد]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ثم يجلس مفترشا ويداه على فخذيه] أي: إذا تم من الركعة الثانية يجلس مفترشا كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكذلك غيرها في صفة جلوسه عليه الصلاة والسلام أنه (افترش اليسرى ونصب اليمنى، واستقبل بأطراف أصابعه القبلة)، صلوات الله وسلامه عليه.وكان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون ذلك، حتى أثر عن بعضهم أنه كان إذا انحنى إبهامه أصلحه حتى يكون مستقبلا القبلة، ويكون معتمدا عليه في جلوسه، وهذه إحدى الجلسات.كذلك أيضا جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه جلس بين السجدتين، فنصب قدميه وجعل صدور القدمين على الأرض مستقبلا بها القبلة وإليته على العقبين، وهذا ليس بالإقعاء المنهي عنه، فقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وأنه من السنة فلا حرج فيه، وإنما الإقعاء المنهي عنه أن يجعل طرفي القدمين ويفضي بإليتيه إلى الأرض، فهذا الصورة للإقعاء.
الصورة الثانية: أن ينصب رجليه، ثم يفضي بإليتيه إلى الأرض.
الصورة الثانية: أن تكون بطون القدمين إلى الأرض، وتلتصق العقبان بالإلية، هذه كلها صور للإقعاء المنهي عنه.أما لو نصب واستقبل بأطراف أصابعه القبلة؛ فإن هذا ورد فيه حديث ابن عباس أنه من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: [ويداه على فخذيه] أي: تكون يدا المصلي على الفخذين، وهذه جلسة التشهد، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل هذا الفعل، فشرع رحمه الله في الصفة الفعلية، فجلسة التشهد تحتاج إلى فعل وقول، أما الفعل فشيء منه يتعلق بمؤخر الإنسان وشيء يتعلق بمقدمه، فالذي يتعلق بمؤخره فقد ذكرناه من افتراش اليسرى ونصب اليمنى، واستقبال القبلة بأطراف أصابع اليمنى.أما ما يتعلق بمقدمه فنبدأ بوضع اليد اليسرى،
وفيه ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
قال بعضهم:
يلقمها ركبته كما جاء في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه ألقم ركبته،
والإلقام: أن تجعلها بمثابة الفم على الركبة، كأن نصفها على آخر الفخذ، ونصفها الذي هو أطراف الأصابع ملتصق بظاهر الركبة، وهذه الصورة تعرف عند العلماء بصورة اللقم.
الوجه الثاني: أن يجعل رءوس أصابعه عند ركبته مستقبلا بها القبلة.
الوجه الثالث: أن تكون على الفخذ، بمعنى أنها لا تكون قريبة من الركبة، وإنما تكون على الفخذ.هذه ثلاثة أوجه للعلماء رحمة الله عليهم.واليد اليسرى بالإجماع أنه لا يشرع التحريك فيها،
والأصل في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر على الرجل وهو يشير بإصبعيه قال: (أحد أحد) أي: اجعله واحدا، فنهى عن رفع إصبعه الثانية؛ فدل هذا على أنه ليس من السنة أن يشير بالأصبعين من اليدين، وإنما يقتصر بالإشارة على الكف الأيمن.
قال رحمه الله: [يقبض خنصر يده اليمنى وبنصرها] بالنسبة للوسطى مع الإبهام يحلق بهما، ويشير بالسبابة.
والسبابة: هي ما بين الإبهام والوسطى،
فالعرب تسمي أصغر الأصابع: الخنصر؛ ثم التي تليها البنصر، ثم الوسطى، ثم السبابة، ثم الإبهام، والسبابة سميت بذلك لأن الإنسان عند السب أو اللعن -والعياذ بالله- مع شدة الغضب يشير بها، كالمتوعد، ووصفت بهذا وأصبح اسمها، فيقبض الخنصر والبنصر، ثم يحلق ما بين الوسطى والإبهام، ويشير بالسبابة.
[ويحلق إبهامها مع الوسطى ويشير بسبابتها في تشهده]
بعض العلماء يرى أنها تكون كالدائرة،
وقال بعضهم: أن يجعل طرف الإبهام عند منتصف السبابة،
وهذا مبني على رواية: إحدى وخمسين، بناء على حساب العرب في عد الأصابع.وبعضهم يرى أنه يكون جامعا بها على هذه الصفة، بحيث تجتمع الأنملة العليا من الوسطى مع طرف الإبهام، وهذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحليق، وثبت عنه في الأحاديث الصحيحة،
ويشير بالتوحيد عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (أحد) والسبب في هذا أن الأصل عدم التحريك؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسكنوا في الصلاة) وقال تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة:238].
قالوا: الأصل السكون وعدم الحركة والكلام حتى يدل الدليل على حركة وكلام معتبر، فلما جاء الدليل ووجدنا أنه عليه الصلاة والسلام أمره بالتوحيد، فدل ذلك على أنه عند الشهادة، وهذا على الأصل،
ولذلك قالوا: يرفعها عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) وهذا هو أوجه الأقوال وأعدلها وأقربها إلى السنة إن شاء الله تعالى.
وللعلماء في هذه الإشارة أوجه: منهم من يرى أنه يشار بها شديدا،
يعني: بقوة، ومنهم من يرى أنها لا تشد ولا ترخى وإنما يتوسط فيها، كما جاء في حديث ابن عمر عند البيهقي وغيره؛
ولذلك قالوا: منكتا بها إلى الأرض، وهذا أولى الأقوال، ولو فعل الأول فلا حرج، لكن أولى الأقوال أنه ينكت بها إلى الأرض، ويرمي ببصره إليها، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينظر إليها كما في حديث السنن.
إذا: ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجعل مرفقه عند فخذه صلوات الله وسلامه عليه، ثم يعقد خنصره وبنصره، ويحلق بالوسطى مع الإبهام ويشير بالسبابة.وهناك صورة أخرى اشتمل عليها حديث وائل بن حجر رضي الله عنه وأرضاه، وحديث أحمد في المسند، وكذلك غيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد ثلاثا وخمسين،
وهذا يعني: أن يعقد الخنصر والبنصر والوسطى، ويجعل الإبهام عند أصل الوسطى.
الصورة الثالثة: أنه يستقبل بالأصابع القبلة، ويجعل أصابعه مستقبلة القبلة، ويشير بالسبابة، وهذه الصورة اختارها بعض العلماء رحمهم الله استحسانا، من جهة استقباله للقبلة،
قالوا: لأنها هيئة الساجد.والأقوى ما ذكرناه من الصفتين أنه إما أن يحلق بين الوسطى وبين الإبهام ويشير بالمسبحة، وإما أن يعقد ثلاثا وخمسين.والسبب في ذلك أن الخنصر واحد، والبنصر الثاني، والوسطى الثالث، والعرب إذا أرادت أن تعد تعقد الإبهام إلى أصل الأصابع، فيكون فيه إشارة إلى الخمسين، فأصبح المجموع ثلاثا وخمسين.هاتان الصفتان هما أقوى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة كفه اليمنى أثناء التشهد.أما بالنسبة للكف اليسرى فلها كما قلنا إما أن يجعلها على فخذه، وإما أن يجعل أطراف أصابعه عند ركبته، وإما أن يلقم بها الركبة، وكل قد جاءت به سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.وأما الإشارة باليسرى فإنه لم يثبت بها دليل، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس وغيره أنه رأى رجلا يشير بإصبعيه يدعو بهما،
فقال عليه الصلاة والسلام: (أحد أحد) وهو حديث عند النسائي، وهذا على سبيل المناسبة؛ فإن الله واحد؛ ولذلك جعل الإشارة بتوحيده بالإصبع الواحدة، ولم يجعله بإصبعين، حتى تكون هناك مناسبة بين العدد الذي يشير به وبينما يدل عليه.
[حكم الإشارة بالإصبع في التشهد]
الإشارة في الصلاة للعلماء فيها ثلاثة أوجه: منهم من قال: يشير ولا يحرك، وهذا بناء على ما ثبت في حديث ابن عمر وحديث وائل رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بها، وكلها أثبتت الإشارة دون تحريك.
وأما التحريك فقالوا: أخذوه من حديث ابن الزبير (يدعو بها) قالوا: والدعاء بها يقتضي التحريك، وجاءت أحاديث -لم يخل حديث منها من كلام، وقد أشار الذهبي وغيره إلى ضعفها-
أنها مذعرة للشيطان أي: أنها تصيب الشيطان بالذعر، ولكن لم يصح في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث إما منكرة أو موضوعة.
والذين قالوا بالتحريك ينقسمون إلى طائفتين: طائفة تقول: يبتدئ الدعاء بالرفع، فيجعل الرفع عند ابتداء كل دعاء، وعلى هذا إذا قال: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا والممات) ابتدأ الرفع عند قوله: (اللهم) وكلما ابتدأ دعاء رفع إصبعه سائلا الله عز وجل الإجابة.
هذا بالنسبة لمذهب من يقول: يدعو بها؛
أي: أنه يحركها عند ابتداء كل دعوة.والقائلون بهذا القول كأنهم يرون أن الأصل هو ثبوت الإصبع،
فقالوا: يدعو بها؛ ويتقيد تحريكها بالدعاء.لكن يشكل عليهم لفظ الشهادة، فإنه لا يشتمل على السؤال، ولا يشتمل على الدعاء؛
فالذين يقولون: تثبت دون تحريك أي: من عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) يبقى مشيرا بها ومنكتا إلى الأرض، كما في حديث ابن عمر عند البيهقي وغيره، وعلى هذا تثبت إلى نهاية الصلاة.
وأما الذين يقولون بالتحريك فيقولون: يبتدئ تحريكها عند الشهادة فيشير ثم يقبض،
فإذا ابتدأ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لاشتمالها على نوع من الدعاء: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) فيحرك عند ابتداء كل صلاة؛ لأنها دعاء ومسألة.والذين قالوا بالتحريك المطلق -وهو أضعف الأقوال، وهو القول الثالث-
قالوا: إنه يشير بها،
أي: يحركها سواء كان في ابتداء الدعاء أو أثنائه.وأقوى هذه الأقوال أنه يشير بها ولا يحركها؛
وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اسكنوا في الصلاة) وقوله: (يدعو بها) متردد بين شهادة التوحيد وبين أن يبقى مشيرا بها،
فنقول: إن من رفعها أثناء دعائه فكأنه داع بها؛ ولذلك ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا خطب لا يزيد على الإشارة بها صلوات الله وسلامه عليه.
[التشهد الأول والصيغ الواردة فيه]
قال رحمه الله تعالى: [ويقول: (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله).هذا التشهد الأول] التشهد -كما قلنا- يشتمل على فعل وقول، ففرغ رحمه الله من هيئة المتشهد، ثم شرع في أذكار التشهد، والسبب في تقديمه للأفعال والأوصاف على الأقوال أن أول ما يبتدئ به المتشهد أن يهيئ مجلسه للتشهد، فابتدأ بهيئة الجلوس، ثم أتبعها بذكر الجلوس، وذكر التشهد يبتدئ بالتحيات.وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم صيغ للتشهد، منها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي ذكره المصنف.ومثله حديث عبد الله بن عمر، وحديث أبي موسى الأشعري مع اختلاف يسير، وهناك صيغ أخرى منها تشهد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وتشهد عمر بن الخطاب.فأما الإمامان أحمد وأبو حنيفة فاختارا تشهد ابن مسعود هذا،
والسبب في ذلك أنه قال: (علمني النبي صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه) إشارة إلى القرب واتصال الرواية، ولأن ألفاظ تشهد ابن مسعود جاءت متناسقة، ولم يحدث بينها اختلاف، ولأن هذا التشهد علمه غير واحد من السلف،
فلذلك قالوا: إنه أفضل صيغ التشهد.
وقيل بتشهد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله)، وهناك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما،
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله)،
وفي رواية: (الطيبات) بدون (لله)،
وفي رواية: (الطيبات لله، والصلوات لله)، وكلتاهما روايتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم.فاختار الإمام الشافعي تشهد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واختار الإمام مالك رحمه الله تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد بين المحققون -ومنهم الإمام الحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما قرره في القواعد النورانية، وابن عبد البر في الاستذكار، وكذلك الإمام ابن القيم رحمه الله في غير ما موضع من كتبه- أن الأمر واسع، فإن شئت تشهدت بتشهد ابن مسعود، أو بتشهد عبد الله بن عباس، أو بتشهد عمر بن الخطاب.وكأنهم يرون أن هذا الخلاف إنما هو من اختلاف التنوع، وليس من اختلاف التضاد، فالأمر واسع، فإن شئت تشهدت بهذا، وإن شئت تشهدت بهذا، واستحب بعض العلماء أن يكثر من تشهد عبد الله بن مسعود وذلك لقوة رواياته، ولكن ينوع في بعض الصلوات بالتشهد الآخر الوارد عن عمر وعن عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع.ومعنى: (التحيات) أي: البقاء والدوام لله عز وجل.
ومعنى: (والصلوات) أي: الثناء على الله سبحانه وتعالى، والأدعية مختصة بالله عز وجل لا تكون لغيره.
وقوله: (والطيبات) وصفها بالطيب؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا سبحانه وتعالى.و (المباركات) من البركة، وأصل الشيء المبارك: الكثير الخير والنماء والزيادة، فالبركة هي النماء والزيادة والخير الكثير.
وقوله: (السلام عليك أيها النبي) جاء في الرواية عنهم أنهم رضي الله عنهم لما توفي عليه الصلاة والسلام كانوا يقولون: (السلام على النبي)،
وقال بعض العلماء: يبقى على اللفظ الوارد؛ لأنه هو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة فيقتصر عليه، وإن قال الإنسان: (السلام على النبي) فلا حرج.
فالذين قالوا إنه يقول: (السلام عليك أيها النبي) قالوا: إن كاف الخطاب لا يشكل عليها وفاته عليه الصلاة والسلام؛ لأن الصحابة كانوا يسافرون، وكانوا يبتعدون أحيانا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حال حياته، ومع ذلك لم يغيروا هذا اللفظ، فيبقى هذا اللفظ على ما هو عليه لا يختلف في حياته وموته صلوات الله وسلامه عليه، ولا شك أن هذا المذهب من جهة الاتباع والقوة في التأسي من حيث اللفظ الوارد هو أقوى، وذلك لأن التحيات ذكر مخصوص، وينبغي أن يلتزم فيه المصلي ما ورد، وأما اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم فهذا منهم، فلهم أجرهم على الاجتهاد، ولكن الأقوى والأولى ما ذكرناه.
وقول: [السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين] في التشهد لأنهم كانوا في القديم يسلم بعضهم على بعض عند انتهاء الصلاة، فأبدلهم الله عز وجل بهذا، وكانت هي الصلاة المدنية؛ فعندما كان يسلم بعضهم على بعض، ويشير بعضهم على بعض لبعدهم قال صلى الله عليه وسلم: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة)، فنهاهم عن هذا السلام، وأبدلهم الله بقول: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، وقد ورد في الخبر أنه لا يبقى عبد لله صالح إلا أصابه هذا السلام، إذا قال المصلي: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، وفيه دليل على فضل صلاح الإنسان.
قال بعض العلماء: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) عامة تشمل كل مسلم.
وقال بعضهم: بل تختص بمن زاد خيره وزادت طاعته، فهو المختص بهذا التسليم من المصلين إظهارا لشرف الصلاة والزيادة في الهداية، فكلما زادت هداية الإنسان وازداد صلاحه وخيره كان عليه سلام من المصلين، فمن صلى نفلا أو فرضا أصابه هذا التسليم من عباد الله المصلين، وهذا فضل عظيم وخير كثير.
وأما قول: [أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله] لقد جاء في الرواية الثانية: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له -بزيادة (وحده لا شريك له- وأشهد أن محمدا رسول الله)،
وجاء في رواية أيضا: (محمدا عبده ورسوله)، وكل هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [هذا هو التشهد الأول] لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبع كلمات وهي تحية الصلاة)، وهو حديث عند مسلم وغيره،
قالوا: هو التشهد الأول؛ لأن التشهد تفعل من الشهادة،
فمن بلغ إلى قوله: (أشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) فقد انتهى من تشهده الأول، وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنها لا تكون في التشهد الأول على أصح أقوال العلماء، وهو مذهب الجمهور، خلافا لمن قال إنها تكون في التشهد الأول.والسبب في ذلك أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء إنما يكون في التشهد الثاني لا في التشهد الأول، وقد اختلف في حديث النسائي وغيره الذي فيه ما يدل على أنه يدعو في التشهد الأول، ولذلك خطأ بعض العلماء هذه الرواية، وقوى أن الدعاء إنما هو في التشهد الثاني،
وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لمن انتهى من صلاته: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)، فالتشهد الأخير هو تشهد المسألة والدعاء، وأما التشهد الأول فإنه لا يدعا فيه،
ولذلك جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (كان إذا جلس في التشهد الأول قام كأنما كان على الرضف)، وهو الحجارة المحماة، وهذا إشارة إلى أنه كان يستعجل، ولم يكن يطيل جلوسه للتشهد الأول.ولذلك قالوا: السنة أنه لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره عليه الصلاة والسلام بالصلاة عليه في هذا الموضع، فيقتصر على التشهد، وقد سموه تشهدا واسمه دال عليه، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك،
قالوا: فتسمية النبي صلى الله عليه وسلم له تشهدا تدل على أنه يقتصر فيه على قول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله).فالخلاصة أن ما قلنا هو أقوى الأقوال،
هناك قول ثان: أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك قول ثالث: أنه يشرع له الدعاء.ولكنه قول ضعيف عند العلماء للاختلاف في ثبوت الرواية بدعائه عليه الصلاة والسلام؛ لأن المحفوظ عدم دعائه، وسرعة قيامه إلى الركعة الثالثة.
[الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الثاني]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد].هذه هي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولها صيغ عديدة، واختار المصنف رحمه الله منها هذه الصلاة، وهي صحيحة ثابتة، فهذه الصلاة لها أكثر من عشر صيغ ثابتة في الكتب الستة عن النبي صلى الله عليه وسلم.وأي صلاة صلى بها فإنها مجزئة، لكن المعتبر منها الصلاة الإبراهيمية التي اختارها المصنف رحمة الله عليه، وقد دل عليها حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه.
[حكم الاستعاذة من النار والقبر بعد التشهد الثاني]
قال رحمه الله تعالى: [ويستعيذ من عذاب جهنم وعذاب القبر] أي: يسأل الله أن يعيذه من عذاب جهنم، والتعوذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال أربع كلمات،
اختلف العلماء فيها على وجهين: فمنهم من قال: يستحب للمصلي أن يتعوذ من هذه الأربع: من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن عذاب القبر، ومن عذاب جهنم.
والسبب في ذلك أمره عليه الصلاة والسلام على سبيل الندب لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)،
فقوله: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء) يدل على الندب والاستحباب، وأنك تقول هذا الدعاء على سبيل الأفضلية لا على سبيل اللزوم.
وهناك قول ثان يقول: يجب على المصلي أن يتعوذ بالله من هذه الأربع، ويلزمه بها، وهو قول بعض فقهاء الظاهرية كما اختاره ابن حزم، بل شدد بعضهم -ويوافقه بعض أهل الحديث رحمة الله عليهم-
فقال: من لم يتعوذ بالله من هذه الأربع تبطل صلاته.والصحيح أنها مندوبة مستحبة، وليست بلازمة واجبة؛ لدلالة السنة على صرف الأمر عن ظاهره من الوجوب إلى الندب، والقاعدة في الأصول أن الأوامر تبقى على ظواهرها من الدلالة على الوجوب ما لم يقم الصارف على صرفها عن ذلك الظاهر.
وقد قام الصارف في قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)، فوسع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقيد.وهذه الأربع -كما يقول العلماء- اشتملت على شرور الدنيا والآخرة؛ فإن الإنسان يأتيه الشر من فتنة المحيا، وقد يؤخر الله عنه البلاء فيكون في فتنة الممات،
والأمر الثالث: البرزخ،
والرابع: عذاب جهنم.
قال بعض العلماء: فتنة الممات ما يكون عند سكرات الموت، نسأل الله أن يلطف بنا فيها.فالإنسان المسلم الموفق السعيد يخشى من هذه الأربعة المواضع.
الموضع الأول: فتنته في حال حياته، فمادامت روحه في جسده فإنه معرض للفتن، حتى ولو بلغ أعلى درجات الصلاح فإنه لا يأمن أن يمسي مؤمنا فيصبح -والعياذ بالله- كافرا، ولا يأمن أن يصبح مؤمنا ويمسي كافرا،
ففي الحديث: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) نسأل الله السلامة والعافية.فإذا كان حيا فإنه يخاف من فتنة المحيا، وكم من إنسان كان على خير فانعكس حاله -والعياذ بالله- إلى الشر بسبب طول حياته إلى زمان الفتن، ولذلك كان بعض العلماء -رحمة الله عليهم-
من مشايخنا يقول: كنت أسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمره بالتعوذ من فتنة المحيا والممات، وكنا نتعوذ، ونسأل الله أن يعيذنا، ولكن لم نعرف ولم نجد أثر ذلك إلا بعد رؤية الفتن،
فعلمنا فضل هذا الدعاء: (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)، وكم من إنسان يتمنى العيش إلى دهر يسوءه ولا يسره ولا ينفعه، بل يضره، نسأل الله أن يلطف بنا وبكم.
الموضع الثاني: إذا سلم في حياته فقد يبتليه الله قبل موته، فيختم له بخاتمة السوء، ولذلك قد يتخبط الشيطان الإنسان عند سكرات الموت -والعياذ بالله-
فقال صلى الله عليه وسلم: (وفتنة الممات)، فيسأل الله أن يلطف به في فتنة الممات، وأن يجعل خاتمته على خير؛ فإنه قد يموت الإنسان على خاتمة السعداء، وقد يموت على خاتمة الأشقياء، ولذلك ثبت في الحديث أن رجلا طعن يوم أحد فسالت دماؤه فاستعجل الموت -والعياذ بالله- فطعن نفسه فقتل فمات قاتلا لنفسه.فعلى الإنسان أن يسأل الله أن يلطف به، خاصة عند سكرات الموت وشدته، فإن سلم من فتنة المحيا والممات فإنه قد تكون هناك ذنوب وخطايا منه لم يغفرها الله سبحانه وتعالى لعدم وجود التوبة النصوح منه، فيبتليه بفتنة القبر،
فقال صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك من عذاب القبر)، فإن سلم من فتنة المحيا ومن فتنة الممات، ومن فتنة القبر فإنه يحتاج إلى أن يسلمه الله من عذاب جهنم.
ثم بعد هذه الفتن الأربع هناك فتن خاصة وهي التي عناها بقوله: (فتنة المسيح الدجال)، فالفتن منها ما هو عام، ومنها ما هو خاص، فاستعاذ من فتنة المحيا العامة، ثم شرع في فتنة المحيا الخاصة وهي فتنة المسيح الدجال، وهي من أعظم الفتن، وسمي مسيحا لأنه يمسح الأرض، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه لا يدع موضعا من الأرض إلا وطئه، إلا ما يكون من المدينة، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث تميم الداري -
أنه: (على كل نقب من أنقابها ملائكة يحرسونها، فلا يستطيع أن يدخلها، وإنما ترجف فيخر المنافقون إليه في السبخة من أرض الجرف،
ويمكث أربعين يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، ويوم كسائر أيام السنة).وتعظم فتنته،
حتى ثبت في الحديث الصحيح أنه يمر على الأرض الخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها تتبعه كيعاسيب النحل،
أي: من الذهب والفضة وما فيها من الكنوز، فيفتن الناس به فتنة عظيمة، ويدعي أنه الله، ويعظم بلاؤه، وله جنة ونار، فناره جنة وجنته نار، حتى يكتب الله عز وجل للمؤمنين السلامة من فتنته بنزول عيسى ابن مريم عليه السلام وقتله للمسيح، كما ثبتت بذلك الأخبار في الصحيحين.
وأما عذاب القبر فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (دخل على عائشة، وكانت قد دخلت عليها يهودية فأطعمتها أم المؤمنين عائشة،
فقالت لها اليهودية: أعاذك الله من عذاب القبر، فعجبت عائشة من قولها، فلما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته،
فقال عليه الصلاة والسلام: أشعرت أن الله أوحى إلي أنكم تفتنون في قبوركم؟!
قالت أم المؤمنين: فما سمعته صلى صلاة إلا واستعاذ بالله من عذاب القبر).
وفي الحديث الصحيح من حديث البراء عند أحمد في مسنده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في جنازة أنصاري، فجلس -لكي يلحدوا له-
قال: وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا)، ثم ذكر الحديث، فالشاهد من هذا أنها فتنة عظيمة تكون للإنسان في قبره، ويستعيذ الإنسان منها لكي تحصل له من الله السلامة، فنسأل الله أن يعيذنا من هذه الفتن ما ظهر وما بطن.
قال رحمه الله: [ويدعو بما ورد] أي: يسأل الله عز وجل من خير الدنيا والآخرة بما ورد، فيسأله العافية في دينه ودنياه وآخرته، ويقول الدعاء المأثور -كما في حديث أنس -: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)،
ومن أفضل الدعاء الدعاء بجوامع الكلم كقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى)،
وكقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر).فإن هذه الخمس الكلمات تجمع للإنسان سعادة الدنيا والآخرة، فمن أعطاه الله هذه الخمس فقد أعطاه السعادة بعينها.فهذا اختيار جمع من العلماء وهو أنه يقتصر في دعائه على ما ورد،
وقالوا: لا يدعو بأدعية الدنيا،
كأن يقول: اللهم إني أسألك دابة سريعة، أو زوجة جميلة، أو دارا فسيحة، ونحو ذلك.
وقالوا: إنما يدعو بما ورد، ورخص بعض العلماء في الدعاء؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثم يتخير من المسألة ما شاء)، وهذا في الحقيقة أقوى لظاهر دلالة السنة، ولكن أجمع العلماء على أن الأفضل للإنسان أن يدعو بما ورد؛
لأنه إذا دعا بما ورد كان له أجران: أجر الدعاء وأجر الاقتداء والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم،
ولذلك يقال: الأفضل الاقتصار على ما ورد،
ولا يقال: إنه يمتنع عليه الدعاء بغير ما ورد، لثبوت السنة بالإقرار.
[السلام من الصلاة والأحكام الواردة فيه]
قال رحمه الله: [ثم يسلم عن يمينه: (السلام عليكم ورحمة الله) وعن يساره كذلك] السلام يحتاج إلى فعل وذكر، فأما هديه عليه الصلاة والسلام فكان يلتفت حتى يرى بياض خده، وهذا البياض للخد سببه أنه كان يلبس العمامة صلوات الله وسلامه عليه فلا يمنع رؤية الخد شيء، فإذا وضع صلوات الله وسلامه عليه ذقنه على كتفه بدا خده، وبعض طلاب العلم يخطئ عند تطبيق هذه السنة، فإنه ربما يكون عليه غطاء رأسه فيتكلف حتى ينحرف عن القبلة بجذعه، فتجده بحرف صدره كأنه يريد أن يري الناس خده، وهذا لا شك أنه يريد الخير والتأسي ببيان خده كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن خفي عليه أن خد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستره شيء؛ لذلك ينبغي لمن أراد أن يطبق هذه السنة أن يثبت؛ لأنه مطلوب منه أن يكون مستقبل القبلة، فالانحراف والحركة من الأمور التي شدد فيها العلماء رحمة الله عليهم،
بل كان يقول بعض العلماء: إذا انحرف انحرافا لأغلب الجذع فإنه لا يؤمن أن تبطل صلاته؛ لأنه انحرف عن القبلة قبل تمام صلاته.فهذا ينبغي التنبيه عليه ويخطئ فيه كثير، بل من طلاب العلم من يخطئ فيه.فلذلك يثبت الإنسان مستقبل القبلة بصدره، ثم يحرف رأسه ويجعل ذقنه على الكتف، فهذه هي السنة في السلام الكامل، وأما المبالغة في الحركة والانحراف، فليست من السنة في شيء، ولذلك يشدد فيها ويمنع منها.وكان عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من تسليمه عن اليمين سلم عن يساره، فابتدأ باليمين تشريفا لها، ثم سلم عن يساره صلى الله عليه وسلم.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (83)
صـــــ(8) إلى صــ(14)
[صيغ السلام الثابتة في السنة]
أما الذكر القولي فهناك أربع صيغ للسلام:
الصيغة الأولى: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) عن اليمين، (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليسار.
الصيغة الثانية: (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليمين، (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليسار.وهي الصيغة المشهورة والموجودة الآن.
الصيغة الثالثة: (السلام عليكم ورحمة الله) عن يمينه، (السلام عليكم) عن اليسار.
الصيغة الرابعة: (السلام عليكم) عن يمينه.فهذه أربع صيغ ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، سلم تسليمتين فجعلها كاملة، وجعلها كاملة عن اليمين ناقصة عن اليسار، وجعلها أيضا متساوية في اليمين واليسار.والتسلي يعتبر من أركان الصلاة على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، خلافا للإمام أبي حنيفة رحمه الله الذي لا يرى وجوب التسليم، ويقول: لو أن المصلي خرج من الصلاة بصنعة فإنه يعتبر خارجا من الصلاة؛
لقوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك) ولم يأمره بالتسليم.
والصحيح أنه لازم لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه الثابت عنه: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)،
فلما قال: (تحليلها التسليم) دل على أن المصلي لا زال في حرماتها حتى يسلم.واحتج الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه أيضا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي،
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وقضى تشهده ثم أحدث فقد تمت صلاته)، وهو حديث ضعيف، والصحيح ما ذكرناه من لزوم السلام ووجوبه.وأصح الأقوال عند العلماء أن السلام مخير فيه، فإن شاء سلم تسليمتين، وإن شاء سلم تسليمة واحدة، ولكن إذا كان مأموما يرى التسليمتين، وصلى وراء إمام يسلم تسليمة واحدة يسلم وراءه تسليمة واحدة، وإن كان مأموما يرى التسليمة الواحدة، وصلى وراء إمام سلم تسليمتين فإنه يسلم من ورائه تسليمتين.
قال بعض العلماء: الواجب في التسليم الأولى، والثانية سنة،
وقال بعضهم: الواجب التسليمتان.
فإن قلنا: الواجب التسليمتان، أو قلنا الواجب التسليمة فالحكم يختلف.وفائدة ذلك أنه لو قلنا الواجب تسليمة واحدة، فإن سلم الأولى ثم أحدث فإن صلاته صحيحة على القول بأن الواجب هي التسليمة الأولى.
وكذلك لو قلنا: إن الواجب التسليمة الأولى.فإذا سلم التسليمة الأولى، وقبل أن يسلم الثانية مرت امرأة، أو مر كلب أو مر حمار فإنه على القول بأن الصلاة تقطع يعتبر بتسليمته الأولى قد خرج من الصلاة وصحت صلاته.أما على القول بأن الواجب تسليمتان فلا.
ومن فوائد هذا الخلاف أننا إذا قلنا: الواجب التسليمة الأولى فمعنى ذلك أنك لو صليت وراء إمام وفاتتك ركعة فأكثر، وسلم الإمام التسليمة الأولى، فإنك تقوم مباشرة؛ لأنك مأمور بواجب، فلا تتوقف على السنة،
قالوا: ولا ينتظر التسليمة الثانية، كما اختاره غير واحد من أهل العلم، ومنهم الإمام العز بن عبد السلام، وطائفة من أصحاب الشافعي رحمة الله عليه،
فقالوا: لا يجلس؛ لأن جلوسه تحصيلا للسنة،
وقد أمر بالإتمام لقوله عليه الصلاة والسلام: (وما فاتكم فأتموا)،
قالوا: فلذلك لا يشتغل بالسنة عن الفرض اللازم عليه.هذا حاصل ما ذكر في تسليم المصلي من صلاته.
مسائل متفرقة في الصلاة
[التكبير ورفع اليدين عند القيام إلى الثالثة]
قال رحمه الله تعالى: [وإن كان في ثلاثية أو رباعية نهض مكبرا بعد التشهد الأول] أي: إن كان المصلي في ثلاثية كالمغرب، أو رباعية كالظهر والعصر والعشاء نهض مكبرا إلى الركعة الثالثة،
وقوله: (مكبرا)،
أي: حال كونه مكبرا يقول: الله أكبر، فإن استتم قائما رفع يديه مشيرا بها كالحال في تكبيرات الركوع والرفع من الركوع.وهذا هو الموضع الرابع الذي يشرع فيه رفع اليدين كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر في صفة رفعه صلوات الله وسلامه عليه يده في الصلاة.
قال رحمه الله تعالى: [وصلى ما بقي كالثانية بالحمد فقط] قوله: [كالثانية] أي: كما وصفنا في الركعة الثانية، لا كما وصفنا في الركعة الأولى؛ فإنه في الثالثة والرابعة يفعل ما يفعل في الثانية، لكن يقتصر في الثالثة والرابعة على سورة الفاتحة إلا الظهر، وهذا فيه حديث ابن عباس،
فإن السنة أن يقرأ بسورة: {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1] في الركعة الثالثة، و {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] في الركعة الرابعة، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنه.
وقال بعض العلماء: يقاس على الظهر العصر، ففي الأخريين من العصر يقرأ بسورتي الإخلاص.وهذا محل نظر، فإن الأقوى أن يقتصر على الوارد، ويقال بسنيته في الظهر، ويضعف القياس في مثل هذا.
[مسألة التورك في التشهد الأخير]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يجلس في تشهده الأخير متوركا] أي: إذا كان في ثلاثية أو رباعية يجلس في تشهده الأخير حال كونه متوركا.والتورك ثبت فيه حديث ابن عمر وابن الزبير رضي الله عن الجميع.
وهذا التورك للعلماء فيه ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يجعل طرف قدمه اليسرى بين الساق والفخذ قريبا من الركبة، وهذا الوجه يصعب في حال ازدحام الناس، بل قد لا يتأتى؛ لأنه يحتاج إلى انفراج الإنسان قليلا حتى يتمكن من إدخال قدمه اليسرى بين ساقه وفخذه قريبا من الركبة.
الوجه الثاني: أنه يؤخرها حتى يقترب من الإلية.
الوجه الثالث: أنه ينزلها ويجعلها تحت الساق،
وتكون على صورتين: الأولى تكون فهيا مقدمة،
بمعنى: قريبة من الركبة.
والثانية: تكون مؤخرة بحيال القدم المنصوبة.فهذه كلها أوجه في التورك لا حرج على الإنسان أن يفعل أي واحدة منها.وتشرع في الثلاثية والرباعية.
والجلوس في الصلاة على صورتين: الأولى: الافتراش، وهي أن تجعل اليسرى بمثابة الفراش، فظاهرها على الأرض وباطنها الذي يلي الأرض عند المشي يكون إلى الإليتين، وينصب رجله اليمنى، ويجعل أصابعه مستقبلة القبلة، فهذا يسمى الافتراش، وفيه حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث وائل بن حجر رضي الله عنه.
الثانية: التورك الذي ذكرناه.
والعلماء رحمة الله عليهم لهم في هذه الجلسات ثلاثة مذاهب: فمذهب يقول بتقديم الافتراش على التورك، كما هو اختيار الحنفية ومن وافقهم.ومذهب يقول بتقديم التورك على الافتراش، كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم.ومذهب يرى التفصيل، كما هو اختيار الحنابلة والشافعية، وهو الأرجح.ومذهب التفصيل هو أنه إن كان في ثنائية بعدها سلام، أو في التشهد الأول من الرباعية أو الثلاثية فإنه يفترش ولا يتورك، وإن كان في رباعية، أو في ثلاثية وجلس للسلام فإنه يتورك ولا يفترش، فهؤلاء يرون أن الافتراش يكون في الثنائية، ويكون في الجلسة الأولى من الرباعية، بمعنى أفهم يرونه في كل ركعتين، وأما التورك فيرونه لجلسة السلام.
ولذلك بعض العلماء يقول: إن كانت ثلاثية ورباعية جلس متوركا لسلامه، ويجلس مفترشا في التشهد الأول، وفي كل ثنائية.فهذا بالنسبة للمذهب الذي يقول بالتفصيل، فجمع بين الأحاديث، وقد جاء في حديث أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفترش ويتورك على حسب حاله في التشهد من كونه مسلما أو غير مسلم.
فإذا قلنا بالتفصيل فإنه قد يقال: هل التورك في الرباعية والثلاثية من أجل السلام، أم من أجل العدد؟ وهذا يتفرع عنه ما لو صلى الوتر،
فإن قلنا: إن جلوسه متوركا في الرباعية والثلاثية من أجل السلام فحينئذ يتورك في الوتر.والأقوى عندهم أنه لا يتورك؛ لأنه في الفجر لا يتورك، ومن بعده السلام؛ وبعض العلماء الشافعية يرون أنه يتورك لتشهد السلام، فيرى أنه إذا أراد أن يسلم تورك لكل تشهد من بعده سلام، وافترش لكل تشهد لا سلام بعده.
[المرأة كالرجل في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [والمرأة مثله لكن تضم نفسها وتسدل رجليها في جانب يمينها] المرأة كالرجل فيما ذكرناه من صفات الصلاة،
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما هن شقائق الرجال)، والأصل في الأحكام أن النساء فيها كالرجال حتى يدل الدليل على اختصاص الرجال، أو اختصاص النساء.
ولكن جلوسها للعلماء فيه وجهان: قال بعض العلماء: إذا جلست في التشهد فإنها تتربع ولا تفترش، والسبب في ذلك أنه أبلغ في سترها.ورووا عن بعض أمهات المؤمنين ما يدل على جلوسها متربعة، كما أثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها،
وقالوا: ما كانت لتفعله إلا وله أصل، خاصة وأن الصلاة مبناها على العبادة والتوقف.ومنهم من قال بما اختاره المصنف وهو أنها تحمل رجليها إلى جهة اليمين، والسبب في ذلك أنها إذا جعلت الرجلين إلى جهة اليمين فإنه لا يتحدد جرمها، فيكون أبلغ في سترها، ويكون غطاؤها عليها، فلا تستطيع أن تميز جرم المرأة بخلاف إذا ما جلست مفترشة.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (84)
صـــــ(15) إلى صــ(23)
الأسئلة
[الإشارة بالسبابة في التشهد وغاية انتهائها]
q إذا أشار المصلي بسبابته في التشهد عند لفظة الشهادة، فهل يبقى مشيرا إلى نهاية التشهد أم يقبضها؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد ذكرنا أن أصح شيء ما جاء في كونه يشير، ويبقى بإشارته حتى ينتهي منكتا بها إلى الأرض، وإن حركها يتأول قول من قال بذلك فلا حرج، وإن أشار بها شديدا -كما هو اختيار بعض السلف- فلا حرج، فالأمر في هذا أن كل من ثبتت عنده سنة، أو اطمأن إلى قول عالم يقول بسنة، أو يترجح عنده صحة حديث التحريك والإشارة بها ولو مترددا فلا حرج عليه؛ لأن له أصلا، والأقوى ما ذكرناه؛ لأن السنة دلت على أن الحركة لا تجوز إلا بدليل، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اسكنوا في الصلاة) فلما قال عليه الصلاة والسلام: (اسكنوا في الصلاة)، كان الأصل هو عدم التحريك حتى يدل الدليل على التحريك، فجاء الدليل يدعو بها، فنقول: إن مطلق الدعاء بها لا يستلزم الحركة كما هو معلوم.
[معنى السلام على عباد الله الصالحين في التشهد]
q ما معنى أن كل عبد صالح يصله السلام عند التسليم من عباد الله المصلين؟
a المراد بذلك أن السلام أصله الدعاء بالسلامة، فإذا قلت لإنسان: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.فمعناه: سلمكم الله من الآفات ومن الشرور، وسلمكم الله من الفتن، فتدعو له بالسلامة؛ لأن من سلم غنم، فالعبد إذا سلمه الله كان غانما وعلى خير وبر، والسلامة تكون في الدين والدنيا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يا عم رسول الله! سل الله العافية، يا عم رسول الله! سل الله العافية، يا عم رسول الله! سل الله العافية) فالعافية هي السلامة، فمن عوفي فقد سلم، فإذا قلت: (السلام عليكم) أي: سلمكم الله، وإذا قلت: (السلام علينا) أي: أسأل الله أن يسلمنا، (وعلى عباد الله الصالحين) أي: أسأل الله أن يسلمهم، فتلقي السلام عليهم، وهذا بمثابة الدعاء أن يسلمهم الله، والله تعالى أعلم.
[إذا نسي المصلي فسلم عن اليسار قبل اليمين]
q إذا نسي المصلي فسلم أولا على الشمال ثم على اليمين، فهل يلزمه سجود السهو، أم أنه خالف السنة ولا شيء عليه؟
a أما بالنسبة لتسليمه عن يساره قبل اليمين فإنه يعتبر خارجا من الصلاة بتسليم اليمين زائدا لتسليمة اليسار؛ لأن تسليمة اليسار وقعت في غير موقعها، فلذلك يعتبر أشبه بالالتفات الزائد، ولذلك اختار بعض العلماء رحمة الله عليهم أنه يسجد للزيادة، خاصة على القول بأن سجود الزيادة بعد السلام، فبعد أن يسلم يسجد سجدتين؛ لأن زيادة التسليم من جنس الصلاة، فيسجد السجدتين بعد السلام، والله تعالى أعلم.
[حكم تكبيرات الانتقال للإمام والمأموم]
q هل يجب على المأموم تكبيرات الانتقال؟
a تكبيرات الانتقال واجبة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وقد فعلها عليه الصلاة والسلام وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، والمراد بتكبيرات الانتقال: تكبيره للركوع، وتكبيره للسجود، وتكبيره للرفع من السجود، وتكبيره للسجدة الثانية، وتكبيره للقيام إلى الثانية والثالثة، فكلها وصفت بكونها تكبيرات انتقال؛ لأنه ينتقل بها من ركن إلى ركن، فلما كان قائما انتقل إلى الركوع فقال: الله أكبر، وكان ساجدا فانتقل إلى الجلوس فقال: الله أكبر.فقالوا: هذه تكبيرات الانتقال، وأصح الأقوال وجوبها، والله تعالى أعلم.
[التسليم قبل الوجه ثم الالتفات]
q ما حكم من ينطق بالتسليمة ثم يقوم بعد ذلك بالالتفات؟
a هذا قول بعض العلماء رحمة الله عليهم، ويميل إليه بعض المالكية، حيث قالوا: إن التسليم أن يسلم قبل وجهه ثم يلتفت.خاصة وأنهم يقولون بالتسليمة الواحدة، وعلى العموم فإذا اختار أحد هذا القول وعمل به فلا إنكار عليه.
[حكم من أدرك مع الإمام ركعة]
q رجل أدرك ركعة مع الإمام في صلاة المغرب، فهل يقرأ التشهد الثاني مع الإمام حتى يسلم، ثم يكمل ما فاته، أم يقتصر على التشهد الأول؟
a إذا صليت وراء إمام وأدركت شيئا من الركعات، وفاتك شيء منها، ثم جلست الجلسة الأخيرة فبعض العلماء يقول: العبرة بحاله عند ائتمامه كحال الإمام، فإذا كان مؤتما يعتبر حاله كحال الإمام، فيفعل ما يفعله من وراء الإمام، ويتفرع على هذا القول مسائل، منها: أنك لو أدركت الإمام في الركعة الثالثة من العصر تقتصر على الفاتحة، والثالثة من المغرب تقتصر على الفاتحة، والثالثة من العصر كذلك تقتصر على الفاتحة.وأما القول الثاني فإنه يقول: العبرة بالمأموم؛ لأن صلاته مع الإمام هي الأولى.فعلى القول الأول فإنه عند تشهد الإمام التشهد الأخير يعتبر حاله حال المتم، ويتشهد تشهدا كاملا، وهذا أقوى.وعلى القول الثاني يعتبر حاله وراء الإمام حال الباني، فصلاته مع الإمام هي الأولى، ويكون حاله دون حال الإمام.ومن فوائد هذه المسألة أن من أدرك الإمام في التكبيرة الثانية أو الثالثة من صلاة الجنازة، فبعضهم يرى أن العبرة بحاله، فحينئذ يبتدئ بالفاتحة، خاصة وأنها ركن في الصلاة، وحتى لو كان الإمام في الدعاء تداركا لما فات، والقول بأنه يعتبر حاله كحال الإمام أقوى، وذلك لظاهر السنة: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فإنه جعل الإتمام والبناء بعد الانفصال، وبعد الإكمال، ولذلك يقوى في هذه الحالة اعتبار حاله مع الإمام كحال الإمام، فيأتم بالإمام على الصورة التي يجده عليها.ولا يشكل على هذا قول من قال: إنه لو أدرك مع الإمام التكبيرة التي قبل الأخيرة في الصلاة على الجنازة فإنه يترك الفاتحة؛ فإننا نقول: إنه لو أدركه وصلى وراءه فإنه يدعو، فكما أنه لو أدركه راكعا، أو أدركه قبل الركوع بقليل لا يتمكن فيه من قراءة الفاتحة فإنها تسقط عنه، كذلك تسقط عنه هنا، فدل على أن مسائل الاضطرار لا تأخذ حكم الاختيار، ولا يلزم فيها بالأصل ولا يعترض به، والله تعالى أعلم.
[الدعاء في الصلاة بغير اللغة العربية]
q هل يجوز الدعاء في الصلاة بغير اللغة العربية؟
a فقد رخص بعض أهل العلم في الأمور التي هي من غير الأذكار والأدعية المخصوصة كالتشهد، فإذا كان الإنسان أعجميا ولا يسعه أن يتعلم الدعاء الوارد فله أن يدعو بلسانه ولا حرج عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يتخير من المسألة ما شاء)، ولم يقيد ذلك بلسان، لذلك قالوا: إنه لا حرج عليه.ولأن كثيرا ممن يسلمون ويكونون حديثي عهد بجاهلية لا يستطيعون الكلام، فإذا كانوا من العجم فلا يستطيعون تعلم اللغة ومعرفة اللسان العربي في الدعاء إلا بعد وقت وجهد، ولذلك وسع عليهم من هذا الوجه، فلا حرج عليه أن يدعو بدعائه سواء أكان بعد انتهاء تشهده أم في حال سجوده، والله تعالى أعلم.
[حكم التسليمتين في صلاة الجنازة]
q نرى من يسلم في صلاة الجنائز عن اليمين والشمال، فما حكم التسليم عن الشمال؟
a المحفوظ التسليمة الواحدة، وحكى بعض أهل العلم التسليمة الثانية، لكني لا أحفظ في ذلك حديثا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأل، فإذا كان عنده حجة ودليل ثابت في هذا، فحينئذ لا إشكال، وإلا الأصل في التسليم المتابعة وعدم إحداث سلام زائد على ما ورد.
[قول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) وخلاف العلماء في محله]
q هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) بعد التشهد؟
a نعم، فهذا اختيار بعض العلماء لقوله عليه الصلاة والسلام: (يا معاذ! إني والله لأحبك.فقال معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله.وأنا والله أحبك، فقال: أوصيك يا معاذ ألا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).فقال بعض العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: (دبر كل صلاة) إن دبر الشيء منه.فقالوا: تدعو بهذا الدعاء بعد التشهد، فتقول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).وقال بعض العلماء: إنه يدعو به خارج الصلاة وهو أقوى، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).وبالإجماع فإن هذه الأذكار تكون بعد الفراغ من الصلاة، وقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بكونها دبر الصلاة، قالوا: قد عرف في اللسان العربي أنه يوصف الشيء بحكم قربه من غيره، ولذلك يقولون: إن قوله: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) إنما يكون بعد الانتهاء من السلام، وهذا المذهب أقوى لوجود النظير الدال عليه، ولأن الأصل أن لا يدخل في الصلاة إلا بدليل، فإذا فعله الإنسان في أثناء التشهد لا ينكر عليه، وإن فعله بعد انتهائه من السلام فهو الأولى والأحرى، والله تعالى أعلم.
[ضابط صلاة الإشراق]
q هل ينبغي لمن جلس إلى الإشراق أن لا يتحرك من مكانه الذي صلى فيه؟ أم أن المقصود بالمصلى المسجد عامة؟
a أما بالنسبة لصحة الحديث الوارد في ذلك والقول بثبوته أو تصحيحه لغيره.فهو يتوقف على مجموع طرق الحديث، والمعتبر بالتحسين منها كله بلفظ: (في مقعده)، (في مصلاه)، والقاعدة أن الإضافة تقتضي التخصيص؛ فإن معنى (مقعده) أي: مكان جلوسه، و (مصلاه) أي: مكان صلاته، ولذلك المحفوظ من كلام أهل العلم أن المراد بمقعده ومصلاه نفس المكان، حتى ولو قام يريد أن يأخذ المصحف فإنه لا يعتبر له هذا الفضل فإنك لو تأملت أن فضل ذلك حجة وعمرة تامة تامة فإنه ليس باليسير، وهذا أمر ينبغي للإنسان أن يجتهد فيه، ولذلك كلما كان الفضل أعظم والأجر أكثر كان الابتلاء أكثر وأعظم، ولذلك ابتلي بأن يثبت في نفس المصلى.ثم إنه ينبغي عليه أن يكون ذاكرا لله؛ إذ بعضهم يجلس وينام، وربما يتكاسل حتى تصيبه السنة من النعاس، ويغفل عن ذكر الله عز وجل، فقد شدد بعض العلماء حتى قال: لو أنه تكلم في فضول الدنيا فإنه لا يؤمن أن يفوته الفضل وهذا أقوى.واعترض على هذا القول بما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس بعد صلاة الفجر فيحلق عليه الصحابة، فيأخذون فيما كانوا فيه من أمور الجاهلية -أي: يتحدثون بما كانوا عليه من الجاهلية- فيضحكون ويتبسم النبي صلى الله عليه وسلم.قالوا: فهذا يدل أنه لا حرج أن يتكلم في أمور الدنيا، ولكن هذا الاعتراض ضعيف؛ لأن الكلام كان من الصحابة، ولم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم.والأمر الثاني: أنهم كانوا يتحدثون بما كانوا عليه من أمور الجاهلية على سبيل ذكر نعمة الله عليهم، فكان عبادة من هذا الوجه، فإنهم يذكرون ما امتن الله عليهم بنعمة الإسلام، فيكون التحدث بما كانوا عليه في الجاهلية على سبيل الإشعار بفضل الله عليهم بالهداية للإسلام، ولذلك كان التحدث بالنعم شكرا لله عز وجل، فهو ذكر وطاعة من هذا الوجه.فالذي تطمئن إليه النفس أن يبقى قارئا للقرآن، أو مسبحا، أو مهللا، أو مكبرا، أو مستغفرا، أو قائلا لأذكار الصباح، أو أذكار المساء، ويجلس في ذكر وطاعة، وهذا يحتاج إلى جهاد وصبر حتى ينال فضل الحجة والعمرة التامة التامة.وأما القول بأن مصلاه المسجد كله فلا أحفظ أحدا من العلماء من السلف رحمة الله عليهم يقول به، وخاصة أن ظاهر الحديث لا يساعد عليه، فالقول بأن مصلاه المراد به المصلى كله من باب التجوز، والأصل حمل اللفظ على حقيقته بقيد (مصلاه) أي: مكان صلاته، كما يقال: مسجده أي: مكان سجوده، وهذا هو الأقوى والأشبه بلفظ الحديث، والله تعالى أعلم.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (85)
صـــــ(1) إلى صــ(9)
شرح زاد المستقنع - فصل: مكروهات الصلاة
المكروه هو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وفي الصلاة مكروهات لا ينبغي فعلها؛ لأنها تنقص من الخشوع والإقبال على الصلاة،
ومنها: الالتفات، ورفع البصر إلى السماء، وإغماض العينين، والإقعاء في الجلوس، وافتراش الذراعين في السجود، والعبث، والتخصر، والتروح، وفرقعة الأصابع، وتشبيكها، والصلاة مع وجود البول، أو الطعام، وتكرار سورة الفاتحة.
[مكروهات الصلاة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد:
[الالتفات]
فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ويكره في الصلاة التفاته] بعد أن فرغ المصنف رحمه الله من بيان صفة الصلاة المشروعة الكاملة، وشرع الآن في بيان ما يكره للإنسان أن يفعله في الصلاة،
ولذلك قال: [فصل]،
وأصل الفصل: قطع الشيء عن الشيء،
والفاصل: هو الحائل بين الشيئيين.ووصف العلماء رحمهم الله هذه المواضع بكونها فصلا؛ لأنه يفصل بها بين المسائل والأحكام لاختلاف أجناسها وما تضمنته من معان.وهذا الفصل سيتكلم المؤلف رحمه الله فيه على الأمور المكروهة، وهي التي يتركها الإنسان فيثاب على تركها، ولا يعاقب على فعلها، والسبب في إيراد هذا الفصل في المكروهات هو أن اتقاء هذه المكروهات يحصل به المكلف على كمال الصلاة، فلما فرغ من صفة الصلاة الكاملة نبه على أن هذا الكمال ينبغي أن يكون مصحوبا بترك هذه الأمور التي فعلها يعد خلاف الأولى.
والمكروه: هو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، ويأتي النهي عنه من الشرع إما في الكتاب، وإما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة عنه، وتدل الأدلة على أن هذا النهي الوارد في الكتاب، أو الوارد في السنة ليس على ظاهره وإنما هو على الكراهة.
قوله: [يكره في الصلاة التفاته] أي: يكره للمصلي إذا كان في صلاته أن يلتفت،
يقال: التفت إذا صرف وجهه قبل اليمين أو قبل الشمال،
وهذا الالتفات يكون من المكلف على صورتين:
الصورة الأولى: أن يصرف وجهه مع بقاء جذع جسمه.
الصورة الثانية: أن يصرف الوجه والجسد.ومراد المصنف رحمه الله هنا صرف الوجه وحده، فإن السنة لمن وقف بين يدي الله عز وجل أن ينصب وجهه، وأن لا يلتفت يمينا ولا شمالا، وهذا من تعظيم أمر الصلاة، وتعظيم الموقف بين يدي الله عز وجل، ولذلك أمر الله باستقبال القبلة، ويكون استقبال المكلف لها بجميع جسمه، فإذا التفت فقد صرف وجهه عن قبلته؛ ولذلك يعتبر هذا ممنوعا عن المصلي.وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الالتفات الذي يقع من الناس،
فقال عليه الصلاة والسلام: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)،
وأصل الاختلاس: الأخذ بسرعة مع غفلة المأخوذ منه،
أي: يأخذ الشيطان حظا بهذا الالتفات من صلاة الإنسان،
حتى قال بعض العلماء: إنه ينقص أجره على قدر ما كان منه من الالتفات.
والالتفات إذا كان ضروريا لحاجة؛ أو أمر ناب الإنسان فالتفت من أجله، فهذا إن كان يسيرا فإنه لا يضر ولا يؤثر في الصلاة.وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه حينما كان في الصلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تأخر عن الحضور بسبب كونه يصلح بين حيين من بني عوف بقباء، فتأخر النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر وأخبره، فأقام بلال الصلاة وتقدم أبو بكر رضي الله عنه؛ فلما كان في الصلاة قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح الناس لـ أبي بكر، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت من كمال خشوعه وصلاته، فلما أكثر الناس عليه التسبيح التفت فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأخر، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك إلى آخر الحديث.ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا بكر حينما التفت، ولم يجعل التفات أبي بكر موجبا لبطلان الصلاة، فأخذ العلماء من هذا دليلا أن المكلف إذا كان في الصلاة والتفت لمصلحة الصلاة، أو لأمر مضطر إليه لمصلحة نفسه، كأن يظن أن عقربا يتحرك عن يمينه، أو حية تحركت عن شماله فخاف على نفسه فالتفت، فحينئذ يكون مضطرا إلى هذا الالتفات ومحتاجا إليه، فلا يوجب بطلان صلاته.والالتفات يكون جزءا وكلا،
فالالتفات الكامل: أن يصل الذقن إلى العاتق، وفي هذه الحالة يكون الالتفات كاملا، وأما الالتفات الجزئي فيكون بصرف الوجه قليلا، وهذا لا يؤثر، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل إذا شوش عليه الشيطان في صلاته فيتفل عن يساره ثلاثا.فإذا كثرت وساوس الشيطان على الإنسان وهو في الصلاة،
وقال له الشيطان: اذكر كذا، اذكر كذا.يريد أن يصرفه عما هو فيه من أمور الصلاة والخشوع فيها فإنه يحرك رأسه قليلا دون أن يلتفت التفاتا كاملا، ثم يتفل عن يساره، أي جهة اليسار،
فكونه عليه الصلاة والسلام يقول: (وليتفل عن يساره) يدل على أنه نوع التفات، وهو جزء الالتفات الذي ذكرناه.
أما الالتفات الكامل فقد قلنا: إنه إذا وجدت الضرورة فلا إشكال، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه التفت إلى الشعب وهو في الصلاة، وجاء في بعض الروايات أنه كان يلتفت إلى الشعب، وأن الشعب كان في جهة القبلة وهذه الرواية تخفف من شأن الالتفات؛ لأنه لو لم تأت هذه الرواية لفهم منه أنه التفات خارج عن جهة القبلة؛ ولذلك لا حرج على المكلف أن يلتفت قليلا، أو يحرك رأسه قليلا، ولكن مع هذا فإنه بالتفاته من دون حاجة معرض لفوات الكمال،
ولذلك جاء في الحديث: (لا يزال الله عز وجل مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه)، وهذا يدل على فوات الكمال، والحظ الأوفر للعبد إذا صلى واستشعر موقفه بين يدي الله ولم يلتفت.
أما النوع الثاني من الالتفات: فهو الالتفات بالجذع، وهو الذي يتحرك الإنسان فيه إلى درجة ينحرف فيها عن القبلة، فلو أن إنسانا كان في صلاته ثم سمع صياح صبيه، فالتفت فتحرك جذعه حتى تحركت قدماه بحيث خرج عن كونه مستقبلا الشرق فاستقبل جهة فرعية أو جهة أصلية فإنه تبطل صلاته ولو كانت لضرورة، إلا ما استثني من ضرورة القتال؛ فإنه في حال ضرورة القتال يستثنى لمكان نص الله عز وجل على ذلك في آية المسايفة.
[رفع البصر الى السماء]
قال رحمه الله: [ورفع بصره إلى السماء] كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده صلوات الله وسلامه عليه، وهذا أكمل ما يكون من المكلف في خشوعه وخضوعه وذلته بين يدي الله عز وجل وهو واقف في الصلاة؛ فإن هذا يدل على الإقبال على الله عز وجل، والاشتغال بما في الآيات من العظات والذكرى، فأكمل ما يكون من المكلف أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.فأما رفع البصر إلى السماء فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على إنكاره،
فقال عليه الصلاة والسلام: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم)،
ثم شدد فقال عليه الصلاة والسلام: (لينتهن عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم)،
وفي رواية لـ مسلم: (أو لا ترجع إليهم)، والعياذ بالله.وهذا يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يصرف بصره إلى السماء،
وذلك لأن القاعدة في الأصول تقول: (إذا ورد الوعيد على فعل شيء دل ذلك على أنه محرم)، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يبين أنه سبب لأن تخطف الأبصار إن استمروا على ما هم عليه يدل على حرمة رفع البصر إلى السماء.وقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقلب بصره في السماء حتى نزلت آية القبلة، ثم نهي عن ذلك،
وقيل: لما نزلت آية المؤمنين: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون:1 - 1] رمى ببصره عليه الصلاة والسلام إلى موضع سجوده.فلا يجوز للمصلي أن يرفع بصره إلى السماء، ويستوي في ذلك أن يكون في موضع له سقف، أو يكون في موضع منكشف السقف،
وهذا على أن قوله صلى الله عليه وسلم: (إلى السماء)،
أي: إلى العلو، فإنه حينئذ يكون المراد به أن لا يرمي ببصره إلى أعلى، ويستوي حينئذ كونه مسقوفا أو غير مسقوف.
وقال بعض العلماء: الحكم يختص بالسماء،
أي: عند نظره إلى السماء.وهذا جمود على ظاهر النص؛
فإننا لو قلنا لهؤلاء: أرأيتم إن كانت السماء مغيمة فإن الحكم واحد عندكم، فالغيم الذي بين المكلفين وبين السماء كالسقف الذي بينهم وبين السماء، ولذلك يستوي أن يكون رفعه للبصر عند وجود الحائل كالسقف، أو يكون بدون حائل كالفضاء.
[إغماض العينين]
قال رحمه الله: [وتغميض عينيه] تغميض العين: إطباق الجفن على الجفن، فإذا أطبق الجفن على الجفن فقد غمض عينيه، فالتغميض مكروه في الصلاة؛ لأنه من فعل اليهود؛ فإنهم إذا صلوا غطوا رءوسهم وغمضوا أعينهم.
وقال العلماء: إن هذا التغميض يعتبر مكروها، ونص عليه غير واحد من أهل العلم، وهذا الصحيح، ووجه كراهته ما ذكرناه من المشابهة، ولأنه يفوت المصالح، وذلك أن المكلف إذا غمض عينيه قد لا يستطيع أن يدفع المار؛ لأنه مغمض العينين، ولأنها حركة زائدة، وحينئذ لا تشرع إلا بدليل، ويستوي في ذلك تحرك العضو أو جزء العضو.ويستوي في ذلك أن يغمض العينين أو يغمض إحداهما، فالحكم واحد.ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يغمض عينيه في الصلاة،
وفصل بعض الفقهاء فقالوا: إذا كان غمض عينيه لكمال الخشوع، أو لكون الموضع الذي أمامه فيه نقوش وزخرفة وإذا نظر إليها اشتغل بها عن الصلاة فغمض، فحينئذ لا حرج، والذي ينبغي ترك التغميض مطلقا، حتى ولو كانت هناك نقوش؛ فإنه من المجرب أن الله إذا أراد بعبده خيرا ورزقه الخشوع يستوي عنده أن يصلي على ذات نقوش أو غيرها، فلو كانت النقوش موجودة وحدد البصر على موضع السجود فإنه سيخشع إن شاء الله، ولذلك الأولى والأكمل والأحرى والأقرب لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الامتناع عن تغميض العينين.
[الإقعاء]
قال رحمه الله: [وإقعاؤه].
يقال: أقعى الكلب إذا ألصق إليتيه بالأرض، وهذه مسألة ينبغي لطلاب العلم أن يتنبهوا لها، فالإقعاء ينصب فيه الكلب -أكرمكم الله- رجليه ويجعل يديه على الأرض، فتكون الإليتين ملتصقة بالأرض والرجلان منتصبتان، فهذا إقعاء الكلب الذي تكلم عليه أئمة اللغة وجهابذتهم كـ أبي عبيدة معمر بن مثنى، وأبي عبيد القاسم بن سلام الجمحي، وناهيك بهما علما وفضلا، فهما أعرف بلسان العرب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإقعاء.والذي عليه جماهير العلماء رحمة الله عليهم أنه هو المراد بالحديث، وأن من فعل هذا فقد فعل ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، وبعض الناس يفعل هذا الإقعاء بين السجدتين، أو يكون جلوسه لهذا الجلوس عند قيامه للركعة الثالثة أو الثانية، فإنك تجده ينصب القدمين ويلصق الإليتين ويتكئ على اليدين كالمرتاح، وبعضهم يهم ويظنها جلسة الاستراحة، وهذا لا شك أنه أبلى وأطم؛ لأن الإنسان حينها يوقع غير المسنون وغير المشروع موقع المسنون.وهذا النوع من الجلوس يستوي فيه أن يكون بين السجدتين، أو يكون حال التشهد، أو يكون عند القيام إلى الركعة الثانية أو إلى الرابعة، فكل ذلك منهي عنه ومحرم.وهناك جلسات اختلف العلماء رحمهم الله في كونها من الإقعاء أو ليست من الإقعاء، ففسر بعض العلماء الإقعاء بكونه ينصب القدمين، ويجعل الإلية على العقبين،
وهذا النصب له صورتان: الصورة الأولى: أن ينصب القدمين، ويجعل الأصابع مستقبلة للقبلة، وتكون الإلية على العقبين.
الصورة الثانية: أن ينصب القدمين ويجعل بطنهما إلى الأرض، ولا يجعل الأصابع مستقبلة القبلة، فإذا جعل البطنين إلى الأرض برز العقبان فكانت الإليتان عليهما.
وهناك صورة ثالثة يدخلها بعض العلماء فيقول: هو أن ينصب القدمين ويجعل يديه على الأرض.والأولون يقولون: يستوي أن تكون يداه على الأرض، أو تكونان على فخذيه.أما كونه ينصب القدمين ويجعل رءوس الأصابع مستقبلة للقبلة فهذا ليس من الإقعاء، لظاهر حديث ابن عباس، إذ فعله بين السجدتين؛ لأن ابن عباس نصب قدميه رضي الله عنه وأرضاه واستقبل بالأصابع القبلة، وجعل إليتيه على العقبين،
فلما قال له تلميذه طاوس بن كيسان: إنه من الجفاء قال: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.وهذا يدل على أنه من السنة أن يفعله الإنسان، ولكن بين السجدتين كما ورد عن ابن عباس.
أما الصورة الثانية: وهي أن يجعل بطني القدمين إلى الأرض والعقبين تحت الإليتين والأصابع إلى الأرض ليست بمنتصبة فهذه هي عقبة الشيطان، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، وفيها حديث عائشة رضي الله عنها الصحيح من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الجلسة، فالصحيح أنها محرمة ومنهي عنها من حديث عائشة لا من جهة الإقعاء،
يعني: إذا رأيت الرجل ينصب قدميه فيجعل بطونهما إلى الأرض مع الأصابع، ثم يجعل الإليتين على العقبين فلك أن تنماه عن ذلك من جهة حديث عقبة الشيطان، لا من جهة حديث الإقعاء، وهذا هو أصح الأوجه عند الجماهير رحمة الله عليهم.ونهي عن هذه الصورة -التي ذكرناها- من الإقعاء لما فيها من مشابهة الحيوان -أكرمكم الله-، وقد شرف الله الآدمي وكرمه كما أخبر الله تعالى في آية الإسراء، وأخبر أنه كرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، ومن باب أولى أن يكرم في أثناء وقوفه بين يدي الله عز وجل، ولذلك نهي عن هذه الصورة، ولأنها لا تتناسب مع الأدب ومقام الذلة بين يدي الله عز وجل، فنهي عن هذه الجلسة لما فيها من بشاعة الصورة؛
ولذلك فإن طاوس بن كيسان لما ذكر أن الرجل يجعل إليتيه على عقبيه قال: إنه من الجفاء بالرجل.
أي: كان السلف رحمة الله عليهم، وكان الناس في القديم يرون أن هذا جفاء، فكيف بالإقعاء الذي هو صورة الحيوان؟!
[افتراش الذراعين في السجود]
قال رحمه الله: [وافتراش ذراعيه ساجدا] أي: يكره للمكلف إذا سجد أن يفترش ذراعيه افتراش السبع، كما ورد من نهي النبي صلى الله عليه وسلم،
والمراد بالافتراش: أن يجعل الذراعين ممدودين على الأرض كانبساط الكلب إذا جلس، فإنه ينبسط انبساطا، وهذا الانبساط منهي عنه.فالسنة أن يرفع وأن يجافي عضده عن جنبه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يجافي حتى كان الصحابة يشفقون على النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة مجافاته، كما في حديث البراء عند ابن ماجة في سننه، ولذلك كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا، لكن لو اضطر الإنسان بسبب ضيق المكان فألزق عضده بجنبه بسبب الضيق وتراص الناس فإن هذا لا حرج فيه، ويعتبر الإنسان فاعلا له بغير الاختيار.
[العبث]
قال رحمه الله: [وعبثه].
أي: يكره له العبث،
والعبث: الحركة الزائدة.ووصف المتحرك بغير المشروع في صلاته بكونه عابثا، لأن الأمر يقتضي منه ما هو أشرف وأكمل من اشتغاله بهذا الشيء.
فمثال العبث: أن يصلح ثوبه من دون حاجة، كأن يبالغ في تعديل عمامته على رأسه، أو ينظر إلى ساعته، أو يحركها كما هو حال بعض الناس اليوم أصلحهم الله.ومن العبث كثرة تحريك الأرض، وإصلاح السجاد عند السجود، وكثرة العبث بها، واشتغاله بحركة يديه على فخذه إذا كان جالسا في التشهد، أو بحركة يده بثوبه إذا كان قائما بين يدي الله عز وجل في حال وقوفه،
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الصلاة لشغلا)، أي أن المكلف ينبغي عليه أن يشتغل بأمر الصلاة، وشأن الصلاة وحالها يشغل.فقد أثر عن علي زين العابدين أنه كان إذا توضأ تغير وجهه فاحمر،
فقالوا: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟
قال: ألا تدرون من أناجي؟! فالإنسان إذا أقبل على الله عز وجل فهو في شغل، وهو أشرف الأشغال وأعظمها وأجلها وأكرمها، كما قال العلماء، هو الشغل الذي خلق من أجله، وهو العبادة،
قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56]، فهذا هو الشغل وأنعم به من شغل، فكونه ينصرف عما هو بصدده من الإقبال على الله عز وجل إلى تحريك اليدين، أو العبث بالفخذ، أو العبث بالساق، أو كثرة الحركة، أو الترنح أثناء الوقوف فكل ذلك مما لا يليق بالمصلي.فإذا كان العبث يكثر منه إلى درجة لو رآه إنسان لظن أنه في غير صلاة حكم بكونه قد بطلت صلاته، أما لو كان عبثه يسيرا فإنه حينئذ يكون بين درجة الحرام ودرجة المسنون وهو المكروه،
فقالوا: يكره.فالعبث الذي يريده المصنف هنا رحمة الله عليه هو العبث الذي لا يخرج المصلي عن كونه مصليا، أما لو بالغ في العبث فحينئذ تبطل صلاته.
فلو قال قائل: ما دليلكم على أن الحركة اليسيرة لا تبطل الصلاة ولو لم تكن من جنس الصلاة؟
قلنا: ثبوت السنة بذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما وقف في صلاة الليل ووقف معه ابن عباس أخذ يفتل أذنه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا نوع حركة وهي خارجة عن الصلاة، وهذا يدل على أنه لا حرج.
[الاختصار]
قال رحمه الله: [وتخصره].
الاختصار للعلماء فيه أقوال: قال بعض العلماء: التخصر الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح هو وضع اليدين على الخاصرة،
وهذا الوضع للعلماء فيه ثلاثة أوجه في التعليل: الوجه الأول: أنه من فعل الشيطان، فنهي عنه حتى لا يشابه الشيطان.
والوجه الثاني: أنه فعل اليهود، فنهي عنه حتى لا يشابه اليهود.
والوجه الثالث: أنه صنيع المتكبرين، والمقام مقام أهل الذلة والخضوع، وهم الخاشعون، فلا يليق أن يقف بهذا الموقف بين يدي الله عز وجل.وهذه الثلاثة الأوجه صحيحة؛ فإنه لما نهى عنه الشرع دل على أنه من الشيطان، ولذلك ينسب المنهي عنه إلى كونه من فعل الشيطان.أما كونه من فعل اليهود فقد جاء عنهم أنهم يفعلون ذلك في صلاتهم.وأما كونه من صنيع المتكبرين فإن أهل التكبر إذا أعجبتهم أنفسهم تخصروا، فوضع الواحد منهم يديه في خاصرته كالمستعظم لنفسه والمتعالي، والمقام مقام ذلة بين يدي الله عز وجل،
فلذلك قالوا: لا يناسب الحال -أعني الخشوع بين يدي الله- أن يتخصر، فنهي عنه.
وقال بعض العلماء: المراد بالتخصر: الاختصار، وهو اختصار الآيات، كأن يقرأ من بعض السور آية أو آيتين ثم ينتقل إلى سورة أخرى، ويقرأ منها آية أو آيتين.
وقال بعض العلماء: الاختصار الذي نهي عنه: السرعة والاختلاس في الصلاة، بمعنى أنه يختصر الصلاة، فبدل أن تكون على قدر من الزمان تكون على ما هو أقل منه، والمراد بذلك الاستعجال حتى إنه لا يعطي الأركان حظها، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ لأنه يفوت الطمأنينة.فهذه أقوال العلماء رحمة الله عليهم في مسألة الاختصار، وجميع ما ذكرنا منهي عنه إلا مسألة انتقاء الآيات من القرآن، فالصحيح أنك لو أخذت آية من البقرة وقرأتها في الركعة الأولى، ثم أخذت آية من آل عمران وقرأتها في الركعة الثانية فلا حرج؛ فإن الاختصار بهذا المعنى ثبتت فيه السنة، كما في حديث ركعتي الفجر،
فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأولى منها بقوله تعالى: {قولوا آمنا بالله} [البقرة:136]،
وفي الركعة الثانية بقوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} [آل عمران:64]، فدل هذا على جواز اقتطاع آيات من القرآن في الركعات، وأنه لا حرج فيه.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (86)
صـــــ(10) إلى صــ(15)
[التروح]
قال رحمه الله: [وتروحه].
التروح في الصلاة: مأخوذ من المروحة، وذلك من شدة الحر؛ لأن الإنسان ربما كان في مكان حار، خاصة في القديم؛ فإن المساجد لم تكن مهيأة فيها وسائل الراحة والاستجمام، فلربما مع كثرة الناس -خاصة في الجمع، أو في غيرها، أو في التراويح- يكون الحر شديدا، والمسجد مع كثرة الناس فيه تشتد حرارته، فربما احتاج أن يحرك شيئا يتروح به، وهذا مكروه وممنوع منه؛ لأنه يخالف هيئة المصلي، ولأنها حركة زائدة لغير مصلحة الصلاة، لكن قالوا: هو مكروه مع وجود الحاجة، أي إذا كان الإنسان محتاجا إليه،
فقالوا: إذا كان يسيرا فإنه يعتبر مكروها لا يوجب بطلان صلاته، كأن تكون معه المروحة،
فإذا اشتد عليه الحر إلى درجة تزعجه قالوا: يدفع هذا الإزعاج؛ لأنه يحصل مقصود الصلاة من حضور القلب، فإن الحر يزعجه، وربما يخرجه عن كونه خاشعا في صلاته.وهناك نوع من التروح، وهو المراوحة بين القدمين، فإنك تجد بعض المصلين إذا طال عليه القيام في الصلاة يقف على القدم اليمنى وتكون اليسرى مرسلة لا يعتمد عليها، فإذا طال قيامه انتقل إلى الجهة اليسرى، فكان اعتماده على اليسرى وأصبحت اليمنى خفيفة الثقل، فأرسلها لكي يتروح.وهذا أثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما،
وقالوا: إنه السنة، وهذا هو المقصود، وهو أن يكون هناك تروح، بمعنى أن يفرج بين القدمين، ولذلك لا يرص القدمين معا إذا وقف، ولا يبالغ في التفريج، إذا وقف المصلي فلا يسن له أن يبالغ في توسعة ما بين القدمين، ولا يبالغ أيضا في رص القدمين فيجمعهما.ولذلك لما رأى ابن عمر رضي الله عنهما هذا الفعل أنكره، وبين أنه خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛
ولذلك قالوا: يكون في قيامه وسطا، ويروح بينهما، بمعنى أنه يعتمد على إحداهما، لكن كره بعض العلماء المبالغة في التروح؛ فإن البعض إذا رأيته متروحا وهو واقف ربما أنكرت أنه في صلاة، وهو التروح المبالغ فيه، كأن يعتمد اعتمادا كليا على اليسرى ويرسل اليمنى، وهي صورة ربما يكون فيها نوع من الفوات للأكمل، ولذلك لا حرج أن يروح بين الأقدام، خاصة عند طول القيام، والسنة وسط،
بل قال بعض العلماء: من رص القدمين معا فقد تنطع، ومن بالغ في إلزاقها بمن هو بجواره فقد تنطع، فالمبالغة في التفريج والمبالغة في الضم كلاهما ذميم، وإنما السنة وسط.لكن هنا مسألة، وهي أنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإلزاق الكعب بالكعب والمنكب بالمنكب، وكان الإنسان لا يستطيع أن يلزق الكعب بالكعب إلا إذا مد رجله ذات اليمين ومد الأخرى ذات اليسار،
فقال العلماء: هذا فيه تفصيل،
فبعض العلماء رحمة الله عليهم يقولون: إن الذي ينبغي أن الإنسان يرتص مع من بجواره، ويسحب الذي بجواره إليه، فإن امتنع الذي بجوارك أن يقترب منك فالإثم عليه والإخلال منه،
قالوا: فلا يقتضي أن تبالغ في وجود الاتساع بين القدمين.وبناء على فإن الأصل أن الإنسان يقف وقوفا اعتياديا، فإن احتاج إلى شيء قليل من التفريج لينضم إلى من بجواره حتى يصيب السنة من رص القدم بالقدم فحينئذ لا حرج، أما أن يبالغ في التفريج فإن هذا خلاف السنة، وخلاف صورة الأدب في الوقوف بين يدي الله عز وجل.وإذا قلنا: إنه يسحب من بجواره إليه حتى يرتص القدم مع القدم، وتلزق المنكب بالمنكب، فحينئذ يردq إلى أي جهة يرتص؟ وهذه المسألة كثيرا ما تقع، فلو أن إنسانا مع الإمام وجاء فجذب الذي عن يمينه إليه، فأيهما أحق؟! هل الذي عن اليمين، أو الذي عن الشمال؟
قال العلماء: العبرة بجهة الإمام، فإذا دخلت المسجد وكان الإمام في جهة اليمين فإنك تجذب الذي في جهة اليسار؛ لأنه ينبغي عليه أن يرتص إلى جهة الصف، وبناء على ذلك لو كان في جهة اليسار فإنك تجذب الذي في جهة اليمين.وعلى هذا تتفرع مسألة إتمام الصفوف، فإنه إذا جاء الإنسان بعد اكتمال الصف الذي أمامه،
فقد قالوا: الأفضل له أن يقف وراء الإمام من جهة اليمين.
وقال بعض العلماء: بل الأفضل أن يكون وراء الإمام قصدا؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى).فجعل هذا المقام مقام فضل،
فقالوا: الأفضل أن يكون وراءه مباشرة، ثم يليه في الفضل من كان عن يمينه، ثم من كان عن يساره،
وفي الحديث: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)، وفيه كلام.فالمقصود أنه إذا جئت وراء الإمام مباشرة حق لك أن تسحب من على اليمين ومن على الشمال، لكن إذا كنت منحرفا عنه إلى جهة اليمين فإنك تسحب من كان عن يمينه، وإذا كنت على شماله فإنك تسحب من كان عن شماله، وقس على هذا.
[فرقعة الأصابع وتشبيكها]
قال رحمه الله: [وفرقعة أصابعه وتشبيكها].
فرقعة الأصابع أن يضغط على الإصبع حتى يسمع له الصوت، وهذه الفرقعة نهي عنها وتعتبر مكروهة، ولذلك أثر عن حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه أنه كان معه مولاه ففرقع أصابعه في الصلاة،
فلما سلم رضي الله عنه وأرضاه قال له: أتفرقع أصابعك في الصلاة لا أم لك؟!
أي: وأنت واقف بين يدي الله عز وجل تفعل هذا الفعل! فهذا الفعل لا يليق، ولو فعل بين يدي أهل الفضل وأهل العلم وأهل المكانة فإنه يعد من سوء الأدب، فكيف بالموقف بين يدي الله عز وجل؟ ولله المثل الأعلى، ففرقعة الأصابع لا تنبغي، ولذلك إذا كان الإنسان في صلاته فإنه لا يفرقع، وفيه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه.
قوله: [وتشبيكها].
التشبيك: إدخال الأصابع بعضها في بعض، وهذا التشبيك إما أن يكون خارج المسجد، أو يكون داخل المسجد، فإن كنت خارج المسجد قاصدا إلى المسجد فلا تشبك، فقد جاء فيه حديث أبي داود بالنهي،
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من توضأ ثم خرج يريد الصلاة فهو في صلاة)،
ولذلك قالوا: ينبغي عليه أن يراعي أدب المصلي من السكينة والوقار، وقد ثبتت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم،
فقالوا: إذا شبك بين أصابعه فإنه يخالف هيئة الصلاة، ولذلك لا يشبك وهو قاصد إلى المسجد لجمعة أو جماعة.فإذا كان في المسجد فإنه إذا كان قبل الصلاة -كأن يكون في حال دخوله، أو في كونه ينتظر الفريضة- فالحكم سواء، فإنه لا يشبك بين الأصابع لورود النهي، ولأنه في حكم المصلي، وقد ثبتت في ذلك الأحاديث.وإن كان داخل الصلاة فالأمر أشد، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه،
وقالوا: إنه فعل اليهود في صلاتهم،
وجاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (رأى رجلا شبك بين أصابعه في الصلاة ففرقها).
فإذا انتهت الصلاة فللعلماء وجهان: قال بعضهم: يستمر النهي.
وقال بعضهم: لا يستمر،
فإذا أراد أن يقوم بذلك وهو في داخل المسجد فلا حرج وقد ثبت بذلك حديث أبي هريرة في الصحيحين: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي، قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه) الحديث.
قالوا: وهذا بعد انتهاء الصلاة؛ لأنه كان يظن أن الصلاة قد انتهت، فدل على أنه لا حرج في التشبيك بعد الصلاة وبعد انتهائها.
[احتقان البول]
قال رحمه الله: [وأن يكون حاقنا].
أي يكره أن يكون حاقنا ببول، والسبب في ذلك أنه إذا كان البول يزعجه ويحتاج إلى إخراجه، فإنه ينشغل عن الخشوع في الصلاة، كما قال تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} [الأحزاب:4]،
وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثين) قالوا: فدل هذا الحديث على أنه لا ينبغي للإنسان إذا كان محصورا ببول أو غائط يدافعهما أن ينشغل بذلك عن الصلاة، وإنما يقضي حاجته ويتوضأ ويتطهر، ثم يصلي وقلبه قد فرغ من هذا الشغل، وهذا مبني على حديث عائشة الذي ذكرناه.وألحق العلماء بهذا شدة الحر وشدة البرد، فإذا أمكنه أن يتقيهما فإنه يتقيمهما ثم يصلي، فلو كان المكان شديد البرد وأمكنه أن يأتي في مكان أخف برد فإنه يتنحى إلى ذلك.
وهنا مسألة لطيفة وهي: لو كان المكان الذي هو أخف بردا يبعد عن المكان الذي فيه البرد بقدر بحيث يفوته وقت أفضل وهو وقت أول الصلاة، فهل الأفضل له أن يذهب إلى المكان الذي هو منفصل وبعيد، حتى يكون أبلغ لخشوعه، أم أنه يصلي إدراكا لفضيلة أول الوقت؟
قال بعض العلماء: فضيلة أول الوقت أفضل ويغتفر فيها فوات الخشوع؛ لأنه كمال.
وقال بعض العلماء: هذا من تعارض الفضيلتين: فضيلة تخفيف البرد الذي يزعجه ويشغل ذهنه، وفضيلة الوقت، ولا شك أن الإزعاج المتعلق بذات الصلاة دفعه أولى من الفضيلة المنفكة عن الصلاة، وأميل إلى هذا القول الثاني لوجود النهي عن الصلاة حال مدافعة الأخبثين؛ فإن ورود النهي يقوي أن فضيلة الحضور للقلب والخشوع أبلغ من فضيلة أول الوقت، فلو أنه تنحى إلى المكان الذي لا برد فيه أو لا حر فيه، وكان الوقت بقدر لا تفوت به الصلاة فإن هذا أفضل وأكمل على ظاهر ما ذكرناه.
[تكرار الفاتحة]
قال رحمه الله: [وتكرار الفاتحة].
تكرار الفاتحة يأتي على وجهين:
الوجه الأول: أن لا يكون معذورا.
والوجه الثاني: أن يكون معذورا بالتكرار.أما التكرار الذي لا يعذر فيه فكأن يقرأ الفاتحة مع علمه أنه قرأها،
فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: من كرر الفاتحة عالما أنه كررها بطلت ركعته.
وقال بعضهم: بل تبطل صلاته،
ووجه ذلك: أن الفاتحة ركن، فإذا كررها مرتين فإنه يكون قد زاد ركنا قوليا، وزيادة الركن القولي مؤثرة كزيادة الركن الفعلي، فهذا وجه من يقول في أن من كرر الفاتحة تبطل صلاته.وقال بعض العلماء -كما درج عليه المصنف-: من كرر الفاتحة كره له ذلك، ولا تبطل صلاته؛ لأنه خلاف السنة، ولا تبطل صلاته؛ لأن زيادة الأقوال ليس كزيادة الأفعال.وهذا مركب على مسألة الزيادة في الماهية والخارج عن الماهية؛ فإن زيادة الأفعال تعتبر زيادة في الماهية فأبطلت؛ لأنها زيادة في هيئة الصلاة، بخلاف زيادة الأقوال فإنها لا تؤثر في الهيئة، فالهيئة على ما هي عليه،
قالوا: وبناء على ذلك لا يؤثر هذا على صلاته.إلا أن تسليم أصحاب هذا القول بأن الفاتحة ركن يوجب إحراجهم من هذا الوجه، ولذلك ينبغي اتقاء تكرار الفاتحة على هذا الوجه.
الوجه الثاني: تكرارها لحاجة، مثل الذي يشك أنه قرأ الفاتحة،
فهذا لا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون الشك معه طارئا، كما لو صليت ذات يوم الظهر، ثم شككت هل قرأت الفاتحة أو لم تقرأها، فاليقين أنك لم تقرأ، فتقرأها وتلزمك قراءتها.ففي هذه الحالة إذا كان الشك طارئا فحينئذ لا حرج وأنت معذور لوجود السهو.
الحالة الثانية: أن يكون الشك مسترسلا، كالموسوس،
فإنه حينئذ لا يخلو شكه في الفاتحة من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون بعد دخوله في السورة،
فإذا دخل في السورة وجاءه الشيطان وقال له: لم تقرأ الفاتحة فإنه يلغي هذا الشك؛ لأن الظاهر من حاله بدخوله في السورة أنه قد قرأ الفاتحة، ووجود الشك المسترسل يدل على ضعف هذه الشبهة، فيبقى على دلالة الظاهر ويلغي الأصل من هذا الوجه.
الحالة الثانية: أن يكون شكه في حال سكوته، والتبس عليه كون سكوته بين الفاتحة وبين السورة، أو بين دعاء الاستفتاح وبين الفاتحة، فالأصل أنه ما بين دعاء الاستفتاح وما بين الفاتحة فيقرأ الفاتحة ولا حرج عليه في هذا التكرار.
قال رحمه الله: [لا جمع سور في فرض كنفل].
أي: أنه لا يكره تكرار السور وجمعها في فرض، فلو أن إنسانا قرأ سورتين في ركعة فلا حرج عليه، وليس بمكروه، وقال بعض العلماء بالكراهة، ولكن السنة خلافه،
ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر الصحابي الذي كان يقرأ: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] في كل ركعة، فإنه كان يقرؤها مضافة إلى السورة،
وكان ابن مسعود يقول: (إني لأعرف النظائر التي كان يجمع بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته)، فلا حرج أن تجمع بين السورتين في ركعة واحدة.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (87)
صـــــ(16) إلى صــ(18)
الأسئلة
[حكم تغميض العينين في المساجد المزخرفة]
Q في المساجد المزخرفة -خصوصا إذا كانت الزخارف في مواضع السجود- هل يجوز للمصلي أن يغمض عينيه؟
A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد: فقد قال بعض العلماء: إنه إذا كان في الأرض زخرفة أو نحوها فإنه لا بأس بتغميض الإنسان لعينه؛ لأنه يحصل الخشوع بالانكفاف عن هذه الزخرفة.ولهذا القول ما يدل عليه في السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه قال: (أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي)، قالوا: هذا يدل على أن الإنسان مهما بلغ من الخشوع فإنه يشغل، ولو جاهد الإنسان نفسه فإن الله عز وجل يعينه.وكنا في القديم نغمض ونظن أن هذا يعين على الخشوع فوجدنا أن المجاهدة أفضل، حتى يصبح هذا الشيء شيئا عاديا عندك، بحيث إذا ألفته وأحدقت البصر إلى موضع سجودك وتأثرت بالآيات وأحسست أن الله يخاطبك بها بما فيها من الوعد والوعيد والترغيب والترهيب فإن هذا يدعوك إلى التأثر وعدم الالتفات إلى الزخرفة، ولذلك الذي تطمئن إليه النفس أن الإنسان يجتهد قدر استطاعته، ويجاهد عل الله عز وجل أن يبلغه إلى هذه الدرجة من الكمال، والله تعالى أعلم.
الواجب على من ترك الركوع سهوا
qرجل كان يصلي وراء الإمام، وقد قرأ الإمام في آخر قراءته آية سجدة ثم ركع، ولكن هذا المأموم لم يركع مثل الإمام، وإنما سجد سهوا، فماذا يكون على هذا المأموم؟
A هذا أمر ينبغي التنبيه عليه لأئمة المساجد وطلاب العلم، فقد نبه العلماء رحمة الله عليهم أن من فقه الإمامة أن لا يفعل الإمام شيئا يوجب اختلال صلاة الناس وراءه، وهذا من النصح للعامة، ووجه ذلك أنه إذا وقف على موضع السجدة أربك الناس، فلا يدري الناس أهو ساجد أم راكع خاصة إذا كان هناك أناس يقتدون به في خارج المسجد، فترى هذا راكعا وهذا ساجدا، وترى آخر قائما حائرا لا يدري، أيسجد أم يركع، ولذلك ذكروا أن من فقه الإمامة التنبه لمثل هذه الأمور.قالوا: فإذا قرأ ذلك ووقع فيه فإن لم يكن عنده رغبة أن يسجد فليصلها بسورة بعدها، فإنه إذا قرأ الآيتين والثلاث، أو استفتح سورة مثل سورة (اقرأ)، ولا رغبة له في السجود فإنه يستفتح بسورة القدر، فإن دخوله بسورة القدر ينبه على أنه لا يريد الركوع، قالوا: حتى ولو قرأ منها آيتين لينبه الناس على أنه غير ساجد، ثم يركع بهم.ولذلك يقولون: ينبغي للإمام أن يكون عنده العلم بأحكام الإمامة وفقه الإمامة.أما بالنسبة لحكم هذه المسألة فإن الإمام إذا كبر وركع ثم سجد الناس، فمن سجد صح سجوده، وحينئذ إذا رفع الإمام يقوم مباشرة، ثم يركع ويدرك الإمام في الرفع من الركوع وصلاته صحيحة؛ لأنه سجد على وجه الإخلال، ويحمل الإمام عنه هذا السهو.وأما إذا لم يركع وإنما سجد ثم قام من سجوده فوقف مع الإمام في الرفع من الركوع ولم يركع فعليه أن يلغي هذه الركعة، فإذا سلم الإمام قضى هذه الركعة؛ لأنه لم يركع.فإن تدارك صحت ركعته، وإن لم يتدارك وجب عليه قضاء الركعة، فإن خرج من المسجد ولم يقض هذه الركعة وجب عليه قضاء الصلاة كاملة.فالخلاصة أن الصور ثلاث: الأولى: أن لا يركع ولكن يتدارك، فصلاته صحيحة وركعته مجزية.الثانية: أن لا يركع ولا يتدارك فتلزمه الركعة، فإن فعلها وهو في المسجد وقام وتحرك كما في قصة ذي اليدين، فحينئذ صلاته صحيحة.الثالثة: فإن خرج من المسجد ولم يتدارك هذه الركعة لزمه قضاء الصلاة كاملة، والله تعالى أعلم.
[وصايا لطلاب العلم قبل الامتحانات]
q أقبلت الامتحانات، فما هو الذي ينبغي على طالب العلم فعله في هذه الأيام؟
A يوصى طلاب العلم بأمور: أولا: إخلاص العمل لوجه الله عز وجل وإرادة ما عند الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى يأجر الإنسان على قدر نيته، فلا يغلب طالب العلم نية الدنيا على الآخرة.الأمر الثاني الذي يوصى به طالب العلم: الاعتماد على الله، كما قال تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده} [الفرقان:58]، فلا تعتمد على ذكائك ولا على فهمك، ولا على حفظك ولا على تحصيلك، ولكن توكل على الله، فإن الله قادر على أن يترك الإنسان وهو على أكمل ما يكون من الذكاء والحفظ حتى يدخل إلى الاختبار فينسيه جميع ما حفظ، والله على كل شيء قدير، وربما يبتليه بمرض في رأسه أو جسمه فيصبح في شتات من أمره لا يستطيع أن يبلغ ما يريد.فنحن تحت رحمة الله عز وجل، وإذا أردت أن تنظر إلى توفيق الله لك في الأعمال فلا تستفتح عملا إلا وأنت تعلقه على حول الله وقوته.وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم المأثور: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، فلا يصلح الشئون إلا هو سبحانه، فالتوكل على الله تعالى، كما قال تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان:58]، وقال الله في كتابه: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق:3]، وأيام الاختبارات أيام صعبة، وفيها هموم وغموم، فالإنسان يذهب هذه الهموم والغموم بالاعتماد على الله عز وجل والتوكل على الله سبحانه وتعالى وحسن الظن به.الأمر الثالث: ينبغي لطلاب العلم أن يتراحموا، وأن يكون بينهم ما ينبغي أن يكون بين طلاب العلم من البعد عن الأنانية والبخل بالخير على إخوانهم، فإن احتاج أخوك إلى شرح مسألة أو كتاب أو ملخص فأعطه، وإياك وما يسوله الشيطان حين يقول: هذا مهمل متكاسل.فمن الآن تعود على الإيثار، فلربما كانت عنده ظروف، أعطه ملخصك وانصحه، فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يبخل على الناس، وطالب العلم الذي يبخل اليوم سيبخل غدا، والذي فيه الأنانية اليوم فيه الأنانية غدا.فينبغي لطالب العلم أن يوطن نفسه على الإيثار وحب الخير للناس، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، والعلم رحم بين أهله، فإذا احتاج أخوك إلى مساعدة، أو إلى شرح مسألة فلا تبخل فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.الأمر الرابع: البعد عن المحرمات، ومنها الغش في الاختبار؛ لأن الغش في الاختبار يعتبر كبيرة من الكبائر ولا شك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا)، ولأنه يفضي إلى استباحة الأمور المحرمة؛ لأن الإنسان ينال شهادة مزورة وهو ليس بأهل لهذه الشهادة، بل قال بعض العلماء: يشتبه في رزقه، إلا أن يتوب فيتوب الله عليه.ولذلك ينظر فإن نال الشهادة بالزور وبالغش -والعياذ بالله- فأقل ما يكون أن يمحق الله بركة ماله، ولذلك تجده يأخذ المال الكثير وليست فيه بركة، ولو تاب لتاب الله عليه.الأمر الخامس الذي ينبه عليه: تعظيم شعائر الله عز وجل، فإن الطلاب في الاختبارات ربما يقطعون أوراق القرآن من المصاحف، وربما يمتهنون بعض الكتب، فينبغي التناصح في هذا الأمر، فلا يجوز امتهان كتاب الله ولا تمزيق أوراق المصحف، وكذلك لا يجوز امتهانها بوضعها في الطرقات والوطء عليها بالأقدام.ولذلك يخشى على الإنسان إذا رمى بورقة أن يطأ عليها أحد فيكون عليه وزر؛ لأنه هو السبب، والتسبب في الأشياء يوجب ضمان ما نشأ عنه، لذلك من يتسبب في امتهان كتبه وأوراقه بمجرد أن ينتهي من اختباره، أو يضعها في مكان تعبث بها الرياح فهذا لا يجوز، وينبغي التناصح في هذا الأمر.كذلك أيضا أوصي بوصية ينبغي التنبه لها، وهي حقوق الأبناء في مثل هذه الأيام، فعلى الآباء والأمهات أن يتقوا الله في الأبناء والبنات؛ فإن أيام الاختبار أيام عصيبة، ويكون الطلاب فيها في هم وغم، فينبغي الرفق بهم والتوسعة عليهم وإعانتهم وتيسير الأمور لهم وتقوية صلتهم بالله عز وجل، وغير ذلك من الأمور التي ينبغي أن يسديها الوالدان إلى الولد في مثل هذه المواقف، وينبغي القيام بالواجب والمسئولية.وبعض الآباء لا يهمه أن يضبط ابنه العلم أو لا يضبطه، والله سائلك عن ضبط ابنك للعلم؛ لأن تعلم الابن ومعرفته بأمور دينه وما يتصل بها من الأمور التي يحتاجها لحياته أمر مطلوب.فينبغي شحذ همم الأبناء والبنات وإعانتهم على مراجعتهم، وتيسير الأمور التي تعينهم على الخير وبلوغهم لأفضل الغايات؛ لأن هذا من النصيحة؛ فإن من نصحك لولدك قيامك عليه على هذا الوجه الذي يرضي الله عز وجل.وكلمة أخيرة إلى من ابتلاه الله بالتدريس، فإني أسأل الله العظيم أن يشكر سعيهم، وأن يعظم أجرهم، وأن يجزيهم على أبناء المسلمين وبناتهم كل خير، فنعم ما يصنعه المعلم من كلمات طيبة، فأسأل الله أن يتقبل منا ومنهم صالح العمل، فلا يعلم مقدار ما يبذله المعلم والموجه لمن يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فالله أعلم كم تمر عليه من ساعات هم وغم، حتى وإن كان يعلم شيئا من أمور الدنيا، فإن المسلمين بحاجة إلى طبيب وبحاجة إلى مهندس، وبحاجة إلى كل من يسد ثغور الإسلام ولو كان في أمور الدنيا ما لم تكن محرمة، فالمعلم بقيامه بهذه المسئولية على خير، وهو مأجور عند الله عز وجل، فنسأل الله أن يتقبل منا ومنكم.والوصية التي يوصون بها: الرفق بالطلاب، وإحسان الظن بهم وعدم التشويش والتضييق عليهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به).فبعض المدرسين يأتي بأسئلة تعجيزية، وبعضهم يحاول أن يضيق على الطلاب، وكأن الاختبار شيء من المنافسة والأذية والإضرار، وهذا لا يجوز؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار)، فرفقا بأبناء المسلمين وبناتهم، ولتتق الله في هذا الابن الذي يأتيك متوتر الأعصاب شارد الذهن مهموما مغموما مكروبا، فينبغي الرفق بمثل هؤلاء، خاصة وأنهم ذرية ضعيفة، فإن الله سمى الأطفال -خاصة صغار السن- ذرية ضعيفة، فمثل هؤلاء يرفق بهم.وبعض المعلمين إذا رأى التقصير من الطالب سبه وشتمه وأهانه، بل ربما ضيق عليه، فيخرج هذا الطالب بهم وغم يبقى معه دهره كله، فلربما يصاب بمرض في نفسه أو في عقله، وهذا لا يجوز، فهؤلاء أمانة والله سائلنا عنهم، فينبغي الرفق بهم والإحسان إليهم وأخذهم بالتي هي أحسن، وإذا كنت في المدرسة ورأيت من يشدد فذكره بالله عز وجل، وذكره أن حوله بحول الله، وأن قوته بقوة الله عز وجل.ولذلك لما ضرب أبو مسعود رضي الله عنه وأرضاه غلامه وهو يملكه قال: أغضبني فضربته ضربا شديدا، فسمعت صوتا من ورائي لم أستطع أن أتبينه من شدة الغضب، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام).فلذلك ينبغي على الإنسان أن يتقي الله في أبناء المسلمين وبناتهم فهم أمانة، وينبغي أن نعرف نفسياتهم والضيق الذي هم فيه والكرب، فإن الله عز وجل يرحم من عباده الرحماء، وفي الحديث: (من لا يرحم لا يرحم)، وهذا لا يعني أن نسوي بين الخامل وبين المجد، فيستطيع المدرس الموفق الناجح أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يزن بالقسطاس المستقيم، وهذا لا شك فيه، لكن بطريقة ليس فيها إضرار بأمثال هؤلاء الضعفة الذي ينبغي الإحسان إليهم.والشدة المبالغ فيها تنفر، ولو كان المعلم يدرس أفضل العلوم وأحسنها، فإنها تنفر، ولربما يكره بعض الطلاب كتاب الله عز وجل -والعياذ بالله- لصغرهم وجهلهم بسبب الأذية والإضرار، فينبغي تهيئة من يعين الطلاب على بلوغ هذه الغايات الطيبة، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجيرنا وإياكم من امتحان الآخرة، فينبغي علينا أن نتذكر في مثل هذه المواقف حينما يدخل الطالب إلى الاختبار وقد هيئت له الأمور، فكيف إذا قدم العبد على الله عز وجل في يوم تشخص فيه الأبصار؟! ولا شك أن الإنسان الموفق يتنقل من فكرة إلى فكرة ومن عبرة إلى عبرة، فاختبار الدنيا يذكر باختبار الآخرة.ويا للعجب حين تجد الآباء والأمهات مشفقين على الأبناء والبنات وهم يذهبون إلى الاختبارات، والأكف ترفع بالدعوات، ولا يبالي الأب بابنه في الامتحان الأكبر، ومن منا سأل الله لنفسه وأولاده أن يجيرهم الله من عذاب الآخرة؟ فإن الامتحان كل الامتحان في الآخرة.فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجيرنا من هول يوم الوعيد، وأن يؤمننا من سطوة ذلك اليوم الشديد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (88)
صـــــ(1) إلى صــ(8)
شرح زاد المستقنع - مباحات الصلاة
هناك مباحات يجوز للمصلي أن يفعلها في صلاته ولا حرج عليه،
ومنها: رد المار بين يديه، وعد الآيات بأصابعه أثناء القراءة، والفتح على الإمام إذا أخطأ أو أرتج عليه، ولبس الثوب أثناء الصلاة، ولف العمامة، وقتل ما يؤذي كالحية والعقرب ونحوها، وقراءة ما شاء من أول السورة أو وسطها أو آخرها، والبصق عن يساره، وإذا كان في المسجد ففي ثوبه.
مباحات الصلاة
[رد المار بين يدي المصلي]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وله رد المار بين يديه].الضمير في (له) عائد إلى المصلي، سواء أكان في فرض أم في نفل.
وقوله: [وله رد المار بين يديه] قال بعض العلماء: بل يجب عليه ذلك.
وقال بعض العلماء: لا يرد.وهو قول طائفة من أهل الرأي،
فقد كانوا يرون أن هذا من المنسوخ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اسكنوا في الصلاة)، والصحيح أنه ليس بمنسوخ، وأن الحكم باق إلى قيام الساعة، وأنه لا يجوز أن تترك إنسانا يمر بين يديك،
والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (فليقاتله فإنما هو شيطان)،
وقوله عليه الصلاة والسلام عن السترة أنها: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)،
فإن قوله: (فلا يضره) يدل على أنه إذا مر بينه وبين قبلته ضره.
قال العلماء: إن من صلى ومر المار بين يديه تضرر الاثنان، فيتضرر المصلي لأنه قطع عن خشوعه، وإذا سكت عنه أعانه على الإثم والعدوان، ومن أعظم الإثم والعدوان إثم العبادات والاعتداء على حدود الله عز وجل في المقام بين يديه،
فقالوا: يأثم المصلي من هذا الوجه؛ لأنه أعانه وسكت عنه، ويأثم المار عند علمه؛ لأنه فعل ما نهي عنه شرعا من المرور بين يدي المصلي،
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه).
قال أبو النضر: لا أدري أقال أربعين يوما أو شهرا أو سنة.ولذلك شدد الشرع في هذا المرور؛ لأنه يشوش على الناس في صلاتهم ويقطعهم عن الخشوع، وهو عبادة لا نعلم علتها الحقيقية، فمن الله الأمر وعلى الرسول البلاغ وعلينا الرضا والتسليم، وليس هذا بكثير على أشرف العبادات، وأكمل المقامات وهي الصلاة.
والمار بين يدي المصلي لا يخلو المصلى معه من أحوال:
الحالة الأولى:
أن تشعر به قبل المرور، وهذا يتأتى حينما يكون الإنسان قد رمى ببصره إلى موضع سجوده فأحس بالمار من جهة يمينه أو من جهة يساره قبل أن يحول بينه وبين القبلة، فإن شعرت به قبل مروره مددت اليد، وهذا المد من باب التنبيه، ولا يجوز لك في هذه الحالة أن تبدأ بالمقاتلة، وهذا على خلاف ما يرى من بعض الناس -أصلحهم الله- فإنه بمجرد أن يمر بين يديه يضربه، وهذا لا يجوز؛ لأن أذية المسلم والإضرار به محرمة، ولا تجوز إلا في الحدود الشرعية التي أذن الله بها ورسوله عليه الصلاة والسلام، وبناء على ذلك لا يبتدئ الناس بالدفع أو ضربهم على صدورهم مباشرة، وإنما يمد مدا قويا حتى يتنبه المار، فإذا أحسست أن ثبوت اليد يحول بينك وبينه أثبت اليد واكتفيت بالإثبات دون حركة، فإن انصرف فبها ونعمت؛ لأنه ربما يكون المار مشوش الذهن، وربما يكون شارد الذهن، وربما يكون غير منتبه لما أمامه، فإذا وضعت يدك تنبه، فحينئذ يرتدع، ولا شك أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، فإن أصر على المرور في هذه الحالة دفعته، فإن أصر قاتلته، فلك حق الدفع، ولو كان ذلك على وجه الإضرار.واختلف العلماء لو أنه دفعه وسقط وانكسر، أو أصابه ضرر،
فقال بعض العلماء: أذن الشرع بالمقاتلة ودمه هدر، فإن مات فلا يلزم الدافع الضمان ولا يجب عليه القصاص.
وقال بعض العلماء: إنه ضامن، فلا إثم عليه في الدفع، ولكنه يضمن.وهذا القول أقوى الأصول؛ لأن إسقاط الإثم عليه لا يستلزم إسقاط الضمان، وبناء على ذلك ترده وتدفعه، فإن حصل له ضرر فإنه من يدك، وابتلاء ابتلاك الله به، كما يبتلى الرجل بالسقم في جسمه والبلاء في جسده فيضمن؛ لأن الأصل الضمان حتى يدل الدليل على الإسقاط، وليس هنا دليل يدل على إسقاط الضمانات، فالدليل عندنا في الإذن بالمقاتلة، لكنه لا يستلزم إسقاط الضمان،
وفرق بين قوله: (فليقاتله)،
وبين قوله: (فليقتله)، فإن المقاتلة هي المدافعة، وهو أسلوب عام، أي أعم من أن يكون دالا على الإسقاط.
واختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (فليقاتله).
فقال بعضهم: ليس المراد أن يقاتل بمعنى أن يدافعه في الصلاة،
وإنما المراد أن المار على حالتين: فإن دفعته فلا إشكال، وإن لم يندفع،
وغلب فإنهم قالوا: فليدع عليه في صلاته، فإن القتل يستعمل بمعنى اللعن، وبمعنى الدعاء، ومنه قوله تعالى: {قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة:30]،
وقوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره} [عبس:17] أي: لعن،
فقالوا: إنه بمعنى الدعاء عليه، فإذا غلب المكلف فحينئذ يدعو عليه لعظيم الضرر الذي أصابه.ولكن القول الثاني -وهو أن المراد بالمقاتلة المدافعة- أقوى، وهو قول الجماهير، وليس المراد به استباحة دمه والخروج عن كونه مصليا.فإن كان المار قويا،
وكنت ضعيفا وغلبك فحينئذ قالوا: الإثم على المار دون المصلي.وفي بعض الأحيان في حال الجلوس بين السجدتين أو التشهد لا تستطيع المصلي أن يدفع إلا إذا كان الإنسان قويا يستطيع أن يقاتل، فحينئذ لا حرج؛ فلقد رأيت رجلا ضعيف البنية أمسك بساق رجل حتى كاد أن يموت الرجل بسبب ما أعطاه الله من القوة، لكن الإشكال إذا غلبه،
فقالوا: إذا غلبه فالإثم على المار دون المصلي.
وقد ذكر العلماء حالات المرور بين يدي المصلي فقالوا: لا يخلو المصلي والمار بين يديه من حلالت، ففي حالة يأثمان، وحالة لا يأثمان، وحالة يأثم المار دون المصلي، وحالة يأثم المصلي دون المار.فالحالة الأولى التي لا يأثمان فيها صورتها أن يكون المصلي كفيف البصر، ويمر المار وهو لا يدري أنه مار بين يدي المصلي.فسقط الإثم عن الأعمى؛ لأنه لا يرى، وهذا ليس بإمكانه، وسقط الإثم عن المار لكونه لا يعلم.
الحالة الثانية التي يأثمان فيها:
أن يبصره وهو قادر على دفعه ولا يدفعه، ويمر المار دون وجود عذر، مع علمه أنه مار بين يدي المصلي، فيأثمان معا.
الحالة الثالثة التي يأثم فيها المار دون المصلي:
أن يكون المصلي كفيفا والمار مبصرا عالما، فيأثم المار دون المصلي.وأما الحالة الرابعة التي يأثم فيها المصلي دون المار، كأن يكون المار كفيف البصر، أو لا يعلم فيمر دون أن يدفعه، فحينئذ يأثم المصلي دون المار.فذكرنا أن السنة رد المار بين يدي المصلي، وعبر المصنف بهذا الرد على العموم، فيشمل كل ما مر بين يديك، سواء أكان إنسانا أم حيوانا، فإذا مر الشيء بين يديك فإنك تدفعه، خاصة إذا كان مما يقطع الصلاة فإن الأمر فيه أشد، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه.أما بالنسبة لغير الآدمي، وهي الحيوانات،
فهي على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: ما يمكن رده بمد اليد، كالبعير وكالبقرة إذا كانت مماثلة لموقف المصلي، فإذا مد يده تنبه البعير وانصرف عنه، وكذلك البقرة، وفي حكمها أيضا الحمار والبغل ونحوه مما هو عظيم الجثة بحيث يماثل الإنسان حال قيامه.
الضرب الثاني:
أن يكون مما لا يمكن رده من الحيوانات، كالطائر إذا مر بين يدي الإنسان، فإنه يتعذر عليه أن يرده بيده.
الضرب الثالث:
أن يكون مما يمكن رده في حال القيام مع حدوث الانتقال من ركن إلى ركن، وذلك كالهره، فالهرة الصغيرة إذا مرت لا تستطيع أن تردها إلا إذا انحنيت إليها، وكذلك البهمة الصغيرة من الغنم كالسخلة ونحوها، فإنك تضطر إلى أن تنحني، فتنتقل من ركن القيام إلى ركن الركوع، وربما تبالغ في الانحناء لردها كالقطة،
فحينئذ هناك أوجه: قال بعض العلماء: يجوز له أن يدفعها ولو بالرمي، فينحني مسرعا في انحنائه،
أي: ينتقل بسرعة ويأخذها ويرميها، ثم يرجع إلى قيامه ويغتفر هذا الانتقال.وهذا قال به بعض السلف.
القول الثاني:
أنه يرد بقدمه، ولا يرد بيده، فينتقل الرد من كونه بيده إلى كونه بقدمه، فيدفعها بقدمه، فإذا جاءت تمر فإنه حينئذ يجعل قدمه في منتصف الهر ونحوه ثم يرمي به فيغتفر هذا، ويكون كالمدافعة باليد.
القول الثالث:
أنه يتقدم حتى يلتصق بالحائط أو بسترته، فتمر البهمة من ورائه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله لذلك.وأقوى هذه الأقوال وأعدلها والقولان الأخيران، فإما أن يكون الدفع بالقدم، وإما أن يكون الدفع بأن يتقدم حتى يلتصق ثم تمر هي من رواءه كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام.والرد المشروع أن يكون قبل دخوله فيما بين الإنسان وبين سترته، أما لو جاوز هذا المكان ومر،
فقال بعض العلماء: يرده.
وقال بعضهم: لا يرده؛ لأنه إذا رده حصل مروران بين يدي المصلي.وهذا أقوى، أعني الأخير؛ فإنه إذا فات الإنسان ومر، فحينئذ قد سقط التكليف وأصبح من المتعذر؛
لأن الإخلالات تنقسم إلى قسمين: ما لا يمكن تداركه فلا تكليف، وما يمكن تداركه فإنه يكلف به الإنسان، وهذا مما لا يمكن تداركه؛ فإن المرور قد فات، فحينئذ لا يطالب برده، ولأن رده يتضمن مفسدة من الانشغال مع حصول مرور زائد، وبناء على ذلك لا يشتغل برده ثانية.
الأمر الثاني الذي يراد التنبيه عليه: أن يكون المرور فيما بين يدي المصلي، فلو مر من وراء سترته فإنه بالإجماع لا يؤثر؛
لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في السيرة: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)، فدل على أن المرور وراء السترة لا يؤثر، وثبتت في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر حينما مر الناس من وراء السترة، فالسترة جعلت كغاية، فالدفع يكون فيما بينه وبين هذه الغاية، ولا يشرع له الدفع فيما زاد عن هذه الغاية.ويبقى النظر لو كان الإنسان يصلي إلى غير سترة، أو كانت سترته بعيدة، فهل يشرع له أن يتقدم حتى يرد؟و a السنة للإنسان أن تكون سترته على ممر الشاة من موضع سجوده، وهذا يأتي بأكثر من ذراع، فهذا القدر يتركه ويسجد،
كما جاء في حديث سهل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (جعل هذا القدر ممر الشاة) قالوا: العلة في هذه -والله أعلم- أن لا يشبه عبدة الأ [عد الآيات أثناء الصلاة]قال رحمه الله تعالى: [وعد الآي]،
المراد بالعد: الحساب، والآي جمع آية، وهي آيات القرآن.ومراد المصنف أن المصلي إذا أراد أن يعد الآيات في صلاته فلا حرج عليه في ذلك،
وقد جاء حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يعقد أصابعه لعد الآي)، ورخص فيه بعض السلف رحمة الله عليهم، وجاء عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعلهم لذلك.
وقال العلماء: إنه اغتفر هذا الفعل لكونه يسيرا، وقد يحتاج الإنسان للعد لطلب فضيلة، كما في قيام الإنسان بمائة آية وقيامه بألف آية في الليل، فبين المصنف رحمه الله بهذه العبارة أن من اشتغل بعد الآي فلا حرج عليه، ولكن الأكمل والأفضل والأعظم أجرا أن يقتصر على التلاوة بالتدبر.وأما عد الآي فإن حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه لم أعثر على من صححه وقال بثبوته، ولذلك يبقى على الأصل، ولأن المصلي إذا عد الآي فإن ذلك يشوش عليه فكره، وكذلك قد يمنعه ويحول بينه وبين تدبر معاني الآيات،
ولذلك قالوا: إنه خلاف الأولى على أقل درجاته.
[الفتح على الإمام]
قال رحمه الله تعالى: [والفتح على إمامه] إذا صليت وراء إمام وارتج على هذا الإمام أو أخطأ فإنه يحق لك أن تفتح عليه، والفتح على الإمام يكون عند حدوث الخطأ، والخطأ يأتي على صور في تلاوة القرآن، فتارة يكون الإمام واقفا عند الآية لا يعرف ما بعدها، وتارة يردد الآية على سبيل اللبس مع آية أخرى، خاصة في المتشابه من الآيات.ففي هاتين الحالتين يفصل في حكمه، فإذا كان الإمام قد ارتج عليه فقرأ الآية ثم وقف ولم يكمل ما بعدها؛ فإنه حينئذ يحتمل أن يكون وقوفه لتدبر أو تفكر أو اتعاظ، ويحتمل أن يكون وقوفه لمكان الخطأ وعدم معرفة ما بعد الآية على سبيل النسيان، فإن غلب على ظنك أنه قد وقف على هذه الآية على سبيل الخطأ جاز لك أن تبادره بالفتح وأن تعاجله به، وأما أن يبادر الإنسان مباشرة بالفتح فلا؛ لأن الأصل سكوت المأموم وعدم كلامه، وإنما أبيح لك أن تتكلم فاتحا على الإمام عند وجود الحاجة، فلما تردد الحال بين كونه محتاجا أو غير محتاج بقي على الأصل.
ولذلك قال العلماء: ليس كل سكوت من الإمام في وسط الآيات أو عند ختم الآيات يدل على أنه قد التبس عليه، أو ارتج عليه، ولذلك هذا النوع من الوقوف ينبغي على الإنسان أن لا يتعجل فيه؛ لأنه ربما قرأ الإمام فأدركه خشوع الآية فقطع نصفها، وربما غلبته نفسه بالفكر والتأثر فوقف حتى يسترجع نفسه، وربما لم يستطع إكمال الآية لضيق نفسه، ونحو ذلك.
قالوا: ففي مثل هذه الصور لا يعاجل الإنسان بالفتح، وهذا إذا وقف الإمام على رأس الآية، أو وقف أثناء الآية،
إلا أنهم قالوا: إن وقوف الإمام أثناء الآية أبلغ في الدلالة على كونه ناسيا منه إذا وقف عند آخر الآية.أما وقوفه عند آخر الآية فلا شك أن مبادرتك بالفتح خلاف الأولى، وذلك أنه من المعهود في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من قراءته سكت، ثم كبر للركوع، فلربما سكت الإمام من أجل الركوع، فلذلك كان وقوفه على رأس الآي وتأخره في قراءة ما بعدها لا يدل على كونه ناسيا.
ومن هنا قالوا: من فقه الإمام إذا كان وقوفه على سبيل النسيان أن يكرر الآية التي وقف عليها، فإن تكراره يشعر من وراءه بالخطأ، فهذا إذا وقف على رأس الآيات.
أما الحالة الثانية: وهي أن يرتج على الإمام،
والمراد به: أن تجده يكرر الآية على وجهين وهذان الوجهان لا أصل لهما، بمعنى أن أحدهما الصحيح والآخر خطأ، أما لو كررهما على وجهين يحتملان الصواب -كما هو الحال في القراءات المختلفة- فهذا ليس محل كلام العلماء رحمة الله عليهم.
فقولهم: (إذا ارتج) مأخوذ من رج الشيء إذا خض، والمراد بذلك أن الإمام يتردد في الآية.أما إذا أخطأ فقرأ الآية على غير ما أنزلت عليه، فحينئذ بمجرد خطئه تبادره بالفتح، ويختلف هذا الوجه عن الوجه الذي قبله بكون الوجه الذي قبله يتحرى فيه المأموم، وهذا الوجه يبادر فيه بالفتح.
وقوله: [على إمامه] تقييد فيه نوع من التخصيص؛ لأن الإضافة تقتضي التخصيص، فدل على أنه يشرع له أن يفتح على إمامه دون إمام آخر، ودون قارئ آخر.
ولذلك صور: الصورة الأولى: لو أن إمامين صليا بجوار بعضهما، فأخطأ أحد الإمامين وكنت وراء المصيب وسمعت بخطأ الثاني الذي لا تأتم به،
قالوا: لا يفتح عليه؛ لأنه ينشغل عن صلاته خاصة مع وجود من يفتح عليه.
الصورة الثانية: أن يقرأ بجوارك إنسان كتاب الله عز وجل فيخطئ،
فهنا قال بعض العلماء: يجوز لك أن تفتح عليه، بخلاف الإمام.
ومن العلماء من قال: إنه لا يفتح عليه كالإمام الذي لا تأتم به،
ومن رخص في الفتح عليه قال: إن هذا -أي الفتح- إنما شرع لإصلاح الخطأ في كتاب الله عز وجل، ولعظيم حرمة كلام الله عز وجل، فيشرع للإنسان أن يبين خطأه، ويغتفر هذا الكلام ويقصد به الذكر، فخففوا في هذا، كأن يقرأ بجوارك قارئ فيخطئ، فلك أن تقرأ الآية التي يقرأها، وهذا على سبيل التعبد لا على سبيل الرد.وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة -أعني إذا أخطأ الإمام- فهل من حقك أن ترد عليه أو ليس من حقك ذلك؟ وذلك على وجهين مشهورين عند العلماء رحمة الله عليهم، فذهب جمهور العلماء إلى مشروعية الفتح على الإمام، وأن الإمام إذا أخطأ في قراءته كان من حقك أن تفتح عليه بالصواب،
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى عدم جواز الفتح على الإمام وقال: إنه يلزم المأموم أن يسكت، وأما الإمام فإنه يتذكر، فإن تذكر فبها ونعمت، وإلا ركع وانتقل إلى موضع آخر من كتاب الله عز وجل.والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، وذلك لما ثبت في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة يقرأ فيها، فالتبس عليه،
فلما انصرف قال لأبي بن كعب: أصليت معنا؟
قال: نعم قال: فما منعك أن تفتح علي).
قالوا: فهذا يدل دلالة واضحة على مشروعية فتح المأموم على إمامه، وأنه لا حرج على المأموم إذا تكلم بما يعين إمامه على صواب قراءته، وهذا المذهب لا شك أنه أقرب المذاهب إلى السنة.وأما ما يفتح فيه من الأخطاء فالصواب أنه يفتح في جميع الأخطاء، سواء أأخطأ بإسقاط آية أم جملة أم كلمة أم حرف أم غير الشكل، وسواء أكان تغيير الشكل محيلا للمعنى أم غير محيل للمعنى؛ لأن المقصود إصلاح قراءته لكتاب الله عز وجل.وعلى هذا فيشرع الفتح على الأئمة في هذه الأحوال كلها، والإنسان مثاب على هذا الفتح ومأجور عليه.
[لبس الثوب أثناء الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [ولبس الثوب].
أي: وله لبس الثوب في الصلاة.وهذا مبني على حديث مسلم،
فقد جاء عن وائل بن حجر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر للصلاة والتحف بإزاره).
قال بعض العلماء: هذا يدل على مشروعية لبس الإنسان لثوبه أثناء الصلاة،
ولكن قالوا: بشرط أن لا يكون بالحركة الكثيرة، فإن التحاف النبي صلى الله عليه وسلم بالإزار إنما كان على وجه ليس فيه كثير عبث وكثير حركة، بخلاف الدخول في الثوب الآن، فإنه يحتاج إلى كثير حركة وكثير فعل، ولذلك يفرق بين اللبس الذي فيه كثير الحركة، وما فيه يسير الحركة.وبناء على ذلك فله أن يصلح ثوبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أصلح إزاره، وصورة ذلك أن تكون العمامة على رأسه فيلفها، أو يرفع الغطاء -أعني غطاء القلنسوة- عن جبهته لكي يسجد عليها، ونحو ذلك، فهذا لا حرج فيه، أما ما كان من اللباس يحتاج إلى كثير عمل فإنه لا يفعله في صلاته.
[لف العمامة]
قال رحمه الله تعالى: [ولف العمامة].
أي: إدارتها؛ لأنها إذا سقطت أزعجته،
ولذلك قالوا: لا حرج عليه في لفها؛ لأنه ربما انحلت العمامة فسقط كورها، خاصة عند السجود؛ فإذا ارتفع من سجوده وأراد أن يعيد كورها فإنه لا حرج عليه في ذلك إلحاقا بالتحاف النبي صلى الله عليه وسلم بالإزار.
ومن أهل العلم من قال: فرق بين الإزار والعمامة ونحوها؛ لأن الإزار يتوقف عليه ستر العورة الذي من شروط صحة الصلاة، فكان أمره أشد من العمامة التي لا يشترط فيها ما يشترط في الإزار، فلذلك فرقوا بين العمامة والإزار.ولكن هذا التفريق محل نظر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كبر وقد ائتزر، وإنما مراد وائل شد الإزار، وشد الإزار لا شك أنه مرحلة فوق تغطية العورة، فخرج عن كونه مؤديا لشرط الصحة إلى ما هو فضل أو معين على الفضل.
[قتل الحية والعقرب والقمل في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [وقتل حية وعقرب وقمل].
أي: وللمصلي أن يقتل الحية العقرب، وأن يقتل القمل.أما قتله للحية والعقرب فقد جاء فيه حديث السنن من أمره عليه الصلاة والسلام بقتل الأسودين في الصلاة،
أي: العقرب والحية.وهذا يدل على سماحة الشريعة ويسرها، ووجه ذلك أن المصلي لو اشتغل بصلاته وجاءته العقرب فلدغته فإن ذلك مظنة أن يموت، وكذلك إذا لدغ من الحية، ولذلك يعتبر هذا -أعني جواز القتل أثناء الصلاة- من باب ارتكاب أخف الضررين، ويعتبره العلماء من باب تعارض المفسدتين، فعندنا مفسدة الفعل وهو القتل الذي يخرج المصلي عن كونه مصليا، ومفسدة فوات النفس وحصول الضرر بلدغة الحية والعقرب.
فلذلك قالوا: كون الشريعة تأذن بقتل الحية وبقتل العقرب يدل على تقديم المفسدة العليا على المفسدة الدنيا، وهذا أصل في الشريعة،
ومنه القاعدة المشهورة: (إذا تعارضت مفسدتان أكبرهما)،
وبعضهم يقول: (روعي ارتكاب أخفهما بدفع أعظمهما) أي: لدفع الأكبر، ومن ذلك كسر السفينة، كما في قصة موسى مع الخضر،
حيث علل الخضر عليه السلام كسرها بقوله فيما حكى الله تعالى عنه:: {فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} [الكهف:79]، فكسرها أفضل من أخذها بالغصب كلها،
ولذلك قالوا: كسر السفينة مفسدة أهون من فوات السفينة بكاملها.وعليه فرع العلماء جواز أن يذهب ثلث الوقف لاستصلاح ثلثيه، ونحو ذلك من المسائل، فكون الشريعة تأذن بقتل الحية والعقرب في الصلاة من باب ارتكاب أخف الضررين؛ فإن الاشتغال بالقتل أولى من كون الإنسان يلدغ،
قالوا: لأنه إذا لدغ شوشت عليه صلاته، ولم يستطع أن يصلي وربما مات،
فلذلك قالوا: تقدم المفسدة العليا أعني فوات النفس.
ومما تفرع على هذا الأصل من المسائل: أنك لو خفت من شيء يفضي بك إلى فوات نفسك فإنه يجوز لك في الصلاة أن تدفعه، فلو جاء الإنسان أسد وهو في صلاته شرع له أن يفر، أو يتخذ السلاح، أو يضربه بالسلاح درءا لمفسدة فوات النفس، وكذلك الحال بالنسبة لغيره، فلو رأيت أعمى يكاد يقع في حفرة جاز لك أن تقطع الصلاة لإنقاذه إن توقف إنقاذه على قطع الصلاة، وجاز لك أن تتكلم، وأن تصوت بصوت تمنعه من الوقوع إن كان ذلك يمكن،
فقالوا: هذا من باب حفظ الأنفس، ولا شك أنه مطلوب شرعا، بل هو أحد الضروريات الخمس التي راعتها الشرائع كلها.
ومن ذلك أيضا: المرأة إذا كان معها صبيها الصغير فرأته قد اقترب من نار، أو خشيت عليه السقوط على وجه يوجب تلف نفسه، أو ذهاب عضو من أعضائه، أو حصول الضرر عليه، قالوا يجوز لها أن تتحرك وتنقذه، فإن توقفت نجاته على الخروج من الصلاة شرع لها الخروج من الصلاة.فكل هذه الأمثلة مخرجة على ما ذكرناه.أما الأدلة التي دلت على مشروعية تحصيل حفظ الأنفس بفوات الصلاة، فمنها حديث السنن الذي ذكرناه في قتل الحية والعقرب.
ومنها: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (جاءه الشيطان في الصلاة فتكعكع، فتكعكع الصف الأول، ثم لما سلم عليه الصلاة والسلام سأله أصحابه،
فقالوا: رأيناك تكعكعت فتكعكعنا -
أي: رأيناك تأخرت فتأخرنا-
فذكر أن الشيطان قد جاءه بشهاب فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أعوذ بالله منك)،
وفي رواية: (أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله).إلى أخر الحديث.
وقالوا: إن كونه يأتيه بشهاب من نار ثم يدفعه النبي صلى الله عليه وسلم يدل على دفع المفاسد التي هي دون القتل؛ فإن شهاب النار محرق ولكنه لا يصل إلى درجة فوات النفس فجعلوا حديث الحية والعقرب فيما فيه فوات النفس، وجعلوا حديث النار فيما فيه الضرر البالغ على الإنسان.
ومن الأدلة أيضا: مشروعية الصلاة حال القتال والمسايفة فإن الله أذن للعبد أن يصلي ويقاتل، وذلك حفظا لنفسه، فدل على أنه يجوز للإنسان أن يتحرك تحصيلا لهذا الأصل الذي ذكرناه.وما الحية والعقرب فبعض العلماء يفرق بين الحية والعقرب،
قالوا: إن شأن الحية أخف من شأن العقرب، والسبب في ذلك أن الحيات لا يعترضن غالبا إلا من اعترضهن، وربما مرت الحية على ساق الإنسان ولا تؤذيه، وربما مرت أمامه ولا تتعرض له، وإنما تتعرض لمن يتعرض لها.
فقالوا في هذه الحالة: هي أخف من العقرب، بخلاف العقرب فإن ضررها أبلغ وقصدها للأذية أبلغ،
ففي حالة كونه يتضرر من الحية قالوا: يتريث ولا يعجل إذا غلب على ظنه أنه قد يأمن الشر، وإنما يجوز لك أن تقطع الصلاة، أو تقاتلها أثناء الصلاة إذا كان الفعل يسيرا،
وغلب على ظنك كونها ضارة لك وقال بعض العلماء: لا يفصل بهذا التفصيل؛ لأن الحية مأمور بقتلها.
قال رحمه الله تعالى: [فإن أطال الفعل عرفا من غير ضرورة وبلا تفريق بطلت ولو سهوا] بعد أن بين لنا رحمه الله أنه يشرع للمصلي أن يفعل هذه الأفعال من قتل الحية وقتل العقرب بين لنا أنه إن طال فعله -أي للقتل ورد المار- بحيث يؤثر في صلاته استأنف الصلاة، وإلا بنى.
وهذه المسألة للعلماء فيها وجهان: فجمهور العلماء على الجواز،
ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد رحمة الله على الجميع، ووافقهم أهل الحديث وأهل الظاهر.وذهب الإمام أبو حنيفة إلى عدم مشروعية هذه الأفعال،
فقال: إن الحركة في الصلاة نسخت،
وذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم: (اسكنوا في الصلاة).والصحيح أنه باق، وأنه لا حرج على الإنسان أن يفعل هذه الأفعال عند وجود أسبابها وموجباتها.
فإذا قلنا على مذهب الجمهور: إنه يشرع لك أن تقتل الحية وأنت في الصلاة، سواء أكانت فريضة أم نافلة، وأنه يشرع للإنسان أن يتسبب في نجاة غيره إذا كان في الصلاة،
فحينئذ لا يخلو فعلك من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون فعلا يسيرا.
والحالة الثانية:
أن يكون فعلا كثيرا.فإن كان فعلا يسيرا فإنه مغتفر عند الجمهور، ومثال ذلك أن يكون بجوار الإنسان عصا فأخذها ورفعها مباشرة وضرب بها الحية ثم رماها وألقاها، فهذا فعل يسير، أو كان بجواره رمح فأخذه وطعن به الحية فقتلها، فهذا أيضا يسير مغتفر.وإن كان فعلا كثيرا، فهذا يوجب استئناف الصلاة، بمعنى أنه قد خرج عن كونه مصليا وتستثنى حالة المسايفة وهي القتال، فإن الكثير فيها والقليل على حد سواء، فلو أن العدو نزل بالمسلمين في وقت الصلاة، فقاتلوه بحيث لم يبق إلا قدر أدائها، قالوا: يقاتل على حالته، ولو كان في حال ضربه بالسيف،
فإنه يقاتل ويصلي ولو ترك ركوعه وسجوده لقوله تعالى: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} [البقرة:239].وإذا ثبت أنه يشرع لك أن تفعل هذه الأفعال،
وقلنا: إن الكثير مؤثر،
فللعلماء وجهان في هذه ضابط هذا الكثير المؤثر: فقال بعض العلماء: الكثير عندي يرجع إلى العرف ومراده بالعرف أنه لو نظر إليه شخص وهو في حال أفعاله وحكم بكونه غير مصل بطلت صلاته، وأما لو نظر إليه ورأى أن فعله يسيرا، ولا يخرج في العرف عن كونه مصليا، فصلاته صحيحة، ويبني على ما مضى.
وقال بعضهم: الضابط ثلاث حركات، وبشرط أن تكون متتابعات، فإن فرق بينها لم يؤثر، فإذا تتابعت ثلاث حركات فأكثر حكم ببطلان صلاته، ويستأنف الصلاة.
وقوله: [فإن أطال الفعل عرفا] دل على أن المصنف رحمه الله يميل إلى التقييد بالعرف، كما هو مذهب الشافعية ووافقهم جماعة على ذلك.وذهب الحنفية إلى الضابط بالعدد وهو عندهم ثلاث حركات متتابعات.والقول بالعرف من القوة بمكان، ولكن تعتبر الثلاث الحركات في بعض الصور.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (89)
صـــــ(9) إلى صــ(15)
[قراءة أواخر السور وأوساطها]
قال رحمه الله تعالى: [ويباح قراءة أواخر السور وأوساطها].
أي: يباح لك إذا صليت أن تقرأ أواخر السور وأواسطها، ولا حرج عليك في ذلك؛
لأن هذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أكثر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم} [البقرة:136]، إلى آخر الآية،
وفي الركعة الثانية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} [آل عمران:64]، إلى قوله {اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران:64]).
قالوا: فهذا يدل على جواز قراءة جزء السورة في ركعة وجزء السورة الثانية في ركعة ثانية، وهو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن قالوا: الأفضل والأكمل أن يقرأ السورة كاملة، وذلك أفضل لكونه هدي النبي صلى الله عليه وسلم الغالب، ولاشتمالها على الموعظة،
فإن إتمام السور أبلغ من اقتطاع أجزاء منها لكن قالوا: ربما احتاج الإنسان أن يذكر الناس بآيات، أو كانت قراءته تخشع في مواضع دون مواضع فحينئذ لا حرج عليه أن يتخير من كتاب الله عز وجل، ويقرأ بعض الآيات في ركعة ثم غيرها في ركعة أخرى، سواء من أواخر السور، كأواخر سورة البقرة أو أواخر سورة آل عمران، أم من أواسطها، كما جاء في حديث ابن عباس في صلاته عليه الصلاة والسلام في الرغيبة، فكل ذلك جائز وسائغ.
أما الدليل على جواز ذلك فعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن)، فكونه يقرأ من وسط السورة أو آخرها هو الذي تيسر له، ولذلك لا حرج عليه في فعله هذا الوجه، لكن الأفضل والأكمل إتمام السور لما ذكرناه، ولأنه الهدي الغالب من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[تسبيح الرجل وتصفيق المرأة في الصلاة للحاجة]
قال رحمه الله تعالى: [وإذا نابه شيء سبح رجل، وصفقت امرأة ببطن كفها على ظهر الأخرى].قوله: [سبح] اختصار لـ (سبحان الله) فقوله: [سبح رجل] أي: قال: سبحان الله.ويرفع بها صوته إذا نابه شيء، كأن يقرع عليه ضيف الباب،
أو يتحرك عنده الطفل حركة غريبة ويخشى عليه فيقول له: سبحان الله.حتى يتنبه.أو كان هناك أمر يحتاج إلى التنبيه عليه لجالس بجواره،
فإنه يقول: سبحان الله.
والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)، فدل هذا على مشروعية أن يسبح الرجال.ومن ذلك أن ينوب الإنسان أمر داخل الصلاة، فإنه من باب أولى وأحرى، كأن يسهو الإمام، فإذا سها الإمام في الأفعال تسبح له، فلو أن إماما كبر للجلوس بين السجدتين فإذا به يحاول القيام، أو قام ووقف فإنك تسبح؛ لأن الجلوس بين السجدتين لا بد من الرجوع إليه، فهو ركن من أركان الصلاة، وهكذا إذا فعل فعلا يحتاج إلى تنبيهه عليه،
ولا حرج عليك في ذلك لعموم قوله عليه والصلاة والسلام: (إنما التسبيح للرجال).وأما التصفيق فقد ثبت في جزء الحديث الثاني، وهو يختص بالنساء،
والحديث في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)، وفيه دليل على أن النساء إذا علمن بخطأ الإمام وسهوه وغفل الرجال عن التنبيه، أو صلت المرأة مع زوجها وسها فإنها حينئذ تصفق له،
والتصفيق ينقسم إلى قسمين في الأصل: تصفيق مشروع في الصلاة، وتصفيق غير مشروع وهو تصفيق أهل اللهو والمجون.ويكون التصفيق ببطن الكف إلى بطن الكف، وهو التصفيق المعروف والمعهود، سواء أوقع بالمقابلة الكاملة أم كان بجزئه، كأن يجعل أصابعه على بطن راحته فإنه يعتبر من التصفيق.
أما التصفيق المشروع الذي يكون في الصلاة فقيل: هو أن تضرب بظاهر الكفين على بعضهما.
وقال بعض العلماء: التصفيق المشروع في الصلاة أن تضرب ببطن إحدى اليدين على ظهر الأخرى.
وقيل: أن تقلب فتجعل الظاهر على باطن الأخرى.وسواء أفعلت هذا أم هذا فكل ذلك جائز ومشروع، وفي هذا الحديث حجة لما ذهب إليه جمهور العلماء من أن صوت المرأة عورة، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صرفها من اللفظ إلى التصفيق، مع أن المرأة قد تصلي مع محارمها ولم يرد استثناء.
ولذلك قالوا: عدل عن التسبيح إلى التصفيق بالنسبة للنساء لمكان الافتتان بأصواتهن،
والفرق بين قولنا: إن صوت المرأة عورة،
وقولنا: ليس بعورة يظهر في مسألة محادثتها للرجال من دون حاجة، فإن القول بأنه ليس بعورة معناه أنه لا حرج أن يسمع الرجل صوت المرأة إذا أمن الفتنة.والأصل أن الغالب كالمحقق، ولذلك قالوا: الأصل فيه أنه عورة، ولا يرخص إلا لحاجة كسؤال واستفتاء ونحو ذلك.
[البصق في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [ويبصق في الصلاة عن يساره وفي المسجد في ثوبه].البصاق والبساق والبزاق ثلاث لغات، بالصاد والسين والزاي.
وقوله: [ويبصق في الصلاة عن يساره] لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المصلي أن يبصق قبل وجهه، ونهاه أن يبصق عن يمينه،
وقال: (عن يساره تحت قدمه)، فإذا كان في برية فإنه يشرع له أن يتفل عن يساره ويبصق عن يساره تحت قدمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك.أما إذا كان في المساجد وكانت مفروشة فإنه لا يجوز له أن يبصق لا عن يمينه ولا عن يساره ولا قبل وجهه ولا وراء ظهره، فلا يجوز له بحال أن يبصق داخل المسجد، وفي القبلة أشد،
ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك وقال: (البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)، وهذا حينما كانت المساجد من التراب، وكان عليه الصلاة والسلام يدفنها، وثبت عنه في الحديث الصحيح أنه لما رأى نخامة في قبلة المسجد حكها، ثم طيب مكانها صلوات الله وسلامه عليه.فهذا يدل على تعظيم أمر المساجد، وأنه لا يجوز البصاق فيها، وقد ثبت في حديث مسلم أنها من خطايا أمته التي عرضت عليه صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض العلماء: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البصاق في المسجد لمكان الأذية والضرر فإن هذا يدل على أن كل شيء فيه أذية للمصلين وفيه إضرار بهم لا ينبغي للمسلم أن يفعله في المسجد،
فالأصل أن ترفع المساجد وأن تكرم لظاهر آية النور في قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} [النور:36].والمراد بها المساجد.
قال بعض المفسرين: معنى قوله تعالى: (أن ترفع): أي: تصان عما لا يليق بها حسا ومعنى، فما لا يليق بها حسا مثل البصاق ونحوه كالقاذورات، وما لا يليق بها معنى كلغط أهل الدنيا ونحوه؛ فإنها لم تبن لهذا،
ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا).
فقال العلماء: في هذا دليل على أنه ينبغي صيانة المساجد، ولذلك قالوا من دخل بنعليه على مسجد مفروش فإنه لا يخلو من الإثم؛ لأنه إنما شرعت الصلاة في النعلين في ما هو غير مفروش، أما إذا كان مفروشا فإنها قد خرجت عن صورة السنة، ولا بد في صورة السنة من التأسي والاقتداء، فكونه يصلي على فراش على خلاف ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الفراش غير موجود على عهده صلوات الله وسلامه عليه، ولم يصل على فراش البتة، بل قام على حصير -كما في حديث أنس في الصحيحين- فلم يقم بنعليه صلوات الله وسلامه عليه.فهذا يدل على أن المعنى هو عدم أذية المصلين، وعدم التسبب في الإضرار بهم، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام -وهو أصل في الشرع-
أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار)، وخرج العلماء عليه القاعدة المشهورة التي هي إحدى قواعد الفقه الخمس (الضرر يزال)، فلذلك لا يشرع للمصلي أن يتفل قبل وجهه،
وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟!) أي: هل يرضى أحد أن يستقبل من قبل وجهه بالنخامة؟! فالله أجل، ولله المثل الأعلى.فإن كان في المسجد فإنه يبصق في ثوبه كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام، ثم يدلك الثوب، أو كما هو موجود الآن من المناديل التي يضعها المصلي في جيبه، فله الحق أن يخرجها من الجيب ويبصق فيها ولا حرج عليه في ذلك، لكن السنة والأولى له إذا بصق في المنديل أن يجعله في شقه الأيسر وأن لا يجعله في شقه الأيمن؛ لأن المعنى موجود.ولا ينبغي أن نجعل الأواني التي تحفظ هذه الفضلة من هذه المناديل في قبلة المصلين، وهذا خطأ يشيع عند بعض الناس، فإنهم يجعلون هذه الأواني التي تحفظ بقايا النخامات قبل المصلين أمام وجوههم، ولذلك لا يشرع مثل هذا، وإنما تصرف إلى مياسر الصفوف ونحو ذلك.
الأسئلة
[حكم الرد على الإمام إذا أخطأ في التجويد]
qهل يجوز لنا أن نرد على الإمام إذا أخطأ في حكم من أحكام التجويد؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: تجويد القرآن وترتيله أمر لازم، وذلك لقوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا} [المزمل:4]، وهو مشروع؛ فإن القرآن إنما نزل على صورة معينة، وهذه الصورة تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبريل، وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتناقلتها الأمة جيلا بعد جيل، ورعيلا بعد رعيل على صورة مخصوصة وهيئة مخصوصة عرفت بمصطلح اصطلحوا على تسميته بالتجويد.وهذا المصطلح يكاد يكون إجماع السلف رحمة الله عليهم ومن بعدهم على كونه مشروعا في الأصل، فلم يوجد في العصور المتقدمة بل إلى عهد قريب من يقول: إن التجويد بدعة.وذلك لأن القرآن واضح في الأمر بترتيل القرآن.والمراد بترتيل القرآن إعطاء الحروف حقها ومستحقها، ولذلك قال الله عز وجل: {بلسان عربي مبين} [الشعراء:195]، فلم يقتصر على وصفه بكونه لسانا عربيا حتى أضاف إليه كونه مبينا، قيل: مبينا من جهة كونه يبين الحق، وقيل: مبينا من جهة اللفظ.ولا مانع من الجمع بين المعنيين كما هو مقرر في أصول التفسير أن اللفظ إذا احتمل المعنيين وكان يمكن أن يطلق عليهما معا فإن الأصل حمله على ذلك العموم المقتضي لهما معا.وقد اختص أهل القرآن بتجويده وضبطه وإتقانه وتحريره، وكان لهم شرف هذا الضبط وهذا التحرير، وعقدت لهم مجالسهم في بيوت الله عز وجل وفي أماكن حلق الذكر والعلم، ولم ينكر أحد هذا العلم، بل قالوا في حكمتهم المشهورة: القراءة سنة متبعة لا تؤخذ إلا من أفواه الرجال فكانوا يأخذون القرآن بالتلقي.وأخذ المصاحف والقراءة بها فيها بالطريقة الموجودة اليوم ما عرف إلا في هذه الأزمنة الأخيرة، وإنما كان في القديم لا يقرأ الإنسان إلا عن طريق الشيخ صيانة لكتاب الله عز وجل وحفظا له من الخطأ والزلل.ومن قال: إن التجويد بدعة فإن قوله محل إشكال عظيم؛ إذ لو قلنا: إن الإنسان يقرأ القرآن على ظاهره فكيف يقرأ قوله تعالى: (كهيعص)؟ فمن أين جاءتنا معرفة المدود لنقرأ: (كاف، ها، يا، عين، صاد)؟ ومن أين جاءتنا تلاوة هذه الحروف على هذا الوجه المعين؟ فما جاءنا إلا عن طريق الرواية، فكما أنه ألزم بهذه الرواية على هذا الوجه فكذلك الشأن في كتاب الله عز وجل في حروفه، ولذلك تجد التنوين والغنة والإخفاء وغيرها من الأحكام تترتب عليها مسائل دقيقة في صفة الحروف.وقد أثر عن علي رضي الله عنه أنه لما فسر الترتيل فسره بإعطاء الحروف حقها من صفة لها ومستحقها، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله لزوم التجويد، ومرادهم بذلك التجويد الذي تنضبط به الحروف، وتنضبط به مخارج الحروف، أما الزائد على ذلك من التحبير والتحسين والإتقان الذي هو مرتبة الكمال فهو مرتبة فضل، وليس بمرتبة وجوب، ولذلك لا حرج في كون الإنسان يجهله، لكن إذا جاء إلى القدر اللازم مثل إخفاء الحرف، ومثل كون الحرف منونا، والذي تبين به صفة الحروف، فهذا سنة متبعة، وينبغي التأسي فيها والاقتداء بسلف هذه الأمة ومن بعدهم، ولا شك أن هذا الأمر مما يكاد يكون مجمعا عليه بين أهل العلم رحمة الله عليهم.وعليه فإذا أخطأ الإمام في أحكام التجويد بما يخل، فلا شك أنه يشرع الفتح عليه ويلزم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما لو أخطأ في الآية كلها، ولذلك يشرع في مثل هذه الصورة أن يفتح عليه، أما إذا كان في الكمال فإنه يغتفر، وخاصة إذا كان من الأميين الذين يطول ردهم، والله تعالى أعلم.
حكم الفتح على الإمام بصوت عال
q يلاحظ على بعض المأمومين في قضية الفتح على الإمام أنه إذا كان في مؤخرة المسجد يفتح على الإمام بصوت عال يسمع في أرجاء المسجد، فهل هذا الفتح يعتبر من العبث الذي يؤثر في صحة الصلاة؟
a هذه المسألة مهمة جدا، خاصة في صلاة التراويح، فتجد الناس يمسكون المصاحف، وقد يكون أحدهم خارج المسجد، فإذا أخطأ الإمام رفع صوته ورد على الإمام، وهذا يعتبر من الأمور التي ينهى عنها؛ لأنه لا حاجة إلى كلامه، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
ولذلك قال العلماء: إذا كان وراء الإمام من يتولى الرد عليه فإنه يترك الأمر له؛ لأنه ليس هناك حاجة إلى أن يتكلم.
وقالوا: إنه لو أخطأ الإمام وأنت خارج المسجد، بحيث لا يمكن أن يبلغ الصواب الإمام فإنه حينئذ يشرع ترك الفتح؛ لأنه يعتبر من العبث؛ إذ ليس فيه إلا التشويش على المأمومين، لكن لو كنت في طرف الصف أو بعيدا، ويغلب على ظنك أنك لو فتحت ربما نقل غيرك فتحك للذي أمامه، والذي أمامه لمن أمامه حتى يصل إلى الإمام، فحينئذ لا حرج أن تفتح عليه لكي يبلغ بصوتك، بل وترفع صوتك ولا حرج عليك في هذا.أما لو وجد وراء الإمام من يفتح عليه وينبهه على الخطأ فحينئذ يلتزم الإنسان الصمت كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم المأموم وراء الإمام، فينصت ويسكت؛ لأنه هو الأصل في المصلي، والله تعالى أعلم.
[قتل القمل أثناء الصلاة]
q ما حكم قتل القمل في الصلاة؟
a القمل له حالات:
الحالة الأولى:
أن يشوش على المصلي، كما لو كان في رأسه وبين شعره وآذاه وأزعجه، فقد شرع له أن يقتله، ويكون ذلك كما هو معلوم بحركة الإصبع.
الحالة الثانية:
أن يكون بعيدا عن الأذية، كأن يراه على ثوبه، فبعض العلماء يعمم ويقول: يقتل القمل مطلقا، فيدخل في هذه الحالة أن يقتله ولو كان على ثوبه؛ لأن الضرر في مظنة الوقوع فإذا كان في هذه الساعة على الثوب فربما بعد ساعات يكون على الجسد، ومن ثم قالوا: يشرع له أن يقتله بناء على العموم ولا تجد العلماء يفرقون بين كونه مشوشا في الصلاة أو غير مشوش، لكن لو أمكن الإنسان أن يصبر عنه حتى ينتهي من صلاته فهو أولى وأحرى وقتل القمل -كما يقول العلماء- حركته يسيرة وفعله يسير، ولذلك لا يشدد فيه، وليس كقتل غيره، والله تعالى أعلم.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (90)
صـــــ(16) إلى صــ(25)
أسئلة
[دعاء المصلي أثناء الصلاة إذا مر بآية عذاب أو رحمة]
Q إذا قرأ الإمام قول الله عز وجل: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} [القيامة:40] ونحوه، فهل يشرع أن يقول الإمام والمأموم: (سبحانك.بلى)، أم لا يشرع؟
A نعم.فهذا فيه حديث في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (سبحانك.بلى) لما قرأ قوله تعالى:: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} [القيامة:40]، وهذا إنما يكون في النافلة، أما في الفرض فلا.وكان عليه الصلاة والسلام في قيام الليل إذا مر بآية عذاب استعاذ، وإذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله، ولذلك ما حفظ عنه عليه الصلاة والسلام إلا في قيام الليل.ولذلك يعتبر هذا الأصل في صلاة النافلة، فلا حرج على المصلي أن يفعل ذلك؛ لأن أمرها أخف من أمر الفريضة، وأما في الفريضة فإنه يسكت لأنه الأصل، حتى يدل الدليل على جواز الكلام والنطق؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أنه لما نزل قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة:238]، قال الراوي: (أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام)
[حكم تصفيق الرجال والنساء في الحفلات والأعراس]
Q ما حكم التصفيق للرجال في الحفلات ونحو ذلك، وما حكم التصفيق للنساء في غير الصلاة، كالأعراس ونحوها؟
A التصفيق من صنيع أهل اللهو؛ ولذلك لا يشرع، ويسقط مروءة طالب العلم والعالم إذا فعلاه، وأما عوام الناس فينبهون على أنه من صنيع أهل اللهو ومن لا يؤبه له، أما طلاب العلم وأهل الفضل ومن هم قدوة فلا يصفقون، وحملوا قوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} [الأنفال:35] على هذا الوجه، والله تعالى أعلم.
[حكم تغطية المصلي لفمه أثناء الصلاة]
Q ما حكم تغطية المصلي لفمه أثناء الصلاة؟
A تغطية المصلي لفمه أثناء الصلاة منهي عنها.
فقد قال العلماء: نهي عنها.واختلفوا في العلة، فقال بعضهم: لأنه تشبه باليهود، ولذلك لا يغطي فمه.
وقال بعض العلماء: نهي عن تغطية الفم في الصلاة لأنه لا يحسن القراءة وإخراج الحروف، وأيا ما كان فلا مانع من تعليل النهي بالعلتين؛ لأن أصح الأقوال عند الأصوليين أنه يجوز تعليل الحكم بعلتين، وبناء على ذلك نقول: إن تغطية الفم في الصلاة فيها محظور وهو صعوبة خروج الحروف من مخارجها مع ما فيها من التشبه، والله تعالى أعلم.
[الواجب على المصاب بسلس البول إذا دخل وقت الصلاة]
Q شيخ كبير به سلس البول ولا يتحكم في بوله، فهل يجب عليه غسل ما وصل إليه البول من الثياب دائما وخاصة إذا كان بعيدا عن بيته؟
A من كان بهذه الحالة فإنه إذا دخل عليه وقت الصلاة يغسل الأماكن المتنجسة من ثوبه الذي يلي فرجه وما أصابه البول، فإن شق عليه وعسر فحينئذ يمكنه أن يستبدله بثوب آخر إذا كان يشق عليه غسله، كما هو الحال في أيام البرد، فإنه إذا غسل الثوب لا يستطيع أن يلبسه مباشرة، فإذا وجد مثل هذا فليتخذ له سروالين ونحوهما كما هو الأصل في الواجبات، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فقد أوجب الله عليه الطهارة للصلاة، وكونه يصلي على هذه الحالة مع القدرة على التخلي عن هذه النجاسة لا يباح له ولا يرخص له.وأما مسألة تطهره للصلاة فإنه كلما دخل عليه وقت الصلاة يشرع له أن يتوضأ، ولا يضره خروج البول أثناء وقت الصلاة، كالمستحاضة.لكن في مسألة تغيير الثوب وغسل البول، فإذا شق عليه، أو لم يمكنه ذلك، كالمريض الذي يكون طريح الفراش ولا يستطيع أن يجد الماء الذي يغسل به العضو، وحضره وقت الصلاة وخاف خروجه فحينئذ يجوز له أن يصلي ولو كان في ثوبه البول لمكان الضرورة، والله تعالى أعلم.
[الأمر بغض الصوت للمرأة]
Q زوجي كثير الخروج بنا إلى منزل أهله، وإذا ذهبنا إلى منزلهم أجلس مع أهله جميعا في مجلس واحد ويكون معهم أخوه البالغ من العمر خمسة عشر عاما، وأكون أثناء الجلسة متحجبة بالحجاب الإسلامي الكامل، إلا أنني أتحدث بصوت مسموع مع والدة زوجي وأخواته، وأحيانا يتعدى الأمر إلى الضحك، وقد حاولت عدم التحدث بصوت مسموع والإقلال من ذلك، لكني لم أستطع، فما الحكم في مثل هذه الحالة؟
A إذا كان الإنسان في مثل هذه الحالة يأمن الفتنة فلا حرج أن يجلس القرابات النسوة مع بعضهن ويتحدثن ويكون صوتهن عاليا، لكن إذا كان بجوارهن رجال وكانوا أجانب فإنه في هذه الحالة ينبغي عليهن الغض من الصوت وعدم إسماع الرجال الأجانب؛ لأن الرجل يفتن بصوت المرأة غالبا، واغتفر العلماء صغار السن ومن هو قريب البلوغ إذا أمن منه أن يفتتن، والله تعالى أعلم.
[حكم قصر الصلاة لمن كان عمله خارج مدينته]
Q رجل يسكن في مكة وعمله خارجها، فهل يقصر الصلاة إذا خرج من مكة إلى مكان عمله، أو لا؟
A إذا خرج من مكة إلى مكان العمل ولم يكن له مستقر في مكان العمل، كبيت يسكنه ومزرعة يقوم عليها، أو ملك له فيها فإنه في هذه الحالة يقصر بشرط أن لا يقيم أو ينوي الإقامة أربعة أيام فأكثر، فإن نوى الإقامة أربعة أيام فإنه ينتقل إلى حكم المقيم، ويلزمه إتمام الصلاة من أول يوم ينزل فيه في ذلك الموضع، والله تعالى أعلم.
[حكم قراءة الآية من نصفها في الصلاة]
Q ما حكم القراءة في الصلاة من نصف الآية لا من أولها، علما بأن المعنى مكتمل؟
A هذا خلاف السنة، فالسنة أن يبتدئ بأول الآية كما ذكرنا في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قراءته عليه الصلاة والسلام في ركعتي الفجر أما لو فعل ذلك فإن صلاته صحيحة، والله تعالى أعلم.
[حكم الدعاء في القنوت بغير ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم]
Q هل يجوز للإنسان الدعاء بالأذكار التي فيها مواضع دعاء كأذكار الصباح والمساء والنوم أثناء القنوت وغيره، أو الاستغفار بسيد الاستغفار؟
a القنوت لا يشرع فيه إلا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم والحاجة الداعية إلى القنوت، فإذا قنت الإنسان فإنه يقتصر على الوارد كقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك)، وقوله: (اللهم لك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد) ونحو ذلك من الأدعية الواردة.ثم يقتصر على أمرين: الدعاء على من فيه ضرر على المسلمين، والدعاء لمستضعفي المسلمين، فإن زاد عن هذين الموضعين -كأن يدعو بأمور خارجة عنهما- فقد حكم العلماء ببطلان صلاته؛ لأنه كلام خارج عن المشروع كما لو تكلم بكلام أجنبي، ولذلك قال الإمام أحمد: إن زاد عن الوارد حرفا واحدا فاقطع صلاتك.تشديدا في هذا الأمر.ومن البدع المحدثة الاستسقاء في القنوت، فهذا بدعة وليس له أصل، وينبغي تنبيه الأئمة على أنه ينبغي عليهم التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتصار على الألفاظ التي وردت، فتدعو على من ظلم، وتدعو للمسلمين بالنصرة والتأييد، والزائد على ذلك يعتبر من البدعة والحدث، والإمام يأثم ويتحمل مسئولية من وراءه، وينبغي على الأئمة إذا أرادوا أن يفعلوا أمرا وله أصل من الشرع أن يسألوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وأن لا يختلقوا من عندهم بالاجتهادات والاستحسانات.
ولذلك شدد العلماء رحمهم الله في القنوت، وعباراتهم فيها مشهورة، وينبغي التقيد بما ذكرنا، فإذا دعا بمثل هذا الدعاء فقنوته صحيح ومشروع وأما إذا زاد عليه، وكانت الزيادة بما لم يشرع فحينئذ تنوي المفارقة، أي: تنوي أنك منفرد، ولا حرج إذا خفت الفتنة أن تسجد مع سجوده، ثم إذا رفع ترفع معه، ولا تنو الاقتداء به.وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم إذا طرأ في الإمام ما يوجب بطلان إمامته، والله تعالى أعلم.
[الواجب على من فاتته تكبيرة من تكبيرات الصلاة على الميت]
Q كيف يصنع من فاتته تكبيرة من تكبيرات الصلاة على الميت؟
A إذا فاتت تكبيرة فأكثر من تكبيرات الصلاة على الميت، فإنه في هذه الحالة لا تخلو الجنازة من حالتين:
الحالة الأولى: أن تدرك بقدر يقضي فيه الإنسان ما فاته، فحينئذ تكبر التكبيرة وتتم الأذكار الواردة فيها.وأما الحالة الثانية وهي الموجودة الآن:
أن ترفع مباشرة، فإذا رفعت مباشرة فإنك تكبر بدون دعاء وذكر، ثم توالي بين التكبيرات، كأن يفوتك تكبيرتان، فتقول: الله أكبر، الله أكبر، السلام عليكم.فهذا هو المشروع والذي عليه العمل عند أهل العلم رحمة الله عليهم، وإنما قالوا بالتفريق بين كون الجنازة حاضرة ومرفوعة لأن حضورها هو الذي شرعت فيه الصلاة، ولذلك لا يصلى عليها قبل حضورها، فالصلاة عليها بعد رفعها كالصلاة عليها قبل حضورها، ولذلك قالوا إنما يشرع القضاء وذكر الأذكار بين التكبيرات إذا كانت الجنازة ثم.والله تعالى أعلم.
[قول الإمام للمؤذن أقم الصلاة]
Q هل من السنة قول الإمام للمؤذن أقم الصلاة؟ وهل للإمام أن يطيل في الركوع في الفريضة لكي يتسنى للداخل إدراك الركعة؟
A لا يقول الإمام للمؤذن أقم، ولا يتنحنح، ولا يفعل شيئا.فإذا كان الإمام يأتي من قبل المسجد والمؤذن يراه، فحينئذ يسكت الإمام ولا يقل: أقم، لكن لو كان المؤذن يأتيه الإمام من ورائه، أو يأتيه من مكان يريد أن ينبهه وينبه من أمامه حتى يمكنه أن يدخل إلى الصف الأول فلا حرج أن يقول: أقم.خاصة إذا كان الإمام لم يصل تحية المسجد، ولذلك يشدد في كلامه وذكره، فالأولى والأفضل أن يكون دخوله على وجه يتنبه به المؤذن لإقامة الصلاة.والله تعالى أعلم.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(سنن الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (91)
صـــــ(1) إلى صــ(11)
شرح زاد المستقنع - سنن الصلاة
كما أن للصلاة أركانا وواجبات وشروطا، فلها أيضا سنن ينبغي المحافظة عليها،
ومنها: السترة، والاستعاذة عند آية وعيد، والسؤال عند آية رحمة، ونحوها.
سنن الصلاة
[السترة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وتسن صلاته إلى سترة قائمة كمؤخرة الرجل] ذكر المصنف رحمه الله تعالى جملة من الأحكام والمسائل التي كانت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، وشرع بعد بيان صفة الصلاة في بيان الأمور التي يسن للإنسان أن يحصلها في صلاته، ومنها السترة.
فيقول رحمه الله: [وتسن]، وهذا التعبير يدل على أن جعلك للسترة إنما هو على سبيل الندب والاستحباب، بمعنى أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا صلى صلى إلى سترة.
والسترة أصلها: ما يستتر به الإنسان، ويشمل ذلك ما يستر عورته، أو يستره إذا كان في مكان، ولكن المراد بها هنا سترة مخصوصة حكم الشرع باعتبارها، فأنت إذا صليت تحتاج إلى حد معين تمنع فيه الناس أن يمروا بينك وبينه، وهذا الحد وضعه الشرع على سبيل العبادة؛ لأن المكلف إذا خلي من مرور الناس بين يديه كان ذلك أدعى لخشوعه، وأدعى لحضور قلبه، ثم إن هذه الصلاة تكون لها حرمة، فيمتنع المار أن يمر بين يدي المصلي، وذلك إنما يكون بوضع حد معين، وهو الذي وصف في الشرع بكونه سترة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن السترة: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)،
أي: مثل مؤخرة الرحل سترة للمصلي، ثم لا يضره من مر وراء هذه السترة.وأمر عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث إذا صلى المصلي أن يجعل السترة تلقاء وجهه، ولذلك ذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم إلى أن جعل السترة أمام المصلي في صلاته أمر واجب، ولا شك أن هذا القول أقرب لظاهر السنة الثابتة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إننا إذا تأملنا خطر المرور بين يدي المصلي وتشديد الشرع في أمره وترهيب المار من مروره فإنه يتضمن الدلالة على أن السترة واجبة.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو يعلم المار بين يدي المصلي -أي ما في ذلك من الوعيد والعذاب- لكان أن يقف أربعين أهون من أن يمر بين يديه).
قال أبو النضر: لا أدري أقال أربعين يوما، أو أربعين سنة، أو أربعين شهرا.فأمر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول أمر عظيم يدل على عظم خطر المرور بين يدي المصلي، فإذا كان الأمر كذلك فإن من مقصود الشرع صيانة الناس عن هذا الخطر، وحفظهم عن الوقوع في هذا الضرر، وذلك إنما يكون بسبيل الإلزام، فإذا ألزم المصلي بجعل السترة كان ذلك أدعى لحفظ الناس من الوقوع في هذا المحظور.والسترة تكون جدارا، وتكون جمادا، وتكون حيوانا، فلا حرج أن تستتر بظهر إنسان، ولا حرج أن تستتر بحيوان، فلو أنك دخلت المسجد وأردت أن تصلي تحية المسجد ولا تجد شاخصا إلا ظهر إنسان أمامك فإنه لا حرج أن تصلي وراء ظهره، وقد جعلت في نفسك أن هذا الظهر بمثابة السترة لك، ويحق لك إذا وقع موقفك في الصف الذي يلي الصف أن تجعل الصف الأمامي بمثابة السترة.وتكون السترة حيوانا، كأن ينيخ الإنسان بعيره ثم يجعل أحد جنبي البعير سترة له؛ لأنه لا يليق أن يجعل وجهه أمامه، وهكذا بالنسبة للرجل، حتى لا يظن أنه ساجد للبعير أو ساجد للإنسان، فسدا لذريعة السجود لغير الله عز وجل، لا تجعل الحي قبل وجهك، وإنما تأتي من قفاه إذا استحسن أن تكون في القفا، أو تأتي من جنبه، كالحيوان من بهيمة أو إبل أو بقر أو غير ذلك، وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان ينيخ بعيره ويصلي إليه.وكذلك تكون السترة جمادا، وهذا الجماد قد يكون حائلا كالجدار وكالبناء، فهذا لا إشكال في كونه سترة مؤثرة.لكنه يكون في بعض الأحيان شاخصا، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى إلى كل منهما، فلما دخل الكعبة اقترب من جدارها وصلى إلى الجدار، وكذلك اعتبر الجماد الشاخص كما في حديث أبي جحيفة وهب ابن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه في حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال: (ثم ركزت له عنزة)، وهذا يدل على جواز الصلاة إلى الشاخص، كأن تغرز عودا أو عصا أو رمحا أو نحو ذلك ثم تصلي إليه، أو تضع حجرا،
لكنهم قالوا: إذا صليت إلى الحجر فاجعله عدة أحجار حتى لا تشابه عبدة الأوثان، سدا لذريعة المشابهة لعبدة الأوثان؛ لأنه إذا جعل حجرا واحدا فكأنه يشابه أهل الأوثان بعبادتهم للأنصاب ونحوها،
فقالوا: تجعل حجرين أو ثلاثة بجوار بعضها حتى تخرج من مشابهتهم.
وكذلك قالوا: السنة في الصلاة إلى الحجر أو الشاخص أن تجعل الشاخص إما على حاجبك الأيمن، أو على حاجبك الأيسر، ولكن لا تجعله أمامك مباشرة حتى لا تشابه عبدة الأوثان.وفيه حديث أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان عليه الصلاة والسلام إذا صلى جعل السترة على جانبه الأيمن، أو على جانبه الأيسر، ولم يصمد لها صمدا،
أي: ما جعلها أمامه كأنه يسجد لها كحال عبدة الأوثان.
قوله: [قائمة كمؤخرة الرحل] الرحل: هو ما يكون على ظهر البعير، ومؤخرته -كما ضبطها بعض العلماء- بقدر ذراع، وهي تحفظ الراكب من ورائه.فإن كانت السترة صغيرة الحجم طلب ما هو أعلى منها، وذلك أن العالي أدعى لانتباه الناس له وتوقيهم المرور بين يدي المصلي.ثم السنة في هذا الشاخص أن تجعل بين سجودك وبين مكانه قدر ممر الشاة، فمكن أن يكون قدر ذراع، وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقد كان بين منبره والجدار قدر ممر الشاة قال بعض العلماء: الحكمة فيه -والعلم عند الله- أنه يمنع من مشابهة عبدة الأوثان؛ لأنه إذا كان بينك وبين السترة حائلا دل على أنك لا تقصدها.
قال رحمه الله تعالى: [فان لم يجد شاخصا فإلى خط].الخط يكون في الأرض التي هي كالبرية، والتي يمكن وضع الخطوط فيها،
وللعلماء في مشروعية هذا الخط قولان مشهوران: فقال الجمهور بعدم مشروعيته،
وذلك لشدة الضعف في الحديث الذي ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: (فإن لم يجد فليخط خطا)، فالضعف في الحديث قوي جدا، وأشار بعض العلماء إلى تحسينه كالحافظ ابن حجر وغيره، ولكن الكلام فيه قوي،
لكن قال العلماء رحمة الله عليهم: لو لم يدل عليه الحديث لاقتضاه الأصل؛ لأن المقصود منع الناس، وليس المراد به أن يكون سترة.ثم اختلفوا في صورة هذا الخط،
فقال بعضهم: يجعله في أحد جانبيه كالحال في العصا.
وقيل: يجعل الخط من أمامه على آخر ما ينتهي إليه سجوده كالحال في الجدار المعترض.
وقيل: يجعله كالهلال.
أي: كالمحراب الذي يدخل فيه الإنسان، وأصح الأقوال أن الأمر واسع؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليخط خطا) -على القول بثبوت الحديث- ولم يبين كيف يكون، فيبقى الأمر على إطلاقه إعمالا للأصل.
قال رحمه الله تعالى: [وتبطل بمرور كلب أسود بهيم فقط].
أي: تبطل الصلاة إن صليت إلى السترة بمرور كلب أسود بهيم،
وهذا فيه الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب)، فهؤلاء الثلاثة بأمر الشرع يقطعون الصلاة، أي أن الشرع دل على أنهم يقطعون الصلاة على سبيل العبادة، والله تعالى أعلم بعلة ذلك، وإن كانوا قد ذكروا في الكلب وخصوه بالأسود لورود الخبر أنه شيطان.وهذا القول -أعني القول بقطع الصلاة بمرور أحد هؤلاء الثلاثة- هو أصح الأقوال وأعدلها، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة من أهل الحديث، بمعنى أن المكلف يطالب باستئناف الصلاة،
ومثال ذلك: لو قمت تصلي تحية المسجد، فجاءت امرأة، أو مر حمار -أكرمكم الله- بينك وبين السترة، فهذا المرور لهذه الدابة يوجب قطع الصلاة، فلو صليت ركعة من تحية المسجد فكأنك لم تصل، فتسأنف الصلاة ولو كنت في التشهد الأخير، فمروره بين يديك في هذه الحالة يوجب انقطاع الصلاة من أصلها فتستأنف الصلاة، وكأنك في غير صلاة، ولو كانت فرضا، أي ولو كنت في فرض فإنك تستأنف الصلاة، وهذا على أصح أقوال العلماء.وخالف الجمهور رحمة الله عليهم من الحنفية والمالكية والشافعية،
فقالوا: لا يقطع الصلاة واحد من هؤلاء الثلاثة.
قالوا: أما الحمار فلثبوت حديث ابن عباس في الصحيح أنه قال: (أقبلت راكبا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد).ووجه الدلالة أن الأتان مرت بين المصلين فلم يوجب ذلك قطع صلاتهم، فدل على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة.
قالوا: وأما المرأة فلما ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما،
قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح).كانت حجرته عليه الصلاة والسلام صغيرة الحجم إلى درجة أنها لو نامت رضي الله عنها لا يجد مكانا يسجد فيه صلوات الله وسلامه عليه، ولكنها وإن كانت ضيقة فهي واسعة بما فيها من الإيمان والحكمة ونور القرآن، وبما فيها من خير النبي صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الآفاق صلوات الله وسلامه عليه.
قالوا: لو كان مرور المرأة يقطع الصلاة لامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على هذه الصورة.وعند التأمل لهذه النصوص التي احتج بها جمهور العلماء رحمة الله عليهم فإننا نرى أن الدليل الذي دل على قطع الصلاة أرجح، وذلك لكونه نصا في موضع النزاغ.
ثانيا: أن اعتراض أم المؤمنين عائشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو اعتراض الجزء، والقاعدة في الأصول أن الجزء لا يأخذ حكم الكل،
ولذلك لو حلفت وقلت: والله لا أدخل الدار، فأدخلت رجلا ولم تدخل الأخرى لم تحنث؛ لأنه لا يصدق عليك أنك قد دخلت إلا بالجرم كله، و
[التعوذ عند آية وعيد والسؤال عند آية رحمة في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [وله التعوذ عند آية وعيد والسؤال عند آية رحمة ولو في فرض].
قوله: [وله] أي: للمصلي، فلك إذا صليت نافلة أو فريضة وقرأت آية عذاب أن تسأل الله أن يعيذك منه، أو قرأت آية رحمة أن تسأل الله من فضله.والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في قيام الليل من حديث حذيفة أنه ما مر بآية فيها ذكر رحمة إلا وقف وسأل الله من فضله، ولا مر بآية فيها ذكر عذاب إلا استعاذ بالله عز وجل.
قالوا: فهذا يدل على مشروعية أن يسأل المكلف ربه من فضله إن مر بالرحمة، ويستعيذ به إن مر بالعذاب، ولا فرق عند القائلين بهذا القول بين الفرض والنفل.والصحيح أنه يفرق في السؤال بين الفرض والنفل كما ذهب إليه الجمهور؛ فإنه -كما في الحديث الصحيح-
لما نزل قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة:238]،
قال الراوي: (فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام)، فدل على أن الأصل في المصلي أن يسكت،
وقال عليه الصلاة والسلام في الإمام: (إذا قرأ فأنصتوا)، فالأصل عدم الكلام، فلما ثبتت السنة بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، ولم يثبت حديث صحيح واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل هذا في الفرض؛ إذ لا يعقل أنه يصلي بأصحابه صلوات الله وسلامه عليه هذا الردح من الزمان الطويل ولا يثبت عنه في فرض واحد أنه فعل ذلك،
فحينئذ نقول: يجوز في النفل ما لا يجوز في الفرض، فيشرع فعل ذلك في النفل دون الفرض، وهذا هو أعدل الأقوال وأقربها إلى السنة، فعلى المصلي إذا كان وراء الإمام أن ينصت ويمتنع عن الحديث، ويختص حكم هذه المسألة بالنفل دون الفرض.
ولذلك قال المصنف: [ولو في فرض]، وكلمة (لو): تشير إلى الخلاف، ومعنى ذلك أن هناك من يقول بتخصيصه بالنفل دون الفرض، وهو مذهب الجمهور، وهو أقرب الأقوال وأعدلها، ولذلك ينبغي الاقتصار عليه في النوافل دون غيرها،
أعني: الفرائض.
الأسئلة
[حكم السترة في الحرم المكي]
q ما حكم السترة في الحرم المكي؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: السترة في الحرم المكي وغيره حكمها واحد، وذلك لثبوت السنة على سبيل العموم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن الحرم، والقاعدة في الأصول أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه.ولم يثبت حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في استثناء مكة، فبقيت على الأصل.لكن قالوا: إن اقترب من المطاف وآذاه الطائف وتعذر عليه منعه فإن هذا يوسع فيه، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (يا بني عبد مناف: إن وليتم هذا الأمر فلا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار) قالوا: فكأنه يمنع.هناك وجه ألطف من هذا الوجه في استثناء الطائف، قالوا: لأن الطائف في صلاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الطواف بالبيت صلاة).فمروره أصلا هو من الصلاة، فهذا التوجيه من أدق ما قيل في هذه المسألة، فالطائف عند مروره استثني وأما غيره فيبقى، ولذلك استثناؤه على هذا الوجه لا حرج فيه.والدليل الذي يدل على أن مكة وغيرها على حد سواء حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه الثابت في الصحيحين أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أدم -لأنه نزل بالمحصب بجوار الحجون بعد أن أتم ليالي منى فبات بها وتأخر ولم يتعجل عليه الصلاة والسلام- قال: ثم ركزت له عنزة.وركز العنزة إنما يقصد به أن تكون سترة له عليه الصلاة والسلام، فدل على أن مكة وغيرها على حد سواء، خاصة على القول الذي يقول: إن حرم مكة كله آخذ حكم مضاعفة الصلاة، وهو قول من القوة بمكان، ولذلك يقوى أن يكون حرم مكة كله يمتنع فيه المرور بين يدي المصلي، والله تعالى أعلم.
[منع الأطفال من المرور بين يدي المصلي]
q عند الصلاة إلى سترة هل يمنع الأطفال من المرور بين يدي المصلي وكيف؟
a يمنع الطفل من المرور بين يدي المصلي، وإن كانت الصلاة نافلة وأزعج المرأة طفلها فإن لها أن تنحني وتتناوله وترفعه حتى لا يمر، وهذا من أرفق ما يكون إذا كان مما يصعب رده؛ لأن الانحناء في النافلة أوسع منه في الفرض، وقال بعض العلماء بجوازه في الفرض لحديث أمامة بنت أبي العاص رضي الله عنه، قالوا: إنه حملها النبي صلى الله عليه وسلم.ولكن حديث أمامة فيه إشكال؛ لأن حديث أمامة لم ينتقل فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالانحناء، وإنما كان يرفعها وإذا سجد وضعها ثم حملها عند رفعه، فما كان ينتقل بالانحناء؛ لأنه في الفرض لو انحنى انتقل من ركن القيام إلى ركن الركوع، ولربما اضطر إلى الجلوس، فلما كان النفل يجوز لك أن تجلس فيه مع القدرة على القيام وسع في حملها في النفل دون الفرض، والله تعالى أعلم.
[حكم المرور بين يدي المأمومين لغير حاجة.]
q إذا مر الرجل بين المأمومين لغير حاجة، فهل ينبغي له هذا، وهل عليه حرج؟
a لا يمر بين يدي المأمومين إلا من حاجة، أما إذا لم توجد الحاجة فلا، وأذكر من أهل العلم رحمة الله عليهم من مشايخنا من يقول: يشرع دفعه إذا مر للتشويش والأذية؛ لأنه ينشغل الواحد بدفعه لمصلحة الكل، فيجوز أن ترتكب المفسدة الدنيا لجلب المصلحة العليا، فلذلك قالوا: يشرع أن تدفعه فتنشغل وحدك تحصيلا لمصلحة الكل، ومنع بعض العلماء من دفعه، وقالوا لأنه إذا اندفع انشغل وهو مكلف بمصلحته والعذر متعلق بمصلحة الغير، فلا يسوغ؛ لأنه لا إيثار في القرب.
[المقصود بالكلب الذي ورد أنه يقطع الصلاة]
q قول المصنف رحمه الله: (بمرور كلب أسود) هل المراد به هذا الكلب المعهود، أم أنه يطلق على السباع وغيرها؟
a يختص بالكلب المعروف، أما السباع كالأسد والنمر ونحوه فلا يدخل في هذا، وأما في الصيد فإنه يدخل فيه لقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} [المائدة:4]، فوصف الجارحة مع الكلب يدل على أنه يجوز أن تعلم أسدا الصيد وتصيد به، وهكذا لو علمت نمرا أو غيره من السباع العادية؛ لأنه يصدق فيه وصف الجارحة والكلب لكن (ال) في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب) عهدية، فيشمل كلب البادية وكلب الحاضرة.والكلاب التي تكون في البادية للصيد معروفة، وهي صغيرة الحجم، فهذا الذي يقطع الصلاة، فنقول بالعموم في جنس الكلاب، بخلاف الكلب فهناك فرق بين الكلب والكلب، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تسمية الأسد في قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم سلط عليه كلبا من كلابك) حين دعا على عتبة بن أبي لهب، ثم لما خرج في تجارته إلى الشام قال: إني أخاف دعوة محمد.فكان إذا نام ينام بين أصحابه، فلما كان على تخوم الشام جاء الأسد وافترسه من بين أصحابه.فأخذ العلماء من قوله صلى الله عليه وسلم (.كلبا من كلابك) أنه وصف الأسد بكونه كلبا، فدل على أنه في عرف الشرع قد يطلق الكلب ويراد به الأسد أو كل جارح؛ لأنه مأخوذ من الكلب، وهذا كما نبه عليه ابن منظور رحمة الله عليه في (لسان العرب) فالصيد يكون بأي نوع من الحيوانات المفترسة من السباع، وقد كان عدي يصيد بالسباع على اختلاف بالكلاب وغير الكلاب، وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فقال: إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب والبزاة فما يحل لنا منها؟ والباز هو الصقر.فأجاز له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم ينكر عليه.فنقول: بعض العلماء يقول: اسم الكلب عام كما جاء في الصيد، ونقول: الصيد شيء، والكلب في الصلاة شيء آخر؛ لأنه في الصلاة أمر تعبدي، وفي الصيد من جانب الكلب والقوة، والمقصود تحصيل الرفق بالناس في الصيد.فجاز في الصيد على سبيل العموم رفقا بالناس، ولذلك يقال هنا بخصوصه في الكلب المعهود دون غيره، والله تعالى أعلم.
[حكم دعاء القنوت]
q هل دعاء القنوت خاص بالفريضة دون النافلة؟
a نعم.القنوت قنوتان: قنوت فرض، وقنوت نفل.فقنوت الفرض مثل الدعاء في النوازل، فالدعاء في النوازل يقتصر فيه على الوارد مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك)، وكذلك قوله: (اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق)، ثم بعد أن تنتهي من هذا التمجيد الوارد في هذين الخبرين تدعو على من ظلم من الكفار، وتدعو بالنصرة للمسلمين، وتقتصر على ذلك لا تزيد، فلو دعا بالاستسقاء كان بدعة، ولو دعا بنجاح الطلاب في الاختبار كان بدعة، وهذا مما يحدث الآن، فبعضهم يدعو بنجاح الطلاب في الاختبار، وبعضهم يدعو بعموم الأدعية، وهذا لا يجوز، فالصلاة لا يجوز فيها الكلام إلا بقدر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)، فما ورد في القنوت يقتصر عليه، ولذلك قال الإمام أحمد: إن زاد على الوارد حرفا واحدا فاقطع صلاتك.يعني أنه قد خرج عن كونه مصليا.ولذلك ينبغي على الإمام أن يحتاط لصلاة الناس فيدعو بالوارد، ويدعو بنصرة المؤمنين بجوامع الدعاء، مثل (اللهم انصر المستضعفين) ونحو ذلك من جوامع الدعاء، ولا داعي للإطالة والخروج عن المعهود والتكلف، فلذلك يقتصر على جوامع الدعاء، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم يدعو بالنصرة للمسلمين وهلاك على الكافرين، ثم يختم ويسجد.أما بالنسبة لقنوت النافلة وهو قنوت الوتر فيدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الفضل، لا على سبيل الفرض، فلو دعا بغير هذا الدعاء جاز، ولو زاد على الوارد جاز، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الحسن، والحسن كان صغير السن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان الدعاء لازما بالقيد لعلمه الصحابة، ولألزم الصحابة بهذا الدعاء في الوتر على سبيل الخصوص، ولأن الوتر رفق بالناس ليسأل المصلي فيه حاجته في ليله فوسع على الناس أن يسألوا من حوائج الدنيا والآخرة ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم، والله تعالى أعلم.
[بيان الترتيب فيما يكون سترة للمصلي]
q في الحديث: (فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا)، فهل هذا على الترتيب أم على التخيير؟
a قوله: (إن لم يجد) دليل على الترتيب، وهذا أصل، فإن وردت في الكتاب فهي على الترتيب، ففي كفارة اليمين قال تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89]، وفي قراءة ابن مسعود: (متتابعات)، فاشترط في جواز الصيام وإجزائه في كفارة اليمين أن لا تستطيع الإطعام أو الكسوة أو تحرير الرقبة.وبعض العامة هداهم الله إذا حلف اليمين وحنث ينتقل مباشرة إلى الصوم، وهذا لا يجزيه لإجماع العلماء على أن كفارة اليمين بالصيام شرطها عدم الوجد، أي: عدم القدرة.وهكذا قالوا: لو أن إنسانا وجبت عليه الرقبة في الظهار، أو الجماع في نهار رمضان، أو في القتل فانتقل -وهو قادر على أن يشتري رقبة- إلى صيام شهرين متتابعين لم يجزه، فكأنه لم يصم ويصبح صومه نافلة؛ لأنه شرط مقيد بنص الشرع: {فمن لم يجد} [المجادلة:4]، {فمن لم يستطع} [المجادلة:4]، فالذي لم يجد له حكم، والذي لم يستطع له حكم، أما أن ينتقل إلى درجة ما بعد الشرط و {فمن لم يجد} [المجادلة:4]، مع القدرة والوجد فهذا خارج عن الحد المعتبر.فلما قال: (فإن لم يجد) دل على الترتيب لا على التخيير، ولذلك يبتدأ بالشاخص ثم بالعصا ثم بعد ذلك بالخط كما ورد في الخبر على القول بثبوته، والله تعالى أعلم.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(أركان الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (92)
صـــــ(1) إلى صــ(5)
شرح زاد المستقنع - فصل: أركان الصلاة [1]
للصلاة أركان دلت عليها الأدلة من الكتاب والسنة، ومن تركها عمدا بطلت صلاته، ومن تركها سهوا فإن أمكنه أن يعود عاد وأداها، وإن لم يمكنه فإنه يقضي الركعة كاملة،
وهي: القيام، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والاعتدال عن الركوع، والسجود على الأعضاء السبعة، والاعتدال عن السجود، والجلوس بين السجدتين وغيرها.
[أركان الصلاة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل أركانها].
ركن الشيء: دعامته وعمدته التي يقوم عليها، وقد دلت النصوص الصحيحة الصريحة في الكتاب والسنة على أركان الصلاة، وهذه الأركان من تركها عامدا بطلت صلاته، ومن تركها ساهيا فإن أمكنه أن يعود إليها عاد وجبرها، وإن لم يمكنه العود إليها فإنه يقضي الركعة كاملة.فمن ترك قراءة الفاتحة عامدا وهو يرى ركنيتها بطلت صلاته، ولو في ركعة واحدة، ومن تركها ساهيا، كما لو صليت فابتدأت الصلاة مباشرة، وقرأت دعاء الاستفتاح،
ثم سهوت فقرأت: {والتين والزيتون} [التين:1]، فابتدأت بالسورة قبل أن تبدأ بالفاتحة، فلما كنت في أثنائها تنبهت أو ذكرك من وراءك إن كنت إماما، فإنك ترجع وتقرأ الفاتحة وتتدارك الركن؛ لأنه يمكن التدارك حيث لم تدخل في ركن بعدي، أما إذا كان لا يمكن التدارك كأن تكون دخلت في الركعة الثانية فتذكرت أنك في الركعة الأولى لم تركع أو لم تسجد، وقمت إلى الركعة الثانية فإنه حينئذ يلزمك قضاء الركعة الأولى، على تفصيل في كونك تلغي الركعة وتلفق، أو تبني الصلاة وتعيد الركعة من موضعها؟
[الأدلة من السنة على أركان الصلاة]
الأركان هي أهم شيء في الصلاة، والأصل فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا ذات يوم مع أصحابه في المسجد، فدخل رجل فصلى واستعجل في صلاته، فلم يحسن ركوعه ولا سجوده ولا جلوسه، فلما فرغ من الصلاة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه،
فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصل)، فرجع الرجل وصلى كحاله أولا، ثم أتاه فسلم فرد عليه،
فقال: (ارجع فصل؛ فإنك لم تصل)،
فلما كانت الثالثة قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا،
فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي قائما، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها).فهذا الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم فيه الأركان التي لا تصح الصلاة إلا بها،
بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنك لم تصل)، فيكون بيانه هنا بيانا للأركان،
ولذلك ذكر غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم أن حديث أبي هريرة هذا الذي يسميه العلماء: (حديث المسيء صلاته) قد جمع التنبيه على أركان الصلاة، فلذلك اعتنى علماء الإسلام رحمهم الله بهذه الكلمة، وهي مصطلح الأركان والواجبات والسنن.وهذه المصطلحات ليست ببدع كما يظن بعض من ليس عنده إلمام بالعلم وضبطه، فيظن أن هذه أمور محدثة،
فيقول: من أين جاءنا الركن أو الواجب أو السنة؟
فإنا نظرنا في الشرع فوجدناه تارة يقول: إذا فات هذا الشيء بطلت الصلاة،
أو: يجب قضاء الركعة، ووجدناه تارة يبين أن الشيء الذي فات يمكن جبره بالسجود، ووجدناه يرخص في ترك شيء،
فعلمنا أن أعمال الصلاة ثلاثة أشياء: شيء تبطل الصلاة بعدم وجوده، وشيء يمكن جبره بالسجود، وشيء يتسامح فيه فلو تركه الإنسان ولو متعمدا صحت صلاته.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى ركعتين ثم سلم -كما في قصة ذي اليدين-
فقال له ذو اليدين: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: كل ذلك لم يكن.فقال: بلى.قد كان بعض ذلك.فسأل الصحابة: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم.فرجع فصلى ركعتين)؛ وكان قد قام من مصلاه كما في الصحيح،
قال الراوي: وأنبئت أن عمران قال: ثم سجد سجدتين وسلم.فدل هذا على أن الأركان لا تجبر إلا بالفعل وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر السهو موجبا لإسقاط الركن، بل تعتبر الركعة بمثابة الركن في الصلاة الجامع للأركان، فهي أصل في الصلاة، فكما أن الظهر قائمة على أربع ركعات كذلك كل ركعة قائمة على أركانها.ثم وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم تفوته أشياء من أفعال الصلاة ويجبرها بالسجود، فقد صلى عليه الصلاة والسلام إحدى صلاتي العشي، فسجد السجدة الثانية من الركعة الثانية ولم يجلس للتشهد، بل استوى واعتدل قائما، فلما كبر سبح له الصحابة ليعود إلى جلسة التشهد،
فأشار إليهم بيديه من وراء ظهره أن: قوموا.
أي: إني لست براجع وقد لزمكم الركن البعدي الذي هو القيام للركعة الثالثة، فقام الصحابة، فأتم بهم الركعتين ثم سجد سجدتين قبل أن يسلم، فهنا فات شيء من أفعال الصلاة، ولكنه اعتبره مجبورا بالسهو، فعلمنا أن مرتبة هذه الأفعال دون مرتبة الأفعال التي قبلها.وكذلك أيضا وجدناه عليه الصلاة والسلام يرى بعض الأقوال في الصلاة لازمة.وبعضها غير لازمة،
فقال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، فلم يعتد بالصلاة ولم يعتبرها عند عدم وجود الفاتحة، ووجدناه يسامح في ترك دعاء الاستفتاح،
فقد قال له أبو هريرة: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟
قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي).فقد ثبت قطعا أن الصحابة لم يعلموا ما الذي يقول، فلو كان هذا الدعاء حتما كالفاتحة لألزمهم به وعلمهم إياه، فدل على أن هناك أمورا تلزم في الصلاة وأمورا لا تلزم،
ولذلك قلنا: إن مثل هذا سنة.فأصبحت القسمة عندنا بتتبع واستقراء الشرع تنقسم إلى هذه الثلاثة الأقسام، فوجدنا ما هو ركن وما هو واجب وما هو سنة.
فلو قال قائل: إن هذا بدعة نقول: إن الأسماء في ظاهرها بدعة -
أي: لا نعرفها في القديم- ولكنها في الحقيقة موجودة في حكم الشرع، ولا مشاحة في الاصطلاح أن تسمي الشيء بأي اسم ما دام أن الشرع قد ترك لك التسمية والحكم موجود.
فإنك لو قلت: جميع أقوال الصلاة وجميع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لازم لتناقضت النصوص،
ولو قلت: إن جميع ما قاله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الصلاة ليس بلازم لتناقضت النصوص.فإذا لا بد من التفريق بين اللازم وغير اللازم، وذلك هو مصطلح العلماء بالأركان والواجبات والسنن.
وقوله: [فصل] يبين دقته رحمه الله تعالى، حيث ذكر صفة الصلاة كاملة، ثم جاء يبين ما الذي يلزم وما الذي لا يلزم، ثم الذي يلزم منه ما هو ركن تتوقف الصلاة عليه، ومنها ما ليس بركن وهو الواجب الذي لا تتوقف صحة الصلاة عليه، بحيث لو تركه الإنسان سهوا أمكنه أن يجبره بسجود السهو.فابتدأ رحمه الله بالأركان، اعتناء بالأهم، وهذا من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى؛ لأن أهم ما في الصلاة أركانها، ولذلك ابتدأ،
فقال: [أركانها].والضمير عائد إلى الصلاة.
[الركن الأول: القيام]
قال رحمه الله تعالى: [أركانها: القيام].القيام ضد القعود،
يقال: قام إذا انتصب عوده،
أي: استتم.
وقوله: [القيام]،
أي: أول ركن من أركان الصلاة القيام،
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة:6]،
وقال تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة:238]،
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر).هذه النصوص دلت على وجوب القيام ولزومه على سبيل الركنية والفرض، ولذلك ذهب إلى هذا الحكم جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم،
لكنهم قالوا: الصلاة لا تخلو من حالتين: إما أن تكون فريضة أو نافلة، فإن كانت فريضة وصلى جالسا مع القدرة على القيام بطلت صلاته؛ لأنه لم يصل كما أمره الله بالقيام،
لكن لو كان في نفل صح له أن يصلي جالسا لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)، وهذا إنما هو في النفل.
والظاهرية حملوا قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) على الفريضة بالنسبة للمعذور، وقولهم مردود؛
لأننا لو حملنا هذا الحديث على الفريضة بالنسبة للمعذور لردت نصوص الشريعة التي تدل على أن كل مريض ومعذور أجره كامل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا)، فحينئذ بتناقض النصوص، فدل هذا الحديث على صرف عموم الحديث الذي معنا عن ظاهره،
وأن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) النافلة دون الفريضة، ووجدنا أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في السفر يصلي على دابته غير المكتوبة.
ومن هنا قلنا: إنه يجوز في النفل ما لا يجوز في الفرض، بدليل أنه في السفر يصلي على الدابة حيثما توجهت، وهذا في النافلة دون الفريضة.وعليه فيلزمك القيام لصحة الصلاة المفروضة، لكن بشرط أن توجد القدرة،
وذلك لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286]،
وقوله سبحانه: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن:16]، فالعاجز عن القيام معذور.وقد أثبت المصنف أن القيام مع القدرة ركن.
وأما ضابط القيام فقالوا: الضابط في القيام أن لا تصل كفاك إلى ركبتيك، فلو انحنيت بحيث تصل الكفان إلى الركبتين فقد خرجت عن كونك قائما إلى كونك راكعا ومنحنيا.
ويتفرع على هذا مسائل: المسألة الأولى: لو أن إنسانا يكون جالسا فيكبر الإمام تكبيرة الإحرام، فيقوم فيستعجل فيكبر تكبيرة الإحرام قبل أن يستتم قيامه، فلا تنعقد تكبيرة الإحرام؛ لأن من شروط انعقادها أن يكون قائما كما أمر الله عز وجل، فإذا كان أثناء قيامه وانتصابه رفع يديه وكبر ولم يستتم، بحيث أمكن لليدين أن تنال الركبتين، وهو الانحناء المؤثر، فهذا لا يعتد بتكبيره؛ لأن هذا الركن -وهو تكبيرة الإحرام- يشترط فيه أن يكون في حال القيام،
لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر).فدل على أن القيام يسبق التكبير، ومن فعل هذا الفعل فقد سبق تكبيره القيام، فلم يصل كما أمره الله.
المسألة الثانية: المعذور الذي لا يستطيع القيام يصلي قاعدا، وهيئة القعود تختلف، فبعض الأحيان لا يستطيع أن يصلي قاعدا إلا على علو ونشز، كأن يجلس على دكة أو سرير أو كرسي، فهذا الجلوس ينبغي أن يفصل فيه، فإن كان قادرا على القيام في تكبيرة الإحرام، فلا يأتي ويجلس مباشرة ويكبر، وإنما يكبر قائما؛ لأنه بإمكانه أن يكبر في حال القيام، ثم يجلس إذا كان يشق عليه أن يقوم، وإن كان يمتنع أو يصعب عليه أن يقوم، كالحال في المشلول، فإنه يكبر وهو جالس، أما إذا كان يمكنه أن يقف فإنه يقف ويجعل الكرسي وراءه ولا حرج، فإن أدركته المشقة رجع فجلس، كما هي القاعدة في الفقه أن الضرورة تقدر بقدرها، ويتفرع عنها أن ما أبيح للحاجة يقدر بقدرها.
فلما كانت ضرورته أن القيام يشق عليه نقول: كبر قائما ثم اجلس.
لكن لما كانت الضرورة أن يتعذر عليه القيام قلنا: كبر جالسا ولا حرج.فهذا له قدره وهذا له قدره، فينبه الناس؛ لأنك قد ترى الرجل يكبر وهو جالس مع أنه يستطيع أن يقف، وقد يقف ويتناول الكرسي ويخرج به وهو حامل له، فمثل هذا لا يرخص له أن يؤدي الركن وهو تكبيرة الإحرام في حال قعوده، فهذا ينبه عليه،
فإن تعذر عليه القيام قلنا: يجلس.
وهذا الجلوس جلوسان: جلوس على هيئة شرعية، وجلوس على غير الهيئة الشرعية.فجلوس الهيئة الشرعية كأن يجلس الإنسان متربعا أو مفترشا أو متوركا، ووجه كونها شرعية أنها جلسة اعتبرها الشرع للتشهد وللجلسة بين السجدتين، فإذا كان جلوسه على هذه الهيئة فحينئذ لا إشكال عليه لو جلس بهذه الصفة.لكن الإشكال إذا جلس الجلسة الثانية، وهي غير الهيئة الشرعية، كأن يجلس على سرير أو كرسي، فإنه بجلوسه على السرير والكرسي في حال القيام يعذر، لكن عند التشهد لا يكون ملاصقا للأرض، ومقصود الشرع أنك عند التشهد أو بين السجدتين تكون قريبا من الأرض، فحينئذ يكون ارتفاعه على الأرض خلاف ما ورد في الشرع من كونه ملتصقا بالأرض.
قال العلماء: إن تعذر عليه أن يجلس انتقل بالانفصال هذا لكونه متصلا بالأرض عن طريق الكرسي، فكان في حكم الجالس، وأبيح له أن يصلي على هذه الهيئة، أما لو كان بإمكانه أن ينزل ويجلس جلسة المفترش، أو جلسة المتربع فإنه يلزمه ذلك ولا يجلس على كرسي ونشز؛ لأنه يفوت صفة الصلاة.وفي جلوسه متربعا أو مفترشا وجهان للعلماء، وأشار إلى ذلك الطبري وابن المنذر في الأوسط.فقال بعض العلماء -وهو مأثور عن بعض الصحابة-: يجلس جلسة التشهد.وهذا أقوى، وذلك لأنها هيئة أقرب لهيئة الصلاة.
وقال بعضهم: يجلس متربعا لأنه أرفق.وهذا مأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.والأمر واسع فإن كان الأرفق له أن يجلس متربعا جلس، وإن كان على جلسة المتشهد جلس، لكن ينبغي أن ينبه على إعانته على السجود؛ فإن جلوسه كجلسة المتشهد أبلغ في إعانته على السجود من هيئته إذا كان على هيئة المتربع؛ لأنه عند التربع يحتاج إلى كلفة حتى يتمكن من السجود.ودليلنا على الترخيص أن يصلي جالسا ما ثبت في حديث عمران رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان عمران مبتلى بالبواسير، فشكى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم،
فقال له: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فوسع النبي صلى الله عليه وسلم للمعذور؛ لأن من به بواسير فإنه يشق عليه في هيئات الصلاة أن يقوم، ولربما أضره القيام، ولذلك رخص له صلوات الله وسلامه عليه، فدل على التوسعة في حال وجود العذر، وأنه عند وجود الرخصة والعذر لا حرج، وقد قال تعالى {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286]:.
[الركن الثاني: تكبيرة الإحرام]
قال رحمه الله تعالى: [والتحريمة].المراد بالتحريمة تكبيرة الإحرام،
فالركن الأول: القيام مع القدرة،
والركن الثاني: تكبيرة الإحرام.
فبعض العلماء يختصر ويقول: التحريمة.ومراده تكبيرة الإحرام.ووصفت بكونها تحريمه أو تكبيرة إحرام لأن المكلف إذا جاء بها دخل في حرمات الصلاة، ولا يمكن أن يحكم بكونه مصليا إلا بعد إتيانه بها.والتكبير للدخول في الصلاة يعتبر ركنا من أركان الصلاة،
والدليل على ركنيته قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيحين للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، فأمره بالتكبير.وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر تكبيرة الإحرام في أكثر من ستين حديثا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك بلغ مبلغ التواتر.
وأما إلزام المكلف بها بحيث لو لم يأت بها لم تصح صلاته فلقوله عليه الصلاة والسلام: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)،
فقوله في هذا الحديث: (تحريمها التكبير)، أي أن دخول المكلف في حرمات الصلاة يتوقف على شيء وهو تكبيرة الإحرام.فإن وجد هذا الشيء حكمت بكونه مصليا وقد دخل في الحرمات، وإن لم يوجد حكمت بكونه غير مصل، ولذلك قالوا: هي ركن من أركان الصلاة.وتكبيرة الإحرام للعلماء -رحمهم الله-
فيها ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تكبيرة الإحرام لا تنعقد إلا بلفظ: (الله أكبر) بخصوصه، كما هو مسلك المالكية والحنابلة من حيث الجملة.
الوجه الثاني: يصح للمكلف أن يقول: (الله أكبر) وما اشتق من هذا اللفظ،
كأن تقول: (الله كبير)، وتنعقد تحريمته، وهو قول الشافعية.
الوجه الثالث: يصح للمكلف أن يدخل في الصلاة بكل لفظ دال على التعظيم،
فإن قال: (الله العظيم) أو (الله الجليل) صح ذلك وأجزأه واعتبر داخلا في حرمات الصلاة، وهو قول الحنفية.
والصحيح أنه لا بد من قول المكلف: (الله أكبر)، وأنه لو غير في هذه الصيغة ولو بالذكر العام فإنها لا تنعقد تحريمته ولا يعتبر داخلا في حرمات الصلاة.فإن كان القيام ركنا فلا تصح تكبيرة الإحرام إلا بعد أن يستتم المكلف قائما، وإن كان القيام موسعا فيه كصلاة النافلة فيصح أن يكبر وهو جالس تكبيرة الإحرام، ويصح أن يكبر أثناء قيامه، ويصح أن يكبر بعد أن يستتم قائما.وبناء على هذا فإن من الأخطاء التي يفعلها بعض الناس في الصلاة المفروضة أن تقام الصلاة فيستعجل الشخص في القيام، فقبل أن يستتم قائما يكون قد كبر.فلا ينعقد تكبيره إلا بعد ثبوت القيام،
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، فجعل التكبير مرتبا على القيام، ولذلك لا بد من سبق القيام للتكبير، ولا يصح أن يكبر قبل أن يستتم قائما، فتلازم القيام والتكبير.
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(أركان الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (93)
صـــــ(6) إلى صــ(11)
[الركن الثالث: قراءة سورة الفاتحة]
قال رحمه الله تعالى: [والفاتحة].هذا هو الركن الثالث،
أي: قراءة سورة الفاتحة.
وهذا الركن دليل لزومه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)،
وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج) أي: ناقصة.وهذان الحديثان صحيحان ثابتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن صلى ولم يقرأ الفاتحة فإن صلاته لا تصح.
وفي قراءة الفاتحة مسائل:
المسألة الأولى: أن قراءة الفاتحة لازمة، وأنها ركن من أركان الصلاة لظاهر السنة.وهذا الركن يجب في الصلاة في كل ركعة، ولا يختص بجزء منها؛ لأن العلماء اختلفوا،
فمنهم من يقول: من قرأ الفاتحة في ركعة صحت صلاته، ولو تركها في بقية الركعات.وقال الإمام مالك رحمه الله -في إحدى الروايات عنه-: لو ترك الفاتحة في ركعة من رباعية صحت صلاته.والصحيح أنه لا بد من قراءتها في كل ركعة،
وذلك لدليلين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)،
الثاني: قوله تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل ... ) الحديث، فذكر القراءة وهي واقعة في الركعة، فصح أن يصدق على الركعة أنها صلاة، وأن جزء الصلاة الذي هو الركعة يعتبر صلاة،
لأن الذين قالوا: يجوز أن تقرأ الفاتحة في ركعة وتجزيك،
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما صلاة لا يقرأ فيها)، وأنت قد قرأت.
فيقولون: يصح أن تقرأها في ركعة، ويصح أن تقرأها في ركعتين، وتقتصر على هذا.والصحيح أنه لا بد من قراءتها في كل ركعة، ويقوي هذا حديث المسيء صلاته،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره بالقيام والقراءة في الركعة الأولى ووصفها قال له بعد القراءة: (ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع) ثم ذكر السجود،
ثم قال له بعد السجدة الثانية: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)، فدل على أن هذا الموصوف الذي ذكره وألزم فيه بالقراءة في الأولى أنه يسري حكمه إلى غيره كما هو ثابت فيه، وبناء على ذلك يلزم المكلف بقراءة الفاتحة في كل ركعة.
وكان بعض العلماء يقول: إن الأخريين من صلاة الظهر لا يقرأ فيهما، والصحيح أنه يقرأ،
وكانوا يقولون: إنه يرخص للمكلف أن يترك الفاتحة فيهما، واحتجوا بما أثر عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما أنهما رخصا في ترك الفاتحة، كما روى ذلك مالك عن عمر في الموطأ.والصحيح أن الحجة في السنة، ويعتذر لـ عمر -إن ثبت عنه، وإن كان الأثر عنه غريبا- بأنه لم يبلغه الحديث، والصحيح ما ذكرناه لظاهر السنة، وهو الذي يجب على المكلف التزامه في كل ركعة.
المسألة الثانية: قراءة الفاتحة للمنفرد والإمام والمأموم: أما المنفرد والإمام فنلزمهما قراءة الفاتحة وجها واحدا.
وأما المأموم فللعلماء فيه أقوال: فبعض أهل العلم رحمة الله عليهم يرون أن المأموم يحمل الإمام عنه قراءة الفاتحة، فمذهب الحنفية وإحدى الروايات عن الإمام مالك أنه إذا قرأ الإمام -خاصة في الجهرية- سقط عن المأموم قراءة الفاتحة، ولزمه الإنصات والاستماع.
والصحيح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة ووافقهم الظاهرية وبعض أهل الحديث أنه يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة وراء إمامه،
وذلك لأمور: أولها: أن الحديث الذي دل على وجوب الفاتحة ولزومها عام شامل لحال المنفرد والمأموم، ولا مخصص له.ثانيها: أنه ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى بالناس الفجر فارتج عليه،
فقال: (إنكم تقرءون خلف إمامكم! قالوا: نعم،
قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فإن هذا نص عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن المأموم ملزم بالقراءة وراء الإمام،
فإن قوله: (إلا بفاتحة الكتاب) استثناء، والقاعدة في الأصول أن الاستثناء إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب،
وقال: (فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)،
أي: بفاتحة الكتاب افعلوا.فألزم النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها وراء الإمام، فدل على أن المأموم وراء الإمام يلزمه أن يقرأ الفاتحة.
وأما من قال بعدم لزومها فاحتج بحديث جابر: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، وهذا الحديث ضعفه جماهير أهل الحديث، والضعف فيه من القوة بمكان، وقد نبه على ذلك الحافظ ابن حجر وغيره، لكن هناك من أهل العلم من حسن الحديث، وحسن إسناده لشواهد.
فعلى القول بتحسين هذا الحديث قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) يدل على سقوط الفاتحة.
وهذا الحديث يجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) المراد به قراءة الإمام التي يختارها بعد الفاتحة، ولذلك نسبها إليه،
أي: لو أن الإمام قال: (ولا الضالين) وقلت: آمين،
ثم قرأ: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1]، فلا تقرأها، فقراءة الإمام بـ (سبح) لك قراءة، فكأنك قد قرأتها.
فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: (فقراءة الإمام له قراءة) أي: فيما كان من غير الفاتحة، وهذا هو الذي ورد فيه الحديث.
الوجه الثاني: أن من قال: إن هذا الحديث متأخر عن حديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب).يجاب عنه بأنه ليس هناك دليل صحيح يدل على تأخر هذا عن تاريخ الذي قبله، وقد تقرر في الأصول أن ادعاء النسخ ليس بحجة؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال،
فلو قال أحد: إن هذا الحديث متأخر عن الذي قبله لا يقبل قوله حتى يأتي بالدليل على تأخره، وأنه قد وقع بعده لكي يكون ناسخا.ولذلك فالأحاديث التي تدل على وجوب قراءة الفاتحة على العموم،
لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)،
وكذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) كلها نصوص صحيحة تدل على أنك إذا كنت وراء الإمام فإن قراءة الفاتحة تلزمك.وهذه الركنية شاملة للمنفرد وللإمام وللمأموم، ويستوي في هذا أن تكون الصلاة جهرية أو سرية، فأما الجهرية فقراءة الفاتحة بالنسبة لك ركن،
واستماعك لقراءة الإمام لما بعد الفاتحة أعلى درجاته أنه واجب على القول بظاهر الآية: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [الأعراف:204]،
فنقول: إنه قد تعارض الركن والواجب فيقدم الركن على الواجب.
ولو أن قائلا قال: إن إثبات الركنية إنما هو بالاجتهاد.
فلو سلم هذا جدلا فإننا نقول: هب أنهما واجبان، واجب متصل وواجب منفصل، والقاعدة أنه إذا تعارض الواجب المتصل بعبادة المكلف مع الواجب المنفصل فإن الواجب المتصل الذي أمر به إلزاما يقدم على ما انفصل عنه على سبيل المتابعة للإمام.
وقوله: [الفاتحة] يخالفه فيه بعض العلماء فيقول: قراءة الفاتحة.وهذا أدق، فالتعبير بالقراءة إسقاط لما في السر، فلا يجزئ الإنسان أن يقفل فمه؛ لأن بعض الناس يكبر تكبيرة الإحرام ويقفل فمه فتجده كالصامت وهو يقرأ في داخل نفسه، فهذه القراءة لا تجزيه، ولا تصح منه حتى ينطق،
وقالوا: يسمع نفسه.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ) والقراءة إنما تكون باللفظ، وأما ما كان في النفس فليس بقراءة ولا في حكم القراءة.
المسألة الثالثة: إذا ثبت أن المأموم مأمور بقراءة الفاتحة فإنه يستثنى من هذا إذا أدرك الإمام راكعا، فإنه تسقط عنه الفاتحة لظاهر حديث أبي بكرة،
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة)، وهذا نص، وبناء على هذين الحديثين نقول: إن هذا استثناء لهذه الحالة بعينها، فمن أدرك الإمام راكعا سقطت عنه الفاتحة؛ لأنه لم يدرك وقتا يمكنه فيه القيام بركنها.
أما إذا أدركه قبل الركوع فحينئذ لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يدرك وقتا يتسنى له أن يقرأ فيه الفاتحة فيقصر أو يشتغل بدعاء الاستفتاح، فحينئذ يلزمه قضاء الركعة إن لم يقرأ الفاتحة، لأنه كان بإمكانه أن يقرأ.
الضرب الثاني: أما لو أدرك وقتا لا يمكن معه قراءة الفاتحة، فبمجرد أن كبر وقبض يديه وشرع في الفاتحة كبر الإمام للركوع، فتسقط عنه الفاتحة؛ لأنه لم يدرك وقتا يلزم في مثله بالقراءة.
المسألة الرابعة: الأصل وجوب قراءة الفاتحة باللفظ، ويستثنى المريض الذي تكون في لسانه عاهة، ولا يمكنه التحريك، فإنه يجزيه أن يقرأ في نفسه؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وهذا ليس بإمكانه أن يقرأ إلا على هذا الوجه، فسقط عنه اللفظ وتحريك اللسان وبقي على الأصل.وفي حكم هذا من كان في لسانه جراح بحيث يصعب عليه، أو يتألم عند تحريك اللسان، فإنه يجزيه لو أطبق الشفتين وقرأ في نفسه، وتصح منه القراءة ويعتد بها.
[الركن الرابع: الركوع]
قال رحمه الله تعالى: [والركوع].الركن الرابع الركوع،
ودليل ركنيته قوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} [البقرة:43]،
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج:77]،
فقوله تعالى: (اركعوا) أمر، ودلت السنة على ثبوت ذلك ولزومه،
كما قال عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (ثم اركع حتى تطمئن راكعا)، فدل على لزوم الركوع، وأنه ركن في الصلاة، والركوع يتحقق بوصول اليد إلى الركبة، فإذا وصل الكف إلى الركبة فقد ركع.وبناء على ذلك لو انحنى فلم تصل الكف إلى ركبته فإنه لا يعتبر راكعا ولا يجزيه ذلك، ولو انحنى فوصلت كفاه إلى ركبتيه ولكنه لم يهصر ظهره فإنه حينئذ يجزيه الركوع وفاتته السنة؛ لأن السنة أن يهصر ظهره،
كما جاء في حديث عائشة: (ثم هصر ظهره)، فإذا هصر الظهر واعتدل الظهر فهذه مرتبة الكمال، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.فإن حصل منه قدر الإجزاء -وهو بلوغ الكفين إلى الركبتين- صح ركوعه، ولكن فاته الكمال، فإن وجد عذر من مرض أو ضيق مكان كتب له أجر السنة كاملا لوجود العذر.فمن كان مريضا على وجه لا يتسنى له أن يركع، فحينئذ يجزيه أن ينحني بالقدر الذي يصل إليه على حالة لا يشق عليه فيها، أو لا يبلغ فيها بنفسه درجة المشقة، فإذا انحنى بهذا القدر من الانحناء الذي يستطيعه ويطيقه فقد أجزأه وانعقد ركوعه، ويستثنى من كمال الانحناء لانعقاد هذا الركن.كذلك يستثنى من ركنية الركوع أن يكون الإنسان على دابته في السفر ويصلي النافلة، فإن الركوع يعتبر ركنا، بمعنى أنه يطلب فعله، ولكنه ركن باعتبار، فينحني ويكون انحناؤه أقل من انحناء السجود، أما انحناء السجود فإنه يكون أبلغ، فينحني انحناء بقدر، فإذا حصل هذا الانحناء صدق عليه أنه ركع وأجزأه وتحقق الركن من صلاته النافلة.
[الركن الخامس: الاعتدال من الركوع]
قال رحمه الله تعالى: [والاعتدال عنه]
.الركن الخامس الاعتدال عن الركوع،
والاعتدال: هو الذي لا اعوجاج فيه.فلما كان المكلف في حال الركوع ينحني ظهره، فإنه يخرج عن هذا الركن إلى الركن الذي بعده بوجود الاعتدال،
والاعتدال: هو أن يستتم قائما.
ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا رفع رأسه من الركوع اعتدل حتى يرجع كل فقار إلى موضعه)،
والمراد بقوله: (كل فقار) أي: فقرات الظهر؛ لأن ظهر الإنسان فيه فقرات، فإذا انحنى تباعد ما بين الفقرات، لكنه إذا اعتدل كأنها رجعت إلى حالتها الطبيعية، وهذا الحديث يدل على هديه في الاعتدال.
أما كون الاعتدال ركنا فدليله قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع -أي: من الركوع- حتى تعتدل قائما)، فإذا حصل الاعتدال قائما أجزأه وتحقق الركن، لكنه لو رفع من الركوع وقبل أن يستتم قائما انحنى ساجدا أو خر ساجدا فإنه لا يجزيه ولا يصح منه ذلك، وإذا لم يتداركه وجب عليه قضاء الركعة، فإن لم يقضها بطلت صلاته؛ لأنه لا بد من ركن الاعتدال،
فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده)، فلا بد من أن يستتم قائما،
فلو أنه قال: (سمع الله لمن حمده) ولم يستتم قائما وبادر بالسجود فإنه حينئذ يحكم بأنه لم يقم صلبه.ويستثنى من هذا الذي لا يستطيع أن يستتم قائما كالمريض، أو الشيخ الهرم إذا كان منحني الظهر، فإن ركوعه يكون بالقدر، ويكون رفعه من الركوع على القدر الذي يستطيع تحصيله في حال قيامه.
[الركن السادس: السجود على الأعضاء السبعة]
قال رحمه الله تعالى: [والسجود على الأعضاء السبعة].من أركان الصلاة أن تسجد على الأعضاء السبعة.
أما دليل ركنية السجود فقوله سبحانه وتعالى في آية الحج: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج:77]،
فإن قوله سبحانه وتعالى: (اسجدوا) أمر، والأمر يدل على اللزوم والوجوب.
وقال عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا)، فدل على أن السجود ركن من أركان الصلاة.ويتحقق السجود على الكمال في كونه على الأعضاء السبعة، وقد بينا ذلك،
وبينا دليله من حديث ابن عباس الثابت في الصحيح: (أمرت أن أسجد على سبعة آراب)،
أو: (على سبعة أعظم)، كما في الرواية الثانية.فإذا سجد فكان سجوده على الأعضاء السبعة فإنه تم ركنه، وأجزأه بمماسة الأرض، ثم يبقى شرط الطمأنينة الذي يأتي ذكره.ويستثنى من هذا من كان مريضا بحيث لا يمكنه الهوي للسجود ولا السجود، حتى ولو كان يخشى ضررا بعضو أو نفس، كمن أجريت له عملية في عينه، فإنه قد يمنع من السجود خشية ذهاب البصر، فأصح الأقوال -وهو قول جماهير السلف رحمة الله عليهم والعلماء- أنه يرخص للإنسان إذا خاف على بصره بطب ونحوه أن يترك السجود.وشدد في ذلك بعض السلف ومنهم ابن عباس، رضي الله عنهما، فقد قال العلماء عن ابن عباس إن سبب إصابته بالعمى أنه كان مريضا في عينه، فنصحه الطبيب أن لا يسجد، فلم يرض ابن عباس بذلك وسجد فكف بصره رضي الله عنه.وإن كان الذي ذكره غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم أن ابن عباس ابتلي بذهاب البصر لأنه قل أن يرى أحد الملائكة إلا عمي بصره، وكان ابن عباس قد رأى الملائكة -كما جاء في الحديث الصحيح- لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبوه العباس، فلما دخل سلم العباس فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه إذ كان مشغولا بالوحي، وكان جبريل عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم وكرر السلام فلم يرد عليه فانصرف العباس وفي نفسه شيء، وخاف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد عليه، فلما انصرف علم عبد الله من أبيه ما علم،
فقال: يا أبت! إنه قد شغل بمن معه، وكان قد رأى جبريل، فلما قال ذلك رجع العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره،
فقال صلى الله عليه وسلم: (هل رأيته يا عبد الله؟ قال: نعم.قال: ذاك جبريل)،
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو كان معي بصري لأريتكم الغار الذي نزلت منه الملائكة يوم بدر) أي: يوم القتال، وقد ذكر عن بعض الصحابة ومن غير الصحابة أنهم رأوا الملائكة فكفت أبصارهم،
فيقولون: إن هذه سنة كونية من الله عز وجل أنه لا يبقى له البصر لقوة ما رآه.ولكن هذا قد يستثنى منه الأنبياء ونحوهم مما أعطوا بإقدار الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى جبريل على حقيقته.
والمقصود أن هناك من العلماء من يقول: إن ابن عباس كان مذهبه أنه يشدد في ذلك، حتى إنه حين نهاه الطبيب خشية أن يكف البصر لم يرخص لنفسه.
ولهذا قال بعض العلماء: إن الخوف على العضو أو الخوف من الزيادة في المرض لا يرخص به في السجود.والصحيح أنه يرخص به، فمن كان قد تعاطى علاجا أو عملية جراحية في صلبه أو ظهره، وخشي أنه لو سجد يتضرر أو يذهب عضو من أعضائه فإنه يرخص له في ترك السجود، ولا حرج عليه أن يسجد بالقدر الذي يصل إليه.فإن صلى على مرتفع أو نشز كالكرسي ونحوه فسجوده أخفض من ركوعه، بمعنى أن يكون انحناؤه أبلغ ما يكون في السجود، ويكون الركوع أرفع منه قليلا، وهذا إذا كان على نشز، أما لو كان على الأرض كأن يجلس جلسة التشهد، فإن سجوده أن ينحني إلى القدر الذي يستطيع تحصيله دون ضرر، فإذا بلغ هذا القدر فإنه يعتبر ساجدا، لكن ينبغي أن ينبه على كيفية السجود، فبعض الناس يكون مريضا ولا يستطيع السجود، فتجده إذا سجد وضع كفيه على فخذيه وانحنى، وهذا لا يصح، بل ينبغي أن ينزل الكفين إلى الأرض، لأنه مأمور بالسجود على السبعة الآراب (الأعضاء)، فكونه عاجزا عن إيصال الجبهة أو الرأس إلى الأرض لا يوجب ذلك الترخيص بترك مماسة اليدين للأرض؛ لأن القاعدة أن الضرورة تقدر بقدرها، فضرورته أن لا يصل رأسه إلى الأرض، والزائد على الضرورة من كونه يترخص بسحب اليد ووضعها على الفخذ لا موجب له، فيبقى على الأصل الموجب لتحصيل السجود به.
[الركن السابع: الاعتدال من السجود]
قال رحمه الله تعالى: [والاعتدال عنه]
.أي: الاعتدال عن السجود، والمراد بذلك أن يحصل القعدة وذلك بالرفع من السجود، فإذا اعتدل من السجود حصل الركن،
وهذا الاعتدال أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته فقال له: (ثم ارفع حتى تستوي جالسا)، فدل على ركنية هذا الرفع من السجود وأنه يلزم به،
وقد ذكره في موضعين: في السجدة الأولى وفي السجدة الثانية،
فقال: (حتى تستوي جالسا)،
وقال: (ثم ارفع حتى تعتدل قائما)،
فدل على ركنين:
الركن الأول: الرفع من السجود أو الاعتدال عنه.
والركن الثاني: الجلسة بين السجدتين.
[الركن الثامن: الجلوس بين السجدتين]
قال رحمه الله تعالى: [والجلوس بين السجدتين].
من دقة المصنف وتحريه وفقهه جعل الاعتدال من السجود والجلوس بين السجدتين ركنين، وليس ركنا واحدا؛ لأن هناك فرقا بين الجلوس بين السجدتين والاعتدال من السجود؛ لأن الاعتدال يقع بالجلوس ويقع أيضا بعد الجلوس، كما لو سجد السجدة الثانية،
فمن دقة المصنف أن قال: (الاعتدال عنه)، حتى يشمل ما بعد السجدة الثانية.ويكون والجلوس بين السجدتين ركن منفصل؛ لأنه يختص بما بين السجدتين،
فلو قال: [الاعتدال عنه] وسكت، فإنه لا يتضمن ذلك الجلسة بين السجدتين،
ولو قال: [الجلوس بين السجدتين] وسكت، فإن هذا لا يشمل الرفع بعد السجدة الثانية، ومن هنا كان من فقهه رحمة الله عليه أن جعلهما ركنين، وهذا هو الصحيح، ولذلك تعقب بعض الشراح على المصنف رحمه الله ليس في محله، بل من دقته أن هذا ركن وهذا ركن؛
لأنك لو قلت: (الجلسة بين السجدتين) فحسب لم تنبه على ركن الرفع من السجدة الثانية، فإن الرفع من السجدة الثانية ليس فيه جلوس بين السجدتين كما هو معلوم،
ولو قلت: (الرفع من السجود) فحسب فإن الرفع من السجود مطلق لا يستلزم جلوسك بين السجدتين؛ لأن من رفع ولم يجلس صدق عليه أنه قد حصل الركن.والجلوس بين السجدتين يتحقق بحصول الجلسة، والجلسة بين السجدتين تكون بالافتراش بأن يرفع الإنسان رأسه حتى يستوي جالسا وتحصل له طمأنينة الجالس، لكن لو أنه رفع من السجود وقبل أن يستوي جالسا كبر للسجدة الثانية فإنه لا يجزيه، ولم يتحقق ركن الجلوس بين السجدتين، فيلزمه أن يرجع مرة ثانية ويستقر جالسا؛
لأنه قال: [والجلوس بين السجدتين] وهذا لم يجلس.ويتحقق الجلوس بالتصاق الإلية بالعقب، أو إذا فرش رجله اليمنى للإليتين، فإذا حصل هذا فقد جلس،
لكن لو أنه قبل أن يرجع وتصل الإلية إلى العقب قال: الله أكبر.لم يصح ذلك ولم يجزه، ويلزمه أن يعيد الجلوس بين السجدتين، وتلغى السجدة الثانية التي سجدها، ويسجد لها سجود الزيادة.