-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (76)
صـــــ(1) إلى صــ(10)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [3]
إذا أتم المصلي قراءة دعاء الاستفتاح فإنه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يبسمل سرا، ثم يقرأ الفاتحة، وهي ركن من أركان الصلاة، ثم يقول (آمين) بعد الفاتحة جهرا في الجهرية، ثم يقرأ بعدها سورة من القرآن، ويلتزم في التطويل والتخفيف بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم يركع مكبرا، وللركوع صفة معلومة، ثم يقوم من الركوع ملتزما فيه بالصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أحكام الاستعاذة والبسملة
[الاستعاذة قبل القراءة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يستعيذ ثم يبسمل سرا].
الاستعاذة: طلب العوذ،
ومعناها: ألتجئ وأعتصم بالله عز وجل نعم المولى ونعم النصير، ولذلك شرع الله هذه الاستعاذة عند قراءة كتابه العزيز،
فقال: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل:98]، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم -وأمره أمر لأمته حتى يدل الدليل على الخصوص- أنه إذا استفتح قراءة القرآن أن يستفتحها بالاستعاذة، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه استفتح قراءته بالاستعاذة،
ولذلك قال بعض العلماء: إنه ينبغي على القارئ أن يستفتح قراءته بالاستعاذة، ومن السلف من قال بوجوب الاستعاذة، وذلك لأمر الله عز وجل بها،
قالوا: فهي واجبة.
[صيغ الاستعاذة]
والاستعاذة تأتي على صيغ:
الصيغة الأولى: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وهذه الصيغة هي التي وردت في سورة النحل، وعليها جماهير القراء، وهي أفضل من غيرها، وذلك لأن الله أمر بها وحددها في افتتاح كتابه، والمعين أفضل من غير المعين، فيعتبر تعيينها دليلا على فضلها،
وقد أشار بعض الفضلاء إلى ذلك بقوله: ولتستعذ إذا قرأت واجهر مع استماع وابتداء السور إلى أن قال: ولفظه المختار ما في النحل وقد أتى الغير عن أهل النقل أي: لفظ الاستعاذة المفضل ما في سورة النحل،
وهو قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل:98].
وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه)، فهذه أيضا استعاذة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم،
وقال بعض السلف: يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم)، وبعضهم يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم)؛
لأن الله قال لنبيه: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [فصلت:36] قالوا: فيقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم).ولا شك أن الوارد أوقى من غيره؛ لأن القاعدة -كما قرر العز بن عبد السلام وغيره-
تقول: (إذا وردت ألفاظ للأذكار منها وارد ومنها مقتبس من الوارد، فالوارد أفضل من غيره -أعني: المقتبس-)،
ولذلك يقدم قولهم: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وهو أقوى الاستعاذات.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ أحيانا بقوله: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) يدل على الجواز، وما دل على الجواز ليس كما أمر به، فإن اختيار الله له يدل على الفضل.
[أوجه الاستعاذة مع البسملة وأول السورة، وأوجه البسملة بين السورتين]
والاستعاذة أدب من آداب التلاوة ينبغي لمن تلا كتاب الله أن يستفتح بها،
قالوا: لأن الإنسان يعصم بإذن الله عز وجل من دخول الدخل من الشيطان الرجيم في قراءته، فينال بركة القراءة وخيرها وحظها، ولذلك تجده أكمل الناس تدبرا ووعيا وفهما، فإنه حينما يلتجئ ويحتمي بالله عز وجل من الشيطان أن يدخل بينه وبين قراءته فإنه يأمن الفتنة، وتكون قراءته على أتم الوجوه وأفضلها وأحسنها، فشرع الله لعباده أن يفتتحوا بهذه الاستعاذة، وهذه الاستعاذة تعتبر أصلا في القراءة كما ذكرنا،
وتكون مع البسملة والابتداء بأول السورة على أربعة أوجه:
الوجه الأول: تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين)، وهذا الوجه يسميه العلماء وجه الوصل، فتصل الجميع.
الوجه الثاني: تقطع فتقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، (بسم الله الرحمن الرحيم)، (الحمد لله رب العالمين)، فتقطع الأول عن الثاني، والثاني عن الثالث.
الوجه الثالث: أن تجمع بين الأول والثاني وتفصل الثالث عنهما،
فتقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم)، (الحمد لله رب العالمين).
الوجه الرابع: أن تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين).وأما البسملة بين السورتين ففيها أربعة أوجه،
وأحدها لا يجوز: الوجه الأول: أن يقول مثلا: " {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر:3] بسم الله الرحمن الرحيم {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1] " وهذا وجه الوصل، فيصل الجميع.
الوجه الثاني: " {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر:3]،
بسم الله الرحمن الرحيم: {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1] " فيقطع الأول عن الثاني، والثاني عن الثالث.
الوجه الثالث: أن يقطع آخر السورة،
ويقول: " {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر:3] " ثم يسكت،
ويبتدئ ويقول: " بسم الله الرحمن الرحيم {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1] ".
الوجه الرابع: ولا يصح هذا الوجه،
وهو أن يصل قوله تعالى: " {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر:3] ببسم الله الرحمن الرحيم " ثم يقطع ثم يقول: " {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1] "؛ لأنه يوهم أن البسملة لآخر السور، وإنما شرعت البسملة لأوائل السور.
[الإسرار بالبسملة]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يبسمل سرا وليست من الفاتحة].
أي يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فـ (البسملة) اختصار لها، كالحوقلة والحسبلة اختصارا لما ذكر من الأذكار.
والبسملة شرعت للفصل بين السور، ومذهب طائفة من العلماء وجوبها إلا فيما بين براءة والأنفال، فإنه لا يفصل بينهما بالبسملة،
ولذلك قالوا: بسمل وجوبا عند كل السور عدا براءة وذاك في الأشهر أي: على أقوى قول العلماء رحمة الله عليهم، فالأشهر يعني الأقوى والأرجح.
فالبسملة مشروعة لابتداء السور،
فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم.
وقوله: (سرا) على مذهب الجمهور.
والشافعية رحمة الله عليهم يقولون بالبسملة جهرا.
وكلا الفريقين يحتج بحديث أنس: (صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان كلهم كانوا يستفتحون القراءة: ببسم الله الرحمن الرحيم {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:2])،
والرواية الثانية: (كلهم يستفتحون القراءة: بـ {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:2]).وجمع العلماء بين الروايتين عن أنس بأن نفيه للبسملة مراده الجهر، وإثباته لها مراده السر،
أي: أنهم كانوا يقرؤون (بسم الله الرحمن الرحيم) سرا لا جهرا.فإن كان الإنسان قد ترجح عنده القول بعدم الوجوب فإنه يسر، وهذه هي السنة في حقه، وإن ترجح عنده القول بوجوب البسملة وقرأها جهرا فلا حرج، ولا ينكر على أحد بسمل جهرا،
ولذلك اختار بعض العلماء: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا تارة ويفعل هذا تارة، كما يفهم من كلام بعض المحققين، ولذلك لا ينكر على من جهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهو قول أئمة من السلف، ومعتد بقولهم وخلافهم؛ لأن له وجها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[هل البسملة من الفاتحة]
قوله: [وليست من الفاتحة] هو مذهب الجمهور.وعند الشافعية البسملة هي آية من الفاتحة،
ولذلك يصلون قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة:7] فإن قلت: إنها آية وصلت اعتبرتها آية واحدة حتى تكمل سبعا؛
لأن سورة الفاتحة سبع آيات كما قال تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} [الحجر:87] قيل: إنها الفاتحة،
وعلى هذا الوجه قالوا: إن آياتها سبع، وبناء على ذلك يقولون: إذا قرأ البسملة فإنه يصل الآية الأخيرة ولا يحسبها آيتين،
ولا يقف عند قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة:7]، أما إذا كان يرى أنها ليست من الفاتحة فإنه يعتبر هذا موقفا له وآية.
قراءة الفاتحة في الصلاة
[وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ الفاتحة].لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها،
وقال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)،
وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، فهي خداج)، وسميت فاتحة لأن الله افتتح بها كتابه، وتشرف الكتب بما تفتتح به، ولذلك كانت أفضل سورة في كتاب الله عز وجل، فأفضل آية آية الكرسي، وأفضل سورة سورة الفاتحة،
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام فيها: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) فهذا يدل على شرفها،
ولذلك قال تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} [الحجر:87]، فعطف العام على الخاص، وعطف الخاص على العام والعام على الخاص يدل على شرف الخاص وفضله،
كما قال تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر:4]، فإن اختصاصه بالذكر يدل على ثبوت شرفه وعلوه عن غيره،
فلذلك قالوا: الفاتحة هي أفضل ما في القرآن من سور.
[حكم قطع الفاتحة بذكر أو سكوت طويل]
قال رحمه الله تعالى: [فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال، أو ترك منها تشديدة أو حرفا أو ترتيبا لزم غير مأموم إعادتها].قوله: [فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال].
أما الذكر فمثاله: لو أن إنسانا قرأ وقال: {الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم} [الفاتحة:2 - 3] فقطع بين الآية الثانية والآية الثالثة بذكر غير مشروع في هذا الموضع،
كما لو قال: (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)، فهذا ذكر، لكنه غير مشروع في هذا الموضع، لكن لو قطعها بسؤال رحمته أو استعاذة من عذابه فإنه مشروع؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه كما في حديث ابن مسعود أنه: (ما مر بآية رحمة في قيام الليل إلا سأل الله من فضله، ولا مر بآية عذاب إلا استعاذ بالله عز وجل)، فلو أنه قطع بينهما بذكر مشروع لا يؤثر، وإن قطع بذكر غير مشروع أثر.فلو قال الحسبلة بين الآية الثالثة والرابعة أو الرابعة والخامسة يبتدئ من جديد قراءة الفاتحة؛ لأن هذه الحسبلة ليست من كتاب الله عز وجل، ولا يشرع ذكرها في هذا الموضع الذي ذكر، فكأنه تكلم بكلام خارجي، وخرج عن كونه قارئا، وقارئ الفاتحة لا بد أن يتمها، فإن فصل بين آياتها بالذكر الخارجي فإنه لم يتمها، فيلزمه أن يبتدئ قراءتها من أولها،
وقال بعض العلماء: يبتدئ من حيث فصل، فيقرأ الآية الأخيرة التي وقع عند الفصل ثم يتم ما بعدها والأول أحوط.وأما السكوت فهو السكوت الفاحش، وهو السكوت الطويل،
كما لو قال: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:2]، ثم سكت وطال سكوته، فإنه حينئذ يستأنف؛ لأنه لا يشرع السكوت هنا إذا كان متفاحشا.أما لو سكت للفصل بين الآيات فهذه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم،
فقد كان يقرأ: {الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين} [الفاتحة:2 - 4]، فكانت قراءته عليه الصلاة والسلام مفصلة مرتلة صلوات الله وسلامه عليه.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (77)
صـــــ(11) إلى صــ(20)
[حكم ترك بعض الحروف والتشديدات في الفاتحة]
قوله: [أو ترك منها تشديدة].
في الفاتحة إحدى عشرة تشديدة: (الله)، (رب)، (الرحمن)، (الرحيم)، (الدين)، (إياك)، (وإياك)، (الصراط)، (الذين)، (الضالين وفيها تشديدتان)، فهذه إحدى عشرة تشديدة، فإذا ترك منها تشديدة واحدة يستأنف؛ لأن الحرف المشدد يشتمل على حرفين، فـ (رب) تشتمل على بائين مدغمتين في بعضهما كأنهما حرف واحد، وهي ولكن حقيقتهما أنهما حرفان، فإذا خفف وترك التشديد كأنه أسقط حرفا من الفاتحة، ولم يقرأ الفاتحة كما أمره الله، وإنما يعتد بقراءة وقعت على السورة التي أمر الله عز وجل بها، فإن صلى الإمام وكان من هذا الجنس الذي يترك التشديد، أو يخل بالألفاظ إخلالا يخرجها عن المعنى،
كأن يضم التاء من: (أنعمت)،
أو يكسرها: (أنعمت)، فإنه حينئذ لا تصح الصلاة وراءه، فالذي يلحن لحنا يحيل المعنى في الفاتحة فإن صلاته باطلة إذا لم يكن معذورا، أما إذا كان معذورا فإنه تصح صلاته لنفسه ولمن هو مثله أو دونه.ومن ذلك أيضا الأمي الذي يلحن في الفاتحة لحنا يحيل المعنى
كما لو قال: (أهدنا)،
فإنه غير قوله: (اهدنا)،
وكذلك إذا ضم التاء أو كسرها في قوله تعالى: (أنعمت)،
فإنه حين يقول: (أنعمت) أحال المعنى، فكأنه هو المنعم، وكذلك الحال إذا كسر فإنه خطاب للأنثى، وليس ذلك بصائغ لله عز وجل.فالمقصود أن أي إخلال في الفاتحة يذهب به الحرف أو يخل به المعنى فقراءته غير معتبرة، وإن كان على سبيل السهو فحينئذ يرجع ويعيد القراءة؛ لأنها ركن في الصلاة ويتدارك، وإلا صحت صلاته إذا كان معذورا كالأمي وحديث العهد بالإسلام الذي لا يمكنه، فإذا غلط في أول مرة يتسامح له، ويصلي على حالته لنفسه، ثم إذا وسعه الوقت للتعلم فإنه يأثم.
قوله: [أو حرفا].وهكذا لو ترك حرفا،
كما لو قرأ: (الصراط) بتخفيف الصاد، فإنه ترك حرفا،
أو ترك الحرف بالكلية فقال: (أنعم) بدل (أنعمت)، فإنه تبطل قراءته، ويلزمه أن يأتي بالفاتحة على الوجه المعتبر.قوله: [أو ترتيبا].
أي: لم يرتب آياتها، فذكر آية قبل آية، فإنه لا يعتد بقراءته، ويلزمه أن يستأنف.
وقوله: [لزم غير مأموم إعادتها].أي أن الإمام يلزمه أن يعيد، وإذا أعاد أجزأ ذلك المأموم،
ولذلك قال: [غير مأموم]، وهذا على القول أن الإمام يحمل الفاتحة عن المأموم، وإن كان الصحيح أن الإمام لا يحمل الفاتحة عن المأموم، وبناء على ذلك فإنه قال على الوجه الذي يرى أن الإمام يحمل عن المأموم،
فقال: (لزم غير مأموم إعادتها)، فيلزم المنفرد والإمام أن يعيد القراءة إذا حصل واحد من هذه الإخلالات التي ذكرناها، فإذا ترك حرفا، أو تشديدة أو لحن لحنا يخل بالمعنى، فإنه يستأنف.
[قول (آمين) والجهر بها للإمام والمأموم]
قال رحمه الله تعالى: [ويجهر الكل بآمين في الجهرية].
التأمين معناه: (اللهم استجب)،
فقولك: (آمين) أي: اللهم استجب، وقد شرع التأمين جهرة لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به،
ولذلك قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا)،
وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمن) أي: بلغ موضع التأمين، وليس المراد أنه إذا أمن وقال لفظ التأمين؛ لأن هذا معروف في لغة العرب، إذ يصفون الإنسان بالشيء عند مقاربته له،
فيقال: أصبح،
أي: كاد أن يصبح،
ومنه قوله: أصبحت أصبحت،
أي: كدت أن تصبح،
فقوله عليه الصلاة والسلام: (أمن) أي: قارب التأمين ووقف عليه، فحينئذ: (إذا أمن فأمنوا)،
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإذا قال: (ولا الضالين) فقولوا: (آمين) فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)،
وثبت في الحديث تفصيل ذلك بأن الملائكة تقول في السماء: آمين،
ويقول العبد: آمين، فإذا وافق تأمين العبد تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، وهذا يدل على أنه يجهر،
لقوله: (قولوا)، والقول إنما هو اللفظ، وليس الكلام النفسي؛ فإن الكلام النفسي لا يسمى قولا، على ما هو معروف من مذهب أهل السنة والجماعة من أن الكلام إنما هو باللفظ وليس في النفس.كذلك أيضا ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان وأصحابه إذا أمن رفع صوته حتى ترتج أعواد المسجد، أو يرتج المسجد من تأمينه عليه الصلاة والسلام وتأمين الصحابة معه، ولذلك حسدت اليهود المسلمين على هذا التأمين.فالسنة أن يرفع الصوت،
وقال بعض العلماء: يرفع الصوت ولا يبالغ في الرفع إلى درجة الإزعاج، ولا يخافت، ولكن يرفع بقدر وسط.
[قراءة سورة بعد الفاتحة]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ بعدها سورة].وهذا من هديه صلوات الله وسلامه عليه،
والسورة قيل: مأخوذة من السور لارتفاعه،
فقيل: سميت سورة لارتفاعها وعلو شأنها،
وقيل: لأن المكلف بقراءته لها يرتفع درجة، فيكون بحال أحسن من حاله قبل قراءتها بفضل التلاوة،
وقيل: من السور، بمعنى الإحاطة، وكل هذه أوجه.
فقوله: [يقرأ بعدها سورة] أي: من كتاب الله عز وجل، ولا حرج عليك أن تقرأ سورة كاملة، أو تقرأ بعض السورة، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ السور كاملة، وجزأ السورة في الركعة الأولى والثانية كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة،
ففي فريضة الفجر قرأ: {قولوا آمنا} [البقرة:136]، و: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء} [آل عمران:64]، فالأولى من البقرة والثانية من آل عمران، هذه آية وهذه آية، وكذلك ثبت عنه قراءته بآخر سورة البقرة صلوات الله وسلامه عليه.وكذلك أيضا ثبت عنه في الحديث الصحيح قراءة السور كاملة، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في أكثر من حديث أنه قرأ في الصلوات الخمس السورة في الركعتين، في الفجر كما سيأتي إن شاء الله، وفي الظهر، وفي العصر، وفي المغرب، وفي العشاء، قرأ السورة كاملة، ويجوز للإنسان أن يجمع بين السورتين أيضا ولا يقتصر على سورة واحدة،
فقد ثبت في الحديث أن رجلا كان يقرأ ثم يختم بـ: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] في كل ركعة،
فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما حملك على هذا؟ - أي: ما حملك على أن تجمع بين السورة وسورة الإخلاص- قال: إني أحبها قال: حبك لها أدخلك الجنة)، فهذا يدل على جواز أن يقرن بين السور،
وقد قال ابن مسعود: (إني لأعرف السور التي كان يقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها).فعلى العموم لا حرج أن تقرأ أكثر من سورة،
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه استفتح قيام الليل، فقرأ سورة البقرة والنساء والمائدة -كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه - ولم يقرأ آل عمران) قيل: هذا قبل الترتيب في العرضة الأخيرة.
فالمقصود أن هذا كله من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شئت قرأت سورة كاملة، وإن شئت قرأت بعض السورة، وإن شئت قرأت نصف السورة في الركعة الأولى أو أكثرها، وفي الركعة الثانية أتممت، فكل هذا من هديه عليه الصلاة والسلام.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التخفيف والتطويل في الصلوات
[القراءة في الصبح بطوال المفصل]
قال رحمه الله تعالى: [وتكون في الصبح من طوال المفصل].
أي: في صلاة الفجر، والمفصل: مأخوذ من فصل الشيء،
قال بعض العلماء: إنه من الفصل بين الشيئين أن يحال بينهما بحائل.
قالوا: وصفت هذه السور بكونها مفصلة لكثرة الفصل بينها بالبسملة، بخلاف أوائل القرآن كالسبع الطوال، فإنها طويلة، والفصل بالبسملة قليل، والمفصل يبتدئ من سورة (ق) إلى آخر القرآن.
والوجه الثاني: سمي المفصل مفصلا لكثرة الفصل بين آياته، فآياته قصيرة، على خلاف السبع الطوال وما بعدها من السور، فإن غالبها طويل المقاطع.
والوجه الثالث: سمي المفصل مفصلا من الفصل بمعنى الإحكام، والسبب في ذلك قلة النسخ فيه؛ لأنه محكم وقليل النسخ، بخلاف أوائل القرآن، فإن فيه آيات منسوخة.وهذه كلها أوجه في سبب تسميته بالمفصل.والمفصل كما هو المعهود عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يعتبرونه من سورة (ق).ثم هذا المفصل فيه طواله وأواسطه وقصاره،
فيقسم على هذه الثلاثة الأقسام: طوال المفصل، وأواسط المفصل، وقصار المفصل.فأما طوال المفصل فتبتدئ من سورة (ق) إلى سورة (عم)، وأما أواسطه فمن سورة (عم) إلى (الضحى)، وأما قصاره فمن سورة (الضحى) إلى آخر القرآن، هذا بالنسبة لطوال المفصل وأواسط المفصل وقصار المفصل.
فقوله رحمه الله: [يقرأ في الفجر أو في الصبح بطوال المفصل] أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح أنه كان يقرأ بطوال المفصل، ويطيل القراءة فيها، ثبت هذا في حديث جابر وأبي برزة الأسلمي رضي الله عنه،
ففي حديث جابر: (وكان يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة آية)، فقراءة النبي صلى الله عليه وسلم كانت ما بين الستين إلى المائة، ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يطيل القراءة،
قالوا: لأن النفوس في صلاة الفجر مهيأة لسماع القرآن والتأثر به، والناس حديثو العهد بالنوم، وعلى استجمام وراحة.
وقول جابر: (ما بين الستين إلى المائة) ظاهره أن ذلك في الركعتين،
وحديث صلاة الفجر في الجمعة: (أنه كان يقرأ في الفجر (الم تنزيل) في الركعة الأولى، وسورة (هل أتى) في الركعة الثانية) يدل عليه، فإن مجموع السورتين إحدى وستين آية، وهذا يقوي أنه كان يقرأ ما بين الستين إلى المائة في الركعتين، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه طول في صلاة الصبح، ويشترط أن لا يكون في ذلك حرج على الناس وأذية بهم، فإن كان هناك على الإنسان حرج، أو كان يغلبه النعاس، أو كان خلفه مريض وأراد أن يخفف فهي السنة؛
لما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (قرأ بالزلزلة)،
وثبت عنه في الحديث الصحيح أنه استفتح صلاة الفجر التي كان يطول فيها فسمع بكاء صبي فقرأ: {إنا أعطيناك الكوثر} [الكوثر:1]،
وقال عليه الصلاة والسلام: (إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه) صلوات الله وسلامه عليه، من رحمته وحلمه وتخفيفه ولطفه بالناس.وهكذا ينبغي أن يكون عليه الإمام، والإمام الحكيم الموفق يحسن النظر لمن وراءه؛ لأن الله سائله عن جماعته، ومحاسبه عليهم، والهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف،
فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف)، فهذا خطاب للأمة.وينبغي أن ينبه على مسألة، وهي أننا إذا قلنا بالستين إلى المائة، فإن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت قراءة مرتلة مجودة تعطى فيها الحروف حقها من صفة لها ومستحقها، وكون الإنسان يصلي بالناس بالستين إلى المائة وهو يتغنى ويمطط الآيات ويتكلف فيها ليس من السنة، بل يقرأ قراءة مرتلة ولا يبالغ في التمطيط؛ لأن هذا يجحف بالناس ويضر بهم، ولذلك ينبغي إذا أراد أن يتخير الإطالة أن يحسن ترتيل القرآن، وأن يكون بعيدا عن التكلف والتقعر في تلاوته، وكذلك أيضا لا يبالغ في الهذ والإسراع في القراءة، وإنما تكون قراءته قراءة مفصلة مبينة، حتى يكون ذلك أبلغ لانتفاع الناس بقراءته، وحصول الخير لإمامته.فالسنة في صلاة الفجر الإطالة، ولكن -كما قلنا- النبي صلى الله عليه وسلم من هديه التخفيف عند وجود الحاجة، فلو علمت أن هناك مريضا، أو أن الناس في سفر، كأن تكون مع رفقة مسافرين في الليل وحضرت صلاة الفجر وهم على نعاس وتضرر من أذى السفر للتخفف عليهم وترفق بهم،
كما قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم اللهم فارفق به)، فالإمام ولاية، وهي ولاية في أمور الدين، فينبغي التخفيف في هذه الحالة.
[القراءة في المغرب بقصار المفصل]
قال رحمه الله تعالى: [وفي المغرب من قصاره].
أي: يقرأ في المغرب من قصار المفصل،
وقد جاء ذلك في حديث سلمان بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول: (ما رأيت أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، لإمام كان يصلي به)،
وهو حديث قال عنه الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح،
قال: (فنظرت فإذا به يصلي المغرب من قصار المفصل) أي: من قصار سور المفصل من الضحى فما بعد.وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ في المغرب بطوال المفصل، بل بأطول الطوال وهي سورة الأعراف صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك ثبت عنه أنه قرأ (المرسلات عرفا)، وهي من أواسط المفصل، فدل على أنه لا حرج أن الإنسان أحيانا يصلي بطوال المفصل، والحقيقة أن الأمر يرجع إلى الإمام، فإن بعض الأئمة قراءته تكون طيبة ترتاح لها القلوب والنفوس، ويكون لها أثر من ناحية الخشوع، حتى يتمنى الناس لو طول بهم أكثر مما هو عليه، وهذا كان حال الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الإمام يريد أن يطيل أو يصيب السنة بقراءة الأعراف فلا حرج، ولكن حبذا أن ينبه الناس، خاصة في هذه الأزمنة التي تكثر فيها شواغل الناس وحصول الظروف لهم، فينبه على أنه سيصلي بالأعراف، ولا حرج أن يصلي بهم بالمرسلات، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى بالطور، وهي من طوال المفصل، فلا حرج أن ينوع بين هذا الهدي، فيصلي على غالب حاله بقصار المفصل، ويصلي أحيانا بطوال المفصل، ولا حرج عليه في ذلك.
[القراءة في العشاء والظهرين بأوساط المفصل]
قال رحمه الله تعالى: [وفي الباقي من أوساطه].
أي: يقرأ في صلاة الظهر والعصر والعشاء من أوسط المفصل، أما صلاة الظهر فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ بما يقرب من ثلاثين آية، وجاء عنه أنه قرأ السجدة وهي ثلاثون آية، أو إحدى وثلاثون آية، فهذا يدل على أنه من السنة قدر الثلاثين، خمس عشرة آية تكون للركعة الأولى، وخمس عشرة آية للركعة الثانية، وجاء هذا في حديث السنن، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ في الظهر بأواسط المفصل، كما في سورة البروج فقد قرأها في صلاة الظهر، وكذلك سورة {والسماء والطارق} [الطارق:1] وسورة: {والليل إذا يغشى} [الليل:1] كله جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.وأما بالنسبة للعصر فإنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يجعله على النصف من صلاة الظهر، وكان في صلاة الظهر يطول في الركعة الأولى،
حتى ثبت في الحديث أنه: (كان الرجل يذهب إلى البقيع فيقضي حاجته ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى)،
وثبت أنه: (كان يقوم في الركعة الأولى حتى لا يسمع قرع نعال)، وهذا يدل على تطويله عليه الصلاة والسلام، وورد في حديث أبي داود أنه كان تطويله يفهم منه الصحابة أنه يريد من الناس أن يدركوا الركعة الأولى.أما العصر فإنه كانت قراءته على نفس قراءة الظهر، فلذلك يقرأ بخمسة عشر آية، أو فيما هو في حدودها.وأما العشاء فقد ثبت عنه ما يدل على أنه كان يقرأ من أواسط المفصل، والسبب في ذلك أن معاذا رضي الله عنه لما اشتكاه الرجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم -وكانت القضية في صلاة العشاء-: (هلا قرأت بـ {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1] {والليل إذا يغشى} [الليل:1])، فدل هذا على أنه كان يقرأ من أواسط المفصل،
ولا حرج أن يقرأ: {إذا السماء انفطرت} [الانفطار:1] كما جاء في بعض الروايات، وكل هذا من السنة.
[حكم القراءة في الصلاة من غير مصحف عثمان]
قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان].والسبب في ذلك أنه كان على العرضة الأخيرة، ولذلك تعتبر هذه العرضة الأخيرة بمثابة النسخ لبقية القراءات التي هي خلاف ما في المصحف الإمام، فقد أجمع المسلمون على هذا المصحف، ولذلك كانت قراءته متواترة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرأ في الناس بالمصحف الإمام، ولا حرج أن يقرأ بأي القراءات الثابتة.
لكن هنا مسألة وهي: لو قرأ بقراءة صحيحة ثابتة،
كقراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) أي: في كفارة الحلف،
فهذا فيه وجهان للعلماء: من أهل العلم من قال: إن هذه القراءة وإن صحت بالآحاد فإنها لا تثبت حكما؛ لأن القراءة إنما تكون بما ثبت بالقطع والتواتر، ولذلك لا تصح بها القراءة.
وقال بعض العلماء: إنها تصح، وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.ولكن لا ينبغي للإنسان أن يخرج بالناس عما هو الأصل الذي اتفق على صحة الصلاة به وهو مصحف الإمام، ولا حرج على الإنسان أن يقرأ بأي القراءات، ولكن نبه العلماء رحمة الله عليهم على أنه إذا كان الإنسان بين قوم يجهلون القراءات، ويكون تنويعه للقراءات تعليما لهم أنه يستحب له أن ينوع بين القراءات إذا كانت له رواية بهذه القراءات.
وقال بعض العلماء أيضا: يستثنى من هذا أن يكون بين قوم جهال، فلو قرأ بقراءات غريبة ربما أحدث الفتنة، فلا يقرأ بغير القراءة المعروفة، فلو كان بين قوم يعرفون رواية حفص فجاء وقرأ برواية ورش فلربما تكلم عليه الناس، وربما ردوا عليه وظنوا أنه قد أخطأ، والواقع أنه مصيب،
فقالوا: في مثل هذه الأمور لا ينبغي التشويش، خاصة على العامة، فربما عرضهم للكفر؛ لأنهم ربما أنكروا هذا القرآن وهو ثابت، فيكون هذا الإنكار في الأصل من حيث هو كفر، وإن كان العامي على قول طائفة يعذر بجهله إذا لم يعلم أنها قراءة.فالمقصود أن الإنسان إذا أراد أن يخرج عن القراءة المعروفة فلينتبه لحال الناس ولا يشوش عليهم، ولا يأتي بقراءة لا يعرفونها، حتى لا يحدثهم بما لا يعرفون،
قال صلى الله عليه وسلم: (حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)، وهذا في الأحاديث فكيف بالقراءات؟! أما لو كان بين طلاب علم، ويريد أن يبين لهم بعض القراءات ليستفيدوا منها، فهذا في الحقيقة أفضل وأكمل؛ لأن فيه زيادة علم وبيان للناس وتوضيح وإرشاد لهم.
فإذا قلنا: تجوز القراءة بالقراءات فهذا يشترط فيه أن يكون في كل ركعة بحسبها، فلا يصح -كما يقول بعض العلماء- أن تخلط بين القراءتين في الركعة الواحدة، فلو قرأت سورة ما من السور واستفتحت برواية حفص فلتتمها برواية حفص، ولا تدخل القراءة في القراءة، فإذا التزمت القراءة تستمر بها،
أما إذا شئت في الركعة الثانية أن تقرأ بقراءة ثانية فقالوا: لا حرج، أما أن ينوع في القراءات في الركعة الواحدة فلا، كأن يقرأ الآية الأولى بحفص، والآية الثانية بورش؛ فإن حفصا لا يقرأ المصحف كله إلا على قراءته التي رواها، فإذا التزمت استفتاح السورة بقراءة حفص تتمها بقراءة حفص، ولا تدخل فيها قراءة ورش؛ لأن هذا فيه إخلال، وإنما رخص العلماء للقراء والعلماء في أثناء الدروس في القراءات لمكان الحاجة، فله أن يقرأ بالأوجه المتعددة من باب التعليم والحاجة، أما في داخل الصلاة فلا.
الركوع وصفته قولا وفعلا
[رفع اليدين عند الركوع]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يركع مكبرا رافعا يديه].
أي: بعد أن يفرغ من القراءة يركع، وسيأتي إن شاء الله بيان ما هو الواجب منه واللازم، وما هو المندوب والمستحب؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (ثم اركع)،
وقد أمر الله بالركوع فقال: {واركعوا مع الراكعين} [البقرة:43]،
وقال: {اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم} [الحج:77] فأمر بالركوع، وهذا يعتبر من أركان الصلاة، ويركع في النافلة والفرض، يركع حال كونه مكبرا،
أي: جامعا بين الفعل والقول، وهذا التكبير يسميه العلماء تكبير الانتقال؛ لأنه انتقل من حال القيام إلى حال الركوع.
وقوله: [رافعا يديه]،
لثبوت السنة بذلك من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الركوع).
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (78)
صـــــ(21) إلى صــ(30)
[وضع الكفين على الركبتين مفرجتي الأصابع]
قال رحمه الله تعالى: [ويضعهما على ركبتيه مفرجتي الأصابع].
أي: يلقم الركبتين بكفيه، ولا يفعل مثل ما يفعل بعض العوام حين يجعل رؤوس الأصابع عند الركبة، والسنة أن يلقم أصابعه للركبتين.
[استواء الظهر مع الرأس حال الركوع]
قال رحمه الله تعالى: [مستويا ظهره].قد كان عليه الصلاة والسلام من هديه إذا ركع هصر ظهره،
فاستوى ظهره في الركوع حتى قالوا: لو صب الماء على ظهره صلوات الله وسلامه عليه لم ينكفئ، فكان يركع مستوي الظهر.ثم رأسه لا يشخصه ولا يصوبه، وإنما يجعله مساويا لظهره، كما جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبلغ ما يكون في الذلة والخضوع لله سبحانه وتعالى، فلا يبالغ الإنسان في الانحدار، ولا يبالغ في رفع الرأس، وإنما يهصر ظهره حتى يستوي، ثم يكون رأسه باستواء ذلك الظهر.
[قول: (سبحان ربي العظيم) في الركوع]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقول: سبحان ربي العظيم].وهذا التسبيح بمعنى التنزيه،
فسبحان ربي العظيم بمعنى: (أنزهه)،
وقد جاء في الحديث: (أنه لما نزل قوله تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة:74] قال عليه الصلاة والسلام: اجعلوها في ركوعكم)، فالركوع فيه فعل وقول، فالفعل هصر الظهر والانحناء،
وأما القول فهو قوله: (سبحان ربي العظيم)، والثناء على الله وتمجيده وتعظيمه،
قال صلى الله عليه وسلم: (أما الركوع فعظموا فيه الرب)، فيقول: (سبحان ربي العظيم) لثبوت السنة به، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التسبيح،
وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي) بعد نزول قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} [النصر:3]،
وكان في قيام الليل صلوات الله وسلامه عليه يقول: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، فكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه الثناء على الله في الركوع.
القيام من الركوع وصفته قولا وفعلا
[قول: (سمع الله لمن حمده) للإمام والمنفرد حال القيام من الركوع]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يرفع رأسه ويديه قائلا إمام ومنفرد: سمع الله لمن حمده].
قوله: (قائلا) أي: حال كونه قائلا، (إمام ومنفرد) أي: يقول الإمام والمنفرد: (سمع الله لمن حمده) ولا يقول المأموم: (سمع الله لمن حمده)، وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمة الله على الجميع،
فالإمام والمنفرد يقولان: (سمع الله لمن حمده)،
والمأموم لا يقول: (سمع الله لمن حمده)،
وإنما يقتصر على قوله: (ربنا ولك الحمد) أو: (ربنا لك الحمد)، ولا يزيد التسميع.
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى أنه يقول المأموم: (سمع الله لمن حمده)؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به).والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن التقسيم ينفي التشريك، وهذه قاعدة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن فأمنوا)، فدل على أنه في الأصل لا يؤمنون مع الإمام حتى يؤمروا بالتشريك،
فلما قال: (إذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا:) دل على التقسيم، والتقسيم خلاف التشريك،
وإنما قالوا بالتشريك لحديث: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)،
فنقول: هذا مطلق وهذا مقيد، والقاعدة أن المقيد مقدم على المطلق،
والأصل: حمل المطلق على المقيد،
فنقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) فيه إجمال، وإن كان الأمر فيه من حيث العموم، لكن نقول: جاء المفصل،
فقال عليه الصلاة والسلام: (فإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد)،
قالوا: هذا يدل على أنه لا يجمع المأموم بين قوله: (سمع الله لمن حمده) وقوله: (ربنا ولك الحمد).فأصح الأقوال أنه لا يجمع بينها بالنسبة للمأموم، فمحل الخلاف في المأموم،
أما الإمام والمنفرد فشبه إجماع من أهل السنة أنه يقول: (سمع الله لمن حمده).
[قول: (ربنا ولك الحمد) بعد إتمام القيام]ق
ال رحمه الله تعالى: [وبعد قيامهما: (ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) ومأموم في رفعه (ربنا ولك الحمد) فقط].أي: يقول حال رفعه أثناء الانتقال: (سمع الله لمن حمده)،
حتى إذا استتم قائما قال: (ربنا ولك الحمد)، سواء أكان إماما أم مأموما أم منفردا، فالإمام والمنفرد إذا أراد أن يسمع فأثناء الفعل، وبعضهم يترك التسميع حتى ينتصب قائما، وهذا ليس من السنة،
والسنة أن يكون التسميع أثناء رفعه من الركوع فيقول: (سمع الله لمن حمده) و (سمع) قيل معناه: استجاب الله دعاء من حمده،
ولذلك كان من السنة استفتاح الأدعية بالحمد وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بالحمد لله)، قالوا: وهذا يدل على أن من علامات إجابة الدعاء الاستفتاح بحمد الله تبارك وتعالى والثناء عليه.
فإذا انتصب الإمام قائما قال: (ربنا ولك الحمد)،
أو قال: (ربنا لك الحمد)، فهذا كله وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
واستحب طائفة من العلماء رواية الواو: (ربنا ولك الحمد)،
وفضلها على رواية: (ربنا لك الحمد)؛ لأن رواية الواو فيها زيادة معنى،
فأنت تقول: (ربنا) أي: أنت ربنا، (ولك الحمد) أي: فيه معنى زائد، فتثبت له الربوبية مع الثناء عليه بالحمد،
لكن إذا قلت: (ربنا لك الحمد) قالوا: هذا معنى واحد، والأفضل الأول، وبالنسبة للإمام أو المنفرد فإنه يجمع بينهما، فيقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)،
أو: (ربنا لك الحمد)،
والمأموم يقتصر على قوله: (ربنا ولك الحمد).
ولهذا يقول المؤلف عليه رحمة الله: [ثم يرفع رأسه ويديه قائلا إمام ومنفرد: (سمع الله لمن حمده)، وبعد قيامهما: (ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) ومأموم في رفعه: (ربنا ولك الحمد) فقط].فذكر رحمه الله ما ينبغي على المصلي بعد انتهائه من الركوع من رفعه، وهذا الرفع أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح من حديث المسيء صلاته، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على لزومه في الصلاة، وإن كانوا قد اختلفوا في الطمأنينة في هذا الرفع، وقد تقدم بيان الأذكار وخلاف العلماء رحمهم الله في مسألة الجمع،
ثم ذكر المصنف رحمه الله الدعاء المأثور الذي يقوله بعد قوله: (سمع الله لمن حمده)،
أو قول الإمام: (سمع الله لمن حمده) وهو أن يقول: (ربنا ولك الحمد)،
أو على الرواية الثانية: (ربنا لك الحمد)، ورواية الواو أوجه عند بعض العلماء، والسبب في هذا أن رواية الواو فيها زيادة معنى،
كأنك تقول: (أنت ربنا)،
ثم تقول: (ولك الحمد).
وذكر رحمه الله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه بقوله: (ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد)،
وفي رواية: (لا مانع لما أعطيت)،
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ملء): أي حال كونه ملء السماوات وملء الأرض، وهي رواية الفتح.وقد احتج بهذا الحديث طائفة من العلماء رحمهم الله على أن الأعمال توزن يوم القيامة، وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، فهل الذي يوضع في الميزان هو الإنسان نفسه يوم القيامة، وعلى قدر صلاحه وفساده يكون الوزن، أم أن الذي يوزن هو عمله قولا كان أو فعلا أو اعتقادا، أم مجموع الأمرين؟
فقال بعض العلماء: الذي يوزن هو الإنسان نفسه؛
لقوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} [الكهف:105]،
ولقوله عليه الصلاة والسلام لما اهتزت الشجرة بـ ابن مسعود فضحك الصحابة من دقة ساقيه: (ما يضحككم من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده إنهما أثقل في الميزان من أحد)، فهذا يدل على أن الموزون هو الإنسان نفسه.
وقال بعض العلماء: إن الموزون هو العمل؛
لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقليتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).فقد دل هذا الحديث الصحيح على أن قول الإنسان للذكر هو الموزون،
قالوا: فالعمل شامل للقول والفعل، وكله يوزن.والصحيح أنه يوزن الإنسان نفسه وعمله؛ لأن النصوص وردت بالجميع،
والقاعدة تقول: (النصوص إذا وردت بأمرين فلا يصح إثبات أحدهما ونفي الآخر إلا بدليل)، فكما أن الله أخبر في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بما يدل على أن الإنسان يوزن،
وأخبر بما يدل على أن العمل يوزن فنقول: كل صحيح، وكل خرج من مشكاة واحدة، فالإنسان يوزن، وعمله يوزن، وعرصات القيامة مختلفة -كما هو جواب ابن عباس رضي الله عنهما أن عرصات يوم القيامة مختلفة-
والمراد بالعرصات: المواقف -نسأل الله أن يلطف بنا وبكم فيها-، فتارة توزن الأعمال، وتارة يوزن أصحاب الأعمال، وكل على حسب ما يكون منه من خير وشر.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (ملء السماوات وملء الأرض) دل على أن الحمد موزون، وأن له ثقل، فقال في هذا الثقل: (ملء السماوات وملء الأرض)، وهذا يدل على عظم ما للعمل الصالح من عاقبة، وكونه له أثر في ثقل ميزان العبد يوم القيامة.وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع بعض أصحابه يقول وراءه: (حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه)، فقال صلى الله عليه وسلم: (من المتكلم بها؟ فقال: أنا يا رسول الله فقال: لقد رأيت اثني عشر ملكا يبتدرونها أيهم يرفعها) وفي رواية: (رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول)، فلو نظرت في حروف هذه الكلمات لوجدتها ما يقارب اثنين وثلاثين حرفا، فكان هذا مناسبا، كأن لكل حرف ملك يرفعه، وهذا يدل على فضل ذكر الله عز وجل، وأن له عند الله عز وجل شأنا عظيما، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين.
فورد عن النبي صلى الله عليه وسلم التحميد بقوله: (ربنا لك الحمد)،
وقوله: (اللهم ربنا لك الحمد) (اللهم ربنا ولك الحمد).
وقوله: (ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) إنما يقع بعد التحميد، ولا يكون من الإمام جهرا.
وقال بعض العلماء: يستحب للإمام أن يرفع صوته قليلا ببعض الأذكار إذا كان بين قوم يجهلونها وهذا على سبيل التعليم؛ فإن العوام والجهال قد يحتاجون من طلاب العلم ومن الأئمة إلى بيان بعض السنن، ويفتقر هذا البيان إلى نوع من الوضوح، كأن يرفع الإمام صوته قليلا، ولذلك جهر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدعاء الاستفتاح، لكي يعلم الناس دعاء الاستفتاح.
قالوا: فلا حرج أن يجهر الإمام أحيانا بمثل هذه الأدعية المأثورة تعليما للناس بالسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأسئلة
[حكم السلام على الجالسين عند دخول المسجد]
q حينما يدخل المصلي المسجد، فهل أن يسلم على الجالسين في المسجد لأن السلام سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، أم لا؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد: فالسنة لمن دخل المسجد أن يبدأ بتحية المسجد قبل السلام على الناس، وهذه السنة دل عليها حديث أبي هريرة في الصحيح: (أن المسيء صلاته لما دخل ابتدأ بالصلاة، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال له: ارجع فصل فإنك لم تصل)، فدل على أن السنة أن يبتدأ بالصلاة قبل السلام على الناس؛ إذ لو كان من السنة أن يستفتح بالسلام لابتدأ الأعرابي السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصلاة، فكونه يبتدئ بتحية المسجد دل على أن الهدي الذي كان معروفا أن يبدأ بتحية المسجد قبل السلام، ولذلك قالوا: السنة لمن قدم المدينة أن يبتدئ بتحية المسجد، ثم يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التحية.وهذا مبني على ما ذكرنا من حديث المسيء صلاته، ولذلك هذا هو الهدي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحكم المسجد فليركع ركعتين).وبعد أن ينتهي من التحية يسلم على الناس ويحدث من شاء، أما قبل التحية فلا يشرع له أن يسلم.والذي يظهر والله أعلم ترجيح القول الأول، وهو أنه يبتدئ بتحية المسجد، ثم يثني بعد ذلك بالسلام على الناس؛ لأنه حق خاص، والحق الخاص مقدم على العمومات؛ لأن هذا في موضع خاص ورد فيه دليل السنة الذي يدل على اعتبار تقديم الصلاة على السلام.والله تعالى أعلم.
[حكم قطع الفاتحة بالاستعاذة من الشيطان]
q لو أن إنسانا قطع الفاتحة بقوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)؛ لكي يذهب عنه وساوس الشيطان، فهل يعيد الصلاة، أم ماذا عليه؟
a إذا دخل على الإنسان داخل الوسواس فاستعاذ أثناء القراءة قالوا: هذا ذكر مشروع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الشيطان الذي يسمى (خنزب)، وهو شيطان الصلاة، وشيطان الوضوء (الولهان) كما ورد في الخبر عنه عليه الصلاة والسلام، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام قوله: (إذا أقيمت الصلاة أقبل -أي: الشيطان- فيوسوس على الإنسان حتى يحول بينه وبين الصلاة)، وذلك لعلمه أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، فيأتيه بالوساوس والخطرات، قال عليه الصلاة والسلام: (فيقول له: اذكر كذا.اذكر كذا.اذكر كذا)، حتى ورد: (إن العبد لينصرف من صلاته وليس له منها إلا العشر إلا الربع إلا الثلث إلا الثمن، وما فاته منها خير من الدنيا وما فيها) وهذا كله بسبب الوساوس، قال عليه الصلاة والسلام: (فإذا وجد أحدكم ذلك فليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله منه)، ولا يكون فيه التفات، وإنما يكون نفثه إلى اليسار دون حصول اللي للعنق، فيتفل عن يساره ثلاثا بريق خفيف، ويقول: (أعوذ بالله من الشيطان)، فهذا ذكر مشروع.ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بأصحابه، ثم تكعكع فتكعكع الصف الأول وتكعكع الصف الثاني بعده، وهو يقول: أعوذ بالله منك، أعوذ بالله منك.فإذا بالشيطان قد جاءه بشهاب من نار، فخنقه صلوات ربي وسلامه عليه وقال: (لولا أني ذكرت دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا يلعب به صبيان المدينة) فهذا يدل على مشروعية الاستعاذة في الصلاة من الشيطان؛ لأنها ذكر مشروع، فالإنسان إذا حيل بينه وبين القراءة وتدبر كلام الله والتأثر بآيات القرآن لا حرج عليه أن يستعيذ.
والله تعالى أعلم.
[حكم قراءة الفاتحة للمأموم]
q إذا قرأ الإمام سورة الفاتحة، فهل يقرأ المأموم بعد الإمام، أم ينصت للإمام؟ وما الخلاف في هذه المسألة، وما الراجح؟
a للعلماء في المأموم إذا كان وراء الإمام أقوال في وجوب الفاتحة عليه: القول الأول، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه: الوجوب في جميع الصلاة، سواء أكانت سرية أم جهرية، وهو مذهب الشافعية، وكذلك اختاره جمع من أهل الحديث، والظاهرية رحمة الله على الجميع، فهم يرون أن قراءة الفاتحة واجبة على المأموم والمنفرد والإمام، وأنك إذا صليت وراء الإمام في جهرية أو سرية يجب عليك قراءة الفاتحة.القول الثاني: لا تجب على المأموم قراءة الفاتحة وراء الإمام مطلقا، وهو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.القول الثالث: تجب عليه في السرية دون الجهرية، كما هو موجود في مذهب المالكية، وكذلك بعض أصحاب الإمام أحمد يميل إليه، وقالوا: إذا جهر لا يقرأ، ولا تلزمه القراءة، وإذا أسر وجبت عليه القراءة.وأصح هذه الأقوال والعلم عند الله القول بوجوب القراءة مطلقا، وذلك لما يأتي: أولا: لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)، والقاعدة في الأصول أن (أي) من ألفاظ العموم، وما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين صلاتك إماما أو مأموما أو منفردا، نافلة أو فريضة، فالأصل في العام أن يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، ولا مخصص.الدليل الثاني: أنه ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه استثنى الفاتحة في القراءة وراء الإمام حتى في الجهرية، فثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (صلى بالناس الصبح فسمع قارئا يقرأ وراءه، فقال: إنكم تقرءون وراء إمامكم؟ قالوا: نعم.قال عليه الصلاة والسلام: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فهذا نص، والذين قالوا بعدم القراءة قالوا: هذا منسوخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث جابر: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، قالوا: فهذا يعتبر ناسخا لحديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب).والجواب عن هذا القول من وجوه: أولا: إنه لا يصح النسخ بالاحتمال، حيث لم يثبت دليل يدل على تأخر هذا الحديث عن الحديث الذي ذكرناه: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب).ثانيا: أن هذا الحديث ضعيف، وجماهير المحدثين على ضعفه، فلا يقوى على معارضة ما هو أصح منه.ثالثا: أن قوله: (فقراءة الإمام له قراءة) المراد به: القراءة التي بعد الفاتحة، فبالإجماع أنك إذا صليت وراء الإمام أنك تترك قراءته، وهذا هو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر، ولذلك نهى الصحابي لما قرأ بـ: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1] فقال: (مالي أنازعها)، فلذلك يفهم من هذا أن المراد بقوله: (فقراءة الإمام له قراءة) ما بعد الفاتحة.وبناء على هذا يترجح القول بوجوب القراءة مطلقا، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج).وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).وقوله في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب).فهذه الأدلة تقوي مذهب من قال بأنه يقرأ في السرية والجهرية.أما السؤال: متى يقرأ إذا كان وراءه، فإن قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204] لا يعارض ما نحن فيه؛ فإن القاعدة: (العام يخصص إذا أمكن تخصيصه)، وقد جاءنا الحديث يقول: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فهذا مخصص، والقاعدة: (لا تعارض بين عام وخاص).فنقول قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له} [الأعراف:204] محمول على العموم إلا في الصلاة؛ لأنك مطالب بالقراءة كما يقرأ إمامك، وبناء على ذلك: فله قراءته وأنت لك قراءة، فلا يصح أن تترك الفرض للاستماع الذي هو دونه في الوجوب، حتى لو قلنا بوجوب استماع القرآن، فقد تعارض الفرض الذي هو ركن الصلاة والواجب، والقاعدة أنه إذا تعارض الفرض والركن مع الواجب يقدم الفرض والركن على الواجب، فهذا وجه.الوجه الثاني: أن أبا هريرة رضي الله عنه -كما روى البيهقي عنه بسند صحيح في جزء القراءة وراء الإمام- لما قيل له ذلك قال: (اقرأها في سرك)، وجاء عن بعض السلف: اقرأها في سكتات الإمام، فتقرؤها في سكتات الإمام كسكتته بين الفاتحة والسورة، أو سكتته قبل الركوع، فهذا الذي تميل إليه النفس.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (79)
صـــــ(1) إلى صــ(7)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [4]
إذا رفع المصلي رأسه من الركوع فإنه يسجد مكبرا، والسجود ركن من أركان الصلاة، وله صفة معلومة، ثم يرفع من السجود ويجلس بين السجدتين كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الجلسة ركن من أركان الصلاة أيضا، ثم يسجد سجدة ثانية كالأولى، ثم يرفع منها ويقوم للركعة الثانية، ويفعل فيها كما فعل في الأولى، ما عدا تكبيرة الإحرام والاستفتاح.
[السجود وأحكامه]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يخر مكبرا ساجدا].
الخرور: هو السقوط من أعلى إلى أسفل، ومنه قوله تعالى: {فخر عليهم السقف من فوقهم} [النحل:26]،
ولذلك قال بعض العلماء: إنه إذا قرأ الإنسان آية السجدة وكان جالسا فليقف حتى يأتسي بداود عليه السلام في خروره؛ لأنه لما كان الخرور من أعلى إلى أسفل فإنه يقف لكي يسجد.ويفهم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه الميل إليه، وإن فعله الإنسان فحسن، لكن الأقوى واختيار الجماهير أنه يسجد على حالته.والمراد بهذا الخرور تحصيل الركن البعدي، وهو مرحلة الانتقال من ركن الرفع بعد الركوع إلى ركن السجود،
وهذا الركن الذي يخر إليه عبر عنه بقوله: (مكبرا ساجدا) أي: حال كونه مكبرا قائلا: الله أكبر، وقد تقدم أن هذا التكبير يسميه العلماء رحمة الله عليهم تكبير الانتقال؛ لأنه ينتقل فيه من ركن إلى ركن، ما عدا تكبيرة الإحرام.
فقوله: (ثم يخر مكبرا) أي: قائلا: (الله أكبر) كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.والسنة أن يوافق تكبيره الفعل كما تقدم معنا غير مرة، لأنه إذا وجد من لا يراه ويسمع صوته فإنه يساويه في الفعل ولا يسبقه، ومن يراه ولا يسمع صوته كذلك أيضا يساويه في الفعل، فحينما يوافق تكبيره خروره فإن ذلك أنسب لحصول ائتمام الناس به إذا كان إماما.
[أدلة وجوبه ومعناه]
أمر الله بهذا السجود فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج:77]، وأجمع العلماء على أنه ركن من أركان الصلاة.
والسجود: أصله التذلل والخضوع، ويتضمن إظهار الحاجة لله عز وجل بما يشتمل عليه من الأذكار من التسبيح والتحميد والتمجيد لله عز وجل،
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي)،
وهذا السجود أمر به النبي صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته فقال: (ثم اسجد)، فأمره بالسجود، ولذلك قلنا بلزومه ووجوبه، وسيأتي أنه من أركان الصلاة.وهذا الخرور بين فيه المصنف صفة معينة هي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، على أحد القولين عند العلماء وسيأتي بيانها.
[وجوب السجود على سبعة أعضاء]
قال رحمه الله تعالى: [ساجدا على سبعة أعضاء: رجليه، ثم ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته مع أنفه] هذه السبعة الأعضاء ثبت فيها الحديث عن ابن عباس رضي لله عنهما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) ثم ذكرها، وابتداء المصنف بذكر الرجلين لأن المصلي ثابت عليهما، والسجود على الرجلين ليس المراد به أن يرفع ويعود، وإنما لبكونه ينتقل إلى الخرور فيضطر إلى ميل الرجلين، فكأنه سجد على الرجلين، وهو في الحقيقة ساجد؛ لأن السنة لمن سجد أن يستقبل بأصابع الرجلين القبلة كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حرص على أن تستقبل أصابع رجليه القبلة فإنه يتمكن من السجود أكثر، ولذلك تجد الأعضاء قد تمكنت من الأرض، وهذا أبلغ ما يكون في الذلة لله عز وجل بالسجود، فحينما يستشعر الإنسان أن أعضاءه جميعها مستغرقة للسجود، وأنه متذلل لله عز وجل، فذلك أبلغ ما يكون في التذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى، وهذا هو المقصود من الصلاة، فيستقبل بأطراف أصابعه القبلة، كما جاء في الحديث، وكذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رص العقبين، فلم تكن مفرجة، وإنما كان يرص قدميه صلوات الله وسلامه عليه، فيبتدئ بالرجلين مستقبلا بهما القبلة، فإذا انحنت الرجلان فقد سجدتا؛ لأنه قد تحصل بهما السجود من جهة الاعتماد.
[كيفية الهوي للسجود]
قوله: [ثم ركبتيه] هذا على القول بأنه يقدم الركبتين على اليدين، وهو أحد الوجهين عند العلماء رحمة الله عليهم،
وقال طائفة من أهل العلم: يقدم اليدين على الركبتين.
والسبب في ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبرك الرجل كما يبرك البعير،
قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه) أخرجه أبو داود.
ففي رواية: (يضع ركبتيه قبل يديه)،
وفي رواية: (يضع يديه قبل ركبتيه)،
فنظرا لهذا الاختلاف في الروايات اختلف العلماء رحمهم الله: فمنهم من رجح أن يقدم الركبتين كما درج عليه المصنف رحمه الله، واحتجوا برواية أبي هريرة التي تدل عليه،
وكذلك حديث وائل بن حجر رضي الله عنه وأرضاه وأنه: (قدم ركبتيه على يديه) لهذا قالوا: إنه يقدم الركبتين على اليدين.
وقالت طائفة: يقدم اليدين على الركبتين، وذلك لرواية في حديث أبي هريرة، وهي عند أبي داود في سننه بسند صحيح، وفيها تقديم اليدين على الركبتين.
وقالوا: إن رواية وائل بن حجر مطعون فيها من جهة الثبوت.
ثم قالوا: إن صدر الحديث يدل على ترجيح هذه الرواية، وذلك من جهة أن البعير يقدم ركبتيه على يديه حال بروكه، ولذلك إذا رأيت البعير أراد أن يبرك فإنه يقدم الركبتين قبل تقديمه لرجليه،
ومن ثم قالوا: إنه من السنة أن يقدم اليدين، فإذا قلنا بتقديم الركبتين شابه البعير، وإلا تناقض صدر الحديث مع عجزه.وللشيخ ناصر الدين رحمه الله في الإرواء بحث جيد في هذا يرجع إليه، وكذلك أشار إلى شيء منه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.والحقيقة أن هذا القول هو أعدل الأقوال وأولاها إن شاء الله بالصواب، وهو أنه يقدم اليدين، ولو ترجح عند الإنسان تقديم الركبتين على اليدين فليقدم الركبتين على اليدين ولا حرج عليه، فكل على خير، فمن ترجح عنده تقديم الركبتين فليقدم، ومن ترجح عنده تقديم اليدين فليقدم، لكن الخلط بين الروايتين باطل؛
إذ يقول بعض طلاب العلم: نجمع بين الروايتين بأن نفعل هذا تارة وهذا تارة.فليس الخلاف هنا من خلاف التنوع الذي يسوغ فيه الجمع بين الصفات، وذلك لورود النهي عن بعضها، فبالإجماع أنه منهي عن واحدة منها، فإذا فعلت هذا تارة وهذا تارة فقد وقعت في المحظور، ولذلك إما أن يأخذ الإنسان برواية أبي داود الثابتة في تقديم اليدين على الركبتين، إضافة إلى أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يفعل ذلك، وهذا يترجح أيضا بما جاء عن السلف، كما قال الأوزاعي وهو فقيه الشام،
ومنزلته ومكانته لا تخفى: (أدركتهم يقدمون اليدين على الركبتين) أي: إذا سجدوا.فإذا ترجح عند إنسان هذا القول عمل به، وإن ترجح عنده غيره عمل به
.وليتأكد من أن أهل اللغة يقولون: إن ركبتي البعير في مقدمته.فهذا يرجع ويحتكم إليه عند الخلاف؛
لأنه إذا ثبت قولهم: إن ركبتي البعير في يديه فحينئذ يقدم المصلي الركبتين على اليدين،
وإن قيل: إن الركبتين في موضعهما كما يفهم من قول صاحب اللسان، وهو الذي اعتمده غير واحد من أهل اللغة فحينئذ يترجح القول بتقديم اليدين على الركبتين، وهذا هو الذي تميل إليه النفس، وهو قول طائفة من السلف كما ذكرنا.
قالوا: إن مما يؤكد هذا القول أن النزول على اليدين أرفق بالإنسان، وخاصة إذا كان مع الضعف؛ فإن الغالب فيه أنه إذا خر يحتاج للاعتماد على اليدين أكثر من اعتماده على الركبتين، ولذلك تجده يتحامل عند تقديمه للركبتين على اليدين، وهو أرفق وأولى بالاعتبار من هذا الوجه.
[حكم الحائل بين أعضاء السجود والأرض]
قال رحمه الله تعالى: [ولو مع حائل ليس من أعضاء سجوده] ذكرنا أن هذه السبعة الأعضاء يسجد عليها، وهذا على سبيل الوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، خلافا لمن قال بعدم وجوب السجود عليها.وبناء على ذلك فمن سجد فإنه يراعي في سجوده سجود الرجلين بالصفة التي ذكرناها، وكذلك سجود الركبتين بالتصاقهما بالأرض، وسجود الكفين، وذلك بالتصاقهما بالأرض، وسجود الجبهة والأنف، وذلك بوضعهما على الأرض، فلو سجد ورفع رجليه فإنه يعتبر آثما، ولا يصح سجوده في قول طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود على هذا الوجه، وكذلك لو رفع إحدى الركبتين متعمدا دون حاجة فإنه يأثم ولا يصح سجوده في قول من ذكرنا.فإن وضع أعضاءه على الأرض، ووجد الحائل بينها وبين الأرض، سواء في مقدمة الإنسان أم في مؤخرته، فإن الحائل في القدمين والركبتين يكاد يكون بالإجماع أنه لا يؤثر، وتوضيح ذلك: لو صلى في نعليه، فإنه سيكون اعتماده على النعلين، وهذا مع وجود حائل متصل،
فقالوا: لا يؤثر.وكذلك الحال بالنسبة للركبتين، فإنه لو صلى سيصلي بثوبه، وبناء على ذلك فالحائل المتصل بالإنسان في هذين الموضعين بالإجماع لا يؤثر، وقد كان عليه الصلاة والسلام يصلي في نعليه وخفيه، ومن المعلوم أن الخف والنعل يحول بين الإنسان وبين إلصاقه العضو بالأرض مباشرة.أما بالنسبة لليدين والجبهة فإن كان على حصير أو سجاد أو خمرة فإنه بالإجماع لا يؤثر،
فقد ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم عند أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها قال: فقال لنا: (قوموا فلأصل لكم)،
قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، وهذا الحديث في صحيح مسلم،
قالوا: إنه صلى على حصير.
وفي الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام لـ عائشة رضي الله عنها: (ناوليني الخمرة، قالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك) والخمرة: أصلها من خمر الشيء إذا غطاه، وهي قطعة توضع لكي تحول بين الوجه وبين الأرض يسجد عليها وتكون من قماش، كالسجادة الصغيرة، وكالقطعة التي تسع مقدم الإنسان، أو تسع غالب أجزائه.فهذا يدل على أن الحائل بالسجاجيد لا يؤثر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرده ولم يعتبره مؤثرا في سجوده.والسنة أن الإنسان إذا كانت أعضاؤه على الأرض أن تلي الأرض، فإن وجد هذا الحائل الذي لا يؤثر فلا إشكال.لكن لو أن إنسانا قصد وضع الحائل للحاجة إلى ذلك، كأن يكون في حر شديد، فلو سجد ربما أضر بجبهته وأنفه فيؤثر عليه، فهل له أن يبسط طرف الثوب مثل كمه أو طرف الرداء، ويجعله تحته إذا سجد لكي يكون أرفق به؟a ثبت الحديث عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا إذا أرادوا أن يسجدوا بسط أحدهم طرف ثوبه فسجد عليه من شدة الحر في صلاتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا حرج أن يكون ما يسجد عليه حائلا، ولو بحائل متصل،
وهذا الذي دعا المصنف إلى أن يقول: (ولو مع حائل) إشارة إلى هذا الأصل الذي دلت السنة عليه.السجود مع الحائل إذا لم توجد إليه حاجة فهو ممنوع،
وشدد بعض العلماء فقال: إنه إذا احتاج إلى حركة وأفعال من أجل الحائل فإنه لا يبعد أن يأثم، كأن يسحب شيئا من أجل أن يسجد عليه، فيتكلف دون وجود الحاجة، ومن أمثلة ذلك أن يصلي المصلي فتنقلب سجادته، ويكون بإمكانه أن يسجد على الأرض، فلا ينبغي له أن يشتغل بقلب السجادة؛ لأنها حركة زائدة، خاصة في الفريضة، ومن مشايخنا رحمة الله عليهم من كان يشدد في ذلك، خاصة طلاب العلم، لمقام الهيبة والوقوف بين يدي الله عز وجل،
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن في الصلاة لشغلا)، فكونه لا توجد الحاجة ويشتغل بقلب السجادة وردها، خاصة إذا كان هناك هواء وريح، فإنه اشتغال بما لا تأثير له في الصلاة، وليس من جنس أفعال الصلاة، فليتركها على حالها، ويتفرغ لطاعته لله عز وجل بالسجود على الأرض، بل أبلغ وأعظم قربة إلى الله عز وجل أن يعفر الإنسان جبينه بالسجود لله سبحانه وتعالى.وقد ثبت عن خير خلق الله، وحبيب الله صلى الله عليه وسلم أنه سجد على الطين حتى رئي أثر الماء والطين في جبهته صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من أبلغ ما يكون من الذلة،
ولذلك لما أثنى الله على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم وزكاهم قال سبحانه: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح:29].فلذلك كلما سجد على الأرض وتذلل لله عز وجل كان أبلغ، ولا ينبغي -كما قلنا- تكلف وجود الحائل، خاصة مع الحركات في الصلاة، أما قبل الصلاة فلو وضع الحائل فلا بأس.وهنا مسألة يخشى فيها على دين الإنسان، وقد أشار إليه بعض أهل العلم وهي أن بعض المصلين يتتبع المواضع الحارة للصلاة فيها، حتى تحترق جبهته، ليكون شعار الصلاح في وجهه نسأل الله السلامة والعافية (خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) لأنه يريد الرياء ويريد ما عند الناس من التزكية والثناء، فلا يجوز للإنسان أن يبالغ في سجوده في المواضع التي يترتب على السجود فيها حصول الأثر، وهكذا الضغط على الجبين حتى يظهر في وجهه أثر السجود، فهذا لا ينبغي، إنما ينبغي أن يترك الأمر على ما هو عليه دون تقصد.وكان السلف الصالح رضوان الله عليهم يخافون من ظهور الخير من الإنسان فضلا عن أن يطلبوا أمارات الصلاح رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان الرجل منهم إذا اطلع على عبادته ربما بكى وأشفق على نفسه من الفتنة، فنسال الله السلامة والعافية، فالمبالغة في وضع الجبهة على مكان السجود حتى تؤثر في الجبين، أو تؤثر في مارن الأنف كل ذلك مما ينبغي للإنسان أن يحذره، وأن يتقي الله في عبادته، وأن يجعلها لله،
فإن الله وصف أهل النفاق بأنهم: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} [النساء:142]، فنسأل الله أن يعيذنا من أخلاقهم، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
[مجافاة العضدين حال السجود]
قال رحمه الله تعالى: [ويجافي عضديه عن جنبيه] المجافاة: أصلها البعد،
وجفاه: إذا قلاه وابتعد عنه، أو امتنع من كلامه والقرب منه، والمجافاة بين العضد والجنب هي أن لا يقرب عضده من جنبه؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث وائل، وكذلك في الأحاديث الصحيحة عنه أنه جافى،
وثبت في حديث البراء قال: (إن كنا لنأوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة ما يجافي)، فكان إذا سجد جافى حتى يرى بياض إبطيه صلوات الله وسلامه عليه.وهذه المجافاة تعين على تمكن أعضاء الإنسان من السجود، بخلاف ما إذا طبق بينها أو افترش افتراش السبع، فإن هذه الحالة لا تكون أبلغ في سجوده وتمكن أعضائه من الموضع.
فالمجافاة سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي للإنسان أن يؤذي جاره إذا كان في الصف، فهي سنة لمن تيسر له ذلك، فإذا كان بجواره من يزعجه ويضايقه حين يجافي فإنه في هذه الحالة يجافي بقدر معين؛ لأنه كما أنك تريد تحصيل السنة، كذلك هو يريد تحصيل السنة، فلو ذهب كل منكما يجافي فإنه يضر بالآخر، ولذلك يجافي الإنسان عند الإمكان، واستثنى أهل العلم من كان في الصف،
ولذلك قالوا: تأتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يتأت لغيره، وذلك لكونه إماما؛ فإن الإمام يتمكن من السجود أكثر، ويتمكن من المجافاة أكثر.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (80)
صـــــ(8) إلى صــ(14)
[مجافاة البطن عن الفخذ حال السجود]
قال رحمه الله: [وبطنه عن فخذيه] فلا يجعل الفخذين حاملين للبطن، وهذا من السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإنسان مع هذه المجافاة يجد نوعا من المشقة، ولكنها طاعة وقربة، ولذلك يحس بأثر هذا السجود، ولعله عند سجوده وحصول نوع من الأثر عليه يحس بالسجود بين يدي الله، لكنه لو ارتفق ربما ارتاح لذلك فأنست نفسه،
ولذلك قال بعض العلماء: إن المجافاة تشعر الإنسان بالسجود بين يدي الله.وجرب ذلك، فإنك كلما جافيت وحرصت على أن يكون هناك مجافاة بين وسطك وبين العضدين والجنب فإنك تجد أنك تحس بالسجود وثقله عليك، وهذا أدعى لاستشعار الإنسان مقامه بين يدي الله عز وجل، وذلك أدعى لحضور قلبه وخشوعه.
قال رحمه الله تعالى: [ويفرق ركبتيه] أي: يفرق الركبتين، فليس من السنة التصاقهما، ولذلك يرص العقبين ويفرق بين الركبتين، وهذا إذا كان رجلا، كما سيأتي.
[قول: (سبحان ربي الأعلى) في السجود]
قال رحمه الله تعالى: [ويقول: سبحان ربي الأعلى] بعد أن فرغ رحمة الله عليه من بيان صفة السجود الفعلية بدأ بما ينبغي على المكلف أن ينتبه له من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم القولي، فقد كانت للنبي صلى الله عليه وسلم أذكار وأدعية في سجوده، فيسن للإنسان أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وهذا الموضع من أبلغ المواضع ذلة لله سبحانه وتعالى،
وقال بعضهم: إنه من أشرف مواضع الصلاة.
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من مواطن الإجابة فقال: (أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجدا)، وقال عليه الصلاة والسلام في هذا الموضع: (فقمن أن يستجاب لكم) أي: حري أن يستجاب لكم من الله عز وجل، وذلك لما فيه من بالغ الذلة لله سبحانه وتعالى.
فيقول: (سبحان ربي الأعلى)، وهذا التسبيح يعتبر من أذكار السجود الواجبة فيه،
ولذلك لما نزل قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1] قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوها في سجودكم).
ولما نزل قوله تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة:74] قال: (اجعلوها في ركوعكم)،
وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا سجد قال: (سبحان ربي الأعلى)، وهذا من الدعاء بالمناسبة، فهو في أدنى ما يكون ذلة لله، فقابلها بما يكون من صفة العلو لله سبحانه وتعالى،
فقال: (سبحان ربي الأعلى)، وفيه رد على من ينفي جهة العلو لله سبحانه وتعالى، وسيأتي إن شاء الله أن هذا الذكر من واجبات الصلاة.وله أن يدعو بالأدعية التي يريدها من خيري الدنيا والآخرة، فلا مانع أن يسأل الله العظيم من فضله سواء أكان في نافلة أم فريضة.وقد جاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه افتقدته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها،
قالت: (فجالت يدي) أي: في حجرتها، وكانت حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الضيق بمكان؛ لأن الله اختار له الآخرة، ولم يختر له الدنيا، كان إذا أراد أن يسجد لا يستطيع أن يسجد حتى تقبض عائشة رجليها من أمامه،
فتقول: (افتقدته فجالت يدي فوقعت على رجله ساجدا يقول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك) فكان من أجمع الدعوات وأفضلها وأعزها وأكرمها أن يسأل الله الثبات على دينه، فجعله في هذا الموضع، فكونه ساجدا بين يدي الله، وكونه في ظلمات الليل التي هدأت فيها العيون، وسكنت فيها الجفون يدل على شرف هذا الموضع، فاختار له هذه الدعوة العظيمة وهي الثبات على الدين،
وكان من هديه أن يقول: (يا مقلب القلوب: ثبت قلبي على دينك)،
وفي رواية: (صرف قلبي في طاعتك).المقصود أن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء في السجود، فعلى الإنسان أن يدعو ويسأل الله من فضله.
[صفة الجلوس بين السجدتين]
قال رحمه الله: [ثم يرفع رأسه مكبرا] أي: إذا فرغ من السجود رفع رأسه مكبرا، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الرفع، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث المسيء صلاته،
حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع)، فأمره بالرفع من السجود لكي ينتقل إلى الركن البعدي، وهو الجلوس بين السجدتين.
قال رحمه الله تعالى: [ويجلس مفترشا يسراه ناصبا يمناه] أي: يجلس حال كونه مفترشا يسراه، فيقلبها لكي تكون حائلا بين الإلية والأرض، ولما صارت حائلا بين إليته والأرض فإنها تعتبر بمثابة الفراش الذي يحول بين البدن وبين الأرض، فمن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يفترش رجله اليسرى كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في صفة صلاته صلوات الله وسلامه عليه، فيفترش اليسرى ويجعلها بمثابة الفراش، ثم ينصب يمناه.
[دعاء الجلوس بين السجدتين]
قال رحمه الله تعالى: [ويقول: رب اغفر لي] أي: يستقبل بأطراف أصابعه اليمنى القبلة كما هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ويقول: رب اغفر لي.وهو الدعاء الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم،
فقد كان يقول: (رب اغفر لي.رب اغفر لي)،
وكان يقول عليه الصلاة والسلام دعاءه المأثور في السنن: (اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني واهدني وعافني وارزقني)، وهذه أدعية تجمع خيري الدنيا والآخرة للعبد، فسأل الله عز وجل خير دينه، وذلك بسؤاله الرحمة والمغفرة،
وقال: (اجبرني وارفعني) وهذا للدين والدنيا والآخرة، فإنه جبر لأمور الدين والدنيا، ورفعة في أمور الدين والدنيا،
وقال بعد ذلك عليه الصلاة والسلام: (وعافني وارزقني) فهذا أيضا من خير الدنيا؛ فإن الإنسان إذا عوفي فقد تمت عليه نعمة الله عز وجل بالنسبة لأمور الدنيا؛ لأن أكثر المصائب في الدنيا إنما تقع بسبب زوال عافية الله عز وجل عن العبد، وإذا سلب العبد العافية فقد هلك،
كما قال صلى الله عليه وسلم: (يا عم رسول الله سل الله العافية).فكان يسأل عليه الصلاة والسلام بين السجدتين العافية، ويكون هذا الموضع موضع دعاء،
وللعلماء في ذلك وجهان: قال بعضهم: هو موضع دعاء فيشرع أن يدعو الإنسان بما يتخير من أمور دنياه وأخراه،
وقال بعضهم: يتقيد بالوارد.وهذا أقوى، ولكن إذا لم يحفظ، كأن يكون عاميا فلا بأس أن يدعو بما تيسر له.والسبب في أنه يدعو بما تيسر له أن السنة أمران،
الأمر الأول: دعاء،
والثاني: لفظ مخصوص، فإن تعذر عليه اللفظ المخصوص فالسنة أن يسأل، وهو قول الجماهير كما نسبه غير واحد إليهم، فإذا كان لا يستطيع أن يحفظ الوارد، أو كان يجهله ودعا بما تيسر له، كدعائه له ولوالديه فلا حرج، والأفضل والأكمل أن يدعو بالدعاء المأثور،
وفرق بين قولنا: الأفضل،
وبين أن يقال: إن هذا حرام وبدعة.فلا يسوغ للإنسان أن يحرم، إنما يكون التحريم في ألفاظ الذكر المخصوصة، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يسكت عن الصحابة، ولم يأمرهم بلفظ مخصوص بين السجدتين يدل على أن الأمر واسع، وهذا قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم، وينبه على أن الحكم بالبدعة يحتاج إلى دليل، والأصل في الأذكار التوقيف، لكن إذا كان المحل محل تمجيد، أو دعاء، أو أثر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء فإن لمن دعا فيه -كأن يدعو له ولوالديه- وجه من السنة،
وإن قال: أنا لا أدعو بذلك؛ لأني لا أراه، فله أن يقول ذلك،
أما أن يقال لمن دعا: ابتدعت، ويحرم عليه، ويحكم بكونه آثما في صلاته فهذا يحتاج إلى نظر، ولذلك قال بعض العلماء: يدعو لوالديه لتعذر ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهي عن الدعاء لوالديه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك يبقى غيره على الأصل من أمر الله عز وجل له بالدعاء ولوالديه، فلا حرج عليه أن يدعو، لكن السنة والأفضل والأكمل للإنسان أن يتقيد بالوارد.
قال رحمه الله: [ويسجد الثانية كالأولى] أي: يسجد السجدة الثانية، ويفعل فيها ما فعل في الأولى من الهدي العملي والقولي.
[الانتقال من السجود إلى الركعة الثانية]
قال رحمه الله: [ثم يرفع مكبرا] أي: ثم يرفع رأسه من سجوده مكبرا لكي ينتقل إلى الركعة الثانية إذا كان في شفع، سواء أكان في الفرض أم النفل.
قال رحمه الله تعالى: [ناهضا على صدور قدميه معتمدا على ركبتيه إن سهل] هذا وجه عند أهل العلم رحمة الله عليهم، وهو أنه يعتمد القائم من السجود على ركبتيه وصدور قدميه إذا تيسر له ذلك، وهو قول بعض السلف رحمة الله عليهم.وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتماده على الأرض كما في حديث العجن،
وكذلك في حديث مالك بن الحويرث وللعلماء في ذلك وجهان: منهم من قال: إن كان الإنسان مطيقا قادرا قام على صدور القدمين والركبتين، كما جاء في بعض الروايات عنه عليه الصلاة والسلام من قيامه على هذا الوجه، فإن كان عاجزا، أو لا يستطيع الأخذ بحديث العجن فلا حرج عليه.وحديث العجن مختلف في إسناده، وإن كان حسنه بعض أهل العلم وقال بثبوته، فلا حرج في الأخذ بهذه السنة والعمل بها،
والعجن: أن يجمع أصابعه لكي يتمكن من وضعها، ثم يقوم معتمدا عليها؛ لأنه إذا أراد أن يعجن العجين جمع أصابعه ثم اتكأ عليها، هذا بالنسبة لصفة قيامه من السجود.
[تحقيق القول في جلسة الاستراحة]
مسألة جلسة الاستراحة للعلماء فيها وجهان: فمنهم من قال: هي سنة مطلقا للكبير والصغير، واحتجوا بحديث مالك بن الحويرث، وما جاء في بعض روايات حديث أبي حميد الساعدي، وما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم المسيء صلاته أمره بهذه الجلسة، ولكن هذه الزيادة في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري ضعيفة، ونبه على ضعفها غير واحد كما أشار إليه الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه، هذه الزيادة من أمره عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته بعد فراغه من السجدة الثانية أن يرجع ضعيفة، والأقوى فيما اعتمده الإمام الشافعي رحمه الله في إثبات هذه الجلسة -وهو وجه عند الحنابلة- حديث مالك بن الحويرث، وهو حديث صحيح لا يختلف اثنان في ثبوته، ولكن الإشكال أن مالك بن الحويرث قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره بعد عام الوفود.وثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في آخر عمره أخذه اللحم، بمعنى أنه بدن وثقل صلوات الله وسلامه عليه،
كما في حديث عائشة: (فلما سن وأخذه اللحم) ولذلك كان يصلي في قيام الليل جالسا، حتى إذا قرب من قدر مائة آية قام وقرأها ثم ركع.
فقالوا: كونه يراه في آخر عمره بهذه الصفة يدل على أنه كان يفعلها لحاجة، فهي سنة للمحتاج، إما لضعف أو مرض أو كبر، ولكن الحدث والقادر فإنه يقوم مباشرة.وهذا القول هو أولى الأقوال، وهو مذهب المالكية والحنفية، وقول عند الحنابلة رحمة الله عليهم،
والدليل على ذلك أنه ثبت عندنا أمر في حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع)، وهذا بعد السجود، وهو في الصحيحين، والأمر يقتضي الوجوب.وحديث مالك متردد بين أن يكون سنة جبلية لمكان الحاجة، وبين أن يكون سنة تشريعية للأمة، ولمكان هذا الاختلاف فإنه يبقى على الأصل من كونه يقوم مباشرة، ومن تأول هذه السنة وفعلها أيضا فلا حرج عليه، فلو ترجح عند الإنسان الأخذ بحديث مالك بن الحويرث واعتبرها سنة مطلقة فإنه لا حرج عليه ولا ينكر عليه، وكل على سنة وخير.فالأصل عند سلف الأمة رحمة الله عليهم أنه لا يشنع عليه ولا يبدع، ولا يؤذى من تأول سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعنده سلف من هذه الأمة يقول بقوله، فلا حرج على من جلس وهو يتأول السنة، ومثاب إن شاء الله، ولا حرج على من قام وهو يتأول السنة.ولكن لو ترجح عند الإنسان أن جلسة الاستراحة تعتبر سنة فالأفضل له أن لا يداوم عليها؛ لأن كون الصحابة كـ ابن عمر وأبي هريرة وأنس، والذين هم محافظون على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقومون بعد السجود مباشرة، ولم يحفظ عن واحد منهم أنه كان يجلس هذه الجلسة يدل ويؤكد على أنها على الأقل لا يواظب عليها؛ لأنه لو ووظب عليها لانتشر ذلك وذاع بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك الأولى والأحرى أن الإنسان إذا تأول اعتبارها أن لا يداوم عليها، وإنما يفعلها أحيانا.
وهنا مسألة وهي: لو ترجح عند الإنسان أنها سنة، فإذا سها مرة فظن أنه في الركعة الثانية، فلما رفع من السجود وفي نيته أن لا يجلس جلسة الاستراحة، فكان عليه أن يقوم، فجلس ناويا التشهد، ثم تذكر أنه في الركعة الأولى، فهل تنقلب إلى جلسة استراحة، أو تعتبر عملا زائدا في الصلاة ويسجد للسهو؟و a لو أنه ابتدأ بالتشهد وتكلم فلا إشكال،
لكن قبل أن يتكلم بالتشهد إن تذكر ثم قام فالذين يقولون: لا تشرع جلسة الاستراحة للحدث عندهم وجه واحد وهو أنه يسجد سجود السهو.
والذين قالوا بمشروعية جلسة الاستراحة اختلفوا: فقال بعضهم: يسجد للسهو؛ لأنه لم يفعلها بقصد السنية، وإنما فعلها على سبيل السهو، والسجدتان جابرتان لهذا النقص.
وقال بعض العلماء: إنها تنقلب جلسة استراحة؛ لأن سجود السهو إنما شرع لزيادة وهو في الحقيقة لم يزد، وهذا مبني على أصل، هل يغلب الظاهر أو الباطن؟ إن قلت: يغلب الباطن لزمه سجود السهو؛ لأنه في الباطن يعتقد أنها جلسة التشهد،
وإن قلت: يغلب الظاهر فإنه في هذه الحالة لا يلزمه أن يسجد؛ لأن الظاهر معتبر مأذون به شرعا.والوجهان ذكرهما الإمام النووي رحمه الله، وغيره من أصحاب الشافعي الذين يقولون بمشروعية جلسة الاستراحة، وكلا الوجهين من القوة بمكان،
لكن القول الذي يقول: إنه يسجد للسهو أقوى من ناحية النظر.
[ما يفعله المصلي في الركعة الثانية]
قال رحمه الله تعالى: [ويصلي الثانية كذلك ما عدا التحريمة والاستفتاح والتعوذ وتجديد النية] قوله: (الثانية) أي: الركعة الثانية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف للمسيء صلاته الركعة الأولى أمره أن يفعل في الثانية مثل ما فعل في الأولى، والسنة أن تكون الثانية أخف من الأولى.
قال بعض العلماء: تخفف قسطا.
وقال بعضهم: هي كالأولى في قدر المقروء.
وتوضيح هذين القولين أننا لو قلنا: تخفف قسطا -
أي: في القراءة، لأن طول القيام يقوم على القراءة-
فمعناه: أن تختار سورة أقل من السورة التي في الركعة الأولى،
وإن قلت: ليس المراد أن تخفف قسطا، وإنما باعتبار فلك أن تختار سورة مثل السورة التي في الركعة الأولى، ويكون التخفيف بفارق دعاء الاستفتاح في الأولى، فهذا الفرق بين الوجهين، تخفيفها قسطا أقوى من جهة السنة، ولكن هناك أحاديث تدل على أنه لا حرج أن تتساوى الركعة الأولى مع الثانية في القراءة، ويكون الفضل لدعاء الاستفتاح، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام قراءته للزلزلة في الركعتين،
قال الصحابي: ما أراه إلا نسي.وهو في الحقيقة لم ينس عليه الصلاة والسلام، وإنما فعل ذلك لكي يبين أنه لا حرج أن تقرأ في الركعة الثانية نفس السورة التي قرأتها في الركعة الأولى.فهذا الحديث يشير إلى أن التخفيف في الركعة الثانية قد يكون باعتبار زيادة دعاء الاستفتاح، خاصة إذا أطال الإنسان في قيام الليل، ولكن وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في تخفيفه للقراءة في الركعة الثانية عن الركعة الأولى، وبناء على هذا يكون حال الإنسان في الركعة الثانية أخف، فلا يدعو بدعاء الاستفتاح، ولا يكبر تكبيرة الإحرام، وإنما يكبر تكبيرة الانتقال، ولا يتعوذ على ما اختار المصنف، وإن كان الأقوى أنه يتعوذ،
وذلك لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل:98]،
وللعلماء في هذه المسألة وجهان: فمنهم من قال: يتعوذ.
ومنهم من قال: لا يتعوذ.والسبب في هذا الفاصل، فهل هو من جنس العبادة الواحدة، أم من جنس العبادة المختلفة؟ والأقوى أنه يتعوذ،
فالذين يقولون: إن انتقاله لا يؤثر يقولون: ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ -كما في حديث ابن مسعود - في قيام الليل، فما مر بآية رحمة إلا سأل الله من فضله، ولا مر بآية عذاب إلا استعاذ بالله،
قالوا: ففصل بين القراءة الأولى والقراءة الثانية بالتعوذ وسؤال الرحمة، ومع ذلك لم يبتدئ قراءته من جديد.فدل على أن الذكر الذي هو من جنس القراءة في حكم المقروء،
وبناء على ذلك قالوا: الفصل بالركوع والسجود وأذكارهما بمثابة كأنه في عبادة واحدة.
وقال الآخرون: إن الاستعاذة لفظ مخصوص، وزيادته في الصلاة تحتاج إلى دليل.والأقوى أنه يتعوذ لعموم الأدلة، ولا مخصص يدل على سقوطها في هذا الموضع، فيبتدئ بالاستعاذة.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (81)
صـــــ(15) إلى صــ(20)
الأسئلة
[قول: (ربنا ولك الحمد ولك الشكر) زيادة لم تثبت]
q ما حكم زيادة: (ولك الشكر) في قول: (ربنا ولك الحمد) بعد تسميع الإمام؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد: فهذه الزيادة لم تثبت، فالشكر ثابت لله عز وجل في الأصل على العموم، ولكن اختيار هذا الموضع لزيادة الشكر لا أصل له، وإنما الوارد أن يقول ما ذكرناه، وله أن يقول: (حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه)، وإن كان بعض العلماء رحمة الله عليهم سامح في الثناء على الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الصحابي حينما قال: (حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه)، قال: فالمقام مقام تمجيد، فلو مجد الله وعظمه فإنه لا حرج عليه.لكن الأولى والذي ينبغي دلالة الناس على السنة والاقتصار على الوارد، والقاعدة -كما نبه عليها العز بن عبد السلام - أن الوارد أفضل من غير الوارد، وهذا فيما شرع فيه الدعاء والثناء، فلو اخترت لفظا واردا فهو أفضل من غير الوارد، فكيف إذا كان محتملا التقيي؟! ولذلك القول بالتقيد من القوة بمكان، وينبه الناس على السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
[حكم من سجد على الجبهة دون الأنف]
q هل إذا سجد على الجبهة دون الأنف أجزأه ذلك؟
a هذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، وقد جاء في حديث ابن عباس الجمع بين الجبهة والأنف، حيث أشار عليه عليه الصلاة والسلام إلى جبهته وأنفه.واختلف العلماء، في الاقتصار على واحد منهما دون الآخر، فقال بعضهم: يجزيه، ويكون هذا على سبيل أنه عضو أو جزء العضو، وإذا سجد ببعض العضو قالوا: يجزيه السجود ولكن يأثم بالترك.فهذا هو أعدل الأقوال وهو أنه يأثم بترك الأنف لو تركه، والجبهة لو تركها، كما لو سجد على يده فاعتمد على رءوس أصابعه متعمدا فإنه يصح سجوده من جهة الإجزاء، ولكنه يأثم بترك الباطن، فهو جزء المأمور به.فإذا قلنا: إن الجبهة والأنف بمثابة العضو الواحد على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (على سبعة أعظم) فإنه في هذه الحالة يكون من جنس الجزء المشتمل على موضعين، كالحال في الكف والأصابع، فبطن اليد شيء والأصابع شيء آخر، فلو اتكأ على أطراف أصابعه، أو رفع أصابعه واعتمد على راحته فإنه يجزيه ويأثم.
[حكم السجود على العمامة]
q إذا كان المأموم لابسا عمامته فهل له أن ينحيها قليلا حتى يمكن جبهته من السجود؟
a استحب العلماء رحمة الله عليهم أن لا يغطي الإنسان جبهته؛ لأنه شعار أهل الخير والصلاح، وقد وصف الله عز وجل أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح:29]، وهذا لا يتأتى إلا برؤية الناس لهذا الموضع، ولذلك استحب لطالب العلم ولأهل الفضل والصلاح أن يكشفوا عن هذا الموضع، وكان معروفا في عهد السلف، ولذلك لما قال ابن النصرانية الأخطل في الأنصار يهجوهم -قاتله الله وأبعده ولعنه-: ذهبت قريش بالمفاخر كلها وبقى اللؤم تحت عمائم الأنصار لما قال ذلك دخل قيس بن سعد رضي الله عنه وأرضاه على معاوية وكشف جبهته وقال: أترى لؤما؟ قال: لا.والله ما أرى إلا خيرا ونبلا.قال: ما بال ابن النصرانية يقول كذا وكذا؟ قال: لك لسانه.فأهدر لسانه، ثم إنه فر.فالمقصود أنهم كانوا يرون أن من شعار أهل الصلاح والخير كشف هذا، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (مسح على ناصيته وعلى العمامة).وكان بعض العلماء رحمة الله عليهم يكشفون عن النواصي أحيانا، إيثارا للتواضع والذلة لله عز وجل، حتى يكون أبلغ في قبول الناس له وإقبالهم عليه، خاصة العلماء ومن يحتاج إليه، فإنهم إذا كانوا على سمت فيه لين ورفق بالناس كلما كان ذلك أبلغ لقرب الناس منهم، وتغطية هذا الموضع يفعلها الإنسان في الغالب على سبيل الكبر أو الخيلاء، فلذلك الأفضل أن يجلي جبهته.وإذا أراد أن يسجد -نظرا إلى أنه مأمور بالسجود على الجبهة- فإنه يجليها حتى يتمكن من السجود، والله تعالى أعلم.
[حكم تكرار الفاتحة في الركعة الواحدة]
q إذا قرأ المصلي بعد سورة الفاتحة سورة الفاتحة أيضا فهل صلاته جائزة؟
a إذا قرأ المصلي سورة الفاتحة بعد قراءتها فهذا على صور:
الصورة الأولى:
أن يقرأ ذلك متعمدا متقصدا تكرار الفاتحة، فللعلماء فيه وجهان:
قال بعض العلماء:
تبطل صلاته؛ لأنه زيادة ركن، فكما أن زيادة الأركان في الأفعال تبطل الصلاة، كذلك زيادة الأركان في الأقوال تبطل الصلاة.وهذا القول من جهة الأصول قوي؛ فإنك إذا نظرت إلى أنها زيادة مقصودة في ركن مقصود فإنها كزيادة الأفعال، ولذلك يقوى هذا القول من الوجه الذي ذكرناه.وقال بعض العلماء: أساء ولا تبطل صلاته.ولذلك هذا الفعل أقل درجاته أنه إذا تقصده فهو حدث وبدعة؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا على سبيل الفضل، ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون مبتدعا من هذا الوجه.أما لو شك هل قرأ الفاتحة أو لم يقرأها، ثم قرأها على سبيل الجزم والاحتياط فهو مأمور بقراءتها في هذه الحالة وتجزيه، فلو صليت ثم شككت: هل قرأت الفاتحة أو لم تقرأها -خاصة إذا كان الإنسان وحده، أو كان إماما في سرية من ظهر أو عصر- فإنه في هذه الحالة يعيد قراءتها، ولو ركع قبل أن يجزم بقراءتها فإنه يلزمه قضاء تلك الركعة، فيجب عليه أن يقرأها ويتأكد من قراءتها، إلا إذا كان مبتلى بوسواس فإنه في الوسوسة لا يلتفت إليها، ولا يعمل بها، والله تعالى أعلم.
[مشروعية صلاة الضحى والمداومة عليها]
q هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على صلاة الضحى أم لا؟ وهل المداومة عليها من السنة، أم نصلي بعض الأيام ونترك بعضها؟
a صلاة الضحى ورد فيها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وغيره من الأحاديث التي تدل على مشروعيتها وسنيتها، وكون عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ينكرها وغيره من الصحابة فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وكم من سنن خفيت على الأفاضل من كبار الصحابة، كما ثبت عن عمر رضي الله عنه في الصحيح أنه لما نزل بالشام أخبر بخبر الطاعون -طاعون عمواس- فامتنع من دخول الشام، فقال له أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه:
(نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله?!) فبين له أن هذا من الأسباب، وليس له علاقة بالفرار ما دامت عقيدته في الله عز وجل وأخذ بالسبب، فلا حرج عليه، ثم قام في الناس فقال:
أحرج على من كان عنده خبر من هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمنا أو يخبرنا.فقام عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه)، فحمد الله على موافقته للسنة.فهذا يدل دلالة واضحة على أنه قد تكون السنة خافية على كبار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فكيف بـ ابن عمر رضي الله عن الجميع وأرضاهم؟! وإن كان ابن عمر له فضله ومكانته وعلمه وورعه رضي الله عنه، ولكن المقصود أن كون ابن عمر لا يراها لا يدل على نفيها، فهي ثابتة، ومن السنة فعلها.والأصل أن ما جاء على الإطلاق لا يقيد إلا بدليل، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بها أبا هريرة رضي الله عنه، ويوصيه بها فإنها سنة ثابتة، فتبقى سنة ثابتة حتى يدل الدليل على التقييد بفعلها تارة أو تركها تارة.ويبقى النظر: هل فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم أو لم يفعلها؟ فهذا مما سكتت عنه الأخبار، وليس عندنا دليل يثبت أنه كان يصلي ركعتي الضحى، وليس عندنا دليل ينفي ذلك.والقاعدة أنه إذا لم يرد ما يوجب النفي وما يوجب الإثبات رجع إلى الأصل، فلما كان الأصل عندنا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بها على الإطلاق نبقى على هذا الإطلاق، ونقول: هي سنة.فلو قال قائل: كيف ولم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مداومته؟ قلنا:
ولو ثبت عنه أنه تركها فإنه لا يعتبر دليلا على نفي المداومة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك العمل وهو يحب أن يفعله خشية أن يفترض على أمته، كما ثبت في الحديث الصحيح.وبناء على ذلك نقول: السنة المداومة عليها للإطلاق، ولا حرج على الإنسان أن يداوم عليها، وهو على خير.كما أنه ثبت في الحديث الصحيح ما يدل على تقوية هذا القول من قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)، فصلاتهم هذه معناها أنه أمر ألفوه وداوموا عليه، فلا يحتاج إلى أن يقيد بدليل، فنبقى على هذا الإطلاق من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، والله تعالى أعلم.
[حكم قيام الليل لمن صلى الوتر بعد العشاء]
q هل يجوز للمسلم أن يقوم الليل إذا كان قد صلى الوتر بعد العشاء مباشرة؟
a من صلى الوتر بعد العشاء وأحب أن يقوم الليل فلا حرج عليه، وكان ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه يقوم بعد أن يوتر، وينقض وتره بركعة، ثم يصلي ركعتين ركعتين، ثم يوتر.ولا حرج على الإنسان أن يفعل ذلك؛ فإنه ربما خاف الإنسان أن لا يقوم فاحتاط بالوتر في أول ليله، ثم يريد الله به الخير فيستيقظ من آخر ليله، فلا حرج عليه أن يصلي، وأن يسأل الله من فضله؛ لعموم الأدلة الثابتة في ذلك، وإن صلى ركعتين ركعتين ولم يوتر فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- صلى ركعتين بعدما أوتر.فدل هذا على أنه من السنة ولا حرج، وقد ألف فيه الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه رسالة في إثبات سنية الشفع بعد الوتر، ولكن السنة والأفضل والذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم جعل الوتر في آخر الصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا).نسأل الله العظيم أن يرزقنا علما نافعا وعملا صالحا، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (82)
صـــــ(1) إلى صــ(7)
شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [5]
للتشهد صفة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وله صور وحالات معلومة، وينقسم إلى: التشهد الأول، والتشهد الثاني، فإذا أتم التشهد الثاني فإنه يسلم من صلاته، وللتسليم صور واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يكون قد أتم صلاته على أكمل وجه وأحسنه.
[صفة الجلوس للتشهد]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ثم يجلس مفترشا ويداه على فخذيه] أي: إذا تم من الركعة الثانية يجلس مفترشا كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكذلك غيرها في صفة جلوسه عليه الصلاة والسلام أنه (افترش اليسرى ونصب اليمنى، واستقبل بأطراف أصابعه القبلة)، صلوات الله وسلامه عليه.وكان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون ذلك، حتى أثر عن بعضهم أنه كان إذا انحنى إبهامه أصلحه حتى يكون مستقبلا القبلة، ويكون معتمدا عليه في جلوسه، وهذه إحدى الجلسات.كذلك أيضا جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه جلس بين السجدتين، فنصب قدميه وجعل صدور القدمين على الأرض مستقبلا بها القبلة وإليته على العقبين، وهذا ليس بالإقعاء المنهي عنه، فقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وأنه من السنة فلا حرج فيه، وإنما الإقعاء المنهي عنه أن يجعل طرفي القدمين ويفضي بإليتيه إلى الأرض، فهذا الصورة للإقعاء.
الصورة الثانية: أن ينصب رجليه، ثم يفضي بإليتيه إلى الأرض.
الصورة الثانية: أن تكون بطون القدمين إلى الأرض، وتلتصق العقبان بالإلية، هذه كلها صور للإقعاء المنهي عنه.أما لو نصب واستقبل بأطراف أصابعه القبلة؛ فإن هذا ورد فيه حديث ابن عباس أنه من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: [ويداه على فخذيه] أي: تكون يدا المصلي على الفخذين، وهذه جلسة التشهد، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل هذا الفعل، فشرع رحمه الله في الصفة الفعلية، فجلسة التشهد تحتاج إلى فعل وقول، أما الفعل فشيء منه يتعلق بمؤخر الإنسان وشيء يتعلق بمقدمه، فالذي يتعلق بمؤخره فقد ذكرناه من افتراش اليسرى ونصب اليمنى، واستقبال القبلة بأطراف أصابع اليمنى.أما ما يتعلق بمقدمه فنبدأ بوضع اليد اليسرى،
وفيه ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
قال بعضهم:
يلقمها ركبته كما جاء في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه ألقم ركبته،
والإلقام: أن تجعلها بمثابة الفم على الركبة، كأن نصفها على آخر الفخذ، ونصفها الذي هو أطراف الأصابع ملتصق بظاهر الركبة، وهذه الصورة تعرف عند العلماء بصورة اللقم.
الوجه الثاني: أن يجعل رءوس أصابعه عند ركبته مستقبلا بها القبلة.
الوجه الثالث: أن تكون على الفخذ، بمعنى أنها لا تكون قريبة من الركبة، وإنما تكون على الفخذ.هذه ثلاثة أوجه للعلماء رحمة الله عليهم.واليد اليسرى بالإجماع أنه لا يشرع التحريك فيها،
والأصل في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر على الرجل وهو يشير بإصبعيه قال: (أحد أحد) أي: اجعله واحدا، فنهى عن رفع إصبعه الثانية؛ فدل هذا على أنه ليس من السنة أن يشير بالأصبعين من اليدين، وإنما يقتصر بالإشارة على الكف الأيمن.
قال رحمه الله: [يقبض خنصر يده اليمنى وبنصرها] بالنسبة للوسطى مع الإبهام يحلق بهما، ويشير بالسبابة.
والسبابة: هي ما بين الإبهام والوسطى،
فالعرب تسمي أصغر الأصابع: الخنصر؛ ثم التي تليها البنصر، ثم الوسطى، ثم السبابة، ثم الإبهام، والسبابة سميت بذلك لأن الإنسان عند السب أو اللعن -والعياذ بالله- مع شدة الغضب يشير بها، كالمتوعد، ووصفت بهذا وأصبح اسمها، فيقبض الخنصر والبنصر، ثم يحلق ما بين الوسطى والإبهام، ويشير بالسبابة.
[ويحلق إبهامها مع الوسطى ويشير بسبابتها في تشهده]
بعض العلماء يرى أنها تكون كالدائرة،
وقال بعضهم: أن يجعل طرف الإبهام عند منتصف السبابة،
وهذا مبني على رواية: إحدى وخمسين، بناء على حساب العرب في عد الأصابع.وبعضهم يرى أنه يكون جامعا بها على هذه الصفة، بحيث تجتمع الأنملة العليا من الوسطى مع طرف الإبهام، وهذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحليق، وثبت عنه في الأحاديث الصحيحة،
ويشير بالتوحيد عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (أحد) والسبب في هذا أن الأصل عدم التحريك؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسكنوا في الصلاة) وقال تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة:238].
قالوا: الأصل السكون وعدم الحركة والكلام حتى يدل الدليل على حركة وكلام معتبر، فلما جاء الدليل ووجدنا أنه عليه الصلاة والسلام أمره بالتوحيد، فدل ذلك على أنه عند الشهادة، وهذا على الأصل،
ولذلك قالوا: يرفعها عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) وهذا هو أوجه الأقوال وأعدلها وأقربها إلى السنة إن شاء الله تعالى.
وللعلماء في هذه الإشارة أوجه: منهم من يرى أنه يشار بها شديدا،
يعني: بقوة، ومنهم من يرى أنها لا تشد ولا ترخى وإنما يتوسط فيها، كما جاء في حديث ابن عمر عند البيهقي وغيره؛
ولذلك قالوا: منكتا بها إلى الأرض، وهذا أولى الأقوال، ولو فعل الأول فلا حرج، لكن أولى الأقوال أنه ينكت بها إلى الأرض، ويرمي ببصره إليها، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينظر إليها كما في حديث السنن.
إذا: ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجعل مرفقه عند فخذه صلوات الله وسلامه عليه، ثم يعقد خنصره وبنصره، ويحلق بالوسطى مع الإبهام ويشير بالسبابة.وهناك صورة أخرى اشتمل عليها حديث وائل بن حجر رضي الله عنه وأرضاه، وحديث أحمد في المسند، وكذلك غيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد ثلاثا وخمسين،
وهذا يعني: أن يعقد الخنصر والبنصر والوسطى، ويجعل الإبهام عند أصل الوسطى.
الصورة الثالثة: أنه يستقبل بالأصابع القبلة، ويجعل أصابعه مستقبلة القبلة، ويشير بالسبابة، وهذه الصورة اختارها بعض العلماء رحمهم الله استحسانا، من جهة استقباله للقبلة،
قالوا: لأنها هيئة الساجد.والأقوى ما ذكرناه من الصفتين أنه إما أن يحلق بين الوسطى وبين الإبهام ويشير بالمسبحة، وإما أن يعقد ثلاثا وخمسين.والسبب في ذلك أن الخنصر واحد، والبنصر الثاني، والوسطى الثالث، والعرب إذا أرادت أن تعد تعقد الإبهام إلى أصل الأصابع، فيكون فيه إشارة إلى الخمسين، فأصبح المجموع ثلاثا وخمسين.هاتان الصفتان هما أقوى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة كفه اليمنى أثناء التشهد.أما بالنسبة للكف اليسرى فلها كما قلنا إما أن يجعلها على فخذه، وإما أن يجعل أطراف أصابعه عند ركبته، وإما أن يلقم بها الركبة، وكل قد جاءت به سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.وأما الإشارة باليسرى فإنه لم يثبت بها دليل، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس وغيره أنه رأى رجلا يشير بإصبعيه يدعو بهما،
فقال عليه الصلاة والسلام: (أحد أحد) وهو حديث عند النسائي، وهذا على سبيل المناسبة؛ فإن الله واحد؛ ولذلك جعل الإشارة بتوحيده بالإصبع الواحدة، ولم يجعله بإصبعين، حتى تكون هناك مناسبة بين العدد الذي يشير به وبينما يدل عليه.
[حكم الإشارة بالإصبع في التشهد]
الإشارة في الصلاة للعلماء فيها ثلاثة أوجه: منهم من قال: يشير ولا يحرك، وهذا بناء على ما ثبت في حديث ابن عمر وحديث وائل رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بها، وكلها أثبتت الإشارة دون تحريك.
وأما التحريك فقالوا: أخذوه من حديث ابن الزبير (يدعو بها) قالوا: والدعاء بها يقتضي التحريك، وجاءت أحاديث -لم يخل حديث منها من كلام، وقد أشار الذهبي وغيره إلى ضعفها-
أنها مذعرة للشيطان أي: أنها تصيب الشيطان بالذعر، ولكن لم يصح في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث إما منكرة أو موضوعة.
والذين قالوا بالتحريك ينقسمون إلى طائفتين: طائفة تقول: يبتدئ الدعاء بالرفع، فيجعل الرفع عند ابتداء كل دعاء، وعلى هذا إذا قال: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا والممات) ابتدأ الرفع عند قوله: (اللهم) وكلما ابتدأ دعاء رفع إصبعه سائلا الله عز وجل الإجابة.
هذا بالنسبة لمذهب من يقول: يدعو بها؛
أي: أنه يحركها عند ابتداء كل دعوة.والقائلون بهذا القول كأنهم يرون أن الأصل هو ثبوت الإصبع،
فقالوا: يدعو بها؛ ويتقيد تحريكها بالدعاء.لكن يشكل عليهم لفظ الشهادة، فإنه لا يشتمل على السؤال، ولا يشتمل على الدعاء؛
فالذين يقولون: تثبت دون تحريك أي: من عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) يبقى مشيرا بها ومنكتا إلى الأرض، كما في حديث ابن عمر عند البيهقي وغيره، وعلى هذا تثبت إلى نهاية الصلاة.
وأما الذين يقولون بالتحريك فيقولون: يبتدئ تحريكها عند الشهادة فيشير ثم يقبض،
فإذا ابتدأ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لاشتمالها على نوع من الدعاء: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) فيحرك عند ابتداء كل صلاة؛ لأنها دعاء ومسألة.والذين قالوا بالتحريك المطلق -وهو أضعف الأقوال، وهو القول الثالث-
قالوا: إنه يشير بها،
أي: يحركها سواء كان في ابتداء الدعاء أو أثنائه.وأقوى هذه الأقوال أنه يشير بها ولا يحركها؛
وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اسكنوا في الصلاة) وقوله: (يدعو بها) متردد بين شهادة التوحيد وبين أن يبقى مشيرا بها،
فنقول: إن من رفعها أثناء دعائه فكأنه داع بها؛ ولذلك ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا خطب لا يزيد على الإشارة بها صلوات الله وسلامه عليه.
[التشهد الأول والصيغ الواردة فيه]
قال رحمه الله تعالى: [ويقول: (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله).هذا التشهد الأول] التشهد -كما قلنا- يشتمل على فعل وقول، ففرغ رحمه الله من هيئة المتشهد، ثم شرع في أذكار التشهد، والسبب في تقديمه للأفعال والأوصاف على الأقوال أن أول ما يبتدئ به المتشهد أن يهيئ مجلسه للتشهد، فابتدأ بهيئة الجلوس، ثم أتبعها بذكر الجلوس، وذكر التشهد يبتدئ بالتحيات.وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم صيغ للتشهد، منها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي ذكره المصنف.ومثله حديث عبد الله بن عمر، وحديث أبي موسى الأشعري مع اختلاف يسير، وهناك صيغ أخرى منها تشهد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وتشهد عمر بن الخطاب.فأما الإمامان أحمد وأبو حنيفة فاختارا تشهد ابن مسعود هذا،
والسبب في ذلك أنه قال: (علمني النبي صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه) إشارة إلى القرب واتصال الرواية، ولأن ألفاظ تشهد ابن مسعود جاءت متناسقة، ولم يحدث بينها اختلاف، ولأن هذا التشهد علمه غير واحد من السلف،
فلذلك قالوا: إنه أفضل صيغ التشهد.
وقيل بتشهد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله)، وهناك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما،
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله)،
وفي رواية: (الطيبات) بدون (لله)،
وفي رواية: (الطيبات لله، والصلوات لله)، وكلتاهما روايتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم.فاختار الإمام الشافعي تشهد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واختار الإمام مالك رحمه الله تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد بين المحققون -ومنهم الإمام الحافظ ابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما قرره في القواعد النورانية، وابن عبد البر في الاستذكار، وكذلك الإمام ابن القيم رحمه الله في غير ما موضع من كتبه- أن الأمر واسع، فإن شئت تشهدت بتشهد ابن مسعود، أو بتشهد عبد الله بن عباس، أو بتشهد عمر بن الخطاب.وكأنهم يرون أن هذا الخلاف إنما هو من اختلاف التنوع، وليس من اختلاف التضاد، فالأمر واسع، فإن شئت تشهدت بهذا، وإن شئت تشهدت بهذا، واستحب بعض العلماء أن يكثر من تشهد عبد الله بن مسعود وذلك لقوة رواياته، ولكن ينوع في بعض الصلوات بالتشهد الآخر الوارد عن عمر وعن عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع.ومعنى: (التحيات) أي: البقاء والدوام لله عز وجل.
ومعنى: (والصلوات) أي: الثناء على الله سبحانه وتعالى، والأدعية مختصة بالله عز وجل لا تكون لغيره.
وقوله: (والطيبات) وصفها بالطيب؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا سبحانه وتعالى.و (المباركات) من البركة، وأصل الشيء المبارك: الكثير الخير والنماء والزيادة، فالبركة هي النماء والزيادة والخير الكثير.
وقوله: (السلام عليك أيها النبي) جاء في الرواية عنهم أنهم رضي الله عنهم لما توفي عليه الصلاة والسلام كانوا يقولون: (السلام على النبي)،
وقال بعض العلماء: يبقى على اللفظ الوارد؛ لأنه هو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة فيقتصر عليه، وإن قال الإنسان: (السلام على النبي) فلا حرج.
فالذين قالوا إنه يقول: (السلام عليك أيها النبي) قالوا: إن كاف الخطاب لا يشكل عليها وفاته عليه الصلاة والسلام؛ لأن الصحابة كانوا يسافرون، وكانوا يبتعدون أحيانا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حال حياته، ومع ذلك لم يغيروا هذا اللفظ، فيبقى هذا اللفظ على ما هو عليه لا يختلف في حياته وموته صلوات الله وسلامه عليه، ولا شك أن هذا المذهب من جهة الاتباع والقوة في التأسي من حيث اللفظ الوارد هو أقوى، وذلك لأن التحيات ذكر مخصوص، وينبغي أن يلتزم فيه المصلي ما ورد، وأما اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم فهذا منهم، فلهم أجرهم على الاجتهاد، ولكن الأقوى والأولى ما ذكرناه.
وقول: [السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين] في التشهد لأنهم كانوا في القديم يسلم بعضهم على بعض عند انتهاء الصلاة، فأبدلهم الله عز وجل بهذا، وكانت هي الصلاة المدنية؛ فعندما كان يسلم بعضهم على بعض، ويشير بعضهم على بعض لبعدهم قال صلى الله عليه وسلم: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة)، فنهاهم عن هذا السلام، وأبدلهم الله بقول: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، وقد ورد في الخبر أنه لا يبقى عبد لله صالح إلا أصابه هذا السلام، إذا قال المصلي: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، وفيه دليل على فضل صلاح الإنسان.
قال بعض العلماء: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) عامة تشمل كل مسلم.
وقال بعضهم: بل تختص بمن زاد خيره وزادت طاعته، فهو المختص بهذا التسليم من المصلين إظهارا لشرف الصلاة والزيادة في الهداية، فكلما زادت هداية الإنسان وازداد صلاحه وخيره كان عليه سلام من المصلين، فمن صلى نفلا أو فرضا أصابه هذا التسليم من عباد الله المصلين، وهذا فضل عظيم وخير كثير.
وأما قول: [أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله] لقد جاء في الرواية الثانية: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له -بزيادة (وحده لا شريك له- وأشهد أن محمدا رسول الله)،
وجاء في رواية أيضا: (محمدا عبده ورسوله)، وكل هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [هذا هو التشهد الأول] لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبع كلمات وهي تحية الصلاة)، وهو حديث عند مسلم وغيره،
قالوا: هو التشهد الأول؛ لأن التشهد تفعل من الشهادة،
فمن بلغ إلى قوله: (أشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) فقد انتهى من تشهده الأول، وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنها لا تكون في التشهد الأول على أصح أقوال العلماء، وهو مذهب الجمهور، خلافا لمن قال إنها تكون في التشهد الأول.والسبب في ذلك أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء إنما يكون في التشهد الثاني لا في التشهد الأول، وقد اختلف في حديث النسائي وغيره الذي فيه ما يدل على أنه يدعو في التشهد الأول، ولذلك خطأ بعض العلماء هذه الرواية، وقوى أن الدعاء إنما هو في التشهد الثاني،
وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لمن انتهى من صلاته: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)، فالتشهد الأخير هو تشهد المسألة والدعاء، وأما التشهد الأول فإنه لا يدعا فيه،
ولذلك جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (كان إذا جلس في التشهد الأول قام كأنما كان على الرضف)، وهو الحجارة المحماة، وهذا إشارة إلى أنه كان يستعجل، ولم يكن يطيل جلوسه للتشهد الأول.ولذلك قالوا: السنة أنه لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره عليه الصلاة والسلام بالصلاة عليه في هذا الموضع، فيقتصر على التشهد، وقد سموه تشهدا واسمه دال عليه، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك،
قالوا: فتسمية النبي صلى الله عليه وسلم له تشهدا تدل على أنه يقتصر فيه على قول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله).فالخلاصة أن ما قلنا هو أقوى الأقوال،
هناك قول ثان: أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك قول ثالث: أنه يشرع له الدعاء.ولكنه قول ضعيف عند العلماء للاختلاف في ثبوت الرواية بدعائه عليه الصلاة والسلام؛ لأن المحفوظ عدم دعائه، وسرعة قيامه إلى الركعة الثالثة.
[الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الثاني]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد].هذه هي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولها صيغ عديدة، واختار المصنف رحمه الله منها هذه الصلاة، وهي صحيحة ثابتة، فهذه الصلاة لها أكثر من عشر صيغ ثابتة في الكتب الستة عن النبي صلى الله عليه وسلم.وأي صلاة صلى بها فإنها مجزئة، لكن المعتبر منها الصلاة الإبراهيمية التي اختارها المصنف رحمة الله عليه، وقد دل عليها حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه.
[حكم الاستعاذة من النار والقبر بعد التشهد الثاني]
قال رحمه الله تعالى: [ويستعيذ من عذاب جهنم وعذاب القبر] أي: يسأل الله أن يعيذه من عذاب جهنم، والتعوذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال أربع كلمات،
اختلف العلماء فيها على وجهين: فمنهم من قال: يستحب للمصلي أن يتعوذ من هذه الأربع: من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن عذاب القبر، ومن عذاب جهنم.
والسبب في ذلك أمره عليه الصلاة والسلام على سبيل الندب لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)،
فقوله: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء) يدل على الندب والاستحباب، وأنك تقول هذا الدعاء على سبيل الأفضلية لا على سبيل اللزوم.
وهناك قول ثان يقول: يجب على المصلي أن يتعوذ بالله من هذه الأربع، ويلزمه بها، وهو قول بعض فقهاء الظاهرية كما اختاره ابن حزم، بل شدد بعضهم -ويوافقه بعض أهل الحديث رحمة الله عليهم-
فقال: من لم يتعوذ بالله من هذه الأربع تبطل صلاته.والصحيح أنها مندوبة مستحبة، وليست بلازمة واجبة؛ لدلالة السنة على صرف الأمر عن ظاهره من الوجوب إلى الندب، والقاعدة في الأصول أن الأوامر تبقى على ظواهرها من الدلالة على الوجوب ما لم يقم الصارف على صرفها عن ذلك الظاهر.
وقد قام الصارف في قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)، فوسع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقيد.وهذه الأربع -كما يقول العلماء- اشتملت على شرور الدنيا والآخرة؛ فإن الإنسان يأتيه الشر من فتنة المحيا، وقد يؤخر الله عنه البلاء فيكون في فتنة الممات،
والأمر الثالث: البرزخ،
والرابع: عذاب جهنم.
قال بعض العلماء: فتنة الممات ما يكون عند سكرات الموت، نسأل الله أن يلطف بنا فيها.فالإنسان المسلم الموفق السعيد يخشى من هذه الأربعة المواضع.
الموضع الأول: فتنته في حال حياته، فمادامت روحه في جسده فإنه معرض للفتن، حتى ولو بلغ أعلى درجات الصلاح فإنه لا يأمن أن يمسي مؤمنا فيصبح -والعياذ بالله- كافرا، ولا يأمن أن يصبح مؤمنا ويمسي كافرا،
ففي الحديث: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) نسأل الله السلامة والعافية.فإذا كان حيا فإنه يخاف من فتنة المحيا، وكم من إنسان كان على خير فانعكس حاله -والعياذ بالله- إلى الشر بسبب طول حياته إلى زمان الفتن، ولذلك كان بعض العلماء -رحمة الله عليهم-
من مشايخنا يقول: كنت أسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمره بالتعوذ من فتنة المحيا والممات، وكنا نتعوذ، ونسأل الله أن يعيذنا، ولكن لم نعرف ولم نجد أثر ذلك إلا بعد رؤية الفتن،
فعلمنا فضل هذا الدعاء: (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)، وكم من إنسان يتمنى العيش إلى دهر يسوءه ولا يسره ولا ينفعه، بل يضره، نسأل الله أن يلطف بنا وبكم.
الموضع الثاني: إذا سلم في حياته فقد يبتليه الله قبل موته، فيختم له بخاتمة السوء، ولذلك قد يتخبط الشيطان الإنسان عند سكرات الموت -والعياذ بالله-
فقال صلى الله عليه وسلم: (وفتنة الممات)، فيسأل الله أن يلطف به في فتنة الممات، وأن يجعل خاتمته على خير؛ فإنه قد يموت الإنسان على خاتمة السعداء، وقد يموت على خاتمة الأشقياء، ولذلك ثبت في الحديث أن رجلا طعن يوم أحد فسالت دماؤه فاستعجل الموت -والعياذ بالله- فطعن نفسه فقتل فمات قاتلا لنفسه.فعلى الإنسان أن يسأل الله أن يلطف به، خاصة عند سكرات الموت وشدته، فإن سلم من فتنة المحيا والممات فإنه قد تكون هناك ذنوب وخطايا منه لم يغفرها الله سبحانه وتعالى لعدم وجود التوبة النصوح منه، فيبتليه بفتنة القبر،
فقال صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك من عذاب القبر)، فإن سلم من فتنة المحيا ومن فتنة الممات، ومن فتنة القبر فإنه يحتاج إلى أن يسلمه الله من عذاب جهنم.
ثم بعد هذه الفتن الأربع هناك فتن خاصة وهي التي عناها بقوله: (فتنة المسيح الدجال)، فالفتن منها ما هو عام، ومنها ما هو خاص، فاستعاذ من فتنة المحيا العامة، ثم شرع في فتنة المحيا الخاصة وهي فتنة المسيح الدجال، وهي من أعظم الفتن، وسمي مسيحا لأنه يمسح الأرض، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه لا يدع موضعا من الأرض إلا وطئه، إلا ما يكون من المدينة، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث تميم الداري -
أنه: (على كل نقب من أنقابها ملائكة يحرسونها، فلا يستطيع أن يدخلها، وإنما ترجف فيخر المنافقون إليه في السبخة من أرض الجرف،
ويمكث أربعين يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، ويوم كسائر أيام السنة).وتعظم فتنته،
حتى ثبت في الحديث الصحيح أنه يمر على الأرض الخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها تتبعه كيعاسيب النحل،
أي: من الذهب والفضة وما فيها من الكنوز، فيفتن الناس به فتنة عظيمة، ويدعي أنه الله، ويعظم بلاؤه، وله جنة ونار، فناره جنة وجنته نار، حتى يكتب الله عز وجل للمؤمنين السلامة من فتنته بنزول عيسى ابن مريم عليه السلام وقتله للمسيح، كما ثبتت بذلك الأخبار في الصحيحين.
وأما عذاب القبر فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (دخل على عائشة، وكانت قد دخلت عليها يهودية فأطعمتها أم المؤمنين عائشة،
فقالت لها اليهودية: أعاذك الله من عذاب القبر، فعجبت عائشة من قولها، فلما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته،
فقال عليه الصلاة والسلام: أشعرت أن الله أوحى إلي أنكم تفتنون في قبوركم؟!
قالت أم المؤمنين: فما سمعته صلى صلاة إلا واستعاذ بالله من عذاب القبر).
وفي الحديث الصحيح من حديث البراء عند أحمد في مسنده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في جنازة أنصاري، فجلس -لكي يلحدوا له-
قال: وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا)، ثم ذكر الحديث، فالشاهد من هذا أنها فتنة عظيمة تكون للإنسان في قبره، ويستعيذ الإنسان منها لكي تحصل له من الله السلامة، فنسأل الله أن يعيذنا من هذه الفتن ما ظهر وما بطن.
قال رحمه الله: [ويدعو بما ورد] أي: يسأل الله عز وجل من خير الدنيا والآخرة بما ورد، فيسأله العافية في دينه ودنياه وآخرته، ويقول الدعاء المأثور -كما في حديث أنس -: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)،
ومن أفضل الدعاء الدعاء بجوامع الكلم كقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى)،
وكقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر).فإن هذه الخمس الكلمات تجمع للإنسان سعادة الدنيا والآخرة، فمن أعطاه الله هذه الخمس فقد أعطاه السعادة بعينها.فهذا اختيار جمع من العلماء وهو أنه يقتصر في دعائه على ما ورد،
وقالوا: لا يدعو بأدعية الدنيا،
كأن يقول: اللهم إني أسألك دابة سريعة، أو زوجة جميلة، أو دارا فسيحة، ونحو ذلك.
وقالوا: إنما يدعو بما ورد، ورخص بعض العلماء في الدعاء؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثم يتخير من المسألة ما شاء)، وهذا في الحقيقة أقوى لظاهر دلالة السنة، ولكن أجمع العلماء على أن الأفضل للإنسان أن يدعو بما ورد؛
لأنه إذا دعا بما ورد كان له أجران: أجر الدعاء وأجر الاقتداء والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم،
ولذلك يقال: الأفضل الاقتصار على ما ورد،
ولا يقال: إنه يمتنع عليه الدعاء بغير ما ورد، لثبوت السنة بالإقرار.
[السلام من الصلاة والأحكام الواردة فيه]
قال رحمه الله: [ثم يسلم عن يمينه: (السلام عليكم ورحمة الله) وعن يساره كذلك] السلام يحتاج إلى فعل وذكر، فأما هديه عليه الصلاة والسلام فكان يلتفت حتى يرى بياض خده، وهذا البياض للخد سببه أنه كان يلبس العمامة صلوات الله وسلامه عليه فلا يمنع رؤية الخد شيء، فإذا وضع صلوات الله وسلامه عليه ذقنه على كتفه بدا خده، وبعض طلاب العلم يخطئ عند تطبيق هذه السنة، فإنه ربما يكون عليه غطاء رأسه فيتكلف حتى ينحرف عن القبلة بجذعه، فتجده بحرف صدره كأنه يريد أن يري الناس خده، وهذا لا شك أنه يريد الخير والتأسي ببيان خده كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن خفي عليه أن خد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستره شيء؛ لذلك ينبغي لمن أراد أن يطبق هذه السنة أن يثبت؛ لأنه مطلوب منه أن يكون مستقبل القبلة، فالانحراف والحركة من الأمور التي شدد فيها العلماء رحمة الله عليهم،
بل كان يقول بعض العلماء: إذا انحرف انحرافا لأغلب الجذع فإنه لا يؤمن أن تبطل صلاته؛ لأنه انحرف عن القبلة قبل تمام صلاته.فهذا ينبغي التنبيه عليه ويخطئ فيه كثير، بل من طلاب العلم من يخطئ فيه.فلذلك يثبت الإنسان مستقبل القبلة بصدره، ثم يحرف رأسه ويجعل ذقنه على الكتف، فهذه هي السنة في السلام الكامل، وأما المبالغة في الحركة والانحراف، فليست من السنة في شيء، ولذلك يشدد فيها ويمنع منها.وكان عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من تسليمه عن اليمين سلم عن يساره، فابتدأ باليمين تشريفا لها، ثم سلم عن يساره صلى الله عليه وسلم.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (83)
صـــــ(8) إلى صــ(14)
[صيغ السلام الثابتة في السنة]
أما الذكر القولي فهناك أربع صيغ للسلام:
الصيغة الأولى: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) عن اليمين، (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليسار.
الصيغة الثانية: (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليمين، (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليسار.وهي الصيغة المشهورة والموجودة الآن.
الصيغة الثالثة: (السلام عليكم ورحمة الله) عن يمينه، (السلام عليكم) عن اليسار.
الصيغة الرابعة: (السلام عليكم) عن يمينه.فهذه أربع صيغ ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، سلم تسليمتين فجعلها كاملة، وجعلها كاملة عن اليمين ناقصة عن اليسار، وجعلها أيضا متساوية في اليمين واليسار.والتسلي يعتبر من أركان الصلاة على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، خلافا للإمام أبي حنيفة رحمه الله الذي لا يرى وجوب التسليم، ويقول: لو أن المصلي خرج من الصلاة بصنعة فإنه يعتبر خارجا من الصلاة؛
لقوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك) ولم يأمره بالتسليم.
والصحيح أنه لازم لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه الثابت عنه: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)،
فلما قال: (تحليلها التسليم) دل على أن المصلي لا زال في حرماتها حتى يسلم.واحتج الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه أيضا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي،
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وقضى تشهده ثم أحدث فقد تمت صلاته)، وهو حديث ضعيف، والصحيح ما ذكرناه من لزوم السلام ووجوبه.وأصح الأقوال عند العلماء أن السلام مخير فيه، فإن شاء سلم تسليمتين، وإن شاء سلم تسليمة واحدة، ولكن إذا كان مأموما يرى التسليمتين، وصلى وراء إمام يسلم تسليمة واحدة يسلم وراءه تسليمة واحدة، وإن كان مأموما يرى التسليمة الواحدة، وصلى وراء إمام سلم تسليمتين فإنه يسلم من ورائه تسليمتين.
قال بعض العلماء: الواجب في التسليم الأولى، والثانية سنة،
وقال بعضهم: الواجب التسليمتان.
فإن قلنا: الواجب التسليمتان، أو قلنا الواجب التسليمة فالحكم يختلف.وفائدة ذلك أنه لو قلنا الواجب تسليمة واحدة، فإن سلم الأولى ثم أحدث فإن صلاته صحيحة على القول بأن الواجب هي التسليمة الأولى.
وكذلك لو قلنا: إن الواجب التسليمة الأولى.فإذا سلم التسليمة الأولى، وقبل أن يسلم الثانية مرت امرأة، أو مر كلب أو مر حمار فإنه على القول بأن الصلاة تقطع يعتبر بتسليمته الأولى قد خرج من الصلاة وصحت صلاته.أما على القول بأن الواجب تسليمتان فلا.
ومن فوائد هذا الخلاف أننا إذا قلنا: الواجب التسليمة الأولى فمعنى ذلك أنك لو صليت وراء إمام وفاتتك ركعة فأكثر، وسلم الإمام التسليمة الأولى، فإنك تقوم مباشرة؛ لأنك مأمور بواجب، فلا تتوقف على السنة،
قالوا: ولا ينتظر التسليمة الثانية، كما اختاره غير واحد من أهل العلم، ومنهم الإمام العز بن عبد السلام، وطائفة من أصحاب الشافعي رحمة الله عليه،
فقالوا: لا يجلس؛ لأن جلوسه تحصيلا للسنة،
وقد أمر بالإتمام لقوله عليه الصلاة والسلام: (وما فاتكم فأتموا)،
قالوا: فلذلك لا يشتغل بالسنة عن الفرض اللازم عليه.هذا حاصل ما ذكر في تسليم المصلي من صلاته.
مسائل متفرقة في الصلاة
[التكبير ورفع اليدين عند القيام إلى الثالثة]
قال رحمه الله تعالى: [وإن كان في ثلاثية أو رباعية نهض مكبرا بعد التشهد الأول] أي: إن كان المصلي في ثلاثية كالمغرب، أو رباعية كالظهر والعصر والعشاء نهض مكبرا إلى الركعة الثالثة،
وقوله: (مكبرا)،
أي: حال كونه مكبرا يقول: الله أكبر، فإن استتم قائما رفع يديه مشيرا بها كالحال في تكبيرات الركوع والرفع من الركوع.وهذا هو الموضع الرابع الذي يشرع فيه رفع اليدين كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر في صفة رفعه صلوات الله وسلامه عليه يده في الصلاة.
قال رحمه الله تعالى: [وصلى ما بقي كالثانية بالحمد فقط] قوله: [كالثانية] أي: كما وصفنا في الركعة الثانية، لا كما وصفنا في الركعة الأولى؛ فإنه في الثالثة والرابعة يفعل ما يفعل في الثانية، لكن يقتصر في الثالثة والرابعة على سورة الفاتحة إلا الظهر، وهذا فيه حديث ابن عباس،
فإن السنة أن يقرأ بسورة: {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1] في الركعة الثالثة، و {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] في الركعة الرابعة، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنه.
وقال بعض العلماء: يقاس على الظهر العصر، ففي الأخريين من العصر يقرأ بسورتي الإخلاص.وهذا محل نظر، فإن الأقوى أن يقتصر على الوارد، ويقال بسنيته في الظهر، ويضعف القياس في مثل هذا.
[مسألة التورك في التشهد الأخير]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يجلس في تشهده الأخير متوركا] أي: إذا كان في ثلاثية أو رباعية يجلس في تشهده الأخير حال كونه متوركا.والتورك ثبت فيه حديث ابن عمر وابن الزبير رضي الله عن الجميع.
وهذا التورك للعلماء فيه ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يجعل طرف قدمه اليسرى بين الساق والفخذ قريبا من الركبة، وهذا الوجه يصعب في حال ازدحام الناس، بل قد لا يتأتى؛ لأنه يحتاج إلى انفراج الإنسان قليلا حتى يتمكن من إدخال قدمه اليسرى بين ساقه وفخذه قريبا من الركبة.
الوجه الثاني: أنه يؤخرها حتى يقترب من الإلية.
الوجه الثالث: أنه ينزلها ويجعلها تحت الساق،
وتكون على صورتين: الأولى تكون فهيا مقدمة،
بمعنى: قريبة من الركبة.
والثانية: تكون مؤخرة بحيال القدم المنصوبة.فهذه كلها أوجه في التورك لا حرج على الإنسان أن يفعل أي واحدة منها.وتشرع في الثلاثية والرباعية.
والجلوس في الصلاة على صورتين: الأولى: الافتراش، وهي أن تجعل اليسرى بمثابة الفراش، فظاهرها على الأرض وباطنها الذي يلي الأرض عند المشي يكون إلى الإليتين، وينصب رجله اليمنى، ويجعل أصابعه مستقبلة القبلة، فهذا يسمى الافتراش، وفيه حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث وائل بن حجر رضي الله عنه.
الثانية: التورك الذي ذكرناه.
والعلماء رحمة الله عليهم لهم في هذه الجلسات ثلاثة مذاهب: فمذهب يقول بتقديم الافتراش على التورك، كما هو اختيار الحنفية ومن وافقهم.ومذهب يقول بتقديم التورك على الافتراش، كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم.ومذهب يرى التفصيل، كما هو اختيار الحنابلة والشافعية، وهو الأرجح.ومذهب التفصيل هو أنه إن كان في ثنائية بعدها سلام، أو في التشهد الأول من الرباعية أو الثلاثية فإنه يفترش ولا يتورك، وإن كان في رباعية، أو في ثلاثية وجلس للسلام فإنه يتورك ولا يفترش، فهؤلاء يرون أن الافتراش يكون في الثنائية، ويكون في الجلسة الأولى من الرباعية، بمعنى أفهم يرونه في كل ركعتين، وأما التورك فيرونه لجلسة السلام.
ولذلك بعض العلماء يقول: إن كانت ثلاثية ورباعية جلس متوركا لسلامه، ويجلس مفترشا في التشهد الأول، وفي كل ثنائية.فهذا بالنسبة للمذهب الذي يقول بالتفصيل، فجمع بين الأحاديث، وقد جاء في حديث أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفترش ويتورك على حسب حاله في التشهد من كونه مسلما أو غير مسلم.
فإذا قلنا بالتفصيل فإنه قد يقال: هل التورك في الرباعية والثلاثية من أجل السلام، أم من أجل العدد؟ وهذا يتفرع عنه ما لو صلى الوتر،
فإن قلنا: إن جلوسه متوركا في الرباعية والثلاثية من أجل السلام فحينئذ يتورك في الوتر.والأقوى عندهم أنه لا يتورك؛ لأنه في الفجر لا يتورك، ومن بعده السلام؛ وبعض العلماء الشافعية يرون أنه يتورك لتشهد السلام، فيرى أنه إذا أراد أن يسلم تورك لكل تشهد من بعده سلام، وافترش لكل تشهد لا سلام بعده.
[المرأة كالرجل في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [والمرأة مثله لكن تضم نفسها وتسدل رجليها في جانب يمينها] المرأة كالرجل فيما ذكرناه من صفات الصلاة،
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما هن شقائق الرجال)، والأصل في الأحكام أن النساء فيها كالرجال حتى يدل الدليل على اختصاص الرجال، أو اختصاص النساء.
ولكن جلوسها للعلماء فيه وجهان: قال بعض العلماء: إذا جلست في التشهد فإنها تتربع ولا تفترش، والسبب في ذلك أنه أبلغ في سترها.ورووا عن بعض أمهات المؤمنين ما يدل على جلوسها متربعة، كما أثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها،
وقالوا: ما كانت لتفعله إلا وله أصل، خاصة وأن الصلاة مبناها على العبادة والتوقف.ومنهم من قال بما اختاره المصنف وهو أنها تحمل رجليها إلى جهة اليمين، والسبب في ذلك أنها إذا جعلت الرجلين إلى جهة اليمين فإنه لا يتحدد جرمها، فيكون أبلغ في سترها، ويكون غطاؤها عليها، فلا تستطيع أن تميز جرم المرأة بخلاف إذا ما جلست مفترشة.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (84)
صـــــ(15) إلى صــ(23)
الأسئلة
[الإشارة بالسبابة في التشهد وغاية انتهائها]
q إذا أشار المصلي بسبابته في التشهد عند لفظة الشهادة، فهل يبقى مشيرا إلى نهاية التشهد أم يقبضها؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد ذكرنا أن أصح شيء ما جاء في كونه يشير، ويبقى بإشارته حتى ينتهي منكتا بها إلى الأرض، وإن حركها يتأول قول من قال بذلك فلا حرج، وإن أشار بها شديدا -كما هو اختيار بعض السلف- فلا حرج، فالأمر في هذا أن كل من ثبتت عنده سنة، أو اطمأن إلى قول عالم يقول بسنة، أو يترجح عنده صحة حديث التحريك والإشارة بها ولو مترددا فلا حرج عليه؛ لأن له أصلا، والأقوى ما ذكرناه؛ لأن السنة دلت على أن الحركة لا تجوز إلا بدليل، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اسكنوا في الصلاة) فلما قال عليه الصلاة والسلام: (اسكنوا في الصلاة)، كان الأصل هو عدم التحريك حتى يدل الدليل على التحريك، فجاء الدليل يدعو بها، فنقول: إن مطلق الدعاء بها لا يستلزم الحركة كما هو معلوم.
[معنى السلام على عباد الله الصالحين في التشهد]
q ما معنى أن كل عبد صالح يصله السلام عند التسليم من عباد الله المصلين؟
a المراد بذلك أن السلام أصله الدعاء بالسلامة، فإذا قلت لإنسان: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.فمعناه: سلمكم الله من الآفات ومن الشرور، وسلمكم الله من الفتن، فتدعو له بالسلامة؛ لأن من سلم غنم، فالعبد إذا سلمه الله كان غانما وعلى خير وبر، والسلامة تكون في الدين والدنيا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يا عم رسول الله! سل الله العافية، يا عم رسول الله! سل الله العافية، يا عم رسول الله! سل الله العافية) فالعافية هي السلامة، فمن عوفي فقد سلم، فإذا قلت: (السلام عليكم) أي: سلمكم الله، وإذا قلت: (السلام علينا) أي: أسأل الله أن يسلمنا، (وعلى عباد الله الصالحين) أي: أسأل الله أن يسلمهم، فتلقي السلام عليهم، وهذا بمثابة الدعاء أن يسلمهم الله، والله تعالى أعلم.
[إذا نسي المصلي فسلم عن اليسار قبل اليمين]
q إذا نسي المصلي فسلم أولا على الشمال ثم على اليمين، فهل يلزمه سجود السهو، أم أنه خالف السنة ولا شيء عليه؟
a أما بالنسبة لتسليمه عن يساره قبل اليمين فإنه يعتبر خارجا من الصلاة بتسليم اليمين زائدا لتسليمة اليسار؛ لأن تسليمة اليسار وقعت في غير موقعها، فلذلك يعتبر أشبه بالالتفات الزائد، ولذلك اختار بعض العلماء رحمة الله عليهم أنه يسجد للزيادة، خاصة على القول بأن سجود الزيادة بعد السلام، فبعد أن يسلم يسجد سجدتين؛ لأن زيادة التسليم من جنس الصلاة، فيسجد السجدتين بعد السلام، والله تعالى أعلم.
[حكم تكبيرات الانتقال للإمام والمأموم]
q هل يجب على المأموم تكبيرات الانتقال؟
a تكبيرات الانتقال واجبة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وقد فعلها عليه الصلاة والسلام وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، والمراد بتكبيرات الانتقال: تكبيره للركوع، وتكبيره للسجود، وتكبيره للرفع من السجود، وتكبيره للسجدة الثانية، وتكبيره للقيام إلى الثانية والثالثة، فكلها وصفت بكونها تكبيرات انتقال؛ لأنه ينتقل بها من ركن إلى ركن، فلما كان قائما انتقل إلى الركوع فقال: الله أكبر، وكان ساجدا فانتقل إلى الجلوس فقال: الله أكبر.فقالوا: هذه تكبيرات الانتقال، وأصح الأقوال وجوبها، والله تعالى أعلم.
[التسليم قبل الوجه ثم الالتفات]
q ما حكم من ينطق بالتسليمة ثم يقوم بعد ذلك بالالتفات؟
a هذا قول بعض العلماء رحمة الله عليهم، ويميل إليه بعض المالكية، حيث قالوا: إن التسليم أن يسلم قبل وجهه ثم يلتفت.خاصة وأنهم يقولون بالتسليمة الواحدة، وعلى العموم فإذا اختار أحد هذا القول وعمل به فلا إنكار عليه.
[حكم من أدرك مع الإمام ركعة]
q رجل أدرك ركعة مع الإمام في صلاة المغرب، فهل يقرأ التشهد الثاني مع الإمام حتى يسلم، ثم يكمل ما فاته، أم يقتصر على التشهد الأول؟
a إذا صليت وراء إمام وأدركت شيئا من الركعات، وفاتك شيء منها، ثم جلست الجلسة الأخيرة فبعض العلماء يقول: العبرة بحاله عند ائتمامه كحال الإمام، فإذا كان مؤتما يعتبر حاله كحال الإمام، فيفعل ما يفعله من وراء الإمام، ويتفرع على هذا القول مسائل، منها: أنك لو أدركت الإمام في الركعة الثالثة من العصر تقتصر على الفاتحة، والثالثة من المغرب تقتصر على الفاتحة، والثالثة من العصر كذلك تقتصر على الفاتحة.وأما القول الثاني فإنه يقول: العبرة بالمأموم؛ لأن صلاته مع الإمام هي الأولى.فعلى القول الأول فإنه عند تشهد الإمام التشهد الأخير يعتبر حاله حال المتم، ويتشهد تشهدا كاملا، وهذا أقوى.وعلى القول الثاني يعتبر حاله وراء الإمام حال الباني، فصلاته مع الإمام هي الأولى، ويكون حاله دون حال الإمام.ومن فوائد هذه المسألة أن من أدرك الإمام في التكبيرة الثانية أو الثالثة من صلاة الجنازة، فبعضهم يرى أن العبرة بحاله، فحينئذ يبتدئ بالفاتحة، خاصة وأنها ركن في الصلاة، وحتى لو كان الإمام في الدعاء تداركا لما فات، والقول بأنه يعتبر حاله كحال الإمام أقوى، وذلك لظاهر السنة: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فإنه جعل الإتمام والبناء بعد الانفصال، وبعد الإكمال، ولذلك يقوى في هذه الحالة اعتبار حاله مع الإمام كحال الإمام، فيأتم بالإمام على الصورة التي يجده عليها.ولا يشكل على هذا قول من قال: إنه لو أدرك مع الإمام التكبيرة التي قبل الأخيرة في الصلاة على الجنازة فإنه يترك الفاتحة؛ فإننا نقول: إنه لو أدركه وصلى وراءه فإنه يدعو، فكما أنه لو أدركه راكعا، أو أدركه قبل الركوع بقليل لا يتمكن فيه من قراءة الفاتحة فإنها تسقط عنه، كذلك تسقط عنه هنا، فدل على أن مسائل الاضطرار لا تأخذ حكم الاختيار، ولا يلزم فيها بالأصل ولا يعترض به، والله تعالى أعلم.
[الدعاء في الصلاة بغير اللغة العربية]
q هل يجوز الدعاء في الصلاة بغير اللغة العربية؟
a فقد رخص بعض أهل العلم في الأمور التي هي من غير الأذكار والأدعية المخصوصة كالتشهد، فإذا كان الإنسان أعجميا ولا يسعه أن يتعلم الدعاء الوارد فله أن يدعو بلسانه ولا حرج عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يتخير من المسألة ما شاء)، ولم يقيد ذلك بلسان، لذلك قالوا: إنه لا حرج عليه.ولأن كثيرا ممن يسلمون ويكونون حديثي عهد بجاهلية لا يستطيعون الكلام، فإذا كانوا من العجم فلا يستطيعون تعلم اللغة ومعرفة اللسان العربي في الدعاء إلا بعد وقت وجهد، ولذلك وسع عليهم من هذا الوجه، فلا حرج عليه أن يدعو بدعائه سواء أكان بعد انتهاء تشهده أم في حال سجوده، والله تعالى أعلم.
[حكم التسليمتين في صلاة الجنازة]
q نرى من يسلم في صلاة الجنائز عن اليمين والشمال، فما حكم التسليم عن الشمال؟
a المحفوظ التسليمة الواحدة، وحكى بعض أهل العلم التسليمة الثانية، لكني لا أحفظ في ذلك حديثا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأل، فإذا كان عنده حجة ودليل ثابت في هذا، فحينئذ لا إشكال، وإلا الأصل في التسليم المتابعة وعدم إحداث سلام زائد على ما ورد.
[قول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) وخلاف العلماء في محله]
q هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) بعد التشهد؟
a نعم، فهذا اختيار بعض العلماء لقوله عليه الصلاة والسلام: (يا معاذ! إني والله لأحبك.فقال معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله.وأنا والله أحبك، فقال: أوصيك يا معاذ ألا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).فقال بعض العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: (دبر كل صلاة) إن دبر الشيء منه.فقالوا: تدعو بهذا الدعاء بعد التشهد، فتقول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).وقال بعض العلماء: إنه يدعو به خارج الصلاة وهو أقوى، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).وبالإجماع فإن هذه الأذكار تكون بعد الفراغ من الصلاة، وقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بكونها دبر الصلاة، قالوا: قد عرف في اللسان العربي أنه يوصف الشيء بحكم قربه من غيره، ولذلك يقولون: إن قوله: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) إنما يكون بعد الانتهاء من السلام، وهذا المذهب أقوى لوجود النظير الدال عليه، ولأن الأصل أن لا يدخل في الصلاة إلا بدليل، فإذا فعله الإنسان في أثناء التشهد لا ينكر عليه، وإن فعله بعد انتهائه من السلام فهو الأولى والأحرى، والله تعالى أعلم.
[ضابط صلاة الإشراق]
q هل ينبغي لمن جلس إلى الإشراق أن لا يتحرك من مكانه الذي صلى فيه؟ أم أن المقصود بالمصلى المسجد عامة؟
a أما بالنسبة لصحة الحديث الوارد في ذلك والقول بثبوته أو تصحيحه لغيره.فهو يتوقف على مجموع طرق الحديث، والمعتبر بالتحسين منها كله بلفظ: (في مقعده)، (في مصلاه)، والقاعدة أن الإضافة تقتضي التخصيص؛ فإن معنى (مقعده) أي: مكان جلوسه، و (مصلاه) أي: مكان صلاته، ولذلك المحفوظ من كلام أهل العلم أن المراد بمقعده ومصلاه نفس المكان، حتى ولو قام يريد أن يأخذ المصحف فإنه لا يعتبر له هذا الفضل فإنك لو تأملت أن فضل ذلك حجة وعمرة تامة تامة فإنه ليس باليسير، وهذا أمر ينبغي للإنسان أن يجتهد فيه، ولذلك كلما كان الفضل أعظم والأجر أكثر كان الابتلاء أكثر وأعظم، ولذلك ابتلي بأن يثبت في نفس المصلى.ثم إنه ينبغي عليه أن يكون ذاكرا لله؛ إذ بعضهم يجلس وينام، وربما يتكاسل حتى تصيبه السنة من النعاس، ويغفل عن ذكر الله عز وجل، فقد شدد بعض العلماء حتى قال: لو أنه تكلم في فضول الدنيا فإنه لا يؤمن أن يفوته الفضل وهذا أقوى.واعترض على هذا القول بما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس بعد صلاة الفجر فيحلق عليه الصحابة، فيأخذون فيما كانوا فيه من أمور الجاهلية -أي: يتحدثون بما كانوا عليه من الجاهلية- فيضحكون ويتبسم النبي صلى الله عليه وسلم.قالوا: فهذا يدل أنه لا حرج أن يتكلم في أمور الدنيا، ولكن هذا الاعتراض ضعيف؛ لأن الكلام كان من الصحابة، ولم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم.والأمر الثاني: أنهم كانوا يتحدثون بما كانوا عليه من أمور الجاهلية على سبيل ذكر نعمة الله عليهم، فكان عبادة من هذا الوجه، فإنهم يذكرون ما امتن الله عليهم بنعمة الإسلام، فيكون التحدث بما كانوا عليه في الجاهلية على سبيل الإشعار بفضل الله عليهم بالهداية للإسلام، ولذلك كان التحدث بالنعم شكرا لله عز وجل، فهو ذكر وطاعة من هذا الوجه.فالذي تطمئن إليه النفس أن يبقى قارئا للقرآن، أو مسبحا، أو مهللا، أو مكبرا، أو مستغفرا، أو قائلا لأذكار الصباح، أو أذكار المساء، ويجلس في ذكر وطاعة، وهذا يحتاج إلى جهاد وصبر حتى ينال فضل الحجة والعمرة التامة التامة.وأما القول بأن مصلاه المسجد كله فلا أحفظ أحدا من العلماء من السلف رحمة الله عليهم يقول به، وخاصة أن ظاهر الحديث لا يساعد عليه، فالقول بأن مصلاه المراد به المصلى كله من باب التجوز، والأصل حمل اللفظ على حقيقته بقيد (مصلاه) أي: مكان صلاته، كما يقال: مسجده أي: مكان سجوده، وهذا هو الأقوى والأشبه بلفظ الحديث، والله تعالى أعلم.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (85)
صـــــ(1) إلى صــ(9)
شرح زاد المستقنع - فصل: مكروهات الصلاة
المكروه هو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وفي الصلاة مكروهات لا ينبغي فعلها؛ لأنها تنقص من الخشوع والإقبال على الصلاة،
ومنها: الالتفات، ورفع البصر إلى السماء، وإغماض العينين، والإقعاء في الجلوس، وافتراش الذراعين في السجود، والعبث، والتخصر، والتروح، وفرقعة الأصابع، وتشبيكها، والصلاة مع وجود البول، أو الطعام، وتكرار سورة الفاتحة.
[مكروهات الصلاة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد:
[الالتفات]
فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ويكره في الصلاة التفاته] بعد أن فرغ المصنف رحمه الله من بيان صفة الصلاة المشروعة الكاملة، وشرع الآن في بيان ما يكره للإنسان أن يفعله في الصلاة،
ولذلك قال: [فصل]،
وأصل الفصل: قطع الشيء عن الشيء،
والفاصل: هو الحائل بين الشيئيين.ووصف العلماء رحمهم الله هذه المواضع بكونها فصلا؛ لأنه يفصل بها بين المسائل والأحكام لاختلاف أجناسها وما تضمنته من معان.وهذا الفصل سيتكلم المؤلف رحمه الله فيه على الأمور المكروهة، وهي التي يتركها الإنسان فيثاب على تركها، ولا يعاقب على فعلها، والسبب في إيراد هذا الفصل في المكروهات هو أن اتقاء هذه المكروهات يحصل به المكلف على كمال الصلاة، فلما فرغ من صفة الصلاة الكاملة نبه على أن هذا الكمال ينبغي أن يكون مصحوبا بترك هذه الأمور التي فعلها يعد خلاف الأولى.
والمكروه: هو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، ويأتي النهي عنه من الشرع إما في الكتاب، وإما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة عنه، وتدل الأدلة على أن هذا النهي الوارد في الكتاب، أو الوارد في السنة ليس على ظاهره وإنما هو على الكراهة.
قوله: [يكره في الصلاة التفاته] أي: يكره للمصلي إذا كان في صلاته أن يلتفت،
يقال: التفت إذا صرف وجهه قبل اليمين أو قبل الشمال،
وهذا الالتفات يكون من المكلف على صورتين:
الصورة الأولى: أن يصرف وجهه مع بقاء جذع جسمه.
الصورة الثانية: أن يصرف الوجه والجسد.ومراد المصنف رحمه الله هنا صرف الوجه وحده، فإن السنة لمن وقف بين يدي الله عز وجل أن ينصب وجهه، وأن لا يلتفت يمينا ولا شمالا، وهذا من تعظيم أمر الصلاة، وتعظيم الموقف بين يدي الله عز وجل، ولذلك أمر الله باستقبال القبلة، ويكون استقبال المكلف لها بجميع جسمه، فإذا التفت فقد صرف وجهه عن قبلته؛ ولذلك يعتبر هذا ممنوعا عن المصلي.وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الالتفات الذي يقع من الناس،
فقال عليه الصلاة والسلام: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)،
وأصل الاختلاس: الأخذ بسرعة مع غفلة المأخوذ منه،
أي: يأخذ الشيطان حظا بهذا الالتفات من صلاة الإنسان،
حتى قال بعض العلماء: إنه ينقص أجره على قدر ما كان منه من الالتفات.
والالتفات إذا كان ضروريا لحاجة؛ أو أمر ناب الإنسان فالتفت من أجله، فهذا إن كان يسيرا فإنه لا يضر ولا يؤثر في الصلاة.وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه حينما كان في الصلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تأخر عن الحضور بسبب كونه يصلح بين حيين من بني عوف بقباء، فتأخر النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر وأخبره، فأقام بلال الصلاة وتقدم أبو بكر رضي الله عنه؛ فلما كان في الصلاة قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح الناس لـ أبي بكر، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت من كمال خشوعه وصلاته، فلما أكثر الناس عليه التسبيح التفت فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأخر، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك إلى آخر الحديث.ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا بكر حينما التفت، ولم يجعل التفات أبي بكر موجبا لبطلان الصلاة، فأخذ العلماء من هذا دليلا أن المكلف إذا كان في الصلاة والتفت لمصلحة الصلاة، أو لأمر مضطر إليه لمصلحة نفسه، كأن يظن أن عقربا يتحرك عن يمينه، أو حية تحركت عن شماله فخاف على نفسه فالتفت، فحينئذ يكون مضطرا إلى هذا الالتفات ومحتاجا إليه، فلا يوجب بطلان صلاته.والالتفات يكون جزءا وكلا،
فالالتفات الكامل: أن يصل الذقن إلى العاتق، وفي هذه الحالة يكون الالتفات كاملا، وأما الالتفات الجزئي فيكون بصرف الوجه قليلا، وهذا لا يؤثر، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل إذا شوش عليه الشيطان في صلاته فيتفل عن يساره ثلاثا.فإذا كثرت وساوس الشيطان على الإنسان وهو في الصلاة،
وقال له الشيطان: اذكر كذا، اذكر كذا.يريد أن يصرفه عما هو فيه من أمور الصلاة والخشوع فيها فإنه يحرك رأسه قليلا دون أن يلتفت التفاتا كاملا، ثم يتفل عن يساره، أي جهة اليسار،
فكونه عليه الصلاة والسلام يقول: (وليتفل عن يساره) يدل على أنه نوع التفات، وهو جزء الالتفات الذي ذكرناه.
أما الالتفات الكامل فقد قلنا: إنه إذا وجدت الضرورة فلا إشكال، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه التفت إلى الشعب وهو في الصلاة، وجاء في بعض الروايات أنه كان يلتفت إلى الشعب، وأن الشعب كان في جهة القبلة وهذه الرواية تخفف من شأن الالتفات؛ لأنه لو لم تأت هذه الرواية لفهم منه أنه التفات خارج عن جهة القبلة؛ ولذلك لا حرج على المكلف أن يلتفت قليلا، أو يحرك رأسه قليلا، ولكن مع هذا فإنه بالتفاته من دون حاجة معرض لفوات الكمال،
ولذلك جاء في الحديث: (لا يزال الله عز وجل مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه)، وهذا يدل على فوات الكمال، والحظ الأوفر للعبد إذا صلى واستشعر موقفه بين يدي الله ولم يلتفت.
أما النوع الثاني من الالتفات: فهو الالتفات بالجذع، وهو الذي يتحرك الإنسان فيه إلى درجة ينحرف فيها عن القبلة، فلو أن إنسانا كان في صلاته ثم سمع صياح صبيه، فالتفت فتحرك جذعه حتى تحركت قدماه بحيث خرج عن كونه مستقبلا الشرق فاستقبل جهة فرعية أو جهة أصلية فإنه تبطل صلاته ولو كانت لضرورة، إلا ما استثني من ضرورة القتال؛ فإنه في حال ضرورة القتال يستثنى لمكان نص الله عز وجل على ذلك في آية المسايفة.
[رفع البصر الى السماء]
قال رحمه الله: [ورفع بصره إلى السماء] كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده صلوات الله وسلامه عليه، وهذا أكمل ما يكون من المكلف في خشوعه وخضوعه وذلته بين يدي الله عز وجل وهو واقف في الصلاة؛ فإن هذا يدل على الإقبال على الله عز وجل، والاشتغال بما في الآيات من العظات والذكرى، فأكمل ما يكون من المكلف أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.فأما رفع البصر إلى السماء فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على إنكاره،
فقال عليه الصلاة والسلام: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم)،
ثم شدد فقال عليه الصلاة والسلام: (لينتهن عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم)،
وفي رواية لـ مسلم: (أو لا ترجع إليهم)، والعياذ بالله.وهذا يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يصرف بصره إلى السماء،
وذلك لأن القاعدة في الأصول تقول: (إذا ورد الوعيد على فعل شيء دل ذلك على أنه محرم)، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يبين أنه سبب لأن تخطف الأبصار إن استمروا على ما هم عليه يدل على حرمة رفع البصر إلى السماء.وقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقلب بصره في السماء حتى نزلت آية القبلة، ثم نهي عن ذلك،
وقيل: لما نزلت آية المؤمنين: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون:1 - 1] رمى ببصره عليه الصلاة والسلام إلى موضع سجوده.فلا يجوز للمصلي أن يرفع بصره إلى السماء، ويستوي في ذلك أن يكون في موضع له سقف، أو يكون في موضع منكشف السقف،
وهذا على أن قوله صلى الله عليه وسلم: (إلى السماء)،
أي: إلى العلو، فإنه حينئذ يكون المراد به أن لا يرمي ببصره إلى أعلى، ويستوي حينئذ كونه مسقوفا أو غير مسقوف.
وقال بعض العلماء: الحكم يختص بالسماء،
أي: عند نظره إلى السماء.وهذا جمود على ظاهر النص؛
فإننا لو قلنا لهؤلاء: أرأيتم إن كانت السماء مغيمة فإن الحكم واحد عندكم، فالغيم الذي بين المكلفين وبين السماء كالسقف الذي بينهم وبين السماء، ولذلك يستوي أن يكون رفعه للبصر عند وجود الحائل كالسقف، أو يكون بدون حائل كالفضاء.
[إغماض العينين]
قال رحمه الله: [وتغميض عينيه] تغميض العين: إطباق الجفن على الجفن، فإذا أطبق الجفن على الجفن فقد غمض عينيه، فالتغميض مكروه في الصلاة؛ لأنه من فعل اليهود؛ فإنهم إذا صلوا غطوا رءوسهم وغمضوا أعينهم.
وقال العلماء: إن هذا التغميض يعتبر مكروها، ونص عليه غير واحد من أهل العلم، وهذا الصحيح، ووجه كراهته ما ذكرناه من المشابهة، ولأنه يفوت المصالح، وذلك أن المكلف إذا غمض عينيه قد لا يستطيع أن يدفع المار؛ لأنه مغمض العينين، ولأنها حركة زائدة، وحينئذ لا تشرع إلا بدليل، ويستوي في ذلك تحرك العضو أو جزء العضو.ويستوي في ذلك أن يغمض العينين أو يغمض إحداهما، فالحكم واحد.ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يغمض عينيه في الصلاة،
وفصل بعض الفقهاء فقالوا: إذا كان غمض عينيه لكمال الخشوع، أو لكون الموضع الذي أمامه فيه نقوش وزخرفة وإذا نظر إليها اشتغل بها عن الصلاة فغمض، فحينئذ لا حرج، والذي ينبغي ترك التغميض مطلقا، حتى ولو كانت هناك نقوش؛ فإنه من المجرب أن الله إذا أراد بعبده خيرا ورزقه الخشوع يستوي عنده أن يصلي على ذات نقوش أو غيرها، فلو كانت النقوش موجودة وحدد البصر على موضع السجود فإنه سيخشع إن شاء الله، ولذلك الأولى والأكمل والأحرى والأقرب لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الامتناع عن تغميض العينين.
[الإقعاء]
قال رحمه الله: [وإقعاؤه].
يقال: أقعى الكلب إذا ألصق إليتيه بالأرض، وهذه مسألة ينبغي لطلاب العلم أن يتنبهوا لها، فالإقعاء ينصب فيه الكلب -أكرمكم الله- رجليه ويجعل يديه على الأرض، فتكون الإليتين ملتصقة بالأرض والرجلان منتصبتان، فهذا إقعاء الكلب الذي تكلم عليه أئمة اللغة وجهابذتهم كـ أبي عبيدة معمر بن مثنى، وأبي عبيد القاسم بن سلام الجمحي، وناهيك بهما علما وفضلا، فهما أعرف بلسان العرب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإقعاء.والذي عليه جماهير العلماء رحمة الله عليهم أنه هو المراد بالحديث، وأن من فعل هذا فقد فعل ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، وبعض الناس يفعل هذا الإقعاء بين السجدتين، أو يكون جلوسه لهذا الجلوس عند قيامه للركعة الثالثة أو الثانية، فإنك تجده ينصب القدمين ويلصق الإليتين ويتكئ على اليدين كالمرتاح، وبعضهم يهم ويظنها جلسة الاستراحة، وهذا لا شك أنه أبلى وأطم؛ لأن الإنسان حينها يوقع غير المسنون وغير المشروع موقع المسنون.وهذا النوع من الجلوس يستوي فيه أن يكون بين السجدتين، أو يكون حال التشهد، أو يكون عند القيام إلى الركعة الثانية أو إلى الرابعة، فكل ذلك منهي عنه ومحرم.وهناك جلسات اختلف العلماء رحمهم الله في كونها من الإقعاء أو ليست من الإقعاء، ففسر بعض العلماء الإقعاء بكونه ينصب القدمين، ويجعل الإلية على العقبين،
وهذا النصب له صورتان: الصورة الأولى: أن ينصب القدمين، ويجعل الأصابع مستقبلة للقبلة، وتكون الإلية على العقبين.
الصورة الثانية: أن ينصب القدمين ويجعل بطنهما إلى الأرض، ولا يجعل الأصابع مستقبلة القبلة، فإذا جعل البطنين إلى الأرض برز العقبان فكانت الإليتان عليهما.
وهناك صورة ثالثة يدخلها بعض العلماء فيقول: هو أن ينصب القدمين ويجعل يديه على الأرض.والأولون يقولون: يستوي أن تكون يداه على الأرض، أو تكونان على فخذيه.أما كونه ينصب القدمين ويجعل رءوس الأصابع مستقبلة للقبلة فهذا ليس من الإقعاء، لظاهر حديث ابن عباس، إذ فعله بين السجدتين؛ لأن ابن عباس نصب قدميه رضي الله عنه وأرضاه واستقبل بالأصابع القبلة، وجعل إليتيه على العقبين،
فلما قال له تلميذه طاوس بن كيسان: إنه من الجفاء قال: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.وهذا يدل على أنه من السنة أن يفعله الإنسان، ولكن بين السجدتين كما ورد عن ابن عباس.
أما الصورة الثانية: وهي أن يجعل بطني القدمين إلى الأرض والعقبين تحت الإليتين والأصابع إلى الأرض ليست بمنتصبة فهذه هي عقبة الشيطان، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، وفيها حديث عائشة رضي الله عنها الصحيح من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الجلسة، فالصحيح أنها محرمة ومنهي عنها من حديث عائشة لا من جهة الإقعاء،
يعني: إذا رأيت الرجل ينصب قدميه فيجعل بطونهما إلى الأرض مع الأصابع، ثم يجعل الإليتين على العقبين فلك أن تنماه عن ذلك من جهة حديث عقبة الشيطان، لا من جهة حديث الإقعاء، وهذا هو أصح الأوجه عند الجماهير رحمة الله عليهم.ونهي عن هذه الصورة -التي ذكرناها- من الإقعاء لما فيها من مشابهة الحيوان -أكرمكم الله-، وقد شرف الله الآدمي وكرمه كما أخبر الله تعالى في آية الإسراء، وأخبر أنه كرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، ومن باب أولى أن يكرم في أثناء وقوفه بين يدي الله عز وجل، ولذلك نهي عن هذه الصورة، ولأنها لا تتناسب مع الأدب ومقام الذلة بين يدي الله عز وجل، فنهي عن هذه الجلسة لما فيها من بشاعة الصورة؛
ولذلك فإن طاوس بن كيسان لما ذكر أن الرجل يجعل إليتيه على عقبيه قال: إنه من الجفاء بالرجل.
أي: كان السلف رحمة الله عليهم، وكان الناس في القديم يرون أن هذا جفاء، فكيف بالإقعاء الذي هو صورة الحيوان؟!
[افتراش الذراعين في السجود]
قال رحمه الله: [وافتراش ذراعيه ساجدا] أي: يكره للمكلف إذا سجد أن يفترش ذراعيه افتراش السبع، كما ورد من نهي النبي صلى الله عليه وسلم،
والمراد بالافتراش: أن يجعل الذراعين ممدودين على الأرض كانبساط الكلب إذا جلس، فإنه ينبسط انبساطا، وهذا الانبساط منهي عنه.فالسنة أن يرفع وأن يجافي عضده عن جنبه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يجافي حتى كان الصحابة يشفقون على النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة مجافاته، كما في حديث البراء عند ابن ماجة في سننه، ولذلك كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا، لكن لو اضطر الإنسان بسبب ضيق المكان فألزق عضده بجنبه بسبب الضيق وتراص الناس فإن هذا لا حرج فيه، ويعتبر الإنسان فاعلا له بغير الاختيار.
[العبث]
قال رحمه الله: [وعبثه].
أي: يكره له العبث،
والعبث: الحركة الزائدة.ووصف المتحرك بغير المشروع في صلاته بكونه عابثا، لأن الأمر يقتضي منه ما هو أشرف وأكمل من اشتغاله بهذا الشيء.
فمثال العبث: أن يصلح ثوبه من دون حاجة، كأن يبالغ في تعديل عمامته على رأسه، أو ينظر إلى ساعته، أو يحركها كما هو حال بعض الناس اليوم أصلحهم الله.ومن العبث كثرة تحريك الأرض، وإصلاح السجاد عند السجود، وكثرة العبث بها، واشتغاله بحركة يديه على فخذه إذا كان جالسا في التشهد، أو بحركة يده بثوبه إذا كان قائما بين يدي الله عز وجل في حال وقوفه،
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الصلاة لشغلا)، أي أن المكلف ينبغي عليه أن يشتغل بأمر الصلاة، وشأن الصلاة وحالها يشغل.فقد أثر عن علي زين العابدين أنه كان إذا توضأ تغير وجهه فاحمر،
فقالوا: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟
قال: ألا تدرون من أناجي؟! فالإنسان إذا أقبل على الله عز وجل فهو في شغل، وهو أشرف الأشغال وأعظمها وأجلها وأكرمها، كما قال العلماء، هو الشغل الذي خلق من أجله، وهو العبادة،
قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56]، فهذا هو الشغل وأنعم به من شغل، فكونه ينصرف عما هو بصدده من الإقبال على الله عز وجل إلى تحريك اليدين، أو العبث بالفخذ، أو العبث بالساق، أو كثرة الحركة، أو الترنح أثناء الوقوف فكل ذلك مما لا يليق بالمصلي.فإذا كان العبث يكثر منه إلى درجة لو رآه إنسان لظن أنه في غير صلاة حكم بكونه قد بطلت صلاته، أما لو كان عبثه يسيرا فإنه حينئذ يكون بين درجة الحرام ودرجة المسنون وهو المكروه،
فقالوا: يكره.فالعبث الذي يريده المصنف هنا رحمة الله عليه هو العبث الذي لا يخرج المصلي عن كونه مصليا، أما لو بالغ في العبث فحينئذ تبطل صلاته.
فلو قال قائل: ما دليلكم على أن الحركة اليسيرة لا تبطل الصلاة ولو لم تكن من جنس الصلاة؟
قلنا: ثبوت السنة بذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما وقف في صلاة الليل ووقف معه ابن عباس أخذ يفتل أذنه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا نوع حركة وهي خارجة عن الصلاة، وهذا يدل على أنه لا حرج.
[الاختصار]
قال رحمه الله: [وتخصره].
الاختصار للعلماء فيه أقوال: قال بعض العلماء: التخصر الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح هو وضع اليدين على الخاصرة،
وهذا الوضع للعلماء فيه ثلاثة أوجه في التعليل: الوجه الأول: أنه من فعل الشيطان، فنهي عنه حتى لا يشابه الشيطان.
والوجه الثاني: أنه فعل اليهود، فنهي عنه حتى لا يشابه اليهود.
والوجه الثالث: أنه صنيع المتكبرين، والمقام مقام أهل الذلة والخضوع، وهم الخاشعون، فلا يليق أن يقف بهذا الموقف بين يدي الله عز وجل.وهذه الثلاثة الأوجه صحيحة؛ فإنه لما نهى عنه الشرع دل على أنه من الشيطان، ولذلك ينسب المنهي عنه إلى كونه من فعل الشيطان.أما كونه من فعل اليهود فقد جاء عنهم أنهم يفعلون ذلك في صلاتهم.وأما كونه من صنيع المتكبرين فإن أهل التكبر إذا أعجبتهم أنفسهم تخصروا، فوضع الواحد منهم يديه في خاصرته كالمستعظم لنفسه والمتعالي، والمقام مقام ذلة بين يدي الله عز وجل،
فلذلك قالوا: لا يناسب الحال -أعني الخشوع بين يدي الله- أن يتخصر، فنهي عنه.
وقال بعض العلماء: المراد بالتخصر: الاختصار، وهو اختصار الآيات، كأن يقرأ من بعض السور آية أو آيتين ثم ينتقل إلى سورة أخرى، ويقرأ منها آية أو آيتين.
وقال بعض العلماء: الاختصار الذي نهي عنه: السرعة والاختلاس في الصلاة، بمعنى أنه يختصر الصلاة، فبدل أن تكون على قدر من الزمان تكون على ما هو أقل منه، والمراد بذلك الاستعجال حتى إنه لا يعطي الأركان حظها، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ لأنه يفوت الطمأنينة.فهذه أقوال العلماء رحمة الله عليهم في مسألة الاختصار، وجميع ما ذكرنا منهي عنه إلا مسألة انتقاء الآيات من القرآن، فالصحيح أنك لو أخذت آية من البقرة وقرأتها في الركعة الأولى، ثم أخذت آية من آل عمران وقرأتها في الركعة الثانية فلا حرج؛ فإن الاختصار بهذا المعنى ثبتت فيه السنة، كما في حديث ركعتي الفجر،
فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأولى منها بقوله تعالى: {قولوا آمنا بالله} [البقرة:136]،
وفي الركعة الثانية بقوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} [آل عمران:64]، فدل هذا على جواز اقتطاع آيات من القرآن في الركعات، وأنه لا حرج فيه.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (86)
صـــــ(10) إلى صــ(15)
[التروح]
قال رحمه الله: [وتروحه].
التروح في الصلاة: مأخوذ من المروحة، وذلك من شدة الحر؛ لأن الإنسان ربما كان في مكان حار، خاصة في القديم؛ فإن المساجد لم تكن مهيأة فيها وسائل الراحة والاستجمام، فلربما مع كثرة الناس -خاصة في الجمع، أو في غيرها، أو في التراويح- يكون الحر شديدا، والمسجد مع كثرة الناس فيه تشتد حرارته، فربما احتاج أن يحرك شيئا يتروح به، وهذا مكروه وممنوع منه؛ لأنه يخالف هيئة المصلي، ولأنها حركة زائدة لغير مصلحة الصلاة، لكن قالوا: هو مكروه مع وجود الحاجة، أي إذا كان الإنسان محتاجا إليه،
فقالوا: إذا كان يسيرا فإنه يعتبر مكروها لا يوجب بطلان صلاته، كأن تكون معه المروحة،
فإذا اشتد عليه الحر إلى درجة تزعجه قالوا: يدفع هذا الإزعاج؛ لأنه يحصل مقصود الصلاة من حضور القلب، فإن الحر يزعجه، وربما يخرجه عن كونه خاشعا في صلاته.وهناك نوع من التروح، وهو المراوحة بين القدمين، فإنك تجد بعض المصلين إذا طال عليه القيام في الصلاة يقف على القدم اليمنى وتكون اليسرى مرسلة لا يعتمد عليها، فإذا طال قيامه انتقل إلى الجهة اليسرى، فكان اعتماده على اليسرى وأصبحت اليمنى خفيفة الثقل، فأرسلها لكي يتروح.وهذا أثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما،
وقالوا: إنه السنة، وهذا هو المقصود، وهو أن يكون هناك تروح، بمعنى أن يفرج بين القدمين، ولذلك لا يرص القدمين معا إذا وقف، ولا يبالغ في التفريج، إذا وقف المصلي فلا يسن له أن يبالغ في توسعة ما بين القدمين، ولا يبالغ أيضا في رص القدمين فيجمعهما.ولذلك لما رأى ابن عمر رضي الله عنهما هذا الفعل أنكره، وبين أنه خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛
ولذلك قالوا: يكون في قيامه وسطا، ويروح بينهما، بمعنى أنه يعتمد على إحداهما، لكن كره بعض العلماء المبالغة في التروح؛ فإن البعض إذا رأيته متروحا وهو واقف ربما أنكرت أنه في صلاة، وهو التروح المبالغ فيه، كأن يعتمد اعتمادا كليا على اليسرى ويرسل اليمنى، وهي صورة ربما يكون فيها نوع من الفوات للأكمل، ولذلك لا حرج أن يروح بين الأقدام، خاصة عند طول القيام، والسنة وسط،
بل قال بعض العلماء: من رص القدمين معا فقد تنطع، ومن بالغ في إلزاقها بمن هو بجواره فقد تنطع، فالمبالغة في التفريج والمبالغة في الضم كلاهما ذميم، وإنما السنة وسط.لكن هنا مسألة، وهي أنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإلزاق الكعب بالكعب والمنكب بالمنكب، وكان الإنسان لا يستطيع أن يلزق الكعب بالكعب إلا إذا مد رجله ذات اليمين ومد الأخرى ذات اليسار،
فقال العلماء: هذا فيه تفصيل،
فبعض العلماء رحمة الله عليهم يقولون: إن الذي ينبغي أن الإنسان يرتص مع من بجواره، ويسحب الذي بجواره إليه، فإن امتنع الذي بجوارك أن يقترب منك فالإثم عليه والإخلال منه،
قالوا: فلا يقتضي أن تبالغ في وجود الاتساع بين القدمين.وبناء على فإن الأصل أن الإنسان يقف وقوفا اعتياديا، فإن احتاج إلى شيء قليل من التفريج لينضم إلى من بجواره حتى يصيب السنة من رص القدم بالقدم فحينئذ لا حرج، أما أن يبالغ في التفريج فإن هذا خلاف السنة، وخلاف صورة الأدب في الوقوف بين يدي الله عز وجل.وإذا قلنا: إنه يسحب من بجواره إليه حتى يرتص القدم مع القدم، وتلزق المنكب بالمنكب، فحينئذ يردq إلى أي جهة يرتص؟ وهذه المسألة كثيرا ما تقع، فلو أن إنسانا مع الإمام وجاء فجذب الذي عن يمينه إليه، فأيهما أحق؟! هل الذي عن اليمين، أو الذي عن الشمال؟
قال العلماء: العبرة بجهة الإمام، فإذا دخلت المسجد وكان الإمام في جهة اليمين فإنك تجذب الذي في جهة اليسار؛ لأنه ينبغي عليه أن يرتص إلى جهة الصف، وبناء على ذلك لو كان في جهة اليسار فإنك تجذب الذي في جهة اليمين.وعلى هذا تتفرع مسألة إتمام الصفوف، فإنه إذا جاء الإنسان بعد اكتمال الصف الذي أمامه،
فقد قالوا: الأفضل له أن يقف وراء الإمام من جهة اليمين.
وقال بعض العلماء: بل الأفضل أن يكون وراء الإمام قصدا؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى).فجعل هذا المقام مقام فضل،
فقالوا: الأفضل أن يكون وراءه مباشرة، ثم يليه في الفضل من كان عن يمينه، ثم من كان عن يساره،
وفي الحديث: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)، وفيه كلام.فالمقصود أنه إذا جئت وراء الإمام مباشرة حق لك أن تسحب من على اليمين ومن على الشمال، لكن إذا كنت منحرفا عنه إلى جهة اليمين فإنك تسحب من كان عن يمينه، وإذا كنت على شماله فإنك تسحب من كان عن شماله، وقس على هذا.
[فرقعة الأصابع وتشبيكها]
قال رحمه الله: [وفرقعة أصابعه وتشبيكها].
فرقعة الأصابع أن يضغط على الإصبع حتى يسمع له الصوت، وهذه الفرقعة نهي عنها وتعتبر مكروهة، ولذلك أثر عن حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه أنه كان معه مولاه ففرقع أصابعه في الصلاة،
فلما سلم رضي الله عنه وأرضاه قال له: أتفرقع أصابعك في الصلاة لا أم لك؟!
أي: وأنت واقف بين يدي الله عز وجل تفعل هذا الفعل! فهذا الفعل لا يليق، ولو فعل بين يدي أهل الفضل وأهل العلم وأهل المكانة فإنه يعد من سوء الأدب، فكيف بالموقف بين يدي الله عز وجل؟ ولله المثل الأعلى، ففرقعة الأصابع لا تنبغي، ولذلك إذا كان الإنسان في صلاته فإنه لا يفرقع، وفيه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه.
قوله: [وتشبيكها].
التشبيك: إدخال الأصابع بعضها في بعض، وهذا التشبيك إما أن يكون خارج المسجد، أو يكون داخل المسجد، فإن كنت خارج المسجد قاصدا إلى المسجد فلا تشبك، فقد جاء فيه حديث أبي داود بالنهي،
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من توضأ ثم خرج يريد الصلاة فهو في صلاة)،
ولذلك قالوا: ينبغي عليه أن يراعي أدب المصلي من السكينة والوقار، وقد ثبتت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم،
فقالوا: إذا شبك بين أصابعه فإنه يخالف هيئة الصلاة، ولذلك لا يشبك وهو قاصد إلى المسجد لجمعة أو جماعة.فإذا كان في المسجد فإنه إذا كان قبل الصلاة -كأن يكون في حال دخوله، أو في كونه ينتظر الفريضة- فالحكم سواء، فإنه لا يشبك بين الأصابع لورود النهي، ولأنه في حكم المصلي، وقد ثبتت في ذلك الأحاديث.وإن كان داخل الصلاة فالأمر أشد، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه،
وقالوا: إنه فعل اليهود في صلاتهم،
وجاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (رأى رجلا شبك بين أصابعه في الصلاة ففرقها).
فإذا انتهت الصلاة فللعلماء وجهان: قال بعضهم: يستمر النهي.
وقال بعضهم: لا يستمر،
فإذا أراد أن يقوم بذلك وهو في داخل المسجد فلا حرج وقد ثبت بذلك حديث أبي هريرة في الصحيحين: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي، قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه) الحديث.
قالوا: وهذا بعد انتهاء الصلاة؛ لأنه كان يظن أن الصلاة قد انتهت، فدل على أنه لا حرج في التشبيك بعد الصلاة وبعد انتهائها.
[احتقان البول]
قال رحمه الله: [وأن يكون حاقنا].
أي يكره أن يكون حاقنا ببول، والسبب في ذلك أنه إذا كان البول يزعجه ويحتاج إلى إخراجه، فإنه ينشغل عن الخشوع في الصلاة، كما قال تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} [الأحزاب:4]،
وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثين) قالوا: فدل هذا الحديث على أنه لا ينبغي للإنسان إذا كان محصورا ببول أو غائط يدافعهما أن ينشغل بذلك عن الصلاة، وإنما يقضي حاجته ويتوضأ ويتطهر، ثم يصلي وقلبه قد فرغ من هذا الشغل، وهذا مبني على حديث عائشة الذي ذكرناه.وألحق العلماء بهذا شدة الحر وشدة البرد، فإذا أمكنه أن يتقيهما فإنه يتقيمهما ثم يصلي، فلو كان المكان شديد البرد وأمكنه أن يأتي في مكان أخف برد فإنه يتنحى إلى ذلك.
وهنا مسألة لطيفة وهي: لو كان المكان الذي هو أخف بردا يبعد عن المكان الذي فيه البرد بقدر بحيث يفوته وقت أفضل وهو وقت أول الصلاة، فهل الأفضل له أن يذهب إلى المكان الذي هو منفصل وبعيد، حتى يكون أبلغ لخشوعه، أم أنه يصلي إدراكا لفضيلة أول الوقت؟
قال بعض العلماء: فضيلة أول الوقت أفضل ويغتفر فيها فوات الخشوع؛ لأنه كمال.
وقال بعض العلماء: هذا من تعارض الفضيلتين: فضيلة تخفيف البرد الذي يزعجه ويشغل ذهنه، وفضيلة الوقت، ولا شك أن الإزعاج المتعلق بذات الصلاة دفعه أولى من الفضيلة المنفكة عن الصلاة، وأميل إلى هذا القول الثاني لوجود النهي عن الصلاة حال مدافعة الأخبثين؛ فإن ورود النهي يقوي أن فضيلة الحضور للقلب والخشوع أبلغ من فضيلة أول الوقت، فلو أنه تنحى إلى المكان الذي لا برد فيه أو لا حر فيه، وكان الوقت بقدر لا تفوت به الصلاة فإن هذا أفضل وأكمل على ظاهر ما ذكرناه.
[تكرار الفاتحة]
قال رحمه الله: [وتكرار الفاتحة].
تكرار الفاتحة يأتي على وجهين:
الوجه الأول: أن لا يكون معذورا.
والوجه الثاني: أن يكون معذورا بالتكرار.أما التكرار الذي لا يعذر فيه فكأن يقرأ الفاتحة مع علمه أنه قرأها،
فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: من كرر الفاتحة عالما أنه كررها بطلت ركعته.
وقال بعضهم: بل تبطل صلاته،
ووجه ذلك: أن الفاتحة ركن، فإذا كررها مرتين فإنه يكون قد زاد ركنا قوليا، وزيادة الركن القولي مؤثرة كزيادة الركن الفعلي، فهذا وجه من يقول في أن من كرر الفاتحة تبطل صلاته.وقال بعض العلماء -كما درج عليه المصنف-: من كرر الفاتحة كره له ذلك، ولا تبطل صلاته؛ لأنه خلاف السنة، ولا تبطل صلاته؛ لأن زيادة الأقوال ليس كزيادة الأفعال.وهذا مركب على مسألة الزيادة في الماهية والخارج عن الماهية؛ فإن زيادة الأفعال تعتبر زيادة في الماهية فأبطلت؛ لأنها زيادة في هيئة الصلاة، بخلاف زيادة الأقوال فإنها لا تؤثر في الهيئة، فالهيئة على ما هي عليه،
قالوا: وبناء على ذلك لا يؤثر هذا على صلاته.إلا أن تسليم أصحاب هذا القول بأن الفاتحة ركن يوجب إحراجهم من هذا الوجه، ولذلك ينبغي اتقاء تكرار الفاتحة على هذا الوجه.
الوجه الثاني: تكرارها لحاجة، مثل الذي يشك أنه قرأ الفاتحة،
فهذا لا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون الشك معه طارئا، كما لو صليت ذات يوم الظهر، ثم شككت هل قرأت الفاتحة أو لم تقرأها، فاليقين أنك لم تقرأ، فتقرأها وتلزمك قراءتها.ففي هذه الحالة إذا كان الشك طارئا فحينئذ لا حرج وأنت معذور لوجود السهو.
الحالة الثانية: أن يكون الشك مسترسلا، كالموسوس،
فإنه حينئذ لا يخلو شكه في الفاتحة من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون بعد دخوله في السورة،
فإذا دخل في السورة وجاءه الشيطان وقال له: لم تقرأ الفاتحة فإنه يلغي هذا الشك؛ لأن الظاهر من حاله بدخوله في السورة أنه قد قرأ الفاتحة، ووجود الشك المسترسل يدل على ضعف هذه الشبهة، فيبقى على دلالة الظاهر ويلغي الأصل من هذا الوجه.
الحالة الثانية: أن يكون شكه في حال سكوته، والتبس عليه كون سكوته بين الفاتحة وبين السورة، أو بين دعاء الاستفتاح وبين الفاتحة، فالأصل أنه ما بين دعاء الاستفتاح وما بين الفاتحة فيقرأ الفاتحة ولا حرج عليه في هذا التكرار.
قال رحمه الله: [لا جمع سور في فرض كنفل].
أي: أنه لا يكره تكرار السور وجمعها في فرض، فلو أن إنسانا قرأ سورتين في ركعة فلا حرج عليه، وليس بمكروه، وقال بعض العلماء بالكراهة، ولكن السنة خلافه،
ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر الصحابي الذي كان يقرأ: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] في كل ركعة، فإنه كان يقرؤها مضافة إلى السورة،
وكان ابن مسعود يقول: (إني لأعرف النظائر التي كان يجمع بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته)، فلا حرج أن تجمع بين السورتين في ركعة واحدة.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (87)
صـــــ(16) إلى صــ(18)
الأسئلة
[حكم تغميض العينين في المساجد المزخرفة]
Q في المساجد المزخرفة -خصوصا إذا كانت الزخارف في مواضع السجود- هل يجوز للمصلي أن يغمض عينيه؟
A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد: فقد قال بعض العلماء: إنه إذا كان في الأرض زخرفة أو نحوها فإنه لا بأس بتغميض الإنسان لعينه؛ لأنه يحصل الخشوع بالانكفاف عن هذه الزخرفة.ولهذا القول ما يدل عليه في السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه قال: (أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي)، قالوا: هذا يدل على أن الإنسان مهما بلغ من الخشوع فإنه يشغل، ولو جاهد الإنسان نفسه فإن الله عز وجل يعينه.وكنا في القديم نغمض ونظن أن هذا يعين على الخشوع فوجدنا أن المجاهدة أفضل، حتى يصبح هذا الشيء شيئا عاديا عندك، بحيث إذا ألفته وأحدقت البصر إلى موضع سجودك وتأثرت بالآيات وأحسست أن الله يخاطبك بها بما فيها من الوعد والوعيد والترغيب والترهيب فإن هذا يدعوك إلى التأثر وعدم الالتفات إلى الزخرفة، ولذلك الذي تطمئن إليه النفس أن الإنسان يجتهد قدر استطاعته، ويجاهد عل الله عز وجل أن يبلغه إلى هذه الدرجة من الكمال، والله تعالى أعلم.
الواجب على من ترك الركوع سهوا
qرجل كان يصلي وراء الإمام، وقد قرأ الإمام في آخر قراءته آية سجدة ثم ركع، ولكن هذا المأموم لم يركع مثل الإمام، وإنما سجد سهوا، فماذا يكون على هذا المأموم؟
A هذا أمر ينبغي التنبيه عليه لأئمة المساجد وطلاب العلم، فقد نبه العلماء رحمة الله عليهم أن من فقه الإمامة أن لا يفعل الإمام شيئا يوجب اختلال صلاة الناس وراءه، وهذا من النصح للعامة، ووجه ذلك أنه إذا وقف على موضع السجدة أربك الناس، فلا يدري الناس أهو ساجد أم راكع خاصة إذا كان هناك أناس يقتدون به في خارج المسجد، فترى هذا راكعا وهذا ساجدا، وترى آخر قائما حائرا لا يدري، أيسجد أم يركع، ولذلك ذكروا أن من فقه الإمامة التنبه لمثل هذه الأمور.قالوا: فإذا قرأ ذلك ووقع فيه فإن لم يكن عنده رغبة أن يسجد فليصلها بسورة بعدها، فإنه إذا قرأ الآيتين والثلاث، أو استفتح سورة مثل سورة (اقرأ)، ولا رغبة له في السجود فإنه يستفتح بسورة القدر، فإن دخوله بسورة القدر ينبه على أنه لا يريد الركوع، قالوا: حتى ولو قرأ منها آيتين لينبه الناس على أنه غير ساجد، ثم يركع بهم.ولذلك يقولون: ينبغي للإمام أن يكون عنده العلم بأحكام الإمامة وفقه الإمامة.أما بالنسبة لحكم هذه المسألة فإن الإمام إذا كبر وركع ثم سجد الناس، فمن سجد صح سجوده، وحينئذ إذا رفع الإمام يقوم مباشرة، ثم يركع ويدرك الإمام في الرفع من الركوع وصلاته صحيحة؛ لأنه سجد على وجه الإخلال، ويحمل الإمام عنه هذا السهو.وأما إذا لم يركع وإنما سجد ثم قام من سجوده فوقف مع الإمام في الرفع من الركوع ولم يركع فعليه أن يلغي هذه الركعة، فإذا سلم الإمام قضى هذه الركعة؛ لأنه لم يركع.فإن تدارك صحت ركعته، وإن لم يتدارك وجب عليه قضاء الركعة، فإن خرج من المسجد ولم يقض هذه الركعة وجب عليه قضاء الصلاة كاملة.فالخلاصة أن الصور ثلاث: الأولى: أن لا يركع ولكن يتدارك، فصلاته صحيحة وركعته مجزية.الثانية: أن لا يركع ولا يتدارك فتلزمه الركعة، فإن فعلها وهو في المسجد وقام وتحرك كما في قصة ذي اليدين، فحينئذ صلاته صحيحة.الثالثة: فإن خرج من المسجد ولم يتدارك هذه الركعة لزمه قضاء الصلاة كاملة، والله تعالى أعلم.
[وصايا لطلاب العلم قبل الامتحانات]
q أقبلت الامتحانات، فما هو الذي ينبغي على طالب العلم فعله في هذه الأيام؟
A يوصى طلاب العلم بأمور: أولا: إخلاص العمل لوجه الله عز وجل وإرادة ما عند الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى يأجر الإنسان على قدر نيته، فلا يغلب طالب العلم نية الدنيا على الآخرة.الأمر الثاني الذي يوصى به طالب العلم: الاعتماد على الله، كما قال تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده} [الفرقان:58]، فلا تعتمد على ذكائك ولا على فهمك، ولا على حفظك ولا على تحصيلك، ولكن توكل على الله، فإن الله قادر على أن يترك الإنسان وهو على أكمل ما يكون من الذكاء والحفظ حتى يدخل إلى الاختبار فينسيه جميع ما حفظ، والله على كل شيء قدير، وربما يبتليه بمرض في رأسه أو جسمه فيصبح في شتات من أمره لا يستطيع أن يبلغ ما يريد.فنحن تحت رحمة الله عز وجل، وإذا أردت أن تنظر إلى توفيق الله لك في الأعمال فلا تستفتح عملا إلا وأنت تعلقه على حول الله وقوته.وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم المأثور: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، فلا يصلح الشئون إلا هو سبحانه، فالتوكل على الله تعالى، كما قال تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان:58]، وقال الله في كتابه: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق:3]، وأيام الاختبارات أيام صعبة، وفيها هموم وغموم، فالإنسان يذهب هذه الهموم والغموم بالاعتماد على الله عز وجل والتوكل على الله سبحانه وتعالى وحسن الظن به.الأمر الثالث: ينبغي لطلاب العلم أن يتراحموا، وأن يكون بينهم ما ينبغي أن يكون بين طلاب العلم من البعد عن الأنانية والبخل بالخير على إخوانهم، فإن احتاج أخوك إلى شرح مسألة أو كتاب أو ملخص فأعطه، وإياك وما يسوله الشيطان حين يقول: هذا مهمل متكاسل.فمن الآن تعود على الإيثار، فلربما كانت عنده ظروف، أعطه ملخصك وانصحه، فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يبخل على الناس، وطالب العلم الذي يبخل اليوم سيبخل غدا، والذي فيه الأنانية اليوم فيه الأنانية غدا.فينبغي لطالب العلم أن يوطن نفسه على الإيثار وحب الخير للناس، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، والعلم رحم بين أهله، فإذا احتاج أخوك إلى مساعدة، أو إلى شرح مسألة فلا تبخل فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.الأمر الرابع: البعد عن المحرمات، ومنها الغش في الاختبار؛ لأن الغش في الاختبار يعتبر كبيرة من الكبائر ولا شك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا)، ولأنه يفضي إلى استباحة الأمور المحرمة؛ لأن الإنسان ينال شهادة مزورة وهو ليس بأهل لهذه الشهادة، بل قال بعض العلماء: يشتبه في رزقه، إلا أن يتوب فيتوب الله عليه.ولذلك ينظر فإن نال الشهادة بالزور وبالغش -والعياذ بالله- فأقل ما يكون أن يمحق الله بركة ماله، ولذلك تجده يأخذ المال الكثير وليست فيه بركة، ولو تاب لتاب الله عليه.الأمر الخامس الذي ينبه عليه: تعظيم شعائر الله عز وجل، فإن الطلاب في الاختبارات ربما يقطعون أوراق القرآن من المصاحف، وربما يمتهنون بعض الكتب، فينبغي التناصح في هذا الأمر، فلا يجوز امتهان كتاب الله ولا تمزيق أوراق المصحف، وكذلك لا يجوز امتهانها بوضعها في الطرقات والوطء عليها بالأقدام.ولذلك يخشى على الإنسان إذا رمى بورقة أن يطأ عليها أحد فيكون عليه وزر؛ لأنه هو السبب، والتسبب في الأشياء يوجب ضمان ما نشأ عنه، لذلك من يتسبب في امتهان كتبه وأوراقه بمجرد أن ينتهي من اختباره، أو يضعها في مكان تعبث بها الرياح فهذا لا يجوز، وينبغي التناصح في هذا الأمر.كذلك أيضا أوصي بوصية ينبغي التنبه لها، وهي حقوق الأبناء في مثل هذه الأيام، فعلى الآباء والأمهات أن يتقوا الله في الأبناء والبنات؛ فإن أيام الاختبار أيام عصيبة، ويكون الطلاب فيها في هم وغم، فينبغي الرفق بهم والتوسعة عليهم وإعانتهم وتيسير الأمور لهم وتقوية صلتهم بالله عز وجل، وغير ذلك من الأمور التي ينبغي أن يسديها الوالدان إلى الولد في مثل هذه المواقف، وينبغي القيام بالواجب والمسئولية.وبعض الآباء لا يهمه أن يضبط ابنه العلم أو لا يضبطه، والله سائلك عن ضبط ابنك للعلم؛ لأن تعلم الابن ومعرفته بأمور دينه وما يتصل بها من الأمور التي يحتاجها لحياته أمر مطلوب.فينبغي شحذ همم الأبناء والبنات وإعانتهم على مراجعتهم، وتيسير الأمور التي تعينهم على الخير وبلوغهم لأفضل الغايات؛ لأن هذا من النصيحة؛ فإن من نصحك لولدك قيامك عليه على هذا الوجه الذي يرضي الله عز وجل.وكلمة أخيرة إلى من ابتلاه الله بالتدريس، فإني أسأل الله العظيم أن يشكر سعيهم، وأن يعظم أجرهم، وأن يجزيهم على أبناء المسلمين وبناتهم كل خير، فنعم ما يصنعه المعلم من كلمات طيبة، فأسأل الله أن يتقبل منا ومنهم صالح العمل، فلا يعلم مقدار ما يبذله المعلم والموجه لمن يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فالله أعلم كم تمر عليه من ساعات هم وغم، حتى وإن كان يعلم شيئا من أمور الدنيا، فإن المسلمين بحاجة إلى طبيب وبحاجة إلى مهندس، وبحاجة إلى كل من يسد ثغور الإسلام ولو كان في أمور الدنيا ما لم تكن محرمة، فالمعلم بقيامه بهذه المسئولية على خير، وهو مأجور عند الله عز وجل، فنسأل الله أن يتقبل منا ومنكم.والوصية التي يوصون بها: الرفق بالطلاب، وإحسان الظن بهم وعدم التشويش والتضييق عليهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به).فبعض المدرسين يأتي بأسئلة تعجيزية، وبعضهم يحاول أن يضيق على الطلاب، وكأن الاختبار شيء من المنافسة والأذية والإضرار، وهذا لا يجوز؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار)، فرفقا بأبناء المسلمين وبناتهم، ولتتق الله في هذا الابن الذي يأتيك متوتر الأعصاب شارد الذهن مهموما مغموما مكروبا، فينبغي الرفق بمثل هؤلاء، خاصة وأنهم ذرية ضعيفة، فإن الله سمى الأطفال -خاصة صغار السن- ذرية ضعيفة، فمثل هؤلاء يرفق بهم.وبعض المعلمين إذا رأى التقصير من الطالب سبه وشتمه وأهانه، بل ربما ضيق عليه، فيخرج هذا الطالب بهم وغم يبقى معه دهره كله، فلربما يصاب بمرض في نفسه أو في عقله، وهذا لا يجوز، فهؤلاء أمانة والله سائلنا عنهم، فينبغي الرفق بهم والإحسان إليهم وأخذهم بالتي هي أحسن، وإذا كنت في المدرسة ورأيت من يشدد فذكره بالله عز وجل، وذكره أن حوله بحول الله، وأن قوته بقوة الله عز وجل.ولذلك لما ضرب أبو مسعود رضي الله عنه وأرضاه غلامه وهو يملكه قال: أغضبني فضربته ضربا شديدا، فسمعت صوتا من ورائي لم أستطع أن أتبينه من شدة الغضب، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام).فلذلك ينبغي على الإنسان أن يتقي الله في أبناء المسلمين وبناتهم فهم أمانة، وينبغي أن نعرف نفسياتهم والضيق الذي هم فيه والكرب، فإن الله عز وجل يرحم من عباده الرحماء، وفي الحديث: (من لا يرحم لا يرحم)، وهذا لا يعني أن نسوي بين الخامل وبين المجد، فيستطيع المدرس الموفق الناجح أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يزن بالقسطاس المستقيم، وهذا لا شك فيه، لكن بطريقة ليس فيها إضرار بأمثال هؤلاء الضعفة الذي ينبغي الإحسان إليهم.والشدة المبالغ فيها تنفر، ولو كان المعلم يدرس أفضل العلوم وأحسنها، فإنها تنفر، ولربما يكره بعض الطلاب كتاب الله عز وجل -والعياذ بالله- لصغرهم وجهلهم بسبب الأذية والإضرار، فينبغي تهيئة من يعين الطلاب على بلوغ هذه الغايات الطيبة، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجيرنا وإياكم من امتحان الآخرة، فينبغي علينا أن نتذكر في مثل هذه المواقف حينما يدخل الطالب إلى الاختبار وقد هيئت له الأمور، فكيف إذا قدم العبد على الله عز وجل في يوم تشخص فيه الأبصار؟! ولا شك أن الإنسان الموفق يتنقل من فكرة إلى فكرة ومن عبرة إلى عبرة، فاختبار الدنيا يذكر باختبار الآخرة.ويا للعجب حين تجد الآباء والأمهات مشفقين على الأبناء والبنات وهم يذهبون إلى الاختبارات، والأكف ترفع بالدعوات، ولا يبالي الأب بابنه في الامتحان الأكبر، ومن منا سأل الله لنفسه وأولاده أن يجيرهم الله من عذاب الآخرة؟ فإن الامتحان كل الامتحان في الآخرة.فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجيرنا من هول يوم الوعيد، وأن يؤمننا من سطوة ذلك اليوم الشديد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (88)
صـــــ(1) إلى صــ(8)
شرح زاد المستقنع - مباحات الصلاة
هناك مباحات يجوز للمصلي أن يفعلها في صلاته ولا حرج عليه،
ومنها: رد المار بين يديه، وعد الآيات بأصابعه أثناء القراءة، والفتح على الإمام إذا أخطأ أو أرتج عليه، ولبس الثوب أثناء الصلاة، ولف العمامة، وقتل ما يؤذي كالحية والعقرب ونحوها، وقراءة ما شاء من أول السورة أو وسطها أو آخرها، والبصق عن يساره، وإذا كان في المسجد ففي ثوبه.
مباحات الصلاة
[رد المار بين يدي المصلي]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وله رد المار بين يديه].الضمير في (له) عائد إلى المصلي، سواء أكان في فرض أم في نفل.
وقوله: [وله رد المار بين يديه] قال بعض العلماء: بل يجب عليه ذلك.
وقال بعض العلماء: لا يرد.وهو قول طائفة من أهل الرأي،
فقد كانوا يرون أن هذا من المنسوخ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اسكنوا في الصلاة)، والصحيح أنه ليس بمنسوخ، وأن الحكم باق إلى قيام الساعة، وأنه لا يجوز أن تترك إنسانا يمر بين يديك،
والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (فليقاتله فإنما هو شيطان)،
وقوله عليه الصلاة والسلام عن السترة أنها: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)،
فإن قوله: (فلا يضره) يدل على أنه إذا مر بينه وبين قبلته ضره.
قال العلماء: إن من صلى ومر المار بين يديه تضرر الاثنان، فيتضرر المصلي لأنه قطع عن خشوعه، وإذا سكت عنه أعانه على الإثم والعدوان، ومن أعظم الإثم والعدوان إثم العبادات والاعتداء على حدود الله عز وجل في المقام بين يديه،
فقالوا: يأثم المصلي من هذا الوجه؛ لأنه أعانه وسكت عنه، ويأثم المار عند علمه؛ لأنه فعل ما نهي عنه شرعا من المرور بين يدي المصلي،
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه).
قال أبو النضر: لا أدري أقال أربعين يوما أو شهرا أو سنة.ولذلك شدد الشرع في هذا المرور؛ لأنه يشوش على الناس في صلاتهم ويقطعهم عن الخشوع، وهو عبادة لا نعلم علتها الحقيقية، فمن الله الأمر وعلى الرسول البلاغ وعلينا الرضا والتسليم، وليس هذا بكثير على أشرف العبادات، وأكمل المقامات وهي الصلاة.
والمار بين يدي المصلي لا يخلو المصلى معه من أحوال:
الحالة الأولى:
أن تشعر به قبل المرور، وهذا يتأتى حينما يكون الإنسان قد رمى ببصره إلى موضع سجوده فأحس بالمار من جهة يمينه أو من جهة يساره قبل أن يحول بينه وبين القبلة، فإن شعرت به قبل مروره مددت اليد، وهذا المد من باب التنبيه، ولا يجوز لك في هذه الحالة أن تبدأ بالمقاتلة، وهذا على خلاف ما يرى من بعض الناس -أصلحهم الله- فإنه بمجرد أن يمر بين يديه يضربه، وهذا لا يجوز؛ لأن أذية المسلم والإضرار به محرمة، ولا تجوز إلا في الحدود الشرعية التي أذن الله بها ورسوله عليه الصلاة والسلام، وبناء على ذلك لا يبتدئ الناس بالدفع أو ضربهم على صدورهم مباشرة، وإنما يمد مدا قويا حتى يتنبه المار، فإذا أحسست أن ثبوت اليد يحول بينك وبينه أثبت اليد واكتفيت بالإثبات دون حركة، فإن انصرف فبها ونعمت؛ لأنه ربما يكون المار مشوش الذهن، وربما يكون شارد الذهن، وربما يكون غير منتبه لما أمامه، فإذا وضعت يدك تنبه، فحينئذ يرتدع، ولا شك أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، فإن أصر على المرور في هذه الحالة دفعته، فإن أصر قاتلته، فلك حق الدفع، ولو كان ذلك على وجه الإضرار.واختلف العلماء لو أنه دفعه وسقط وانكسر، أو أصابه ضرر،
فقال بعض العلماء: أذن الشرع بالمقاتلة ودمه هدر، فإن مات فلا يلزم الدافع الضمان ولا يجب عليه القصاص.
وقال بعض العلماء: إنه ضامن، فلا إثم عليه في الدفع، ولكنه يضمن.وهذا القول أقوى الأصول؛ لأن إسقاط الإثم عليه لا يستلزم إسقاط الضمان، وبناء على ذلك ترده وتدفعه، فإن حصل له ضرر فإنه من يدك، وابتلاء ابتلاك الله به، كما يبتلى الرجل بالسقم في جسمه والبلاء في جسده فيضمن؛ لأن الأصل الضمان حتى يدل الدليل على الإسقاط، وليس هنا دليل يدل على إسقاط الضمانات، فالدليل عندنا في الإذن بالمقاتلة، لكنه لا يستلزم إسقاط الضمان،
وفرق بين قوله: (فليقاتله)،
وبين قوله: (فليقتله)، فإن المقاتلة هي المدافعة، وهو أسلوب عام، أي أعم من أن يكون دالا على الإسقاط.
واختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (فليقاتله).
فقال بعضهم: ليس المراد أن يقاتل بمعنى أن يدافعه في الصلاة،
وإنما المراد أن المار على حالتين: فإن دفعته فلا إشكال، وإن لم يندفع،
وغلب فإنهم قالوا: فليدع عليه في صلاته، فإن القتل يستعمل بمعنى اللعن، وبمعنى الدعاء، ومنه قوله تعالى: {قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة:30]،
وقوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره} [عبس:17] أي: لعن،
فقالوا: إنه بمعنى الدعاء عليه، فإذا غلب المكلف فحينئذ يدعو عليه لعظيم الضرر الذي أصابه.ولكن القول الثاني -وهو أن المراد بالمقاتلة المدافعة- أقوى، وهو قول الجماهير، وليس المراد به استباحة دمه والخروج عن كونه مصليا.فإن كان المار قويا،
وكنت ضعيفا وغلبك فحينئذ قالوا: الإثم على المار دون المصلي.وفي بعض الأحيان في حال الجلوس بين السجدتين أو التشهد لا تستطيع المصلي أن يدفع إلا إذا كان الإنسان قويا يستطيع أن يقاتل، فحينئذ لا حرج؛ فلقد رأيت رجلا ضعيف البنية أمسك بساق رجل حتى كاد أن يموت الرجل بسبب ما أعطاه الله من القوة، لكن الإشكال إذا غلبه،
فقالوا: إذا غلبه فالإثم على المار دون المصلي.
وقد ذكر العلماء حالات المرور بين يدي المصلي فقالوا: لا يخلو المصلي والمار بين يديه من حلالت، ففي حالة يأثمان، وحالة لا يأثمان، وحالة يأثم المار دون المصلي، وحالة يأثم المصلي دون المار.فالحالة الأولى التي لا يأثمان فيها صورتها أن يكون المصلي كفيف البصر، ويمر المار وهو لا يدري أنه مار بين يدي المصلي.فسقط الإثم عن الأعمى؛ لأنه لا يرى، وهذا ليس بإمكانه، وسقط الإثم عن المار لكونه لا يعلم.
الحالة الثانية التي يأثمان فيها:
أن يبصره وهو قادر على دفعه ولا يدفعه، ويمر المار دون وجود عذر، مع علمه أنه مار بين يدي المصلي، فيأثمان معا.
الحالة الثالثة التي يأثم فيها المار دون المصلي:
أن يكون المصلي كفيفا والمار مبصرا عالما، فيأثم المار دون المصلي.وأما الحالة الرابعة التي يأثم فيها المصلي دون المار، كأن يكون المار كفيف البصر، أو لا يعلم فيمر دون أن يدفعه، فحينئذ يأثم المصلي دون المار.فذكرنا أن السنة رد المار بين يدي المصلي، وعبر المصنف بهذا الرد على العموم، فيشمل كل ما مر بين يديك، سواء أكان إنسانا أم حيوانا، فإذا مر الشيء بين يديك فإنك تدفعه، خاصة إذا كان مما يقطع الصلاة فإن الأمر فيه أشد، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه.أما بالنسبة لغير الآدمي، وهي الحيوانات،
فهي على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: ما يمكن رده بمد اليد، كالبعير وكالبقرة إذا كانت مماثلة لموقف المصلي، فإذا مد يده تنبه البعير وانصرف عنه، وكذلك البقرة، وفي حكمها أيضا الحمار والبغل ونحوه مما هو عظيم الجثة بحيث يماثل الإنسان حال قيامه.
الضرب الثاني:
أن يكون مما لا يمكن رده من الحيوانات، كالطائر إذا مر بين يدي الإنسان، فإنه يتعذر عليه أن يرده بيده.
الضرب الثالث:
أن يكون مما يمكن رده في حال القيام مع حدوث الانتقال من ركن إلى ركن، وذلك كالهره، فالهرة الصغيرة إذا مرت لا تستطيع أن تردها إلا إذا انحنيت إليها، وكذلك البهمة الصغيرة من الغنم كالسخلة ونحوها، فإنك تضطر إلى أن تنحني، فتنتقل من ركن القيام إلى ركن الركوع، وربما تبالغ في الانحناء لردها كالقطة،
فحينئذ هناك أوجه: قال بعض العلماء: يجوز له أن يدفعها ولو بالرمي، فينحني مسرعا في انحنائه،
أي: ينتقل بسرعة ويأخذها ويرميها، ثم يرجع إلى قيامه ويغتفر هذا الانتقال.وهذا قال به بعض السلف.
القول الثاني:
أنه يرد بقدمه، ولا يرد بيده، فينتقل الرد من كونه بيده إلى كونه بقدمه، فيدفعها بقدمه، فإذا جاءت تمر فإنه حينئذ يجعل قدمه في منتصف الهر ونحوه ثم يرمي به فيغتفر هذا، ويكون كالمدافعة باليد.
القول الثالث:
أنه يتقدم حتى يلتصق بالحائط أو بسترته، فتمر البهمة من ورائه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله لذلك.وأقوى هذه الأقوال وأعدلها والقولان الأخيران، فإما أن يكون الدفع بالقدم، وإما أن يكون الدفع بأن يتقدم حتى يلتصق ثم تمر هي من رواءه كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام.والرد المشروع أن يكون قبل دخوله فيما بين الإنسان وبين سترته، أما لو جاوز هذا المكان ومر،
فقال بعض العلماء: يرده.
وقال بعضهم: لا يرده؛ لأنه إذا رده حصل مروران بين يدي المصلي.وهذا أقوى، أعني الأخير؛ فإنه إذا فات الإنسان ومر، فحينئذ قد سقط التكليف وأصبح من المتعذر؛
لأن الإخلالات تنقسم إلى قسمين: ما لا يمكن تداركه فلا تكليف، وما يمكن تداركه فإنه يكلف به الإنسان، وهذا مما لا يمكن تداركه؛ فإن المرور قد فات، فحينئذ لا يطالب برده، ولأن رده يتضمن مفسدة من الانشغال مع حصول مرور زائد، وبناء على ذلك لا يشتغل برده ثانية.
الأمر الثاني الذي يراد التنبيه عليه: أن يكون المرور فيما بين يدي المصلي، فلو مر من وراء سترته فإنه بالإجماع لا يؤثر؛
لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في السيرة: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)، فدل على أن المرور وراء السترة لا يؤثر، وثبتت في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر حينما مر الناس من وراء السترة، فالسترة جعلت كغاية، فالدفع يكون فيما بينه وبين هذه الغاية، ولا يشرع له الدفع فيما زاد عن هذه الغاية.ويبقى النظر لو كان الإنسان يصلي إلى غير سترة، أو كانت سترته بعيدة، فهل يشرع له أن يتقدم حتى يرد؟و a السنة للإنسان أن تكون سترته على ممر الشاة من موضع سجوده، وهذا يأتي بأكثر من ذراع، فهذا القدر يتركه ويسجد،
كما جاء في حديث سهل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (جعل هذا القدر ممر الشاة) قالوا: العلة في هذه -والله أعلم- أن لا يشبه عبدة الأ [عد الآيات أثناء الصلاة]قال رحمه الله تعالى: [وعد الآي]،
المراد بالعد: الحساب، والآي جمع آية، وهي آيات القرآن.ومراد المصنف أن المصلي إذا أراد أن يعد الآيات في صلاته فلا حرج عليه في ذلك،
وقد جاء حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يعقد أصابعه لعد الآي)، ورخص فيه بعض السلف رحمة الله عليهم، وجاء عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعلهم لذلك.
وقال العلماء: إنه اغتفر هذا الفعل لكونه يسيرا، وقد يحتاج الإنسان للعد لطلب فضيلة، كما في قيام الإنسان بمائة آية وقيامه بألف آية في الليل، فبين المصنف رحمه الله بهذه العبارة أن من اشتغل بعد الآي فلا حرج عليه، ولكن الأكمل والأفضل والأعظم أجرا أن يقتصر على التلاوة بالتدبر.وأما عد الآي فإن حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه لم أعثر على من صححه وقال بثبوته، ولذلك يبقى على الأصل، ولأن المصلي إذا عد الآي فإن ذلك يشوش عليه فكره، وكذلك قد يمنعه ويحول بينه وبين تدبر معاني الآيات،
ولذلك قالوا: إنه خلاف الأولى على أقل درجاته.
[الفتح على الإمام]
قال رحمه الله تعالى: [والفتح على إمامه] إذا صليت وراء إمام وارتج على هذا الإمام أو أخطأ فإنه يحق لك أن تفتح عليه، والفتح على الإمام يكون عند حدوث الخطأ، والخطأ يأتي على صور في تلاوة القرآن، فتارة يكون الإمام واقفا عند الآية لا يعرف ما بعدها، وتارة يردد الآية على سبيل اللبس مع آية أخرى، خاصة في المتشابه من الآيات.ففي هاتين الحالتين يفصل في حكمه، فإذا كان الإمام قد ارتج عليه فقرأ الآية ثم وقف ولم يكمل ما بعدها؛ فإنه حينئذ يحتمل أن يكون وقوفه لتدبر أو تفكر أو اتعاظ، ويحتمل أن يكون وقوفه لمكان الخطأ وعدم معرفة ما بعد الآية على سبيل النسيان، فإن غلب على ظنك أنه قد وقف على هذه الآية على سبيل الخطأ جاز لك أن تبادره بالفتح وأن تعاجله به، وأما أن يبادر الإنسان مباشرة بالفتح فلا؛ لأن الأصل سكوت المأموم وعدم كلامه، وإنما أبيح لك أن تتكلم فاتحا على الإمام عند وجود الحاجة، فلما تردد الحال بين كونه محتاجا أو غير محتاج بقي على الأصل.
ولذلك قال العلماء: ليس كل سكوت من الإمام في وسط الآيات أو عند ختم الآيات يدل على أنه قد التبس عليه، أو ارتج عليه، ولذلك هذا النوع من الوقوف ينبغي على الإنسان أن لا يتعجل فيه؛ لأنه ربما قرأ الإمام فأدركه خشوع الآية فقطع نصفها، وربما غلبته نفسه بالفكر والتأثر فوقف حتى يسترجع نفسه، وربما لم يستطع إكمال الآية لضيق نفسه، ونحو ذلك.
قالوا: ففي مثل هذه الصور لا يعاجل الإنسان بالفتح، وهذا إذا وقف الإمام على رأس الآية، أو وقف أثناء الآية،
إلا أنهم قالوا: إن وقوف الإمام أثناء الآية أبلغ في الدلالة على كونه ناسيا منه إذا وقف عند آخر الآية.أما وقوفه عند آخر الآية فلا شك أن مبادرتك بالفتح خلاف الأولى، وذلك أنه من المعهود في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من قراءته سكت، ثم كبر للركوع، فلربما سكت الإمام من أجل الركوع، فلذلك كان وقوفه على رأس الآي وتأخره في قراءة ما بعدها لا يدل على كونه ناسيا.
ومن هنا قالوا: من فقه الإمام إذا كان وقوفه على سبيل النسيان أن يكرر الآية التي وقف عليها، فإن تكراره يشعر من وراءه بالخطأ، فهذا إذا وقف على رأس الآيات.
أما الحالة الثانية: وهي أن يرتج على الإمام،
والمراد به: أن تجده يكرر الآية على وجهين وهذان الوجهان لا أصل لهما، بمعنى أن أحدهما الصحيح والآخر خطأ، أما لو كررهما على وجهين يحتملان الصواب -كما هو الحال في القراءات المختلفة- فهذا ليس محل كلام العلماء رحمة الله عليهم.
فقولهم: (إذا ارتج) مأخوذ من رج الشيء إذا خض، والمراد بذلك أن الإمام يتردد في الآية.أما إذا أخطأ فقرأ الآية على غير ما أنزلت عليه، فحينئذ بمجرد خطئه تبادره بالفتح، ويختلف هذا الوجه عن الوجه الذي قبله بكون الوجه الذي قبله يتحرى فيه المأموم، وهذا الوجه يبادر فيه بالفتح.
وقوله: [على إمامه] تقييد فيه نوع من التخصيص؛ لأن الإضافة تقتضي التخصيص، فدل على أنه يشرع له أن يفتح على إمامه دون إمام آخر، ودون قارئ آخر.
ولذلك صور: الصورة الأولى: لو أن إمامين صليا بجوار بعضهما، فأخطأ أحد الإمامين وكنت وراء المصيب وسمعت بخطأ الثاني الذي لا تأتم به،
قالوا: لا يفتح عليه؛ لأنه ينشغل عن صلاته خاصة مع وجود من يفتح عليه.
الصورة الثانية: أن يقرأ بجوارك إنسان كتاب الله عز وجل فيخطئ،
فهنا قال بعض العلماء: يجوز لك أن تفتح عليه، بخلاف الإمام.
ومن العلماء من قال: إنه لا يفتح عليه كالإمام الذي لا تأتم به،
ومن رخص في الفتح عليه قال: إن هذا -أي الفتح- إنما شرع لإصلاح الخطأ في كتاب الله عز وجل، ولعظيم حرمة كلام الله عز وجل، فيشرع للإنسان أن يبين خطأه، ويغتفر هذا الكلام ويقصد به الذكر، فخففوا في هذا، كأن يقرأ بجوارك قارئ فيخطئ، فلك أن تقرأ الآية التي يقرأها، وهذا على سبيل التعبد لا على سبيل الرد.وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة -أعني إذا أخطأ الإمام- فهل من حقك أن ترد عليه أو ليس من حقك ذلك؟ وذلك على وجهين مشهورين عند العلماء رحمة الله عليهم، فذهب جمهور العلماء إلى مشروعية الفتح على الإمام، وأن الإمام إذا أخطأ في قراءته كان من حقك أن تفتح عليه بالصواب،
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى عدم جواز الفتح على الإمام وقال: إنه يلزم المأموم أن يسكت، وأما الإمام فإنه يتذكر، فإن تذكر فبها ونعمت، وإلا ركع وانتقل إلى موضع آخر من كتاب الله عز وجل.والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، وذلك لما ثبت في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة يقرأ فيها، فالتبس عليه،
فلما انصرف قال لأبي بن كعب: أصليت معنا؟
قال: نعم قال: فما منعك أن تفتح علي).
قالوا: فهذا يدل دلالة واضحة على مشروعية فتح المأموم على إمامه، وأنه لا حرج على المأموم إذا تكلم بما يعين إمامه على صواب قراءته، وهذا المذهب لا شك أنه أقرب المذاهب إلى السنة.وأما ما يفتح فيه من الأخطاء فالصواب أنه يفتح في جميع الأخطاء، سواء أأخطأ بإسقاط آية أم جملة أم كلمة أم حرف أم غير الشكل، وسواء أكان تغيير الشكل محيلا للمعنى أم غير محيل للمعنى؛ لأن المقصود إصلاح قراءته لكتاب الله عز وجل.وعلى هذا فيشرع الفتح على الأئمة في هذه الأحوال كلها، والإنسان مثاب على هذا الفتح ومأجور عليه.
[لبس الثوب أثناء الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [ولبس الثوب].
أي: وله لبس الثوب في الصلاة.وهذا مبني على حديث مسلم،
فقد جاء عن وائل بن حجر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر للصلاة والتحف بإزاره).
قال بعض العلماء: هذا يدل على مشروعية لبس الإنسان لثوبه أثناء الصلاة،
ولكن قالوا: بشرط أن لا يكون بالحركة الكثيرة، فإن التحاف النبي صلى الله عليه وسلم بالإزار إنما كان على وجه ليس فيه كثير عبث وكثير حركة، بخلاف الدخول في الثوب الآن، فإنه يحتاج إلى كثير حركة وكثير فعل، ولذلك يفرق بين اللبس الذي فيه كثير الحركة، وما فيه يسير الحركة.وبناء على ذلك فله أن يصلح ثوبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أصلح إزاره، وصورة ذلك أن تكون العمامة على رأسه فيلفها، أو يرفع الغطاء -أعني غطاء القلنسوة- عن جبهته لكي يسجد عليها، ونحو ذلك، فهذا لا حرج فيه، أما ما كان من اللباس يحتاج إلى كثير عمل فإنه لا يفعله في صلاته.
[لف العمامة]
قال رحمه الله تعالى: [ولف العمامة].
أي: إدارتها؛ لأنها إذا سقطت أزعجته،
ولذلك قالوا: لا حرج عليه في لفها؛ لأنه ربما انحلت العمامة فسقط كورها، خاصة عند السجود؛ فإذا ارتفع من سجوده وأراد أن يعيد كورها فإنه لا حرج عليه في ذلك إلحاقا بالتحاف النبي صلى الله عليه وسلم بالإزار.
ومن أهل العلم من قال: فرق بين الإزار والعمامة ونحوها؛ لأن الإزار يتوقف عليه ستر العورة الذي من شروط صحة الصلاة، فكان أمره أشد من العمامة التي لا يشترط فيها ما يشترط في الإزار، فلذلك فرقوا بين العمامة والإزار.ولكن هذا التفريق محل نظر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كبر وقد ائتزر، وإنما مراد وائل شد الإزار، وشد الإزار لا شك أنه مرحلة فوق تغطية العورة، فخرج عن كونه مؤديا لشرط الصحة إلى ما هو فضل أو معين على الفضل.
[قتل الحية والعقرب والقمل في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [وقتل حية وعقرب وقمل].
أي: وللمصلي أن يقتل الحية العقرب، وأن يقتل القمل.أما قتله للحية والعقرب فقد جاء فيه حديث السنن من أمره عليه الصلاة والسلام بقتل الأسودين في الصلاة،
أي: العقرب والحية.وهذا يدل على سماحة الشريعة ويسرها، ووجه ذلك أن المصلي لو اشتغل بصلاته وجاءته العقرب فلدغته فإن ذلك مظنة أن يموت، وكذلك إذا لدغ من الحية، ولذلك يعتبر هذا -أعني جواز القتل أثناء الصلاة- من باب ارتكاب أخف الضررين، ويعتبره العلماء من باب تعارض المفسدتين، فعندنا مفسدة الفعل وهو القتل الذي يخرج المصلي عن كونه مصليا، ومفسدة فوات النفس وحصول الضرر بلدغة الحية والعقرب.
فلذلك قالوا: كون الشريعة تأذن بقتل الحية وبقتل العقرب يدل على تقديم المفسدة العليا على المفسدة الدنيا، وهذا أصل في الشريعة،
ومنه القاعدة المشهورة: (إذا تعارضت مفسدتان أكبرهما)،
وبعضهم يقول: (روعي ارتكاب أخفهما بدفع أعظمهما) أي: لدفع الأكبر، ومن ذلك كسر السفينة، كما في قصة موسى مع الخضر،
حيث علل الخضر عليه السلام كسرها بقوله فيما حكى الله تعالى عنه:: {فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} [الكهف:79]، فكسرها أفضل من أخذها بالغصب كلها،
ولذلك قالوا: كسر السفينة مفسدة أهون من فوات السفينة بكاملها.وعليه فرع العلماء جواز أن يذهب ثلث الوقف لاستصلاح ثلثيه، ونحو ذلك من المسائل، فكون الشريعة تأذن بقتل الحية والعقرب في الصلاة من باب ارتكاب أخف الضررين؛ فإن الاشتغال بالقتل أولى من كون الإنسان يلدغ،
قالوا: لأنه إذا لدغ شوشت عليه صلاته، ولم يستطع أن يصلي وربما مات،
فلذلك قالوا: تقدم المفسدة العليا أعني فوات النفس.
ومما تفرع على هذا الأصل من المسائل: أنك لو خفت من شيء يفضي بك إلى فوات نفسك فإنه يجوز لك في الصلاة أن تدفعه، فلو جاء الإنسان أسد وهو في صلاته شرع له أن يفر، أو يتخذ السلاح، أو يضربه بالسلاح درءا لمفسدة فوات النفس، وكذلك الحال بالنسبة لغيره، فلو رأيت أعمى يكاد يقع في حفرة جاز لك أن تقطع الصلاة لإنقاذه إن توقف إنقاذه على قطع الصلاة، وجاز لك أن تتكلم، وأن تصوت بصوت تمنعه من الوقوع إن كان ذلك يمكن،
فقالوا: هذا من باب حفظ الأنفس، ولا شك أنه مطلوب شرعا، بل هو أحد الضروريات الخمس التي راعتها الشرائع كلها.
ومن ذلك أيضا: المرأة إذا كان معها صبيها الصغير فرأته قد اقترب من نار، أو خشيت عليه السقوط على وجه يوجب تلف نفسه، أو ذهاب عضو من أعضائه، أو حصول الضرر عليه، قالوا يجوز لها أن تتحرك وتنقذه، فإن توقفت نجاته على الخروج من الصلاة شرع لها الخروج من الصلاة.فكل هذه الأمثلة مخرجة على ما ذكرناه.أما الأدلة التي دلت على مشروعية تحصيل حفظ الأنفس بفوات الصلاة، فمنها حديث السنن الذي ذكرناه في قتل الحية والعقرب.
ومنها: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (جاءه الشيطان في الصلاة فتكعكع، فتكعكع الصف الأول، ثم لما سلم عليه الصلاة والسلام سأله أصحابه،
فقالوا: رأيناك تكعكعت فتكعكعنا -
أي: رأيناك تأخرت فتأخرنا-
فذكر أن الشيطان قد جاءه بشهاب فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أعوذ بالله منك)،
وفي رواية: (أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله).إلى أخر الحديث.
وقالوا: إن كونه يأتيه بشهاب من نار ثم يدفعه النبي صلى الله عليه وسلم يدل على دفع المفاسد التي هي دون القتل؛ فإن شهاب النار محرق ولكنه لا يصل إلى درجة فوات النفس فجعلوا حديث الحية والعقرب فيما فيه فوات النفس، وجعلوا حديث النار فيما فيه الضرر البالغ على الإنسان.
ومن الأدلة أيضا: مشروعية الصلاة حال القتال والمسايفة فإن الله أذن للعبد أن يصلي ويقاتل، وذلك حفظا لنفسه، فدل على أنه يجوز للإنسان أن يتحرك تحصيلا لهذا الأصل الذي ذكرناه.وما الحية والعقرب فبعض العلماء يفرق بين الحية والعقرب،
قالوا: إن شأن الحية أخف من شأن العقرب، والسبب في ذلك أن الحيات لا يعترضن غالبا إلا من اعترضهن، وربما مرت الحية على ساق الإنسان ولا تؤذيه، وربما مرت أمامه ولا تتعرض له، وإنما تتعرض لمن يتعرض لها.
فقالوا في هذه الحالة: هي أخف من العقرب، بخلاف العقرب فإن ضررها أبلغ وقصدها للأذية أبلغ،
ففي حالة كونه يتضرر من الحية قالوا: يتريث ولا يعجل إذا غلب على ظنه أنه قد يأمن الشر، وإنما يجوز لك أن تقطع الصلاة، أو تقاتلها أثناء الصلاة إذا كان الفعل يسيرا،
وغلب على ظنك كونها ضارة لك وقال بعض العلماء: لا يفصل بهذا التفصيل؛ لأن الحية مأمور بقتلها.
قال رحمه الله تعالى: [فإن أطال الفعل عرفا من غير ضرورة وبلا تفريق بطلت ولو سهوا] بعد أن بين لنا رحمه الله أنه يشرع للمصلي أن يفعل هذه الأفعال من قتل الحية وقتل العقرب بين لنا أنه إن طال فعله -أي للقتل ورد المار- بحيث يؤثر في صلاته استأنف الصلاة، وإلا بنى.
وهذه المسألة للعلماء فيها وجهان: فجمهور العلماء على الجواز،
ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد رحمة الله على الجميع، ووافقهم أهل الحديث وأهل الظاهر.وذهب الإمام أبو حنيفة إلى عدم مشروعية هذه الأفعال،
فقال: إن الحركة في الصلاة نسخت،
وذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم: (اسكنوا في الصلاة).والصحيح أنه باق، وأنه لا حرج على الإنسان أن يفعل هذه الأفعال عند وجود أسبابها وموجباتها.
فإذا قلنا على مذهب الجمهور: إنه يشرع لك أن تقتل الحية وأنت في الصلاة، سواء أكانت فريضة أم نافلة، وأنه يشرع للإنسان أن يتسبب في نجاة غيره إذا كان في الصلاة،
فحينئذ لا يخلو فعلك من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون فعلا يسيرا.
والحالة الثانية:
أن يكون فعلا كثيرا.فإن كان فعلا يسيرا فإنه مغتفر عند الجمهور، ومثال ذلك أن يكون بجوار الإنسان عصا فأخذها ورفعها مباشرة وضرب بها الحية ثم رماها وألقاها، فهذا فعل يسير، أو كان بجواره رمح فأخذه وطعن به الحية فقتلها، فهذا أيضا يسير مغتفر.وإن كان فعلا كثيرا، فهذا يوجب استئناف الصلاة، بمعنى أنه قد خرج عن كونه مصليا وتستثنى حالة المسايفة وهي القتال، فإن الكثير فيها والقليل على حد سواء، فلو أن العدو نزل بالمسلمين في وقت الصلاة، فقاتلوه بحيث لم يبق إلا قدر أدائها، قالوا: يقاتل على حالته، ولو كان في حال ضربه بالسيف،
فإنه يقاتل ويصلي ولو ترك ركوعه وسجوده لقوله تعالى: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} [البقرة:239].وإذا ثبت أنه يشرع لك أن تفعل هذه الأفعال،
وقلنا: إن الكثير مؤثر،
فللعلماء وجهان في هذه ضابط هذا الكثير المؤثر: فقال بعض العلماء: الكثير عندي يرجع إلى العرف ومراده بالعرف أنه لو نظر إليه شخص وهو في حال أفعاله وحكم بكونه غير مصل بطلت صلاته، وأما لو نظر إليه ورأى أن فعله يسيرا، ولا يخرج في العرف عن كونه مصليا، فصلاته صحيحة، ويبني على ما مضى.
وقال بعضهم: الضابط ثلاث حركات، وبشرط أن تكون متتابعات، فإن فرق بينها لم يؤثر، فإذا تتابعت ثلاث حركات فأكثر حكم ببطلان صلاته، ويستأنف الصلاة.
وقوله: [فإن أطال الفعل عرفا] دل على أن المصنف رحمه الله يميل إلى التقييد بالعرف، كما هو مذهب الشافعية ووافقهم جماعة على ذلك.وذهب الحنفية إلى الضابط بالعدد وهو عندهم ثلاث حركات متتابعات.والقول بالعرف من القوة بمكان، ولكن تعتبر الثلاث الحركات في بعض الصور.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (89)
صـــــ(9) إلى صــ(15)
[قراءة أواخر السور وأوساطها]
قال رحمه الله تعالى: [ويباح قراءة أواخر السور وأوساطها].
أي: يباح لك إذا صليت أن تقرأ أواخر السور وأواسطها، ولا حرج عليك في ذلك؛
لأن هذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أكثر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم} [البقرة:136]، إلى آخر الآية،
وفي الركعة الثانية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} [آل عمران:64]، إلى قوله {اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران:64]).
قالوا: فهذا يدل على جواز قراءة جزء السورة في ركعة وجزء السورة الثانية في ركعة ثانية، وهو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن قالوا: الأفضل والأكمل أن يقرأ السورة كاملة، وذلك أفضل لكونه هدي النبي صلى الله عليه وسلم الغالب، ولاشتمالها على الموعظة،
فإن إتمام السور أبلغ من اقتطاع أجزاء منها لكن قالوا: ربما احتاج الإنسان أن يذكر الناس بآيات، أو كانت قراءته تخشع في مواضع دون مواضع فحينئذ لا حرج عليه أن يتخير من كتاب الله عز وجل، ويقرأ بعض الآيات في ركعة ثم غيرها في ركعة أخرى، سواء من أواخر السور، كأواخر سورة البقرة أو أواخر سورة آل عمران، أم من أواسطها، كما جاء في حديث ابن عباس في صلاته عليه الصلاة والسلام في الرغيبة، فكل ذلك جائز وسائغ.
أما الدليل على جواز ذلك فعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن)، فكونه يقرأ من وسط السورة أو آخرها هو الذي تيسر له، ولذلك لا حرج عليه في فعله هذا الوجه، لكن الأفضل والأكمل إتمام السور لما ذكرناه، ولأنه الهدي الغالب من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[تسبيح الرجل وتصفيق المرأة في الصلاة للحاجة]
قال رحمه الله تعالى: [وإذا نابه شيء سبح رجل، وصفقت امرأة ببطن كفها على ظهر الأخرى].قوله: [سبح] اختصار لـ (سبحان الله) فقوله: [سبح رجل] أي: قال: سبحان الله.ويرفع بها صوته إذا نابه شيء، كأن يقرع عليه ضيف الباب،
أو يتحرك عنده الطفل حركة غريبة ويخشى عليه فيقول له: سبحان الله.حتى يتنبه.أو كان هناك أمر يحتاج إلى التنبيه عليه لجالس بجواره،
فإنه يقول: سبحان الله.
والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)، فدل هذا على مشروعية أن يسبح الرجال.ومن ذلك أن ينوب الإنسان أمر داخل الصلاة، فإنه من باب أولى وأحرى، كأن يسهو الإمام، فإذا سها الإمام في الأفعال تسبح له، فلو أن إماما كبر للجلوس بين السجدتين فإذا به يحاول القيام، أو قام ووقف فإنك تسبح؛ لأن الجلوس بين السجدتين لا بد من الرجوع إليه، فهو ركن من أركان الصلاة، وهكذا إذا فعل فعلا يحتاج إلى تنبيهه عليه،
ولا حرج عليك في ذلك لعموم قوله عليه والصلاة والسلام: (إنما التسبيح للرجال).وأما التصفيق فقد ثبت في جزء الحديث الثاني، وهو يختص بالنساء،
والحديث في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)، وفيه دليل على أن النساء إذا علمن بخطأ الإمام وسهوه وغفل الرجال عن التنبيه، أو صلت المرأة مع زوجها وسها فإنها حينئذ تصفق له،
والتصفيق ينقسم إلى قسمين في الأصل: تصفيق مشروع في الصلاة، وتصفيق غير مشروع وهو تصفيق أهل اللهو والمجون.ويكون التصفيق ببطن الكف إلى بطن الكف، وهو التصفيق المعروف والمعهود، سواء أوقع بالمقابلة الكاملة أم كان بجزئه، كأن يجعل أصابعه على بطن راحته فإنه يعتبر من التصفيق.
أما التصفيق المشروع الذي يكون في الصلاة فقيل: هو أن تضرب بظاهر الكفين على بعضهما.
وقال بعض العلماء: التصفيق المشروع في الصلاة أن تضرب ببطن إحدى اليدين على ظهر الأخرى.
وقيل: أن تقلب فتجعل الظاهر على باطن الأخرى.وسواء أفعلت هذا أم هذا فكل ذلك جائز ومشروع، وفي هذا الحديث حجة لما ذهب إليه جمهور العلماء من أن صوت المرأة عورة، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صرفها من اللفظ إلى التصفيق، مع أن المرأة قد تصلي مع محارمها ولم يرد استثناء.
ولذلك قالوا: عدل عن التسبيح إلى التصفيق بالنسبة للنساء لمكان الافتتان بأصواتهن،
والفرق بين قولنا: إن صوت المرأة عورة،
وقولنا: ليس بعورة يظهر في مسألة محادثتها للرجال من دون حاجة، فإن القول بأنه ليس بعورة معناه أنه لا حرج أن يسمع الرجل صوت المرأة إذا أمن الفتنة.والأصل أن الغالب كالمحقق، ولذلك قالوا: الأصل فيه أنه عورة، ولا يرخص إلا لحاجة كسؤال واستفتاء ونحو ذلك.
[البصق في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [ويبصق في الصلاة عن يساره وفي المسجد في ثوبه].البصاق والبساق والبزاق ثلاث لغات، بالصاد والسين والزاي.
وقوله: [ويبصق في الصلاة عن يساره] لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المصلي أن يبصق قبل وجهه، ونهاه أن يبصق عن يمينه،
وقال: (عن يساره تحت قدمه)، فإذا كان في برية فإنه يشرع له أن يتفل عن يساره ويبصق عن يساره تحت قدمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك.أما إذا كان في المساجد وكانت مفروشة فإنه لا يجوز له أن يبصق لا عن يمينه ولا عن يساره ولا قبل وجهه ولا وراء ظهره، فلا يجوز له بحال أن يبصق داخل المسجد، وفي القبلة أشد،
ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك وقال: (البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)، وهذا حينما كانت المساجد من التراب، وكان عليه الصلاة والسلام يدفنها، وثبت عنه في الحديث الصحيح أنه لما رأى نخامة في قبلة المسجد حكها، ثم طيب مكانها صلوات الله وسلامه عليه.فهذا يدل على تعظيم أمر المساجد، وأنه لا يجوز البصاق فيها، وقد ثبت في حديث مسلم أنها من خطايا أمته التي عرضت عليه صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض العلماء: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البصاق في المسجد لمكان الأذية والضرر فإن هذا يدل على أن كل شيء فيه أذية للمصلين وفيه إضرار بهم لا ينبغي للمسلم أن يفعله في المسجد،
فالأصل أن ترفع المساجد وأن تكرم لظاهر آية النور في قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} [النور:36].والمراد بها المساجد.
قال بعض المفسرين: معنى قوله تعالى: (أن ترفع): أي: تصان عما لا يليق بها حسا ومعنى، فما لا يليق بها حسا مثل البصاق ونحوه كالقاذورات، وما لا يليق بها معنى كلغط أهل الدنيا ونحوه؛ فإنها لم تبن لهذا،
ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا).
فقال العلماء: في هذا دليل على أنه ينبغي صيانة المساجد، ولذلك قالوا من دخل بنعليه على مسجد مفروش فإنه لا يخلو من الإثم؛ لأنه إنما شرعت الصلاة في النعلين في ما هو غير مفروش، أما إذا كان مفروشا فإنها قد خرجت عن صورة السنة، ولا بد في صورة السنة من التأسي والاقتداء، فكونه يصلي على فراش على خلاف ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الفراش غير موجود على عهده صلوات الله وسلامه عليه، ولم يصل على فراش البتة، بل قام على حصير -كما في حديث أنس في الصحيحين- فلم يقم بنعليه صلوات الله وسلامه عليه.فهذا يدل على أن المعنى هو عدم أذية المصلين، وعدم التسبب في الإضرار بهم، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام -وهو أصل في الشرع-
أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار)، وخرج العلماء عليه القاعدة المشهورة التي هي إحدى قواعد الفقه الخمس (الضرر يزال)، فلذلك لا يشرع للمصلي أن يتفل قبل وجهه،
وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟!) أي: هل يرضى أحد أن يستقبل من قبل وجهه بالنخامة؟! فالله أجل، ولله المثل الأعلى.فإن كان في المسجد فإنه يبصق في ثوبه كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام، ثم يدلك الثوب، أو كما هو موجود الآن من المناديل التي يضعها المصلي في جيبه، فله الحق أن يخرجها من الجيب ويبصق فيها ولا حرج عليه في ذلك، لكن السنة والأولى له إذا بصق في المنديل أن يجعله في شقه الأيسر وأن لا يجعله في شقه الأيمن؛ لأن المعنى موجود.ولا ينبغي أن نجعل الأواني التي تحفظ هذه الفضلة من هذه المناديل في قبلة المصلين، وهذا خطأ يشيع عند بعض الناس، فإنهم يجعلون هذه الأواني التي تحفظ بقايا النخامات قبل المصلين أمام وجوههم، ولذلك لا يشرع مثل هذا، وإنما تصرف إلى مياسر الصفوف ونحو ذلك.
الأسئلة
[حكم الرد على الإمام إذا أخطأ في التجويد]
qهل يجوز لنا أن نرد على الإمام إذا أخطأ في حكم من أحكام التجويد؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: تجويد القرآن وترتيله أمر لازم، وذلك لقوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا} [المزمل:4]، وهو مشروع؛ فإن القرآن إنما نزل على صورة معينة، وهذه الصورة تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبريل، وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتناقلتها الأمة جيلا بعد جيل، ورعيلا بعد رعيل على صورة مخصوصة وهيئة مخصوصة عرفت بمصطلح اصطلحوا على تسميته بالتجويد.وهذا المصطلح يكاد يكون إجماع السلف رحمة الله عليهم ومن بعدهم على كونه مشروعا في الأصل، فلم يوجد في العصور المتقدمة بل إلى عهد قريب من يقول: إن التجويد بدعة.وذلك لأن القرآن واضح في الأمر بترتيل القرآن.والمراد بترتيل القرآن إعطاء الحروف حقها ومستحقها، ولذلك قال الله عز وجل: {بلسان عربي مبين} [الشعراء:195]، فلم يقتصر على وصفه بكونه لسانا عربيا حتى أضاف إليه كونه مبينا، قيل: مبينا من جهة كونه يبين الحق، وقيل: مبينا من جهة اللفظ.ولا مانع من الجمع بين المعنيين كما هو مقرر في أصول التفسير أن اللفظ إذا احتمل المعنيين وكان يمكن أن يطلق عليهما معا فإن الأصل حمله على ذلك العموم المقتضي لهما معا.وقد اختص أهل القرآن بتجويده وضبطه وإتقانه وتحريره، وكان لهم شرف هذا الضبط وهذا التحرير، وعقدت لهم مجالسهم في بيوت الله عز وجل وفي أماكن حلق الذكر والعلم، ولم ينكر أحد هذا العلم، بل قالوا في حكمتهم المشهورة: القراءة سنة متبعة لا تؤخذ إلا من أفواه الرجال فكانوا يأخذون القرآن بالتلقي.وأخذ المصاحف والقراءة بها فيها بالطريقة الموجودة اليوم ما عرف إلا في هذه الأزمنة الأخيرة، وإنما كان في القديم لا يقرأ الإنسان إلا عن طريق الشيخ صيانة لكتاب الله عز وجل وحفظا له من الخطأ والزلل.ومن قال: إن التجويد بدعة فإن قوله محل إشكال عظيم؛ إذ لو قلنا: إن الإنسان يقرأ القرآن على ظاهره فكيف يقرأ قوله تعالى: (كهيعص)؟ فمن أين جاءتنا معرفة المدود لنقرأ: (كاف، ها، يا، عين، صاد)؟ ومن أين جاءتنا تلاوة هذه الحروف على هذا الوجه المعين؟ فما جاءنا إلا عن طريق الرواية، فكما أنه ألزم بهذه الرواية على هذا الوجه فكذلك الشأن في كتاب الله عز وجل في حروفه، ولذلك تجد التنوين والغنة والإخفاء وغيرها من الأحكام تترتب عليها مسائل دقيقة في صفة الحروف.وقد أثر عن علي رضي الله عنه أنه لما فسر الترتيل فسره بإعطاء الحروف حقها من صفة لها ومستحقها، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله لزوم التجويد، ومرادهم بذلك التجويد الذي تنضبط به الحروف، وتنضبط به مخارج الحروف، أما الزائد على ذلك من التحبير والتحسين والإتقان الذي هو مرتبة الكمال فهو مرتبة فضل، وليس بمرتبة وجوب، ولذلك لا حرج في كون الإنسان يجهله، لكن إذا جاء إلى القدر اللازم مثل إخفاء الحرف، ومثل كون الحرف منونا، والذي تبين به صفة الحروف، فهذا سنة متبعة، وينبغي التأسي فيها والاقتداء بسلف هذه الأمة ومن بعدهم، ولا شك أن هذا الأمر مما يكاد يكون مجمعا عليه بين أهل العلم رحمة الله عليهم.وعليه فإذا أخطأ الإمام في أحكام التجويد بما يخل، فلا شك أنه يشرع الفتح عليه ويلزم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما لو أخطأ في الآية كلها، ولذلك يشرع في مثل هذه الصورة أن يفتح عليه، أما إذا كان في الكمال فإنه يغتفر، وخاصة إذا كان من الأميين الذين يطول ردهم، والله تعالى أعلم.
حكم الفتح على الإمام بصوت عال
q يلاحظ على بعض المأمومين في قضية الفتح على الإمام أنه إذا كان في مؤخرة المسجد يفتح على الإمام بصوت عال يسمع في أرجاء المسجد، فهل هذا الفتح يعتبر من العبث الذي يؤثر في صحة الصلاة؟
a هذه المسألة مهمة جدا، خاصة في صلاة التراويح، فتجد الناس يمسكون المصاحف، وقد يكون أحدهم خارج المسجد، فإذا أخطأ الإمام رفع صوته ورد على الإمام، وهذا يعتبر من الأمور التي ينهى عنها؛ لأنه لا حاجة إلى كلامه، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
ولذلك قال العلماء: إذا كان وراء الإمام من يتولى الرد عليه فإنه يترك الأمر له؛ لأنه ليس هناك حاجة إلى أن يتكلم.
وقالوا: إنه لو أخطأ الإمام وأنت خارج المسجد، بحيث لا يمكن أن يبلغ الصواب الإمام فإنه حينئذ يشرع ترك الفتح؛ لأنه يعتبر من العبث؛ إذ ليس فيه إلا التشويش على المأمومين، لكن لو كنت في طرف الصف أو بعيدا، ويغلب على ظنك أنك لو فتحت ربما نقل غيرك فتحك للذي أمامه، والذي أمامه لمن أمامه حتى يصل إلى الإمام، فحينئذ لا حرج أن تفتح عليه لكي يبلغ بصوتك، بل وترفع صوتك ولا حرج عليك في هذا.أما لو وجد وراء الإمام من يفتح عليه وينبهه على الخطأ فحينئذ يلتزم الإنسان الصمت كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم المأموم وراء الإمام، فينصت ويسكت؛ لأنه هو الأصل في المصلي، والله تعالى أعلم.
[قتل القمل أثناء الصلاة]
q ما حكم قتل القمل في الصلاة؟
a القمل له حالات:
الحالة الأولى:
أن يشوش على المصلي، كما لو كان في رأسه وبين شعره وآذاه وأزعجه، فقد شرع له أن يقتله، ويكون ذلك كما هو معلوم بحركة الإصبع.
الحالة الثانية:
أن يكون بعيدا عن الأذية، كأن يراه على ثوبه، فبعض العلماء يعمم ويقول: يقتل القمل مطلقا، فيدخل في هذه الحالة أن يقتله ولو كان على ثوبه؛ لأن الضرر في مظنة الوقوع فإذا كان في هذه الساعة على الثوب فربما بعد ساعات يكون على الجسد، ومن ثم قالوا: يشرع له أن يقتله بناء على العموم ولا تجد العلماء يفرقون بين كونه مشوشا في الصلاة أو غير مشوش، لكن لو أمكن الإنسان أن يصبر عنه حتى ينتهي من صلاته فهو أولى وأحرى وقتل القمل -كما يقول العلماء- حركته يسيرة وفعله يسير، ولذلك لا يشدد فيه، وليس كقتل غيره، والله تعالى أعلم.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (90)
صـــــ(16) إلى صــ(25)
أسئلة
[دعاء المصلي أثناء الصلاة إذا مر بآية عذاب أو رحمة]
Q إذا قرأ الإمام قول الله عز وجل: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} [القيامة:40] ونحوه، فهل يشرع أن يقول الإمام والمأموم: (سبحانك.بلى)، أم لا يشرع؟
A نعم.فهذا فيه حديث في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (سبحانك.بلى) لما قرأ قوله تعالى:: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} [القيامة:40]، وهذا إنما يكون في النافلة، أما في الفرض فلا.وكان عليه الصلاة والسلام في قيام الليل إذا مر بآية عذاب استعاذ، وإذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله، ولذلك ما حفظ عنه عليه الصلاة والسلام إلا في قيام الليل.ولذلك يعتبر هذا الأصل في صلاة النافلة، فلا حرج على المصلي أن يفعل ذلك؛ لأن أمرها أخف من أمر الفريضة، وأما في الفريضة فإنه يسكت لأنه الأصل، حتى يدل الدليل على جواز الكلام والنطق؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أنه لما نزل قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة:238]، قال الراوي: (أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام)
[حكم تصفيق الرجال والنساء في الحفلات والأعراس]
Q ما حكم التصفيق للرجال في الحفلات ونحو ذلك، وما حكم التصفيق للنساء في غير الصلاة، كالأعراس ونحوها؟
A التصفيق من صنيع أهل اللهو؛ ولذلك لا يشرع، ويسقط مروءة طالب العلم والعالم إذا فعلاه، وأما عوام الناس فينبهون على أنه من صنيع أهل اللهو ومن لا يؤبه له، أما طلاب العلم وأهل الفضل ومن هم قدوة فلا يصفقون، وحملوا قوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} [الأنفال:35] على هذا الوجه، والله تعالى أعلم.
[حكم تغطية المصلي لفمه أثناء الصلاة]
Q ما حكم تغطية المصلي لفمه أثناء الصلاة؟
A تغطية المصلي لفمه أثناء الصلاة منهي عنها.
فقد قال العلماء: نهي عنها.واختلفوا في العلة، فقال بعضهم: لأنه تشبه باليهود، ولذلك لا يغطي فمه.
وقال بعض العلماء: نهي عن تغطية الفم في الصلاة لأنه لا يحسن القراءة وإخراج الحروف، وأيا ما كان فلا مانع من تعليل النهي بالعلتين؛ لأن أصح الأقوال عند الأصوليين أنه يجوز تعليل الحكم بعلتين، وبناء على ذلك نقول: إن تغطية الفم في الصلاة فيها محظور وهو صعوبة خروج الحروف من مخارجها مع ما فيها من التشبه، والله تعالى أعلم.
[الواجب على المصاب بسلس البول إذا دخل وقت الصلاة]
Q شيخ كبير به سلس البول ولا يتحكم في بوله، فهل يجب عليه غسل ما وصل إليه البول من الثياب دائما وخاصة إذا كان بعيدا عن بيته؟
A من كان بهذه الحالة فإنه إذا دخل عليه وقت الصلاة يغسل الأماكن المتنجسة من ثوبه الذي يلي فرجه وما أصابه البول، فإن شق عليه وعسر فحينئذ يمكنه أن يستبدله بثوب آخر إذا كان يشق عليه غسله، كما هو الحال في أيام البرد، فإنه إذا غسل الثوب لا يستطيع أن يلبسه مباشرة، فإذا وجد مثل هذا فليتخذ له سروالين ونحوهما كما هو الأصل في الواجبات، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فقد أوجب الله عليه الطهارة للصلاة، وكونه يصلي على هذه الحالة مع القدرة على التخلي عن هذه النجاسة لا يباح له ولا يرخص له.وأما مسألة تطهره للصلاة فإنه كلما دخل عليه وقت الصلاة يشرع له أن يتوضأ، ولا يضره خروج البول أثناء وقت الصلاة، كالمستحاضة.لكن في مسألة تغيير الثوب وغسل البول، فإذا شق عليه، أو لم يمكنه ذلك، كالمريض الذي يكون طريح الفراش ولا يستطيع أن يجد الماء الذي يغسل به العضو، وحضره وقت الصلاة وخاف خروجه فحينئذ يجوز له أن يصلي ولو كان في ثوبه البول لمكان الضرورة، والله تعالى أعلم.
[الأمر بغض الصوت للمرأة]
Q زوجي كثير الخروج بنا إلى منزل أهله، وإذا ذهبنا إلى منزلهم أجلس مع أهله جميعا في مجلس واحد ويكون معهم أخوه البالغ من العمر خمسة عشر عاما، وأكون أثناء الجلسة متحجبة بالحجاب الإسلامي الكامل، إلا أنني أتحدث بصوت مسموع مع والدة زوجي وأخواته، وأحيانا يتعدى الأمر إلى الضحك، وقد حاولت عدم التحدث بصوت مسموع والإقلال من ذلك، لكني لم أستطع، فما الحكم في مثل هذه الحالة؟
A إذا كان الإنسان في مثل هذه الحالة يأمن الفتنة فلا حرج أن يجلس القرابات النسوة مع بعضهن ويتحدثن ويكون صوتهن عاليا، لكن إذا كان بجوارهن رجال وكانوا أجانب فإنه في هذه الحالة ينبغي عليهن الغض من الصوت وعدم إسماع الرجال الأجانب؛ لأن الرجل يفتن بصوت المرأة غالبا، واغتفر العلماء صغار السن ومن هو قريب البلوغ إذا أمن منه أن يفتتن، والله تعالى أعلم.
[حكم قصر الصلاة لمن كان عمله خارج مدينته]
Q رجل يسكن في مكة وعمله خارجها، فهل يقصر الصلاة إذا خرج من مكة إلى مكان عمله، أو لا؟
A إذا خرج من مكة إلى مكان العمل ولم يكن له مستقر في مكان العمل، كبيت يسكنه ومزرعة يقوم عليها، أو ملك له فيها فإنه في هذه الحالة يقصر بشرط أن لا يقيم أو ينوي الإقامة أربعة أيام فأكثر، فإن نوى الإقامة أربعة أيام فإنه ينتقل إلى حكم المقيم، ويلزمه إتمام الصلاة من أول يوم ينزل فيه في ذلك الموضع، والله تعالى أعلم.
[حكم قراءة الآية من نصفها في الصلاة]
Q ما حكم القراءة في الصلاة من نصف الآية لا من أولها، علما بأن المعنى مكتمل؟
A هذا خلاف السنة، فالسنة أن يبتدئ بأول الآية كما ذكرنا في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قراءته عليه الصلاة والسلام في ركعتي الفجر أما لو فعل ذلك فإن صلاته صحيحة، والله تعالى أعلم.
[حكم الدعاء في القنوت بغير ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم]
Q هل يجوز للإنسان الدعاء بالأذكار التي فيها مواضع دعاء كأذكار الصباح والمساء والنوم أثناء القنوت وغيره، أو الاستغفار بسيد الاستغفار؟
a القنوت لا يشرع فيه إلا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم والحاجة الداعية إلى القنوت، فإذا قنت الإنسان فإنه يقتصر على الوارد كقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك)، وقوله: (اللهم لك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد) ونحو ذلك من الأدعية الواردة.ثم يقتصر على أمرين: الدعاء على من فيه ضرر على المسلمين، والدعاء لمستضعفي المسلمين، فإن زاد عن هذين الموضعين -كأن يدعو بأمور خارجة عنهما- فقد حكم العلماء ببطلان صلاته؛ لأنه كلام خارج عن المشروع كما لو تكلم بكلام أجنبي، ولذلك قال الإمام أحمد: إن زاد عن الوارد حرفا واحدا فاقطع صلاتك.تشديدا في هذا الأمر.ومن البدع المحدثة الاستسقاء في القنوت، فهذا بدعة وليس له أصل، وينبغي تنبيه الأئمة على أنه ينبغي عليهم التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتصار على الألفاظ التي وردت، فتدعو على من ظلم، وتدعو للمسلمين بالنصرة والتأييد، والزائد على ذلك يعتبر من البدعة والحدث، والإمام يأثم ويتحمل مسئولية من وراءه، وينبغي على الأئمة إذا أرادوا أن يفعلوا أمرا وله أصل من الشرع أن يسألوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وأن لا يختلقوا من عندهم بالاجتهادات والاستحسانات.
ولذلك شدد العلماء رحمهم الله في القنوت، وعباراتهم فيها مشهورة، وينبغي التقيد بما ذكرنا، فإذا دعا بمثل هذا الدعاء فقنوته صحيح ومشروع وأما إذا زاد عليه، وكانت الزيادة بما لم يشرع فحينئذ تنوي المفارقة، أي: تنوي أنك منفرد، ولا حرج إذا خفت الفتنة أن تسجد مع سجوده، ثم إذا رفع ترفع معه، ولا تنو الاقتداء به.وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم إذا طرأ في الإمام ما يوجب بطلان إمامته، والله تعالى أعلم.
[الواجب على من فاتته تكبيرة من تكبيرات الصلاة على الميت]
Q كيف يصنع من فاتته تكبيرة من تكبيرات الصلاة على الميت؟
A إذا فاتت تكبيرة فأكثر من تكبيرات الصلاة على الميت، فإنه في هذه الحالة لا تخلو الجنازة من حالتين:
الحالة الأولى: أن تدرك بقدر يقضي فيه الإنسان ما فاته، فحينئذ تكبر التكبيرة وتتم الأذكار الواردة فيها.وأما الحالة الثانية وهي الموجودة الآن:
أن ترفع مباشرة، فإذا رفعت مباشرة فإنك تكبر بدون دعاء وذكر، ثم توالي بين التكبيرات، كأن يفوتك تكبيرتان، فتقول: الله أكبر، الله أكبر، السلام عليكم.فهذا هو المشروع والذي عليه العمل عند أهل العلم رحمة الله عليهم، وإنما قالوا بالتفريق بين كون الجنازة حاضرة ومرفوعة لأن حضورها هو الذي شرعت فيه الصلاة، ولذلك لا يصلى عليها قبل حضورها، فالصلاة عليها بعد رفعها كالصلاة عليها قبل حضورها، ولذلك قالوا إنما يشرع القضاء وذكر الأذكار بين التكبيرات إذا كانت الجنازة ثم.والله تعالى أعلم.
[قول الإمام للمؤذن أقم الصلاة]
Q هل من السنة قول الإمام للمؤذن أقم الصلاة؟ وهل للإمام أن يطيل في الركوع في الفريضة لكي يتسنى للداخل إدراك الركعة؟
A لا يقول الإمام للمؤذن أقم، ولا يتنحنح، ولا يفعل شيئا.فإذا كان الإمام يأتي من قبل المسجد والمؤذن يراه، فحينئذ يسكت الإمام ولا يقل: أقم، لكن لو كان المؤذن يأتيه الإمام من ورائه، أو يأتيه من مكان يريد أن ينبهه وينبه من أمامه حتى يمكنه أن يدخل إلى الصف الأول فلا حرج أن يقول: أقم.خاصة إذا كان الإمام لم يصل تحية المسجد، ولذلك يشدد في كلامه وذكره، فالأولى والأفضل أن يكون دخوله على وجه يتنبه به المؤذن لإقامة الصلاة.والله تعالى أعلم.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(سنن الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (91)
صـــــ(1) إلى صــ(11)
شرح زاد المستقنع - سنن الصلاة
كما أن للصلاة أركانا وواجبات وشروطا، فلها أيضا سنن ينبغي المحافظة عليها،
ومنها: السترة، والاستعاذة عند آية وعيد، والسؤال عند آية رحمة، ونحوها.
سنن الصلاة
[السترة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وتسن صلاته إلى سترة قائمة كمؤخرة الرجل] ذكر المصنف رحمه الله تعالى جملة من الأحكام والمسائل التي كانت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، وشرع بعد بيان صفة الصلاة في بيان الأمور التي يسن للإنسان أن يحصلها في صلاته، ومنها السترة.
فيقول رحمه الله: [وتسن]، وهذا التعبير يدل على أن جعلك للسترة إنما هو على سبيل الندب والاستحباب، بمعنى أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا صلى صلى إلى سترة.
والسترة أصلها: ما يستتر به الإنسان، ويشمل ذلك ما يستر عورته، أو يستره إذا كان في مكان، ولكن المراد بها هنا سترة مخصوصة حكم الشرع باعتبارها، فأنت إذا صليت تحتاج إلى حد معين تمنع فيه الناس أن يمروا بينك وبينه، وهذا الحد وضعه الشرع على سبيل العبادة؛ لأن المكلف إذا خلي من مرور الناس بين يديه كان ذلك أدعى لخشوعه، وأدعى لحضور قلبه، ثم إن هذه الصلاة تكون لها حرمة، فيمتنع المار أن يمر بين يدي المصلي، وذلك إنما يكون بوضع حد معين، وهو الذي وصف في الشرع بكونه سترة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن السترة: (مثل مؤخرة الرحل، فلا يضره من مر وراء ذلك)،
أي: مثل مؤخرة الرحل سترة للمصلي، ثم لا يضره من مر وراء هذه السترة.وأمر عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث إذا صلى المصلي أن يجعل السترة تلقاء وجهه، ولذلك ذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم إلى أن جعل السترة أمام المصلي في صلاته أمر واجب، ولا شك أن هذا القول أقرب لظاهر السنة الثابتة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إننا إذا تأملنا خطر المرور بين يدي المصلي وتشديد الشرع في أمره وترهيب المار من مروره فإنه يتضمن الدلالة على أن السترة واجبة.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو يعلم المار بين يدي المصلي -أي ما في ذلك من الوعيد والعذاب- لكان أن يقف أربعين أهون من أن يمر بين يديه).
قال أبو النضر: لا أدري أقال أربعين يوما، أو أربعين سنة، أو أربعين شهرا.فأمر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول أمر عظيم يدل على عظم خطر المرور بين يدي المصلي، فإذا كان الأمر كذلك فإن من مقصود الشرع صيانة الناس عن هذا الخطر، وحفظهم عن الوقوع في هذا الضرر، وذلك إنما يكون بسبيل الإلزام، فإذا ألزم المصلي بجعل السترة كان ذلك أدعى لحفظ الناس من الوقوع في هذا المحظور.والسترة تكون جدارا، وتكون جمادا، وتكون حيوانا، فلا حرج أن تستتر بظهر إنسان، ولا حرج أن تستتر بحيوان، فلو أنك دخلت المسجد وأردت أن تصلي تحية المسجد ولا تجد شاخصا إلا ظهر إنسان أمامك فإنه لا حرج أن تصلي وراء ظهره، وقد جعلت في نفسك أن هذا الظهر بمثابة السترة لك، ويحق لك إذا وقع موقفك في الصف الذي يلي الصف أن تجعل الصف الأمامي بمثابة السترة.وتكون السترة حيوانا، كأن ينيخ الإنسان بعيره ثم يجعل أحد جنبي البعير سترة له؛ لأنه لا يليق أن يجعل وجهه أمامه، وهكذا بالنسبة للرجل، حتى لا يظن أنه ساجد للبعير أو ساجد للإنسان، فسدا لذريعة السجود لغير الله عز وجل، لا تجعل الحي قبل وجهك، وإنما تأتي من قفاه إذا استحسن أن تكون في القفا، أو تأتي من جنبه، كالحيوان من بهيمة أو إبل أو بقر أو غير ذلك، وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان ينيخ بعيره ويصلي إليه.وكذلك تكون السترة جمادا، وهذا الجماد قد يكون حائلا كالجدار وكالبناء، فهذا لا إشكال في كونه سترة مؤثرة.لكنه يكون في بعض الأحيان شاخصا، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى إلى كل منهما، فلما دخل الكعبة اقترب من جدارها وصلى إلى الجدار، وكذلك اعتبر الجماد الشاخص كما في حديث أبي جحيفة وهب ابن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه في حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال: (ثم ركزت له عنزة)، وهذا يدل على جواز الصلاة إلى الشاخص، كأن تغرز عودا أو عصا أو رمحا أو نحو ذلك ثم تصلي إليه، أو تضع حجرا،
لكنهم قالوا: إذا صليت إلى الحجر فاجعله عدة أحجار حتى لا تشابه عبدة الأوثان، سدا لذريعة المشابهة لعبدة الأوثان؛ لأنه إذا جعل حجرا واحدا فكأنه يشابه أهل الأوثان بعبادتهم للأنصاب ونحوها،
فقالوا: تجعل حجرين أو ثلاثة بجوار بعضها حتى تخرج من مشابهتهم.
وكذلك قالوا: السنة في الصلاة إلى الحجر أو الشاخص أن تجعل الشاخص إما على حاجبك الأيمن، أو على حاجبك الأيسر، ولكن لا تجعله أمامك مباشرة حتى لا تشابه عبدة الأوثان.وفيه حديث أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان عليه الصلاة والسلام إذا صلى جعل السترة على جانبه الأيمن، أو على جانبه الأيسر، ولم يصمد لها صمدا،
أي: ما جعلها أمامه كأنه يسجد لها كحال عبدة الأوثان.
قوله: [قائمة كمؤخرة الرحل] الرحل: هو ما يكون على ظهر البعير، ومؤخرته -كما ضبطها بعض العلماء- بقدر ذراع، وهي تحفظ الراكب من ورائه.فإن كانت السترة صغيرة الحجم طلب ما هو أعلى منها، وذلك أن العالي أدعى لانتباه الناس له وتوقيهم المرور بين يدي المصلي.ثم السنة في هذا الشاخص أن تجعل بين سجودك وبين مكانه قدر ممر الشاة، فمكن أن يكون قدر ذراع، وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقد كان بين منبره والجدار قدر ممر الشاة قال بعض العلماء: الحكمة فيه -والعلم عند الله- أنه يمنع من مشابهة عبدة الأوثان؛ لأنه إذا كان بينك وبين السترة حائلا دل على أنك لا تقصدها.
قال رحمه الله تعالى: [فان لم يجد شاخصا فإلى خط].الخط يكون في الأرض التي هي كالبرية، والتي يمكن وضع الخطوط فيها،
وللعلماء في مشروعية هذا الخط قولان مشهوران: فقال الجمهور بعدم مشروعيته،
وذلك لشدة الضعف في الحديث الذي ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: (فإن لم يجد فليخط خطا)، فالضعف في الحديث قوي جدا، وأشار بعض العلماء إلى تحسينه كالحافظ ابن حجر وغيره، ولكن الكلام فيه قوي،
لكن قال العلماء رحمة الله عليهم: لو لم يدل عليه الحديث لاقتضاه الأصل؛ لأن المقصود منع الناس، وليس المراد به أن يكون سترة.ثم اختلفوا في صورة هذا الخط،
فقال بعضهم: يجعله في أحد جانبيه كالحال في العصا.
وقيل: يجعل الخط من أمامه على آخر ما ينتهي إليه سجوده كالحال في الجدار المعترض.
وقيل: يجعله كالهلال.
أي: كالمحراب الذي يدخل فيه الإنسان، وأصح الأقوال أن الأمر واسع؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليخط خطا) -على القول بثبوت الحديث- ولم يبين كيف يكون، فيبقى الأمر على إطلاقه إعمالا للأصل.
قال رحمه الله تعالى: [وتبطل بمرور كلب أسود بهيم فقط].
أي: تبطل الصلاة إن صليت إلى السترة بمرور كلب أسود بهيم،
وهذا فيه الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب)، فهؤلاء الثلاثة بأمر الشرع يقطعون الصلاة، أي أن الشرع دل على أنهم يقطعون الصلاة على سبيل العبادة، والله تعالى أعلم بعلة ذلك، وإن كانوا قد ذكروا في الكلب وخصوه بالأسود لورود الخبر أنه شيطان.وهذا القول -أعني القول بقطع الصلاة بمرور أحد هؤلاء الثلاثة- هو أصح الأقوال وأعدلها، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة من أهل الحديث، بمعنى أن المكلف يطالب باستئناف الصلاة،
ومثال ذلك: لو قمت تصلي تحية المسجد، فجاءت امرأة، أو مر حمار -أكرمكم الله- بينك وبين السترة، فهذا المرور لهذه الدابة يوجب قطع الصلاة، فلو صليت ركعة من تحية المسجد فكأنك لم تصل، فتسأنف الصلاة ولو كنت في التشهد الأخير، فمروره بين يديك في هذه الحالة يوجب انقطاع الصلاة من أصلها فتستأنف الصلاة، وكأنك في غير صلاة، ولو كانت فرضا، أي ولو كنت في فرض فإنك تستأنف الصلاة، وهذا على أصح أقوال العلماء.وخالف الجمهور رحمة الله عليهم من الحنفية والمالكية والشافعية،
فقالوا: لا يقطع الصلاة واحد من هؤلاء الثلاثة.
قالوا: أما الحمار فلثبوت حديث ابن عباس في الصحيح أنه قال: (أقبلت راكبا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد).ووجه الدلالة أن الأتان مرت بين المصلين فلم يوجب ذلك قطع صلاتهم، فدل على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة.
قالوا: وأما المرأة فلما ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما،
قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح).كانت حجرته عليه الصلاة والسلام صغيرة الحجم إلى درجة أنها لو نامت رضي الله عنها لا يجد مكانا يسجد فيه صلوات الله وسلامه عليه، ولكنها وإن كانت ضيقة فهي واسعة بما فيها من الإيمان والحكمة ونور القرآن، وبما فيها من خير النبي صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الآفاق صلوات الله وسلامه عليه.
قالوا: لو كان مرور المرأة يقطع الصلاة لامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على هذه الصورة.وعند التأمل لهذه النصوص التي احتج بها جمهور العلماء رحمة الله عليهم فإننا نرى أن الدليل الذي دل على قطع الصلاة أرجح، وذلك لكونه نصا في موضع النزاغ.
ثانيا: أن اعتراض أم المؤمنين عائشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو اعتراض الجزء، والقاعدة في الأصول أن الجزء لا يأخذ حكم الكل،
ولذلك لو حلفت وقلت: والله لا أدخل الدار، فأدخلت رجلا ولم تدخل الأخرى لم تحنث؛ لأنه لا يصدق عليك أنك قد دخلت إلا بالجرم كله، و
[التعوذ عند آية وعيد والسؤال عند آية رحمة في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [وله التعوذ عند آية وعيد والسؤال عند آية رحمة ولو في فرض].
قوله: [وله] أي: للمصلي، فلك إذا صليت نافلة أو فريضة وقرأت آية عذاب أن تسأل الله أن يعيذك منه، أو قرأت آية رحمة أن تسأل الله من فضله.والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في قيام الليل من حديث حذيفة أنه ما مر بآية فيها ذكر رحمة إلا وقف وسأل الله من فضله، ولا مر بآية فيها ذكر عذاب إلا استعاذ بالله عز وجل.
قالوا: فهذا يدل على مشروعية أن يسأل المكلف ربه من فضله إن مر بالرحمة، ويستعيذ به إن مر بالعذاب، ولا فرق عند القائلين بهذا القول بين الفرض والنفل.والصحيح أنه يفرق في السؤال بين الفرض والنفل كما ذهب إليه الجمهور؛ فإنه -كما في الحديث الصحيح-
لما نزل قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة:238]،
قال الراوي: (فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام)، فدل على أن الأصل في المصلي أن يسكت،
وقال عليه الصلاة والسلام في الإمام: (إذا قرأ فأنصتوا)، فالأصل عدم الكلام، فلما ثبتت السنة بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، ولم يثبت حديث صحيح واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل هذا في الفرض؛ إذ لا يعقل أنه يصلي بأصحابه صلوات الله وسلامه عليه هذا الردح من الزمان الطويل ولا يثبت عنه في فرض واحد أنه فعل ذلك،
فحينئذ نقول: يجوز في النفل ما لا يجوز في الفرض، فيشرع فعل ذلك في النفل دون الفرض، وهذا هو أعدل الأقوال وأقربها إلى السنة، فعلى المصلي إذا كان وراء الإمام أن ينصت ويمتنع عن الحديث، ويختص حكم هذه المسألة بالنفل دون الفرض.
ولذلك قال المصنف: [ولو في فرض]، وكلمة (لو): تشير إلى الخلاف، ومعنى ذلك أن هناك من يقول بتخصيصه بالنفل دون الفرض، وهو مذهب الجمهور، وهو أقرب الأقوال وأعدلها، ولذلك ينبغي الاقتصار عليه في النوافل دون غيرها،
أعني: الفرائض.
الأسئلة
[حكم السترة في الحرم المكي]
q ما حكم السترة في الحرم المكي؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: السترة في الحرم المكي وغيره حكمها واحد، وذلك لثبوت السنة على سبيل العموم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن الحرم، والقاعدة في الأصول أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه.ولم يثبت حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في استثناء مكة، فبقيت على الأصل.لكن قالوا: إن اقترب من المطاف وآذاه الطائف وتعذر عليه منعه فإن هذا يوسع فيه، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (يا بني عبد مناف: إن وليتم هذا الأمر فلا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار) قالوا: فكأنه يمنع.هناك وجه ألطف من هذا الوجه في استثناء الطائف، قالوا: لأن الطائف في صلاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الطواف بالبيت صلاة).فمروره أصلا هو من الصلاة، فهذا التوجيه من أدق ما قيل في هذه المسألة، فالطائف عند مروره استثني وأما غيره فيبقى، ولذلك استثناؤه على هذا الوجه لا حرج فيه.والدليل الذي يدل على أن مكة وغيرها على حد سواء حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه الثابت في الصحيحين أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أدم -لأنه نزل بالمحصب بجوار الحجون بعد أن أتم ليالي منى فبات بها وتأخر ولم يتعجل عليه الصلاة والسلام- قال: ثم ركزت له عنزة.وركز العنزة إنما يقصد به أن تكون سترة له عليه الصلاة والسلام، فدل على أن مكة وغيرها على حد سواء، خاصة على القول الذي يقول: إن حرم مكة كله آخذ حكم مضاعفة الصلاة، وهو قول من القوة بمكان، ولذلك يقوى أن يكون حرم مكة كله يمتنع فيه المرور بين يدي المصلي، والله تعالى أعلم.
[منع الأطفال من المرور بين يدي المصلي]
q عند الصلاة إلى سترة هل يمنع الأطفال من المرور بين يدي المصلي وكيف؟
a يمنع الطفل من المرور بين يدي المصلي، وإن كانت الصلاة نافلة وأزعج المرأة طفلها فإن لها أن تنحني وتتناوله وترفعه حتى لا يمر، وهذا من أرفق ما يكون إذا كان مما يصعب رده؛ لأن الانحناء في النافلة أوسع منه في الفرض، وقال بعض العلماء بجوازه في الفرض لحديث أمامة بنت أبي العاص رضي الله عنه، قالوا: إنه حملها النبي صلى الله عليه وسلم.ولكن حديث أمامة فيه إشكال؛ لأن حديث أمامة لم ينتقل فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالانحناء، وإنما كان يرفعها وإذا سجد وضعها ثم حملها عند رفعه، فما كان ينتقل بالانحناء؛ لأنه في الفرض لو انحنى انتقل من ركن القيام إلى ركن الركوع، ولربما اضطر إلى الجلوس، فلما كان النفل يجوز لك أن تجلس فيه مع القدرة على القيام وسع في حملها في النفل دون الفرض، والله تعالى أعلم.
[حكم المرور بين يدي المأمومين لغير حاجة.]
q إذا مر الرجل بين المأمومين لغير حاجة، فهل ينبغي له هذا، وهل عليه حرج؟
a لا يمر بين يدي المأمومين إلا من حاجة، أما إذا لم توجد الحاجة فلا، وأذكر من أهل العلم رحمة الله عليهم من مشايخنا من يقول: يشرع دفعه إذا مر للتشويش والأذية؛ لأنه ينشغل الواحد بدفعه لمصلحة الكل، فيجوز أن ترتكب المفسدة الدنيا لجلب المصلحة العليا، فلذلك قالوا: يشرع أن تدفعه فتنشغل وحدك تحصيلا لمصلحة الكل، ومنع بعض العلماء من دفعه، وقالوا لأنه إذا اندفع انشغل وهو مكلف بمصلحته والعذر متعلق بمصلحة الغير، فلا يسوغ؛ لأنه لا إيثار في القرب.
[المقصود بالكلب الذي ورد أنه يقطع الصلاة]
q قول المصنف رحمه الله: (بمرور كلب أسود) هل المراد به هذا الكلب المعهود، أم أنه يطلق على السباع وغيرها؟
a يختص بالكلب المعروف، أما السباع كالأسد والنمر ونحوه فلا يدخل في هذا، وأما في الصيد فإنه يدخل فيه لقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} [المائدة:4]، فوصف الجارحة مع الكلب يدل على أنه يجوز أن تعلم أسدا الصيد وتصيد به، وهكذا لو علمت نمرا أو غيره من السباع العادية؛ لأنه يصدق فيه وصف الجارحة والكلب لكن (ال) في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب) عهدية، فيشمل كلب البادية وكلب الحاضرة.والكلاب التي تكون في البادية للصيد معروفة، وهي صغيرة الحجم، فهذا الذي يقطع الصلاة، فنقول بالعموم في جنس الكلاب، بخلاف الكلب فهناك فرق بين الكلب والكلب، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تسمية الأسد في قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم سلط عليه كلبا من كلابك) حين دعا على عتبة بن أبي لهب، ثم لما خرج في تجارته إلى الشام قال: إني أخاف دعوة محمد.فكان إذا نام ينام بين أصحابه، فلما كان على تخوم الشام جاء الأسد وافترسه من بين أصحابه.فأخذ العلماء من قوله صلى الله عليه وسلم (.كلبا من كلابك) أنه وصف الأسد بكونه كلبا، فدل على أنه في عرف الشرع قد يطلق الكلب ويراد به الأسد أو كل جارح؛ لأنه مأخوذ من الكلب، وهذا كما نبه عليه ابن منظور رحمة الله عليه في (لسان العرب) فالصيد يكون بأي نوع من الحيوانات المفترسة من السباع، وقد كان عدي يصيد بالسباع على اختلاف بالكلاب وغير الكلاب، وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فقال: إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب والبزاة فما يحل لنا منها؟ والباز هو الصقر.فأجاز له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم ينكر عليه.فنقول: بعض العلماء يقول: اسم الكلب عام كما جاء في الصيد، ونقول: الصيد شيء، والكلب في الصلاة شيء آخر؛ لأنه في الصلاة أمر تعبدي، وفي الصيد من جانب الكلب والقوة، والمقصود تحصيل الرفق بالناس في الصيد.فجاز في الصيد على سبيل العموم رفقا بالناس، ولذلك يقال هنا بخصوصه في الكلب المعهود دون غيره، والله تعالى أعلم.
[حكم دعاء القنوت]
q هل دعاء القنوت خاص بالفريضة دون النافلة؟
a نعم.القنوت قنوتان: قنوت فرض، وقنوت نفل.فقنوت الفرض مثل الدعاء في النوازل، فالدعاء في النوازل يقتصر فيه على الوارد مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك)، وكذلك قوله: (اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق)، ثم بعد أن تنتهي من هذا التمجيد الوارد في هذين الخبرين تدعو على من ظلم من الكفار، وتدعو بالنصرة للمسلمين، وتقتصر على ذلك لا تزيد، فلو دعا بالاستسقاء كان بدعة، ولو دعا بنجاح الطلاب في الاختبار كان بدعة، وهذا مما يحدث الآن، فبعضهم يدعو بنجاح الطلاب في الاختبار، وبعضهم يدعو بعموم الأدعية، وهذا لا يجوز، فالصلاة لا يجوز فيها الكلام إلا بقدر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)، فما ورد في القنوت يقتصر عليه، ولذلك قال الإمام أحمد: إن زاد على الوارد حرفا واحدا فاقطع صلاتك.يعني أنه قد خرج عن كونه مصليا.ولذلك ينبغي على الإمام أن يحتاط لصلاة الناس فيدعو بالوارد، ويدعو بنصرة المؤمنين بجوامع الدعاء، مثل (اللهم انصر المستضعفين) ونحو ذلك من جوامع الدعاء، ولا داعي للإطالة والخروج عن المعهود والتكلف، فلذلك يقتصر على جوامع الدعاء، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم يدعو بالنصرة للمسلمين وهلاك على الكافرين، ثم يختم ويسجد.أما بالنسبة لقنوت النافلة وهو قنوت الوتر فيدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الفضل، لا على سبيل الفرض، فلو دعا بغير هذا الدعاء جاز، ولو زاد على الوارد جاز، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الحسن، والحسن كان صغير السن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان الدعاء لازما بالقيد لعلمه الصحابة، ولألزم الصحابة بهذا الدعاء في الوتر على سبيل الخصوص، ولأن الوتر رفق بالناس ليسأل المصلي فيه حاجته في ليله فوسع على الناس أن يسألوا من حوائج الدنيا والآخرة ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم، والله تعالى أعلم.
[بيان الترتيب فيما يكون سترة للمصلي]
q في الحديث: (فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا)، فهل هذا على الترتيب أم على التخيير؟
a قوله: (إن لم يجد) دليل على الترتيب، وهذا أصل، فإن وردت في الكتاب فهي على الترتيب، ففي كفارة اليمين قال تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89]، وفي قراءة ابن مسعود: (متتابعات)، فاشترط في جواز الصيام وإجزائه في كفارة اليمين أن لا تستطيع الإطعام أو الكسوة أو تحرير الرقبة.وبعض العامة هداهم الله إذا حلف اليمين وحنث ينتقل مباشرة إلى الصوم، وهذا لا يجزيه لإجماع العلماء على أن كفارة اليمين بالصيام شرطها عدم الوجد، أي: عدم القدرة.وهكذا قالوا: لو أن إنسانا وجبت عليه الرقبة في الظهار، أو الجماع في نهار رمضان، أو في القتل فانتقل -وهو قادر على أن يشتري رقبة- إلى صيام شهرين متتابعين لم يجزه، فكأنه لم يصم ويصبح صومه نافلة؛ لأنه شرط مقيد بنص الشرع: {فمن لم يجد} [المجادلة:4]، {فمن لم يستطع} [المجادلة:4]، فالذي لم يجد له حكم، والذي لم يستطع له حكم، أما أن ينتقل إلى درجة ما بعد الشرط و {فمن لم يجد} [المجادلة:4]، مع القدرة والوجد فهذا خارج عن الحد المعتبر.فلما قال: (فإن لم يجد) دل على الترتيب لا على التخيير، ولذلك يبتدأ بالشاخص ثم بالعصا ثم بعد ذلك بالخط كما ورد في الخبر على القول بثبوته، والله تعالى أعلم.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(أركان الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (92)
صـــــ(1) إلى صــ(5)
شرح زاد المستقنع - فصل: أركان الصلاة [1]
للصلاة أركان دلت عليها الأدلة من الكتاب والسنة، ومن تركها عمدا بطلت صلاته، ومن تركها سهوا فإن أمكنه أن يعود عاد وأداها، وإن لم يمكنه فإنه يقضي الركعة كاملة،
وهي: القيام، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والاعتدال عن الركوع، والسجود على الأعضاء السبعة، والاعتدال عن السجود، والجلوس بين السجدتين وغيرها.
[أركان الصلاة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل أركانها].
ركن الشيء: دعامته وعمدته التي يقوم عليها، وقد دلت النصوص الصحيحة الصريحة في الكتاب والسنة على أركان الصلاة، وهذه الأركان من تركها عامدا بطلت صلاته، ومن تركها ساهيا فإن أمكنه أن يعود إليها عاد وجبرها، وإن لم يمكنه العود إليها فإنه يقضي الركعة كاملة.فمن ترك قراءة الفاتحة عامدا وهو يرى ركنيتها بطلت صلاته، ولو في ركعة واحدة، ومن تركها ساهيا، كما لو صليت فابتدأت الصلاة مباشرة، وقرأت دعاء الاستفتاح،
ثم سهوت فقرأت: {والتين والزيتون} [التين:1]، فابتدأت بالسورة قبل أن تبدأ بالفاتحة، فلما كنت في أثنائها تنبهت أو ذكرك من وراءك إن كنت إماما، فإنك ترجع وتقرأ الفاتحة وتتدارك الركن؛ لأنه يمكن التدارك حيث لم تدخل في ركن بعدي، أما إذا كان لا يمكن التدارك كأن تكون دخلت في الركعة الثانية فتذكرت أنك في الركعة الأولى لم تركع أو لم تسجد، وقمت إلى الركعة الثانية فإنه حينئذ يلزمك قضاء الركعة الأولى، على تفصيل في كونك تلغي الركعة وتلفق، أو تبني الصلاة وتعيد الركعة من موضعها؟
[الأدلة من السنة على أركان الصلاة]
الأركان هي أهم شيء في الصلاة، والأصل فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا ذات يوم مع أصحابه في المسجد، فدخل رجل فصلى واستعجل في صلاته، فلم يحسن ركوعه ولا سجوده ولا جلوسه، فلما فرغ من الصلاة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه،
فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصل)، فرجع الرجل وصلى كحاله أولا، ثم أتاه فسلم فرد عليه،
فقال: (ارجع فصل؛ فإنك لم تصل)،
فلما كانت الثالثة قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا،
فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي قائما، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها).فهذا الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم فيه الأركان التي لا تصح الصلاة إلا بها،
بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنك لم تصل)، فيكون بيانه هنا بيانا للأركان،
ولذلك ذكر غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم أن حديث أبي هريرة هذا الذي يسميه العلماء: (حديث المسيء صلاته) قد جمع التنبيه على أركان الصلاة، فلذلك اعتنى علماء الإسلام رحمهم الله بهذه الكلمة، وهي مصطلح الأركان والواجبات والسنن.وهذه المصطلحات ليست ببدع كما يظن بعض من ليس عنده إلمام بالعلم وضبطه، فيظن أن هذه أمور محدثة،
فيقول: من أين جاءنا الركن أو الواجب أو السنة؟
فإنا نظرنا في الشرع فوجدناه تارة يقول: إذا فات هذا الشيء بطلت الصلاة،
أو: يجب قضاء الركعة، ووجدناه تارة يبين أن الشيء الذي فات يمكن جبره بالسجود، ووجدناه يرخص في ترك شيء،
فعلمنا أن أعمال الصلاة ثلاثة أشياء: شيء تبطل الصلاة بعدم وجوده، وشيء يمكن جبره بالسجود، وشيء يتسامح فيه فلو تركه الإنسان ولو متعمدا صحت صلاته.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى ركعتين ثم سلم -كما في قصة ذي اليدين-
فقال له ذو اليدين: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: كل ذلك لم يكن.فقال: بلى.قد كان بعض ذلك.فسأل الصحابة: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم.فرجع فصلى ركعتين)؛ وكان قد قام من مصلاه كما في الصحيح،
قال الراوي: وأنبئت أن عمران قال: ثم سجد سجدتين وسلم.فدل هذا على أن الأركان لا تجبر إلا بالفعل وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر السهو موجبا لإسقاط الركن، بل تعتبر الركعة بمثابة الركن في الصلاة الجامع للأركان، فهي أصل في الصلاة، فكما أن الظهر قائمة على أربع ركعات كذلك كل ركعة قائمة على أركانها.ثم وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم تفوته أشياء من أفعال الصلاة ويجبرها بالسجود، فقد صلى عليه الصلاة والسلام إحدى صلاتي العشي، فسجد السجدة الثانية من الركعة الثانية ولم يجلس للتشهد، بل استوى واعتدل قائما، فلما كبر سبح له الصحابة ليعود إلى جلسة التشهد،
فأشار إليهم بيديه من وراء ظهره أن: قوموا.
أي: إني لست براجع وقد لزمكم الركن البعدي الذي هو القيام للركعة الثالثة، فقام الصحابة، فأتم بهم الركعتين ثم سجد سجدتين قبل أن يسلم، فهنا فات شيء من أفعال الصلاة، ولكنه اعتبره مجبورا بالسهو، فعلمنا أن مرتبة هذه الأفعال دون مرتبة الأفعال التي قبلها.وكذلك أيضا وجدناه عليه الصلاة والسلام يرى بعض الأقوال في الصلاة لازمة.وبعضها غير لازمة،
فقال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، فلم يعتد بالصلاة ولم يعتبرها عند عدم وجود الفاتحة، ووجدناه يسامح في ترك دعاء الاستفتاح،
فقد قال له أبو هريرة: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟
قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي).فقد ثبت قطعا أن الصحابة لم يعلموا ما الذي يقول، فلو كان هذا الدعاء حتما كالفاتحة لألزمهم به وعلمهم إياه، فدل على أن هناك أمورا تلزم في الصلاة وأمورا لا تلزم،
ولذلك قلنا: إن مثل هذا سنة.فأصبحت القسمة عندنا بتتبع واستقراء الشرع تنقسم إلى هذه الثلاثة الأقسام، فوجدنا ما هو ركن وما هو واجب وما هو سنة.
فلو قال قائل: إن هذا بدعة نقول: إن الأسماء في ظاهرها بدعة -
أي: لا نعرفها في القديم- ولكنها في الحقيقة موجودة في حكم الشرع، ولا مشاحة في الاصطلاح أن تسمي الشيء بأي اسم ما دام أن الشرع قد ترك لك التسمية والحكم موجود.
فإنك لو قلت: جميع أقوال الصلاة وجميع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لازم لتناقضت النصوص،
ولو قلت: إن جميع ما قاله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الصلاة ليس بلازم لتناقضت النصوص.فإذا لا بد من التفريق بين اللازم وغير اللازم، وذلك هو مصطلح العلماء بالأركان والواجبات والسنن.
وقوله: [فصل] يبين دقته رحمه الله تعالى، حيث ذكر صفة الصلاة كاملة، ثم جاء يبين ما الذي يلزم وما الذي لا يلزم، ثم الذي يلزم منه ما هو ركن تتوقف الصلاة عليه، ومنها ما ليس بركن وهو الواجب الذي لا تتوقف صحة الصلاة عليه، بحيث لو تركه الإنسان سهوا أمكنه أن يجبره بسجود السهو.فابتدأ رحمه الله بالأركان، اعتناء بالأهم، وهذا من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى؛ لأن أهم ما في الصلاة أركانها، ولذلك ابتدأ،
فقال: [أركانها].والضمير عائد إلى الصلاة.
[الركن الأول: القيام]
قال رحمه الله تعالى: [أركانها: القيام].القيام ضد القعود،
يقال: قام إذا انتصب عوده،
أي: استتم.
وقوله: [القيام]،
أي: أول ركن من أركان الصلاة القيام،
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة:6]،
وقال تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة:238]،
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر).هذه النصوص دلت على وجوب القيام ولزومه على سبيل الركنية والفرض، ولذلك ذهب إلى هذا الحكم جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم،
لكنهم قالوا: الصلاة لا تخلو من حالتين: إما أن تكون فريضة أو نافلة، فإن كانت فريضة وصلى جالسا مع القدرة على القيام بطلت صلاته؛ لأنه لم يصل كما أمره الله بالقيام،
لكن لو كان في نفل صح له أن يصلي جالسا لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)، وهذا إنما هو في النفل.
والظاهرية حملوا قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) على الفريضة بالنسبة للمعذور، وقولهم مردود؛
لأننا لو حملنا هذا الحديث على الفريضة بالنسبة للمعذور لردت نصوص الشريعة التي تدل على أن كل مريض ومعذور أجره كامل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا)، فحينئذ بتناقض النصوص، فدل هذا الحديث على صرف عموم الحديث الذي معنا عن ظاهره،
وأن المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) النافلة دون الفريضة، ووجدنا أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في السفر يصلي على دابته غير المكتوبة.
ومن هنا قلنا: إنه يجوز في النفل ما لا يجوز في الفرض، بدليل أنه في السفر يصلي على الدابة حيثما توجهت، وهذا في النافلة دون الفريضة.وعليه فيلزمك القيام لصحة الصلاة المفروضة، لكن بشرط أن توجد القدرة،
وذلك لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286]،
وقوله سبحانه: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن:16]، فالعاجز عن القيام معذور.وقد أثبت المصنف أن القيام مع القدرة ركن.
وأما ضابط القيام فقالوا: الضابط في القيام أن لا تصل كفاك إلى ركبتيك، فلو انحنيت بحيث تصل الكفان إلى الركبتين فقد خرجت عن كونك قائما إلى كونك راكعا ومنحنيا.
ويتفرع على هذا مسائل: المسألة الأولى: لو أن إنسانا يكون جالسا فيكبر الإمام تكبيرة الإحرام، فيقوم فيستعجل فيكبر تكبيرة الإحرام قبل أن يستتم قيامه، فلا تنعقد تكبيرة الإحرام؛ لأن من شروط انعقادها أن يكون قائما كما أمر الله عز وجل، فإذا كان أثناء قيامه وانتصابه رفع يديه وكبر ولم يستتم، بحيث أمكن لليدين أن تنال الركبتين، وهو الانحناء المؤثر، فهذا لا يعتد بتكبيره؛ لأن هذا الركن -وهو تكبيرة الإحرام- يشترط فيه أن يكون في حال القيام،
لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر).فدل على أن القيام يسبق التكبير، ومن فعل هذا الفعل فقد سبق تكبيره القيام، فلم يصل كما أمره الله.
المسألة الثانية: المعذور الذي لا يستطيع القيام يصلي قاعدا، وهيئة القعود تختلف، فبعض الأحيان لا يستطيع أن يصلي قاعدا إلا على علو ونشز، كأن يجلس على دكة أو سرير أو كرسي، فهذا الجلوس ينبغي أن يفصل فيه، فإن كان قادرا على القيام في تكبيرة الإحرام، فلا يأتي ويجلس مباشرة ويكبر، وإنما يكبر قائما؛ لأنه بإمكانه أن يكبر في حال القيام، ثم يجلس إذا كان يشق عليه أن يقوم، وإن كان يمتنع أو يصعب عليه أن يقوم، كالحال في المشلول، فإنه يكبر وهو جالس، أما إذا كان يمكنه أن يقف فإنه يقف ويجعل الكرسي وراءه ولا حرج، فإن أدركته المشقة رجع فجلس، كما هي القاعدة في الفقه أن الضرورة تقدر بقدرها، ويتفرع عنها أن ما أبيح للحاجة يقدر بقدرها.
فلما كانت ضرورته أن القيام يشق عليه نقول: كبر قائما ثم اجلس.
لكن لما كانت الضرورة أن يتعذر عليه القيام قلنا: كبر جالسا ولا حرج.فهذا له قدره وهذا له قدره، فينبه الناس؛ لأنك قد ترى الرجل يكبر وهو جالس مع أنه يستطيع أن يقف، وقد يقف ويتناول الكرسي ويخرج به وهو حامل له، فمثل هذا لا يرخص له أن يؤدي الركن وهو تكبيرة الإحرام في حال قعوده، فهذا ينبه عليه،
فإن تعذر عليه القيام قلنا: يجلس.
وهذا الجلوس جلوسان: جلوس على هيئة شرعية، وجلوس على غير الهيئة الشرعية.فجلوس الهيئة الشرعية كأن يجلس الإنسان متربعا أو مفترشا أو متوركا، ووجه كونها شرعية أنها جلسة اعتبرها الشرع للتشهد وللجلسة بين السجدتين، فإذا كان جلوسه على هذه الهيئة فحينئذ لا إشكال عليه لو جلس بهذه الصفة.لكن الإشكال إذا جلس الجلسة الثانية، وهي غير الهيئة الشرعية، كأن يجلس على سرير أو كرسي، فإنه بجلوسه على السرير والكرسي في حال القيام يعذر، لكن عند التشهد لا يكون ملاصقا للأرض، ومقصود الشرع أنك عند التشهد أو بين السجدتين تكون قريبا من الأرض، فحينئذ يكون ارتفاعه على الأرض خلاف ما ورد في الشرع من كونه ملتصقا بالأرض.
قال العلماء: إن تعذر عليه أن يجلس انتقل بالانفصال هذا لكونه متصلا بالأرض عن طريق الكرسي، فكان في حكم الجالس، وأبيح له أن يصلي على هذه الهيئة، أما لو كان بإمكانه أن ينزل ويجلس جلسة المفترش، أو جلسة المتربع فإنه يلزمه ذلك ولا يجلس على كرسي ونشز؛ لأنه يفوت صفة الصلاة.وفي جلوسه متربعا أو مفترشا وجهان للعلماء، وأشار إلى ذلك الطبري وابن المنذر في الأوسط.فقال بعض العلماء -وهو مأثور عن بعض الصحابة-: يجلس جلسة التشهد.وهذا أقوى، وذلك لأنها هيئة أقرب لهيئة الصلاة.
وقال بعضهم: يجلس متربعا لأنه أرفق.وهذا مأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.والأمر واسع فإن كان الأرفق له أن يجلس متربعا جلس، وإن كان على جلسة المتشهد جلس، لكن ينبغي أن ينبه على إعانته على السجود؛ فإن جلوسه كجلسة المتشهد أبلغ في إعانته على السجود من هيئته إذا كان على هيئة المتربع؛ لأنه عند التربع يحتاج إلى كلفة حتى يتمكن من السجود.ودليلنا على الترخيص أن يصلي جالسا ما ثبت في حديث عمران رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان عمران مبتلى بالبواسير، فشكى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم،
فقال له: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فوسع النبي صلى الله عليه وسلم للمعذور؛ لأن من به بواسير فإنه يشق عليه في هيئات الصلاة أن يقوم، ولربما أضره القيام، ولذلك رخص له صلوات الله وسلامه عليه، فدل على التوسعة في حال وجود العذر، وأنه عند وجود الرخصة والعذر لا حرج، وقد قال تعالى {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286]:.
[الركن الثاني: تكبيرة الإحرام]
قال رحمه الله تعالى: [والتحريمة].المراد بالتحريمة تكبيرة الإحرام،
فالركن الأول: القيام مع القدرة،
والركن الثاني: تكبيرة الإحرام.
فبعض العلماء يختصر ويقول: التحريمة.ومراده تكبيرة الإحرام.ووصفت بكونها تحريمه أو تكبيرة إحرام لأن المكلف إذا جاء بها دخل في حرمات الصلاة، ولا يمكن أن يحكم بكونه مصليا إلا بعد إتيانه بها.والتكبير للدخول في الصلاة يعتبر ركنا من أركان الصلاة،
والدليل على ركنيته قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيحين للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، فأمره بالتكبير.وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر تكبيرة الإحرام في أكثر من ستين حديثا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك بلغ مبلغ التواتر.
وأما إلزام المكلف بها بحيث لو لم يأت بها لم تصح صلاته فلقوله عليه الصلاة والسلام: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)،
فقوله في هذا الحديث: (تحريمها التكبير)، أي أن دخول المكلف في حرمات الصلاة يتوقف على شيء وهو تكبيرة الإحرام.فإن وجد هذا الشيء حكمت بكونه مصليا وقد دخل في الحرمات، وإن لم يوجد حكمت بكونه غير مصل، ولذلك قالوا: هي ركن من أركان الصلاة.وتكبيرة الإحرام للعلماء -رحمهم الله-
فيها ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تكبيرة الإحرام لا تنعقد إلا بلفظ: (الله أكبر) بخصوصه، كما هو مسلك المالكية والحنابلة من حيث الجملة.
الوجه الثاني: يصح للمكلف أن يقول: (الله أكبر) وما اشتق من هذا اللفظ،
كأن تقول: (الله كبير)، وتنعقد تحريمته، وهو قول الشافعية.
الوجه الثالث: يصح للمكلف أن يدخل في الصلاة بكل لفظ دال على التعظيم،
فإن قال: (الله العظيم) أو (الله الجليل) صح ذلك وأجزأه واعتبر داخلا في حرمات الصلاة، وهو قول الحنفية.
والصحيح أنه لا بد من قول المكلف: (الله أكبر)، وأنه لو غير في هذه الصيغة ولو بالذكر العام فإنها لا تنعقد تحريمته ولا يعتبر داخلا في حرمات الصلاة.فإن كان القيام ركنا فلا تصح تكبيرة الإحرام إلا بعد أن يستتم المكلف قائما، وإن كان القيام موسعا فيه كصلاة النافلة فيصح أن يكبر وهو جالس تكبيرة الإحرام، ويصح أن يكبر أثناء قيامه، ويصح أن يكبر بعد أن يستتم قائما.وبناء على هذا فإن من الأخطاء التي يفعلها بعض الناس في الصلاة المفروضة أن تقام الصلاة فيستعجل الشخص في القيام، فقبل أن يستتم قائما يكون قد كبر.فلا ينعقد تكبيره إلا بعد ثبوت القيام،
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، فجعل التكبير مرتبا على القيام، ولذلك لا بد من سبق القيام للتكبير، ولا يصح أن يكبر قبل أن يستتم قائما، فتلازم القيام والتكبير.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(أركان الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (93)
صـــــ(6) إلى صــ(11)
[الركن الثالث: قراءة سورة الفاتحة]
قال رحمه الله تعالى: [والفاتحة].هذا هو الركن الثالث،
أي: قراءة سورة الفاتحة.
وهذا الركن دليل لزومه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)،
وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج) أي: ناقصة.وهذان الحديثان صحيحان ثابتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن صلى ولم يقرأ الفاتحة فإن صلاته لا تصح.
وفي قراءة الفاتحة مسائل:
المسألة الأولى: أن قراءة الفاتحة لازمة، وأنها ركن من أركان الصلاة لظاهر السنة.وهذا الركن يجب في الصلاة في كل ركعة، ولا يختص بجزء منها؛ لأن العلماء اختلفوا،
فمنهم من يقول: من قرأ الفاتحة في ركعة صحت صلاته، ولو تركها في بقية الركعات.وقال الإمام مالك رحمه الله -في إحدى الروايات عنه-: لو ترك الفاتحة في ركعة من رباعية صحت صلاته.والصحيح أنه لا بد من قراءتها في كل ركعة،
وذلك لدليلين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)،
الثاني: قوله تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل ... ) الحديث، فذكر القراءة وهي واقعة في الركعة، فصح أن يصدق على الركعة أنها صلاة، وأن جزء الصلاة الذي هو الركعة يعتبر صلاة،
لأن الذين قالوا: يجوز أن تقرأ الفاتحة في ركعة وتجزيك،
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما صلاة لا يقرأ فيها)، وأنت قد قرأت.
فيقولون: يصح أن تقرأها في ركعة، ويصح أن تقرأها في ركعتين، وتقتصر على هذا.والصحيح أنه لا بد من قراءتها في كل ركعة، ويقوي هذا حديث المسيء صلاته،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره بالقيام والقراءة في الركعة الأولى ووصفها قال له بعد القراءة: (ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع) ثم ذكر السجود،
ثم قال له بعد السجدة الثانية: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)، فدل على أن هذا الموصوف الذي ذكره وألزم فيه بالقراءة في الأولى أنه يسري حكمه إلى غيره كما هو ثابت فيه، وبناء على ذلك يلزم المكلف بقراءة الفاتحة في كل ركعة.
وكان بعض العلماء يقول: إن الأخريين من صلاة الظهر لا يقرأ فيهما، والصحيح أنه يقرأ،
وكانوا يقولون: إنه يرخص للمكلف أن يترك الفاتحة فيهما، واحتجوا بما أثر عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما أنهما رخصا في ترك الفاتحة، كما روى ذلك مالك عن عمر في الموطأ.والصحيح أن الحجة في السنة، ويعتذر لـ عمر -إن ثبت عنه، وإن كان الأثر عنه غريبا- بأنه لم يبلغه الحديث، والصحيح ما ذكرناه لظاهر السنة، وهو الذي يجب على المكلف التزامه في كل ركعة.
المسألة الثانية: قراءة الفاتحة للمنفرد والإمام والمأموم: أما المنفرد والإمام فنلزمهما قراءة الفاتحة وجها واحدا.
وأما المأموم فللعلماء فيه أقوال: فبعض أهل العلم رحمة الله عليهم يرون أن المأموم يحمل الإمام عنه قراءة الفاتحة، فمذهب الحنفية وإحدى الروايات عن الإمام مالك أنه إذا قرأ الإمام -خاصة في الجهرية- سقط عن المأموم قراءة الفاتحة، ولزمه الإنصات والاستماع.
والصحيح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة ووافقهم الظاهرية وبعض أهل الحديث أنه يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة وراء إمامه،
وذلك لأمور: أولها: أن الحديث الذي دل على وجوب الفاتحة ولزومها عام شامل لحال المنفرد والمأموم، ولا مخصص له.ثانيها: أنه ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى بالناس الفجر فارتج عليه،
فقال: (إنكم تقرءون خلف إمامكم! قالوا: نعم،
قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فإن هذا نص عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن المأموم ملزم بالقراءة وراء الإمام،
فإن قوله: (إلا بفاتحة الكتاب) استثناء، والقاعدة في الأصول أن الاستثناء إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب،
وقال: (فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)،
أي: بفاتحة الكتاب افعلوا.فألزم النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها وراء الإمام، فدل على أن المأموم وراء الإمام يلزمه أن يقرأ الفاتحة.
وأما من قال بعدم لزومها فاحتج بحديث جابر: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، وهذا الحديث ضعفه جماهير أهل الحديث، والضعف فيه من القوة بمكان، وقد نبه على ذلك الحافظ ابن حجر وغيره، لكن هناك من أهل العلم من حسن الحديث، وحسن إسناده لشواهد.
فعلى القول بتحسين هذا الحديث قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) يدل على سقوط الفاتحة.
وهذا الحديث يجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) المراد به قراءة الإمام التي يختارها بعد الفاتحة، ولذلك نسبها إليه،
أي: لو أن الإمام قال: (ولا الضالين) وقلت: آمين،
ثم قرأ: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1]، فلا تقرأها، فقراءة الإمام بـ (سبح) لك قراءة، فكأنك قد قرأتها.
فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: (فقراءة الإمام له قراءة) أي: فيما كان من غير الفاتحة، وهذا هو الذي ورد فيه الحديث.
الوجه الثاني: أن من قال: إن هذا الحديث متأخر عن حديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب).يجاب عنه بأنه ليس هناك دليل صحيح يدل على تأخر هذا عن تاريخ الذي قبله، وقد تقرر في الأصول أن ادعاء النسخ ليس بحجة؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال،
فلو قال أحد: إن هذا الحديث متأخر عن الذي قبله لا يقبل قوله حتى يأتي بالدليل على تأخره، وأنه قد وقع بعده لكي يكون ناسخا.ولذلك فالأحاديث التي تدل على وجوب قراءة الفاتحة على العموم،
لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)،
وكذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) كلها نصوص صحيحة تدل على أنك إذا كنت وراء الإمام فإن قراءة الفاتحة تلزمك.وهذه الركنية شاملة للمنفرد وللإمام وللمأموم، ويستوي في هذا أن تكون الصلاة جهرية أو سرية، فأما الجهرية فقراءة الفاتحة بالنسبة لك ركن،
واستماعك لقراءة الإمام لما بعد الفاتحة أعلى درجاته أنه واجب على القول بظاهر الآية: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [الأعراف:204]،
فنقول: إنه قد تعارض الركن والواجب فيقدم الركن على الواجب.
ولو أن قائلا قال: إن إثبات الركنية إنما هو بالاجتهاد.
فلو سلم هذا جدلا فإننا نقول: هب أنهما واجبان، واجب متصل وواجب منفصل، والقاعدة أنه إذا تعارض الواجب المتصل بعبادة المكلف مع الواجب المنفصل فإن الواجب المتصل الذي أمر به إلزاما يقدم على ما انفصل عنه على سبيل المتابعة للإمام.
وقوله: [الفاتحة] يخالفه فيه بعض العلماء فيقول: قراءة الفاتحة.وهذا أدق، فالتعبير بالقراءة إسقاط لما في السر، فلا يجزئ الإنسان أن يقفل فمه؛ لأن بعض الناس يكبر تكبيرة الإحرام ويقفل فمه فتجده كالصامت وهو يقرأ في داخل نفسه، فهذه القراءة لا تجزيه، ولا تصح منه حتى ينطق،
وقالوا: يسمع نفسه.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ) والقراءة إنما تكون باللفظ، وأما ما كان في النفس فليس بقراءة ولا في حكم القراءة.
المسألة الثالثة: إذا ثبت أن المأموم مأمور بقراءة الفاتحة فإنه يستثنى من هذا إذا أدرك الإمام راكعا، فإنه تسقط عنه الفاتحة لظاهر حديث أبي بكرة،
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة)، وهذا نص، وبناء على هذين الحديثين نقول: إن هذا استثناء لهذه الحالة بعينها، فمن أدرك الإمام راكعا سقطت عنه الفاتحة؛ لأنه لم يدرك وقتا يمكنه فيه القيام بركنها.
أما إذا أدركه قبل الركوع فحينئذ لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يدرك وقتا يتسنى له أن يقرأ فيه الفاتحة فيقصر أو يشتغل بدعاء الاستفتاح، فحينئذ يلزمه قضاء الركعة إن لم يقرأ الفاتحة، لأنه كان بإمكانه أن يقرأ.
الضرب الثاني: أما لو أدرك وقتا لا يمكن معه قراءة الفاتحة، فبمجرد أن كبر وقبض يديه وشرع في الفاتحة كبر الإمام للركوع، فتسقط عنه الفاتحة؛ لأنه لم يدرك وقتا يلزم في مثله بالقراءة.
المسألة الرابعة: الأصل وجوب قراءة الفاتحة باللفظ، ويستثنى المريض الذي تكون في لسانه عاهة، ولا يمكنه التحريك، فإنه يجزيه أن يقرأ في نفسه؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وهذا ليس بإمكانه أن يقرأ إلا على هذا الوجه، فسقط عنه اللفظ وتحريك اللسان وبقي على الأصل.وفي حكم هذا من كان في لسانه جراح بحيث يصعب عليه، أو يتألم عند تحريك اللسان، فإنه يجزيه لو أطبق الشفتين وقرأ في نفسه، وتصح منه القراءة ويعتد بها.
[الركن الرابع: الركوع]
قال رحمه الله تعالى: [والركوع].الركن الرابع الركوع،
ودليل ركنيته قوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} [البقرة:43]،
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج:77]،
فقوله تعالى: (اركعوا) أمر، ودلت السنة على ثبوت ذلك ولزومه،
كما قال عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (ثم اركع حتى تطمئن راكعا)، فدل على لزوم الركوع، وأنه ركن في الصلاة، والركوع يتحقق بوصول اليد إلى الركبة، فإذا وصل الكف إلى الركبة فقد ركع.وبناء على ذلك لو انحنى فلم تصل الكف إلى ركبته فإنه لا يعتبر راكعا ولا يجزيه ذلك، ولو انحنى فوصلت كفاه إلى ركبتيه ولكنه لم يهصر ظهره فإنه حينئذ يجزيه الركوع وفاتته السنة؛ لأن السنة أن يهصر ظهره،
كما جاء في حديث عائشة: (ثم هصر ظهره)، فإذا هصر الظهر واعتدل الظهر فهذه مرتبة الكمال، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.فإن حصل منه قدر الإجزاء -وهو بلوغ الكفين إلى الركبتين- صح ركوعه، ولكن فاته الكمال، فإن وجد عذر من مرض أو ضيق مكان كتب له أجر السنة كاملا لوجود العذر.فمن كان مريضا على وجه لا يتسنى له أن يركع، فحينئذ يجزيه أن ينحني بالقدر الذي يصل إليه على حالة لا يشق عليه فيها، أو لا يبلغ فيها بنفسه درجة المشقة، فإذا انحنى بهذا القدر من الانحناء الذي يستطيعه ويطيقه فقد أجزأه وانعقد ركوعه، ويستثنى من كمال الانحناء لانعقاد هذا الركن.كذلك يستثنى من ركنية الركوع أن يكون الإنسان على دابته في السفر ويصلي النافلة، فإن الركوع يعتبر ركنا، بمعنى أنه يطلب فعله، ولكنه ركن باعتبار، فينحني ويكون انحناؤه أقل من انحناء السجود، أما انحناء السجود فإنه يكون أبلغ، فينحني انحناء بقدر، فإذا حصل هذا الانحناء صدق عليه أنه ركع وأجزأه وتحقق الركن من صلاته النافلة.
[الركن الخامس: الاعتدال من الركوع]
قال رحمه الله تعالى: [والاعتدال عنه]
.الركن الخامس الاعتدال عن الركوع،
والاعتدال: هو الذي لا اعوجاج فيه.فلما كان المكلف في حال الركوع ينحني ظهره، فإنه يخرج عن هذا الركن إلى الركن الذي بعده بوجود الاعتدال،
والاعتدال: هو أن يستتم قائما.
ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا رفع رأسه من الركوع اعتدل حتى يرجع كل فقار إلى موضعه)،
والمراد بقوله: (كل فقار) أي: فقرات الظهر؛ لأن ظهر الإنسان فيه فقرات، فإذا انحنى تباعد ما بين الفقرات، لكنه إذا اعتدل كأنها رجعت إلى حالتها الطبيعية، وهذا الحديث يدل على هديه في الاعتدال.
أما كون الاعتدال ركنا فدليله قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع -أي: من الركوع- حتى تعتدل قائما)، فإذا حصل الاعتدال قائما أجزأه وتحقق الركن، لكنه لو رفع من الركوع وقبل أن يستتم قائما انحنى ساجدا أو خر ساجدا فإنه لا يجزيه ولا يصح منه ذلك، وإذا لم يتداركه وجب عليه قضاء الركعة، فإن لم يقضها بطلت صلاته؛ لأنه لا بد من ركن الاعتدال،
فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده)، فلا بد من أن يستتم قائما،
فلو أنه قال: (سمع الله لمن حمده) ولم يستتم قائما وبادر بالسجود فإنه حينئذ يحكم بأنه لم يقم صلبه.ويستثنى من هذا الذي لا يستطيع أن يستتم قائما كالمريض، أو الشيخ الهرم إذا كان منحني الظهر، فإن ركوعه يكون بالقدر، ويكون رفعه من الركوع على القدر الذي يستطيع تحصيله في حال قيامه.
[الركن السادس: السجود على الأعضاء السبعة]
قال رحمه الله تعالى: [والسجود على الأعضاء السبعة].من أركان الصلاة أن تسجد على الأعضاء السبعة.
أما دليل ركنية السجود فقوله سبحانه وتعالى في آية الحج: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج:77]،
فإن قوله سبحانه وتعالى: (اسجدوا) أمر، والأمر يدل على اللزوم والوجوب.
وقال عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا)، فدل على أن السجود ركن من أركان الصلاة.ويتحقق السجود على الكمال في كونه على الأعضاء السبعة، وقد بينا ذلك،
وبينا دليله من حديث ابن عباس الثابت في الصحيح: (أمرت أن أسجد على سبعة آراب)،
أو: (على سبعة أعظم)، كما في الرواية الثانية.فإذا سجد فكان سجوده على الأعضاء السبعة فإنه تم ركنه، وأجزأه بمماسة الأرض، ثم يبقى شرط الطمأنينة الذي يأتي ذكره.ويستثنى من هذا من كان مريضا بحيث لا يمكنه الهوي للسجود ولا السجود، حتى ولو كان يخشى ضررا بعضو أو نفس، كمن أجريت له عملية في عينه، فإنه قد يمنع من السجود خشية ذهاب البصر، فأصح الأقوال -وهو قول جماهير السلف رحمة الله عليهم والعلماء- أنه يرخص للإنسان إذا خاف على بصره بطب ونحوه أن يترك السجود.وشدد في ذلك بعض السلف ومنهم ابن عباس، رضي الله عنهما، فقد قال العلماء عن ابن عباس إن سبب إصابته بالعمى أنه كان مريضا في عينه، فنصحه الطبيب أن لا يسجد، فلم يرض ابن عباس بذلك وسجد فكف بصره رضي الله عنه.وإن كان الذي ذكره غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم أن ابن عباس ابتلي بذهاب البصر لأنه قل أن يرى أحد الملائكة إلا عمي بصره، وكان ابن عباس قد رأى الملائكة -كما جاء في الحديث الصحيح- لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبوه العباس، فلما دخل سلم العباس فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه إذ كان مشغولا بالوحي، وكان جبريل عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم وكرر السلام فلم يرد عليه فانصرف العباس وفي نفسه شيء، وخاف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد عليه، فلما انصرف علم عبد الله من أبيه ما علم،
فقال: يا أبت! إنه قد شغل بمن معه، وكان قد رأى جبريل، فلما قال ذلك رجع العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره،
فقال صلى الله عليه وسلم: (هل رأيته يا عبد الله؟ قال: نعم.قال: ذاك جبريل)،
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو كان معي بصري لأريتكم الغار الذي نزلت منه الملائكة يوم بدر) أي: يوم القتال، وقد ذكر عن بعض الصحابة ومن غير الصحابة أنهم رأوا الملائكة فكفت أبصارهم،
فيقولون: إن هذه سنة كونية من الله عز وجل أنه لا يبقى له البصر لقوة ما رآه.ولكن هذا قد يستثنى منه الأنبياء ونحوهم مما أعطوا بإقدار الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى جبريل على حقيقته.
والمقصود أن هناك من العلماء من يقول: إن ابن عباس كان مذهبه أنه يشدد في ذلك، حتى إنه حين نهاه الطبيب خشية أن يكف البصر لم يرخص لنفسه.
ولهذا قال بعض العلماء: إن الخوف على العضو أو الخوف من الزيادة في المرض لا يرخص به في السجود.والصحيح أنه يرخص به، فمن كان قد تعاطى علاجا أو عملية جراحية في صلبه أو ظهره، وخشي أنه لو سجد يتضرر أو يذهب عضو من أعضائه فإنه يرخص له في ترك السجود، ولا حرج عليه أن يسجد بالقدر الذي يصل إليه.فإن صلى على مرتفع أو نشز كالكرسي ونحوه فسجوده أخفض من ركوعه، بمعنى أن يكون انحناؤه أبلغ ما يكون في السجود، ويكون الركوع أرفع منه قليلا، وهذا إذا كان على نشز، أما لو كان على الأرض كأن يجلس جلسة التشهد، فإن سجوده أن ينحني إلى القدر الذي يستطيع تحصيله دون ضرر، فإذا بلغ هذا القدر فإنه يعتبر ساجدا، لكن ينبغي أن ينبه على كيفية السجود، فبعض الناس يكون مريضا ولا يستطيع السجود، فتجده إذا سجد وضع كفيه على فخذيه وانحنى، وهذا لا يصح، بل ينبغي أن ينزل الكفين إلى الأرض، لأنه مأمور بالسجود على السبعة الآراب (الأعضاء)، فكونه عاجزا عن إيصال الجبهة أو الرأس إلى الأرض لا يوجب ذلك الترخيص بترك مماسة اليدين للأرض؛ لأن القاعدة أن الضرورة تقدر بقدرها، فضرورته أن لا يصل رأسه إلى الأرض، والزائد على الضرورة من كونه يترخص بسحب اليد ووضعها على الفخذ لا موجب له، فيبقى على الأصل الموجب لتحصيل السجود به.
[الركن السابع: الاعتدال من السجود]
قال رحمه الله تعالى: [والاعتدال عنه]
.أي: الاعتدال عن السجود، والمراد بذلك أن يحصل القعدة وذلك بالرفع من السجود، فإذا اعتدل من السجود حصل الركن،
وهذا الاعتدال أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته فقال له: (ثم ارفع حتى تستوي جالسا)، فدل على ركنية هذا الرفع من السجود وأنه يلزم به،
وقد ذكره في موضعين: في السجدة الأولى وفي السجدة الثانية،
فقال: (حتى تستوي جالسا)،
وقال: (ثم ارفع حتى تعتدل قائما)،
فدل على ركنين:
الركن الأول: الرفع من السجود أو الاعتدال عنه.
والركن الثاني: الجلسة بين السجدتين.
[الركن الثامن: الجلوس بين السجدتين]
قال رحمه الله تعالى: [والجلوس بين السجدتين].
من دقة المصنف وتحريه وفقهه جعل الاعتدال من السجود والجلوس بين السجدتين ركنين، وليس ركنا واحدا؛ لأن هناك فرقا بين الجلوس بين السجدتين والاعتدال من السجود؛ لأن الاعتدال يقع بالجلوس ويقع أيضا بعد الجلوس، كما لو سجد السجدة الثانية،
فمن دقة المصنف أن قال: (الاعتدال عنه)، حتى يشمل ما بعد السجدة الثانية.ويكون والجلوس بين السجدتين ركن منفصل؛ لأنه يختص بما بين السجدتين،
فلو قال: [الاعتدال عنه] وسكت، فإنه لا يتضمن ذلك الجلسة بين السجدتين،
ولو قال: [الجلوس بين السجدتين] وسكت، فإن هذا لا يشمل الرفع بعد السجدة الثانية، ومن هنا كان من فقهه رحمة الله عليه أن جعلهما ركنين، وهذا هو الصحيح، ولذلك تعقب بعض الشراح على المصنف رحمه الله ليس في محله، بل من دقته أن هذا ركن وهذا ركن؛
لأنك لو قلت: (الجلسة بين السجدتين) فحسب لم تنبه على ركن الرفع من السجدة الثانية، فإن الرفع من السجدة الثانية ليس فيه جلوس بين السجدتين كما هو معلوم،
ولو قلت: (الرفع من السجود) فحسب فإن الرفع من السجود مطلق لا يستلزم جلوسك بين السجدتين؛ لأن من رفع ولم يجلس صدق عليه أنه قد حصل الركن.والجلوس بين السجدتين يتحقق بحصول الجلسة، والجلسة بين السجدتين تكون بالافتراش بأن يرفع الإنسان رأسه حتى يستوي جالسا وتحصل له طمأنينة الجالس، لكن لو أنه رفع من السجود وقبل أن يستوي جالسا كبر للسجدة الثانية فإنه لا يجزيه، ولم يتحقق ركن الجلوس بين السجدتين، فيلزمه أن يرجع مرة ثانية ويستقر جالسا؛
لأنه قال: [والجلوس بين السجدتين] وهذا لم يجلس.ويتحقق الجلوس بالتصاق الإلية بالعقب، أو إذا فرش رجله اليمنى للإليتين، فإذا حصل هذا فقد جلس،
لكن لو أنه قبل أن يرجع وتصل الإلية إلى العقب قال: الله أكبر.لم يصح ذلك ولم يجزه، ويلزمه أن يعيد الجلوس بين السجدتين، وتلغى السجدة الثانية التي سجدها، ويسجد لها سجود الزيادة.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(أركان الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (94)
صـــــ(1) إلى صــ(8)
شرح زاد المستقنع - فصل: أركان الصلاة [2]
من أركان الصلاة: الطمأنينة في جميع أركان الصلاة وهيئاتها، والتشهد الأخير والجلوس له، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه، والترتيب بين أركان الصلاة، والتسليم، وبه يخرج المصلي من صلاته.
تابع أركان الصلاة
[الركن التاسع: الطمأنينة في الصلاة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والطمأنينة في الكل].
الطمأنينة: هي الوقت الكافي الذي يصدق به تحصيل الركن، ففي القيام لا إشكال أنه سيقرأ الفاتحة فيحصل الطمأنينة المعتبرة، فإن وقت قراءة الفاتحة قدر للطمأنينة.لكن بحث العلماء في الطمأنينة في الركوع والسجود والرفع من الركوع والرفع من السجود.
أولها: إذا ركع، لأنه في القيام سينشغل بالقراءة، فلو ركع فإن الواجب عليه تسبيحة واحدة،
فإذا ركع ثم رفع مباشرة ولو قال: (سبحان ربي العظيم) اختطافا فإنه حينئذ لا يجزيه هذا الركوع؛ لأنه لم يطمئن، وهذا هو الذي وقع من المسيء صلاته، وهو الذي من أجله نبهه النبي صلى الله عليه وسلم على صفة الصلاة؛ لأن هذا الرجل -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - صلى ولم يحسن الصلاة، والمراد بعدم إحسانه الصلاة استعجاله فيها.فالطمأنينة إذا ركع أن ينتهي إلى الركوع الكامل،
فإذا انتهى إلى الركوع الكامل يقول: (سبحان ربي العظيم)،
وقدر قوله: (سبحان ربي العظيم) يعتبر تحصيلا للطمأنينة، فلو أنه خطف الكلام،
أو أنه ركع ونسي أن يقول: (سبحان ربي العظيم) ورفع مباشرة، فإنه في هذه الحالة يبطل ركوعه، ويلزمه أن يعيده،
فيقول: (الله أكبر)، راكعا،
ويقول: (سبحان ربي العظيم)، ويحصل قدر الطمأنينة ثم يرفع، ويبقى ما بين الركنين من كونه ركع ورفع لاغيا؛ لأنه ركوع لم يعتد به الشرع، فيسجد له السجود البعدي المتعلق بالزيادة.
[الركن العاشر: التشهد الأخير]
قال رحمه الله تعالى: [والتشهد الأخير].التشهد تشهدان إذا كانت الصلاة رباعية أو ثلاثية، أما إذا كانت ثنائية، أو كانت وترا فالتشهد واحد،
فإذا قالوا: التشهد الأخير.فالمراد به الذي يحصل بعده السلام.وهذا التشهد يعتبر ركنا من أركان الصلاة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد الإنسان للتشهد.فلو أن إنسانا سجد السجدة الثانية من الركعة الثانية ثم مباشرة سلم فإنه يحكم ببطلان صلاته، فلا بد من التشهد.
والمراد بقوله: [التشهد] أي: اللفظ الذي هو ذكر التشهد، والأحاديث الواردة فيه وهي حديث ابن مسعود، وحديث عبد الله بن عمر، وحديث عبد الله بن عباس، وحديث عمر بن الخطاب وأبي سعيد الخدري رضي الله عن الجميع.
والركن في التشهد الأخير ينتهي عند قولك: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله)، فلو أن مصليا قرأ (التحيات لله) حتى بلغ قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) واحتاج أن يقطع الصلاة فسلم صحت صلاته؛ لأن الزائد ليس بركن، فما بعد التشهد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء ليس بركن على أصح أقوال العلماء.وبناء على ذلك لو وقف عند آخر جملة من التشهد -أي: عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) - وسمع أمر خطيرا أو أمرا أفزعه فأراد أن يدركه فسلم صحت صلاته وأجزأته.
[الركن الحادي عشر: الجلوس للتشهد الأخير]
قال رحمه الله تعالى: [وجلسته].
أي: من أركان الصلاة الجلوس للتشهد الأخير، فلو قرأ التشهد الأخير وهو واقف فإنه لا يعتد بقراءته إلا أن يكون معذورا، أو قرأ التشهد الأخير قبل أن يستتم جالسا، كما لو رفع من السجدة الأخيرة وانحنى فلم يستتم جالسا وقرأ التشهد بسرعة وسلم فإنه لا يجزيه، فلا بد من أن يستتم جالسا ويقرأ التشهد بكماله إلى القدر الذي ذكرنا، ثم بعد ذلك إن سلم لحاجة فحينئذ تصح صلاته وتعتبر.
[الركن الثاني عشر: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير]
قال رحمه الله تعالى: [والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه].الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركن على هذا القول، والحقيقة أنه ليس هناك دليل قوي على ركنية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، بل هي سنة ثابتة ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشك في هذا، لكن القول بأنها ركن لو تركت تبطل بها الصلاة ليس عليه دليل صريح.
واحتج من يقول بركنيتها بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} [الأحزاب:56] وهذا عام، ومثل هذا لا يصلح حجة على الإلزام،
ولو قلنا بأنه يصح حجة لقلنا: غاية الأمر أن يكون واجبا لا ركنا؛ لأن الركنية توجب بطلان الصلاة.
والأمر الثاني: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم جاءت أشبه ما تكون من أجل الدعاء، ولذلك شرعت الأدعية أن يكون فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة أشرف مواضع الدعاء، فهي مناسبة من أجل الدعاء.فإذا كان الأصل ليس بواجب فمن باب أولى ما يقصد له، فإن الدعاء نفسه ليس بواجب، وبناء على هذا يكون ما شرع له ليس بواجب من باب أولى وأحرى.ولذلك ليس هناك حديث أو آية تدل صراحة على كون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركنا في الصلاة.
واحتجوا أيضا بحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه في تعليمه صلى الله عليه وسلم الصحابة الصلاة عليه بقوله: (قولوا: اللهم صل على محمد) قالوا: هذا أمر، ويدل على ركنية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة.ويجاب عنه بأنه مبني على بيان، وذلك أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، والسؤال معاد في الجواب،
فيكون قوله: (قولوا) من باب البيان.
ألا ترى لو أن إنسانا قال لعالم: كيف أصلي ركعتين نافلة؟
فقال له: قم وافعل كذا وكذا وكذا، فإننا لا نقول: إن هذا لازم عليه.وإنما يكون من باب البيان المرتب على السؤال الذي لا يقتضي الإلزام،
وإنما يكون إلزاما أن يقول عليه الصلاة والسلام: إذا صليتم فصلوا علي.وأيضا فإن حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الذي فيه التعليم لصفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه دليل على تخصيصه بالصلاة.وبناء على ذلك فإننا لو سلمنا أن دلالة: (قولوا) للوجوب،
فإننا نقول: إن هذا على سبيل العموم، ومسألتنا على سبيل الخصوص، وإذا كان الدليل أعم من موضع النزاع فإنه لا يقوى على إفادة المراد.وبناء على هذا، فالذي يترجح -والعلم عند الله- أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست بركن، بمعنى أن من تركها لا تبطل صلاته، ولكن لا شك أن الأكمل والأحرى والأولى بالمصلي أن لا يسلم إلا وقد صلى على النبي صلى الله عليه وسلم.
[الركن الثالث عشر: الترتيب بين أركان الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [والترتيب].
الترتيب: مأخوذ من رتب الشيء على الشيء إذا جعله عليه، بمعنى أن وجود الثاني بعد الأول، والثالث بعد الثاني.ومراد المصنف بالترتيب هنا أن يوقع هذه الأركان مرتبة على الصورة التي وردت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.وبناء على ذلك فإن المكلف لو فعل جميع هذه الأركان بأن جاء وكبر، فلما قام ركع مباشرة، وبعد الركوع رفع من الركوع وقرأ الفاتحة، فإنك إذا نظرت إلى الصلاة وجدت الأركان جميعها موجودة، لكنها ليست مرتبة على الصفة التي وردت في السنة،
فنقول: هذا غير معتبر، فالركن ومحل الركن لا بد منه،
ودليلنا على الإلزام بالترتيب قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع) الحديث.فالعطف بـ (ثم) يفيد الترتيب، وقد وقع هذا العطف بين هذه الأركان، فدل على أنه لا يصح إيقاع بعضها سابقا على بعض.
[الركن الرابع عشر: التسليم]
قال رحمه الله تعالى: [والتسليم].التسليم وهو الركن الأخير،
والمراد بذلك أن يقول: السلام عليكم، وهذا أقل قدر يصح به التسليم.
فلو أن مصليا قال: (السلام عليكم) تسليمة واحدة، فإنه يجزيه وتتم صلاته.وهناك صفات أخرى في التسليم،
منها: الصفة الأولى: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله.الصفة الثانية وهي المشهورة: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله.
الصفة الثالثة: السلام عليكم ورحمة الله (عن اليمين) السلام عليكم (عن اليسار).
الصفة الرابعة: السلام عليكم عن اليمين فقط.وهذه أربع صفات من فعل واحدة منها فإنه قد خرج من صلاته.
وقوله: [التسليم] المراد به التسليمة الأولى، فلو أنه سلم التسليمة الأولى ثم أحدث فإن صلاته تصح وتجزيه، ولو أنه سلم التسليمة الأولى فمرت بين يديه امرأة قبل أن يسلم التسليمة الثانية فإن صلاته صحيحه؛ لأن التسليم قد حصل بالأولى، والثانية تعتبر سنة وليست بواجبة.
أما دليلنا على أن التسليم ركن فقوله صلى الله عليه وسلم: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، وفائدة كونك تجعل التسليم ركنا تظهر عند حصول الموجب لبطلان الصلاة قبل التسليم.فلو أن إنسانا تشهد وقبل أن يسلم انتقض وضوؤه فإنه حينئذ تبطل صلاته؛ لأنه بقي ركن من أركانها، وهكذا لو أنه صلى وفي التشهد مرت امرأة، أو مر حمار أو كلب -أكرمكم الله-، فعلى القول بأن هؤلاء يقطعون الصلاة فإننا نحكم بأن صلاته قد بطلت؛ إذ لا بد من وقوع التسليم قبل وجود المخل، فما دام أن التسليم ركن فإن الصلاة لا تصح.وقد خالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، فإنه يرى جواز الخروج من الصلاة بصنعة، فلو أن إنسانا التفت وقصد بهذا الالتفات الخروج فإنه يخرج من صلاته، وهكذا لو صنع أي شيء يخل بالصلاة قاصدا به الخروج من الصلاة فإنه يجزيه ويعتبر خارجا من الصلاة.والصحيح أن الخروج من الصلاة عند تمامها، أو قبل تمامها -كأن تقام الصلاة وأنت في الركعة الأولى وتريد أن تخرج منها- أن تخرج بالتسليم؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، ولم يفصل صلى الله عليه وسلم بين كمالها وبين نقصانها.فلو قال قائل: قوله صلى الله عليه وسلم: (وتحليلها التسليم) المراد به أن يكون بعد تمام الصلاة.
قلنا: هذا تخصيص بدون دليل يدل على التخصيص، بل إن ظاهر الحديث في سياقه يدل على أن التسليم مطلق،
وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم: (تحريمها) يدل على أنك قد دخلت في الحرمات، وأن هذا الخروج من الحرمات يفتقر إلى شيء تخرج به،
فقال: (وتحليلها التسليم)، فالمقابلة تقتضي الملازمة، بمعنى أنك إذا دخلت في الحرمات لا تخرج من هذه الحرمات إلا بتسليم.
ومن الفروق بين قولنا: يخرج بتسليم،
وقولنا: يخرج بدون تسليم أنك لو كنت ترى أن التسليم معتبر للخروج من الصلاة، فكبرت وقرأت الفاتحة وقرأت السورة فأقيمت الصلاة، وغلب على ظنك أن الصلاة ستفوتك لو استمررت في هذه النافلة، فأردت قطع هذه الصلاة فقطعتها بفعل ولم تقطعها بتسليم فحينئذ لا أجر لك فيما مضى؛ لأنك أبطلت الصلاة بهذا الفعل؛ لأنه فعل غير شرعي، وخرجت به عن كونك مصليا، لكن لو سلمت معتدا بالأصل الشرعي، بأن دخلت بالتكبير وخرجت بالتسليم فإنه يكتب لك أجرها، وهذا إذا كنت ترى أن التسليم لازم.وأما الحنفية فيرون أنه يجوز له أن يخرج بصنعة،
ويقولون: إذا أقيمت الصلاة فله أن يلتفت، وله مباشرة أن ينوي القطع في قلبه ويكبر للفريضة،
فلو قال: (الله أكبر) تكبيرة الإحرام الثانية تنعقد الفريضة؛ لأنه قد قطع النافلة بنيته.وهذا ضعيف مخالف لظاهر العموم؛ لأن الخروج من الصلاة جمع الشرع فيه بين الظاهر والباطن، فخروجه بمجرد نيته إنما هو خروج بالجزء؛ لأن الشرع في الصلاة المعهودة أن تخرج بالفعل الذي هو التسليم،
أي: القول والفعل.
فقولهم: نيته كافية في الخروج إنما هو اجتزاء ببعض المطلوب مع أن الشرع اعتبر للخروج من هذه العبادة دلالة الظاهر، فلا وجه للاقتصار على دلالة الباطن وهي النية.ولذلك يقوى مسلك الجماهير أنه لا بد من التسليم.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(أركان الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (95)
صـــــ(9) إلى صــ(18)
الأسئلة
[مواطن قراءة الفاتحة للمؤتم]
Q متى يقرأ المكلف الفاتحة خلف الإمام، خاصة إذا لم يترك له الإمام فرصة للقراءة؟
A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد: فإن قراءة الفاتحة وراء الإمام تكون في السكتات، كسكوت الإمام ما بين قراءة الفاتحة وقراءة السورة، وقد جاء هذا عن سعيد بن المسيب، وهذا الأثر وإن كان مرسلا فإنه يدل على أن أقل درجاته أنه كان معهودا عند السلف الصالح رحمة الله عليهم، ومعلوم مكانة سعيد بن المسيب، فهو قريب إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان يقال: إن المدينة إلى عهد مالك لم تدخلها بدعة.فكيف بعهد سعيد بن المسيب الذي كان من أقرب الناس إلى عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم?! ولذلك يسكت الإمام هذه السكتة، وهي من فعل السلف، ويعطي للمأموم مجالا أن يقرأ، فإذا أمكنته قراءتها فالحمد لله، وإذا لم يمكنه أن فليقرأها يستمر، ولو استمر الإمام في قراءته؛ لأننا قلنا: يتشاغل بالركن عن الواجب، على القول بوجوب الإنصات لقراءة الإمام.ولذلك أمر بها أبو هريرة، فقد روى البيهقي عنه بالسند الصحيح في جزء القراءة خلف الإمام أنه أمر بها، وقال: (حتى ولو قرأ الإمام).ولذلك فإنه يقرأ الفاتحة ولو لم يعطه الإمام مجالا لقراءتها؛ لانشغاله بما هو ركن تنعقد به الصلاة ولا تصح بدونه، والله تعالى أعلم.
[قراءة القرآن]
Q ما حكم قراءة الفاتحة للمأموم خلف إمامه في صلاة النفل؟
A الحكم في ركنية الفاتحة شامل للفرض والنفل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل في الصلوات، ولم يفرق بين حال الائتمام والانفراد والإمامة، فيبقى هذا العموم على ظاهره، ويلزم المكلف بالقراءة على كل وجه، سواء أكان في فريضة أم نافلة، ولا وجه للتخصيص لعدم ثبوت دليل يخصص، والله تعالى أعلم.
[بم تدرك الركعة؟]
Q مصل كبر تكبيرة الإحرام وانتهى منها في الركوع أو في أثناء الركوع، فهل تجزيه؟
A إذا جئت متأخرا والإمام راكع، فكبرت، ثم رفع الإمام، أو كبرت وأثناء التكبير رفع الإمام، فهذه المسألة على صورتين: الصورة الأولى: أن تكبر لركوعك وتنتهي من التكبير بكماله، أي: بعد انتهائك من حرف (الراء) من قولك: (أكبر) قال الإمام: (سمع الله لمن حمده) فأنت مدرك للركوع، وأيضا قبل أن يتلفظ الإمام بـ (السين) من: (سمع الله لمن حمده)، ولو رأيته بالفعل؛ لأن العبرة بالقول وليس بالفعل، وبناء على ذلك فلو رأيته تحرك ثم مباشرة أدركت التكبير وكبرت، فإنه يجزيك وتعتبر مدركا للركوع وتسقط عنك الركعة.الصورة الثانية: أن يرفع الإمام، أو أن يسمع الإمام في أثناء تكبيرك أو قبل تكبيرك، فحينئذ لا تعتبر مدركا للركوع، فإذا قلت: (الله أكبر) وما بين لفظ الجلالة وأكبر قال: (سمع الله)، فحينئذ تتم تكبيرك وتبقى قائما، فقد أدركت ركن القيام ولم تدرك ركن الركوع.وبناء على هذا يلزمك أن تقضي هذه الركعة لعدم إدراكك لركوعها، والله تعالى أعلم.
[انتظار الإمام الداخل إلى الصلاة أثناء الركوع]
q هل للإمام إذا كان راكعا أن ينتظر الداخل إلى المسجد لإدراك الركعة؟
A هذه المسألة اختلف فيها السلف رحمة الله عليهم، فكان بعض العلماء يقول: إذا ركع الإمام وسمع رجلا يدب إلى الصف فإنه لا ينتظره؛ لأن الصلاة لله وليست للناس؛ لأنه إذا انتظره وأطال القيام أساء من وجوه: أولها: أنه قصد الداخل ولم يقصد العبادة، وبناء على ذلك قالوا: هذا يخل في قصده ونيته، والمساجد لله وليست للناس.ثانيها: أنه يشق على الجماعة من أجل الفرد، والأصل تقديم ضرر العامة على ضرر الخاصة، فإن إطالة الركوع مشقة لمن ركع وهم الجماعة، وكونه يرفع من الركوع مشقة على المنفرد وهو المسبوق، فقالوا: إنه يلزمه أن يعتد بركوعه المعتاد، فإن بلغ القدر الذي في مثله يرفع رفع.وقالت طائفة من العلماء بالتفصيل: فإن كان يشق الانتظار على المأمومين فلا ينتظر، كالمساجد الكبيرة التي يكون فيها فسحة والمكان بعيد بين بابها وبين آخر الصفوف؛ لأنه إذا انتظر شق على المأمومين، وأما إذا كان لا يشق عليهم فإنه ينتظر، وذلك لعموم الأوامر، ولثبوت السنة بما يشهد بهذا، فقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (كان يصلي في الظهر حتى لا يسمع قرع نعال)، والمراد بذلك إطالته للقيام لكي يدرك المأمومون الصلاة.وقالوا مجيبين عن الأولين: أما قولكم: فإنه يطيل من أجل الناس فإن الصورة ليست مقصودة، وإنما المقصود معنى الصورة، فإنه لما أطال ليس لذاك الرجل، بدليل أنه لا يعرف من الداخل، وإنما أطال تحصيلا للقربة، فكان ثوابا للجماعة وثوابا للداخل، فالمأمومون يحصلون الخير فيسبحون أكثر، وتطول صلاتهم، وليس هناك مشقة.فقالوا: إنما أطال تحصيلا للقربة؛ لأنه إذا أطال كان أعظم لأجرهم وعونا للمكلف أن يدرك الفضل، فليس ثم إخلال.ومن هنا نفهم عبارة بعض العلماء الذين يقولون بهذا القول، قالوا: فإن كان الذي دخل يعرفه أنه من ذوي الشرف أو ذوي الجاه حرم عليه.وقال بعض العلماء: تبطل صلاته إن كان قصد مثل هذا الرجل، أي أن قصده بإطالة الركوع هو مداهنة هذا الرجل أو محبته أو تأليفه، أو نحو ذلك مما ليس بمقصد شرعي.والمقصود أن أصح الأقوال أنه إذا كان لا يشق على المأمومين ونية الإمام صالحة فلا حرج لظاهر السنة في حديث الظهر، ولعموم الأدلة التي دلت على معونة الناس في تحصيل الخير، والله تعالى أعلم.
[حكم صلاة راتبة العشاء خلف من يصلي التراويح]
qإذا كان المأموم خلف إمامه في صلاة التراويح، فهل له في ركعتين منها أن ينوي سنة العشاء؟
A لا حرج على المأموم أن ينوي الراتبة (سنة العشاء) مع الإمام في صلاة التراويح، وكان بعض العلماء يستحب غير هذا فيقول: أستحب أن يدخل وراء الإمام بنية التراويح ولا يقلبها راتبة، حتى إذا انتهى من الوتر صلى ركعتين؛ لأنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (صلى ركعتين بعد الوتر).قالوا: لأنه إذا فعل هذا فقد حصل فضل قوله صلى الله عليه وسلم (من قام مع إمامه حتى ينصرف ... ) الحديث.قالوا: لأن الركعتين الأوليين من التراويح إنما هي من القيام، أي: من إحياء الليل، فلو نوى بها راتبة العشاء خرج عن كونه مقتديا بالإمام لاختلاف النيتين.
والأولون يقولون: يدخل بنية الراتبة من أجل قوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا)، قالوا: لأنه سيحتاج بعد هذا أن يشفع بعد الوتر فيفوته هذا الفضل.والذي تميل إليه النفس أن لا ينوي، وإنما يصلي حتى يوتر، ثم بعد الوتر يصلي ركعتين؛ لثبوت فعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا) على سبيل الاختيار، وهذا لا اختيار له لمكان ضيق الوقت، والله تعالى أعلم.
[توجيه إشكال في قراءة الفاتحة للمؤتم]
Q أشكلت علي حديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فقد قرأت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ما لي أنازع ... ) الحديث.فقال أبو هريرة: فانتهى الناس عن القراءة والفاتحة أيضا.فما قولكم في هذا الإشكال؟
A هذا يحتاج إلى نظر، فـ أبو هريرة بنفسه أمر بها، وقد روى ذلك عنه البيهقي في جزء (القراءة خلف الإمام) بالسند الصحيح، فأين ثبت قوله: (والفاتحة أيضا) بهذا اللفظ؟ إلا إذا كان السائل فهمه من قوله: (فانتهى الإمام عن القراءة وراء الإمام).فـ أبو هريرة رضي الله عنه أخبر أنهم كانوا يقرءون، فإذا قرأ الإمام مثلا: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1] فالناس خلفه يقرءون: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1]؛ لأنهم كانوا يرون أن الإمامة تقتضي المشاركة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الجزء الزائد، ولذلك قال: (فقراءة الإمام).لأن الإمام يختار في هذا الموضع، لكن الفاتحة ليس باختياره، وإنما هي قراءة للكل.فقوله: (فقراءة الإمام له قراءة) أي: ما يختاره من السور ويعينه فهو له قراءة.أي: تجزئ المأموم.ولو فرض غير هذا فإن حديث:: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نص على قراءة الفاتحة صراحة، وقول أبي هريرة (فانتهى الناس) متردد بين ما ذكرناه فهو محتمل، فالتشريع للأمة في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، وكون الناس انتهوا أو لم ينتهوا هو جزء الحكاية، ولا يعتبر حجة.ثم إن أبا هريرة نفسه بين أنه تلزم قراءة الفاتحة، فلا يعقل أنه يروي أن الناس انتهوا عن القراءة، ثم يروي إلزاما المأموم بقراءة الفاتحة إلا ومراده ما زاد عن الفاتحة وليس الفاتحة نفسها.فهذا أمر ينبغي التنبه له، ولذلك أوصي طالب العلم بالتحفظ، خاصة في حكاية سنة النبي صلى الله عليه وسلم.فبعض الأحيان قد تجد في بعض فتاوى العلماء، أو قد تجد في كتبهم أنهم حينما يصفون شيئا على هدي النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: من السنة كذا وكذا.ويكون ذلك من السنة المفهومة، وليس بالصريح، فينبغي أن يفرق بين حكاية النص، وبين فهم مدلول النص، فالفهم شيء والنص شيء آخر.فإذا جئت تحكي شيئا عن السنة وتثبته، بمعنى أن تقول: وكان كذا وكذا، أو قال أبو هريرة كذا وكذا، أو قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فينبغي أن تتقيد فيه باللفظ ولا تراعي فيه ما ترى، ولا تراعي فيه المذهب؛ لأن هذا أمانة لا بد فيه من الحيطة والحذر، خاصة طلاب العلم، ولذلك ما رأيت شيئا يكمل به طالب العلم في فقهه وفهمه وفتواه وقضاءه وحكمه بعد توفيق الله عز وجل مثل الأمانة والتحفظ.فلتتحفظ في فهمك، ولا تتجاوز في فهم الشيء أكثر مما دل عليه النص، ولا تتجاوز في بيان ما دلت عليه النصوص.فكونك ترى شيئا فتأتي وتقول: السنة كذا وكذا.بمعنى أنك تحكي السنة، وتقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو: فعل كذا وكذا، وأنت تفهم الشيء فتحكيه قولا، أو تحكيه سنة، فهذا أمر من الصعوبة بمكان، إلا في حالة واحدة رخص فيها العلماء، وهي بيان الهدي الذي يكون على سبيل السياق، مثل أن يحكي الإنسان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم، لكن يحتاط في المواضع.ولذلك كان من دقة العلماء المتقدمين أنهم يقولون: وكان من هديه عليه الصلاة السلام كذا وكذا.فيذكرون الهدي المنصوص عليه، فإذا جاءوا إلى مواضع الخلاف، لا يقولون: وكان من هديه كذا وكذا.وإن كان الواحد منهم يرى أنه من الهدي، لكن يقولون: وقال عليه الصلاة والسلام كذا وكذا.فيكون القول محتمل الوجهين، فلا تجد أحدهم ينص صراحة بناء على مذهبه، أو يقول: وكان من هديه كذا وكذا على أصح قولي العلماء لقوله عليه الصلاة والسلام كذا وكذا.وهذا موجود خاصة عند المتقدمين، وهذا من الورع والتحفظ.وهذا على خلاف حالنا اليوم، فإنك تجد الرجل إذا رأى قولا أو رأيا، أو اعتبر قولا فهو يرى أنه السنة التي لا جدال فيها، وقد تكون هذه السنة بنصوص محتملة، وقد تكون بأحاديث ضعيفة حسنت بالشواهد والاعتبار، فيأتي ويحكم بكونها السنة الثابتة التي لا تقبل نقاشا، وأن دلالتها صريحة لا تحتمل قولا ثانيا، فلا يجوز أبدا أن إنسانا يحكي ما ليس صريحا على وجه الصراحة، ويحكي المحتمل على وجه غير محتمل، فهذا ليس من الأمانة؛ لأن العلم أمانة وتحفظ.فعلى الإنسان أن ينقل العلم للناس مثل ما هو عليه لا يزيد فيه بفهمه ولا ينقص منه برأيه، وهذه هي الأمانة، ومن فعل ذلك بارك الله له في علمه، وغالبا لن تجد طالب علم يتحفظ، ويتقيد في أخذه للعلم وفهمه، وإفهام الناس وبيان الفتوى لهم إلا وجدت الله عز وجل قد وضع له القبول في فتاويه وفي علمه.لأنه من الصعوبة بمكان أن يترجح عندي قول في مسألة فيها حديث محتمل، وهناك نصوص أخرى عارضته، فآتي وأغرس في نفوس طلاب العلم أن هذه هي السنة وحدها، فيصبح كل من خالفه من أهل العلم كأنه مرتكب لما خالف السنة، فهذا لا ينبغي، إنما ينبغي أن أقول: ترجح، أو ظهر لي، أو: هذا هو السنة على ما ظهر، أو: على أصح أقوال العلماء، أو: هناك قول آخر لقوله تعالى، أو لقوله عليه الصلاة والسلام، أو: لكن الصحيح كذا وكذا.فإذا رأيت من خالفك تعلم أن عنده سنة وأن عنده حجة فلا تبالغ في الإنكار عليه، ولا تستعجل في استهجانه، وقد يكون الحق معه، وكان السلف يقولون: (قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب)، وهذا في النصوص المحتملة، ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يجاوز دلالة النصوص، بل ينبغي عليه أن يتقيد، فالشيء المحتمل يقول عنه: محتمل.فهذه فائدة عارضة، وأوصي بها طلاب العلم كثيرا، خاصة في هذا الزمن الأخير، ولذلك كان الوالد رحمة الله عليه كثيرا ما يوصيني ويقول لي: أي علم تستطيع أن تأخذه من الأوائل فابدأ به؛ لأنه ليس من السائغ أن يبدأ الإنسان بعلمه من الأواخر.ولا يعني هذا هجران العلماء الموجودين، إنما المراد أن تلتزم بمنهج الأوائل وطريقة سلفك الصالح رحمة الله عليهم، فكنت كثيرا ما أرجع إلى كتب الأولين، فأجد المسألة تعرض بشيء من الأمانة والتحفظ، ووالله إن بعض العبارات في الفتاوى وفي الشروحات تلمس فيها من العالم من خلال كلامه خوفه من الله عز وجل، وتلمس ورعه وتحفظه وصيانته.ولذلك لو جئت تجمع فتاوى المتقدمين قد تجدها لا تتجاوز جزءا واحدا، فتجد السؤال وجوابه بكل تحفظ وحذر من الزيادة عما دلت عليه النصوص الشرعية، وهذا هو العلم، فمن سلك هذا المسلك فقد علم وفهم.ولكن إذا جئت اليوم إلى إنسان في مسألة تريد أن يبين لك فيها حكما قال لك: هذه مسألة خلافية سبق الكلام فيها بين العلماء، ويكتب رسالة، أو يجيب عن سؤال فتجده يبين لك المسألة ويبين لك دليلها، وقد يكون هذا الدليل حديثا اختلف في إسناده، أو يكون دليلا صحيحا ثابتا في الكتاب والسنة ولكن دلالته محتملة، فيأتي ويذكر الحديث، فلا ينتهي منه حتى يقول: قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر:7]، ويملي عليك خطبة في حجية السنة، بمعنى: إن خالفتني فقد خالفت السنة، وإن تركت قولي فأنت على غير محجتي، وعلى هلاك.وهذا لا ينبغي؛ لأنك إذا أصبحت تحجر الناس كلهم على رأيك وفهمك، فإنك ستأتي إلى الأقوال المخالفة وتستهجن آراء العلماء، وتبالغ في ذم الرجال، وتعتبر شيخك هو الوحيد الذي ينبغي قبول السنة منه، وأنه إن خرج أحد عن الذي في كتاب فلان فليس من أهل السنة والجماعة، ويصل بك الأمر إلى أنك تجد أقوالا للسلف الصالح رحمة الله عليهم -إذ الخلاف قديم وموجود بين أئمة العلم- فتحتقر هذه الأقوال وهي لأئمة وعلماء، وقد يكون الذي رجحه مشايخك من أقوال الشذاذ والأفراد، فتأتي وتقول: سبحان الله! جماهير أهل العلم خالفوا السنة! إي نعم لا تعتد بالرجال إنما اعتد بالدليل.وقد تجد أقوال أفراد من التابعين أو الصحابة نسيت وتركت، وأصبح العمل في القرون كلها على قول انتشر وذاع، فهل أصبحت هذه الأمة كلها على ضلالة، وهي أمة معروفة بالعلم والورع والصلاح والإخلاص لله عز وجل، أفكل هؤلاء ما أصابوا الجادة?! فهذا أمر يحتاج إلى تنبه، فإنك تجد بعض طلاب العلم اليوم يفرحون ببعض الأقوال المنفردة، فبعض طلاب العلم قد يفرح عندما يجد أن هذا القول لا يقول به إلا الأفراد، وهذا موجود وملموس في طلاب العلم، ولذلك ينبغي التأني والتريث وأخذ العلم عن أهله، والتحفظ في ضبط العلم وتحريره، فإذا قال لك العالم: هذا القول هو الصواب، وظهر لي منه كذا فعليك أن تفتش وتنقب؛ إذ ليس قوله هو الغابة، وليس هو النهاية، فقد سبقه رجال فحول وأرباب في العلم، وأناس لهم فهمهم وعلمهم وورعهم وقدمهم الراسخة، فينبغي الرجوع إليهم والاعتداد بأقوالهم، والتنبه لكون الأمر مجمعا عليه أم أن فيه خلاف، وهل الدلالة مسلمة أم لا.فكثير من الطلاب يغتر بمثل هذا، إذ يأتيني طالب علم قرأ رسالة ما لمتأخر وهو مقتنع اقتناعا كاملا أن الحق في هذه الرسالة، وكأن صاحبها هو المعصوم؛ لأن أسلوب الرسالة يحمل هذا الطالب على أنه لا يحيد عنها؛ لأن صاحبها ابتدأها بالسنة وأهمية السنة وحجية السنة، وكأنه يقول: إنني قد أصبتها فإياك أن تحيد عنها.وهو وإن أصاب شيئا لكنه محتمل، فليس هذا من الأمانة، فينبغي التحفظ والصيانة، خاصة في المسائل الخلافية.فإذا جاء الطالب قلت له: هذا القول الذي تقوله يستدل بحديث كذا وكذا، وهذا الحديث دلالته مختلف فيها حتى بين الأصوليين؛ لأن دلالته معارضة بما هو أقوى منها، أو هذا الحديث ضعيف، وتحسينه قول لبعض العلماء، وهناك حديث أصح منه، فتجد الطالب مقتنعا اقتناعا كاملالا يرضي أن يتركه.وفي بعض الأحيان نجد الطالب لا يحفظ
[حكم صلاة الجالس القادر على القيام]
Q بعض النساء -هداهن الله- يعملن في البيوت طوال الوقت، فإذا جاء وقت الصلاة صلين وهن جالسات بحجة أنهن متعبات لا يستطعن القيام، فما حكم هذا، وما هو توجيهكم لهؤلاء النسوة؟
A إذا كانت الصلاة فريضة وصلت المرأة جالسة وهي قادرة على القيام، فعليها أن تعيد صلاتها، ولو جلست مائة سنة بهذه الحال لا تجزيها الصلاة، وينبغي عليها أن تعيد صلواتها مدة حياتها إذا لم يكن ثم عذر؛ لأنها لم تصل كما أمرها الله، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته أن يرجع ويصلي لفوات ركن الطمأنينة، فكيف بركن القيام، ولذلك يلزمهن الإعادة لهذه الصلوات.وأما إذا كان التعب عذرا بينا، كما يكون في بعض النساء الحوامل، وقد تكون بعض النساء ضعيفة البنية، فيحصل لها إرهاق شديد، خاصة مع شدة السهر أو نحوها، وتخشى السقوط في صلاتها، أوتخشى الضرر فلا حرج أن تصلي جالسة، لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286]، وهكذا إذا كانت مريضة كما ذكرنا.أما الترخص والتوسع في هذا فإنه يوجب بطلان الصلاة، والله تعالى أعلم، لكن ينبغي أن ينصح الرجال بالتخفيف على النساء، حتى لا يضطررن إلى ذلك، فالحكمة تقتضي تخفيف أعباء البيوت حتى لا تصبح معونة على تركهن لفريضة الله عز وجل.
[حكم تقييد الصلاة على الراحلة]
Q هل الصلاة على الراحلة مقيدة بصلاة الوتر كما ثبت في الحديث الصحيح، أم أنها مطلقة في جميع صلاة النفل بما فيها السنن والرواتب؟
A صيغة السؤال تفيد أنه ورد حديث يقول: (لا تصلوا النافلة في السفر إلا إذا كانت وترا على الدابة).وهذا لم يرد، ولهذا فلينتبه طالب العلم، وليحذر من الكلمات في التعبير، فينبغي أن تنتبه لمنطوق اللفظ ودلالة المفهوم؛ لأنك غدا ستكون المعلم والمربي والمفتي والقاضي، فينتبه الإنسان في العبارات، ولتكن عنده دقة، ولا يحمل النصوص في دلالتها ما لا تحتمل، فانتبه رحمك الله وقل: هل هي مقيدة بالوتر، أو ليست مقيدة بالوتر؟ أما النصوص فهي تدل على العموم، كما في حديث ابن عمر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض)، وهذا في الصحيح.وكما في حديث أنس، حيث يقول ابن سيرين: (خرجنا فاستقبلناه بعين التمر، فلقيناه يصلي على حماره ووجهه من ذا الجانب، فقلنا: رأيناك تصلي إلى غير قبلة! قال: لولا أني رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته).فالمهم أن النصوص الواردة ورد فيها في الوتر، ووردت نصوص أنه أوتر على بعيره، لكن هذا ليس على سبيل التقييد.
والقاعدة في الأصول أن ورود الخاص بخصوصه لا يقتضي حمل العام عليه ما لم تفهم القرائن أو تدل الأصول على اعتبار هذا الحمل.ولذلك فالذي يقوي العموم في النوافل قوله: (إلا الفرائض)، ويشمل هذا الوتر، وهكذا لو توضأ وأراد أن يصلي ركعتي الوضوء، أو ركعتي استخارة، أو يتنفل طاعة وقربة لله في سفره، فلا حرج عليه أن يصلي على دابته حيث توجهت به.
[حكم تكبيرة الانتقال إذا دخل المصلي والإمام راكع]
Q رجل دخل المسجد والإمام راكع، فدخل معهم في الصلاة، وجعل تكبيرة الإحرام والركوع تكبيرة واحدة، فهل هذا يجزئه؟
A قال بعض العلماء: لا بد من التكبيرتين.وقال بعضهم: تجزيه تكبيرة واحدة.وهذا هو الصحيح.وهذا ظاهر؛ فإن النصوص لم يرد فيها الإلزام بالتكبيرتين، لكن الذين قالوا بالإلزام قالوا: لأنه يكبر التكبيرة الأولى للإحرام، والثانية: للركوع.وهذا محل نظر؛ لأنه لو جاء والإمام ساجد فإن قالوا: يكبر أيضا تكبيرتين، فحينئذ نقول: إنه ليس في حال قيام؛ لأن تكبيرة الإحرام للدخول في الصلاة وللقيام، فلذلك ليس ثم ركن قيام إذا كان ساجدا.وبناء على ذلك قال بعض العلماء الذين يقولون بالتكبيرة الواحدة: لو كبر تكبيرتين لم يجزه؛ لأنه إذا كبر في القيام لزمته القراءة، وهو لم يقرأ ويريد أن يركع، ولذلك قالوا: لا يصح منه.والصحيح: أنه يجزيه؛ لأنه كبر للقيام في وقت لا يتسنى له فيه قراءة الفاتحة فسقطت للعجز فأجزأه أن يكبر، فمن فعل هذا فلا حرج، ومن فعل هذا فلا حرج، لكن الأشبه والأقوى أن يكبر تكبيرة واحدة، وهذا أصل خرجه العلماء على القاعدة الشرعية: (اندراج الأصغر تحت الأكبر)، وهذا له ضوابط كثيرة، فالأصغر هو تكبيرة الركوع، والأكبر تكبيرة الإحرام، فاندرج الأصغر تحت الأكبر.ولذلك لو جئت وأنت متأخر والإمام في الركعة الثالثة واقف فإنك تكبر تكبيرة واحدة مع أن الإمام تعتبر صلاته في الثالثة، فإذا كان كذلك فمعناه أن عليك تكبيرة الإحرام وتكبيرة القيام للثالثة؛ لأنه قام لها الإمام ولها تكبيرة خاصة.فقالوا: أصل الاندراج يدل عليه.وله نظائر في العبادات والمعاملات، ومن نظائره في المعاملات أن يسرق الإنسان -والعياذ بالله- ويزني ويقتل، فقالوا: إن حد القتل يأتي عليها جميعا.فلو كان محصنا فزنى وقتل فإنه يقتل بالقصاص، فيعتبر قتله قصاصا يندرج تحته قتله بالرجم، ولا حاجة أن يرجم، ولذلك يقولون: يندرج الأصغر تحت الأكبر؛ لأن حد القتل أعظم من حد الزنا في الأصل، بدليل تنوع حد الزنا وعدم تنوع حد القتل، قالوا: فاندرج الأصغر تحت الأكبر.وهو مذهب بعض الصحابة رضوان الله عليهم الذين يقولون بالاندراج.
وتتفرع على هذه القاعدة فروع منها هذه المسألة، وهي أنه لو قدم والإمام راكع، فقالوا: يكبر تكبيرة واحدة، فتندرج تكبيرة الركوع تحت تكبيرة الإحرام.نسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وموجبا لرضوانه العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(واجبات الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (96)
صـــــ(1) إلى صــ(10)
شرح زاد المستقنع - واجبات الصلاة
الواجب في الصلاة: هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، ومن تركه عمدا بطلت صلاته، وإن تركه سهوا جبر بسجود السهود على تفصيل في ذلك،
وواجبات الصلاة هي: لفظ التكبير عند الانتقال من ركن إلى ركن، وقول سمع الله لمن حمده، وربنا لك الحمد، والتسبيح في الركوع والسجود، والتشهد الأول والجلوس له.
واجبات الصلاة
[تكبيرة الانتقال]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه رحمة للعالمين، وإماما للمتقين، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وواجباتها التكبير غير التحريمة] الواجبات: جمع واجب، والضمير عائد إلى الصلاة،
أي: واجبات الصلاة، فعطف رحمه الله الواجبات على الأركان،
أي: إذا علمت أحكام الأركان فاعلم أن هناك أمورا واجبة، وأن للصلاة واجبات، ثم شرع في بيان هذه الواجبات، وهذا -كما يسميه العلماء- من باب التدرج من الأعلى إلى الأدنى.
وهذه والواجبات لها أحكام:
الحكم الأول: أنه يثاب فاعلها.
الثاني: يعاقب تاركها.
الثالث: من تركها متعمدا بطلت صلاته.
الرابع: أن من ترك هذا الواجب ساهيا فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون منفردا أو إماما، أو يكون مأموما، فإن كان منفردا أو إماما وجب عليه أن يجبر هذا الواجب بسجود السهو، وأما إذا كان مأموما فإن الإمام يحمل عنه الواجب، وبناء على ذلك اتفقت الأركان والواجبات في كون كل منهما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وانفردت الواجبات بأن تركها نسيانا يجبر بسجود السهو، والأركان إذا تركت نسيانا وجب جبرها بالفعل، فالواجبات تجبر بسجدة السهو والأركان لا تجبر، بل لابد من فعلها.ثم إن الواجبات يحملها الإمام إذا نسيت أو سهيت أو لم يمكنك فعلها، ولكن الأركان لا يحملها الإمام عنك البتة، بل ينبغي عليك فعلها، وإن لم تفعلها وجب عليك قضاء الركعة كاملة، فهذا بالنسبة للفرق بين الواجبات وبين الأركان في الصلاة.
قوله: [التكبير غير التحريمة] أي: من الواجبات التي أوجبها الله عز وجل في الصلاة التكبير غير التحريمة،
والتكبير لفظ: (الله أكبر)، وهذا التكبير يسميه العلماء بتكبير الانتقال،
أي: يجب على المصلي أن يكبر عند انتقاله من ركن إلى ركن،
فإذا أراد أن ينتقل من القيام إلى الركوع قال: الله أكبر.
وإذا أراد أن ينتقل بعد رفعه من الركوع إلى السجود قال: الله أكبر.وإذا أراد أن ينتقل من سجوده إلى الجلسة بين السجدتين كبر.وإذا أراد أن ينتقل منها إلى السجود كبر، وهكذا، فهذا التكبير الذي يقع بين الأركان لكي تنتقل به من ركن إلى ركن يسميه العلماء تكبير الانتقال.
وقوله رحمه الله: [التكبير غير التحريمة] المراد بالتحريمة تكبيرة الإحرام، وهي ركن وليست في مرتبة الواجبات، وإنما هي في مرتبة أكبر، فالتكبير من غير تكبيرة الإحرام واجب.فلو أن إنسانا كان يصلي لوحده فقرأ الفاتحة، ثم قرأ السورة، ثم ركع ونسي أن يكبر فإنه يجبره بسجود السهو لأنه واجب عليه، فإن تعمد فركع دون أن يكبر قاصدا ترك التكبير بطلت صلاته فرضا كانت أو نفلا.
فهذا معنى قولهم: (التكبير غير تكبيرة الإحرام) أي: يلزمك إذا صليت فريضة أو نافلة أن تكبر تكبيرة الانتقال، فلا تنتقل من ركن إلى ركن إلا بهذا التكبير، فلو حصل أن تركت هذا التكبير قاصدا ومتعمدا بطلت صلاتك نفلا أو فرضا، ولو حصل أن تركته سهوا قلنا: إن كنت منفردا تجبره بسجدتي السهو قبل السلام لمكان النقص،
وإن كنت مع الإمام حمل الإمام عنك هذا السهو لقوله عليه الصلاة والسلام: (الإمام ضامن) كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود وأحمد في مسنده، فقد دل هذا الحديث على أن الإمام ضامن، والمراد بضمانه ضمان صلاة من وراءه، وذلك بحمل الواجبات دون الأركان، كما هو معلوم ومقرر عند العلماء.
وهكذا الحكم لو أن إنسانا بدلا من أن يكبر للركوع قال: سمع الله لمن حمده، فأبدل ذكرا مكان ذكر في الانتقال،
أو أراد أن يسجد فقال: (ربنا ولك الحمد) سهوا، فإنه حينئذ يمكنه التدارك إن أمكنه، وإن لم يمكنه التدارك فإنه لابد وأن يأتي بسجدتي السهو على التفصيل الذي ذكرناه.
أما دليل وجوب التكبير فقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا كبر فكبروا)، وهذا أمر، وشمل تكبيرة الإحرام وغيرها للإطلاق، ولكن خصت تكبيرة الإحرام بالزيادة لورود النصوص فيها،
كقوله صلى الله عليه وسلم: (تحريمها التكبير)، ونحوه من النصوص التي ذكرنا، ودلت السنة على وجوب تكبير الانتقال، وبناء على ذلك فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بالتكبير يوجب علينا التكبير.
[قول: سمع الله لمن حمده]
قال رحمه الله: [والتسميع] أي: الواجب الثاني من واجبات الصلاة التسميع.
والتسميع على وزن (تفعيل) والمراد به قول المكلف: سمع الله ولمن حمده أي: استجاب الله دعاء من حمده،
وقيل: معناهنا: سمع الله على الحقيقة من أثنى عليه سبحانه وتعالى، فلا يخفى عليه شيء وهي جملة متصلة ببعضها،
فلو قال: (سمع الله) لم يجزه، بل لا بد من تمام الذكر، فلا ينقص منه ولا يزاد عليه،
فلا يقال: سمع الله الجبار المتكبر من حمده.فلا تشرع الزيادة،
ولا يشرع النقص كأن يقول: (سمع الله)، ويسكت،
أو يقول: (سمع الله من)، ويسكت، فكل هذا لا يجزي، بل لا بد من تمام الجملة؛ لأنه ذكر توقيفي، فوجب البقاء على حده دون زيادة ولا نقصان.
[قول: ربنا لك الحمد]
قال رحمه الله: [والتحميد] التحميد على وزن (تفعيل) من الحمد،
أي قولك: (ربنا ولك الحمد)، أو (ربنا لك الحمد)، فكلاهما وارد ومأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلت: (ربنا ولك الحمد)،
أو: (ربنا لك الحمد)، فقد فعلت ما أوجب الله عليك من التحميد.
والتحميد يتعلق بالمأموم، والتسميع يتعلق بالإمام والمنفرد فيجمعان بين التسميع والتحميد،
أما المأموم فيقتصر على قوله: ربنا ولك الحمد.
أما دليل الوجوب فما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: (وإذا قال -أي الإمام- (سمع الله لمن حمده) فقولوا: (ربنا ولك الحمد))،
فقوله: (فقولوا) أمر، والأمر يدل على الوجوب، وقد قاله عليه الصلاة والسلام في معرض التقسيم،
وكونه يقوله في معرض التقسيم فقد خص الإمام بالشرط في قوله: (إذا قال)، فإذا كان التحميد واجبا كان موجبه واجبا، فأصبح التسميع والتحميد واجبين من واجبات الصلاة،
فلابد من قول المكلف: (سمع الله لمن حمده.ربنا ولك الحمد) إن كان إماما أو منفردا،
أما إذا كان مأموما اقتصر على قوله: (ربنا لك الحمد).ومكان هذا التسميع والتحيمد مختص بما بعد الرفع من الركوع، فيقول: (سمع الله لمن حمده) في حال الرفع،
فإذا استتم قائما قال: (ربنا ولك الحمد)؛ لأنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم،
فلا يشرع له أن يقول: (ربنا ولك الحمد) قبل أن يستتم قائما،
وإنما يقول: (ربنا ولك الحمد) إذا انتصب عوده واستقام ظهره،
وبناء على ذلك فإن السنة أن يبتدئ بالتسميع عند ابتداء الرفع حتى إذا استتم قائما قال كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم المؤمنين عائشة قال: (ربنا ولك الحمد)، وقاله عليه الصلاة والسلام وهو قائم.قال العلماء: في هذا فائدة لطيفة، وهي أن التسميع ذكر الانتقال من الركوع إلى القيام الذي هو الوقوف، فيشرع له الذكر المقارن كالتكبير، ثم إذا استتم قائما كان ذكر ما بينهما -
أي: ما بين الرفع وبين سجوده-
أن يقول: (ربنا ولك الحمد)، كما هو الحال فيما بين السجدتين، فتقول التكبير عند الانتقال من السجود إلى الجلوس، فإذا جلست قلت: (رب اغفر لي).بين السجدتين،
كذلك هنا يكون تسميعك عند الانتقال وقولك: (ربنا ولك الحمد)، عند استتمامك قائما، كأنهم نظروا أن التحميد ذكر لما بين الركنين، والتسميع ذكر انتقال.
[تسبيحتا الركوع والسجود]
قال رحمه الله: [وتسبيحتا الركوع والسجود] هذان واجبان،
أي: قوله: (سبحان ربي العظيم) في الركوع،
وقوله: (سبحان ربي الأعلى) في السجود،
وأما دليل وجوب التسبيح في الركوع فإنه لما نزل قوله تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة:74] قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوها في ركوعكم)،
فإن قوله: (اجعلوها) أمر،
والقاعدة تقول: الأمر يدل على الوجوب إلا إذا قام الدليل على صرفه.فوجب على المكلف أن يمتثل هذا الأمر على سبيل اللزوم،
وبناء على ذلك فإذا ترك التسبيح لا يخلو من حالتين: إما أن يتركه ناسيا، وإما أن يتركه متعمدا، فإن ترك تسبيح الركوع أو تسبيح السجود متعمدا فإنه تبطل صلاته إماما كان أو منفردا أو مأموما، سواء أكان في فريضة أم نافلة،
وإن تركه ناسيا فإنه إن كان وراء إمام قلنا: حمل الإمام عنه التسبيح، كأن يكون نسي، أو اقتصر على تعظيم الله عز وجل بغير التسبيح سهوا ونسيانا، أو ركع ولم يتكلم لمكان السهو، فرفع الإمام ولم يتدارك التسبيح،
فحينئذ نقول: هذا السهو وراء الإمام يحمله الإمام عنه؛ لأن الإمام ضامن، وإن كان إماما أو منفردا فإنه يسجد للسهو.
وأما التسبيح في السجود فالدليل على وجوبه في السجود ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما نزل قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1] قال: (اجعلوها في سجودكم)،
فدل قوله: (أجعلوها) على الأمر، والأمر يقتضى الوجوب،
وبناء على ذلك يجب على المكلف أن يقول: (سبحان ربي الأعلى) في السجود،
وأن يقول: (سبحان ربي العظيم) في الركوع، فلو أبدل اللفظين فجعل (سبحان ربي الأعلى) في ركوعه، و (سبحان ربي العظيم) في سجوده، فإنه إن تقصد وتعمد فقد أساء، وذلك لمخالفته للسنة.وأما بطلان صلاته فالذي يظهر أن التسبيح قد حصل،
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم في ركوعه يقول: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)،
فدل على أن قوله: (أما الركوع فعظموا فيه الرب) يشمل التسبيح الذي يكون للسجود، ويكون اختلاف التسبيحين تنوعا لا يوجب بطلان الصلاة بترك التسبيح المأمور به في الأصل، وبناء على ذلك يجزيه، ولكن لا يخلو من الإثم لمكان التعمد بالعصيان، وأما لو ترك ذلك سهوا فإنه يجزيه ويصح منه، ولا يلزم بسجود السهو، وإن سجد للسهو فحسن.
[سؤال الله تعالى المغفرة بين السجدتين]
قال رحمه الله: [وسؤال المغفرة مرة، مرة ويسن ثلاث] التسبيح في الركوع والسجود الواجب منه مرة، ولا حرج أن يزيد المكلف، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يزيد،
وكان يقول: (سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى)، وكان يسمع تسبيحه صلوات الله وسلامه عليه في صلاته.
وقوله: [وسؤال المغفرة مرة مرة]،
أي: بين السجدتين، وهذا واجب آخر،
أي: ويجب على المكلف أن يقول: (رب اغفر لي بين السجدتين)،
وقد صح عنه أنه قال: (رب اغفر لي رب اغفر لي)، قاله مرتين صلوات الله وسلامه عليه بين السجدتين، فدل على مشروعية التكرار.وهذا الذكر الذي بين السجدتين يعتبر واجبا بناء على الأصل؛ لأننا عهدنا من الشرع أنه جعل الأذكار المتخللة بين الأركان واجبة فألحق النظير بنظيره، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك،
فقوي إلحاقه بقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فألحق بالواجبات، فصار ذكرا لما بين السجدتين، وألزم به المكلف تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلو صلى المصلي ونسي أن يقول بين السجديتن: (رب اغفر لي)، وقال أي ذكر آخر، فحينئذ لا يخلو إما أن يكون منفردا أو مأموما، فإن كان منفردا وتعمد بطلت صلاته، وإن كان منفردا ونسي سجد للسهو، وإن كان مأموما فإن تعمد بطلت، وإن سها حمل عنه ذلك الواجب الإمام.
[التشهد الأول والجلوس له]
قال رحمه الله: [والتشهد الأول وجلسته] التشهد الأول وجلوسه كلاهما واجب،
أما دليل الوجوب فما ثبت في حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم، فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلم).وهذا الحديث في الصحيح، ومثله حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في كونه رضي الله عنه وقع في نفس السهو، ولما سبحوا له أشار إليهم أن قوموا، ثم سجد قبل أن يسلم سجدتين، ثم رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعل.فهذان الحديثان يدلان دلالة واضحة على أن هذا الجلوس واجب، أما دليل وجوبه فكون النبي صلى الله عليه وسلم جبره بسجدتي السهو، فدل على أنه دون الأركان؛ لأنه لو كان ركنا لرجع له النبي صلى الله عليه وسلم، فكونه لم يرجع له يدل على أنه ليس بركن، وكونه يجبره بالسجدتين يدل على أنه من الواجبات وليس من السنن والمستحبات، وبناء على ذلك ارتقى عن درجة السنن والمستحبات، ونزل عن درجة الأركان، فأصبح واجبا من واجبات الصلاة.ولما كان هذا الموضع يشتمل على فعل وقول قالوا بوجوب كل منهما؛ لأن الجبر وقع لهما معا، واستدل به على أن الواجبات تتداخل، فمن ترك أكثر من واجب جبره بسجدتين وكان ذلك كافيا له ومبرئا لذمته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الواجب الفعلي وهو الجلوس، وترك الواجب القولي وهو قراءة التشهد.
فأصبح عندنا واجبان: الواجب الأول: الجلوس للتشهد بعد الفراغ من السجدة الثانية من الركعة الثانية.
الثاني: قراءة التشهد.فإن تركهما جبرهما بسجود السهو، وإن ترك واحدا منها كأن يجلس وينسى أن يقول الشهد ثم يقوم، فإن كان وراء الإمام حمل الإمام عنه الذكر القولي، وإن كان منفردا ومتعمدا بطلت صلاته، وإن كان ناسيا جبره بسجود السهو.
[سنن الصلاة]
قال رحمه الله: [وما عدا الشرائط والأركان والواجبات المذكورة سنة] تقدم معنا ذكر المصنف شروط الصلاة من النية والوقت والطهارة، واستقبال القبلة، وغيرها مما ذكر من الشروط، وذكر لنا الأركان الأربعة عشر التي ذكرناها، وذكر لنا الواجبات الثمانية التي كنا بصددها.وعليه فما عدا هذه الأركان والواجبات والشروط فهو سنن، ومستحبات يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، ولو تركها عمدا فإن الشرع لم يلزم بها، والأصل أننا نعتبر ما اعتبره الشرع، فإن كان اعتباره على سبيل اللزوم ألزمنا،
وإن كان اعتباره على سبيل عدم اللزوم رخصنا وقلنا: الناس في سعة، فإن فعلوا أثيبوا، وإن تركوا فلا حرج عليهم.
ومن هذه السنن المستحبات قوله: (ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد) إلخ بعد قوله: (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد).فهذا الذكر من المستحبات، وليس بواجب ولا لازم،
ولو قال بين السجدتين: (اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني وارزقني واهدني وعافني)، فهذا الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة وليس بواجب.
[حكم ترك بعض شروط الصلاة غير النية]
قال رحمه الله: [فمن ترك شرطا لغير عذر غير النية فإنها لا تسقط بحال] قوله: (فمن ترك) الفاء للتفصيل، فبعد أن ذكر الشروط والأركان والواجبات شرع رحمه الله في حكم ترك هذه الأمور، فابتدأ بالشروط، وقد سبق أن ذكر الشروط قبل الأركان، والسبب في هذا أن شروط الصحة والوجوب تكون قبل الأركان في غالب صور المصلي وأحواله، فإن الإنسان يتوضأ قبل الصلاة وقبل فعل أركان الصلاة، وهكذا بالنسبة لاستقباله القبلة يكون قبل تكبيره حتى يقع تكبيره وفعله للأركان في حالة استقباله للقبلة، وهكذا طهارته من الحدث وطهارته من الخبث.فلذلك ابتدأ بحكم ترك الشروط، فالتارك للشرط إما أن يتركه معذورا فحينئذ يسقط عنه لمكان العذر، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، إلا شرطا واحدا من شروط الصحة وهو النية.فلو ترك المكلف الوضوء والتيمم لعدم وجود الماء وعدم وجود ما يتيمم به -وهي مسألة فاقد الطهورين- فإنه تصح صلاته وتجزيه؛ لأنه ليس بإمكانه إلا ذلك،
والقاعدة تقول: (التكليف شرطه الإمكان) لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286].
فإذا كان المكلف عاجزا عن تحصيل الشرط الذي هو طهارة الحدث فإننا نعذره ونقول: صلاته صحيحة، والدليل على ذلك ما ذكرناه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمستحاضة أن تصلي والدم يجري معها، فدل على أنها معذورة، وأن من كان في حكمها معذورا أنه يرخص له في صلاته.ولأنه عليه الصلاة والسلام أقر الطائفة التي صلت قبل فرضية التيمم بدون وضوء، مع أن الوضوء كان لازما، وقد ثبت اعتبار لزومه بالشرع، ومع هذا صحح صلاتهم ولم يأمرهم بالإعادة، وذلك لعدم إمكانهم أن يتوضأوا، فدلنا ذلك على أن من ترك الطهارة من الحدث لوجود العذر فصلاته صحيحة.ولو ترك شرط طهارة الخبث لعذر فالحكم كذلك، كأن تركه نسيان، كما لو صلى ولم يعلم أن بثوبه نجاسة، فلما سلم اطلع على النجاسة فإن صلاته صحيحة، والدليل حديث أنس في الصحيح (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم،
فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟
فقالوا: يا رسول الله! رأيناك خلعت فخلعنا فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا).ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد الصلاة من بدايتها؛ لأنه فعل أركانا كتكبيرة الإحرام، وربما قرأ الفاتحة، وقد يكون ركع عليه الصلاة والسلام، أو فعل أكثر من ركعة، ومع هذا لم يعد ولم يستأنف الصلاة، وإنما اعتبر الأركان السابقة، وذلك بسبب وجود العذر من النسيان.فدل على أن من ترك طهارة الخبث لمكان النسيان أنه معذور وصلاته صحيحة، وهكذا لو ترك استقبال القبلة لعذر يعذر به شرعا، ألا ترى المسافر عذره الشرع في استقبال القبلة، فلو اجتهد ثم تبين له أن اجتهاده خاطئ فإن صلاته صحيحة، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان مع الصحابة في ليلة مغيمة، فصلوا وهم على غير قبلة، فلما أصبحوا تبينوا أنهم على خطأ،
فقال عليه الصلاة والسلام: (قد مضت صلاتكم)، فدل على أن من فقد هذا الشرط معذورا -وهو استقبال القبلة- الذي يشترط لصحة الصلاة أنه يعذر وتصح صلاته.ويستثنى من سقوط الشروط بالعذر النية؛ فإنه لا تصح الصلاة إلا بها، والدليل على هذا أن النية دل الشرع على عدم الاعتداد والاعتبار بالعبادات إلا بها، فدل على أن الأصل عدم صحة العبادة إلا بالنية.أما الشروط الأخرى فقد جاءت النصوص تستثني بعضها، كاستقبال القبلة، والطهارة من الحدث والخبث، ونحوها من الشروط، فتلك الشروط من تركها لعذر عذرناه لورود النصوص بالاستثناء، وبقي شرط النية على الأصل الموجب لعدم الاعتداد بالعبادة إلا بها.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(واجبات الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (97)
صـــــ(11) إلى صــ(22)
حكم ترك ركن أو واجب من الصلاة عمداً
قال رحمه الله: [أو تعمد ترك ركن أو واجب بطلت صلاته بخلاف الباقي] أي: كذلك لو تعمّد ترك ركن أو واجب بطلت صلاته بخلاف البواقي، إلا إذا كان لعذر فيُعذر.فمن ترك ركناً متعمداً، كما لو لم يقرأ الفاتحة وهو ذاكر ومتعمِّد بطلت صلاته، أو قرأ الفاتحة وسورة،
ثم قال: بدلاً من أن أركع أسجد.فسجد مباشرة، فإنه حينئذٍ يكون قد ترك ركن الركوع والرفع من الركوع فتبطُل صلاته إذا تعمد.فهذا بالنسبة للأركان وهو بالإجماع.وهكذا لو ترك الترتيب بين الأركان،
كما لو قال: أسجد ثم أقوم وأركع.فإنه حينئذٍ تبطل صلاته؛ لأن الترتيب يُعتبر من فرائض الصلاة، ولا تصح إلا به.
[أحكام السنن]
قال رحمه الله: [وما عدا ذلك سنن أقوال وأفعال] ذكر لنا رحمه الله الصلاة مجملاً، ووصف لنا الصلاة بصفتها الكاملة،
ثم قال: ما عدا الأركان والواجبات والشروط فسنن، سواءٌ أكانت من الأقوال أم من الأفعال، فلا تبطل الصلاة بتركها، فمن فعلها فقد أُثِيب وأَحْسَن، ومن تركها فلا إثم ولا حرج عليه.
قال رحمه الله: [ولا يشرع السجود لتركه، وإن سجد فلا بأس] أي: ولا يشرع سجود السهو بترك هذا المسنون قولاً كان أو فعلاً، فإن سجد فلا بأس.
وبعض العلماء يقول: إذا كان الإنسان ترك سنة يسجد لها، ولا يُفرق بين الواجبات وغيرها.وهذا القول مذهبٌ والعمل على خلافه عند أهل العلم رحمة الله عليهم، والصحيح أن السنة لا يجب جبرها؛ لأنها ليست بلازمة، ولو كانت لازمة لنُزِّلَت منزلة الواجبات، فيكون رفعة لها عن مرتبتها التي نص الشرع أو دلّ دليل الشرع، على كونها فيها، وبناءً على ذلك لا تُنَزَّل السنن منزلة الواجبات،
فحيث ترك سنة نقول: إنه لا حرج عليه، ولكن فاته الأكمل والأفضل.والدليل على ذلك أن الصحابة كانوا يصلون وراء النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم سنن، ومع ذلك لم يُلزِمهم بسجود السهو لعدم إتيانهم بهذه السنن.ألا ترى دعاء الاستفتاح لم يطلع عليه أبو هريرة إلا بعد أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستفتح بهذا الدعاء، فدلّ على أن السنن لا يجب جبرها بسجود السهو،
وإن فعل ذلك فقد قال بعض العلماء: لا حرج أن يسجد للسهو.
لكن بعض أهل العلم يقول: لو أن الإنسان ألف السنة -
أي: أعتادها-، وداوم عليها ثم أتاه الشيطان فنسيها، فلو جبرها بسجود السهو فإنه حسن أي أنه يُفرِّق بين السنة التي يداوم عليها والسنة التي لم يداوم عليها، فإن كان مداوماً على الدعاء الذي بعد التحميد،
وهو قوله: (ملء السماوات وملء الأرض ... ) إلخ،
أو مداوماً على دعاء الاستفتاح وتركه ناسياً قالوا: يسجد للسهو، وحسنٌ منه أن يفعل ذلك.
الأسئلة
[مناسبة تقديم المصنف للمكروهات قبل الأركان والواجبات]
q أشكل عليَّ تقديم المصنف رحمه الله للمكروهات على الأركان والواجبات فهل هذا هو الأولى؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد: فهذا من الدقة بمكان، لأن الإنسان إذا جاء يصلي فإنك تحذِّره مما يكره قبل أن يشرع في الصلاة؛ لأن التحذير يقع قبل التلبس بالشيء لا بعده، ولذلك تقديمه على الأركان والواجبات له وجه من جهة التحذير ومن جهة والبيان، حتى يكون الإنسان على بينة من أمره، وهذا اعتذارٌ للمصنف، وإلا فإنه يستقيم لو أنك ذكرت الشروط، ثم الأركان، ثم الواجبات، ثم السنن والمستحبات، ثم المخالفات وهي المكروهات، وهذا أيضاً له وجهه، ويفعله بعض العلماء رحمة الله عليهم، فهذا له وجهه وهذا له وجهه، والله تعالى أعلم.
[وجوب التلفظ بجميع أذكار الصلاة وضابطه]
q إذا كانت قراءة الفاتحة يجب التلفظ بها، فهل يُقاس على ذلك بقية أذكار الصلاة؟
a نعم، فلا بد لمن كبر أن يتلفظ بالتكبير، فلو تلفظ في نفسه لم يقم بالواجب، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، وقوله: (إذا كبَّر فكبروا)، ولا يصدق على الإنسان أنه كبَّر إلا إذا تلفَّظ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا)، والقول إنما يكون باللفظ، والكلام النفسي لا يعتبر قولاً، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً لمن يقول: إن الكلام النفسي كلام.وبناءً على ذلك لا بد وأن يتلفظ، واللفظ يكون بتحريك الشفتين واللسان وحصول الحروف على الوجه المعتد به، والله تعالى أعلم.
[حكم متابعة الإمام في السنن]
q ما هو حكم متابعة الإمام في السنن، وهل تضر مخالفته عند تركها؟a متابعة الإمام في السنن ليست بواجبة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكرنا في حديث أبي هريرة -كان يفعل السنن وهي خافية على الصحابة، فدل على أنها ليست بواجبة ولا لازمة.ومن الأدلة على عدم وجوبها حديث أنس في الصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، ثم فصَّل وبين، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قوله: (فإذا كبر فكبروا) تفصيل لإجمال وهو قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فبين صلوات الله وسلامه عليه ذلك الإجمال بقوله: (إذا كبروا فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: (سمع الله لمن حمده) فقولوا: (ربنا ولك الحمد))، وفي الرواية الثانية: (إذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال: (وَلا الضَّالِّينَ) فقولوا: (آمين)) فهذا كله يدل على ما يجب وما هو ركن، وأن ما ليس مذكوراً في هذا من السنن فالأمر موسَّع فيه.فلا يجب على المكلف أن يتابع إمامه في السنن، فلو أن الإمام جلس جلسة الاستراحة وأنت لم تجلس فلا حرج.وهذا إذا كانت سنة فعلية، وفي حكمها السنة القولية، فلو أن الإمام قرأ دعاء الاستفتاح ولم تقرأه فإنه لا حرج عليك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ دعاء الاستفتاح ويتركه بعض الصحابة ولم يُنكِر عليهم، وكذلك كان يزيد في قوله: (سمع الله لمن حمده) قوله: (ربنا ولك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض ... ) إلخ، وكان يخفى على كثير من أصحابه، ومع ذلك لم يُلزِم به، فدلّ على أنه على سبيل النفل لا على سبيل الوجوب، وأن المكلف لو ترك هذه السنن فلا حرج عليه، والله تعالى أعلم.
[حكم من صلى بغير طهور ثم ذكر بعد خروج وقت الصلاة]
q صلى رجل وهو محدث وكان ناسياً، ولما خرج وقت الفريضة تذكر أنه صلى بغير وضوء، فما الحكم؟
a لا تصح الصلاة إلا بطهور كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وبناءً على ذلك فإنه إذا تذكر داخل الوقت، أو تذكر بعد خروج الوقت فإنه يُلزَم بقضاء الصلاة، ولو تذكر بعد أيام، ولو تذكر بعد شهور، بل ولو تذكر بعد أعوام فإنه يلزم بقضاء الصلاة؛ لأنه لا تُقبل منه صلاة إلا بطهور كما ذكرنا، والله تعالى أعلم.
الفرق بين من صلى وفي ثوبه نجاسة وبين من صلى تاركاً للطهارة
q أشكل عليَّ فهم مسألتين: الأُولى: صلى وفي ثوبه نجاسة ناسيا فصحت صلاته، والثانية: صلى ونسي أنه ليس بمتوضئ فلم تصح صلاته، وهل المسألتان من باب واحد؟
a الطهارة نوعان: طهارة حدث وطهارة خبث، وينبغي في الأصل أن يتساويا في الحكم؛ لأنه يقال: كيف إذا صلى وعليه نجاسة ناسياً وتذكّر بعد الصلاة تصح صلاته، وإذا صلى وهو ناسٍ للوضوء، أو ناسٍ للغُسل يُلزم بالإعادة؟! والجواب: أن الفرق واضح وظاهر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وجاء دليل الشرع بالأمر بطهارة الخبث، فلما جاءت السنة تستثني في حديث النعلين طهارة الخبث بقيت طهارة الحدث على الأصل الذي يُوجِب عدم صحة الصلاة إلا بفعلها.وهناك مخرج آخر لبعض الفقهاء، حيث يقولون: إن طهارة الخبث من التروكات، وطهارة الحدث من الأفعال والواجبات، فيُغتفر في التروكات ما لا يُغتفر في الواجبات، فالتروكات الأمر فيها أوسع من الواجبات، فصحَّت صلاته في التروكات ولم تصح في الواجبات، والله تعالى أعلم.
[لزوم مقارنة تكبيرات الانتقال للأفعال]
q هل يكبِّر المصلي ثم ينتقل إلى الركوع، أم يكبر أثناء الانتقال، أم يكبر بعد الانتقال؟
a الأولى والأحرى أن يكون التكبير مقارناً؛ فإن بعض السنن تشير إلى ذلك، كما في صحيح البخاري من حديث خباب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود فإني قد بدنت)، فقد دل ذلك على أن قوله كان مُصاحباً لفعله، فلو كان فعله يسبق قوله لما شعر به الصحابة، ولما كانوا سابقين له، لكن لما أقترن قوله بفعله دل على أن الصحابة يشعرون بالانتقال فتكون خفتهم موجبة للسبق فقال: (لا تسبقوني فإني قد بدنت)، فدل هذا الحديث -كما قرر غير واحد من الأئمة- على أن الأولى بالإمام والمنفرد والمأموم أن يجعل الذكر مقارناً، إلا ما دل الشرع على تأخيره، كالتحميد بعد انتهائه من الرفع، فقد قالت عائشة: ثم قال وهو قائم: (ربنا ولك الحمد)، فهذا يشرع بعد تمام القيام.أما التكبيرات فتشرع عند الانتقال، خاصة الإمام.قال بعض العلماء: في تخصيص الأئمة حكمة لطيفة، وذلك أن المأمومين منهم من يرى الإمام ولا يسمع صوته، ومنهم من يسمع صوته ولا يرى شخصه، فلو سبق القول الفعل أو الفعل القول فإن هذا يحدث الاختلاف، فإن الأعمى يسمع الصوت ولا يرى الشخص، فلربما سبق بالفعل إذا كان الإمام يسبق بالقول، وكذلك الحال لو كان يرى شخصه ولا يسمع صوته كالحال في الصفوف البعيدة جداً التي يرى فيها الإمام ولا يسمع فيها صوته، فلو كان الإمام بمجرد قيامه من التشهد يقوم ولا يكبر إلا إذا وقف، فإنك إذا كنت في الصف الأخير ولا تسمع صوته، فإنه مظنة أن تراه يتحرك فتتحرك مع أنه لم يكبر للانتقال، قالوا: فهذا يؤدي إلى سبق المأموم للإمام.ولذلك قالوا: يُحتاط بالمقارنة فهذا أولى وإن كان بعض السنة يُفهم منه سبق القول للفعل، والله تعالى أعلم.
[عمرة أهل مكة في رمضان]
q هل لأهل مكة عمرة، خصوصاً في رمضان؟
a لا حرج على أهل مكة أن يعتمروا، فإن الترغيب في العمرة خاصة في رمضان النص فيه عام، وليس هناك دليل في الكتاب والسنة يُحرِّم على أهل مكة أن يعتمروا، ولو نقل المنع عن بعض السلف فإن هذا لا يقوى على التحريم.
فالتحريم والمنع يحتاج إلى دليل ينص على أنهم لا يعتمرون، وفي حديث ابن عباس في الصحيح قال صلى الله عليه وسلم في المواقيت: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك -أي دون المواقيت- فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة).فدل على أن لأهل مكة أن يُهِلوا، ويشمل ذلك تلبيتهم بالحج والعمرة، خصوصاً أن مذهب طائفة من العلماء أن العمرة واجبة، ولذلك لا يُفرَّق بين أهل مكة وغيرهم، ولكن كان بعض العلماء رحمة الله عليهم يقول: لا ينبغي للمكي أن يذهب للعمرة ويُفَوِّت فضل الطواف بالبيت، وأُثر عن بعض أصحاب ابن عباس أنهم كانوا يقولون: عمرة أهل مكة الطواف بالبيت.ووجه ذلك أنهم خرجوه على النظر، فقالوا: لأنهم إذا خرجوا إلى التنعيم تكلَّفوا الخروج، فما دام أن العمرة يقصد منها الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فإن هذه الخطوات التي يذهب بها إلى التنعيم ويرجع منه الأولى أن تُستغل في الطواف بالبيت.أي: بدلاً من أن يذهب إلى التنعيم ويتكلَّف الذهاب فليطُف بالبيت، فمن هنا تخرَّج قولهم: عمرة أهل مكة الطواف بالبيت.إلا أن هذا إنما يكون لأُناس معروفين بالمرابطة عند البيت، فتجدهم لا يفرطون في مكة، ولا يفرطون في الصلاة في الحرم، ولا يفرطون في الطواف، بحيث إذا خرج من مكة ضاع عليه وقته في الذهاب، فيكون فيه نوع من الاشتغال بالمفضول عن الأفضل، لكن إذا كان مثل حالنا ولا حول ولا قوة إلا بالله، حيث تجد الإنسان في مكة وعهده بالبيت منذ أسابيع أو شهور، وبعضهم ربما تمر عليه فترة طويلة وهو لا يرى البيت، لأنه يرى قول من يقول إن الصلاة بمكة كلها مضاعفة، فتَرَخَّص في هذا القول، وإذا قيل له: انزل وطُف بالبيت قال: فيه فتن.فيُضيِّع الشيطان على كثير من الأخيار الخير بسبب ما يكون من هذه الأعذار والعلل العقلية، ففي هذه الحالة الأولى له أن يعتمر، فالطواف بالبيت له فضله، فإذا كان الشخص قائماً بمكة كثير العبادة في الحرم فلا شك أن الأفضل أن يشتغل بالطواف، ومن أراد أن يُصيب فضل العمرة في مكة تحصيلاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة في رمضان فإنه لا حرج عليه، وليس هناك دليل يمنع، ومَن مَنع يُطالَب بالدليل، لكن الاستكثار من الخروج والرجوع وتكرار العمرة للمكي وغير المكي بدون موجب لا أصل له، فإذا وجد الموجب فلا حرج، كرجل قدم من الآفاق فاعتمر، ثم أراد أن يعتمر عن أبيه الذي لم يعتمر، أو عن أمه التي لم تعتمر فلا حرج، لكن لو أراد هذا الآفاقي بعد إتيانه بالعمرة أن يأتي إلى التنعيم ويعتمر نقول له: طف بالبيت؛ لأن الآفاقي الأفضل له أن يشتغل بالطواف بالحرم؛ لأن المقصِد أولى من الوسيلة، فإن خروجه إلى العمرة مآله إلى الطواف بالبيت، فالأفضل منه أن يشتغل بالطواف بالبيت، وهذا هو الذي ذكره غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم، وإلا فالأصل الجواز، والبقاء على الأصل معتبر حتى يدل الدليل على الزوال عنه، والله تعالى أعلم.
[حكم طواف الوداع للمعتمر]
q ما حُكم طواف الوداع للمعتمر؟
a هذه مسألة خلافية، فمن العلماء من قال بوجوبه لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه يعلى بن أمية رضي الله عنهما وأرضاهما أنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي عليه جبة عليها صفرة من أثر الطيب، وهو معتمر بالجعرانة فقال: يا رسول الله! ما ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ قال: فأُوحِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يغط كغطيط البكر، فلمّا سُرِّي عنه قال: أين السائل؟ قال: أنا.قال: انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).قالوا: وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).فهذا يدل على أن العمرة تأخذ حكم الحج، فإن كان طواف الوداع واجباً في الحج فيلزمكم أن تقولوا بوجوبه في العمرة.وذهب طائفة من العلماء إلى أنه لا يجب طواف الوداع في العمرة.وهذا هو الصحيح؛ لأنه الأصل، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عائشة أن تطوف طواف الوداع بعد فراغها من عمرتها بعد الحج، ولأن الدليل الذي استدلوا به إنما هو أشبه بالتروكات لا بالأفعال، ووجه ذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) المراد به حسب السياق الذي ورد في القصة: اصنع في عمرتك هذه ما أنت صانع في حجك من الانكفاف عن المحظورات؛ إذ لو كان المراد به الأفعال لوجب عليه أن يخرج إلى عرفة، وأن يبيت بمزدلفة، وأن يفعل ما يفعله الحاج في الأفعال، فدل على أنه في مقام التروكات، وليس في مقام الأفعال.فبما أن قوله: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) تخرج منه أفعال الحج، فإن طواف الوداع من أفعال الحج، وتأكّد هذا من جهة النظر في معنى طواف الوداع، ففي حديث عائشة في طواف الوداع في الصحيح قالت رضي الله عنها: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات) بمعنى أنهم يكون آخر عهدهم بمنى وعرفات، قالت: (فأُمِروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً)، والسبب أنهم كانوا يطوفون يوم النحر فيبعد عهدهم بالبيت، فشُنِّع على الحاج أن يصدُرَ من حجه دون أن يطوف بالبيت، قالت: (فأُمِروا -وهذا تخصيص واضح بالحاج- أن يجعلوا آخر عهدهم -أي: عهد الحاج- بالبيت طوافاً)، فصار من واجبات الحج، ولم يصر من واجبات العمرة، ويتأكد هذا بأن عائشة بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بطواف الوداع في الحج لم يأمرها أن تطف طواف الوداع في عمرتها، وإلا كانت ستقول: أُمِر الناس إذا صَدَروا من مكة أن يطوفوا؛ لأنه يشمل المعتمر وغير المعتمر.ولذلك الذي تميل إليه النفس أنه لا يصح الاستمساك بقوله عليه الصلاة والسلام: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) بوجوب طواف الوداع.وذلك لأنه ثبت بدليل الشرع أن المراد به ترك المحظورات، فإن كان لا يشمل أفعال الحج الواجب من رَمْي الجمار والمبيت بمزدلفة ونحوها من الواجبات، فكذلك لا يشمل طواف الوداع الذي هو من خصوص الحج، لكن الأولى والأحرى إذا أحب الإنسان أن يخرج من الخلاف أن يطوف للوداع.ومن الأدلة أيضاً التي تدل على ضعف قول من يقول بطواف الوداع في العمرة قول: بعض العلماء -وهو استنباط جيد-: إن الذين قالوا بوجوبه على المعتمر اضطربت أقوالهم، فقال بعض العلماء: يجب على المعتمر بمجرد انتهائه من عمرته.أي: بعد أن ينتهي من العمرة ينزل ويطوف.وقال بعضهم: لا.بل أجمعوا على أن المعتمر إذا طاف وسعى ومشى مباشرة ليس عليه طواف وداع.فاضطربت أقوالهم في المعتمر الذي يَصدُر مباشرة، ثم اضطربت في المعتمر الذي يجلس، قال بعضهم: إن جلس ساعة وجب عليه طواف الوداع.وقال بعضهم: إن جلس فرضاً وجب عليه طواف الوداع.وقال بعضهم: إن جلس خمسة فروض، أو يوماً كاملاً وجب عليه طواف الوداع.فلو كان طواف الوداع واجباً على المعتمر لما تُرِك على هذا الاختلاف، ولحَدّ الشرع فيه حداً معيناً يُنتَهى إليه، ولذلك يَقوى أنه اجتهاد، والأصل براءة الذِّمَم، وإن احتاط المكلف فلا حرج عليه، والله تعالى أعلم.
[حكم التقبيل والمداعبة للصائم]
q هل يجوز التقبيل والمداعبة للصائم إذا لم يُنزل، وما الحكم إذا أنزل دون جماع؟
a أما التقبيل فلا حرج فيه على الصائم، فقد جاء في حديث عمر رضي الله عنه في تقبيل الصائم أنه كالمضمضة، ولكن إذا كان الإنسان يغلب على ظنه أنه يقع في المحظور فإن الوسائل آخذة حكم المقاصد فيَتَّقي ويَمتَنع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أملك الناس لإربه كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وقد قال العلماء: أكمل الناس أجراً في الصيام من اتقى الرفث واللغو، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو لبيان الجواز وتوسِعةً على الأمة، ولكن الأفضل والأكمل تركه.ولذلك قال بعض العلماء: إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم المفضول كان أفضل في حقه.ولا يُشكِل على هذا أن يقول قائل: لو كان الأفضل ترك التقبيل فلماذا لم يتركه النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإنهم قالوا: فعله تشريعاً، ولم يفعله على سبيل القصد.وفرقٌ بين التشريع والقصد، ومن هنا يتخرَّج قولهم: إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما قد نهى عنه فهذا الفعل يصرف النهي إلى الكراهة.فحين يقول قائل: كيف يصير هذا الشيء مكروهاً مع أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله؟ عندئذ تقولون: لأن المقام مقام تشريع، ولا يسري عليه ما يسري على عموم الأمة.فنسأل الله العظيم أن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً، وأن يجعل ما تعلمناه وعلّمناه خالصاً لوجهه الكريم.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(واجبات الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (98)
صـــــ(1) إلى صــ(11)
شرح زاد المستقنع - باب سجود السهو [1]
شرع الله السهو جبراً للنقص وإبطالاً للزيادة، ويشرع كذلك لأجل الشك في الصلاة، وهو سجدتان يسجدهما المصلي قبل السلام أو بعده على تفصيل معلوم في ذلك، ولا يسجد للسهو إلا من نسيان أو شك، أما العمد فليس فيه سجود سهو.
[أحكام سجود السهو]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين،
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب سجود السهو].
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام الشرعية المتعلقة بالسهو في الصلاة، ويعبِّر عنه العلماء بـ (باب سجود السهو)،
والأصل أن يقال: باب السهو.لكن لما كان هذا السهو يترتب عليه الأمر بسجدتي السهو قالوا: (باب سجود السهو)، و (باب سجدتي السهو) كما يعبر عنه بعض العلماء،
وبعضهم يقول: (باب السهو في الصلاة)، أو (أحكام السهو في الصلاة)، فيجعل الباب عاماً، لكن لو جُعِل خاصاً فإن هذا هو الأصل الذي ورد الدليل فيه.فمن عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يذكروا ما يشرع له سجود السهو في هذا الموضع، ويذكرون أحكام السهو العامة،
فمن يعبر ويقول: (باب أحكام السهو في الصلاة)، يُعبر بالعموم،
ومن يعبر فيقول: (باب سجود السهو)، يُعبر بالخصوص، ثم يتبع بالخاص الذي ورد الدليل فيه بقية الأحكام لمكان المجانسة؛ لأن من عادة الفقهاء أن يذكروا أجناس الأحكام المتقاربة مع بعضها في أبوابها أو فصولها ومباحثها.وسجود السهو المراد به سجدتان، وهاتان السجدتان تكونان قبلية وتكونان بعدية، على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله، وتُشرع هاتان السجدتان بتكبير للسجدة الأولى ورفع، ثم تكبير للثانية ورفع، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسلِّم من هذا السهو كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
[خلاف العلماء في التشهد بعد سجدتي السهو]
للعلماء وجهان في التشهد بعد سجود السهو إذا وقع بعد السلام: قال بعض العلماء: إذا سجد بعد السلام سجدتي السهو تشهد،
وفيه حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما في قصة ذي اليدين أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فرجع إلى مقامه فصلى ما تركه، ثم سلم، ثم كبر فسجد، ثم تشهد، ثم سلم)، لكن زيادة (تشهد) انفرد بها أشعث عن أصحاب ابن سيرين الحفاظ، ولذلك قالوا بأنها شاذة.والعمل عند طائفة من المحققين من أهل الحديث على شذوذ ذكر التشهد،
وإن كان الحافظ ابن حجر يقول: لو قال قائل بتحسين الحديث لوجود شواهد أخرى تقويه فإنه له وجه وقوَّى ذلك العلائي أيضاً فقال: إن التحسين له وجه، خاصة وأن ابن مسعود فعله، فقد جاء عنه بسند صحيح كما روى ابن أبي شيبة في المصنف.وعلى ذلك فلو فعل الإنسان التشهد خروجاً من الخلاف فلا حرج عليه خاصة وأن له أصلاً، ولو تركه فلا حرج عليه.
[حكم سجود السهو]
للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: سجود السهو جميعه زيادةً ونقصاً واجب.وهذا قول الحنفية والحنابلة رحمة الله على الجميع، وبناءً على ذلك لو أن المكلف زاد في الصلاة أو نقص منها، وتذكَّر أنه زاد أو نقص فلم يسجد للسهو فإنه يُحكم ببطلان صلاته إذا تركه متعمداً، فعند أصحاب هذا القول أنه واجب من واجبات الصلاة،
فلو قلت للإمام: إنك زدت.
فقال: علمت أني زائد.
فقلت له: اسجد للسهو.
فقال: لا أريد أن أسجد.وتركه متعمداً بطلت صلاته وصلاة من صلى وراءه لتركه متعمداً.
القول الثاني: سجود السهو سنَّة، وبه قال الإمام الشافعي رحمة الله عليه، فعنده إن فعل فقد أحسن، وإلا فإن الصلاة يُحكم بصحتها والاعتداد بها.
القول الثالث: التفصيل، وهو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمة الله عليه،
قال: إن كان السجود سجود نقص فواجب؛ لأنه يجبر نقصاناً في الصلاة فكأنه من الصلاة، فحل محل الواجب من الصلاة، وإن كان السجود لزيادة فسنة، ولا يحكم ببطلان صلاة المكلف؛ لأنه قد جاء بالصلاة كاملة.والصحيح أن سجود السهو واجب،
وذلك لما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم)، فإن أمره بالسجود يدل على الوجوب،
وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمسا،
فقالوا: أزيد في الصلاة؟
قال: وما ذاك؟
قالوا: صليت خمساً.فثنى رجليه وسجد سجدتين ... )،
ثم ذكر الحديث وفيه: (فليسجد سجدتين قبل أن يسلم).فهذه أوامر، والقاعدة في الأصول أن الأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه.فلما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسجد سجدتي السهو دلّ ذلك على وجوبها ولزومها، وأنه إذا تَركها المكلَّف فقد ترك الواجب، وحكمه حكم تارك الواجب سواءً بسواء.وإذا قلنا بالوجوب وأنه هو الصحيح، فإنه لو أن إنساناً صلَّى ونسِي واجباً من واجبات الصلاة، ثم سلَّم وقام من مصلاه وهو في المسجد إلى حلقة علم، أو قام إلى موضع ثانٍ، وتذكَّر بعد قيامه فعلى القول بالوجوب يلزمه أن يستقبل القبلة وأن يكبر ويسجد، وذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم،
ففي حديث عبد الله بن مسعود قال: (فثنى رجليه وسجد سجدتين) الحديث، فإنه عليه الصلاة والسلام تداركه حين كان في المسجد، فلذلك إذا تذكر السجديتن وهو في المسجد يقضي، وهكذا لو كان في بيته في مكان الصلاة، أما لو خرج من المسجد وتذكَّر بعد خروجه فإنه لا يُلزَم بالرجوع، وقد مضت صلاته وصحَّت، وتسقط عنه السجدتان لمكان العذر؛ لأن المكان قد فارقه المكلف، ولا يمكن بمفارقته التدارك فتصح صلاته وتجزيه.
[الحكمة من سجود السهود في الصلاة]
شرع الله عز وجل السهو جبراً للنقص وإبطالاً للزيادة،
يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد في الصحيح: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان).فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أحكاماً، منها أن سجود السهو إن كان لزيادة أبطل الزيادة، فكأن المصلي لم يفعلها.وقال بعض العلماء: في سجود الزيادة إغاظة الشيطان،
لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان)،
وبناءً على ذلك قالوا: إن السهو كان من الشيطان، فكونه يسجد أبلغ في رد الأذية التي كانت من الشيطان.
ولذلك ثبت في الحديث أنه: (إذا سجد ابن آدم اعتزل الشيطان يبكي،
يقول: يا ويله! أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار)، فيكون ذلك أبلغ في الأذية والتحقير والإرغام له.ومن حكم الله تعالى في تشريعه لهذا السجود الرفق بالمكلف؛
فإنه لو قيل: إن المكلف إذا نقص من صلاته فصلاته باطلة، وإذا زاد في صلاته فصلاته باطلة، فكيف سيكون حال الناس؟ فإن الإنسان ضعيف، فربما دخل الصلاة وهو مشوّش الفكر بهمٍّ في نفسه أو أهله أو ولده أو ماله أو تجارته، ومن مظان ضعفه أن يضعف أمام الوساوس والخطرات، فالسهو لا بد منه، ولا بد وأن يقع، وقل أن تجد إنساناً يسلم من هذا السهو، وقد حصل لنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه وهو أكمل الناس خشوعاً وتقوى لله عز وجل، فما بالك بغيره صلوات الله وسلامه عليه؟! فلو أن الشريعة حكمت على كل من زاد في صلاته أو نقص ساهياً ببطلان صلاته فكيف ستكون صلاة الناس؟ وكيف يكون حالهم؟! خاصة من ابتلي بالوسوسة أو كان عنده شك، فإنه تضيق به الأرض، وتصعُب عليه عبادته حتى يكون أصعب ما يكون عليه أن يصلي، أو يقف بين يدي الله عز وجل، مع أن الصلاة طمأنينة القلوب، وفيها انشراح الصدور وحصول الخير للإنسان بوقوفه بين يدي ربه،
وقد كان عليه الصلاة والسلام يقول: (يا بلال! أرحنا بالصلاة)، فتنقلب الصلاة هماً على المكلف بدلاً من كونها انشراحاً لصدره ورحمة به.
[التفصيل في محل سجود السهو]
المسألة الأخيرة في سجود السهو: السهو يكون بالزيادة ويكون بالنقص، وبعض السجود يكون قبل السلام وبعضه بعد السلام، فهل المكلف مطالب بالسجود على وتيرة واحدة، بمعنى أنه يسجد السجود كله بعد السلام، أو كله قبل السلام، أو فيه تفصيل؟
للعلماء رحمة الله عليهم ثلاثة أقوال في محل السجود:
القول الأول: أن السجود جميعه بعد السلام.وهذا القول مأثور عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود فجميع السجود عندهم يكون بعد السلام، وبهذا القول قالت الحنفية رحمة الله عليهم، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، ومروي عن عمار بن ياسر، سواءٌ أكان لنقص أم لزيادة، وحكاه بعض العلماء عن سعد بن أبي وقاص.وعند هؤلاء أيضاً أنك إذا سجدت للسجدتين فإنك تتشهد، فيقولون بالتشهد بعد السلام أيضاً، لما ذكرناه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
القول الثاني: أن السجود كله يكون قبل السلام، وهذا القول مروي عن أبي هريرة، وبه قال الليث بن سعد فقيه مصر رحمة الله عليه، وهو مذهب الأوزاعي، ومذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع،
فيقولون: جميع السهو يكون قبل السلام سواءٌ أكان المكلف قد زاد في صلاته أم نقص منها، لكن استثنى الحنابلة أنك لو سلمت ونسيت السجود قبل السلام فإنك تسجد بعد سلامك ولا حرج عليك.
القول الثالث: التفصيل بين النقص والزيادة،
فقالوا: إن سها بنقص فالسجود قبل السلام، وإن سها بزيادة فسجوده بعد السلام، وهذا هو مذهب المالكية رحمة الله على الجميع.
فعندنا في المسألة ثلاثة أقوال: قول بأن السجود كله يكون بعد السلام، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص، وبهذا القول يقول فقهاء الحنفية رحمة الله عليهم.
وقوله: أن السجود كله يكون قبل السلام، وبه يقول فقهاء الشافعية والحنابلة، ومروي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.وقول: بالتفصيل، إن كان نقصاً فقبل السلام، وإن كان السهو زيادة فبعد السلام، وهو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمة الله على الجميع.
واحتج الذين قالوا: جميع السجود يكون قبل السلام بأحاديث: أولاً: حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم)،
قالوا: فقوله صلى الله عليه وسلم: (فليسجد سجدتين قبل أن يسلم) أمر، والأمر يدل على اللزوم والوجوب، وكونه قبل أن يسلم يدل على ظرفية الأمر وهو كونه واقعاً قبل السلام.
ثانياً: حديث ابن عباس، وهو بنحو حديث أبي سعيد، وأصله في الصحيح.
ثالثاً: حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وأرضاه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من الثنتين من الظهر ولم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم)، وهذا حديث أيضاً في الصحيح.ومثله ما أخرجه الترمذي وصحَّحه أن المغيرة صلى بالناس وسها فلم يجلس في التشهد الأول،
فسبحوا له فأشار إليهم أن: قوموا.فلما فرغ من تشهده سجد السجدتين ثم سلم) ورفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل مثل ما فعل.
قالوا: هذه الأحاديث كلها تدل على أن السجود كله يكون قبل السلام، سواءٌ أكان لنقص أم لزيادة، فهذا مذهب الشافعية والحنابلة كما قلنا.وأما الذين يرون أن السجود كله بعد السلام -وهم الحنفية-
فقد احتجوا بأحاديث: أولاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -
أي: الظهر أو العصر- فسلَّم من ركعتين، ثم قام وشبك بين أصابعه واستند إلى الجذع، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاب الناس أن يكلموه، وكان رجل من بني سلمة يقال له ذو اليدين -واسمه الخرباق -
فقال: يا رسول الله: أقصرت الصلاة أم نسيت؟
قال: كل ذلك لم يكن،
فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: أصدق ذو اليدين؟
قالوا: نعم،
قال: فصلى ركعتين وسلم، ثم كبر ثم سجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر ورفع).ووجه الدلالة أن السجدتين وقعتا من النبي صلى الله عليه وسلم بعد السلام،
ثانياً: حديث عمران بن حصين في الصحيحين، وهذا الحديث مثل حديث أبي هريرة في قصة التسليم من الركعتين، وأنه بعد أن أتم الصلاة وسلَّم كبر فسجد ثم رفع،
قال الراوي: (وأُنبِئت أن عمران قال: (ثم سجد سجدتين بعدما سلم).
ثالثاً: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -وهو في الصحيح أيضاً ورواه الجماعة-
قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمساً،
فقالوا: أزيد في الصلاة؟
قال: وما ذاك؟!
قالوا: صليت خمساً، فثنى رجليه وسجد سجدتين).ووجه الدلالة أن هذا الحديث وقع فيه سجود النبي صلى الله عليه وسلم بعد السلام، فدل على أن السهو كلَّه يكون بعد السلام، ولا يكون قبله.
وأما أصحاب القول الثالث فجمعوا بين النصوص فقالوا: تأمَّلنا هذه الأحاديث فوجدنا حديث أبي سعيد الخدري في الشك، والشك خارج عن أصل المسألتين؛ لأن مسألة الشك تُستثنى، والكلام عن الزيادة والنقص.
قالوا: وحديث عبد الله بن مالك بن بحينة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الجلسة التي للتشهد، فهذا نقص، فسجد عليه الصلاة والسلام قبل السلام، وحديث ذي اليدين زاد فيه التسليم، فحينما صلى ركعتين وسلم قام ثم سجد بعد السلام، وأكَّده حديث عبد الله بن مسعود أنّه صلَّى خمساً فاتجه إلى القبلة فسلَّم، فاتفقت عندنا الأحاديث؛ لأنها كلها من مشكاة واحدة، فوجدناه يسجد للنقص قبل السلام، ووجدناه يسجد للزيادة بعد السلام.ولما كانت حالة الشك مترددة بين النقص والزيادة أُلحِقت بالنقص لأنه الأصل لاحتمال أن تكون ناقصةً،
فلذلك قالوا: حينئذٍ نقول: إن نقص من الصلاة فقبل السلام، وإن زاد في الصلاة فبعد السلام، فوجدنا النظر يُقوي الأثر، وذلك أن النقص من الصلاة سيُجبر في الصلاة، والزيادة خارجة عن الصلاة، فيكون ترغيم الشيطان بها بعد الصلاة،
فقالوا: نجمع بين النصوص على وجهٍ لا تعارض فيه.وبهذا يكون مذهبهم قد أخذ بهذه النصوص كلها؛
لأنك إن قلت: السجود قبل السلام عارضتك أحاديث ما بعد السلام،
وإن قلت: السجود بعد السلام عارضتك أحاديث ما قبل السلام، مع أن القاعدة أنه لا يعارض بين الأحاديث إلا باتحاد موردها، فوجدنا المورد مختلفاً، وأنا أميل إلى هذا القول، فما كان من نقص فقبل السلام، وما كان من زيادة فبعد السلام، على التفصيل الذي يميل إليه أصحاب هذا القول.
[مشروعية سجود السهو]
قال المصنف رحمه الله: [يشرع لزيادة ونقص وشك].
قوله: (يشرع) الضمير فيه عائد إلى سجود السهو، أي أن سجود السهو شرعه الله عز وجل في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيادة ونقص وشك.
وقوله: (لزيادة) أي: من أجل الزيادة.
وقوله: (ونقص) معطوف على الزيادة،
أي: يشرع سجود السهو للنقص كما يشرع للزيادة، فإن وقع سجود السهو لزيادة ألغى الزيادة، فلو أن إنساناً صلى الصبح ثلاث ركعات ثم علم بعد انتهائه منها أن الذي صلاه إنما هو ثلاث، فإنه بفعله للسجدتين يلغي الركعة الزائدة، وهكذا لو زاد ركوعاً أو سجوداً أو ركناً قولياً، كأن يكرر الفاتحة مرتين،
فإن قوله: (لزيادة) معناه أن الله شرع هاتين السجدتين إذا زاد المكلف في صلاته، سواءٌ أزاد واجباً، أم زاد ركناً، أم ركعة متضمنة للأركان، فمن زاد في صلاته وسجد هاتين السجدتين فإنها تلغى الزيادة، وهذا محله إذا زاد في صلاته سهواً لا قصداً.
وقوله: (ونقص) أي: ويشرع سجود السهو للنقص، والانتقاص من الشيء الأخذ منه، فلما كان الله عز وجل قد حدّ في الفرائض حدوداً فجعلها على عدد معين، فإن المكلف ينتقص إما من أركانها وإما من واجباتها، فإن انتقص الأركان فلا بد من الإتيان بها، لكن إن انتقص الواجبات فإن انتقاصه للواجبات يوجب جبره لها بسجدتي السهو، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وشك) أي: ويشرع سجود السهو لمكان الشك،
والشك مأخوذٌ من: شك في الشيء: إذا تردد بين الأمرين،
تقول: أشك في وجود محمد.أي أنك متردد بين كونه موجوداً أو غير موجود، فالشك استواء الاحتمالين.
فالإنسان إذا صلى لا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن يتم صلاته ويجزم بتمامها.الحالة الثانية: أن يزيد في صلاته ويجزم بالزيادة.
الحالة الثالثة: أن ينتقص منها ويجزم بالنقص.
الحالة الرابعة: أن يتردد بين كونه قد صلى على التمام، أو أن صلاته ناقصة أو زائدة.فهذا الشك هو استواء الاحتمالين، فيتردد بين كونه قرأ الفاتحة أو لم يقرأها، وكونه ركع أو لم يركع، وكونه سمع أو لم يسمع، وكونه حمد أو لم يحمد، ونحو ذلك مما يعتري الإنسان من الشك.فيشرع سجود السهو إما لزيادة في الصلاة، أو نقص فيها، أو شك يحدث للمكلف في أعداد الركعات، أو في أركانها، أو في واجباتها.
[أدلة مشروعية سجود السهو للزيادة]
ثبت في سجود السهو للزيادة أحاديث: منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين في قصة ذي اليدين المشهورة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -إما الظهر وإما العصر- فسلم من ركعتين، ثم قام كالغضبان -صلوات الله وسلامه عليه- وشبّك بين أصابعه واستند إلى الجذع، فهاب أصحابه رضي الله عنهم أن يكلموه، ورأوا الغضب في وجهه -وكان صلوات الله وسلامه عليه مهاباً بينهم-
فلما هابوه قال رجل في القوم يقال له ذو اليدين: يا رسول الله: أقصرت الصلاة أم نسيت؟
فقال: ما كان شيء من ذلك،
قال: بلى قد كان شيء من ذلك،
فسأل الصحابة: أصدق ذو اليدين؟
قالوا: نعم، فرجع وأتم الركعتين،
قال الراوي: وأنبئت أن عمران قال: ثم سجد سجدتين بعدما سلم) وهذا الحديث فيه زيادة؛
لأنه لما جلس للتشهد الأول صلوات الله وسلامه عليه زاد أمرين: الأمر الأول: الدعاء؛ لأنه ظن أنه في التشهد الأخير.
الأمر الثاني: التسليم، فسلم من الصلاة، والتسليم ركن.فهذه الزيادة للدعاء والسلام اقتضت أن تجبر بسجدتين، فسجد بعد سلامه صلوات الله وسلامه عليه، فدل هذا الحديث على مشروعية السجود للزيادة.
ومما يدل على مشروعية السجود للزيادة حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً،
فقيل له: أزيد في الصلاة؟
فقال: وما ذاك؟
قالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعدما سلم)، وأصل الحديث في الصحيح.فدل هذان الحديثان الصحيحان على أن الزيادة في الصلاة يشرع لها سجود السهو.
[أدلة مشروعية سجود السهو للنقص]
وأما السجود للنقص ففيه أحاديث، ومن أشهرها ما ثبت في حديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وعن أبيه وعن أمه، فكلهم صحابة رضوان الله عليهم،
فقد ذكر هذا الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى فقام في الركعتين، فسبحوا فمضى، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم)، فدل هذا الحديث على أن فوات الواجب يجبر بسجود السهو، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك الركعتين -كما في الحديث السابق- رجع وفعلها، ولما ترك الواجب هنا -وهو التشهد الأول- جبره بسجود السهو، فدل على أن الأركان في النقص لا تجبر إلا بالفعل إذا أمكن التدارك.وأما الواجبات فإنها تجبر بسجدتي السهو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على السجدتين جبراناً للنقص الحاصل من كونه لم يجلس في التشهد الأول، فدل هذا الحديث على مشروعية سجود السهو للنقص.
ومن أدلة السجود للنقص: حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه، حيث صلى بأصحابه، فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس، فسبّح من خلفه،
فأشار إليهم أن: قوموا.فلما فرغ من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو وسلم،
وقال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم).فالحديث الأول -وهو حديث عبد الله بن مالك بن بحينة - عند النسائي وغيره، والثاني -وهو حديث المغيرة - عند الترمذي، وصححه غير واحد من أهل العلم.فهذان الحديثان الثابتان يدلان على أن نقص الواجبات يجبر بسجدتي السهو، وأما الأركان فلابد وأن تأتي بالركن، فإن فات تدارك الإتيان بالركن فإنك تقضي الركعة كاملة.
[أدلة مشروعية سجود السهو للشك]
وأما السجود للشك ففيه حديثان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدهما: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان)، وهذا الحديث في الصحيح، ونفهم منه أن الإنسان إذا شك فإنه يبني على الأقل، وأنه ببنائه على الأقل يلزم بالإتيان بما يوجب الكمال والتمام، فإذا فعل هذا -
أعني: الإتيان بما يوجب الكمال- أُلزم بالسجدتين قبل أن يسلم، وهاتان السجدتان اللتان تشرعان في حال الشك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكمة منهما، فإنك إن صليت الفجر وشككت هل الركعة التي تصليها الأولى أو الثانية، فإنك تبنى على أنها الأولى، ثم تضيف ركعة، ثم تسجد قبل أن تسلم سجدتين، فإن كانت الركعة التي أضفتها توجب تمام عدد الفجر، بمعنى أنك فعلت الصحيح وأنك لم تزد في صلاتك، كانت السجدتان ترغيماً للشيطان؛ لأن الشيطان إذا رأى ابن آدم يسجد يتولى يبكي،
ويقول: أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار.وكلما رأى ابن آدم يسجد كلما ازداد غيظاً، وكان ذلك أبلغ في إرغامه.وإن كان الذي صليت زيادة فالسجدتان تلفيان الركعة الثالثة، فكأنها لم تكن، وتكون الصلاة تامة كاملة من هذا الوجه.
فدل هذا الحديث على مسائل: أولاً: مشروعية السجود للشك، وهذا هو المطلوب.
ثانياً: أن هذا السجود يكون ترغيماً للشيطان إن كان الذي فعلته على التمام، ويكون إلغاء للزيادة إن كان الذي فعلته زائداً.ومثل حديث أبي سعيد رضي الله عنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو في الصحيح.فهذان الحديثان الصحيحان يدلان على مشروعية سجود السهو في الحالة الثالثة وهي حالة الشك.
فقول المصنف: (يشرع لزيادة ونقص وشك) من باب ترتيب الأفكار، حيث بيّن محل سجود السهو،
وبيّن مشروعيته في قوله: (يشرع) أي: يشرع سجود السهو، ومن عادة الفقهاء والعلماء رحمة الله عليهم أنهم إذا تكلموا على أمر أن يبينوا موقف الشرع منه،
فقال: (يشرع)، فالأصل في سجود السهو أنه مشروع، لكن مشروعية هذا السجود لموجب،
أي: ليست مشروعية مطلقة،
وذلك لقوله: (يشرع لزيادة ... )،
أي: أنها مشروعة في حد، أو في مكان معين، ولذلك يكون ابتداؤه رحمه الله بذكر الزيادة والنقص والشك من باب بيان المحل الذي يشرع فيه فعل هاتين السجدتين.
[حكم سجود السهو في حال التعمد]
قال رحمه الله تعالى: (لا في عمد).أي أن سجود السهو إنما يشرع في حال النسيان والشك، أما في حال التعمد والقصد فلا يشرع.كما لو صلى الظهر فزاد قراءة الفاتحة مرتين متعمداً، فهذه زيادة ركن قولي، أو زاد ركوعاً مع الركوع الذي شرعه الله في أي ركعة من ركعات الظهر، وهذه زيادة ركن فعلي.ففي هاتين الحالتين تبطل صلاته،
ويكاد يكون بإجماع العلماء أن من زاد في صلاته ركناً واحداً متعمداً فقد أحدث وابتدع وترتب عليه أمران: الأمر الأول: أنه آثم لإحداثه في دين الله وابتداعه، ومعلوم ما للبدعة من سوء عاقبة والعياذ بالله، فإن صاحبها يفتن،
كما قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] ويصرف عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فالمبتدع لا يسقى من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يزيد ركعة، أو يحدث في صلاته ركناً زائداً، أو واجباً زائداً، فإنه قد أحدث في دين الله ما لم يأذن الله عز وجل به، ويحكم ببطلان صلاته؛ لأنه لم يصل كما أمره الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام -وهو يبين تأقيت الصلاة وتحديدها وأنها عبادة لا مجال فيها للرأي والاجتهاد-: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أي: لا تجتهدوا من عند أنفسكم.أما لو اجتهد العالم في إثبات حكم في الصلاة بناءً على كتاب أو سنة فلا حرج؛ لأنه من الدين،
أما أن يأتي إنسان ويقول: أصلي الظهر بدل ركعتين ثلاثاً.فقد حبط عمله وكان من الخاسرين، فصلاته رد عليه.
الأمر الثاني: قال بعض العلماء: زيادة الأركان وزيادة الركعات استهزاء واستخفاف -والعياذ بالله-، والاستخفاف بهذه الشعيرة أمره عظيم، ولذلك يخشى على صاحبه.
فقوله: (لا في عمد) أي: أن سجود السهو لمكان السهو والنسيان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى علم ضعف الإنسان، وأنه لا بد أن يعتريه ما يعتري هذا البشر الناقص من الخلل والنسيان، فانظر رحمك الله لو أن الله أوجب علينا أن لا نؤدي الصلاة إلا كاملة، وأن من شك في أقل شك ينبغي عليه أن يعيد صلاته، كيف يكون حال الناس، خاصة وأن الإنسان ربما دخل في صلاته مهموماً بكرب في نفسه أو في جسده أو في أهله أو في ولده أو في ماله، فيتشتت ذهنه،
وقد قال عليه الصلاة والسلام في انبجانية أبي جهم التي أهداها إليه: (فإنها ألهتني عن صلاتي آنفاً)،
والانبجانية: الخميصة التي لها الأعلام.
فالإنسان بشر يعتريه ما يعتري البشر، فلو أن الله سبحانه وتعالى ألزم المكلف أن يوقع الصلاة كاملة لحصل له من الضنك ما الله به عليم، فسجود السهو لا يشرع إلا عند السهو والنسيان، أما عند التعمد والقصد فلا.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(واجبات الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (99)
صـــــ(12) إلى صــ(22)
[سجود السهو للفريضة والنافلة]
قال رحمه الله: [في الفرض والنافلة].
أي: أن سجود السهو يشرع لك أن تفعله في زيادة ونقص وشك، سواءٌ أكانت الصلاة مفروضة أم نافلة، فهو لا يختص بالنوافل دون الفرائض، ولا بالفرائض دون النوافل، وإنما حكمه على العموم، ولذلك من سها في فريضة كمن سها في نافلة، ولذلك يعمم العلماء رحمهم الله في أحكام سجود السهو، فيشمل حكمه النافلة والفرض على حد سواء، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا صلى أحدكم) ولم يقل: نافلة ولا فرضاً، والحديث ثابت في الصحيحين من حديث أبي سعيد وابن عباس رضي الله عن الجميع.
وقوله رحمه الله: (في الفريضة والنافلة) فيه فائدة،
وذلك أنه لما قال: (والنافلة) عمم، فشمل أي نافلة، وهذا قد يشمل النافلة التي ألزم الشرع بها على الكمال، أو أوجب فيها بعض الأفعال فانتقص منها بعض أفعال الناس المعهودة، كصلاة الجنائز على أنها سنة مؤكدة.فإن صلاة الجنائز إذا سها الإنسان فيها فمن العلماء من يرى أن السهو في صلاة الجنائز يجبر بسجود السهو، وظاهر كلام المصنف العموم، فيشملها من هذا الوجه، وهو اختيار بعض العلماء، ولكن لا يسجد والجنازة أمامه، وإنما يسجد بعد رفعها في قول بعض العلماء، وإن كان قد استحب طائفة من العلماء أن السجود يكون عند وجودها أمامها.وهذا أقوى؛ لأنه لا يعتبر ساجداً لها إلا إذا كانت أمامه كالسترة التي تكون أمام المصلي؛ فإنه حينئذٍ يسجد جبراناً لواجبها على القول بأن سجود السهو يشرع حتى في صلاة الجنائز حكم زيادة أقوال أو أفعال في الصلاة عمداً أو سهواًقال رحمه الله تعالى: [فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت، وسهواً يسجد له].
قوله: (فمتى) الفاء للتفريع؛ لأنه إذا أثبت لك الأصل والقاعدة فإنه بعد ذلك يفصل، فبعد أن بيّن أن سجود السهو يشرع للزيادة وللنقص وللشك شرع الآن في التفصيل.وابتدأ بذكر الزيادة قبل النقص؛ لأن الإنسان إنما يراعى فيه حال أدائه للصلاة على الكمال، والزيادة زيادة على الكمال، فيبتدأ بأحكام الزيادة أولاً ثم بأحكام النقص.
وقوله: (فعلاً) لأن الزيادة تكون أقوالاً وتكون أفعالاً، فالأقوال كأن يكبر مرتين، أو يُسَمِّع مرتين،
فيقول: (سمع الله لمن حمده، سمع الله لمن حمده)، أو يزيد فعلاً مرتين، كأن يركع مرتين، فيركع ويرفع، ثم يسهو ويظن أنه قائم فيركع ثانية ويرفع، فيتذكر أنه قد ركع مرتين، أو يسجد ثلاث سجدات في الركعة الواحدة أو أربع سجدات، وقس على هذا، فهذا من الزيادة في الأقوال والزيادة في الأفعال،
وهذه الزيادة إذا وقعت في الصلاة لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يزيد شيئاً مشروعاً أصله في الصلاة، كأن يقرأ الفاتحة مرتين، أو يكبر مرتين، أو يسمع مرتين، وهذا في الأقوال، أو يركع ركوعين أو ثلاث سجدات، وهذا في الأفعال، فكونه يزيد فيقرأ الفاتحة مرتين فإن الفاتحة التي زادها من جنس ما شرع في الصلاة، فإن قراءة الفاتحة مشروعة في الصلاة، وكونه يزيد الركوع فإنه بزيادته للركوع مرتين في الصلاة قد زاد فعلاً أصله مشروع في الصلاة.
الحالة الثانية: زيادة شيء من خارج الصلاة قولاً أو فعلاً،
فالقول كقوله: أف،
أو يتأوه فيقول: آه، أو يتنحنح، فهذا كله ليس من جنس الصلاة.وأما زيادة الفعل الخارج عن الصلاة فكأن يتناول كتاباً، أو يرفع شيئاً، أو يضع شيئاً، أو يدخل يده في جيبه، أو يعبث بساعته، فهذه زيادة أفعال ليست من جنس الصلاة.فإذا ثبت أن الزيادة لها حالتان فإن من عادة العلماء أن يبتدئوا بالشيء الذي هو من جنس الصلاة،
فابتدأ رحمه الله بقوله: [فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت].
فقوله: (فعلاً) نكرة يشمل أي فعل.
وقوله: (من جنس الصلاة قياماً أو ركوعاً أو سجوداً عمداً بطلت) هذا تفصيل لقوله: (لا في عمد)،
أي: إذا علمت رحمك الله أن سجود السهو محله أن يكون في سهو ونسيان فاعلم أنه لو زاد فعلاً من ركوع أو سجود أو قيام عمداً فإن صلاته تبطل، فيكاد يكون بإجماع أهل العلم رحمة الله عليهم أن من زاد متعمداً عالماً فصلاته باطلة.
قوله: [وسهواً يسجد له] أي: إن زاد في صلاته الركوع والسجود والقيام سهواً سجد لمكان هذه الزيادة.وقلنا: إن هذا السجود قد بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة بكمالها، فإذا كان السجود يلغي الركعة بكمالها فلأن يلغي جزء الركعة من باب أولى وأحرى؛ لأن الشرع ينبه بالأعلى على الأدنى، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن لنا أن من زاد ركعة كاملة في صلاته وسجد للسهو، -أي: سهو الزيادة- أن هذا السجود يرفع هذه الزيادة، فلأن يرفع السجود زيادة الركن الذي هو جزء الركعة من باب أولى وأحرى.
الأسئلة
[حكم نسيان السجدة الثانية من الركعة الأخيرة في الصلاة]
q كُنت إماماً فنسيت السجدة الثانية في آخر ركعة، ثم جلست للتحيات وقرأتها، وكنت أظن أنها الجلسة الأخيرة، ثم تبين لي أنها الجلسة بين السجدتين، فكيف العمل وقتئذٍ إن تذكرت في أثناء الصلاة، أو إن تذكرت بعد الصلاة؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد: فهناك إشكال في السؤال؛ لأنه وصف نفسه بأنه في السجدة الأخيرة لقوله: (كنت إماماً فنسيت السجدة الثانية من آخر ركعة).وهذا يقتضي أنه إذا جلس بعدها تكون الجلسة للتشهد الأخير، ثم قال: (ثم جلست للتحيات وقرأتها وأظن أنها الجلسة الأخيرة).فظنك في محله لأنك تقول: (نسيت السجدة الثانية من آخر ركعة)، فمعنى ذلك: أن هذا التشهد هو التشهد الأخير.وبناءً على ظاهر كلامك لا يستقيم هذا، وذلك في قولك: (ثم تبين لي أنها الجلسة بين السجدتين، فكيف العمل وقتئذٍ؟) فإذا نسي الإنسان السجدة الثانية من الركعة الأخيرة، وسلّم وهو ظان أنه في الجلسة الأخيرة فللعلماء فيه وجهان: فبعضهم يرى أنه يلزمه أن يسجد سجدة بعد سلامه، وينوي بهذه السجدة السجدة الثانية التي نسيها، ثم يتشهد، ثم يسلم، ثم يسجد بعد السلام للزيادة.وهذا هو أصح الأقوال.وهناك قول يرى الإلغاء، فحينئذٍ لا يعتد بركعته ويستأنف ركعة مكان الركعة التي أخلّ فيها ما دام أنه سلم.والصحيح أن يعتبر نفسه كأنه لم يقرأ التشهد، وكأنه لم يسلم، فيسجد السجدة الثانية التي نسيها، ثم يتشهد بعد ذلك، ثم يسلم، وإن كان يرى أن السجود كله قبل السلام يسجد قبل سلامه سجدتي السهو، وإن كان يرى أن الزيادة بعد السلام يسلم ثم يسجد للسهو، فهذا هو أصح أقوال العلماء.والدليل على ذلك أنه لما رفع رأسه من السجدة الأولى ظاناً أنه في السجدة الثانية فإنه في هذه الحالة يلزمه أن يذكر أذكار السجدتين، كقوله: (رب اغفر لي) -كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام- فعدل إلى التحيات، فحينئذٍ يرجع وإن كان في جلسة التشهد ثم يقول: (رب اغفر لي، رب اغفر لي) لكي يأتي بالذكر الواجب، ثم يسجد السجدة الثانية، ثم يتم على الصفة التي ذكرناها.والله تعالى أعلم.
[حكم سجود المؤتم إذا ركع الإمام عند وقوفه عند آية سجدة]
q إذا صلى وقرأ آيات وكان آخر آية في السورة سجدة فكبر وركع، وظن المأموم أنه سجد للتلاوة فنزل للسجود، فرفع الإمام من الركوع، فتبين للمأموم أن الإمام ركع وسجد للتلاوة، فماذا عليه في هذه الحال؟
aهذا السؤال تعم به البلوى، وفيه جوانب: الجانب الأول: أن بعض العلماء رحمة الله عليهم نبهوا إلى أن الإمامة لها فقه وآداب، فلا يكفي طالب العلم أن يكون على علم بأفعال الصلاة ليأتي ويؤم الناس، بل ينبغي أن يعرف فقه الخلاف، والنوازل التي تطرأ على الأئمة، وفقه الإمامة.ومن الأمور التي ذكروها في فقه الإمامة أنهم قالوا: لا ينبغي للإمام أن يتسبب في أمر يوجب اختلال صلاة الناس.ومن ذلك ما ذكر في السؤال: أن يقرأ سورة في آخرها سجدة.قالوا: إذا قرأ السورة التي في آخرها سجدة فإنه يسجد ولا يركع؛ لأن الناس لا شك أنهم سيسجدون، وبناءً على ذلك يعمل بالأصل فيسجد، فإن كان ليس عنده نية أن يسجد فحينئذٍ لا يقف على السجدة، وإنما يقف إما قبل السجدة، أو يصل السورة بالتي بعدها ويستفتح بآية أو آيتين ويركع.فيعلم الناس أنه بدخوله في السورة الثانية قصد أن لا يسجد، وحينئذٍ تحفظ صلاة المأمومين من الاختلاج، ولذلك قال الأئمة: إنه مما يكره تخيّر آيات السجدة لمن لا يريد السجدة، كأن يقرأ سورة (اقرأ باسم ربك) في صلاة المغرب وهو لا يريد أن يسجد، فإنه إذا مر بالسجود وقال: (الله أكبر) فإن من لا يراه، كالنساء سيسجد مباشرة، كذلك من هو بعيد عن الإمام، خاصة في المساجد الكبيرة.فمن فقه الإمامة التنبه لمثل هذا، ولذلك لا ينبغي فعل مثل هذا، فإن أراد الإمام أن يقرأ السجدة ويسجد فلا حرج، وقد أصاب السنة، أما إذا لم ينو السجود فلا يقرأ، أو يقرأ ما بعدها من آيات لكي يبين أنه غير قاصد للسجود.فهذا بالنسبة لما يتعلق بالإمام.أما بالنسبة لما يتعلق بالمأمومين فإذا كبّر الإمام وركع فمن الناس من يسجد، ومنهم من يركع، أما من ركع فلا إشكال، ولكن من سجد فلا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن يسجد ويتنبه أن الإمام راكع أثناء سجوده أو أثناء الهوي، أو يتنبه بعد سجوده أن الإمام لم يسجد، أو يتنبه بمن بجواره، أو يتنبه برؤية الإمام أثناء الهوي أنه ركع ولم يسجد، فحينئذٍ إذا تنبه رجع مباشرة؛ لأنه مطالب بالاقتداء، وزيادة هذا الفعل حصلت لما كان الأمر في الآية بالسجود، ولا عبرة بالظن الذي بان خطؤه، فيلغى فعله، والإمام يحمل عنه هذا الخلل، فهذا إذا تنبه ورجع.الحالة الثانية: أن لا يتنبه إلا بعد تسميع الإمام، وحينئذٍ لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون ساجداً، فيقول الإمام: (سمع الله لمن حمده)، فإن قام واستتم قائماً وركع وأدرك الإمام في الرفع من الركوع أو في السجدة صحت صلاته وأجزأته، وقد فاته الركن وتدارك، ويكون تأخره للعذر، فيجبره بالتدارك، وهذا إذا قام وركع.الحالة الثانية: أن يجهل الحكم فيقوم ولم يركع، لكون الإمام قد وقف، فاجتهد لحظ نفسه، فحينئذٍ إذا لم يركع يلزمه أن يأتي بركعة بعد سلام الإمام، كمن فاتته ركعة وراء الإمام، وكمن لم يقرأ الفاتحة وراء الإمام، أو لم يركع أو يسجد لسهو وراء الإمام، فيلزمه أن يأتي بركعة تامة؛ لأن الركوع لا يجبر إلا بالركعة التامة، وحينئذٍ إذا جاء بالركعة الثانية صحت صلاته تامة، لكن لو فرض أنه لم يفعل شيئاً من هذا، كأن قام ووقف مع الإمام وسجد وسلم مع الإمام، ثم خرج من المسجد ولم يقضِ هذه الركعة فقد بطلت صلاته ولزمته الإعادة.فهذا حاصل ما يقال في هذه المسألة التي يكون فيها سجود المأموم وركوع الأئمة، وقس على هذا بقية الأركان التي يحصل فيها الاختلاج بين الأئمة والمأمومين.
والله تعالى أعلم.
[كيفية الفتح على الإمام إذا لم يفهم المقصود بالتسبيح]
q إذا سبح الثقات للإمام، ولكن الإمام لا يعلم هل زاد أم نقص، فما الحكم في ذلك؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد: فإذا كنت وراء إمام وسبحت له ولم يفهم مقصودك فإنه يشرع في هذه الحالة أن تخاطبه، وتبين له ما ينبغي عليه فعله، وهذا الكلام الذي تخاطبه به دلت السنة على مشروعيته في حديث أبي هريرة في الصحيحين، فإن ذا اليدين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أقصرت الصلاة، أم نسيت؟) فباشره ببيان الحال.فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الإمام إذا لم يفطن، أو غلب على ظنك أنك لو سبحت له أنه يرتبك ولا يعرف ماذا يصنع، فحينئذٍ تباشره بالكلام وتقول له: اركع.أو: فاتت ركعة.أو: فاتت سجدة.أو: اقرأ الفاتحة.فلو أن إماماً كبر وابتدأ القراءة بـ (التِّينِ وَالزَّيْتُونِ)
، فإنك إذا سبحت له ظن أنك تسبح لخلل في قراءته فيرجع ويقول: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] فحينئذ تقول له: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال بعض العلماء: تذكر الآية حتى تكون من جنس القراءة، ويكون فتحاً عليه.وهذا أولى وأنسب، فإن لم يفهم ولم يتفطن فلك الحق أن تقول: اقرأ الفاتحة، أو: فاتت الفاتحة، فإن الفتح على هذا الوجه لعذر، وإذا كان الكلام لعذر، لمصلحة الصلاة فإنه جائز ولا حرج فيه.
والله تعالى أعلم.
[حكم سجود المؤتم للسهو إن لم يسجد الإمام]
q نرى بعض الناس بعد تسليم الإمام يسجد سجدتي السهو قبل أن يسلم، فما حكم هذا؟
a لا يشرع للمأموم أن يسجد بعد تسليم الإمام لما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود وأحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)، وبناءً على هذا الحديث قالوا: يحمل الإمام عن المأموم سهوه بالنقص في الواجبات، ولا يحمل عنه سهوه في الأركان، وبناءً على ذلك فإن الأركان لا تجبر إلا بالفعل، وعليه فإذا سها المأموم وراء الإمام في غير الأركان فإن الإمام يتحمل عنه السهو، وقد خرّج العلماء على هذا أن المأموم لا يشرع له سجود السهو وراء الإمام، إلا في مسألة ما إذا كان المأموم مسبوقاً، كما لو أدركت الإمام في الفجر في الركعة الثانية فقمت بعد سلام الإمام بالركعة الثانية بالنسبة لك وفي قيامك بها حصل خلل، فإن نسيت أن تقول: (سمع الله لمن حمده)، أو غيره من الواجبات، فحينئذٍ يشرع لك أن تسجد للسهو، لكن هذا بعد الانفصال وليس قبل الانفصال، أما وأنت وراء الإمام وسلامك بسلام الإمام فلا يشرع لك أن تسجد وراء الإمام سجود السهو، وينصح مثل هذا.والله تعالى أعلم.
[حكم سجود السهو مع الإمام إذا زاد في صلاته وقد فارقه المؤتم]
q قام الإمام إلى الركعة الخامسة ولم يرجع، فجلسنا للتشهد حتى أتم الصلاة ثم سلمنا معه، ثم قيل له بعد الصلاة: إن الصلاة زائدة فهل نسجد معه سجود السهو؟
a من كان مع الإمام متصل الصلاة وانتظر تسليم الإمام فإنه لم يفارقه، والذي لم يفارق يسجد مع الإمام لسهو الإمام؛ لأنه متصل بصلاته، كما لو سها الإمام في ركعة لم تدركها، أو سها قبل أن تدركه في الركعة، فحينئذٍ يشرع لك أن تسجد وراءه، ولا يشترط في متابعة الأئمة أن يكون سهوك كسهوه، ألا ترى في صلاة الظهر لو أنه نسى واجباً من الواجبات كقراءة التشهد الأول وقام وأنت قرأت التشهد الأول فإنك تسجد وراءه، مع أنك لم تحدث النقص.وبناءً على ذلك فلو أنك انتظرته حتى أتم الركعة ثم جلس للتشهد وسجد بعد السلام للزيادة فإنك تسجد وراءه، أو سجد قبل سلامه سجدت وراءه على الأصل الذي ذكرناه.والله تعالى أعلم.
[ضوابط بيع الذهب بغيره]
q أنا تاجر ذهب في محلٍّ صغير آخذ الذهب من التجار الكبار بدون مبلغ أحياناً، ثم أبيعه وأعطيهم الثمن بعد ذلك، فهل في هذا شيء؟
a لا يجوز التعامل في الذهب والفضة إلا يداً بيد، مثلاً بمثل عند اتحاد الصنف لما ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير والملح بالملح، مثلاً بمثل يداً بيد)، فبيع الذهب بالفضة لا يجوز إلا يداً بيد لقوله في نفس هذا الحديث: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، فإذا اشتريت ذهباً فإنه لا يجوز لك أن تفارقه حتى تعطيه قيمة الذهب، فلو قلت له: هذه خمسون، وتبقى علي مائة، أو: يبقى ريال واحد.فإنه يحكم بكونه ربا النسيئة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في التعامل في الذهب مع الفضة في البيع أن يكون يداً بيد.والله تعالى أعلم.
[الاستدلال بحديث المسيء صلاته على عدم وجوب السترة]
q القاعدة الأصولية تقول: (لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة)، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر المسيء صلاته عن السترة، فهل يدل ذلك على أنه صارف لوجوب السترة إلى الندب؟ وإذا كان ترك الواجب عمداً يبطل الصلاة وسهواً يجبر بالسجود، فهل يكون كذلك في ترك السترة؟
a هذا اعتراض على مسألة وجوب السترة، والاعتراض بحديث المسيء صلاته غير وارد، وذلك لأن المسيء صلاته حدثه النبي صلى الله عليه وسلم عمَّا هو متعلق بذات الصلاة -أي: بجنسها-، مع أن لقائلٍ أن يقول: إنما نبهه على الخلل -وهو حصول عدم الطمأنينة- وارتبطت به الواجبات التي ذكرت تبعاً، ولذلك قال العلماء رحمهم الله عند ذكرهم لهذا الحديث: أجمعوا على أنه تضمن أركان الصلاة والتنبيه على الأركان.ولذلك فما ورد إلا في روايات الآحاد والأفراد مسألة: (استقبال القبلة)، ورواية: (توضأ)، وإلا فإن الرواية المشهورة ذكرت الأركان التي حصل الخلل فيها.ولذلك قالوا: هذا منفك؛ فإنك توجب الأذان ولا تستطيع أن تسقطه بحديث المسيء صلاته؛ لأن حديث المسيء صلاته منصب على شيء معين حصل الإخلال فيه، مع أنه يمكن أن يعترض على من اعترض بحديث المسيء صلاته، فيقال له: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه اقترب من السترة وكبّر فنبهه على الإخلال في الأركان ولم ينبهه على السترة، فهذا محتمل، والقاعدة تقول: (ما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال)، وإنما يستقيم الاستدلال به لو رآه عليه الصلاة والسلام يصلي إلى غير سترة ولم يأت في الحديث ذكر السترة، فإنه حينئذٍ يكون دليلاً صريحاً يقوى على معارضة الصريح من الأمر بالسترة، أما إذا كان الدليل متردداً يحتمل أنه صلى إلى سترة ويحتمل أنه صلى إلى غير سترة فلا؛ لأنه لا يستقيم استدلاله بالحديث إلا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم رآه يصلي إلى غير السترة وسكت عنه، أما لو رآه يصلي إلى السترة فإنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن الرجل يعلم وجوب السترة، فلا يحتاج إلى أن ينبهه عليها.الأمر الثاني: أنه يمكن أن يقال: إنه لا تعارض بين هذا وهذا لورود الأمر بالسترة منفصلاً عن حديث المسيء صلاته، وإنما يستقيم الاستدلال بحديث المسيء صلاته إذا جاء بأسلوب القصر والحصر الذي يدل على أن ما عدا ما ذكر من المستحبات والمندوبات.وأما بالنسبة لجبرها بسجود السهو فليست السترة من جنس الأفعال والأقوال المتعلقة بالصلاة التي يعتبر تركها مجبوراً بسجود السهو، فهي عبادة هيئة إن وجدت حصل المقصود، وإن لم توجد أثم التارك لها متعمداً، ولا يجبر تركها بالسجود.والله تعالى أعلم.
[حكم قصر الصلاة لمن يظن أنه سيصل إلى بلده ويدرك الوقت]
q هل يجوز القصر لمن يستطيع أن يدرك الفريضة في المدينة التي يريد أن يسافر إليها؟
a لو كنت من أهل مكة وجئت من المدينة في الساعة الثالثة والنصف أو الرابعة، وأذّن المؤذن أذان العصر وأنت في الجموم أو في عسفان، ويغلب على ظنك أنك ستصل إلى مكة قبل غروب الشمس فأنت مدرك للوقت، فلك أن تأخذ بالرخصة وتصلي قصراً، مع علمك أنك تصل قبل انتهاء الوقت.وذلك لأن الخطاب توجه عليك بدخول الوقت بركعتين، فأنت مطالب بهما على الأصل.أما إدراكك للمحل الذي تريده قبل غروب الشمس فمظنون فإذا لطف الله وصلت، وإذا لم يلطف الله عز وجل فلو بلغت شق الأنفس لن تبلغ، وبناءً على ذلك تبقى على الأصل، فيجوز لك أن تصلي؛ لأن الخطاب متوجه عليك بركعتين، فإذا صليت الركعتين فقد برئت ذمتك.وهذا على أصح أقوال العلماء، فمن صلى مسافراً في أول الوقت وأدرك آخر الوقت في الحاضرة لا يلزم بالإعادة؛ لأن ذمته برئت.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(واجبات الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (100)
صـــــ(1) إلى صــ(11)
شرح زاد المستقنع - باب سجود السهو [2]
من زاد في صلاته ركعة فلم يعلم بها إلا بعد إتمامها فإنه يسجد للسهو، وإن سها الإمام فزاد في الصلاة فعلى من خلفه أن يسبحوا، فإن سبحوا ورجع فبها، وإلا بطلت صلاته وصلاة من تبعه إن كان عالماً.ومن أكثر الحركة في الصلاة من غير جنسها فإن صلاته تبطل، وإن كانت الحركة يسيرة فلا تبطل بها الصلاة، ولا يشرع لها سجود سهو.وهناك أحوال لا يشرع فيها سجود السهو مفصلة في موضعها.
أحكام سجود السهو
[حكم زيادة ركعة في الصلاة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها سجد].الزياة في الصلاة إما أن تكون عمداً أو سهواً، فإن كانت عمداً فإنها توجب البطلان، وإن كانت سهواً، كأن زاد فعلاً أو أفعالاً من جنس الصلاة ساهياً سجد، فالزيادة مع السهو تجبر بسجدتي السهو،
ولذلك قال المصنف: [وإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها سجد].فلو أنّه صلى الصبح فقام إلى الركعة الثالثة وهو يظن أنه في الثانية، فلما سجد الثانية من هذه الركعة الزائدة، أو كان في التشهد تذكر أنه قد زاد وأنه قد صلى ثلاثاً، فلا إشكال أنه يسجد بعد السلام سجدتين.
قال رحمه الله تعالى: [وإن علم فيها جلس في الحال، فتشهد إن لم يكن تشهد وسجد وسلم].
قوله: (وإن علم فيها) أي: بأن قام للركعة الزائدة ناسياً فقرأ الفاتحة وأتمها، أو قرأ نصف الفاتحة، أو قبل ابتدائه بالفاتحة وبعد أن استتم قائماً فذكر أنه زاد ركعة فعليه أن يجلس مباشرة، سواء أذكر عند بداية الركعة بمجرد وقوفه، أو تذكر بعدما وقف وقرأ الفاتحة، أو تذكر بعدما وقف وقرأ الفاتحة وشرع في السورة، أو قرأ الفاتحة وقرأ السورة وأراد أن يركع فتذكر أنها زائدة، أو قرأ وانتهى من القراءة وركع وأثناء الركوع تذكر، أو قرأ وركع ورفع من الركوع وقبل سجوده تذكر، ففي هذه الأحوال كلها يلزمه أن يرجع مباشرة، ولا يجوز له أن يبقى لحظة واحدة بعد العلم متلبساً بهذه الحالة الزائدة، فإن بقي لحظة واحدة بعد العلم وكان متعمداً بطلت صلاته؛ لأنها زيادة قيام وركن.
وهنا أحكام: الحكم الأول: أنه يلزمه قطع الأقوال والأفعال مباشرة،
فلو قلت: (الله أكبر)، وقمت واستتمت قائماً،
فقلت: (الحمد لله رب العالمين)، ثم تذكرت مباشرة فإنك تجلس.
الحكم الثاني: أن انتقالك من القيام إلى الجلوس بعد أن علمت أنك زدت لا تتكلم فيه ولا تكبر؛ لأنك في هذه الحالة مأمور بالجلوس للتشهد، وبمجرد رفعك من السجدة الثانية قد كبرت للتشهد الأخير، فلا تحدث أي قول، بل تجلس مباشرة وأنت ساكت، وإن كنت إماماً جلست وأنت ساكت والناس معك سكوت.ثم إن كنت في مثل صلاة الفجر، فقمت إلى الركعة الزائدة، ثم تبين لك بعدما قمت أنك زدت، وكنت قد قرأت التشهد، فحينئذٍ إذا رجعت لا تقرأ التشهد؛ لأنك قد قرأته، فتتم بالدعاء ثم تختم بالتسليم، فهذا إذا تذكرت بعد أن كنت قد قرأت التشهد.أما لو أنك بعد سجدتك الثانية قمت إلى الركعة الثالثة الزائدة، فتذكرت فإنك تجلس مباشرة، ثم تشرع في قراءة التشهد؛ لأنك مخاطب في هذه الحالة بقراءة التشهد، فتتشهد وتتم صلاتك، ثم تسجد بعد السلام للزيادة؛ لأنك لما وقفت هذه الوقفة كان ركناً زائداً جبر بسجدتي السهو بعد السلام.فقوله: (جلس في الحال) هذا هو الحكم الأول،
وقوله: (فتشهد إن لم يكن تشهد) حكم ثان في حالة ما إذا صليت الظهر أربع ركعات ثم جلست للتشهد، ثم شككت بعد أن انتهيت من التشهد بكماله، في كون الركعة التي أنت فيها الثالثة أو الرابعة، فالشك إذا حصل للإنسان قبل سلامه فإنه يلزمه أن يأتي باليقين على ظاهر حديثي ابن عباس وأبي سعيد رضي الله عنهما، فإن قمت ظاناً أنك في نقص، فلما وقفت تذكرت أن الذي أنت فيه إنما هو التمام والكمال، فإنك تجلس مباشرة، وحينئذٍ لا تقرأ التشهد، وكونك أحدثت قياماً بعد تشهدك لا يلغي التشهد الأول لمكان إذن الشرع بالتمام، فألغي بعد العلم، وصار وجوده وعدمه على حد سواء، فإن شئت أتممت الدعاء، وإن شئت جلست مباشرة وسلمت.
وقوله: (وسجد ثم سلم) هذا على ما اختار رحمة الله عليه -وهو أحد أقوال العلماء- أن سجود السهو كله قبل السلام، والراجح للنصوص الواردة أن الزيادة يسجد لها بعد السلام، والنقص والشك قبل السلام.
[حكم إلزام الإمام بتسبيح المؤتمين إن سها في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [وإن سبح به ثقتان فأصرو لم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته وصلاة من تبعة عالماً لا جاهلاً أو ناسياً].
أي: قالا: (سبحان الله).وهو اللفظ الذي يشرع عند حصول الخلل من الإمام، أو يكون لعارضٍ يريد أن ينبه الإنسان به غيره،
كما لو رأى إنسان غيره يريد أن يقع في ضرر أو شيء ما فإنه يقول: (سبحان الله).وأما الدليل على اشتراط الثقتين فحديث ذي اليدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سلم من الركعتين وقام كالغضبان،
قال ذو اليدين: (يا رسول الله! أقصرت الصلاة، أم نسيت؟) فالنبي صلى الله عليه وسلم بنى على ظنه واجتزأ بهذا الظن وسلم بالمأمومين، فدل على أن الإمام يعمل بظنه،
فلما قال له ذو اليدين: (يا رسول الله: أقصرت الصلاة، أم نسيت؟
قال: ما كان شيء من ذلك.
فقال: بلى قد كان شيء من ذلك) فلم يرجع النبي عليه الصلاة والسلام إلى قول ذي اليدين وحده.فدل على أن قول الثقة وحده لا يكفي؛ إذ لو كان كافياً لعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن صواب نفسه إلى قول ذي اليدين،
وإنما قال عليه الصلاة والسلام للصحابة: (أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم).فدل على أنه لا بد من تمام البينة والشهادة، وذلك إنما يكون في أصل الشرع بشهادة ثقتين،
فإذا قال أحد المأمومين: (سبحان الله).وهو وحده، وأنت على غلبة ظنك أنه لابد من ركعة، فإنك تقوم، فإن سبح اثنان ثقتان وراءك فحينئذٍ ترجع إلى قوليهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى ظنه ورجع إلى ظن الثقات، فدل على أنه إذا كمل النصاب رجع إلى قول الثقات، وهذه من المسائل التي يقدم فيها قول الثقتين على ظن النفس.ولها نظائر،
منها: لو أن القاضي شهد عنده عدلان أن لفلان على فلان ألفاً، وهو يعلم أن فلاناً قد سدد هذا الألف، ولكن ليست عنده بينة، فلا بد أن يحكم بشهادة الشهود، ولا يعتبر بعلم نفسه،
قالوا: يحكم بما قال الشهود، ثم يخبر صاحب الحق أنه سيشهد له، فيقيم صاحب الحق دعوى عند غيره ويكون القاضي شاهداً بحقه.
ولذلك قال: وعدل إن أدى على ما عنده خلافه منع أن يرده وحقه إنهاء ما في علمه لما سواه شاهداً بحكمه فهذه من المسائل التي تقدم فيها شهادة الشهود على ظن نفسك، وإلا فإن الأصل يقتضي أن يقين نفسك لا تعدل به إلى ظن غيرك.
لكن قالوا: إنما اشترط العدلان لأنه حينما يقول لك رجل: (سبحان الله) فأنت على يقين في نفسك، وهو أيضاً على يقين في نفسه، فحينئذٍ ليس من حقك أن تعدل عن يقين نفسك إلى يقين غيرك؛ لأن الله كلفك بيقين نفسك،
ومن هنا قالوا: لا يجوز للمجتهد أن يعدل إلى اجتهاد غيره، ما دام أنه قد تبين له الحق في اجتهاد نفسه.
وقالوا: يحرم على المجتهد أن يقلد؛ لأنه على بينة في قرارة نفسه والله تعبده بظنه.فالإمام إذا سُبِّح له وهو على يقين من نفسه،
وقال الذي وراءه: (سبحان الله) فهذا ظن غيره، فلما اكتملت الشهادة ضعف جانب الإمام وحده، ووجب عليه الرجوع إلى قول هؤلاء العدول.
وقوله: [سبح به] الباء لها معانٍ تقرب من عشرة معانٍ،
وقد أشار إليها ابن مالك بقوله: تعد لصوقاً واستعن بتسبب وبدَّل صحاباً قابلوك بالاستعلاء فقوله: (سبح به الثقتان) بمعنى: أعلموه بالزيادة التي هو فيها، فهو قائم وهم جلوس،
فسبحوا له أن: ارجع إلى التشهد.فإن لم يكن على يقين نفسه، وأصر على القيام ولم يكن جازماً في قرارة نفسه فحينئذٍ (بطلت صلاته وصلاة من تبعه عالماً)؛ لأنه إذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأمومين على هذا الأصل المقرر عند فقهاء الحنابلة والحنفية.
قالوا: لأنه لما سبح به الثقتان ولم يكن عنده يقين نفسه فإنه في هذه الحالة مأمور بالرجوع إلى قول الثقتين، وكونه لم يرجع إلى قول الثقتين يكون قد ترك واجباً من واجبات الصلاة، ومن ترك الواجب متعمداً فصلاته باطلة،
ولذلك يقولون: دليل الوجوب هدي النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
وأما كونهم اشترطوا الجزم فلأن ذا اليدين لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (بلى قد كان شيء من ذلك) شك عليه الصلاة والسلام فقال: (أصدق ذو اليدين؟)، فدل على أنه ليس على يقين من نفسه، وبناءً على ذلك فإذا كان الإمام على يقين من نفسه فحينئذٍ يعمل بيقين نفسه.
وقوله: (عالماً) أي: بالزيادة.
وقوله: (لا جاهلاً أو ناسياً) هذا على العذر بالجهل والنسيان، وفيه حديث معاوية بن الحكم المشهور.
وبعض العلماء يقولون في مسألة العذر بالجهل: إذا استقرت الأحكام فلا يعذر بالجهل، وإنما يعذر بالجهل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.وحملوا عليه حديث الأعرابي في عمرة الجعرانة، وحديث معاوية بن الحكم في الكلام،
فقالوا: إن الأحكام لم تستقر، ولذلك يعذر، ويعتبر هذا موجباً لعذره.ومنهم من يقول: إن العذر يكون لعدم العلم بالناسخ، خاصة في الكلام، وسيأتي إن شاء الله ذكره، وهو قول بعض العلماء، منهم أبو الخطاب،
حيث يخرجها على المسألة الأصولية المشهورة: (إذا لم يعلم بالناسخ فإنه يعذر بفعل المنسوخ).وبناءً على ذلك يكون كأنه متعبد لله عز وجل بأصل، فيعتبرون الجهل في هذا موجباً لعدم بطلان صلاته، وموجباً للعذر.
[أحكام مفارقة المؤتم للإمام إذا سها في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [ولا من فارقه].إذا كنت وراء الإمام وصلى الإمام الظهر خمساً وقام إلى ركعة وأنت على يقين من أنها خامسة، فإن الذي يلزمك شرعاً -إذا علمت أنه قد زاد الركعة- أن تبقى في مكانك وتتشهد، ولا يجوز أن تتابعه على الزيادة،
ولك هنا حالتان: الحالة الأولى: قال بعض العلماء: تتشهد وتتم لنفسك وتفارقه لمجرد زيادته.
الحالة الثانية: تبقى تتشهد وتنتظر حتى ينتهي من الركعة؛ لأنه معذور فيها فله حكمه على ظنه، وأنت معذور بترك الائتمام، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، إذ جلست الطائفة الأولى وقام للطائفة الثانية بالركعة، فأتمت لنفسها وسلم بالجميع.
قالوا: فيتخرج على هذا أنه يعذر المأموم في ترك الاقتداء لمكان الزيادة، ثم يبقى يتشهد، ثم يكثر من الدعاء والاستغفار وسؤال الله من فضله حتى يتم الإمام ركعته، ثم يسلم معه.وهذا المذهب أقوى؛ لأن الأصل المتابعة حتى يدل دليل على الخروج من الصلاة.وبناءً عليه، فلو صلى إمام الحي الصبح ثلاثاً، فإذا قام للثالثة تجلس وتتركه حتى يتم إذا أصر على رأيه ويقينه، ثم إذا تشهد تبقى تتشهد حتى ينتهي من الركعة بكمالها، ثم تسلم معه.وإذا زاد إمام الحي بأن قام للثالثة في صلاة الفجر، أو الخامسة في صلاة الظهر أو العصر، أو الرابعة في المغرب، أو الخامسة في العشاء،
فالمأمون على حالات: الحالة الأولى: من تبعه منهم ظاناً أنه على حق وصلاته صحيحة، كأن يقوم الإمام في الفجر إلى الثالثة والمأموم يعتقد أنها الثانية، فصلاته وصلاة الإمام صحيحة؛ لأن الله تعبدهما بهذا الظن.
الحالة الثانية: أن تعلم أنها زائدة، فثبت على الحالة التي ذكرناها وسلمت مع الإمام، أو فارقته على مذهب من يرى المفارقة، فصلاتك صحيحة.
الحالة الثالثة: أن تعلم أنها زائدة وتقوم معه متعمداً عالماً بزيادته لكنك جهلت الحكم، فحينئذٍ تعذر بالجهل عند من يرى العذر بالجهل، والدليل على ذلك أن الصحابة سلموا وراء النبي صلى الله عليه وسلم -كما في قصة ذي اليدين -
ظانين أن الصلاة قد قصرت بدليل الحديث: (فقام السرعان من الناس يقولون: قصرت الصلاة.قصرت الصلاة)، فسلم أبو بكر وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سلم وأن هذا السلام ليس في موضعه، لكنه جاهل بالحكم، ويظن أن الصلاة قد نسخت.
فلذلك قالوا: (الجهل بالحكم والظن بالتشريع في مرتبة واحدة)، فيعذر هذا كما يعذر هذا، وبناءً على ذلك فمن قام من العوام مع الإمام يظن أنه يتابعه وهو يعلم أنه قد زاد فحينئذٍ يحكم بصحة صلاته من هذا الوجه.
وقالت طائفة من العلماء: تبطل صلاتهم.وهذا على مذهب من يقول: إن العذر بالجهل خاص بزمان النبي صلى الله عليه وسلم.وهو أقوى المسلكين من مسالك الأصوليين رحمة الله عليهم.
[حكم كثرة الحركة في الصلاة من غير جنسها]
قال رحمه الله تعالى: [وعمل مستكثر عادة من غير جنس الصلاة يبطلها عمده وسهوه].وصف المصنف العمل بكونه مستكثراً،
أي: كثيراً، فخرج العمل القليل، كأن يصلح عمامته أو يصلح ثوبه، فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حينما جر ثوبه وهو في الصلاة والتحف به، فهذا عمل يسير.
وللعلماء قولان في ضابط العمل الكثير:
القول الأول: أنه يضبط بالعدد، فإذا فعل ثلاث حركات متتابعات بدون فاصل فهذا عمل كثير ويوجب بطلان الصلاة، وهذا قول الحنفية.
القول الثاني: لا حد بالعدد، وإنما يحد بالعادة والعرف؛ لأن ما أطلق في الشرع فإنه يبقى على إطلاقه.
فيعرف الكثير من العمل في العادة بأنه لو رآه رجل من بعيد يفعل هذه الأفعال لقال: هذا غير مصلٍ.فبناءً عليه فرقوا بين القليل والكثير بضابط العادة، وهذا قول الجمهور، ومنهم الشافعية والحنابلة،
ودرج عليه المصنف فقال: [عادة]، والقاعدة أن ما أطلقه الشارع فإنه يرجع فيه إلى العرف والعادة.فعمل المستكثر عادة يعتبر من موجبات بطلان الصلاة؛ لأن الإنسان إذا فعل الأفعال الكثيرة التي لا تتعلق بالصلاة خرج عن كونه مصلياً، وبناءً على ذلك يحكم ببطلان صلاته،
وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن في الصلاة لشغلاً)، والتعبير بهذا الأسلوب يدل على أنه شغل،
أي: ينبغي للمكلف أن يستجمع نفسه لهذه الصلاة فلا يشتغل بأي أمر خارج عنها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن الحكم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)، فهي عبادة مخصوصة تقع على هيئة مخصوصة،
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل بقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي).فالأفعال التي هي من جنس الصلاة إن كانت عمداً فالصلاة باطلة، وإن كانت سهواً جبرت بسجود السهو.وهذا هو النوع الأول من الأفعال الزائدة.
والأفعال الزائدة من غير جنس الصلاة يفرق بين قليلها وكثيرها، فإن كان الفعل كثيراً بطلت، وإن كان يسيراً لم تبطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح الباب وهو في الصلاة، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه حمل أمامة في الصلاة ووضعها، وصعد المنبر ونزل عنه عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك لم يوجب بطلان صلاته صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: (يبطلها عمده وسهوه).أي أن الأفعال المستكثرة التي ليست من جنس الصلاة يبطلها العمد والسهو، فلو أن إنساناً نسي أنه في الصلاة فتحرك حركات كثيرة، ثم تذكر أنه في الصلاة ورجع إليها؛ فإنه يحكم ببطلان صلاته، ويستوي في ذلك أن يكون متعمداً أو ناسياً، ولذلك يعتبرون النسيان في مثل هذا الحال لاغياً.
فإن قال قائل: كيف نجيب عن قول الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]؟
قلنا: نسيانه وذهوله يوجب سقوط الإثم عنه، ولا يوجب سقوط الحق عنه، ولذلك فإن النسيان لا يسقط الحقوق، فلو كان لرجل على إنسان دين ونسيه ثم تذكره وجب عليه أن يقضي الدين،
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى)، فحق الله لا يسقط بالنسيان، وهذا على الأصل وإن كان هناك استثناءات دلت النصوص عليها،
ولذلك يعبر الأصوليون بعبارة أدق فيقولون: يسقط عنه الإثم من باب الحكم، ويلزم بإعادة صلاته واستئنافها إعمالاً للأصل.
[يسير الحركة في الصلاة]
قال المصنف رحمه الله: [ولا يشرع ليسيره سجود].
أي: إذا عمل عملاً كثيراً حكم ببطلان صلاته، أما لو عمل شيئاً يسيراً فإنه لا يشرع له أن يسجد سجود السهو، فلا يسجد لليسير من الأفعال سجود السهو جبراً للخلل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل بعض الأمور اليسيرة التي ليست من مقصود الصلاة ولم يسجد لها، كفتحه للباب لما قُرع عليه، ورده السلام حينما سُلم عليه وهو في الصلاة، فهذه الأعمال اليسيرة لا يحكم فيها ببطلان الصلاة، ولا يشرع لها سجود سهو، وإنما تغتفر سماحة ويسراً من الشرع.
[الأكل والشرب في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [ولا تبطل بيسير أكل وشرب سهواً].لأن الأكل والشرب يخالف مقصود الصلاة،
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الصلاة لشغلاً)، فالأصل في المصلي أن يشتغل بذكر الله عز وجل، وعمل الأعمال التي أمر الله بعملها حال الوقوف بين يديه، فإذا أكل أو شرب فقد خرج عن كونه مصلياً.ومذهب كثير من العلماء أن من أكل أو شرب اليسير أو الكثير عمداً أو نسياناً فصلاته باطلة، وهذا القول أشبه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن الصلاة فيها شغل، وليس من شغل الصلاة الأكل والشرب، بل هو متضمن للإعراض عن الله عز وجل بالالتهاء بشهوة البطن، سواءٌ أكان أكلاً أم شرباً، كثيراً أم قليلاً، إلا أن هؤلاء منهم من استثنى اليسير الذي يكون بين الأسنان، وهكذا طعم الطعام، كأن يكون شرب لبناً فبقي شيء من طعمه في ريقه، أو بقيت رائحته في فمه فاستطعم ذلك الطعم،
فقالوا: لا تبطل صلاته لما في ذلك من المشقة؛ إذ يصعب على الإنسان -خاصة أثناء صيام رمضان إذا كان حديث عهد بالسحور وجاء لصلاة الفجر- أن يدفع مثل هذا اليسير، ثم هو شيء قليل لا يقصد عادة فاستثنوا مثل هذا اليسير الذي يكون بين الأسنان، أو يكون داخل الفم من رائحة قوية للطعام لم تزل بالمضمضة.
وفصّل بعض العلماء فيما يكون بين الأسنان فقال: إن اشتغل بقلعه أثناء الصلاة ووضعه بين أسنانه كحال الطاعم والعاض فإنه يحكم ببطلان صلاته؛ لأنه في صورة الآكل.أما لو أنه استخرجه مباشرة فإنه لا يحكم ببطلان الصلاة لكونه لم يطعم.ولا شك أن الأكل والشرب لا وجه لاستثنائه يسيراً كان أو كثيراً، إلا ما أثر عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه شرب الماء في صلاة النافلة، وبعض العلماء يشكك في ثبوت الخبر،
ولكنهم قالوا: إن هذا لا يقوى على معارضة السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تدل على أن المصلي ينبغي عليه أن يشتغل بمقصود الصلاة.وبناءً على هذه السنة فإنه لا يقوى على تخصيصها إلا ما هو في مثلها في القوة أو أقوى منها، كأن يكون نصاً قطعياً متواتراً، فلا يقوى مثل هذا على الاستثناء، ويتأول لـ ابن الزبير لو صح عنه، فإذا قيل بهذا فإنه يُبقى على الأصل الذي يوجب الحكم ببطلان الصلاة.واستنثى المصنف رحمه الله حالة السهو إذا أكل أو شرب يسيراً،
وقد قال بعض العلماء: يغتفر له وتصح صلاته.والصحيح ما ذهب إليه طائفة من أهل العلم أنه يستوي في ذلك العمد والسهو، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر برفع المؤاخذة عن الساهي،
فيقولون: يسقط عنه الإثم لمكان السهو ويحكم ببطلان صلاته ولزوم استئنافها.وهذا له أصل، فلو احتاج لإنقاذ نفس، كأن رأى صبيه يوشك أن يقع في الهلاك،
فقد قالوا: لو قطع صلاته واشتغل بإنقاذه فخرج عن الصلاة بالعبث الكثير لإنقاذه، فإننا نحكم بسقوط الإثم لمكان الضرورة، ونحكم بوجوب الاستئناف لكونه قد خرج عن الصلاة ومقصودها.
وكذلك قالوا هنا: يسقط عنه الإثم لمكان السهو، ويؤمر باستئناف صلاته وابتدائها.
قال رحمه الله تعالى: [ولا نفل بيسير شرب عمداً].
أي: ولا يبطل النفل بيسير شرب عمداً،
فإذا كان شربه للماء قصداً في النفل قالوا: إن صلاته لا تبطل.
وهذا مبني على مذهب من يقول من الأصوليين: إن قول الصحابي وفعله حجة.وهذا لا شك أن له وجهاً عند من يقول به، ولكن نظراً لمعارضته للأصل الذي يدل على وجوب اشتغال المصلي بما هو من مقصود الصلاة فإنه لا يقوى تخصيص هذا الأصل بالأثر الوارد عن ابن الزبير لو صح عنه ذلك.
[نقل الذكر المشروع في الصلاة إلى غير موضعه]
قال رحمه الله تعالى: [وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه كقراءة في سجود وقعود، وتشهد في قيام، وقراءة سورة في الأخيرتان لم تبطل ولم يجب له سجود، بل يشرع].
قوله: (وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه) مثاله: أن يصلي إنسان الظهر، فعندما قام للركعة الثانية فبدل أن يقرأ الفاتحة قرأ التشهد سهواً لا قصداً، أو ركع فسها فقرأ القرآن راكعاً، أو سجد فقرأ الفاتحة ساجداً، أو جلس للتشهد فسها فقرأ الفاتحة وهو في التشهد.فالفاتحة مشروعة في الصلاة، والتشهد مشروع في الصلاة، فهو متلفظ بلفظ مشروع في الصلاة، ولكن الموضع الذي تلفظ فيه لا يشرع إيقاع هذا الذكر فيه.فسواءٌ أكان في حال القراءة أم حال الرفع من الركوع، أم تشهد بين السجدتين في جلسته بينهما،
فكل هذا إذا سها فيه فقد قال رحمه الله: (لم تبطل، ولم يجب له سجود، بل يشرع).وهذا النوع من الأقوال يعتبر متردداً في القياس،
أي: يعتبر قياسه قياس شبه، وهو عند الأصوليين (أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفين في الحكم)،
فأنت إذا نظرت إليه وقلت: إن هذا القول مشروع في أصله.فإن زيادته في الصلاة توجب سجود السهو، كما لو زاد في الصلاة ذكراً في موضع لا يشرع أداء ذلك الذكر فيه، كأن يتشهد مرتين في موضع التشهد فإنه يسجد للسهو،
فحينئذٍ إن قسته على من تشهد مرتين أو قرأ الفاتحة مرتين قلت: يسجد للسهو؛ لأن الذكر مشروع في أصله، ولأن إيقاع التشهد الثاني وقراءة الفاتحة مرة ثانية واقع في غير موقعه،
فهذا إذا قلت: إنه يسجد للسهو.
وإن قلت: لا يجب عليه سجود السهو فذلك لأن المكان ليس بمكان هذا الذكر، فأشبه الفعل الخارج عن الصلاة والقول الخارج عن الصلاة،
فلذلك تقول: إنه قول زائد عن الصلاة، فلا يشرع سجود سهو له، كما لو فعل اليسير من الأفعال فلا يجب عليه أن يسجد سجود السهو.
فتوسط أصحاب هذا القول بين الأصلين وقالوا: لا يجب عليه سجود السهو؛ لأن الموضع ليس بموضع الذكر، ويشرع له،
أي: لو سجد لشرع له لمكان الأصل الذي يلتحق به، كما لو كرر الفاتحة أو كرر التشهد.فالمصنف رحمه الله ذهب إلى هذا القول المتوسط فرأى أنه لا يجب عليه سجود سهو، ولكن لو سجد فلا حرج،
وهذا معنى قوله: (بل يشرع) أي: له أن يسجد.فلو سألك سائل وقال: أنا قرأت التشهد قائماً،
قلت له: لا يجب عليك أن تسجد، وإن سجدت فلا حرج.
ولو سألك وقال: قرأت الفاتحة ساجداً، أو حال التشهد،
أو بين السجدتين تقول: لا يجب عليك أن تسجد للسهو، وإن سجدت فلا حرج.
التسليم قبل إتمام الصلاة عمداً أو سهواً
قال رحمه الله تعالى: [وإن سلم قبل إتمامها عمداً بطلت، وإن كان سهواً ثم ذكر قريباً أتمها وسجد].
قوله: (وإن سلم) أي: الإمام أو المأموم أو المنفرد، (قبل إتمامها) أي: إتمام الصلاة (عمداً بطلت) أي بطلت صلاة الجميع.فلو أن شخصاً صلى الصبح، فلما انتهى من الركعة الأولى سلم، وهو عالم أنه في الركعة الأولى وأن صلاته لم تتم فإن صلاته تبطل بالإجماع، أو سجد السجدة الثانية الأخيرة، وقبل أن يقرأ التشهد سلم فقد بطلت صلاته، إلا عند من لا يرى وجوب التشهد ولزومه.فمن سلم من الصلاة قبل كمالها وتمامها عالماً أن صلاته لم تتم، فصلاته باطلة؛ لأنه لم يصل على الصفة المعتبرة شرعاً،
وقد ثبت في الحديث الصحيح من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)، فدل على أنه لما سلم أثناء الصلاة فقد حل منها، وبناءً على ذلك يكون تسليمه قبل انتهاء صلاته خروجاً من الصلاة، وقد خرج من الصلاة قبل كمالها فبطلت، وهذه المسألة تدل على أن من أراد أن يقطع الصلاة إذا أقيمت الصلاة فعليه أن يسلم حتى يصدق عليه أنه صلى،
ولذلك قالوا: من سلم قبل تمام الصلاة بطلت صلاته.وهذا يدل على أنهم معتبرون للتسليم، وأن التسليم يوجب الخروج من الصلاة، وكل هذا إذا بقي له ركن، أما لو سلم قبل الكمال الذي هو بمنزلة الفضل، كأن يكون سلم قبل الدعاء الأخير، فإن صلاته صحيحة؛ لأن الدعاء الأخير لا يعتبر ركناً ولا واجباً ولا شرطاً في صحة الصلاة، فلو أنه قرأ التشهد وأكمله وكان مستعجلاً وسلم صحت صلاته وأجزأته؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (إذا فعلت هذا -أي: الأركان- فقد تمت صلاتك).
وقوله: (وإن كان سهواً ثم ذكر قريباً أتمها وسجد) مثاله: أن يسلم من ركعتين في الرباعية، كما لو صلى الركعتين الأوليين من الظهر وجلس للتشهد، ثم ظن أنه في الركعة الأخيرة فسلم، أو صلى الفجر ركعة ثم جلس يظن أنه في الأخيرة وتشهد وسلم، فكل هذه الصور داخلة تحت هذا الأصل الذي ذكره المصنف،
وهذا الحكم مبني على حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين أنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدمة المسجد فوضع يده عليها، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس،
فقالوا: قصرت الصلاة،
فقام رجل يقال له: ذا اليدين فقال: يا رسول الله: أنسيت أم قصرت الصلاة؟
فقال: لم أنس ولم تقصر،
فقال: بلى، قد نسيت،
فسأل الصحابة: أصدق ذو اليدين؟
فقالوا: نعم.فصلى ركعتين، ثم تشهد، ثم سلم، ثم سجد سجدتين بعدما سلم) صلوات الله وسلامه عليه.وهذا الحديث يدل على مسائل،
منها: أن من سلم من صلاته ساهياً يجوز له أن يرجع فيتم ما فاته ويستدركه، وأنه يسجد للسهو لمكان الزيادة، وبناءً على ذلك فمن صلى الصبح ركعة وسلم فإنه يرجع، وإذا رجع يجلس كحال المتشهد ليأتي بصفة القيام من الجلوس إلى القيام، فيقوم ويقرأ الفاتحة ويتم الركعة، ثم يجلس للتشهد ويسلم، فإذا سلم سجد بعد السلام سجدتين، وهاتان السجدتان لمكان الزيادة، ووجه الزيادة أنه زاد في تشهده، ثم زاد السلام بعد التشهد، وهذه الزيادة التي وقعت وهي من جنس الصلاة شرع لها جبر، وذلك بسجوده بعد السلام.فإذا ثبت أن من سلم من نقص يلزمه التمام، فهل كل من ذكر النقص في الصلاة يرجع ويتمها؟a هذه المسألة فيها تفصيل، فلو أن إنساناً صلى الركعتين وسلم بعد انتهائه منها وبقيت له ركعتان، كأن يكون في الظهر أو العصر أو العشاء، فإن تذكر في المسجد فإنه يشرع له أن يرجع ويتم الصلاة، سواء أطال الوقت أم قصر، ويستوي في هذا أن يكون في مكان صلاته، أو يكون في غير مكان الصلاة.والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من مكان الصلاة وانتقل إلى جوار الجذع، فخرج عن المكان الذي صلى فيه، لكنه داخل المسجد، فاشترط أن يكون ذكره حال كونه داخل المسجد، فلو خرج من المسجد انقطع التدارك ولزمه الاستئناف.وقال بعض العلماء: إن طال الزمان بين تسليمه من الركعتين وذكره يلزمه أن يستأنف.واختلفوا في قدر الطول والقصر على تفصيل.ولكن الأشبه والأقوى أن يرجع إلى المصلى ولو طال الزمان ما دام أنه في المسجد، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع، فدل على أنه في حال المصلي،
مع وقوع الكلام الأجنبي الذي ليس هو من ألفاظ الصلاة كقوله: (ما نسيت ولم تقصر)،
وقوله: (أصدق ذو اليدين؟)، فهذا كله كلام ليس من أذكار الصلاة، وإن كان مشروعاً لمصلحة الصلاة.فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى الصلاة، واعتبر هذا الفاصل مع وجود الكلام غير مؤثر في الصلاة، وعلى هذا فيشرع للإمام والمنفرد أن يرجعا إلى صلاتهما ويتما على الصورة التي ذكرنا.أما لو أنه خرج من المسجد فإنه يستأنف الصلاة، سواءٌ أطال الوقت أم قصر، فلو أنه سلم من ركعتين وخرج من المسجد مباشرة فإنه حينئذٍ لا يتدارك، وإنما يرجع ويستأنف الصلاة؛ إذ قد بطلت صلاته الأولى بالخروج من المحل، فاعتبر المحل لتصحيح بنائه على صلاته الأولى.وبناءً على ذلك فلو أوقع شخص صلاة بين الركعتين الأوليين من الظهر والركعتين الأخريين، كأن صلى الظهر ثم سلم من ركعتين ساهياً، ثم قام وصلى ركعتين نافلة، ثم بعد أن صلى الركعتين تذكر أنه سلم من اثنتين فعليه أن يرجع ويتم الصلاة، وذلك لأن الصلاة التي أوقعها من جنس الصلاة، وهذا ظاهر.ومثله لو طاف إنسان شوطين، ثم أقيمت الصلاة المفروضة فصلى، ثم رجع وبنى فهو من جنس الطواف،
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الطواف بالبيت صلاة)، فلم يجعل دخول الصلاة بين الأشواط الأولى والأشواط الأخيرة فاصلاً؛ لأنه من جنس الطواف من جهة كونه صلاة.وهكذا لو أوقع نافلة بين الصلاتين المفروضة فيعذر لمكان السهو، وتصح صلاته لمكان الكمال والتمام.
[من فاته شيء في الصلاة ثم ذكر بعد السلام]
قال رحمه الله تعالى: [فإن طال الفصل، أو تكلم لغير مصلحتها بطلت ككلامه في صلبها، ولمصلحتها إن كان يسيراً لم تبطل].
في هذه المسألة مذاهب،
فبعض العلماء يقول: أعتبر في الفاصل بين الركعتين الأوليين والأخريين وجود الوقت الطويل، ويعبرون عنه بالفاصل كما درج عليه المصنف.
وطائفة من العلماء يقولون: لا عبرة عندنا بالفاصل، ما دام أن المكان لم يغادره المصلي إعمالاً لظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ظاهر السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى مصلاه وهو في المسجد،
فقالوا: نعتبر الحال والهيئة.وهذا المذهب أشبه من جهة دلالة حال النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكروه.
قوله: (أو تكلم لغير مصلحتها بطلت ككلامه في صلبها) أي: إذا تكلم بكلام أجنبي، كأن يسلم من ركعتين فيسأل الذي بجواره عن حاله، أو يكلمه في أمر ما من الأمور، أو سئل عن مسألة فأجاب، أو تكلم بكلام أجنبي ليس من ذكر الله عز وجل وليس من الصلاة، فإنه يستأنف الصلاة على هذا المذهب.والذي يختاره بعض العلماء أنه إذا تكلم بكلام أجنبي نزل منزلة الساهي، كمن تكلم ناسياً كونه في الصلاة،
قالوا: فإذا كان كلامه كثيراً فإن صلاته باطلة، وأما إذا كان يسيراً فلا تبطل الصلاة.
قوله: [ولمصلحتها إن كان يسيراً لم تبطل].
أي: إن كان الكلام يسيراً لمصلحة الصلاة لم تبطل،
فلو سلمت من ركعتي الظهر فقال رجل بجوارك: يا هذا: إن صلاتك لم تتم لأنك صليت ركعتين، فقلت له: لم أصل ركعتين.أو سألته متأكداً من قوله فحينئذٍ إذا رجعت مباشرة صحت صلاتك، وذلك أن سؤالك على سبيل الاستيقان والتثبت،
كسؤال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق ذو اليدين؟)، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه ذو اليدين فراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى تأكد وتحقق، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الكلام لمصلحة الصلاة ولتصحيحها لا يوجب البطلان.وفرعوا على هذا لو كنت وراء إمام أخطأ في صلاته بحيث لو سبحت له ازداد في الخطأ،
قالوا: يشرع أن تكلمه، فتخاطبه بالذي يفعله، ولا حرج عليك؛ لأن ذا اليدين خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بالذي يفعله، ولم يوجب ذلك الحكم ببطلان صلاته.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(واجبات الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (101)
صـــــ(1) إلى صــ(8)
شرح زاد المستقنع - باب سجود السهو [3]
ينتاب العبد في صلاته أمور كثيرة، منها ما قد يوجب إعادة الصلاة، ومنها ما يوجب نقصانها وجبرها بسجود سهو وغير ذلك، وكل حال من الأحوال التي تعرض للعبد في صلاته فإن لها أحكاماً نصت عليها أدلة السنة النبوية وبينها أهل العلم في مصنفاتهم، وفي هذه المادة كثير من تلك المسائل التي تتعلق بسجود السهو.
تابع أحكام سجود السهو
[حكم القهقهة والنفخ والانتحاب والتنحنح]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وقهقهة ككلام].
القهقة: هي الضحكة المعروفة،
والقهقهة للعلماء فيها قولان إذا وقعت في الصلاة: فمنهم من يقول: من ضحك في صلاته فإن صلاته باطلة ويلزمه أن يعيد الوضوء.وهذا مذهب الحنفية.
ومنهم من يقول: من ضحك في أثناء صلاته فصلاته باطلة ووضوءه صحيح، وهذه هو مذهب الجمهور.
واستدل الحنفية بحديث ضعيف وهو: (أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا أعمى تردى فضحكوا، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الوضوء والصلاة).
وهذا حديث ضعيف السند والمتن: أما ضعف سنده فالكلام فيه، وأما ضعف متنه فلأن الصحابة أورع وأتقى لله وأخشى من أن يروا أعمى ويضحكون عليه، خاصة وأنهم وقوف بين يدي الله عز وجل، بل إنهم أبعد من أن يضحكوا لو سقط الأعمى في غير صلاة، فكيف وهم واقفون بين يدي الله عز وجل؟!! فهذا حديث ضعيف لا يعول على مثله في بناء الأحكام عليه.وبناءً على ذلك فإذا قهقه أو ضحك في الصلاة فإن صلاته باطلة لخروجه عن كونه مصلياً، ولا شك أن الضحك في الصلاة يعتبر من الآثام، أما لو غلب الإنسان عليه، كأن ذكر أمراً لم يستطع دفعه فهذا له حكمه، لكن أن يضحك قاصداً متعمداً فهذا على خطر، ولذلك يخشى عليه أن يكون مستهزئاً، ومعلوم ما للمستهزئ بالدين من حكم، فالضحك في الصلاة على سبيل العبث واللهو واللعب أمر خطير،
ولذلك قال الله عز وجل: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} [الأنعام:70]،
فلذلك لا يجوز للإنسان أن يتشبه بأمثال الكفار الذين قال تعالى عنهم: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة:58]، فالاستهزاء في داخل الصلاة أمره عظيم، وهو من صنيع أهل النفاق والكفر، والعياذ بالله.ولا يقع من إنسان إلا إذا كان في قلبه مرض -نسأل الله السلامة والعافية-، أما لو غُلِب على ذلك فإنه يدل على ضعف إيمانه؛ لأنه لو استشعر مقامه بين يدي الله عز وجل، ووقوفه بين يدي الله ملك الملوك وجبار السموات والأرض، وأن الله مطلع عليه حال وقوفه لما ضحك، خاصة وأنه يتدبر ويتأمل الآيات، فإنه في هذه الحالة أبعد من أن يضحك، ولو تذكر ما يضحك الإنسان فإنه لشدة الهيبة والمقام بين يدي الله يستطيع أن يتماسك ويمتنع من الضحك.فنسأل الله العافية من هذا البلاء، ونسأل الله أن لا يبتلينا بالاستخفاف بعظمته وهيبة المقام بين يديه.وقد قال بعض العلماء مستنداً إلى بعض الأحاديث،
وإن كان قد تكلم في سندها: (إن مقام الناس بين يدي الله يوم القيامة على قدر خشوعهم في الصلاة).فيقف الإنسان بين يدي الله يوم القيامة على قدر ما كان منه من حال أثناء صلاته، فإن كان أثناء وقوفه بين يدي الله في الصلاة يعظمه ويجله كان مقامه بين يدي الله يوم القيامة على أكمل المقامات وأتمها وأحبها إلى الله، ويكون حاله على حال السعداء، وإن كان حاله على الاستخفاف والتلاعب والتشاغل فهو بحسبه، نسأل الله السلامة والعافية.
قال رحمه الله تعالى: [وإن نفخ، أو انتحب من غير حشية الله تعالى، أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت].
وقوله: (وإن نفخ) النفخ في الصلاة هو إخراج الهواء من الفم، ويكون في بعض الأحوال متضمناً لبعض الحروف والكلمات، خاصة إذا كان نفخه فيه شيء من التأوه والتألم والتضجر والسآمة، فإنه في هذه الحالة يخرج شيء أشبه بالأصوات، فقد يقول: آه.فإن فيه الهمز والهاء، وهذان حرفان.
وقوله: (أو انتحب من غير خشية الله) أي: بكى، وذلك كالشخص الذي يكون حزيناً لأمر، فيدخل في الصلاة وهو حديث عهد بالحزن، فيبكي في صلاته لحزنه لا لخشية الله، فهذا البكاء إذا كان فيه نحيب وصوت فإنه يوجب بطلان صلاته.
وقوله: (أو تنحنح لغير حاجة) التنحنح استثناه بعض العلماء لحاجة، كأن يجد في صدره ما يوجب التنحنح، أو يتنحنح للتنبيه،
فقالوا: إنه يكون في حكم التسبيح،
وقد جاء عن علي رضي الله عنه أنه: (كان إذا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بالليل تنحنح له عليه الصلاة والسلام)، فهذا يعتبره العلماء بمثابة التسبيح؛ فإن التسبيح فيه حروف وجمل، فإن (سبحان الله) جملة،
وبناءً على ذلك قالوا: لا تبطل الصلاة إذا وجدت الحاجة الداعية إلى أن يتنحنح، خاصة لورود حديث علي رضي الله عنه في السنن.أما إذا انتحب -وهو الصوت الذي يكون مع البكاء-، وكان نحيبه من خشية الله فبعض العلماء يقول: إذا أصدر الأصوات وأزعج فإن صلاته تبطل، وخرج عن كونه مصلياً،
وقد أثر عن عمر رضي الله عنه أنه: (كان يسمع نشيجه وبكاؤه من آخر الصفوف)، لكن هذا النحيب من عمر وأمثال عمر إنما هو من مغلوب عليه، أما أن يتكلف الإنسان ويحاول أن يغلب نفسه لكي تبكي، ويرفع صوته بذلك فلا شك أن هذا يوجب بطلان صلاته، خاصة إذا علت الأصوات وشوش على المصلين، ولا يأمن على صاحبه من الرياء، نسأل الله السلامة والعافية.ولذلك تجد بعض العلماء والأخيار والصالحين يغالب نفسه في البكاء، ويحاول أن لا يبكي حتى يغلب، وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه الله برحمته الواسعة (إذا خطب في الناس وبكوا قطع الخطبة وجلس خوف الرياء).فإذا كان الإنسان مغلوباً على البكاء فلا حرج، خاصة إذا كان من خشية الله عز وجل، أما إذا كان بكاؤه تكلفاً ويغالب به نفسه وحصلت من الأصوات الحروف فإنه يحكم ببطلان صلاته وخروجه عن كونه مصلياً.
[ترك الركن وغاية تداركه]
قال المصنف رحمه الله: [فصل: ومن ترك ركناً فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى بطلت التي تركه فيها].من ترك ركناً فإما أن يكون تكبيرة الإحرام، وإما أن تكون غيرها، فمن ترك تكبيرة الإحرام بطلت صلاته؛ لأن الصلاة لا تنعقد بغير تكبيرة الإحرام؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث علي: (تحريمها التكبير)، وهو حديث صحيح، فلو أن إنساناً وقف ظاناً أنه كبر تكبيرة الإحرام وقرأ الفاتحة وركع وسجد، ثم تذكر أنه لم يكبر تكبيرة الإحرام فصلاته لم تنعقد أصلاً، فتكبيرة الإحرام لا تنعقد الصلاة بغيرها.أما بالنسبة لغير تكبيرة الإحرام، كأن ترك قراءة الفاتحة، بأن كبّر ثم سها فقرأ السورة التي بعد الفاتحة، ثم ركع، فتذكر وهو في الركوع أو بعد الركوع،
فحينئذٍ قال بعض العلماء: من نسي ركناً وشرع في الركن الذي يلي الركن الذي بعده فإنه يلزمه قضاء الركعة؛ لأنهم يرونه بدخوله في الركن البعدي قد ابتعد ولم يمكنه التدارك؛ لأنه قد اشتغل بركن غير الركن الذي هو فيه، فلا يرجع.
وقال بعضهم: العبرة بأربعة أركان، فإن دخل في الركن الرابع لم يرجع للذي قبله؛ لأنه في الركن الأول والثاني والثالث يمكنه أن يتدارك، أما فيما بعد الأركان الثلاثة بدخوله للرابع فإنه لا يمكنه التدارك.
وقال بعضهم: إن دخل أو شرع في قراءة الركعة التي بعد الركعة التي سها فيها فحينئذٍ قد خرج عن التدارك، وإن كان قبل ذلك يتدارك.وهذا هو الذي درج عليه المصنف، وهو الأقوى والأرجح إن شاء الله، فمن نسي ركناً وتذكر هذا الركن قبل أن يدخل في قراءة الركعة التي تلي الركعة التي سها فيها فإنه يرجع ويتدارك الركن، فلو نسي الفاتحة فركع وتذكر وهو راكع فإنه يرفع رأسه بدون ذكر، ويقرأ الفاتحة ويقرأ السورة التي تليها، ويتم الصلاة على سننها وطريقتها، ثم يسجد بعد السلام؛ لأنه زاد ركن الركوع قبل أن يفعل ركن القراءة.وكذلك لو تذكر في ركن ثان، كأن نسي قراءة الفاتحة وركع ثم رفع من الركوع، فإذا تذكر في حال الرفع من الركوع فإنه يقرأ الفاتحة ثم ما بعدها من سورة، ثم يتم الصلاة على سننها ويسجد للزيادة.وكذلك لو تذكر أنه لم يقرأ الفاتحة وهو في السجدة الأولى، أو بين السجدتين، أو في السجدة الثانية من الركعة التي نسي فيها، فإنه يقوم مباشرة بدون ذكر ويقرأ الفاتحة والسورة التي تليها، ويتم الصلاة على سننها ويسجد للزيادة.والسبب في هذا أنه بمجرد تركه للركن لا يزال خطاب الشرع عليه بقراءة الفاتحة، فلما ركع أوقع الركوع في غير موقعه؛ لأن الركوع في هذه الركعة لا يصح إلا بعد قراءة الفاتحة، فكأنه فعل شيئاً خارجاً عن الصلاة، فلم يعتد بوقوع ذلك الشيء ورجع للتدارك، وهكذا لو رفع أو سجد أو كان بين السجدتين، ففي الجميع قد توجه عليه الخطاب أن يقرأ الفاتحة فيرجع تداركاً لأمر الشرع، ويكون انتقاله لهذه الأركان مغتفراً لمكان السهو، ويلزم بسجود السهو البعدي لمكان الزيادة، فقد زاد شيئاً من جنس الصلاة، فهذا وجه كونه لم يرجع ما لم يدخل في ركعة ثانية.أما لو دخل في الركعة الثانية، كما لو نسيت الفاتحة فركعت ورفعت وسجدت، ثم سجدت السجدة الثانية، ثم قمت إلى الركعة الثانية وقرأت الفاتحة، فقد دخلت في ركعة جديدة، وألغيت ركعتك الأولى،
وحينئذٍ وقع الخلاف في كونه يلفق أو يلقي: فقال بعض العلماء: يلغي الركعة الأولى كأنها لم توجد؛ لأن هذه الركعة وجودها وعدمها على حد سواء.
وقال بعضهم: يقضي ركعة بعد انتهائه من الصلاة.
وفائدة الخلاف: أنك لو صليت الركعة الأولى ونسيت فيها الفاتحة، ثم قمت إلى الركعة الثانية وشرعت في قراءة الفاتحة، فبعد انتهائك من الركعة الثانية فإنك على أحد القولين تقوم بناءً على أن الركعة الأولى ألغيت وأنت في الثانية، وهو الأقوى والأصح إن شاء الله.وعلى القول الآخر تجلس للتشهد، ثم تأتي بالركعتين الأخريين، ثم تقضي ركعة كاملة.والأقوى ما ذكرناه؛ لأن الأولى تلغى لكونها غير معتدٍ بها، ويلزمه أن يأتي بالركعة الثالثة بعد الركعة الثانية على الصورة المعهودة في الصلوات.
قال رحمه الله تعالى: [وقبله يعود وجوباً فيأتي به وبما بعده].
أي: قبل أن يشرع في الركعة الثانية يرجع ويتدارك وجوباً، كما لو نسي الفاتحة وتذكرها وهو راكع فإنه يرجع مباشرة، وهكذا لو تذكرها وهو ساجد، وقس على هذا.قال رحمه الله تعالى: [وإن علم بعد السلام فكترك ركعة كاملة].ذلك بأنه إذا لم يقرأ الفاتحة في الأولى، أو الثانية، أو في الثالثة، أو الرابعة فكتركه لركعة،
أي: يلزمه أن يرجع إلى مصلاه، أو يستقبل القبلة إن بعد عنه المصلى ويتم ركعة كاملة.
فكأنه يقول: ابن الحكم في هذه المسألة على المسألة التي تقدمت معنا فيمن سلم من ركعتين، فلو أنك سهوت عن الفاتحة ولم تتذكر إلا بعد السلام، فإن طال الفصل فإنك حينئذٍ تستأنف الصلاة وتعيدها كاملة، وإن لم يطل الفصل فحينئذٍ تأتي بركعة كاملة.فهذا وجه تشبيهه؛ لأنه كتركه لركعة، وبناءً على ذلك فإن طال فصله فعلى مذهب المصنف رحمه الله يستأنف الصلاة وتبطل صلاته الأولى، وإن لم يطل الفصل فإنه يبني ويأتي بركعة كاملة قضاءً لهذه الركعة التي اختلت بفوات ركنها.
وأما على المذهب الذي قلنا: إنه أقوى فعلى ظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن تذكر أنه لم يقرأ الفاتحة وهو داخل المسجد فإنه يستقبل القبلة ويتم صلاته على الصورة التي ذكرناها.
[ترك التشهد الأول ومتى يتدارك حال النسيان]
قال رحمه الله تعالى: [وإن نسي التشهد الأول ونهض لزمه الرجوع ما لم ينتصب قائماً].هذه المسألة تتعلق بنسيان الواجبات، والمسألة الأولى في نسيان الأركان، فذكر لك رحمه الله حكم ما إذا نسي الركعة بكاملها، وفصّل لك بين أن يطول الفصل وألا يطول، ثم إن نسي جزء الركعة، وفصّل بين أن يتذكر داخل الصلاة أو بعد الفراغ من الصلاة، ثم انتقل إلى نسيان الواجبات، كأن ينسى التشهد الأول ويقوم إلى الركعة الثالثة، فإذا نسي التشهد الأول، كما لو صلى الركعة الأولى والثانية، ثم بدل أن يجلس للتشهد انتصب قائماً، فحينئذٍ إذا انتصب قائماً فإنه انتصب عوده واستتم قائماً فإنه لا يرجع إلى التشهد، ويسقط عنه التشهد لحديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه وأرضاه،
وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس، وسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم)، ومثله حديث المغيرة بن شعبة حينما كان أميراً على الكوفة، فإنه سها وقام ولم يجلس في التشهد الأول، فسبحوا له،
فأشار إليهم أن: قوموا.ورفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل فدل هذا على أن من نسي التشهد الأول واستتم قائماً أنه لا يرجع، بل يمضي في صلاته، ثم يسجد سجدتي السهو قبل السلام تداركاً لهذا الواجب الذي تركه.
وهناك أقوال أخر للعلماء في هذه المسألة: فقد قال بعضهم: بمجرد مفارقته للأرض لا يعود.-
وقال بعضهم: إذا استتم قائماً وشرع في الفاتحة.-
وقال بعضهم: ما لم يركع.فهذه كلها أقوال للسلف رحمهم الله.وأقواها أنه يعود ما لم يستتم قائماً؛ لأنها صورة حال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه انتصب قائماً، ولم يذكر الراوي شروعه في الفاتحة، ولا قدر الشروع في الفاتحة، والذي يظهر أن الصحابة رفعوا رءوسهم مباشرة، وأنت إذا تأملت حاله فالغالب أنه إذا كبّر عليه الصلاة والسلام فتكبيره كان مقارناً بقيامه، فإذا تأملت حال الصحابة أنهم رفعوا رءوسهم سيكون تسبيحهم بمجرد استتمامه قائماً، ولا شك أنه يقوي القول بأنه قبل قراءته للفاتحة، وأن العبرة باستتمامه قائماً، فكما أنه قوي من جهة الأثر فإنه قوي من جهة النظر؛ لأنه إذا استتم قائماً قد دخل في الركعة التي تلي واجب التشهد، فيقوى حينئذٍ اشتغاله بالركن عن الرجوع إلى الواجب.
وعليه فيقوى أن يقال: إنه يتم بناءً على وقوفه، ولا يشترط قراءته للفاتحة.قال رحمه الله تعالى: [فإن استتم قائماً كره رجوعه وإن لم ينتصب لزمه الرجوع، وإن شرع في القراءة حرم الرجوع وعليه السجود للكل].المصلي إذا يستتم قائماً، كأن تحرك أو وثب فلما وصل إلى درجة الركوع سبحوا له فإنه يلزمه الرجوع؛ لأنه لا يعتبر متلبساً بالركن ولا داخلاً فيه إلا عند استتمامه بالقيام، ويلزمه حينئذٍ الرجوع، وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم،
وهذا مفاد قوله: (وإن لم ينتصب لزمه الرجوع) وحينئذٍ إذا تركه متعمداً بطلت صلاته، فلو أنه تحرك للقيام فسبحوا له وعلم أنه قد ترك التشهد فقام عالماً متعمداً، ولم يتأول مذهب من يقول بمفارقة الأرض، فحينئذٍ يحكم ببطلان صلاته؛ لأن من ترك واجباً من واجبات الصلاة متعمداً بطلت صلاته.
قوله: [وإن شرع في القراءة حرم الرجوع] أي: حرم عليه أن يرجع إلى التشهد، فبين لك رحمه الله متى يلزم بالرجوع للتشهد، ومتى يلزم بالبقاء وإتمامها،
فقال: إن فارق الأرض ولم يستتم قائماً وجب عليه أن يرجع؛ لأن الخطاب متوجه عليه بالجلوس للتشهد، وإن استتم قائماً لزمه إتمام الركن؛ لأن الخطاب متوجه عليه بإتمام الركعة، وحينئذٍ لا يرجع للتشهد، فلو رجع فقد حكم بعض العلماء ببطلان صلاته؛ لأنه زاد ركن القيام.
وقال بعضهم: يحكم ببطلان صلاته؛ لأنه زاد التشهد بعد سقوطه عنه.وكلا القولين والتخريجين صحيح.وقال بعض العلماء بالتفريق بين الجاهل وبين العالم على الأصل الذي يسلكه بعض الأصوليين في العذر بالجهل، وكون الجاهل يعذر بالجهل بعد استقرار الأحكام أو لا يعذر مسألة معروفة عند الأصوليين.
وقوله: [وعليه السجود للكل].
فيه صورتان: الأولى: أن يستتم قائماً ويقرأ الفاتحة ولا يرجع، فيكون سجوده عن نقص، ويكون قبل السلام.
الثانية: أن يكون قد ارتفع من الأرض ولم يستتم قائماً ورجع فيكون سجوده للزيادة؛ لأنه زاد الحركة -التي هي قيامه ومفارقته للأرض قبل استتمامه- ما بين جلوسه وما بين استتمامه قائماً، وهذه الحركة زائدة؛ لأنه مطالب أن يجلس للتشهد، فكونه يزيد الوقف أو التحرك للوقوف فإنه يطالب بسجدتي السهو جبراً لهذه الزيادة.
ولما كان المذهب لا يفرق بين الزيادة والنقص قال: (وعليه السجود) للكل وسكت، لكن من يفصل يقول: يسجد للزيادة إن كان قد رجع، ويسجد للنقص إن كان قد استتم قائماً.
[الشك في الركعات والأركان]
قال رحمه الله: [ومن شك في عدد الركعات أخذ بالأقل، وإن شك في ركن فكتركه].بعد أن بيّن لنا رحمه الله النقص والزيادة وأحكامها في سجود السهو شرع بإلحاق مسائل ملتحقة بهذا، وهي تصرف الإنسان في حال الشك.
والشك: هو استواء الاحتمالين، فلو صليت الصبح ولم تدر هل صليت الركعة الثانية، أم صليت ركعة واحدة فحينئذٍ كأنك لم تصل الثانية إذا استوى عندك الاحتمالان، أما لو ترجح عندك أو غلب على ظنك رجحان أحد الاحتمالين فحينئذٍ تبني على غالب ظنك، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام سلم من اثنتين، بناءً على ظنه الغالب.
وقال بعض العلماء: الشك والتردد يوجب البناء على الأقل مطلقاً.والأقوى أنه يتحرى الصواب ويبني على غالب ظنه.والبناء على غالب الظن هو أن توجد قرائن تدل على أنه ليس في الركعة الثانية، كأن يحس أن الوقت قصير جداً بحيث لا يتسع لصلاة ركعتين، فحينئذٍ يبني على واحدة، أما لو أحس بطول الزمان، وقراءته قليلة، وغلب على ظنه أنه صلى الركعتين فحينئذٍ يبني على أنه أتم الصلاة ولا يأتي بالركعة الثالثة.
والأصل في هذا حديث أبي سعيد الخدري في الصحيح أن النبي صلى قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى تماماً كانتا ترغيماً للشيطان)، فدل على أنه مطالب بالأخذ بالأقل،
وهذا مفرّع على القاعدة المشهورة: (اليقين لا يزول بالشك)،
فمن كان شاكاً: هل صلى واحدة أو اثنتين فهو على يقين من واحدة وشك من اثنتين، واليقين أنه مأمور بركعتين، فحينئذٍ لا تبرأ ذمته إلا بيقين، فيلزمه حينئذٍ أن يأتي بالركعة الثانية، ويقاس على هذا تكبيرات الجنائز، فلو شك هل كبّر واحدة أو اثنتين فإنه يبني على واحدة، ولو شك في أشواطه في طوافه بالبيت فإنه يبني على الأقل، وهكذا السعي بين الصفا والمروة، فكل هذا يبني فيه على الأقل، وفي الصلاة يسجد سجدتين قبل أن يسلم.وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من هاتين السجدتين، فقال: (إن كان صلى تماماً -
يعني: أربعاً- كانتا ترغيماً للشيطان)، وذلك أن الشيطان يتألم من سجود ابن آدم،
فإذا رأى ابن آدم ساجداً تولى يصيح: يا ويله! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار.فإن كنت صليت تماماً فيكون بناؤك صحيحاً واعتبارك لليقين صحيحاً، وتكون السجدتان ترغيماً للشيطان؛ لأنه أدخل عليك الوسوسة بالشك فيؤذى بالسجود، وأما إن كانت صلاتك زائدة وكانت الركعة التي صليتها ركعة خامسة في رباعية، أو رابعة في ثلاثية، أو ثالثة في ثنائية، فإن السجدتين تشفعان هذه الركعة، فتلغيانها كأنها لم توجد، وصلاتك صحيحة ومعتبرة.
وقوله: [وإن شك في ترك ركن فكتركه]،
أي: إذا شك في ترك الفاتحة أو عدم تركها فإنه كما لو تركها، ويلزمه أن يقرأ الفاتحة، وهكذا أي ركن سواها.
[حكم الشك في ترك واجب]
وقوله: [ولا يسجد لشك في ترك واجب أو زيادة].
فرق العلماء بين الواجب والركن لوجود الأصل في الركن الذي دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أم اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثاً فليبن على اثنتين)، فاعتبر عليه الصلاة والسلام في الأركان الأقل، وبقي الواجبات على الأصل، وبناءً على ذلك فإنه يلزم بسجود السهو إذا تيقن أن شكه باطل، سواء أتيقن أثناء أدائه أم تيقن بعد انتهائه.
مثال ذلك: لو قام إلى الركعة الخامسة ظاناً أنه قد صلى ثلاثاً، وأن هذه التي قام لها هي الرابعة، فإنه إذا تذكر أثناء صلاته للركعة الخامسة وأدائه لها لزمه أن يجلس مباشرة، وحينئذٍ يسجد بعد السلام لمكان الزيادة بالقيام والقراءة إن وجدت.وكذلك الحال لو تذكر أنه لم يفعل واجباً ثم تبين له أنه فعله،
كما لو رفع رأسه من الركوع فقال: (سمع الله لمن حمده)،
ثم شك: هل قال أو لم يقل، أو شك هل كبر للسجود أو للركوع أو لم يكبر؟ هذه الواجبات إذا شك في وقوعها فإنه حينئذٍ يتدارك إذا أمكنه التدارك، وأما إذا لم يمكنه التدارك فإنه حينئذٍ يسجد للسهو قبل السلام،
على الأصل الذي ذكرناه: أن نقص الواجبات يجبر بسجود السهو.
[ما يحمله الإمام عن المأموم]
قال رحمه الله تعالى: [ولا سجود على مأموم إلا تبعاً لإمامه].وهذا مبني على أن الإمام يحمل عن المأموم نقص الواجبات، ولا يحمل عنه نقص الأركان، ويحمل عن مأمومه الزيادة، فإذا زاد المأموم وراء إمامه سهواً فإن الإمام يحمل عنه هذه الزيادة.فلو أنك كنت وراء الإمام، فسهوت وركعت ظاناً أن الإمام راكع، أو قرأ الإمام فاختلجت عليك القراءة فظننت أنه يكبر فكبرت راكعاً، فهذه زيادة وراء الإمام، وهي ركن، فالإمام يحمل عنك هذا الركن الذي زدته.وكذلك لو زدت واجباً وراء الإمام،
فعلى القول بأن المأموم يقتصر على قوله: (ربنا ولك الحمد) فإن قلت وراء الإمام ساهياً: (سمع الله لمن حمده) فزدت واجباً، فإن الإمام يحمل عنك هذا الواجب الذي زدته سهواً.
والدليل على أن الإمام يحمل عن المأموم الواجبات ظاهر حديث أبي هريرة عند أبي داود وأحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن)، وهذا الضمان فسره غير واحد من أهل العلم أنه حمل الإمام عن المأموم.وبناءً على ذلك فيحمل عن المأموم الواجبات إذا نسيها، ويحمل عنه زيادة الأركان، فيعتبر كأنه لم يزد في صلاته إذا كان وراء إمامه.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(واجبات الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (102)
صـــــ(9) إلى صــ(17)
[حكم سجود السهو]
قال رحمه الله تعالى: [وسجود السهو لما يبطل عمده واجب].أي أن سجود السهو لجبر الواجبات وجبر الأركان واجب.
وقد اختلف العلماء في حكم سجود السهو: فمنهم من قال: إنه واجب.
ومنهم من قال: إنه سنة.ومنهم من يفصل بين سجود الزيادة وسجود النقص، فيوجبه في النقص ولا يوجبه في الزيادة.
والصحيح وجوبه على العموم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فليسجد سجدتين)، فهذا أمر والأمر ظاهره الوجوب، ولا دليل يدل على صرف هذا الأمر عن ظاهره.فالأصل في سجود السهو أنه للوجوب، لكن هذا الوجوب يتقيد في جبر الواجبات؛ والأركان لا تجبر إلا بفعلها.وبناءً على ذلك فإن سجود السهو لجبر الواجبات واجب، أما لو سها في صلاته بزيادة ذكر في غير موضعه كقراءة الفاتحة في حال الركوع أو السجود فإنه يشرع ولا يجب، على التفصيل الذي ذكرناه عند كلام المصنف رحمه الله على زيادة الأقوال المشروعة في غير موضعها.
قال رحمه الله تعالى: [وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام فقط وإن نسيه وسلم سجد إن قرب زمانه].سجود النقص إذا تركه متعمداً بطلت صلاته إذا كان السجود قبل السلام، أما عند من يقول بالسجود بعد السلام فإنه يمكن أن يتدارك بعد سلامه، فلو تعمد ترك السجود عند من يقول بوجوبه فهو كترك واجبات الصلاة، وهذا المذهب صحيح، فمن ترك واجباً كالتسميع والتحميد وتكبيرات الانتقال، ثم علم أنه ترك هذا الواجب ناسياً، وتعمد ترك سجود السهو قبل السلام بطلت صلاته كما لو ترك واجباً متعمداً، وذلك أن سجدتي السهو جبر، لهذا الواجب، فكونه يترك سجدتي السهو متعمداً كما لو تعمد ترك هذا الواجب أصالة، وبناءً على ذلك تبطل صلاته بترك سجود السهو من هذا الوجه.
وقوله: [وإن نسيه وسلم سجد إن قرب زمانه] أي: إن نسي سجود السهو جبره إن قرب زمانه، كالحال في الأركان، فإذا كانت الركعات يمكن تداركها مع قرب الزمان فإن الواجبات من بابٍ أولى وأحرى.
مثال ذلك: لو صليت فنسيت تكبيرات الانتقال أو التسميع أو التحميد، أو نسيت التشهد الأول، ثم صليت وسلمت ونسيت أنك قد نسيت هذا الواجب فلم تسجد للسهو، ومكثت في مصلاك، ثم تذكرت قبل أن يطول الفصل فإنك تسجد سجدتي السهو وتسلم، ولا يلزمك شيء.وكذلك الحال لو أنه قام من مصلاه -على القول بأنه ما دام في داخل المسجد- ثم تذكر، فإنه يستقبل القبلة ويسجد سجدتي السهو، ويصح ذلك منه ويجزيه.
[تكرار السهو في الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [ومن سها مراراً كفاه سجدتان].
أي: من ترك أكثر من واجب فإنه تكفيه سجدتان، ويدل على ذلك ظاهر السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك التشهد الأول كان التشهد مشتملاً على الجلوس للتشهد، وعلى تشهده، وعلى التكبير الجلسة؛ لأن تكبيره الذي قام فيه للركعة واقع بعد التشهد.وبناءً على ذلك فقد حصل هنا أن ثلاثة واجبات قد تركت، فتداخلت في سجود النبي صلى الله عليه وسلم، واعتبرها بمثابة الواجب الواحد، فهكذا الحال لو ترك واجبات متفرقة فيسجد لها سجدتين وتجزيه، ويتداخل السهو في هذه المسألة.
الأسئلة
[حكم تكرار قراءة الفاتحة في الركعة الواحدة]
q رجل صلى الفجر، وفي قراءة السورة التي بعد الفاتحة سجد للتلاوة، ثم بعد الرفع سها وقرأ الفاتحة وسورة بعدها وتذكر قبل التسليم، فما الحكم في ذلك؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد: فإن هذا قد زاد ركناً قولياً وهو قراءته للفاتحة بعد قيامه من سجود التلاوة، ويلزمه أن يسجد بعد السلام، على القول بأن سجود الزيادة بعد السلام، وصلاته صحيحة إن شاء الله.
والله تعالى أعلم.
[حكم استئناف الصلاة من جديد إن علم نقصانها بعد الصلاة]
qرجل صلى الفجر وسلم بعد ركعة واحدة، وأخبر قبل أن يبرح من مكانه، ولكنه لم يتم بل استأنف الصلاة من جديد، فما هو الحكم؟
a هذا الفعل خلاف السنة، وبناءً على ذلك فلا شك أنه لو علم بالسنة وتعمد هذا الفعل فقد خالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدث وتنطع، وذلك أنه لم يجتزئ بالرخصة التي وسّع الله على عباده؛ لأنه كان يكفيه أن يستقبل قبلته ويتم ركعة واحدة، فتنطع واعتقد عدم الإجزاء فزاد على الشرع، ولذلك يعتبر فعله هذا من الحدث والابتداع، أما لو كان جاهلاً ولم يعلم الحكم وأحب أن يحتاط ويستبرأ فحينئذٍ يجزيه فعله، ولا حرج عليه.إلا أن بعض العلماء قال: إنه يعتبر منتهياً من الصلاة بالركعة الأولى من الركعتين الأخيرتين؛ لأنه لما قام وجاء بركعة تمت صلاته الأولى فيسجد حينئذٍ للسهو، وتجزئه صلاته في هذه الحالة لمكان العذر بالجهل، كما لو سها وزاد ركعة على صلاة ثنائية فصلاها ثلاثاً، فبهذا يكون قد صلى مرة واحدة على هذا القول، لكن القول الثاني يرى أنه قد صلى صلاتين: الصلاة الأولى لاغية والصلاة الثانية مستأنفة.
والله تعالى أعلم.
[موضع سجود السهو في الزيادة والنقص]
q صليت الظهر وأدركت مع الإمام الركعة الأخيرة، فلما سلم أكملت الصلاة، فلما قمت من الركعة الثانية نسيت التشهد، ثم في الركعة الثالثة جلست للتشهد سهواً، ثم قمت للرابعة، فهل السجود هنا قبل السلام أم بعده؟
a هذه المسألة اجتمع فيها سجود السهو للزيادة والنقص، أما النقص فلكونك قمت بعد الركعة الأولى من قضائك؛ لأن الأصل أنك بعد الركعة الأولى من القضاء تجلس للتشهد؛ لأن أصح أقوال العلماء أن من فاته شيء مع إمامه أنه يبني على صلاته على ظاهر حديث أبي هريرة في الصحيح، فكان يلزمك أن تجلس لهذا التشهد الأول، ويعتبر هذا تشهداً أولاً بالنسبة لك، وقد سهوت وأنت ترى هذا القول، فتكون قد تركت واجباً، فهذا هو النقص في صلاتك، ثم لما قمت إلى الركعة الثانية من القضاء والثالثة بالنسبة للصلاة كان يلزمك بعد سجدتها الثانية أن تقوم للركعة الرابعة، ولكنك جلست ساهياً على سبيل السهو، فحدثت زيادة التشهد بين الركعتين الأخريين، وليس في الأخريين من الظهر أو العشاء أو العصر تشهد بينهما، فهذا هو مكان الزيادة في صلاتك، فاجتمع في صلاتك وصف الزيادة ووصف النقص، فبعض العلماء يقول: إذا اجتمعت الزيادة والنقص اجتزأ بسجدتين قبل السلام، خاصة على مذهب المصنف ومن وافقه في كون السجود كله قبل السلام، وأما على مذهب من يرى التفصيل فهذا هو الذي يقع فيه الإشكال، فهل يغلب النقص فيسجد قبل السلام، أم يغلب الزيادة فيسجد بعد السلام، أم يجمع بينهما فيسجد قبلياً وبعدياً؟ فالوجه الأقوى عندهم: أنه يغلب جانب النقص لاتصاله بالصلاة ويسجد السجدتين، وتكون بهذا صلاته تامة صحيحة.
والله تعالى أعلم.
[صلاة من لا يجيد قراءة الفاتحة]
q هناك امرأة كبيرة في السن ولا تعرف أن تصلي بغير الفاتحة، وقد لا تجيد الفاتحة كذلك، ولا تحسن الحفظ لكبر سنها، فما هو العمل مع هذه المرأة الكبيرة؟
a إذا كان الشخص لا يستطيع أن يُعلّم الفاتحة لمكان صمم أو نحو ذلك أو لا يستطيع أن يضبط الفاتحة لكبر سنه وضعف ذاكرته، فإنه يحفظ قدر ما يستطيع، ويجزيه ذلك القدر الذي يمكنه حفظه ولو آية من الفاتحة، فإذا حفظه أجزأه.ثم قال بعض العلماء: يسبح ويكبر ويذكر الله عز وجل على قدر ركن الفاتحة؛ لأن الله أوجب عليه أمرين: الأمر الأول: قراءته للفاتحة.الأمر الثاني: إن تعذر عليه أن يقرأ الفاتحة في الوقت المستغل للفاتحة فعليه أن يقرأ قدر ما يستطيع من الآيات، ثم يذكر الله بقدر قراءة الفاتحة، ثم يركع، ثم يفعل ذلك في بقية الركعات الأخر.
والله تعالى أعلم.
[تحية المسجد لمن فارق المسجد بنية الرجوع إليه]
q من خرج من المسجد وفي نيته الرجوع كمن أراد الوضوء، فهل تجب عليه تحية المسجد، أثابكم الله؟
a جماهير أهل العلم على أن من خرج من المسجد ولو خطوة واحدة يلزمه أن يصلي ركعتي التحية، وهذا القول هو الذي دلت عليه السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، فقوله: (إذا دخل) يعيد ذلك، فإن الإنسان بمجرد خروجه من الباب ورجوعه ثانية يصدق عليه أنه دخل، وبناءً على ذلك يستوي أن يطول الزمان أو يقصر.أما القول بأنه إذا كان في نيته أن يرجع فلا يصلي تحية المسجد فهذا القول محل نظر؛ لأنه ما من إنسان صلى فرضاً من الفروض إلا وفي نيته أن يرجع ليصلي الفرض الذي بعده، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابي: (قم فاركع ركعتين) وأمره أن يترك الاستماع للجمعة من أجل هاتين الركعتين لكونه دخل المسجد، ولم يقل له: هل كان في نيتك أن تعود إلى المسجد، أو لم يكن في نيتك؟ ثم إن التفصيل بأنه إذا قرب العهد كما لو ذهب ليتوضأ ورج لا يصلي، وإن طال العهد يصلي، تفصيل وتفريق بدون دليل؛ لأن الطول والقصر يحتاج إلى دليل باعتبار الأصل، والأصل لم يقم عليه دليل، فلا وجه للتفريق بين طول الزمان وقصره؛ لأنه استحسان، والاستحسان لا يعارض العموم، فإن عموم النص: (إذا دخل أحدكم المسجد) يلزم المكلف بأداء هذه الصلاة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم كل داخل إلى المسجد، وهذا القول لا شك أنه قول جماهير العلماء، وهو أولى بالصواب لدلالة السنة عليه.وبعض العلماء يستثني النية، وهذا مذهب مبني على تغليب الباطن على الظاهر، فيقولون: في الظاهر أنه دخل، لكن كونه في نيته أن يعود فإنه في حكم الجالس في المسجد.وهذا محل نظر؛ فإنه بخروجه عن المسجد لا يعطى حكم المصلي، فخرج عن كونه في المسجد أصلاً، ولذلك لو فعل الأفعال التي تخالف مقصود المسجد من بيع وشراء صح منه ذلك وأجزأه، ولا عتب عليه ولا ملامة؛ لأنه خارج عن كونه في المسجد، وتغليب الباطن على الظاهر لا يقع إلا في صور، وليست هذه الصور منها، أي: كونه في نيته أن يرجع، فهذا تغليب للباطن على الظاهر، ولا شك أن إعمال الظاهر الذي دلت عليه السنة أقوى وأولى.
والله تعالى أعلم.
[الأحكام المترتبة على سقوط الجنين وهو ابن ثلاثة شهور]
qما هي الأحكام المترتبة على سقوط جنين عمره نحو ثلاثة شهور، لم تتضح أعضائه، وذلك فيما يتعلق بصيام المرأة التي أسقطت وصلاتها؟
a إذا أسقطت المرأة وكان الذي أسقطت ليس فيه صورة الخلقة واسترسل معها الدم، فإن هذا الدم دم استحاضة وليس بدم نفاس على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، فالعبرة بالتخلق، فإن وجد في هذا الذي سقط منها صورة الآدمي، أو صورة أعضائه وأجزائه أخذت حكم النفاس وامتنعت مما تمتنع منه النفساء.أما لو لم تكن فيه صورة الخلقة فإن هذا الدم لا يعتبر دم نفاس ما لم تميزه، فإن ميزت أنه دم حييض دخلت في حكم الحيض، كأن يجري معها يومين أو ثلاثة أيام ثم ترى أوصاف دم الحيض، فتكون قد انتقلت من الاستحاضة التي كانت عقب الإسقاط إلى الحيض الذي دخلت فيه بصفته.
والله تعالى أعلم.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة التطوع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (103)
صـــــ(1) إلى صــ(7)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة التطوع [1]
صلاة التطوع هي الصلاة النافلة غير الواجبة،
وتنقسم إلى: قسم محدد مقيد، وقسم مطلق غير مقيد،
فمن الأول: الكسوف، والاستسقاء، والتراويح، والوتر، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل، وينبغي على المؤمن الحرص على النافلة قدر المستطاع.
[صلاة التطوع]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [باب صلاة التطوع].تقدم تعريف الصلاة، وأما التطوع فهو تفعُّل من الطاعة،
يقال: تطوع الرجل: إذا تبرع بالشيء،
وأصل التطوع: النافلة التي ليست بواجبة على المكلف، ولذلك يوصف كل شيءٍ فعله الإنسان من العبادات دون أن يكون لازماً عليه على سبيل القربة والطاعة لله عز وجل بكونه تطوعاً،
فيقال: هذه صلاة تطوعٍ، وهذه صدقة تطوعٍ.ونحو ذلك،
كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِين َ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:79]، فالمراد بهم المتبرعون بصدقاتهم الذين دفعوها ولم تكن لازمةً عليهم.ومن فوائد هذه النوافل أنه إذا كان هناك نقص في الفرائض فإنها تجبر بما كان من النوافل، وهذه النوافل فيها حِكَم، خاصةً إذا كانت قبل العبادات المفروضة، فإنها تهيئ المكلف لفعل العبادة المفروضة، فإذا دخل الإنسان إلى العبادة المفروضة وكان قد تنفل قبلها قويت نفسه على العبادة المفروضة لحدث عهده بالطاعة، وتوضيح ذلك أن الإنسان إذا دخل مباشرةً إلى الفريضة يكون إقباله على الله في حال أضعف من حاله إذا سبق الفريضة بنافلة،
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)، إذا سبق الفريضة بنافلةٍ فإن نفسه تقوى على أداء الفريضة أكثر، ويكون أكثر انشراحاً صدره، وأقوى لفهم آيات ربه.
[أقسام صلاة التطوع]
الصلاة التي توصف بكونها تطوعاً تنقسم إلى قسمين: قسم محدد ومقيد، وقسم مطلق غير مقيد، ولا شك أن المحدد يعتبر أفضل من المطلق، وذلك أن تحديد الشرع له يدل على عنايته به، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن فضل النوافل المقيدة بأحاديث،
منها قوله صلى الله عليه وسلم: (ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها).
وإخباره عن الله تعالى في الحديث القدسي أنه قال: (يا ابن آدم اكفني أربع ركعات في أول اليوم أكفك آخره).ففي هذه النوافل المقيدة كصلاة الضحى وركعتي الفجر فضل وعلو درجة على النافلة المطلقة، وأفضل الصلوات صلاة الليل، فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار؛ لأن الليل مظنة أن يكون الإنسان مجهداً من عناء النهار، فكونه يتقرب إلى الله عز وجل مع أنه وقت راحته وسكونه واستجمامه وأنسه بأهله فإن ذلك أبلغ وأعظم في تقربه إلى الله عز وجل.
ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد يقوم من الليل،
فإذا قام وصلى قال الله تعالى: يا ملائكتي: عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟)، فيكون نائماً بجوار زوجته فيذكر الجنة والنار فيتوضأ ويصلي بالليل،
فيقول الله: (يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟
قالوا: إلهنا: يرجو رحمتك ويخشى عذابك.
قال: أشهدكم أني قد أمنته من عذابي وأدخلته في رحمتي)، فصلاة الليل أفضل من صلاة النهار، ولأن صلاة الليل فيها إخلاص، فإنها بعيدةٌ عن أنظار الناس، وبعيدة عن اطلاع الغير، ولذلك يكون الإنسان فيها أقرب، ولأن الليل فيه الثلث الذي ينزل فيه الله عز وجل،
ويقول: (هل من داعٍ فأستجيب له)، فلذلك فضّل العلماء هذا النوع من النوافل.
أما النوافل المقيدة فإنها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما شرعت له الجماعة، كصلاة العيدين والاستسقاء والخسوف والكسوف والتراويح والتهجد ونحوها من الصلوات التي شرعت جماعةً.
القسم الثاني: ما يقع فرادى، كصلاة الضحى وغيرها.فهذا نوع وهذا نوع، وكلٌ قد ثبت الشرع بجواز أدائه على حاله، إن كان يصلى جماعةً فجماعة، وإن كان يصلى فرادى ففرادى.فقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة التطوع] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام المتعلقة بصلاة التطوع.
[آكد صلاة التطوع]
[آكدها كسوف].
آكد الصلاة النافلة صلاة الكسوف، وهي الصلاة التي تكون بسبب ذهاب ضوء الشمس كله أو بعضه،
فإن ذهب ضوء الشمس كله فإنه حينئذٍ يقال: كسوف كلي،
وإن ذهب بعضه فإنه يقال: كسوف جزئي، وكذلك صلاة الخسوف،
والخسوف: هو ذهاب ضوء القمر كله أو بعضه، وقد يطلق الخسوف على غياب الشمس،
كما في حديث أم المؤمنين: (خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم).وصلاة الكسوف إنما فضلت على بقية الصلوات التي هي من النافلة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها،
حيث ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس على عهده قال الناس: كسفت لموت إبراهيم، وكان الناس في الجاهلية يعتقدون أن الشمس لا تنكسف إلا لموت عظيم أو لولادة عظيم،
فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس ونادى: الصلاة جامعة.فاجتمع الناس، فصلى بهم عليه الصلاة والسلام وأطال قيامه على الصفة التي ستأتي إن شاء الله في صلاة الكسوف،
ثم لما سلم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان ولا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته،
ثم قال: فإذا رأيتم ذلك
-أي: كسوف الشمس- فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم)،
فقوله: (فصلوا) أمر قالوا: فورد بها الأمر فكانت أعلى مراتب صلاة التطوع، ولأن هذا الأمر ورد على سبيل الجماعة على ظاهر النص.
[الخلاف في أفضل الطاعات]
صلاة التطوع فيها مسألة ذكرها العلماء رحمة الله عليهم وهي: هل صلاة التطوع أفضل الطاعات، أم هي دون غيرها من الطاعات الأخر؟ فمن المعلوم أن العبد إذا تقرب إلى الله إمّا أن يتقرب بواجب لازمٍ عليه، فهذا الذي اصطلح عليه بالفرائض، وإما أن يتقرب بالنوافل التي لا تجب عليه.فاختلف العلماء في الأفضل من النوافل الذي ينبغي للعبد أن يكثر منه، فهل الأفضل أن يكثر الإنسان من الصلوات، أم الأفضل أن يكثر من الصيام، أم الأفضل أن يكثر من الذكر، أم الأفضل أن يكثر من الجهاد في سبيل الله، أم من الدعوة، أم من العلم؟
فقال الجمهور: أفضل الطاعات وأشرفها وأزكاها وأعظمها نفعاً للعبد في الدنيا والآخرة طلب العلم وتعليم الناس،
ويعبرون عنه بقولهم: العلم.فهو أفضل الطاعات وأشرف القربات لورود النصوص في الكتاب والسنة الدالة على عظيم منزلة أهله وشرفهم وعلوّ درجتهم وعظيم بلائهم،
قال الله عز وجل في كتابه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وهذا الاستفهام يدل على أنهم لا يستوون، فهذا نصٌ من كتاب الله يدل على أنه لا يستوي العالم والجاهل.ثم إنَّ الله سبحانه وتعالى قد قرن العلم بالإيمان، وأخبر عن رفعة درجة أهل العلم والإيمان،
فقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]،
وقال: [درجات] ولم يقل: درجة.والتعبير بالنكرة بصيغة الجمع يدل على أنها كثيرةٌ بإذن الله عز وجل.وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين فضل رباط طالب العلم وصبره على طلب العلم وتحمله لمشاق العلم، وكذلك تحمله لمشاق العمل بهذا العلم، ومجاهدته للنفس والشيطان والهوى حتى يبلغ مرتبة العلم والعمل، فإذا بلغ مرتبة العلم والعمل جاءت مرتبة الدعوة إلى الله عز وجل بتعليم الناس، فهذه المراتب الثلاث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن علو درجتها،
فقال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)،
قال بعض السلف: في هذا دليل على أن من حُرم الفقه في الدين فقد حُرِم خيراً كثيراً.
فقوله: (من يرد الله به خيراً) يدل على أن الله أراد لأهل العلم خيري الدنيا والآخرة؛ ولذلك هم أنفع الناس وأصلح الناس، وأقربهم إلى الخير وأدعاهم إليه، وبهم تشحذ الهمم إلى الطاعات، ويتنافس الناس في الخيرات.
وأيضاً ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)،
ولذلك قالوا: إن المراد بهذا الحديث أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم وهو يغدو إلى مجالس العلم لشرف هذه العبادة وعظيم منزلتها، فالدين لا يصان ولا يحفظ إلا بطلب العلم، ولذلك إذا كثر العلماء انتشر الدين بين الناس وانتشر الخير، وحمل الناس على الطاعات والخيرات، وإذا قلّ العلم كثر الجهل وعظمت المصائب والبلايا بين الناس، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة فشو الجهل وقلة العلماء، وكان ابن عباس رضي الله عنه من تلامذة زيد بن ثابت، فلما توفي زيد قام على قبره وبكى،
وقال: (ألا من سره أن ينظر كيف يقبض الله العلم فلينظر هكذا،
ثم ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهّالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا)، فصلاح الأمة موقوف على كثرة العلماء العاملين، وعلى وجود العلماء العاملين المخلصين في الدعوة إلى الله عز وجل.
وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن أفضل الأعمال فقال: أفضلها طلب العلم.
وفي رواية عنه: أفضلها العلم إذا صحت فيه النية.
قالوا: كيف تصح نيته؟
قالوا: ينوي أن يتواضع فيه، وأن يعلمه الناس.
أي: ينوي أن يجعل علمه للآخرة،
كما قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83]، فينوي أن يصحح نيته، فهذا بخير المنازل عند الله عز وجل.فهذا هو قول جمهور العلماء، ومن تأمل الواقع وتأمل الحال فإنه لا يشك أن طلب العلم هو أفضل القربات وأجلها وأعظمها.
فالمقصود أنه ظهر من ظاهر دليل الكتاب والسنة أن طلب العلم والعمل به وتعليمه للناس أفضل وأحب الأعمال إلى الله عز وجل، وإذا تعارضت عند الإنسان الأعمال الخيرية فليبدأ بطلب العلم، ثم انظر إلى دليل العقل والنظر، فإنك إذا تأملت كثيراً من المشاكل والنوازل والمعضلات والمشكلات تجد أنها لا تحل إلا بالعلم، ولا يمكن للناس أن يجدوا من يحل لهم المشكلات ويرفعها عنهم بإذن الله عز وجل إلا العالم العامل، فالرجل يأتيك في جوف الليل لا يدري هل امرأته تحل له أو لا تحل له،
حيث قال لها: أنت طالق، فقال كلمةً لا يدري أهي بها حرام أم حلال.ويأتيك الناس وقد عظمت الفتن والخصومات بينهم في الأراضي والأموال، ويحتاجون إلى من يفصل بينهم.بل قد تجد العالم مشلول الجسد لا يستطيع أن يبرح مكانه، وقد تجده مشوه الخلقة، ولكن عنده لسان ينبئ به عن حكم الله عز وجل، فتضعه الناس فوق رؤوسها بهذا العلم، لشرفه وعلو منزلته وعظيم بلائه.فالمقصود أنه لا يشك أحد في عظيم فضل هذا العمل، ولو تأملت العالم وهو يسهر الليالي فيجيب الناس عن المشكلات والمسائل فإنك لا تشك أن طلب العلم وتعليمه أفضل.
وقال بعض العلماء: إن الجهاد أفضل لما فيه من إعلاء كلمة الله عز وجل، وكسر بأس الذين كفروا، وصد العدو.وهذا إنما يراد به جهاد النفل وليس جهاد الفرض؛ لأنهم اتفقوا على أن الفرائض ليست بداخلة في هذا الخلاف، فإذا تعين العلم أو تعين الجهاد فلا يدخلان في هذا الخلاف، إنما الكلام هنا على النافلة،
أي: جهاد النفل، وهو جهاد الطلب،
واحتج هؤلاء الذين قالوا: إن الجهاد أفضل فقالوا: إن إعلاء كلمة الله عز وجل ونشر دين الله متوقفان على الجهاد، ويفتقران إلى مجالدة أعداء الله عز وجل، حتى ينتشر التوحيد، وترفع راية الإسلام، ويكون في ذلك الخير لأهل الأرض جميعاً، فلذلك يكون الجهاد هو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل.وهذا القول يقول به الإمام أحمد، ففي رواية عنه أن الجهاد أفضل الطاعات.وهناك قول ثالث في المسألة أن أفضل الطاعات وأشرفها الصلاة،
وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)،
ولما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول: ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به)،
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (من سعادة المؤمن كثرة الصلاة، وكثرة الصيام، وصحبة الفقيه).
فقالوا: إن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل الصلاة، ولأنها في أصلها عماد الدين، فتشرف بشرف أصلها.وأصح هذه الأقوال كما ذكرنا هو القول بأن طلب العلم والعمل به والدعوة إليه أفضل وأشرف وأكمل هذه الطاعات كلها، بل إن ما ذُكِر من الأعمال الصالحة من الصلاة والجهاد يفتقر إلى العلم، فإذا نظرت إلى الجهاد فإن ثغور الجهاد لا تملأ ولا يمكن أن تقوى عزائم المجاهدين إلا بالعلم، وابحث عن ثغرٍ فيه طالب علمٍ يذكر الناس ويعظ الناس فستجد نفوسهم معلقة بالله سبحانه وتعالى، وتجدهم أقوى شكيمة وأشد بأساً وأعظم حميةً، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا مع أعلم من على وجه الأرض صلوات الله وسلامه عليه، فكيف يخرج الناس للنفير وتسد الثغور بغير العلماء؟ فالعلم هو أفضل الأعمال.ثم إن الصلاة إذا تأملتها وجدتها تفتقر إلى علم، وتفتقر إلى معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ومعرفة ما يطرأ في الصلوات.
[ترتيب بقية النوافل في الفضيلة]
قال رحمه الله تعالى: [ثم استسقاء].ذكرنا أنَّ أول النوافل فضلاً وأعلاها وآكدها صلاة الكسوف لما فيها من الدعاء برفع البلاء،
ولذلك قالوا: إنها آكد مع ورود أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، فتأكد فضلها وتأكد القيام بها.ثم تليها صلاة الاستسقاء.
والاستسقاء: استفعالٌ من السقي،
والمراد به هنا: طلب السقيا،
أي: طلب الغيث من الله عز وجل، وأن يمطر العباد والبلاد، وإنما فضل الاستسقاء لما فيه من رفع البلاء عن الناس، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وسنه للأمة، وسيأتي إن شاء الله بيان صفة هاتين الصلاتين، صلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء، وسنبين إن شاء الله هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيهما، والأحكام المتعلقة بهما.
قال رحمه الله تعالى: [ثم تراويح].
التراويح: قيل: إنها مأخوذ من الراحة، والسبب في ذلك أنهم كانوا يرتاحون بين كل تسليمتين، فقد كانوا يطيلون حتى اعتمدوا على العصي، كما في الأثر حين جمع عمر الناس لصلاة التراويح وجعل أبياً الإمام،
فقالوا: إنها سميت بذلك لمكان الاسترواح والراحة في أثناء هذه الصلاة والتراويح المراد بها: القيام جماعةً في ليالي رمضان،
وقالوا: إنها من آكد السنن.
وإذا قيل: سنةٌ مؤكدة فإنها تقارب الوجوب، لكن ليست بواجبة ولا لازمة، والنص في هذا واضح،
كما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: (خمس صلواتٌ كتبهن الله في اليوم والليلة)، فالفرض الخمس المعروفة، والكسوف والاستسقاء والتراويح كلها زائدة عن هذه الفرائض.
[حكم صلاة الوتر]
قال رحمه الله تعالى: [ثم وتر يفعل بين العشاء والفجر].
قوله: (ثم وتر) أي: آكد النوافل بعد الصلوات التي شرعت لها الجماعة الوتر، والوتر المراد به الواحد في الأصل،
ويعبر به عن كل ما لا يقبل القسمة على اثنين فيقال: إنه وتري فيشمل ذلك الواحد والثلاثة والخمسة إلخ.والوتر من آكد النوافل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الوتر حق، ومن لم يوتر فليس منا)،
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد زادكم صلاةً هي خيرٌ لكم من حمر النعم، جعلها لكم ما بين العشاء والفجر)،
وقال الإمام أحمد رحمةُ الله عليه فيمن ترك الوتر: هذا رجل سوءٍ لا ينبغي أن تقبل شهادته.وهذا يدل على تأكد الوتر، ولذلك جعله العلماء رحمهم الله سنةً مؤكدة.
واختلف العلماء رحمهم الله في الوتر على قولين مشهورين: فمذهب جمهور السلف رحمة الله عليهم أن الوتر سنةٌ وليس بواجب، وبهذا القول قال فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث، فلو ترك الإنسان الوتر فإنه لا يأثم، ولو فعله فإنه يثاب.وذهب غيرهم إلى أن الوتر واجب، وبهذا القول قال الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه وأصحابه.
واستدل الذين قالوا: إن الوتر ليس بواجب بأدلة منها: أولاً: قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]،
ووجه الدلالة أن الله عز وجل قال: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فدل على أن الصلاة التي أُمر بالمحافظة عليها وهي واجبةٌ على المكلف وترية، ولو قيل بوجوب الوتر لصارت الصلوات ستاً، فيكون العدد شفعياً لا وسط فيه؛
لأن قوله: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] يدل على أن العدد وتري؛ لأنها خمس، ونصف الخمس معناه أنه يكون في وسط الخمس واحدة، فيكون المقابل لها اثنتان واثنتان، فيكون العدد بهذا وترياً.
ثانياً: ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُسْري به وعرج صلوات الله وسلامه عليه،
قال الله له في آخر المرات حينما راجع ربه في الصلوات المفروضة: هي خمسٌ وهنّ خمسون)،
فقوله تعالى: (هي خمس) أي: الصلوات التي كتبتها عليك يا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- وعلى أمتك هي خمس، (وهن خمسون) أي: في الأجر والثواب تفضلاً من الله عز وجل،
ثم قال تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)،
فثبت أنها خمس إلى قيام الساعة لقوله تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أي أنه لا يكون هناك تشريعٌ بزيادة.
الدليل الثالث: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سأله الأعرابي عن الصلوات التي فرضها الله عليه، قال له: (خمس صلوات في كل يوم وليلة،
قال: هل عليّ غيرها؟
قال: لا.إلا أن تطوع)، فدلّ على أن الوتر ليس بواجب؛ لأن الوتر غير الصلوات الخمس، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بواجبٍ عليه.
الدليل الرابع: ما ثبت في الصحيحين من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلة)، فهذا الحديث -إذا تأملته- من آخر ما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً في آخر حياته،
ومع هذا قال له: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)،
فلو كان الوتر واجباً لقال: افترض عليهم خمس صلواتٍ ووتراً.فالمقصود أن هذه الأدلة من الكتاب والسنة تدل على أن الوتر ليس بواجب.
أما الذين قالوا: بالوجوب فقد استدلوا بأحاديث السنن: أولها: قوله عليه الصلاة والسلام: (أوتروا يا أهل القرآن).
ثانيها: قوله عليه الصلاة والسلام: (الوتر حقٌ، ومن لم يوتر فليس منا).
ثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد زادكم صلاةً هي خيرٌ لكم من حمر النعم، وهي الوتر).
قالوا: أما الحديث الأول: (أوتروا) فهذا أمر، والأمر للوجوب،
وأما الحديث الثاني: (إن الله قد زادكم صلاةً) فإنه يدل على أنها زائدة على الصلوات الخمس،
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يوتر فليس منا) فإنه ذم، والذم لا يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم، فثبت أن الوتر واجب.فهذا حاصل أدلة القائلين بالوجوب.والذي يظهر والله أعلم أن الوتر ليس بواجب، وذلك لصحة دلالة الكتاب والسنة على هذا القول.
أما استدلال من قال بالوجوب بقوله: (الوتر حق) فالجواب عنه بأن الحق معناه: الثابت،
تقول: هذا حقي.
أي: ثابتٌ في ملكي، فالحق يعبر به بمعنى الثابت، فمراد النبي صلى الله عليه وسلم أن الوتر سنة من هديه، أي ثابتٌ في الشرع ومسنونٌ فعله.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يوتر فليس منا) فمعناه: ليس على هدينا الكامل، وليس المراد به الهدي اللازم الذي يعتبر من تركه وأخل به مذموماً.
وأما قولهم: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد زادكم صلاةً) يدل على الوجوب، فيجاب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم قد قال مثل هذا في ركعتي الفجر، وأنتم لا تقولون بوجوبها، أي أنه عبر بالزيادة في ركعتي الفجر، ومع هذا لا يقول الحنفية بوجوبها، فكما أنهم رأوا أن صيغة الخبر هناك لا تدل على الوجوب فيلزمهم القول هنا بأن صيغته لا تدل على الوجوب.فأصح ما يقال في الوتر أنه مسنون وفيه فضيلة، ومن فضائله أنه يسن فيه الدعاء، وهو خاتمة صلاة الليل، فتشرع صلاة الوتر بالليل.وأما صلاة الوتر بالنهار تنفلاً لا قضاءً، كما لو دخل المسجد وصلى ركعتين،
ثم قال: أحب أن أتنفل بركعةٍ ركعة فقد أُثِر عن بعض الصحابة أنه فعل هذا، ومذهب جماهير العلماء رحمة الله عليهم أنك لا تسلم إلا من ركعتين إلا في الوتر وحده، على أن السنة والذي ينبغي للمصلي أن يصلي ركعتين ركعتين ولا يسلم من واحدة، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: (صلاة الليل مثنى مثنى)،
وفي حديث آخر: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، فدل على أنه لا يسلم من واحدة، وما أثر عن الصحابي مردود إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يختص الوتر بأنه من صلاة الليل، والسنة فيه أن يكون في آخر الليل، كما سيأتي إن شاء الله بيان أحكامه.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة التطوع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (104)
صـــــ(8) إلى صــ(16)
[وقت صلاة الوتر]
قال رحمه الله تعالى: [يفعل بين العِشاء والفجر].
العِشاء من العشي، وسميت بذلك لأنها تقع في وقت العشي بعد ذهاب الشفق الأحمر على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فتبدأ صلاة العشاء بمغيب الشفق الأحمر، ويستمر وقتها إلى طلوع الفجر الصادق.
وقد اختلف العلماء في كون العبرة في وقته بصلاة العشاء أم بوقت العشاء: فبعض العلماء يقول: العبرة بصلاة العشاء، فإن صلى العشاء شُرِع له أن يصلي الوتر ولو لم يدخل وقت العشاء.
وقال بعض العلماء: العبرة بوقت العشاء لا بفعل العشاء.
والذي ينبني على هذا الخلاف أن العشاء لها حالتان: الحالة الأولى: أن تصليها في وقتها، وحينئذٍ بالإجماع يجوز لك بعد أن تصلي العشاء أن توتر.
الحالة الثانية: أن تجمع العشاء مع المغرب، كالحال في ليلة مزدلفة، فإذا أقبلت على مزدلفة في أول الوقت وأدركت صلاة المغرب فصليت المغرب والعشاء،
فإنك إن قلت: العبرة بصلاة العشاء فحينئذٍ توتر ولا حرج،
وإن قلت: العبرة بدخول وقت العشاء نفسه فحينئذٍ لا بد وأن يكون وترك بعد مغيب الشفق الأحمر كما ذكرنا.ومذهب الجمهور أنه لابد من مغيب الشفق، وأنه لا يصلى الوتر قبل دخول الشفق؛ لأن تقدم العشاء على خلاف الأصل، وإنما شُرِع على سبيل الرخصة فاقتصر فيها على موضعها،
ولذلك جاء في الرواية الأخرى: (ما بين صلاة العشاء والفجر)،
ويدل التعبير بقوله: (صلاة العشاء والفجر) على الوقت المعهود،
وكذلك تعبيره: (ما بين العشاء والفجر) يدل على أن العبرة بالوقت نفسه كما في رواية السنن، فأقوى الأقوال أنه لا يصلي الوتر إلا بعد دخول وقت العشاء.
وقوله: (يفعل بين العشاء والفجر) أي: يفعله المكلف ما بين العشاء إلى الفجر، فإذا دخل وقت الفجر فحينئذٍ لا يصح إيقاع الوتر بعد تبين الفجر الصادق من الكاذب بعد الأذان.
وقال بعض الصحابة: يشرع أن يصلي الوتر ما بين الأذان والإقامة من صلاة الفجر، وهو مذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.والصحيح أنه إذا أذن المؤذن لصلاة الصبح فإنك تمسك عن الوتر، وتنتظر إلى طلوع الشمس، ثم تقضيه بعد طلوع الشمس وتشفع الوتر بركعة، فإذا كنت صليت بالليل عشر ركعات، فلما كبرت ودخلت في صلاة الوتر أذن المؤذن لصلاة الفجر، فحينئذٍ تنوي أن هذه الصلاة شفعية، وتقلبها من الوتر إلى الشفع؛ لأن الوقت قد زال، ويجوز الانتقال في هذه الحالة من الوتر إلى الشفع، ثم إذا انتهيت من هاتين الركعتين انتظرت حتى طلوع الشمس، فإن طلعت الشمس صليت الوتر ركعة وشفعته بركعةٍ معه، فتصلي ركعتين إن كان وترك ركعة، وإن كان وترك بثلاث صليت أربعاً؛
لما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فاته حزبه من الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة)، وكان حزبه من الليل إحدى عشرة ركعة،
فلما قالت: (صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة) دل هذا على أن وتر الليل قد شُفع بركعةٍ واحدة.
ثم إن وتر النهار قضاءً فيه أحكام: أولها: أن تشفع الوتر ولا تتركه على حاله.
ثانيها: أن لا تدعو بعد الركعة الأولى، فوتر الليل فيه دعاء ووتر النهار لا دعاء فيه.
ثالثها: أن صلاته في النهار سرّية، وصلاة الليل جهرية.
[عدد ركعات صلاة الوتر وهيئاتها]
قال رحمه الله تعالى: [وأقله ركعة، وأكثره إحدى عشر ركعة مثنى مثنى، ويوتر بواحدة، وإن أوتر بخمس أو سبع لم يجلس إلا في آخرها، وبتسع يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم].
قوله: (وأقله ركعة، وأكثره إحدى عشرة) ثبت في عدد ركعات الوتر أحاديث مختلفة، أما الركعة -وهي أقله
- فقد ثبت فيها الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة).
وأما الوتر بثلاث أو خمس أو سبع أو تسع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (الوتر حقّ، فمن شاء أن يوتر بثلاث أو بخمس أو بسبع أو بتسع ... ) الحديث.
كما ثبت الوتر بخمس في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أنه صلى الوتر خمساً).
وثبت الوتر بسبع كذلك في حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر في الوتر بسبع).
وثبت الوتر بالتسع كذلك في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بتسع، ولم يقعد إلا في الثامنة، ثم قام -أي: نهض عليه الصلاة والسلام- ولم يسلم، فصلى التاسعة -وهي الوتر- ثم سلم) صلوات الله وسلامه عليه.وأما الوتر بإحدى عشر ركعة، فهو أكثره كما ذكر المصنف رحمه الله،
وللوتر بإحدى عشرة ركعة صور: الصورة الأولى: أن تجعل صلاتك مثنى مثنى، وتجعل الحادية عشر ركعةً مستقلة، وهي الصورة التي فيها حديث ابن عمر.
الصورة الثانية: أن تصلي أربعاً بتسليمة واحدة، ثم أربعاً بتسليمة واحدة، ثم توتر بثلاث، فيكون العدد إحدى عشرة ركعة،
لما أخرجه النسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (.فمن شاء منكم أن يوتر بثلاث)، وكذلك ثبت في حديث أبي بن كعب في صلاته صلى الله عليه وسلم.
الصورة الثالثة: أن تصلي ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم خمساً متصلة، فهذه إحدى عشرة ركعة، ويكون وترك بخمس في الإحدى عشرة ركعة.
قال رحمه الله تعالى: [وإن أوتر بخمسٍ أو سبعٍ لم يجلس إلا في آخرها، وبتسع يجلس عقب الثامنة ويتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم] هذا الذي ذكره المصنف ثبت فيه حديث أم سلمة رضي الله عنها في السنن، فالسنة أن تصلي الخمس متصلة وتجلس في آخرها ثم تسلم، وإن أوترت بالسبع فكذلك، فتصلي السبع ثم تجلس في آخرها، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل في التسع خلاف ما فعل في الخمس والسبع، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام صلى ثماني ركعات متصلة ثم جلس عليه الصلاة والسلام في الثامنة، ثم قام إلى التاسعة ولم يسلم، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم، فهذا يدل على مشروعية الجلوس في وتر التسع قبل الأخيرة، فيجلس للتشهد في الركعة الثامنة ولا يسلم منها ويقوم للركعة التاسعة ثم يجلس، فيكون وتره بالتسع فيه جلستان في آخر الصلاة على ظاهر حديث عائشة.وقد جاءت رواية أخرى تدل على خلاف ما اختاره المصنف في السبع، وذلك أنه جلس عليه الصلاة والسلام في السبع قبل تسليمه عليه الصلاة والسلام ثم أوتر بواحدة، وهذا يدل على أن الأمر واسع،
لكن حديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه الجلوس في الثامنة قالت فيه: (فلما كبر وضعف) عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه لم يستطع أن يصلها ببعضها صلوات الله وسلامه عليه، فأوتر على هذه الصورة التي ذكرناها، وهذا كله من باب التوسعة.وأما السبب في مشروعية الوصل فقد ذكروا أنه لذلك حكماً عظيمة، ومنها أن المصلي يقوى على طول القيام؛
إذ إنّ للعلماء رحمهم الله تعالى في كون الأفضل في صلاة الليل كثرة الركعات أو طول القيام مذهبان: فبعض العلماء يقول: الأفضل في صلاة الليل أن يكثر العدد ويكثر السجود.
وقال بعضهم: الأفضل أن يطيل القيام ولو قلّ السجود.
واحتج من قال: إن الأفضل أن يكثر من السجود بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ربيعة أنه لما كان يعد للنبي صلى الله عليه وسلم طهوره بالليل قال له صلى الله عليه وسلم: (سلني حاجتك؟ قال: أسألك مرافقتك في الجنة.
قال: أو غير ذاك؟
قال: هو ذاك.
قال: أعني على نفسك بكثرة السجود) قالوا: فهذا يدل على أن الأفضل أن تكثر من السجود، وهذا يدل على مشروعية الزيادة على إحدى عشرة ركعة،
لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعني على نفسك بكثرة السجود)، ولم يقيد ذلك بالليل ولا بالنهار، وإنما أطلق.
وأما الذين قالوا: إن الأفضل طول القيام في الليل فاحتجوا بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر أنه لما سئل صلى الله عليه وسلم: (أي الصلاة أفضل؟
قال: طول القنوت)،
أي: طول القيام في القراءة.وهذا المذهب الثاني أرجح، فإن الأفضل أن يصلي إحدى عشرة ركعة يطيل القراءة فيها،
وذلك لدليلين: أحدهما: أنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يختار الله لنبيه إلا الأفضل والأكمل.
الثاني: أن الشخص إذا صلى إحدى عشرة ركعة وسجد في كل ركعة سجدتين فإنه يوصف بكونه قد أكثر من السجود؛ لأنه تكون له قرابة اثنتين وعشرين سجدة، ولذلك يكون موصوفاً بكونه قد أكثر من السجود، وعلى هذا فالأفضل طول القنوت، ولأن طول قنوتك ووقوفك فيه كثرة قراءة للقرآن، وكثرة القراءة يصحبها التدبر والتأمل والتأثر، وهذا هو المقصود من قيام الليل، وهو أن الإنسان يتأثر بالقراءة في وقتٍ لا شغل فيه،
فلذلك قالوا: إن هذا كله يرجح مذهب من يقول بطول القنوت.وفائدة الخلاف أنه لو كان رجلٌ عامي يحفظ سوراً قصيرة فالأفضل له أن يقرأ هذه السور، ولو بالتكرار ولا حرج عليه؛ لأن المراد شغل الركن الذي هو القيام بالقراءة.
فلو قال قائل: كيف نجمع بين هذا وبين كراهية تكرار الفاتحة؟
قلنا: إن الفاتحة ركن، وتكرار الأركان محظور، ولكن السنن التي هي القراءات ونحوها لا حرج فيها،
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كرر سورة الزلزلة في ركعتين، فقرأها في أولى الفجر وثانيتها)، وكذلك ثبت عنه أنه أقر الصحابي على قراءة سورة الإخلاص في كل ركعة، فالأفضل لمثل هذا أن يكثر من القراءة حتى يطول قنوته وقيامه.
وعلى القول الثاني: يقرأ قصار السور ويكثر من السجود، فيعوض ما عنده من نقص في حفظ القرآن بكثرة السجود، والأرجح ما ذكرناه.[وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين، يقرأ في الأولى بـ (سبح)، وفي الثانية بـ (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثالثة بالإخلاص].
ثبت في حديث أبي بن كعب وحديث ابن عباس رضي الله عن الجميع في وتره عليه الصلاة والسلام أنه: (أوتر بثلاث، قرأ في الأولى بـ (سبح)، وفي الثانية بـ (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثالثة بسورة الإخلاص)، وورد عنه أنه قرأ في الثالثة بالمعوذات مع سورة الإخلاص، فهذا يدل على أدنى الكمال الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ثلاث.
ثم إن في صلاتها ثلاث ركعات ثلاث صور: الصورة الأولى: أن تصلي الثلاث متصلة وتجلس في آخرها وتسلم.
الصورة الثانية: أن تصلي ركعتين وتسلم، ثم تقوم للثالثة وتسلم، فتكون ثلاث ركعات.
الصورة الثالثة: أن تصلي الركعتين وتجلس للتشهد، حتى إذا فرغت من التشهد الأول قمت ولم تسلم وأتيت بالركعة الثالثة، فهذه ثلاث صور.فالصورة الأولى -وهي صلاة جميع الركعات بدون وجود فاصل- لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في وتره عليه الصلاة والسلام بالخمس والسبع.وأما إذا صلى ركعتين ثم سلم ثم قام إلى الثالثة فمذهب الجمهور أنه الأفضل، وأنه هو المعتبر، وأنه كذلك لا يفعل الصورة الثالثة، وهي أن يصل الثلاث بتسليمة واحدة، فيتشهد في الثانية، ثم يقوم ولا يسلم إلا في الثالثة.وذهب أبو حنيفة إلى جواز أن تصل الثلاث في الوتر، فتجلس بعد الركعة الثانية للتشهد ولا تسلم، كصلاة المغرب سواءً بسواء،
وقد جاء في حديث السنن: (لا تشبهوا بالمغرب)، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوتر بثلاث تشبهاً بالمغرب.والصحيح أنه يمنع، فلا يصليها ثلاثاً على صفة صلاة المغرب، والأفضل أن يسلم من ركعتين، وأن يقوم للركعة الثالثة كما ثبت في الحديث الذي ذكرناه.
[حكم القنوت في الوتر ومحله]
قال رحمه الله: [ويقنت فيها بعد الركوع].
قوله: (ويقنت) أي: يدعو.والقنوت في الوتر سنة،
وقد اختلف العلماء والسلف رحمة الله عليهم في هذا الدعاء في الوتر: فمنهم من يقول: يشرع مطلقاً.
أي: في جميع الوتر في سائر السنة.
ومنهم من يقول: إن السنة في دعاء الوتر أن يكون في آخر رمضان.
أي: في النصف الثاني من رمضان دون النصف الأول.
ومنهم من يقول: في رمضان كله، فيخصه برمضان.
ومنهم من يقول: يقنت أحياناً ويترك أحياناً، وهذا القول هو أعدل الأقوال وأقربها إلى السنة، واختاره غير واحدٍ من أهل العلم رحمة الله عليهم، وإن داوم عليه فلا حرج، لكن لو علّم الناس السنة فترك القنوت في ليلة من ليالي الشهر فلا حرج، لكن في رمضان استحبوا أن يستديم القنوت؛ لأن هناك قولاً للسلف في استدامة القنوت في كمال رمضان خاصة، وذلك لما فيه من حصول البركة باجتماع الناس، كما ثبت في الحديث الصحيح اعتبار هذا النوع من الخير، ففي حديث العيد ذكرت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالخروج إلى المصلى،
وقال في شأن الحيض: (يشهدن الخير ودعوة المسلمين) فاجتماع الناس في الدعاء فيه خيرٌ كثير؛ لأنه اجتماعٌ مشروع، وليس باجتماع بدعةٍ ولا حدث، بل هو اجتماع مشروع وله أصلٌ في الشرع، فمثل هذا الاجتماع إذا اغتنم في الدعاء للناس بخيري الدنيا والآخرة فلا شك أنه أفضل، فاستحب بعض العلماء أن يُخرج قنوت رمضان من الخلاف لما فيه من الفضائل ولما ذكرناه.
والقنوت له صورتان: الصورة الأولى: أن يكون قبل الركوع.
الصورة الثانية: أن يكون بعد الركوع.وكل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن قنت قبل الركوع فقد فعل سنة، فلو أن إماماً قرأ سورة الإخلاص، أو قرأ سورة الإخلاص والمعوّذات ثم ابتدأ الدعاء فلا حرج عليه في ذلك، وهو على سنة وخير، ولا ينكر عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ورد عنه في حديث أبي ذلك، وإن ترك قنوته إلى ما بعد الركوع فكذلك هو على سنةٍ وخير، وهذا النوع من الخلاف يسميه العلماء خلاف التنوع، وليس بخلاف التضاد الذي يوجب التبديع أو المنع من إحدى الصورتين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا مرة وفعل هذا مرة، وكلٌ جائز ولا حرج فيه.
[شرح دعاء القنوت]
قال رحمه الله تعالى [ويقنت فيها بعد الركوع فيقول: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت)].
هذا حديث الحسن بن علي رضي الله عنه في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه هذا الدعاء:: (اللهم اهدني فيمن هديت) وأصل (اللهم): يا الله، فحُذف حرف النداء (الياء) وعوّض عنه (الميم) فقيل: اللهم.
ولذلك لا يقال: يا اللهم، إلا في القريض والشعر،
كما قال الناظم: والأكثر اللهم بالتعويض وشذ يا اللهم في قريض أي: في الشعر.
ومنه قول الشاعر: إني إذا ما حدثٌ ألمّا ناديت يا اللهم يا اللهما وهذا خاص بالشعر،
أما في النثر فإنه يقال: (اللهم)،
ولا يقال: يا اللهم.
وقوله: (اللهم اهدني فيمن هديت) الهداية: الدلالة.
يقال: هداه: إذا دله.والهداية تكون بمعنى التوفيق، وهذه خاصةٌ بالله سبحانه وتعالى، فهو يوفق من يشاء إلى رحمته بفضله سبحانه وتعالى، وتكون بمعنى الدلالة، فإن كانت بمعنى الدلالة فإما أن تكون دلالةً على خير، وإما أن تكون دلالةً على شر، فيقال: هداه إلى الشر.بمعنى دله عليه، وهداه إلى الخير، بمعنى دله عليه، وقد تكون دلالةً على مصالح الدنيا،
ومنه قوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] أي: هدى كل مخلوقٌ إلى ما فيه صلاحه في معاشه، فتجد النملة تغدو لرزقها، وتجد الطير تغدو إلى أرزاقها، وتُهدى كيف تبني أعشاشها وأكنانها، وكيف تقضي مصالحها وتربي أطفالها، فهذا كله من الهداية، والله هو الذي هداها لذلك، فهذه هداية إلى مصالح الدنيا،
أما الهداية إلى مصالح الدين فإنها على نوعين: النوع الأول: التوفيق، وهي مختصة بالله عز وجل،
والنوع الثاني: الدلالة والإرشاد، فهذه تكون لله، وتكون لأنبيائه ورسله،
ولذلك نفى الله هداية التوفيق عن نبيه فقال سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]،
وأثبت له هداية الدلالة فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، فهنا الهداية بمعنى الدلالة والإرشاد.والمراد بالهداية في قوله: (اللهم اهدني فيمن هديت) هداية التوفيق،
أي: اجعلني على صلاحٍ وخير، وهذا فيه تعطشٌ لرحمة الله عز وجل، وإظهارٌ للفقر، وأنك بحاجة إلى رحمة الله أن يرحمك بالاستقامة على دينه، وفيه استرحامٌ من العبد لربه أن لا يجعله محروماً؛
لأنه لما قال: (اهدني فيمن هديت) فمعناه: لا تصب الناس بهدايتك وتجعلني محروماً من هذه الهداية.
قوله: وعافني فيمن عافيت.المعافاة: السلامة،
والمعافى: هو السليم،
وعافاه الله: سلّمه الله من شر دين، أو شر دنيا، أو منهما معاً،
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عافني) فيه إطلاق يشمل عافية الدين وعافية الدنيا،
ولذلك لما جاء العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يا عم رسول الله! سل الله العافية.يا عم رسول الله! سل الله العافية.يا عم رسول الله! سل الله العافية)، فإذا عافاك ربك فقد صلح لك دينك، وصلحت لك دنياك، وصلحت لك آخرتك، فأكثر المصائب تأتي من البلاء، حين يبتلى الإنسان -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يرزق التوفيق للصبر على هذا البلاء.
قوله: (وتولني فيمن توليت) الولاَية بالفتح تكون بمعنى النصرة، وتكون بمعنى التأييد، وولي الله عز وجل وصفه الله عز وجل بصفتين،
فقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، ولا يوصف الإنسان بكونه ولياً لله عز وجل إلا إذا كان مؤمناً تقياً، ولذلك لما توسع الناس في هذا ضل فئام وحارت أفهام حينما تُرِك هذا الأصل الذي دلّ عليه دليل الكتاب، فولي الله عز وجل هو المؤمن التقي، فأصبحت الولاية تطلق على أناس هم أبعد ما يكونون عن دين الله عز وجل من أهل الأهواء والبدع والضلالات -نسأل الله السلامة والعافية-، حتى أصبحت الولاية في لبس الخرق، وإظهار رثاثة الحال، والخروج عن سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وتحريم الحلال، وغير ذلك من الأمور المنكرة التي أحدثها الناس، وأصبحت الولاية إنما تكون للإنسان المجتهد في أذية الناس والتعرض لهم، فيوصف بكونه ولياً -نسأل الله السلامة والعافية-، وهذا كله من الضلال والبدع والأهواء التي أصابت الناس فأضلتهم عن سبيل الله،
فالولاية لا تكون إلا بهذين الأمرين: الإيمان والتقوى.
قوله: (وبارك لي فيما أعطيت).
البركة: الزيادة والنماء والخير؛ لأن الله قد يعطيك شيئاً ولا يبارك لك فيه -نسأل الله السلامة والعافية-، فقد يعطى الإنسان علماً ولا يبارك له فيه، وقد يعطى دنيا ولا يبارك له فيها، فربما رأيت الرجل العالم لا ينصح، ولا يُذَكِّر بالله تعالى، ولا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، بل قد تجد الرجل يدخل إلى المسجد وبجواره رجلٌ يقرأ القرآن يحرّف كلام الله عز وجل ويخطئ في آياته ولا يرد عليه بحرفٍ واحد،
ويقول: أنا الذي أخذت الدكتوراه فكيف أجيب على هذا فأشتغل به؟!! فهذا من محق البركة -نسأل الله السلامة والعافية- لنظره إلى علو مرتبته في نفسه، أو بسبب موت قلبه عن استشعار مسئوليته أمام الله عز وجل، لكن الله إذا أحب عبداً وأعطاه نعمة بارك له فيها، ولذلك فدائماً سل الله البركة فيما أعطاك.والبركة كما تكون في أمور الدين تكون في أمور الدنيا، فقد تجد إنساناً عنده المال القليل توضع له البركة فيه، فإذا به مالٌ كثير.وقد تجد الرجل عنده الولد الواحد فيقوم بمصالحه ويقضي حوائجه، ويكون قرة عينٍ له في الدنيا والآخرة، فإن كان في الحياة خدمه وأحبه وأكرمه، وإن توفي رفع كفاً إلى الله عز وجل لا تخيب بصالح الدعوات، فجعل الله له فيه خيراً كثيراً، فهذا من البركة في الولد، وقد تجد الرجل عنده العشرة من الولد وأكثر من ذلك لكنهم أصحاب مصائب، لا يجني منهم إلا سوء السمعة والأذية والبلية والإضرار، ويتمنى موتهم بدل حياتهم -نسأل الله السلامة والعافية-، وهذا من محق بركة الولد.كما تكون البركة تكون في الزوجات، وتكون في الأموال.والدعاء هنا بوضع البركة إنما هو الدعاء بالخير،
فقوله: (وبارك لي فيما أعطيت) أي: اجعل فيما أعطيتني وأوليتني بركة وخيراً، فنسأل الله العظيم أن يبارك لنا فيما أعطانا.
قوله عليه الصلاة والسلام: (إنه لا يذل من واليت).
الذلة: ضد العزة،
فقوله: (إنه لا يذل من واليت) أي: لا يذل من كنت ولياً له، وهذا كأنه تعليل لسؤال الولاية.
وقوله: (ولا يعز من عاديت) يفيد أن الولاية طريق إلى العزة، كما قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ} [المنافقون:8]، فجعل الله العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه، فإذا كان الإنسان مطيعاً لله فإن الله يعزه،
يقول بعض العلماء: إن سؤال الأثر أو المسبب يتضمن ما يكون سبباً في وجوده، فكأنه لما يسأل الله عز وجل أن يكون على هذه الحال من كونه ولياً لله عز وجل فقد حصل العزة.وفي هذا الدعاء تنبيه على أن الناس إذا أسلموا وأطاعوا وكانوا من أتباع هذا النبي الكريم وأصابتهم الذلة فإنها تكون بسبب ضعف الولاية لله عز وجل، فإذا رأيت المسلمين في ضعفٍ وخور وذلة ومهانة واحتقار من الأعداء فاعلم أن بينهم وبين الله أموراً، وهذه الأمور هي معاصي الله وانتهاك حدود الله عز وجل، فإذا عظّموا الله وكانت ولايتهم لله أعزهم الله عز وجل.
فقوله: (لا يعز من عاديت) أي: لا يكون من عاديته عزيزاً، وهذا فيه إطلاق يشمل عزة الدنيا وعزة الآخرة،
ولذلك جعل الله أهل الكفر في ذلةٍ وحقارة كما قال تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام:124]، فلا يكتب لأحد عصى الله عز وجل عزة ما دام على معصية -نسأل الله السلامة والعافية-، فلذلك ضرب الله الذلة والمهانة على اليهود لما قتلوا أنبياء الله واعتدوا حدود الله عز وجل.(تباركت ربنا وتعاليت).(تبارك) تفاعلٌ من البركة، فأعظم ببركته سبحانه وتعالى.
وقوله: (وتعاليت) مأخوذ من العلو، وهذا فيه ثناء على الله عز وجل، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء بين الثناء وبين المسألة، فمن أبلغ ما يكون أن تجمع بين الثناء على الله عز وجل والمسألة.
قال عليه الصلاة والسلام: (وقني شر ما قضيت) قوله: (قني): مأخوذ من الوقاية.وهذا الدعاء يشمل الوقاية من شرور القضاء، سواء أكانت في أمور الدين أم أمور الدنيا.والله عز وجل قد كتب ما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة،
كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم،
فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائنٌ وما يكون إلى قيام الساعة)، فكتب الله عز وجل المقادير، وقضى بها سبحانه وتعالى، ولا شك أن ما كتبه لا بد أن ينفذ، فيسأل العبد ربه أن يكفيه وأن يقيه شر ما قضى، وليس المراد بهذا ما قد كتب على العبد، فإن الذي يكتب على العبد لا بد من مضيه ولا بد من نفاذه، ولكن المراد من هذا أن يسأل الله عز وجل العافية والسلامة مما يكون من البلاء على العباد،
أي: من سواه من العباد،
وقد يقول قائل: إذا كان الله عز وجل لم يكتب عليه فكيف يدعو وهو سالم من هذا القضاء؟
فقالوا: لأنه يثاب على هذا الدعاء ويؤجر،
وثانياً: لأنه لم يطلع على الذي كتب، ولذلك هو يسأل على ما ظهر له، وهذا هو الأصل في قضايا القضاء والقدر.
وقوله: [(اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناء عليك،
[مسح الوجه باليدين بعد الدعاء]
قال رحمه الله: [ثم يمسح وجهه بيديه].
المسح: هو إمرار اليد أو الكف على الشيء،
ويستدل لهذا المسح بحديث عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه)، وهذا الحديث تكلم العلماء على سنده، والأقوى أنه ضعيف، وإن كان الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه أشار إلى أن للحديث طرقاً يقوي بعضها بعضاً، وأنه يرتقي إلى درجة الحسن، وتضعيف الراوي موقوف على كلام الحافظ ابن حجر نفسه الذي نقله في التهذيب وأشار إليه في التقريب، فإذا كان الحافظ ابن حجر الذي كتب وبيّن وأرشد إلى الكلام في هذا الراوي، يقول: إن مجموع طرقه تقوّي الحديث وتشهد بأصله، فإنه حينئذٍ لا ينكر على من فعله، لكن الأولى والأكمل أن يقتصر على رفع اليدين، وإن مسح وجهه فلا ينكر عليه؛
لأنه فقد ثبت الحديث: (أنه رفع يديه في القنوت)، وهو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وحسنه الحافظ ابن الملقن في تحفة المحتاج في تخريجه لأحاديث المنهاج،
حيث ذكر حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قنت رفع يديه)، وهو أصل عند العلماء في رفع اليدين في القنوت،
فإذا ضممت حديث أنس مع حديث عمر الذي ذكرناه: (أنه كان إذا رفع يديه لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه) فحينئذٍ لا ينكر على من مسح، لكن الأسلم والأولى -نظراً للكلام في الحديث، ولعظيم شأن الصلاة وشدة أمرها، وأنه لا ينبغي أن يفعل الإنسان إلا ما ثبت وتقرر- أن يقتصر على الرفع دون المسح، ومن مسح فإنه لا ينكر عليه إذا تأوّل الحديث وكان يرى تحسينه، أو يرى اعتبار قول من يقول بالحسن، على الأصل المقرر عند العلماء أنه لا إنكار إذا اختلفت النصوص صحةً وضعفاً، فكما أنك تقول بصحة حديث لتصحيح من ترى علمه، وتقول بضعف غيره للقول الذي يقوله هذا العالم، فكذلك غيرك يرى، والكل بشر يحتمل قوله الصواب والخطأ، ولذلك لا ينكر على من فعله إذا كان يتأول، وإنما يُدل من فعله على الأفضل، فيقال له: الأفضل أن تقتصر على الرفع ثم تضع يديك، وهكذا في الدعاء العام،
فإذا جلس ورفع كفيه يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة فإنه يقال له: لا تمسح وجهك.ويُدل على الأفضل،
ويقال: إن الحديث ضعيف.
لكن لو قال: إنني أقول بحديث عمر، وفيه كذا وكذا.فلا حرج،
كما قال الناظم: واقبل لإطلاق لصحة السند أو حسنه إن كان ممن يعتمد أي: ما دام أن هذا التحسين والتضعيف من أئمة وأناس شهد لهم بالأهلية فإنه يقبل، ويكفيك بالحافظ ابن حجر رحمة الله عليه علماً وفهماً ودرايةً بأصول التصحيح والتضعيف، فلا شك أن مثل قوله له وجه.وعلى العموم يُدَل الناس على الأفضل،
ويقال لهم: الأفضل والأكمل أن لا يُمسح.لكن الذي نعتقده وندين الله عز وجل به -لضعف الحديث- أنه لا يثبت المسح في الدعاء العام ولا في الدعاء الخاص، وأما أمر الصلاة فهو أعظم.وعلى القول بحديث عمر رضي الله عنه أنه كان يمسح بهما وجهه، فقد اختلف العلماء في تعليل هذا الفعل، ومن التعليلات ما ذكره بعضهم -وأشار إليه الصنعاني رحمة الله عليه في السبل- أن هذا الحديث إنما خُرّج على أن الإنسان يقوى يقينه بالله من باب الفأل، والشرع يستحب الفأل، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، فكأن الداعي اعتقد أن الله لا يخيبه وأنه سيعطيه سؤله، ولذلك مسح أشرف المواضع كأنه مصيبٌ لحاجته من قوة يقينه بالله.فعلى القول بثبوت هذا الحديث فإنه يُخرّج على هذا التعليل.وأما ما يفعله بعض الجهال بعد الانتهاء من مسح الوجه حيث يجعل مسحه جميع الجسد فهذا لا أصل له، ويعتبر بدعةً وحدثاً، وهذا في الصلاة أشد؛ لأنه فعلٌ خارج عن هيئات الصلاة لا يشرع إلا بدليل، ولا دليل.
الأسئلة
[كيفية قضاء الوتر لمن لم يكن له حزب محدد]
q إذا كان الإنسان يصلي الوتر مرة ثلاثاً ومرة خمساً ومرة سبعاً، فكيف يقضي إذا فاته الوتر؟
a الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا كان يوتر بخمسٍ أو بسبع فحينئذٍ يشفع وتره، فيكون وتره ستاً إن كان يوتر بخمس، وإن كان يوتر بسبع فيكون وتره ثماني ركعات، يشفع وتر الركعة السابعة بالثامنة.أما لو اضطرب حاله، فتارةً يوتر بسبع وتارةً يوتر بخمس، فهذا مما لا أحفظ فيه نصاً عن العلماء، ولذلك أتوقف في حكمه.
والله تعالى أعلم.
حكم من أوتر في النهار سهواً
q رجلٌ صلى صلاة النافلة في النهار فسها وصلى وتراً، ثم تذكر بعد سلامه، فماذا يصنع؟
a هذا فيه تفصيل: فإن كان تذكر في نفس المكان الذي صلى فيه قبل خروجه منه فإنه يستقبل القبلة ويجلس كحال المتشهد حتى يأتي بالقيام، ثم يقوم للركعة التي فاتته ويتمها كأنه لم يسهُ، ثم يسجد سجدتين بعد السلام، على ظاهر حديث ذي اليدين في الصحيحين، فحينئذٍ يجبر هذه الركعة التي فاتته ما دام أنه لم يخرج من المسجد، أو لم يخرج من الغرفة التي صلى فيها.أما لو خرج من الغرفة أو خرج من المسجد فإن كانت الصلاة التي صلاها ركعةً واحدة مفروضة فإنه يلزمه قضاؤها وفعلها تامةً على الصفة المشروعة، وقد بطلت بخروجه من المسجد وبخروجه من الغرفة، أما لو كانت الصلاة نافلة ففيها قولان للعلماء: فمن يقول: إن النوافل إذا شرع فيها المكلف وجبت عليه، فإنه يوجب عليه القضاء.ومن يقول: إن الشروع في النافلة لا يصيرها فرضاً، فحينئذٍ لا يوجب عليه القضاء.وتوضيح ذلك أن بعض العلماء يقول: إذا كبّرت في نافلةٍ، أو أنشأت صيام تطوعٍ وجب عليك أن تتم النافلة وأن تتم الصيام، فإذا قطعته بدون عذر أثمت، وإذا قطعت الصلاة النافلة بدون عذرٍ أثمت، واحتجوا بقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، قالوا: نهى الله تعالى عن إبطال العمل، والصلاة عمل، بل هي من خير العمل، وهكذا في بقية النوافل.والذين قالوا: إن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض قالوا: إنها ليست بواجبةٍ في أصل الشرع، فإذا قلنا: إنها تصير فريضةً فقد زدنا على أصل الشرع الذي دلّ على عدم لزومها، وقاسوا النظير على نظيره، فقالوا: هي ليست بواجبةٍ بعد الشروع كما أنها ليست بواجبةٍ قبل الشروع، وأما قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] فإنما هو في الأعمال التي هي على سبيل اللزوم، وأما بالنسبة للأعمال التي هي على سبيل الخيار فالمكلف مخيرٌ بأصل الشرع.وبناءً على هذا فلو أنشأ نافلة، كأن يقوم في غرفته ليصلي ركعة في النهار ثم سلّم منها ظاناً أنه صلى ركعتين فحينئذٍ إن قلنا: النوافل تصير فرائض بالشروع فإنه يلزمه أن يتم هذه الركعة الباقية، وإن قلنا: النوافل لا تصير فرائض بالشروع فإننا نقول له: أنت بالخيار، فإن أحببت أن يثيبك الله وأن يتم لك أجر الركعتين فأتمها، وإن لم تحب فحيئنذٍ لا حرج عليك؛ لأن النوافل لا تصير مفروضةً؛ إذ هي نافلةٌ في أصل الشرع، وليست بفريضةٍ واجبة
[نصائح وتوجيهات لطلبة العلم]
qهل من وصيةٍ لطالب العلم عن كيفية مراجعة الدروس؟
a طلب العلم فيه سآمةٌ وملل، وفيه تعبٌ ونصب، وطالب العلم لا بد أن تمر عليه ساعات وأيام وأعوام يجد فيها بعض السآمة والملل والظروف والمصائب والمتاعب، ولذلك ينبغي لطالب العلم دائماً أن يستشعر الإخلاص؛ فإنه لا يبدد هذه الهموم والغموم شيءٌ غير توفيق الله سبحانه وتعالى، ثم وجود نيةٍ خالصة بين العبد وبين ربه، وهذا هو الذي صبر به الأولون وسار على نهجه الأخيار الصالحون، فبارك الله في علمهم وتعلمهم ونفعهم للعباد، فإذا استشعرت دائماً حب الله في هذا العلم وحب الله لك في هذا التعلم والسعي لإنقاذ نفسك وإنقاذ الأمة بهذا العلم المبارك فإن الله سبحانه وتعالى يرحمك ويوفقك ويذهب عنك كل ما يحول بينك وبين رحمته، فهذا الأمر الأول.والأمر الثاني الذي يوصى به طالب العلم حتى يثبت في طلب العلم ويقوى على تحصيل العلم وضبطه: أن يجمع في علمه بين العلم والعمل، فأي سنة يتعلمها يطبقها، وأي نافلةٍ يُدعى إليها يعمل بها ولو مرة، وقد قالوا: اعمل بالحديث مرةً تكن من أهله، فتلقى الله يوم تلقاه وقد عملت به ولو مرةً واحدة، حتى إذا قلت للناس: إن هذا الحديث يدل على الخير، تكون لك قدم سابقة عند الله عز وجل، وتكون لك قدم صدق أنك فعلت وعملت بهذا الذي دعوت إليه، ولذلك أوصي طلاب العلم خاصة في مرحلة الطلب أن يكثروا من العبادة والعمل بالعلم؛ فإن لهذا أثراً عظيماً فيما يكون في مستقبلهم، وأن لا يشتغلوا بالقيل والقال وإضاعة الأوقات فيما لا ينفع، وإنما يشتغلون بهذا العلم، وطالب العلم إذا أقبل عليه يقبل بكله ولا يقبل بجزئه، فتقبل على هذا العلم إقبالاً صادقاً، وتجعله ليلاً ونهاراً أنيسك وجليسك الذي تسعد به وترتاح إليه وتأنس به، ويكون أفرح ما عندك أن تظفر بالفائدة والحكمة والمقولة التي تستنير بها وتضيفها إلى علمك، فإذا بلغت إلى هذه المرتبة -وهي التفاني في تحصيل هذا العلم مع العمل- فإن الله سبحانه وتعالى يبلغك أعالي درجات العلماء بإذنه سبحانه وتعالى، وإذا جمعت بين العلم بالعمل والتفاني في تحصيله فإن الله عز وجل سيجعل العاقبة لك محمودة، ولذلك تجد بعض طلاب العلم يطلبون العلم سنة ويملون، أو سنتين ويسأمون، أو ثلاث سنوات ويتركون، والسبب في هذا -والله أعلم- أنهم يضعون العلم أحمالاً على ظهورهم، فلا يعملون بما علموا، وتجد طالب العلم يجمع الأقوال ويجمع المسائل ويجمع الردود والمناقشات، وهذه أمور قد يقسو القلب بسببها إذا كثر الاشتغال بها، وكان اشتغالاً جامداً عارياً عن العمل، وقد تخرج الإنسان عن المقصود الأعظم، ولكن الإنسان إذا عُرضت عليه المسألة فتأملها ونظر الحق الذي فيها عجب من فتح الله على العلماء، وأدرك فضل الله على هذا العالم في فهمه، وأدرك فضل الله عز وجل على هذا العالم في استنباطه ومناقشته ومراجعته، فيقول: يا رب أسألك أن تفتح عليّ كما فتحت عليه.وينظر إلى دواوين السلف التي زخرت بهذه المسائل فيزداد حباً لها ويقول: يا رب كما وفقتهم وفقني، فحين يكون علمه في مثل هذا الارتباط بينه وبين الله عز وجل يجد أنه كلما ازداد علماً كلما ازداد قرباً من الله تعالى.وشوب العلم بالعمل له بركة عظيمة، ولذلك قالوا: إن أول العلم طفرة وآخره انكسار وخشية لله عز وجل.فهذا هو العلم المبارك الذي يهتدي الإنسان به إلى الله، بل قال بعض العلماء: إذا أراد الإنسان أن يعرف أن علمه نافع فلينظر إلى كسر هذا العلم لقلبه لله، فإن وجد أنه يزداد خشية لله ومعرفة بالله سبحانه وتعالى فليعلم أن علمه نافع بإذن الله عز وجل، وأنه علمٌ مبارك، فهذا العلم النافع الذي تحس أنه يكسر قلبك لله عز وجل ويذهب عنك طفرة الغرور لا يكون إلا بشوب العلم بالعمل والخشية لله عز وجل، قال الإمام أحمد رحمه الله: أصل العلم خشيةُ الله.كما أن العلم بحاجة إلى أشياء كثيرة بجانب خشية الله تعالى، منها: حب الله، والتعلق بالله سبحانه وتعالى، والقرب من الله عز وجل، واستشعار أن هذا العلم بفضل الله وحده، لا أنه بفضل الذكاء والفهم، فالذين حفظوا لم يحفظوا لأن أذهانهم كانت حافظة، وإنما هو فضل الله سبحانه وتعالى، فكم من مسائل تنزل على المفتي يفتح عليه في جوابها، ووالله لو أعمل فكره ليلاً ونهاراً على أن يصل إلى هذا الفتح الذي فتح الله عليه لما وصل إليه، لكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.فمن الأمور التي تعين على الجد والاجتهاد في تحصيل العلم الإخلاص وكثرة العبادة مع العلم، وقرن العلم بالعمل والتزكية والخشية والقرب من الله عز وجل والحب لله سبحانه وتعالى، وتجعل كل مجلس علم تجلسه لا تقوم منه إلا وأنت تثني على الله، وتسأل الله عز وجل أن يجعل هذا الذي تعلمته خالصاً لوجهه الكريم.فطلاب العلم بحاجة إلى مثل هذه المواقف الكريمة التي يحسون فيها بلذة العلم، فكم من مجلس علم جلسته وانتفعت فيه!! فقل لي بربك: هل جلست مجلس علمٍ، وبعد أن انتهيت منه دمعت عيناك من خشية الله، وقلت: يا رب علمتني ما لم أكن أعلم وكان فضلك عليّ عظيماً.فتأملوا إلى هذه النعم، فكم من أناسٍ في دياجير الجهل والظلمات بعيدين عن الله سبحانه وتعالى هم أحوج ما يكونون إلى كلمةٍ تنقذهم، وكم من إنسان مشغول يتمنى أن يجلس هذا المجلس، وكم من مريض يتمنى أن يجلس هذا المجلس، فهذه النعمة العظيمة إذا شبتها بالشكر لله والثناء على الله عز وجل أحبك وبارك فيك، وإذا شكرت هذا المجلس بورك لك في المجلس الثاني، فبدل أن تعلم ربع العلمٍ يعطيك الله نصف العلم، ثم ثلاثة أرباع العلم، حتى تبلغ من العلم خيراً كثيراً.
فالارتباط بالله في هذا العلم مهم، وليست القضية أن نحمل الكتب ونذهب إلى المجالس ونرجع وحالنا هو الحال، بل إن بعض طلبة العلم قد يفتن بعلمه، فنريد أن نشوب علمنا بالورع وبالعمل وبالطهارة.أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل علمنا نافعاً، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم.اللهم إنا نسألك علماً يقربنا إليك، وأن تهب لنا رحمةً من لدنك إنك أنت الوهاب.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة التطوع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (105)
صـــــ(1) إلى صــ(8)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة التطوع [2]
من صلوات التطوع: صلاة الوتر، ويشرع فيها القنوت، وكذلك يشرع القنوت إذا نزلت بالمسلمين نازلة، فيقنت في جميع الصلوات،
ومن الصلوات المسنونة المؤكدة: صلاة التراويح في رمضان، وهي إحدى عشرة ركعة، ولا بأس بالزيادة، وتصلى جماعة مع الإمام حتى ينصرف.
أحكام القنوت
[محل القنوت]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ويكره قنوته في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة غير الطاعون فيقنت الإمام في الفرائض].تقدم معنا بيان مشروعية القنوت في الوتر، وذكرنا تعليم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء للحسن بن علي رضي الله عنه وعن أبيه.وهنا شرع المصنف رحمه الله في التنبيه على مسألة القنوت في غير الوتر التي تعتبر من مسائل الخلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، فهذا القنوت -وهو الدعاء الذي يكون بعد الركوع، أو يكون قبل الركوع- هل يشرع في غير الوتر، أو لا يشرع؟ فمذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أن دعاء القنوت في الفريضة يعتبر سنة.وبهذا القول قال الإمام مالك والشافعي عليهما رحمة الله،
وقال الإمام أبو حنيفة وأحمد رحمة الله عليهما: إن المداومة على دعاء القنوت في الفريضة ليست بسنة،
ثم اختلفوا على قولين: فقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: إنما يشرع في النوازل.ومنع الإمام أبو حنيفة القنوت مطلقاً.فأما الذين قالوا بمشروعية دعاء القنوت فقد استدلوا بأحاديث صحيحة ثابتةٍ عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه قنت ودعا، ومن أصحها ما ثبت عنه: (أنه قنت شهراً يدعو على رعل وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله)، وكان يدعو بالنجاة للمسلمين، فكان يدعو أن ينجي الله الوليد بن الوليد، وكذلك دعا عليه الصلاة والسلام بنجاة عياش بن أبي ربيعة رضي الله عن الجميع، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على مشروعية القنوت،
وأكدوا هذا بحديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا).
وأما الذين قالوا: إنه لا تشرع المداومة على القنوت،
وإن المداومة عليه بدعة فقد استدلوا بما ثبت في حديث لـ مالك الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه أنه سأل أباه رضي الله عنه فقال: يا أبت: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فهل كانوا يقنتون؟
قال: أي بني: إنه مُحْدث.وهو حديثٌ رواه أصحاب السنن،
قالوا: فهذا يدل على أن المداومة على القنوت تعتبر بدعة.
وقالوا: إن الأحاديث التي دلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة الفجر إنما كانت في أول الأمر، ثم نسخ ذلك.وأجابوا عن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بالطعن في سنده، وهو حديثٌ متكلمٌ في سنده، رواه البيهقي وغيره.
ولذلك فالذي يظهر من هذه المسألة أحد أمرين: الأول: ما اختاره جمعٌ من المحققين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل القنوت أحياناً ويتركه أحياناً.وهذا مسلك يسلكه بعض العلماء رحمة الله عليهم في الجمع بين النصوص.
والمسلك الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لحاجة، فيعتبر القنوت سنة إذا وجدت الحاجة.وهذا القول الأخير هو أحوط الأقوال وأولاها بالصواب إن شاء الله؛ لأن الصلاة شأنها عظيم، وقد حصل التردد بين كون القنوت باقياً وبين كونه منسوخاً، ولا شك أن الأدلة على نسخه أقوى،
أي: نسخ المداومة عليه،
فإن الله عز وجل أوحى إلى نبيه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] فكفّ عليه الصلاة والسلام.
وجاء في الحديث الآخر: (أنه لما قنت يلعن رعلاً وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله،
وقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر،
واجعلها عليهم سنين كسني يوسف أوحى الله إليه: يا محمد: إنا لم نجعلك نكالاً، وإنما جعلناك رحمةً للعالمين) -صلوات الله وسلامه عليه
- وكان فيما أنزل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] أي: لا تدعُ عليهم، فلعلّ الله أن يتوب عليهم، ولذلك فالفاسق والمجرم والكافر المعين لا يدعا عليه، وإنما يدعا بتوبته، ويدعى بكف بأسه عن المسلمين، ومنه أخذ جمعٌ من أهل العلم تحريم لعن الكافر المعين، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نُهي عن ذلك، أما الدعاء على الكافر فإنه يشرع ولا حرج، ولكن الأفضل والأكمل أن يدعا بصلاحه وبهدايته إن أمكن ذلك.وبناءً على هذا فالقنوت يشرع عند وجود النوازل، والنوازل المراد بها المصائب والنكبات، كأن يعتدى على أعراض المسلمين، أو على دمائهم، أو يضيق بهم الحال في كربٍ أو خطب، فيلجأون إلى الله بالدعاء،
وهذا هو الأصل الذي دعا الله إليه عباده فقال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، والمسلمون (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).ولا يبلغ المسلم حقيقة الإسلام، ولا يبلغ المؤمن حقيقة الإيمان إلا إذا بلغ به الحال أنه إذا بلغه ضرر بأخيه المسلم أحس به كما يحس به أخوه المسلم أو أشد، ولذلك كان بعض العلماء رحمة الله عليهم إذا بلغه المصاب في المسلمين، أو النكبة تحل بالمسلمين تأثر، وربما مرض حتى يعاد في بيته، وهذا من كمال الإيمان، ومما جعله الله عز وجل وشيجة بين المؤمنين،
كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد).فإذا نزلت المصيبة بالمسلمين هنا أو هناك شرع أن يقنت، وأن يدعا بالنجاة والسلامة لمن ابتلي، وكذلك يدعا بكفّ بأس الذين ظلموا عن المسلمين، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك فهذا القول يعتبر أعدل الأقوال، وفيه جمع بين النصوص، خاصةً وأنه أعمل السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحالة التي فعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم القنوت.وبناءً على ذلك يشرع القنوت للنوازل في دفع ضرر عام أو خاص على بلاد المسلمين.
[السنة في القنوت]
وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت،
منها دعاؤه المشهور: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونهجر من يفجرك، اللهم لك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق)، وقد كانت سورة تتلى من سور القرآن، وكان يقنت بها في دعاء القنوت.فالسنة أن الإمام إذا دعا في القنوت أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما في هذا الدعاء الوارد من إظهار الفاقة والحاجة إلى الله سبحانه وتعالى، والاعتراف له بالعبودية، والإسلام له سبحانه وتعالى.
ثم إنه يقتصر على أمرين: الأول: أن تدعو بكف بأس الذين ظلموا، فتدعو على الكافرين أن يستأصل الله شأفتهم، وأن يكفّ بلاءهم عن المسلمين.
الثاني: الدعاء للمسلمين أن يرحمهم الله، وأن يغاثوا، وأن يعجل لهم بالنصر إن كانوا في ضائقة.وأما الزائد على ذلك من الأدعية الأخرى فلا يشرع في هذا الموضع؛ لأنه كلام أبيح للضرورة، ولا يجوز فيما أبيح للضرورة والحاجة أن يزاد فيه على الوارد، فإن هذا القنوت إنما شرع للنازلة، فيتقيد الإمام فيه بالوارد،
حتى قال الإمام أحمد: إن زاد حرفاً واحداً
-أي: عن الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- فاقطع صلاتك.
أي: لا تأتم به إذا خرج عن السند والسبب في هذا أنه إذا زاد كلاماً آخر فإنه قد خرج عن كونه قانتاً إلى كونه مُحدثاً، نسأل الله السلامة والعافية.فينبغي على الأئمة أن يتقيدوا بما ورد،
وأن لا يزيدوا على هذه السنن الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالوارد موصوف بهذين الوصفين: أولهما: ما ورد من الثناء على الله عز وجل في هذه الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم،
كقوله: (اللهم لك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق) إلى آخره.الثاني: الدعاء بالنجاة للمسلمين والهلاك على الكافرين، ولا حرج أن يعمم في دعائه أو يخصص قوماً؛ فإن تخصيص القوم جائز إذا كان لا يعني منهم شخصاً معيناً، ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رعلٍ وذكوان وعصية عصت الله ورسوله، فلا حرج إذا دعا على طائفة أن يكون دعاؤه على هذا الوجه لثبوت السنة به،
وقال بعض العلماء: إذا سمى طائفةً أو سمى جماعةً بعينها فإنه يعتبر داخلاً في نهي الله عز وجل لنبيه؛
لأن سبب نزول الآية إنما ورد في دعائه عليه الصلاة والسلام على مضر في قوله: (اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف)،
قالوا: فخصص، وتعتبر مضر بطوناً كثيرة، ومع ذلك نهاه الله عز وجل.وهذا القول لا شك أنه من القوة بمكان، فلو دعا على الكافرين فإنه يعمم،
ولذلك كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (اللهم قاتل الكفرة من أهل الكتاب الذي يصدون عن سبيلك)، فعمم صلوات الله وسلامه عليه، ولم يخص منهم طائفة دون أخرى.
[قنوت النازلة وموضعه]
قال: [إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة غير الطاعون فيقنت الإمام في الفرائض].
قوله: (إلا أن تنزل) استثناء، والاستثناء -عند أهل العلم رحمة الله عليهم-: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ.
فكأنه يقول: إنه لا يشرع أن يقنت إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة، وقد ذكرنا ذلك.
قوله: (غير الطاعون) الطاعون: مرض يصيب الجوف، ويعتبر شهادةً، فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أصابه الطاعون فمات منه -والعياذ بالله- يعتبر في حكم الشهيد.
ويقول بعض العلماء: إنه هو المرض المعروف اليوم بالكوليرا فتعتبر هي الطاعون، ومن مات بها فإن هذا الموت يعتبر شهادة،
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الطاعون: (أنه رحمةٌ بالمؤمن، ونقمةٌ على الكافر)، فإذا انتشر بين المسلمين فإنه رحمةٌ يريد الله أن يرحم بها عباده المسلمين، وإذا انتشر بين الكافرين فيعتبر عاجل نقمة عجلها الله لهم في الدنيا قبل الآخرة، ولا يشرع إذا نزل هذا المرض أن يدعا أو يقنت،
قالوا: لما فيه من معنى الرحمة، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم طُعنوا كما في طاعون عمواس في عهد أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنهم أجمعين، فلم يقنت رضي الله عنه، ولم يسأل الله رفعه،
ولذلك قالوا: لا يشرع في هذا أن يدعا برفع البلاء.
قوله: [فيقنت الإمام في الفرائض].
قد جاءت أحاديث تدل على هذا،
وقد اختلف العلماء في ذلك: فمنهم من يخص القنوت بالفجر، وهذا لا شك أنه لا شبهة فيه ولا إشكال، ومن أهل العلم من قال بالعموم في الصلوات.والسبب في هذا الخلاف ورود أحاديث اختلف في تصحيح أسانيدها، فمن يصحح أسانيدها يقول بمشروعية القنوت في الصلوات الخمس، وأنه لا فرق بين السرية والجهرية، وأنه في السرية يقنت ويكون قنوته سرياً، ويعتبر هذا تابعاً للسنة كما ذكرنا.ومن أهل العلم من خصه بالجهرية دون السرية،
وقال: إنما يشرع القنوت في الجهرية دون السرية، ولذلك فعله النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر.
[صلاة التراويح]التراويح: تفاعيل من الراحة، وسميت التراويح بهذا الاسم لأنهم كانوا يتروحون ويرتاحون بين كل أربع ركعات، فكانوا يرتاحون لطول القيام، وقد اختار عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب أن يصلي بالناس بعد صلاة العشاء، وكان أبي رضي الله عنه من حفّاظ كتاب الله عز وجل، وكان من الصحابة القلائل الذين جمعوا حفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفاه شرفاً وفضلاً ونبلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلاة وارتج عليه،
فلما سلم قال: (أفي الناس أبي؟
قال: نعم.
قال: ما منعك أن تفتح عليّ آنفاً؟)، فاختاره من بين الصحابة.
وثبت في الحديث الصحيح: (أن الله أوحى إلى نبيه أن يقرأ القرآن على أبي، فقال أبي: وسماني لك؟ قال: نعم.فبكى -رضي الله عنه وأرضاه-)، فلما قام بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أطال قيامه، فقام بهم من بعد صلاة العشاء وأطال بهم القيام، فكان يروح أو يرتاح بهم بين الأربع، فلذلك سميت التراويح بهذا الاسم.
[أصل مشروعية صلاة التراويح]
صلاة التراويح من أهل العلم من يقول: إنها شرعت بهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من يقول: إنها شرعت في أصلها بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم شرعت بوصفها بسنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.وهذا القول الثاني أدق، ووجه ذلك أن الصحابة اجتمعوا وصلّى بهم النبي صلى الله عليه وسلم الليلة الأولى، ثم كثروا في الليلة الثانية، ثم كثروا في الليلة الثالثة، فلم يخرج إليهم عليه الصلاة والسلام، حتى حصبوا الخيمة التي كان فيها ليشعر،
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إنه لم يخف عليّ مكانكم البارحة، ولكني خشيتُ أن تفرض عليكم)، فامتنع من الخروج والصلاة بهم خوف أن تفرض هذه الصلاة على الأمة، وكان عليه الصلاة والسلام من رحمته وشفقته ورفقه بالمؤمنين يخشى أن ترهقهم التكاليف، فيعجزون أو يمتنعون عن فعلها فتكون فتنةً عليهم، فكان صلى الله عليه وسلم ممتنعاً من أجل هذا المعنى، فلما توفي صلّى الناس قيام رمضان في المسجد، فصار هذا يشوش على هذا، وتجدهم أوزاعاً كلهم يصلي، وصلاة الليل فيها نوع من الجهر، فلا يجهر بها جهراً كاملاً ولا يخافت، فلما صار بعضهم يشوش على بعض جمعهم عمر رضي الله عنه -وهو المحدّث الملهم- على أبي، فكانت سنةً حسنةً منه، فكان أصلُ الجمع مستنداً إلى السنة من فعله عليه الصلاة والسلام، لكن الوقت الذي اختاره من كونها بعد صلاة العشاء لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فاستند إلى الأصل في قيام الليل، وكانت الصفة من كونها في أول الليل من سنة عمر، ولذلك لو اعترض معترضٌ على فعل التراويح والتهجد في آخر رمضان أجيب بهذا الجواب،
وقيل له: إن التراويح شرعت سنةً عمرية، أي أنها سنة، وحصل الإجماع عليها، وأما التهجد فيكون بعد الهجود؛ لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تهجده إنما كان بعد اضطجاعه، فسمي التهجد تهجداً لأنه بعد الهجود، وهو أكمل وأفضل وأعظم ما يكون لكونه بعد الراحة والاستجمام،
كما أشار الله إلى ذلك حينما أمر به نبيه فقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79].فكان هذا القول أدق من هذا الوجه، فتكون سنةً عمرية من جهة الوقت،
أي: كونها في أول الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جمع الصحابة في آخر الليل.
[عدد ركعات صلاة التراويح]
قال رحمه الله تعالى: [والتراويح عشرون ركعة]
في القرون المفضلة كانوا يقومون بعشرين ركعة، وفي هذا العدد حديثٌ عن ابن عباس مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه حديث ضعيف، فيه إبراهيم بن عثمان، وهو ضعيف باتفاق المحدثين.وفيه كذلك أثر السائب بن يزيد في قيام أبي بن كعب، وتكلم العلماء فيه، فمنهم من صححه كالإمام النووي وغيره، ومنهم من ضعفه، وكانت عشرين على عهد عمر رضي الله عنه، واستمر هذا في عهد السلف الصالح، فقد كان في عهد مالك رحمة الله عليه، وكذلك أدركه الأئمة كالإمام أحمد رحمة الله عليه، وهذا يدل على أن له أصلاً، ومن المعلوم أن المدينة إلى عهد مالك -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - لم تدخلها بدعة واحدة، ولذلك رأى الإمام مالك أن العمل بقول أهل المدينة حجة إذا كان من الأمور الظاهرة، وقد فصّل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالةٍ نفيسة في إجماع أهل المدينة.فكون التراويح تصلى بعشرين ركعة إلى عصر مالك -كما نقل في الموطأ ما يدل عليه ويشهد له- يقوي أن هذا العدد له أصل، لكن اعتقاد أن هذا العدد بمثابة اللازم، والمحافظة عليه على وجهٍ يُظَنّ أنه لازم لا تشرع الزيادة عليه ولا النقص منه لا أصل له، ولذلك ينبه على أن فعله من حيث الأصل جائز؛ لأنه داخل تحت الأصل الذي يطلق قيام الليل، لكن إذا اعتقد الشخص أنه لا تجوز الزيادة على ثلاث وعشرين، أو أنه لا يجوز النقص عن ثلاث وعشرين، وتقيد بذلك والتزم فقد أحدث، ووجه الإحداث فيه أنه ظن ما ليس بلازمٍ لازماً، واعتقد فضل الثلاث والعشرين بعينها دون ورود نص بالتحديد، فكان تبديعه من هذا الوجه، أما لو صلّى ثلاثاً وعشرين على أصل أنه كان محفوظاً، وأراد بذلك التخفيف، كالإمام يريد أن يخفف على كبار السن ونحوهم، فيجعل طول القيام لأجل أن يكون أرفق بهم فلا حرج في ذلك، والهدي الأكمل والأفضل والأعظم أجراً اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاقتصار على إحدى عشرة ركعة، فهي الثابتة في حديث أم المؤمنين عائشة، وإن زاد إلى ثلاث عشرة ركعة فلا حرج؛ فإنها سنة كما في الحديث الآخر، وكذلك إلى خمس عشرة ركعة، كما هو حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه في السنن، فكلٌ على سنةٍ وخير،
ولا يجوز لأحدٍ أن يقول: إن الإحدى عشرة ركعة واجبة، فمن زاد عليها يعتبر مبتدعاً.
فليس هناك أحدٌ من أئمة السلف رحمة الله عليهم يقول: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة؛
لأنك إذا قلت: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة فمعناه أنه يجب على من قام الليل أن يلتزم بإحدى عشرة ركعة،
ولكن تقول: الهدي الأكمل والأفضل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المحافظة على إحدى عشرة ركعة، أما أن يعتقد أن من زاد على إحدى عشرة ركعة أنه مبتدعٌ فلا، ويأبى الله ويأبى رسوله عليه الصلاة والسلام ذلك؛ لثبوت الأدلة من الكتاب والسنة على مشروعية الزيادة على إحدى عشرة ركعة.
أما الدليل الأول على إطلاقها فقوله سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، فأطلق ولم يقيد، ولم يلزم بعددٍ معين.
وقال سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ} [الزمر:9]، فأطلق ولم يقيد.
وقال تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:2]، فأطلق ولم يقيد.
وقال سبحانه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79]، فأطلق ولم يقيد.فدليل الكتاب صريحٌ في عدم الإلزام بعدد معين.
ثم انتقلنا إلى السنة فوجدناها قد دلت على هذا قولاً وفعلاً وإقراراً: أما القول فقد وجدنا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما سأله السائل -كما في الصحيحين من حديث ابن عمر
- عن صلاة الليل كان الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة)، فلم يبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الليل يلزم فيها بإحدى عشرة ركعة، وإنما أطلق له،
وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل).وأقوى الأدلة دلالةً على عدم الإلزام بإحدى عشرة ركعة ما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل إلى المدينة خاطب أهل المدينة -وهم لم يروه يقوم الليل
- خاطبهم بقوله: (أيها الناس أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام)، فلو كانت هذه الإطلاقات مقيدة بالفعل فكيف يفهم أهل المدينة في أول لحظة يلقون النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنهم مطالبون بإحدى عشرة ركعة،
وهو يخاطبهم ويقول: (صلوا بالليل والناس نيام)؟ فأطلق لهم، ففهمنا من هذه الأدلة في الكتاب والسنة أن قيام الليل على الإطلاق،
ثم جاء فعل النبي صلى الله عليه وسلم فوجدناه على صورتين: فصورة إحدى عشرة ركعة ترويها عائشة، وصورة في الزيادة على إحدى عشرة ركعة يرويها ابن عباس وغيره،
وبناءً على ذلك فإنك لو قلت: احملوا المطلق على المقيد من فعله عليه الصلاة والسلام يرد الإشكال: أنحمله على إحدى عشرة ركعة، أو على ثلاث عشرة ركعة، أو على خمس عشرة ركعة؟ ثم إن مسلك حمل المطلقات على المقيدات في مثل هذا ضعيف، ولا يتأتى بحال؛
لأنك لو قلت بهذا لزمك أن تقول: إن صلاة النهار المطلقة مقيدة بما ورد؛ لأنه كما قيدت في صلاة الليل تقيد في صلاة النهار، فتعتبر من زاد على ما ورد في صلاة النهار مبتدعاً ولا قائل بذلك، فعلى العموم لو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث واحد ينهى عن الزيادة على إحدى عشرة ركعة ما حل لمسلمٍ أن يجاوزه،
ثم إننا لم نجد في عصر القرون المفضلة التي شهد لها بالخيرية إماماً واحداً من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم يقول: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة.ومن وجد أحداً من السلف الصالح من الأئمة الذين هم أهل الفضل والعلم في القرون المفضلة يقول بذلك فإنها فائدةٌ عظيمة وليتحفنا بها، لكن الذي يظهر من أدلة الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح من هذه الأمة أن الأمر موسّع فيه،
وأنك إذا أردت أن تلتزم السنة تقول: الأفضل والأكمل أن يصلى كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة، فتكون ملتزماً بدليل النص.
ثم لو قلت: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة فاعلم أنك تقول ذلك بالاجتهاد، ووجه الاجتهاد أنك حملت مطلق النص على المقيد، وهذا -كما هو معلوم- ليس من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يقوى على ترك النصوص المطلقة التي هي من كلامه،
كقوله: (صلوا بالليل والناس نيام)، وكذلك التي من نص القرآن، فضلاً عن أن حمل المطلق على المقيد فيه النزاع المعروف بين الأصوليين، فالتزام نصوص الكتاب والسنة الواردة أولى من الميل إلى هذا الاجتهاد في حمل المطلق على المقيد مع ضعفه من جهةٍ أصولية؛ لأن فقه الأصول في حمل المطلق على المقيد أن يكون الأصل دالاً على التقييد، أما إذا كان الأصل دالاً على الإطلاق فإنه لا يقوى حمل المطلق على المقيد في مثل هذا، فهذا الذي ظهر والله تعالى أعلم.فإذا ثبت هذا فهل الأفضل لو صلّى الإمام ثلاثاً وعشرين ركعة أن تنصرف من عشر ركعات تتأول السنة، أو تبقى معه إلى تمام قيامه؟ والجواب أنه إن انصرف من عشر ركعات فإنه يكون على الحال المفضول، وإن انصرف من ثلاث وعشرين ركعة فلا شك أنه يكون على الأفضل،
وذلك لثبوت النص في قوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع إمامه حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة).
وإذا قال قائل: إنه الإمام الأول فهذا ضعيف؛ لأنه إذا قيل بأنه الإمام الأول الذي ينصرف من خمس تسليمات فمعنى ذلك أنك تخالف معنى النص؛ لأن النص إنما جاء من أجل شحذ همم المأمومين للبقاء مع الأئمة،
فقصد الشرع من قوله: (من قام مع إمامه حتى ينصرف) أن يبين فضل معونة الأئمة على البقاء،
فإذا قال: إنه الإمام الأول خالف المقصود.ثم إن الإمام الأول إذا انصرف فإنه لم ينصرف حقيقةً، وإنما بقي كما هو معلومٌ ومعهود، وبناءً على ذلك فلا يسلم الانصراف لا من جهة معنى النص، ولا من جهة دلالة ظاهر الحال، فلا يشك أن البقاء إلى انتهاء التراويح بكمالها أقرب إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرب إلى هديه،
فهو أكمل من وجوه: أولها: أنه ظاهر قوله: (من قام مع إمامه حتى ينصرف)، فلم يفصّل النبي صلى الله عليه وسلم بين إمامٍ يلتزم الإحدى عشرة ركعة أو يزيد.
ثانياً: أنه إذا بقي مع الإمام حتى ينصرف فإن هناك فضائل كثيرة لا يشك أنه مثابٌ عليها، منها: سماعه للقرآن، ومنها: قيامه بين يدي الله راكعاً ساجداً،
ومنها: ما يكون من مشقة ومؤنه العمل،
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثوابك على قدر نصبك)،
أي: على قدر تعبك.
وقال الله تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195]، فلا شك أنه لو بقي إلى تمام التراويح فهو أفضل وأعظم أجراً، وأضف إلى ذلك أن آخر التراويح فيه الوتر، خاصةً في الثلثين الأولين من الشهر، وهذا الوتر فيه دعوة المسلمين، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحائض أن تشهد صلاة العيد وتعتزل المصلى، مع أن عندها العذر وممنوعةٌ من الصلاة،
فقال: (وأما الحيّض فليعتزلن الصلاة وليشهدن الخير ودعوة المسلمين)، فلا شك أنه لو بقي إلى انصراف الإمام الأخير أصاب هذه الفضائل التي دلت عليها السنن، وبناءً
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة التطوع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (106)
صـــــ(9) إلى صــ(16)
[حكم الجماعة في صلاة الليل]
قال رحمه الله تعالى: [تفعل في جماعة].
صلاة التراويح مما تشرع له الجماعة، وهنا مسألة،
وهي: لو أن قوماً خرجوا ذات يومٍ، أو ذات ليلة ثم قام رجلٌ منهم يصلي، فصلوا معه جماعة في غير رمضان، فهل تشرع الجماعة في غير التراويح في قيام الليل؟و a هذه المسألة لها صورتان: الصورة الأولى: يسميها العلماء الجماعة قصداً.
والثانية: أن تكون اتفاقاً.
أما الجماعة قصداً فصورتها أن يقول قائل: إذا سافرنا أو بتنا الليلة نقوم الليل جماعة، فمعنى ذلك أنهم قصدوا القيام.
والحالة الثانية: أن تكون اتفاقاً، كأن تقوم في المسجد فيأتي رجلٌ ويأتم بك، أو تكون مع جماعة في السفر فتتوضأ وتقوم تصلي بالليل فيراك أخوك فيأتي بجوارك، ثم يأتي الثاني والثالث حتى تصير جماعة، لكن اتفاقاً لا قصداً،
أي: موافقةً دون أن يكون ذلك بترتيب معين.فإن كانت قصداً فقد منع منه طائفة من العلماء، وأشار إلى ذلك غير واحد من محققي أهل العلم، فلا تشرع الجماعة في قيام الليل في غير رمضان، وهذا الذي أشار إليه المصنف رحمة الله عليه بما ذكر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم مع سفره وكثرة خروجه وحصول الجماعة له حتى في بيته -كما في حديث ابن عباس وابن مسعود - فإنه لم يطلب منهم أن يكونوا معه جماعة، فلم يحدث الجماعة على سبيل القصد.أما الحالة الثانية، وهي أن تكون الجماعة اتفاقاً، كأن تقوم تصلي ويأتي رجل بجوارك ويصلي معك، أو يكون هناك إنسان عرف بقيام الليل فرأيته فقمت معه فهذه سنة؛ لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود وحديث عبد الله بن عباس، قال رضي الله عنه -أعني ابن عباس -: (بِتُّ عند خالتي ميمونة، وبتّ في عرض الوسادة، فلما كان هوياً من الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح النوم من عينيه، ثم تلا الآيات من آخر سورة آل عمران،
ثم قال: ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن،
قال: فتوضأ، ثم قام فكبر، فقمتُ فصنعت مثل ما صنع، فقمت عن يساره فأدارني عن يمينه)، ووجه الدلالة أن ابن عباس تبع النبي صلى الله عليه وسلم في فعله، فوقعت جماعة ابن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقاً لا قصداً،
بمعنى أنه لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قمتُ فقم معي وكذلك الحال في قيامه عليه الصلاة والسلام مع بقية الصحابة.وعلى هذا فإنه تشرع الجماعة اتفاقاً لا قصداً،
فلو قال جماعة في رحلة أو نحوها: سنصلي بالليل.وألزموا من معهم أن يصلوا معهم جماعة فإن هذا يعتبر مضيقاً فيه عند العلماء رحمة الله عليهم، خاصةً وأن قيام الليل كما هو معلوم أمرٌ أقرب إلى الإخلاص، وأقرب إلى معاملة الله سبحانه وتعالى بالسر، فإذا رتب لها، أو أمر بها إنسانٌ كانت أشبه بالفريضة، ولذلك لا يدعا الناس إلى مثل هذا إلا بسنة أو بدليل من الشرع ولا دليل،
فهذا بالنسبة لقوله: [تفعل في جماعة]، فقيام الليل جماعة إنما يفعل في التراويح، أو يفعل على سبيل الاتفاق لا القصد.
[وقت التراويح ووقت الوتر في لياليها]
قال رحمه الله تعالى: [تفعل في جماعةٍ مع الوتر بعد العشاء في رمضان].أي أنه يقوم بهم ويوتر، ولذلك يوتر بهم في التراويح، فإذا جاءت أواخر رمضان وأرادوا أن يقوموا في التهجد فلا شك أن الأفضل انصرافهم بدون وتر؛ لما يحدثه قيامهم بالوتر في أول الليل وآخر الليل ما هو معروف من اللبس على الناس، مع أن أكثرهم يحضرون ويشهدون التهجد، ولذلك يوتر وتراً واحداً،
خروجاً من مخالفة حديث الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام في قوله: (لا وتران في ليلة) وعلى هذا فالسنة في إيقاع صلاة جماعةً على هذا الوجه يختص بها شهر رمضان، والسبب في هذا أن رمضان نُدِب إلى إحيائه، وثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم النصوص بمشروعية هذه الجماعة في رمضان دون غيره، والأصل أن يتقيد بالوارد، فكانت السنة في قيام رمضان بالتراويح في أول الليل خاصة برمضان دون غيره من سائر الشهور.
وقوله: (بعد العشاء) أي: بعد صلاة العشاء، ويكون هذا -كما هو معلوم- بعد أن تصلى سنة العشاء، ولذلك يبتدأ بسنة العشاء، ويترك للناس وقت ليصلوا سنة العشاء، ثم يبتدأ بصلاة التراويح، وتعتبر صلاة التراويح في الأصل قياماً لأول الليل، وصلاة التهجد قياماً لآخر الليل، والقيامان بينهما فرق، فقيام التهجد أفضل من قيام التراويح، فإذا كان الشخص لا يستطيع أن يقوم الاثنين معاً فإن الأفضل والأكمل أن ينتظر إلى قيام التهجد؛ لما فيه من هجر النوم والكرى، وهذا أبلغ في الطاعة والعبودية، وأكثر عناءً ونصباً وتعباً، ثم إن فيه إحياءً لآخر الليل الذي ثبتت فيه النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بفضل إحيائه، وأنه أفضل ما تكون فيه صلاة العبد،
كما قال عليه الصلاة والسلام للصحابي في شأن جوف الليل الآخر: (وإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) أي: في جوف الليل الآخر.
[ويوتر المتهجد بعده].
أي: بعد صلاة التهجد.وهذا هو الأصل؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، فالسنة في الوتر أن يجعل بعد التهجد،
أي: في آخر التهجد، وهذا فيه حكم: منها: أن يكون وتراً للصلاة على ظاهر ما ورد في السنة.
وثانياً: أنه يصيب السَحَر، أو يقارب السَحَر الذي يكون فيه الدعاء أسمع،
كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن دعاء السحر أسمع، ففي الحديث الصحيح أن الله تعالى ينزل كل ليلة في الثلث الآخر، ويقول: (هل من داعٍ فأستجيب دعوته، هل من مستغفرٍ فأغفر له ... ) الحديث.فهذا يدل على فضل الدعاء في مثل هذه الساعات، ولذلك يكون الوتر آخر الليل،
وفي الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر)، فمن صلّى التهجد فإنه يجعل وتره في آخر التهجد، وهذه هي السنة.
[الجمع بين أكثر من وتر في ليلة]
قال رحمه الله تعالى: [فإن تبع إمامه شفعه بركعة].
قوله: (فإن تبع إمامه) أي: في التراويح طلباً للفضل،
فإذا صليت التراويح وأوتر الإمام فللعلماء أوجه: قال بعض العلماء: لا توتر معه، حتى لا يكون وتران في ليلة، إذا كنت تريد أن تتهجد وتوتر.
وقال بعضهم: توتر معه، وتوتر في التهجد، وتوتر بعدهما.وقال بعضهم: توتر في التراويح، ثم تصلي التهجد، وتترك وتر التهجد بناءً على أن الفضل للأول منهما والأسبق.
والذي يظهر والله أعلم أن الأفضل والأولى أن توتر في التراويح لكي تحصل ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع إمامه حتى ينصرف)، فإن انصراف الإمام -كما هو معلوم- إنما يكون بعد الوتر لا قبل الوتر، فتوتر معه في التراويح، ثم إذا قام للتهجد فإنك تصلي ركعةً قبل التهجد تنقض بها الوتر الذي أوترته مع الإمام، ثم تصلي ركعتين ركعتين، ثم تجعل وتر الإمام هو وترك، فهذه هي أسلم وأفضل الصور، وهي مأثورةٌ عن عبد الله بن عمر.أما دليل فضلها فلكونك تدرك فضل القيام مع الإمام في التراويح إلى الانصراف، وقد ثبت النص بتفضيل هذه الحالة، وأنها كقيام الليل.
وأما نقض الوتر الأول بركعة فيدل له قوله: (لا وتران في ليلة)، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة) ونهيه عن إيقاع الوترين في ليلة يدل على أن أحدهما ناقضٌ للآخر؛ لأن العلة في النهي عن الوترين في الليلة أنه يجعل العدد شفعاً، ويصير مثنى، وقد قصد الشرع أن تختم صلاة الليل بالوتر، وهذا يكون مؤكداً لما ذكرناه من أن الركعة المنفصلة ناقضةٌ للركعة التي وقعت في التراويح،
فإن قوله: (لا وتران) يدل على أن الوتر الثاني يؤثر في الوتر الأول؛
إذ لو لم يكن مؤثراً في الوتر الأول لما قال: (لا وتران في ليلة).والأمر الثالث في هذا الفضل أنه يدرك أيضاً الإيتار مع الإمام في التهجد، فهو أفضل من القول بتركه، ولا شك أن وتر التهجد أفضل؛ لما فيه من إصابة السنة التي ذكرناها من كونه يقع في هذا الوقت الذي يكون فيه الدعاء أسمع، ولكونه مطابقاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.وأضف إلى هذه الفضائل كلها أنه قد جاء عن عبد الله بن عمر فعل ذلك.
ويتخرّج على هذا أن من أوتر ثم نام ثم استيقظ فهو على حالتين: الحالة الأولى: أن يريد أن يصلي ركعتين ويقتصر عليهما، فهذا السنة له أن يصلي الركعتين، ولا ينقض الوتر الأول، ولا يوتر بعد الركعتين،
لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى ركعتين بعدما أوتر)، وألف الحافظ ابن حجر في هذا رسالة أثبت فيها الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وفي السنن التي تدل على شفعه بعد الوتر، وأنه فعل ذلك على سبيل الجواز لكي يبين الجواز للأمة.
الحالة الثانية: أن يكون قصده أن يصلي أكثر من ركعتين، وأن يقوم آخر الليل، فهذا الأفضل له أن ينقض الوتر الأول بركعة كما ذكرنا،
لحديث الترمذي: (لا وتران في ليلة)، ثم يصلي شفعاً شفعاً،
ثم يوتر لقوله عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، فيصيب هذه السنة، خاصةً وأنها جاءت بالأمر المشتمل على الحث والحض، فيطابق السنن من هذه الوجوه كلها.
أما إذا صلى مع الإمام الوتر وقام ليشفع بركعة ففيه وجهان للسلف: قال جمهور العلماء: إنه يسلم مع الإمام.
وهذا على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به).
قالوا: فلا يحدث الركعة الزائدة، وذلك لأن الأصل فيه أن يتابع الإمام، فليست هذه الركعة الزائدة واجبةً عليه حتى يتكلف القيام لها ويأتي بالشفع.
والقول الثاني: أنه يأتي بركعةٍ شفعية.وهذا القول هو إحدى الروايات عن الإمام أحمد في هذه المسألة، فينقض وتره مع الإمام بركعة بعد سلام الإمام.والقول الأول بأنه يسلم مع الإمام على ظاهر السنة،
وأما القول بالشفع فإن أقل درجاته أنه خلاف الأولى لأمور: أولها: أنك إذا صليت مع الإمام وشفعت بعد سلامه خالفت ظاهر الحديث: (إنما جعل الإمام ليؤتم به).ثانياً: أنك تستبيح الدعاء في الركعة الأولى مع أنك تريد الشفع، ولا يعرف في الشرع صلاة شفعية يكون الدعاء في الركعة الأولى منها، وإنما يكون الدعاء في الشفعية في الثانية كالفجر، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا شفعت وترك كنت قاصداً لركعتين مستبيحاً للدعاء في أولهما، ولا صورة في الشرع لمثل هذه الصلاة.
ثالثاً: أنه يُحدثُ جلوساً بين ركعتين شفعيتين، ولا يعرف في الشرع صلاة شفعية يجلس فيها بين الأولى والثانية للتشهد، فإنه سيستبيح الجلوس في التشهد والدعاء والذكر بعد انتهائه من السجدة الثانية من الركعة الأولى.
رابعاً: أنه -خاصةً في أول الشهر- إذا صلى مع الإمام وقام أمام الناس لكي يأتي بركعة فكأنه يشير وينبه على أن له حظاً من قيام الليل في آخره، ولذلك يكون في هذا شيءٌ من الإظهار للعبادة، فإذا سلم مع الناس كسائر الناس خفيت عبادته، لكن لو قام أمام الناس فإن هذه ينبه على أن عنده ورداً في آخر الليل، وكأنه يشعر بهذه الصلاة التي سيصليها، والتي الأولى فيها والأحرى أن تكون سرية بين العبد وبين الله، لذلك فالأفضل والأكمل أن يسلم مع الإمام حتى يصيب ظاهر الحديث، ثم بعد ذلك إذا أراد أن ينقض الوتر نقضه قبل دخوله في التهجد، أو يوتر ويجعل وتر التهجد ناقضاً لوتر التراويح، ثم يصلي بعد ذلك ما شاء الله،
ثم يوتر لظاهر قوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً).
[التنفل بين التراويح]
قال رحمه الله تعالى: [ويكره التنفل بينها لا التعقيب بعدها في جماعة].
أي: يكره التنفل بين التراويح، فإذا صلى الإمام التراويح وجلس بين الركعات، كأن صلى تسليمتين، ثم جلس لكي يخفف على الناس ويرتاح الناس، فقام الإنسان يتسنن،
فإنهم قالوا: يكره والسبب في هذا أنه أثر عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه أنكر ذلك،
وقال لمن فعل ذلك: أتتنفل وإمامك أمامك؟!
ولذلك قالوا: إنه لا يتنفل بينها، ولو تنفل جاز له ذلك،
لكن مشى المصنف رحمه الله على مذهب بعض الأصوليين الذين يقولون: إن قول الصاحب حجة، فحكم بالكراهة، مع أنه لو صلى فلا حرج عليه؛ لأنه داخل في ظرفٍ شرع فيه أن يصلى فرادى وأن يصلى مع الجماعة، ألا ترى أنك لو انصرفت عن الإمام وصليت لوحدك لما أنكر عليك، وعلى هذا فإنه لا حرج أن يتنفل، والمصنف رحمه الله إنما حكم بالكراهة لما أُثِرَ عن زيد رضي الله عنه، والكراهة حكمٌ شرعي تحتاج إلى دليل، وليس عندنا دليل مرفوع؛ ولذلك لو بقي المصنف على الأصل لكان أولى وأحرى.
قوله: [لا التعقيب بعدها في جماعة].
أي: لا حرج عليه أن يعقب بعدها في جماعة، كأن يصلي في تهجد ونحو ذلك.
الأسئلة
صلاة الرجل بامرأته ليلاً
qإذا كانت الجماعة لا تستحب إلا في رمضان، فكيف يمكن الجمع بين هذا والحديث الذي يحث على قيام الزوج مع زوجته؟ وهل يصح أن يصلي مع زوجته قيام الليل والوتر؟
a أما حديث قيام الرجل مع زوجه فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله امرأً قام من الليل فصلى وأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء)، وليس فيه التصريح بصلاتهما معاً، وهو أعمّ من أن يكون جماعةً أو يكون فرادى.الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه جمع بأهله، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، فهو ما صلى بنسائه، ولا حفظ عنه في حديث واحد أنه صلى بأهله صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يقول فيه العلماء: إنه من السماحة، فكانت أم المؤمنين عائشة وأمهات المؤمنين ربما أوترن أول الليل وعجزن عن القيام آخر الليل، وهذا أمر يحتاج إلى صبر ومكابدة، فليست كل زوجة تستطيع أن تفعله، وإنما دلّ النبي صلى الله عليه وسلم على نضح الماء في وجه المرأة على سبيل الأفضلية، وعلى سبيل السنية والاستحباب، ولكن لا يستلزم ذلك وجود جماعةٍ بينهما، فإنه لم يثبت في هذا ما يدل عليه، وليس في نفس الحديث ما يدل عليه، ولا يعتبر معارضاً للأصل الذي ذكرناه.والله تعالى أعلم.
[اقتداء المسافر في صلاة المغرب بمن يصلي العشاء]
q رجل مسافر أخر صلاة المغرب إلى العشاء ليجمع جمع تأخير، وحين نزوله إلى المسجد وجد المصلين يصلون العشاء، فماذا يصنع؟
a إذا نوى الإنسان أن يؤخر صلاة المغرب والعشاء ويجمع بينهما فإنه في هذه الحالة إذا دخل المسجد فإنه يدخل وراء الإمام بنية النافلة، ثم إذا انتهى من صلاته نافلةً أقام لصلاة المغرب ثم صلاها وصلى بعدها العشاء، والسبب في كونه لا يتابع أن صلاة العشاء والمغرب ليس بينهما اتفاق في الصورة، وشرط اقتداء المأموم بالإمام عند اختلاف نية الصلاتين أن تتحد صورتهما، والصورة هنا مختلفة، فالثلاث لا تصلى وراء الأربع، ولا يمكن بحال أن تتحقق المتابعة على الصورة المعتبرة شرعاً، وإن كان بعض العلماء -وهو وجهٌ ضعيف شاذٌ يحكى ولا يعول عليه قال به بعض فقهاء الشافعية قياساً على صلاة الخوف- قالوا: يجوز له أن يدخل وراء من يصلي العشاء، ثم إذا انتهى الإمام من الركعة الثالثة جلس، وترك الإمام يتم الركعة الرابعة قياساً على صلاة الخوف.وهذا محل نظر؛ لأنه قياس في صورة التعبد، وفيما هو تعبدي يفتقر إلى نص يدل على مشروعية هذه الصورة وجوازها.ثانياً: أن نفس القياس معارض بأنه قياسٌ على الخارج عن الأصل، والقاعدة أن ما خرج عن الأصل لا يقاس عليه.توضيح ذلك أن صلاة الخوف خارجة عن الأصل، ولذلك الإمام في بعض الصور يصليها أربعاً والمأمومون يصلون ركعة ويفارقونه، والطائفة الثانية تصلي ركعة وتفارقه، وهذا لا يعرف في سنن الصلاة أو الجماعة الأصلية، ولذلك قالوا: إن ما عدل عن سنن القياس -أي: عن الأصل- فغيره عليه لا ينقاس.كما لو قال قائل -مثلاً-: أقيس الأخ لو قذف أخاه -والعياذ بالله- بالزنا على الزوجة، فيشرع بينهما اللعان قياساً على لعان الزوج لزوجته.فيكون القياس باطلاً؛ لأن أصل اللعان الذي وقع بين الزوجين خارجٌ عن الأصل؛ لأن الأصل: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، فشرع للزوجين على سبيل الخصوص، فكذلك أيضاً متابعة الإمام في الأصل واجبة على المأموم، فجاءت صلاة الخوف بعينها واستثنيت، فلا وجه لأحدٍ أن يقيس على هذا المستثنى.لكن هنا مسألة، حيث قالوا: لو أدركه في الأخيرتين من صلاة العشاء، أو أدرك إماماً مسافراً يصلي ركعتين، فقد اختار بعض العلماء أنه يدخل وراءه في ركعتين ناوياً بها المغرب، فإذا سلم الإمام قام وجاء بركعة، وهذا أخف من الذي قبله؛ لأن الذي قبله فيه اختلاف، وأما هذا فلا اختلاف في صورته، وغاية ما فيه أنه كالمسبوق يقوم ويتم لنفسه.والأحوط والأفضل ما ذكرناه من كونه يدخل متنفلاً، ثم بعد ذلك يقيم لصلاة المغرب، ثم يقيم بعدها لصلاة العشاء، أما لو نوى الجمع بين صلاتي الظهر والعصر وأخرهما فدخل ووجد إماماً يصلي العصر فإنه يدخل وراءه بنية الظهر، ثم إذا سلم الإمام أقام لصلاة العصر وصلاها؛ لأن الظهر والعصر صلاتان متفقتان في الصورة، والله تعالى أعلم.
[حكم المسبوق إذا سجد إمامه للسهو بعد السلام]
q إذا زاد الإمام في الصلاة وسجد سجود السهو بعد السلام وبعض المأمومين فاتته الركعة الأولى، فقاموا بعد سلام الإمام مباشرة، ولم يسجدوا معه للسهو، فهل يرجعون ليسجدوا للسهو، أم يتمون صلاتهم ثم يسجدون للسهو؟
a إذا دخلت المسجد وقد فاتتك ركعة، وكان الإمام قد سها في صلاته، سواءٌ أدركت السهو، كأن يقع سهوه بزيادة في ركعةٍ خامسة، أو يقع سهوه بزيادة سجدة في الركعة الرابعة، وقس على هذا، أم لم تدرك السهو، كأن يكون في الركعة التي لم تدركه فيها قد زاد شيئاً، فحينئذٍ للعلماء وجهان: قال بعض العلماء: تثبت في مكانك وتسجد معه بعد سلامه دون أن تسلم، وهذا إذا علمت أنه سيسجد، كأن تكون قد اطلعت على زيادته، فتثبت في مكانك ولا تقوم للإتمام، وذلك لأنك مطالب بالمتابعة، وإنما تنفصل عنه بعد سلامه الكلي لا سلامه الجزئي الذي يكون قبل إتيانه بسجدتي السهو، فتثبت في مصلاك، ثم تكبر وراءه ساجداً السجدتين لمكان المتابعة، ولا يضر وقوع هاتين السجدتين قبل إتمامك للصلاة؛ لأن النص استثناهما بالأمر بالمتابعة.الوجه الثاني يقول: تقوم وتتم لنفسك، ثم بعد سلامك تقضي ما فاتك من السجدتين.وكلا الوجهين صحيح، فلو أنك انتظرت وسجدت معه ولكن لم تسلم فلا حرج، ولو أنك -وهو أقوى وأولى- قمت بعد سلامه مباشرة لقوله صلى الله عليه وسلم: (وما فاتكم فأتموا) فحينئذٍ لا حرج عليك، وتسجد سجدتي الزيادة بعد سلامك من الصلاة.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة التطوع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (107)
صـــــ(1) إلى صــ(14)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة التطوع [3]
السنن الراتبة التي تصلى قبل الصلوات المفروضة وبعدها من أفضل صلاة التطوع، وقد شرعت لحكم عظيمة،
منها: الاستعداد لأداء الفريضة، وجبر النقص الواقع في الفريضة، وهي ركعتان قبل الفجر وأربع قبل الظهر وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء، ومن فاته شيء منها سن له أن يقضيه.ومن أفضل صلاة التطوع صلاة الليل، وخاصة في الثلث الأخير منه.
[السنن الراتبة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ثم السنن الراتبة].
السنن الراتبة: مجموعةٌ من الصلوات ثبت في الشرع الحث والحض عليها، وسميت راتبة؛ لأن الشرع رتبها، وهذه السنن الراتبة تفعل مع الفرائض إما قبل، وإما بعد، وإما قبل وبعد، ولذلك قسّم الشرع هذه السنن بهذا الترتيب، فجعل لبعض الصلوات المفروضة سنناً قبلها ولم يجعل لها شيئاً بعدها كالفجر، وجعل لبعضها سنناً بعدها ولم يجعل لها سنناً راتبة قبلها كما في المغرب والعشاء، فإن السنة الراتبة فيهما بعد وليست قبل، وجعل للظهر سنة راتبة قبل وسنة راتبة بعد، وجعل لبعض الصلوات رواتب ولم يجعل لبعض الصلوات لا قبلية ولا بعدية على سبيل الترتيب وهي العصر، وإن كان للعصر سنة عامة، وهي داخلة في السنن العشرين، فهناك السنن العشر الراتبة التي ذكرت هنا، وبعضهم يجعلها اثنتي عشرة ركعة على تفصيل سنذكره، وهناك السنن المطلقة التي رتبت لكن لم تكن على سبيل التقييد بالوصف الذي ذكرناه، ويجعلونها عشرين ركعة، وهي: الأربع قبل الظهر والأربع بعدها، والأربع قبل العصر، والأربع بعد المغرب، والأربع بعد العشاء، فهذه عشرون ركعة وردت بها الأحاديث وصحت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[حكمة مشروعية السنن الراتبة]
والسنن الراتبة هذه شُرعت لفضائل وحكم عظيمة؛ فإن المصلي إذا دخل إلى الفريضة مباشرة يكون في حالة أدنى من الخشوع والخضوع واستحضار القلب مما لو سبق الفريضة بسنة قبلية، كما هو الحال في صلاة الظهر، فإن الناس في الظهر يكونون على عناء العمل وشظف طلب العيش، فإذا دخلوا إلى الصلاة وهم حديثو عهد بالتجارات ونحوها فإنهم يكونون أقل خشوعاً مما لو قدموا بسنة ثم دخلوا الفريضة بعد السنة، فإن الطاعة تشرح الصدر وتيسر الذكر، وهذا محفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما أراد أن يقوم الليل عليه الصلاة والسلام استفتح بركعتين خفيفتين،
قالوا: لأن هذا الاستفتاح يهيئ النفس للإطالة، وللاستحضار وللخشوع، فكان في السنة الراتبة نفس المعنى، وهذا مجرب في الشخص الذي يأتي متأخراً في الصلوات، أو يأتي مع الإقامة، فإنه إذا دخل لا تجده في الخشوع كحالته حين يدخل بين الأذان والإقامة فيصلي الراتبة ويذكر الله، فإن الحسنة تدعو إلى أختها، فتجده بعد انتهائه من الراتبة أشرح صدراً وأكثر طمأنينة في قلبه، فهذا يقوّيه على فعل الفريضة بنفس أقوى وحضور أبلغ، وهذا إذا كانت الراتبة قبلية، وكذلك الحال إذا كانت بعدية، فإن فيها كمال خضوع وكمال تعلق بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الرواتب ليست بواجبة، فكونه بعد فراغه من الفريضة يتعلق بربه سبحانه وتعالى وينيب إليه بقيامه بهذه الصلاة الراتبة البعدية فهذا فيه كمال ذكر وكمال إنابة إلى الله عز وجل أبلغ مما لو انصرف إلى أمور دنياه بعد انتهائه من فريضته.
[عدد السنن الراتبة]
ثبت عن عبد الله بن عمر في الصحيح أنه حفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر.فهذه في الأوصاف خمس ركعتان ركعتان، وعددها عشر، وهي ثابتة وصحيحة.
وحمل بعض العلماء هذه الرواتب على حديث أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله في كل يوم ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً)،
وفي رواية: (بني له بيت في الجنة)،
قالوا: إنها هي الرواتب.وأضافوا إليها الأربع قبل الظهر، فتكون أربعاً قبل الظهر وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، فيكون المجموع ثنتي عشرة ركعة.
[مسائل في راتبة الفجر]
المسألة الأولى: أفضل هذه الرواتب وآكدها راتبة الفجر، وهي التي تسمى بالرغيبة، وكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه أنه يصليها ويخفف فيها صلوات الله وسلامه عليه،
حتى كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: (لا أدري أقرأ فيهما بفاتحة الكتاب أو لم يقرأ).
وقال بعض أهل الظاهر وبعض أهل الحديث: إنه لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب والصحيح أنه يقرأ فيها بفاتحة الكتاب،
وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما صلاةٍ)،
وقولها: (لا أدري) لا يعتبر نافياً للأصل، ولذلك يبقى على الأصل،
ويحمل قولها: (لا أدري) على التجوّز؛ فإن قول عائشة لا يقوى على معارضة النص بالإلزام بالفاتحة.وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقوم الليل فإذا بلغ السحر أوتر، ثم يترك السحر للاستغفار والراحة عليه الصلاة والسلام، فإن كانت له حاجةٌ إلى أهله فعل، وإن كانوا مستيقظين حدّثهم صلوات الله وسلامه عليه حتى يؤذن المؤذن بالصبح، ثم يصلي ركعتين وهما رغيبة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن صلوات ربي وسلامه عليه،
قال العلماء: إنما اضطجع على شقه الأيمن لأجل أن يرتاح من قيام الليل وعناء الليل.فقد كان يقوم حتى تفطرت قدماه صلوات الله وسلامه عليه، فكان يضطجع هذه الضجعة على شقه الأيمن، ولا ينام فيها، وإنما هي ضجعة، ولذلك سنّ فعل هذه الضجعة لمن قام آخر الليل، أما من كان نائماً ثم أذن عليه الصبح فإنه لا يعتبر فيه المعنى الذي كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم.وثبت عنه أنه قرأ في ركعتي الفجر بسورتي الإخلاص،
وقرأ فيهما آيتين: أولاهما من البقرة وهي قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]،
والثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ.} [آل عمران:64]، فهذا بالنسبة لهديه عليه الصلاة والسلام في القراءة فيها، وكان يخفف فيهما عليه الصلاة والسلام، ويتجوّز فيهما، ولكن مع إتمام الأركان من الركوع والسجود.
المسألة الثانية: السنة في هذه الرغيبة أن تقع بين الأذان والإقامة، فإذا أقيمت الصلاة فلا يجوز فعلها بعد الإقامة، ووردت في فعلها بعد الإقامة بعض الأحاديث الضعيفة،
ولا تصلح للاستمساك بها في معارضة النص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، وهذا النص ورد في صلاة الفجر، ولذلك لما رأى رجلاً يتنفل بركعتين بعد الإقامة،
قال: (يا هذا! بأي الصلاتين اقتديت: أبصلاتك معنا، أم بصلاتك وحدك؟!)،
وفي الحديث الآخر عن أنس قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعاً)، فلا وجه لإنشاء هاتين الركعتين بعد الإقامة،
أما لو أقيمت الصلاة وأنت في الرغيبة فأنت على حالتين: فإن كنت قريباً من السلام، أو تستطيع أن تتمها وتدرك الإمام قبل تأمينه حتى تحصل فضيلة التأمين فحينئذٍ تتم،
على ظاهر قوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33].وأما إذا غلب على ظنك فوات الركعة فإنك تقطع الرغيبة، ويكون قطعك بالسلام؛
لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، وإذا قطعتها بسلام كتب لك الأجر كاملاً؛ لأنك قطعت بعذرٍ على صورةٍ شرعية، فيكون تسليمك في موضعه، كأنك سلمت من الصلاة بعد كمالها في الحكم من ناحية الفضل، أما إذا قطعتها بدون تسليم فإنه لا يكون لك أجر العمل السابق، وذلك لأنه بمثابة الإلغاء للركعتين.وكان عليه الصلاة والسلام لا يدع هاتين الركعتين حضراً ولا سفراً، بل كان عليه الصلاة والسلام إذا نام عن صلاة الفجر قضى هاتين الركعتين قبل أن يفعل صلاة الفجر، ففي الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه أنه لما عرّس عليه الصلاة والسلام ونام عن صلاة الفجر هو وأصحابه في الوادي، في مقفله إلى المدينة، وقام وقد ارتفعت الشمس أمر بلالاً فأذن، فصلى ركعتين -وهما رغيبة الفجر- ثم أمره فأقام فصلى الصلاة.
وفي هذا دليل على مسائل: الأولى: أنه يجوز لك أن تتنفل قبل أن تفعل الفرض إذا كان وقت قضاء الفرض موسعاً،
ومن هنا تخرّج قول من يقول: يجوز أن يصوم ستاً من شوال ثم يقضي رمضان بعد ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استيقظ من نومه كان في الأصل مخاطباً بصلاة الفجر، وفي ذمته فريضةٌ هي صلاة الفجر، فاشتغل بالنافلة قبل القضاء؛ لأن الصورة صورة قضاء، فكذلك يجوز لك أن تشتغل بالنافلة بستٍ من شوال مع تعلق الذمة بقضاء رمضان لمكان التوسع في القضاء.
المسألة الثالثة: أن قضاء الفجر موسع إذا كان بعد طلوع الشمس، ووجه ذلك أنه يجوز لك أن تؤخر القضاء،
وذلك لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه تحول من الوادي إلى موضع آخر وقال: (إنه منزلٌ حضرنا فيه الشيطان)، وصلى رغيبة الفجر وهذا نوع تأخير، فأخذ منه بعض العلماء دليلاً على أن من استيقظ بعد طلوع الشمس وكان عنده أمرٌ ضروري واحتاج أن يفعله مع أنه عازمٌ على أن يفعل الصلاة بعد انتهائه من هذا الأمر ما لم يدخل وقت الظهر فلا حرج عليه في ذلك، على ظاهر هذا الحديث، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل من الوادي لكونه حضره فيه الشيطان، وهذا على سبيل الفضل وليس على سبيل اللزوم والوجوب، ولذلك أجمعوا على أن من نام في موضعٍ لا يجب عليه أن يتحول عن ذلك الموضع ليصلي.
المسألة الثالثة: لو فرض أنك استيقظت على قربٍ من طلوع الفجر، بحيث لو صليت الرغيبة خرج وقت الفجر وطلعت الشمس فحينئذٍ يجب عليك أن تبتدئ بالفجر، وأن تلغي ركعتي الرغيبة وتجعلهما من بعد طلوع الشمس.
المسألة الرابعة: أنه يُسنّ قضاء رغيبة الفجر،
وقضاء رغيبة الفجر لا يخلو من حالتين: إما أن لا يمكنك أن تصليها قبل الفجر، كأن تستيقظ عند الإقامة، فتأتي ولا يمكنك أن تصلي قبل صلاة الفجر، أو تخشى فوات الجماعة، ففي هذه الحالة هل بعد سلامك مع الإمام تقوم وتأتي بالرغيبة، أو تنتظر إلى طلوع الشمس؟ فأقوى ما دلت عليه النصوص أن تنتظر إلى طلوع الشمس؛
لورود المعارض من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس) كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.فإن صليت بعد الفجر ففيها أحاديث اختلف في أسانيدها، وإن كان تحسينها مقبولاً عند جمع من المحققين رحمة الله عليهم، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر من قضى ركعتي الفجر بعد صلاة الفريضة.والأفضل والأولى أن تصلي بعد طلوع الشمس، لكن إذا كان عند الإنسان عمل، أو غلب على ظنه أنه لو أخر القضاء إلى بعد طلوع الشمس فربما لا يتمكن من القضاء لوجود المشاغل، فحينئذٍ لا حرج عليه أن يصليها بعد صلاة الصبح، ولكن بشرط أن لا يكون ذلك في حال طلوع الشمس؛ فإنه في حال طلوع الشمس لا يجوز إيقاع النوافل؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة)،
وثبت في الحديث الصحيح: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا،
ثم ذكر منها: إذا طلعت الشمس)،
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا طلعت فأمسك عن الصلاة؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان)، فهذا بالنسبة لرغيبة الفجر وما فيها من أحكام.
[راتبة الظهر]
قال رحمه الله: [ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها].السنة أن تصلي أربعاً قبل الظهر،
وهي المذكورة في الحديث: (من حافظ على أربع قبل الظهر حرمهُ الله على النار)، وهذا فيه فضل، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى قبل الظهر أربعاً،
وسألته أم المؤمنين فقال عليه الصلاة والسلام: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها عملٌ صالح)، قال بعض العلماء: إن مراد عائشة: بقبل الظهر أي: فيما بين الأذان والإقامة،
أي: قبل فعله لصلاة الظهر،
وقال بعض العلماء: (قبل الظهر) أي: وقت الضَحَى،
أي: قبل أن يدخل وقت الظهر، وكلاهما وجهان للعلماء.
[التنفل قبل الجمعة]
الركعتان اللتان هما قبل الظهر في غير الجمعة، أما في الجمعة فليس للجمعة قبلية، وإنما يسن لك إذا مضيت إلى الجمعة أن تتنفل، وأن تستكثر من النوافل؛
لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل التبكير إلى الجمعة أنه قال: (من غسّل واغتسل، وبكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ثم صلى ثم دنا وأنصت ... ) الحديث،
قالوا: فقال: (صلى)، فدل على أن الأفضل أنك إذا دخلت المسجد في الجمعة أن تستكثر من الصلاة، حتى يأتي وقت الخطبة، ولا حرج عليك أن تصلي في حال الأذان الأول أو بين الأذان الأول والثاني، فهذا لا حرج فيه،
لكن لو كنت جالساً وقصدت أن تصلي بين الأذان الأول والثاني فحينئذٍ للعلماء وجهان: قال فقهاء الشافعية: لا حرج -أو يسن- أن يصلي بين الأذان الأول والثاني.
واستدلوا لهذا بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (بين كل أذانين صلاة)،
قالوا: والأذان الأول أذان مشروع؛ لأنه سنةٌ راشدة ثبت النص باعتبارها؛ لأنه فعلها عثمان، وعمل السلف الصالح رحمة الله عليهم بها دون أن ينكرها أحد، وأجمعت الأمة على هذا الأذان الثاني.
ومن قال: إنه بدعة فقوله لم يسبق إليه، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له؛ فإن هذه السنة فعلها خليفة راشد أمر باتباعه،
وعلماء الأمة كلهم ليس فيهم واحد يقول: إنها بدعة، فلا شك أنه أمرٌ من السنة بمكان، وأثرٌ يتعين اقتفاؤه ولزومه، ولا شك أن اعتبار قول هذه الطائفة من المؤمنين التي تتابعت جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل أنه أولى وأحرى من حيث الأصل في الأذان الثاني، ولا يحكم ببدعيته في أي زمان، وذلك لأن السلف الصالح رحمة الله عليهم أقروا ذلك، ولم ينكروه،
ولم يوجد عالم من علماء السلف رحمة الله عليهم يقول: إن الأذان الثاني بدعة، إنما هو سنة ثابتة، ولا إشكال في ثبوتها،
وأما قصد الصلاة فقلنا: إن بعض فقهاء الشافعية يرى ذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين)،
قالوا: الأذان الأول ثبتت مشروعيته بالسنة؛ لأن الشرع وصف سنة الخلفاء الراشدين بكونها سنة، فإذا ثبت أنه أذان مسنون،
وأجمعت الأمة على اعتباره فإنه يصدق عليه ظاهر الحديث: (بين كل أذانين صلاة).
وقال الجمهور: إنه لا يسن التنفل بين الأذان الأول والثاني.
وهذا هو الأرجح بمعنى: لا يسن أن يقصد الإنسان التنفل قصداً، لكن لو أنك قمت تصلي وأطلت الصلاة بحيث استغرقت الأذان الأول ووقعت صلاتك بين الأذان الأول والثاني اتفاقاً لا قصداً فإن ذلك مشروع؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: (فصلى ثم دنا وأنصت)،
فإن قوله: (فصلى ثم دنا وأنصت) يدل على مقاربة الصلاة للخطبة،
ولذلك قالوا: إنه وقت فضيلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى الاستكثار من النافلة يوم الجمعة،
وقال: (فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي ... ) الحديث،
قالوا: فهذا يدل على أن الشرع قصد الاستكثار من النافلة في هذا اليوم، وبناءً على ذلك لا حرج أن يستطيل الإنسان في قيامه حتى يصيب هذا الفضل، ويخرج أيضاً من الخلاف، ولا شك أن مذهب الجمهور، أنه لا يسن قصد فعل ركعتين بين الأذان الأول والثاني، أما فعل النوافل المطلقة فلا حرج.
وبناءً على ذلك يكون قوله: (ركعتان قبل الظهر) في الأصل في الظهر، وعلى هذا فالمريض لو ترك الجمعة شُرِع له أن يصلي قبل ظهره ركعتين وأربعاً على الصورة التي ذكرناها.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة التطوع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (108)
صـــــ(1) إلى صــ(14)
[راتبة المغرب]
قال رحمه الله: [وركعتان بعد المغرب].
قد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما، وكان يفعلهما في بيته صلوات الله وسلامه عليه، فيدخل إلى بيته ويصلي هاتين الركعتين بعد صلاة المغرب، والتنفل بعد صلاة المغرب جعله بعض العلماء من قيام الليل، وإن كان الصحيح أنه ليس من قيام الليل،
وحملوا عليه قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]،
قالوا: إنها نزلت في جمع من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا إذا فرغوا من أعمالهم في المغرب أصابهم الجهد والنصب، فإذا صلوا المغرب قاموا يتنفلون حتى يقووا على الصبر والمكابدة إلى صلاة العشاء،
فأنزل الله فيهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، وعدّ -كما ذكرنا- بعض العلماء هذا الوقت وقتاً من قيام الليل.والصحيح أن قيام الليل إنما يبتدئ بعد صلاة العشاء على الأصل الذي دلّت عليه النصوص من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[راتبة العشاء]
قال رحمه الله: [وركعتان بعد العشاء].
هذه سنة بعدية، فتجتمع العشاء والمغرب في كون كل منهما السنة فيها بعدية، ولكن كان عليه الصلاة والسلام إذا جمع بين صلاة المغرب والعشاء بجمعٍ لم يسبح بينهما،
كما في حديث ابن عمر في الصحيحين: (أنه -عليه الصلاة والسلام- جمع بين المغرب والعشاء ولم يسبح بينهما)، وهذا أصل عند العلماء، وهو أن السنة الراتبة تترك في السفر، وهكذا بالنسبة للظهر؛ حيث ثبت في حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزل وصلى بالمحصب -وذلك حينما ركزت له العنزة- لم يتنفل قبل الظهر.والركعتان بعد العشاء راتبة، وتقدم على التراويح، وإن أخر العشاء فإنه يؤخر راتبة العشاء بعده،
فإذا أخرها إلى آخر وقتها لكي يصيب فضيلة تأخير العشاء كما في حديث عائشة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتم بالعشاء،
فخرج عمر يقول: الصلاة يا رسول الله! فقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي)، فإذا طلب الإنسان هذه الفضيلة وأخر العشاء إلى آخر وقتها فإنه يجعل كذلك الراتبة مؤخرة، فراتبة العشاء تكون بعدية في الصورة والحقيقة، فلا تقع راتبة العشاء بمجرد دخول وقت العشاء، فهي راتبة بعدية.
[تأكد راتبة الفجر على غيرها]
قال رحمه الله: [وركعتان قبل الفجر وهما آكدها].
أي: هاتان الركعتان آكدهما وذلك للأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان فضل هاتين الركعتين،
حتى قال في الحديث الحسن: (لهما أحب إليّ من الدنيا وما فيها)،
أي: هاتان الركعتان رغيبة الفجر القبلية،
وقال في اللفظ الآخر: (ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها)، وجاء في الحديث الثالث -وإن كان ضعفه من القوة بمكان-: (لا تتركوها ولو طلبتكم الخيل)، وفُهِم تأكدهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركهما حتى في السفر، كما ذكرنا في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه أنه لما فاتته عليه الصلاة والسلام صلاة الفجر قضى هاتين الركعتين وحافظ على قضائهما، فدلّ على تأكدها، وهذا يدل على عظيم شأنها وفضيلتها.
[حكم قضاء الفوائت]
قال رحمه الله: [ومن فاته شيء منها سن له قضاؤه].
أي: من فاته شيءٌ من هذه السنن سنّ له قضاؤه؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى، فيسن لك -مثلاً- أن تقضي راتبة الظهر القبلية، فإذا دخلت والإمام قد دخل في الصلاة فإنك تدخل معه، وبعد السلام تقوم وتصلي ركعتين تنوي بهما القبلية إن كانت قبليتك اثنتين، وإن كانت قبليتك أربعاً فتقضي أربعاً، وهكذا الحال لو نسي الإنسان راتبة المغرب، فإنه حينئذٍ لو تذكرها بعد العشاء شرع له أن يصليها.
وقال بعض العلماء: إنه لا حرج في تداخل الصلوات، بمعنى أن يجعل الراتبة البعدية من الأولى تُصلى قبل الراتبة البعدية من الثانية،
ومثال ذلك: صلاة العشاء والمغرب،
فقال بعض العلماء: لا حرج أن تؤخر راتبة المغرب إلى ما بعد العشاء، فتصلي راتبة المغرب أولاً ثم راتبة العشاء ثانياً.والذي يظهر أن هذا ليس من السنة إذا قصده قصداً، لكن لو أنه شُغِل ونسي، أو جاءه شغل لا يستطيع معه أن يصلي الراتبة فأخرها إلى ما بعد العشاء فصلاها ثم صلى راتبة العشاء فإنه لا حرج عليه في ذلك.
[صلاة الليل وأفضل وقتها]
يقول المصنف عليه رحمة الله: [وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار].
فبعد أن ذكر رحمه الله النوافل التي يسن للمكلف فعلها، وبيّن أنواع هذه النوافل من حيث ما تسن له الجماعة وما يوقعه المكلف حال انفراده شرع رحمه الله في بيان فضل صلاة الليل، فإن أفضل النوافل وأحبها إلى الله عز وجل وأعظمها أجراً صلاة الليل، وهذا بالنسبة للمقابلة بين صلاة الليل والنهار،
والأصل في تفضيل صلاة الليل على صلاة النهار ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل)، وقد امتدح الله عز وجل أهل الليل الذين يتهجدون، خاصةً إذا كان تهجدهم في دياجير الظلمات، أعني الثلث الأخير من الليل،
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه انتهى وتره إلى السحر)، فكان قيامه أكمل القيام، وإحياؤه الليل أكمل الإحياء.وقد جاءت الآيات في كتاب الله عز وجل والأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبيّن فضل قيام الليل، وأنه لا يحافظ عليه إلا مؤمن يخاف الله ويرجو رحمته،
قال الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ} [الزمر:9]،
قال العلماء: في هذه الآية دليل على أنه لا يحافظ على قيام الليل إلا من خاف الله عز وجل ورجا رحمة الله سبحانه وتعالى،
وأكد الله هذا المعنى بقوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16].وفي قيام الليل الفضائل والنوائل،
ولذلك قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]،
أي: مقاماً يحمدك عليه الأولون والآخرون.وهذا إنما ذكره الله بعد أمره لنبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل.وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن قيام الليل دأب الصالحين وشأن عباد الله الأخيار المتقين،
كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين من قبلكم)، فدلت هذه النصوص من كتاب الله عز وجل وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم على فضيلة قيام الليل، ونظراً لكون قيام الليل فيه المشقة وفيه العناء وفيه الجهد أثنى الله عز وجل عليه، وأخبر أنه أجلّ وأكرم،
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، وناشئة الليل إنما تكون بعد الليل وبعد الضجعة، فأفضل قيام الليل ما كان في آخر الليل، وكان بعد نوم وهجود، فحينئذ يصدق على الإنسان أنه متهجد، والسبب في هذا أنه إذا اضطجع ونام وذاق لذة النوم والكرى فإنه لا ينبعث من فراشه إلا بقوة إيمان وخشية لله عز وجل ورجاء في رحمته،
وفي الحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا قام من الليل يتهجد من بين زوجه وحِبّه قال الله: يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حِبّه وزوجه؟
قالوا: إلهنا: يرجو رحمتك ويخشى عذابك.
فيقول الله: أشهدكم أني قد أمنته من عذابي وأصبته برحمتي)، فقيام الليل فيه فضلٌ عظيم.وإنما قال العلماء بتفضيله لورود النصوص في الكتاب والسنة بالثناء على أهله وبيان عظيم فضله،
ولذلك قال العلماء رحمهم الله: أفضله وأكمله أن يكون في آخر الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الدعاء أسمع في آخر الليل، وأن أفضل ما يكون من الصلاة في جوف الليل الآخر،
فقال عليه الصلاة والسلام يخاطب الصحابي: (إن أحببت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)،
أي: إن أحببت واستطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن.
أعني: الثلث الأخير من الليل.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الليل ساعة لا يوافقها عبدٌ يسأل الله خيراً من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه)، فهذا فضلٌ عظيم، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن أفضل قيام الليل الثلث الآخر، ولكنهم استحبوا أن يكون السحر للاستغفار، والسحر يوافق سدس الليل الأخير، فيجعل ما قبل السدس للتهجد والعبادة وتلاوة القرآن تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم ثلث الليل الآخر، فكان يصلي ما شاء الله له أن يصلي، ثم إذا فرغ جعل بينه وبين صلاته وأذان الفجر وقتاً كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها،
ولذلك قال العلماء: الأفضل في آخر الليل -أعني السدس الأخير من الليل- أن يتفرغ للاستغفار، حتى قال بعض العلماء: هو أفضل من تلاوة القرآن؛
لأن الله يقول: {وَبِالأَسْحَار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات:18]، فأثنى على من استغفره سبحانه في هذا الوقت -أعني السحر-،
وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن الله تعالى ينزل في كل ليلة في الثلث الآخر من الليل)، كما ثبت في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام، ولذلك استحب العلماء أن لا يصل قيام الليل إلى السحر، وإنما يكون وتره عند ابتداء السحر، وهذا أفضل الهدي وأكمله؛ لما فيه من الراحة للنفس قبل الفجر، فإنه إذا جلس للاستغفار هدأت أعضاؤه وسكنت من عناء قيام الليل؛ لأن الإنسان بشر، وربما أنه لو واصل قيام الليل إلى الفجر ضعف عن الصلاة المفروضة ولم يخشع فيها، فكان مشتغلاً بفضل نافلة عن فضيلة فريضة، والفريضة أفضل من النافلة.وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن قيام الليل أفضل من صلاة النهار تطوعاً.
قال رحمه الله: [وأفضلها ثلث الليل بعد نصفه].
أي: أفضل قيام الليل ثلث الليل بعد نصفه،
أي: الثلث الآخر كما يعبر عنه العلماء رحمة الله عليهم.
قال العلماء: فضلت صلاة الليل على صلاة النهار من وجوه: أولها: ثناء الله على أهل هذه الصلاة في كتابه العزيز، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث.
ثانياً: لأنها صلاة خفية لا يعلمها إلا الله عز وجل، وذلك أن ساعة الليل ساعة تهدأ فيها العيون، وتسكن فيها الجفون، ولا يرقب فيها أحد أحداً، حتى إن الرجل ربما قام يصلي وأهله الذين هم أقرب الناس منه لا يشعرون بقيامه،
ولذلك قالوا: لمكان الإخلاص وكون هذه العبادة خفية لا يعلمها أحد كانت أفضل من غيرها، بخلاف صلاة النهار، فإن الغالب فيها أن يطلع عليها الناس، وأن يعلم بها الناس.
ثالثاً: لأن الناس في الليل يحتاجون إلى النوم ويحتاجون إلى الراحة، فإن قام أول الليل فإنه يقوم بعد عناء وتعب ونصب وهو أحوج ما يكون إلى النوم، فكونه يؤثر الصلاة على النوم فذلك أبلغ ما يكون في العبادة والطاعة، وإن صلاها بعد نومه كان أبلغ وأبلغ؛ لأنه إذا ذاق لذة النوم والكرى وحلاوة الفراش ثم قام من ذلك كله فهو مؤثر مرضاة الله عز وجل.فلأجل هذه الفضائل كلها فضلت صلاة الليل على صلاة النهار.
[كيفية تطوع الليل والنهار]
قال رحمه الله: [وصلاة ليل ونهار مثنى مثنى].
أي: إذا صليت تطوعاً بالليل، أو صليت تطوعاً بالنهار فصلّ مثنى مثنى، أي: سلم من ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر -وأصله في الصحيحين-: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) فقوله: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، أخذ منه الإمام أحمد رحمة الله عليه وطائفة من أهل العلم أنه لا يسلّم المصلي من ركعةٍ واحدة في الليل والنهار إلا في الوتر.
ولذلك قال العلماء: من أراد أن يتطوع في النهار فلا يصلي ركعة واحدة إلا في الوتر، وأما في غير الوتر فإنه يسلم من اثنتين، وإن شاء سلم من أربع، وإن شاء سلم من ست، وإن شاء سلم من ثمان،
فقالوا: إنما يسلم من شفع ولا يسلم من وتر؛ لما ذكرناه في الحديث السابق.
قال رحمه الله: [وإن تطوع في النهار بأربع كالظهر فلا بأس].
أي: لا حرج عليه،
وأخذ العلماء هذا الحكم مما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (رحم الله امرأً صلى قبل الظهر أربعاً)، فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأربع،
وإن كان مذهب بعض العلماء أن هذا المطلق محمول على المقيد في قوله: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)،
ولكن أجيب بأن قوله: (مثنى مثنى) أي: يسلم من شفع، فتدخل الأربع في هذا، ولذلك لو صليت أربعاً وجلست في آخر الأربع فلا حرج وإن صليت أربعاً وجلست جلستين أو تشهدت تشهدين فلا حرج، على أصح أقوال العلماء،
ولذلك قال: [كالظهر] أي: يصليها كالظهر.وقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم التشهد الأول في قيام الليل،
كما في حديث عائشة: (يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن)،
فقالوا: أسقط التشهد لكي يكون قيامه أطول، فكان يريد أن يجعل وقت التشهد لقراءة القرآن، وذلك أفضل؛
لقوله: (أفضل الصلاة طول القنوت).
ومن هنا قال العلماء: الأفضل إذا صليت أربعاً أن تصلها؛ لأن الوقت الذي تأخذه في الجلوس للتشهد ستستغله في قراءة القرآن؛ لأن طول القيام أفضل من وجود التشهد؛ لما ثبت في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئِل عن أفضل الصلاة؟
قال: (طول القنوت) أي: طول القيام بالقراءة.
[أجر صلاة القاعد]
قال رحمه الله: [وأجر صلاة قاعد على نصف أجر صلاة قائم].
هنا مسألتان: الأولى: الأصل عندنا صلاتان: صلاةٌ مفروضة، وصلاة نافلة، فأما الصلاة المفروضة فمذهب جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم أنه لا يجوز لك أن تصليها قاعداً إلا من عذر.وذهب الإمام داود الظاهري وأصحابه إلى أنه يجوز لك أن تصلي جالساً وأجرك على النصف من أجر القائم، وهذا إذا كان عندك العذر.والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أنه لا يجوز لك أن تصلي الفريضة قاعداً إلا من عذر، فإن صليت قاعداً من عذر في الفريضة فأجرك كامل.
والإمام داود الظاهري ومن معه يقولون: يصلي قاعداً للعذر ويكون أجره على النصف.فطبّقوا هذا الحديث على عمومه.وأصح الأقوال في هذه المسألة أنك إن صليت في الفريضة قاعداً من عذر فأجرك كامل؛
لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له عمله)،
وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم شعباً ولا قطعتم وادياً إلا شركوكم في الأجر)، وقال هذا الكلام وهو في تخوم الشام صلوات الله وسلامه عليه في غزوة تبوك غزوة العسرة،
فقالوا: (يا رسول الله! كيف وهم في المدينة؟ قال: حبسهم العذر)، فدلت هذه الأحاديث الصحيحة على أن المعذور أجره كامل، ولذلك إذا كان الإنسان مريضاً فصلى الفريضة قاعداً فإن أجره على الكمال والتمام.
المسألة الثانية: يجوز لك أن تصلي النافلة قاعداً، ويجوز لك أن تصليها قائماً، ولا إلزام في ذلك.
فإن صليت النافلة قاعداً وأنت قادرٌ على القيام انطبق عليك الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)، وذلك أن القعود أقل عناءً وأقل تعباً، ولذلك كان أجره على النصف من أجر القائم.وجمهور العلماء على أن المراد بهذا الحديث النافلة لا الفريضة، خلافاً لـ داود الظاهري الذي يحمله على الفريضة في حال وجود العذر.والصحيح أن هذا الحديث الذي يدل على أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم إنما هو في النافلة، فالإنسان مخيرٌ، فلو رأيت إنساناً -كما يفعله بعض الناس بعد صلاة الفريضة- كبّر للسنة وصلاها قاعداً فإنه لا ينكر عليه؛ لأنه مخيّر بين أن يصلي قائماً أو يصلي قاعداً، فإن صلّى قاعداً فأجره على النصف، إلا أنه إذا كان الإنسان معذوراً أو يشق عليه القيام فإن الأفضل له أن يجلس حتى إذا قارب الركوع قام ووقف وأتم قراءته ثم ركع، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه من طول القيام، وذلك لأنه أخذه اللحم صلوات الله وسلامه عليه في آخر عمره وبدن، فكان يثقل على بدنه صلوات الله وسلامه عليه، فإذا طال القيام عليه كان عبء الجسد على القدمين حتى تتفطر،
قالوا: تفطرها أن تتشقق كاللحم يتمزع عن بعضه من طول قيامه صلوات الله وسلامه عليه، فلما ثقل عليه طول القيام كان يصلي قاعداً،
تقول عائشة: (حتى إذا بلغ مائة أو قدر مائة آية قام -صلوات الله وسلامه عليه- فأتمهن قائماً ثم ركع).فهذا أفضل، فلو صليت في التهجد وكنت على تعب أو نصب وأردت أن تجلس فالأفضل أن تجلس حتى إذا قارب الإمام الركوع تقوم وتتم معه حتى تصيب فضيلة القيام ولو في بعض أجزاء ركن القيام.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة التطوع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (109)
صـــــ(1) إلى صــ(24)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة التطوع [4]
من الصلوات المسنونة: صلاة الضحى، فقد ورد في فضلها أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووقتها من بعد طلوع الشمس إلى قبل الزوال،
ومن النوافل: صلاة الاستخارة، وصلاة الشروق، وصلاة الهم والحاجة، ويسن كذلك سجود التلاوة، وسجود الشكر.
نوافل الصلاة
[صلاة الضحى]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وتسن صلاة الضحى].من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلى صلاة الضحى، وصلاة الضحى هي إحدى الصلوات التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسميت بهذا الاسم من باب تسمية الشيء بزمانه الذي يقع فيه، كالأضحية سميت أضحية لأنها تذبح أضحى يوم النحر،
فقالوا: صلاة الضحى من إضافة الشيء إلى زمانه، وهذه الصلاة جماهير السلف رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومنهم الأئمة الأربعة على أنها سنة، وقد ثبتت فيها الأحاديث الصحيحة، وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم ينكرون هذه الصلاة، ومنهم عبد الله بن عمر، فكان إذا رأى من يصليها في المسجد حصبه بالحصباء منكراً عليه وكأنه يراها بدعة،
إلا أنه أجيب عن فعل ابن عمر هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن ابن عمر رضي الله عنهما يحتمل أنه لم يبلغه النص بثبوت صلاة الضحى، فرأى كأنهم يفعلون أو يتكلفون فعلاً لا أصل له، وقد كان حريصاً على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر على حسب علمه.والوجه الثاني -وهو أقوى-: أن ابن عمر إنما أنكر على الناس قصدهم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الضحى، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف فعلها في المسجد، فحينئذٍ يكون كأنه يوافق في أصل المشروعية ولكن ينكر صفة الإيقاع، وقد يكون الشيء مشروعاً بأصله ولكنه غير مشروع بوصفه، ومن أمثلته هذا، فحمل إنكار ابن عمر رضي الله عنه على الناس أنهم تكلفوا المجيء إلى المسجد، مع أن صلاة الضحى تفعل في البيوت.
وقد ثبتت في صلاة الضحى أحاديث: منها ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يصبح على كل سلامى من الناس في كل يوم تطلع فيه الشمس صدقة، فبكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المنكر صدقة،
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى)، (فقوله: على كل سلامى) أي: مفصل، فهذه المفاصل الثلاثمائة والستون في الإنسان إذا أصبحت سليمة وأنت معافى بنعمة الله عز وجل ثبت أداء شكرها، فمن شكر هذه النعمة التي أنعم الله بها عليك من سلامة أعضائك أن تفعل الخير، فتكثر من التسبيح والتحميد حتى تبلغ عدد هذه الأعضاء، فتسبح وتحمد وتكبر وتهلل، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعين الرجل على دابته فتحمل له متاعه عليها أو تحمله عليها، حتى تبلغ من الصدقات والنوافل قدر هذه النعمة التي أنعم الله عليك بها وهي الثلاثمائة والستون مفصلاً، فكأنها صدقة الأعضاء،
فقال عليه الصلاة والسلام: (ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى)، وفي هذا دليل على فضيلة هاتين الركعتين اللتين بلغتا شكر نعمة الله عز وجل على سلامة البدن كاملاً، وهذا يدل على فضل الصلاة.
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى يقول: (يا ابن آدم! اكفني أربع ركعات أول النهار أكفك آخره)، أي: إن صليت أربع ركعات قربة ونافلة أول النهار كفيتك همّ يومك كله، سواء همّ دِين أم دنيا أم آخرة، فتكفاه إلى نهاية هذا اليوم بالأربع ركعات.
وكذلك ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه يوم الفتح اغتسل صلوات الله وسلامه عليه، وسترته فاطمة، فدخلت عليه أم هانئ يوم الفتح وهو يغتسل، فلما انتهى من الغسل التحف عليه الصلاة والسلام بردائه فكبّر وصلى ثماني ركعات)، ومذهب طائفةٌ من السلف أن المراد بها ركعات الضحى، ولذلك تسن هذه الصلاة.وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بثلاث، ومنها صلاة الضحى.فصلاة الضحى سنة، والأحاديث فيها صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (تسن) أي: فعلها سنةز واختلف العلماء: هل الأفضل أن يداوم عليها، أو يفعلها أحياناً ويتركها أحياناً؟ وأصح الأقوال -والعلم عند الله-: أن الأفضل المداومة عليها، وكونه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه داوم عليها لا يمنع المداومة عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دلّ على فضلها بالسنة القولية، وقد كان يترك فعل الشيء وهو يحب أن يفعله خشية أن يفترض على الأمة، مع أن عدم النقل لا يدل على عدم الوجود، ولهذا الأفضل أن يداوم على ركعات الضحى.
قال رحمه الله تعالى: [وأقلها ركعتان وأكثرها ثمان].
هذه الركعات أقلها ركعتان،
وأكثرها فيه للعلماء وجهان: فقيل: ثمان ركعات.
وقيل: اثنتا عشر ركعة.وهو الأقوى.
أما كونها تصلى ركعتان فلما ثبت في حديث أبي هريرة: (ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى).
وأما كونها تصلى أربعاً فلما ثبت في الحديث الصحيح الذي ذكرناه: (ابن آدم اكفني أربع ركعات من أول اليوم أكفك آخره).وأما كونها تصلى ست ركعات فلحديث أنس -وقد ذكره الترمذي في الشمائل-: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ست ركعات).
وأما كونها تصلى ثماني ركعات فلما ثبت في الصحيح من حديث أم هانئ: (أنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وفاطمة تستره بثوب وهو يغتسل،
وفيه قالت: فالتحف، ثم صلى ثماني ركعات)،
وحديث أم هانئ هذا فيه وجهان للعلماء: فبعض العلماء يقول: هي صلاة الضحى.وكانت أم هانئ تفعل ذلك، وكان ابن عباس لا يرى الضحى، حتى دخل على أم هانئ فوجدها تصليها فاعتبر صلاة الضحى لما رآها تصلي هذه الثمان.فمذهب طائفة أن هذه الصلاة صلاة الضحى.وهناك وجه ثانٍ أن هذه الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يوم الفتح إنما هي صلاة الفتح، صلاها شكراً لله عز وجل أن فتح له مكة، وبلّغه هذا اليوم الذي أعزّ فيه جنده وأعلى فيه كلمته ونصر فيه عبده، فكانت شكراً لله على الفتح، ولذلك لما فتح سعد بن أبي وقاص إيوان كسرى صلى فيه هذه الثمان الركعات، كانوا يستحبون لأمراء الجيوش والقادة أن يصلوها عند الفتح شكراً لله عز وجل على الفتح، فهذا أحد الوجهين فيها، وعلى القول بأنها صلاة الضحى تصبح صلاة الضحى ثماني ركعات.وتصلى اثنتي عشرة ركعة،
وفيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى ركعتين كان من العابدين ... ) الحديث، وذكر فيه من صلى اثنتي عشرة ركعة.
ولذلك قالوا: أقل الضحى ركعتان وأكثر الضحى اثنتا عشرة ركعة.
وقيل: ثمان.
وقيل: يصلي ما شاء الله.
وفي هذا حديث أم المؤمنين عائشة: (أنها لما سُئِلت عن صلاة الضحى قالت: (كان يصلي أربعاً، ويزيد ما شاء الله)، فهذا يدل على أن فيها أدنى الكمال وأعلى الكمال.فأفضل ما يكون أن تصلى اثنتي عشرة ركعة،
وحملوا عليه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله في يومٍ ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة)، فحملوه على هذه الركعات التي تكون في صلاة الضحى.
[وقت صلاة الضحى]
قال رحمه الله: [ووقتها من خروج وقت النهي إلى قبيل الزوال].
قوله: (ووقتها) الضمير عائد إلى صلاة الضحى، فبعد أن عرفنا أنها سنة وعرفنا عدد ركعاتها، يجئ الكلام على وقتها.فوقتها يبتدئ بابتداء وقت صلاة العيد، ويكون بعد انتهاء وقت النهي، ووقت النهي يبتدئ بصلاة الفجر، ويستمر من بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، ثم من بعد الطلوع حتى ترتفع قيد رمح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة عيد الأضحى صلاها والشمس على قيد رمح، ولما صلى صلاة عيد الفطر صلاها والشمس على قيد رمحين، فعجّل الأضحى وأخر الفطر، فعجّل الأضحى لأن الناس تحتاج إلى وقت الضحى من أجل الأضحية، فعجّل صلاة الضحى وأوقعها بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، وأخّر صلاة الفطر لأن الناس يحتاجون لهذا الوقت من أجل إخراج زكاة الفطر حتى تكون زكاة مقبولةً إن شاء الله، فأول وقت الجواز بعد طلوع الشمس حين ترتفع قيد رمح، فهذا هو وقت بداية صلاة الضحى، ثم ينتهي وقت صلاة الضُّحى في الضَّحى،
أي: في دخول وقت الضَّحى، فهناك وقت يسمى وقت الإشراق، وهو ما بعد طلوع الشمس بقيد رمح، ثم يدخل وقت الضُّحى، وذلك عند تجلي الشمس بارتفاعها، وهناك وقت الضَّحى، وهو ما قبل الزوال بما يقرب من ساعة ونصف إلى ساعتين إلا قليلاً،
وهو الذي ورد فيه الحديث الصحيح: (فنرجع إلى بيوتنا -يعني يوم الجمعة- فنقيل قائلة الضَّحى)، فالضَّحى ما قبل الظهر بقرابة ساعتين إلا ربع فما دون، فهذا الوقت يسمى، وقت الضَّحى،
أي: قرب الزوال.فإذا دخل وقت الضَّحى -
أي: قبل صلاة الظهر بساعة ونصف إلى ساعتين إلا قليلاً- فهذا الوقت ينتهي فيه وقت صلاة الضُّحى.ثم إن هذا الوقت الذي هو وقت صلاة الضُّحى فيه وقت فضيلة، فأفضل أوقات صلاة الضُّحى إذا ارتفعت الشمس قليلاً،
أي: بعد ارتفاعها قيد رمح،
ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه: لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أوّاب.
وقد قال الله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، فالذي يحافظ على هذه الصلاة أوّاب،
وعندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة قال: (صلاة الأوّابين حين ترمض الفصال)، كما في الصحيح.
أي: صلاة الضحى.
,الفصال: جمع فصيل، وهو ولد الناقة الصغير، ومعنى: (تمرض) أي: يدركها حرّ الرمضاء.فالفصيل يسرح بجوار أمه حتى إذا ارتفعت الشمس وابتدأ وهيج الشمس دخل تحت أمه، أو أوى إلى ظل الشجر، فهذا الوقت -الذي هو ما بعد طلوع الشمس إلى ساعتين، أو ساعتين وقليل- هو أفضل أوقات صلاة الضحى،
والسبب في فضله ما ذكره العلماء في كلامهم على حديث مسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)،
حيث قالوا: إنما فُضّل هذا الوقت لأنه وقت غفلة.ولذلك أشد ما تكون عليه السوق في هذا الوقت، فالناس مشتغلون بالتجارة ومشتغلون بالبيع والشراء، ومشتغلون بمصالحهم وأمورهم الدنيوية، ثم إنك قلّ أن تجد فراغاً في هذا الوقت، فكون الإنسان يعرض عن لغط الدنيا في ساعة غفلة الناس فهذا من أبلغ ما يكون في القربة إلى الله، كصلاة الليل إذا نام الناس وهجدوا فضلت لإعراض الناس عن العبادة سكوناً إلى الراحة وخلوداً إليها، كذلك أيضاً في حال الغفلة، فلما غفل الناس في أول النهار بطلب معايشهم وطلب أمورهم كان وقت الفضيلة عند اشتداد النهار قبل الضَّحى، فهذا هو أفضل الأوقات، وكلما تأخّر قليلاً إلى ما قبل الضَّحى كان أبلغ، إلا أنه إذا كان الإنسان يخشى الانشغال فليصلها في أول وقتها ولا حرج عليه، وكان بعض العلماء يستحب أن تكون في أول اشتداد النهار؛
لقوله: (يا ابن آدم اكفني أربع ركعات من أول النهار)،
فقالوا: كلما قرب من أول النهار كان ذلك أفضل وأكمل.
[نوافل لم يذكرها المصنف]
وهناك نوافل أخرى لم يذكرها رحمة الله عليه ورضوانه، ومن هذه النوافل ركعتا الوضوء،
وفيها أحاديث صحيحة:
[ركعتا الوضوء]
منها: حديث عثمان رضي الله عنه، فعن حمران مولى عثمان أن عثمان دعا بطهور، فتوضأ فأكفأ على يديه، فغسلهما ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً -
أي: توضأ وضوءاً كاملاً، وهو وضوء الإسباغ-،
ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه)، فهذا يدل على فضيلة ركعتي الوضوء.
ومنها: حديث بلال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إني سمعت خشخشة -أو دف- نعليك في الجنة، فأخبرني عن أرجى عمل عملته؟
قال: يا رسول الله! ما أحدثت إلا توضأت، ولا توضأت إلا صليت ما كتب لي)،
قالوا: فلذلك يحافظ الإنسان على ركعتي الوضوء.
وقال بعض العلماء رحمة الله عليهم: الأفضل في ركعتي الوضوء أن تكون بعد الوضوء مباشرة،
حتى قال بعض العلماء: قبل أن تجف الأعضاء؛ لما فيه من وصل الطاعة بالطاعة.وهذا أبلغ ما يكون في القربة والانكسار لله عز وجل، حتى لا يدخل بينهما غيبة ونميمة، أو شيء من أمور تغفل قلبه عن ذكر الله؛ لأنه بمجرد انتهائه من الوضوء تتحات عنه الذنوب، فيكون أشرح صدراً، فربما لو أخرها اغتاب أحداً أو وقع في محرم فصرف عن الخشوع، والخشوع هو المعين على المغفرة في ركعتي الوضوء.
[صلاة الاستخارة]
ومن النوافل: صلاة الاستخارة، جعلها الله عوضاً عما كان عليه أهل الجاهلية من البدع والخرافات، فيقدمون على أمورهم ومصالحهم الدنيوية ويحجمون عنها بالاستقسام بالأزلام، وبتحريك الطيور والنظر إلى جهاتها، فعوض الله المسلمين بركعتي الاستخارة، فإذا أهمك أمر ولم تدر تقدم عليه أم تحجم، فحينئذ إذا هممت به وأردت أن تعزم عليه بعد استشارة الناس فإنك تستخير.وهنا أمر يخطئ فيه كثير من الناس، فبعض الناس يجعل الاستخارة قبل الاستشارة، وهذا خطأ، بل الذي ينبغي أن تكون الاستخارة بعد أن تهتم النفس بالشيء، وبعد أن يشاور الناس فيجد من يعينه ومن يثبطه؛ لأنك إذا استخرت فلا تستشر أحداً بعد الله عز وجل،
ولذلك قالوا: تكون الاستخارة هي آخر الأمر،
بمعنى: أنه التبس عليك الأمر،
فوجدت هذا يقول لك: أقدم،
وهذا يقول لك: أحجم،
وهذا يقول لك: هذا فيه خير،
والثاني يقول: فيه شر، فحين تتردد نفسك وتهتم بالأمر فإنه تستخير،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا همّ أحدكم بالأمر)،
فمعناه: أن يكون عنده الاهتمام، ومعنى ذلك أنه قد وجد من مشورة الناس ومن حديث النفس ما يجعله يتردد، فحينئذٍ يصلي ركعتين من غير فريضة،
ثم يقول الدعاء المأثور: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك؛ فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسميه- فيه خيرٌ لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فيسره لي وسهله لي، وإن كنت تعلم أن فيه شراً لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، ثم اقدر لي الخير حيثما كنت، ثم رضِّني به)، فأي شيء بعد هذه الاستخارة تفعله هو خير مهما كان هذا الشيء، ولذلك بعد الاستخارة سلّم الأمر لله، حتى ولو وجدت الأمر في أوله يسوؤك فإن عواقبه خيرٌ لك في الدنيا والآخرة، وقد يكون الشيء في أوله حزن ولكن آخره سرور، وقد يكون أوله نكبة ولكن آخره صلاح وفلاح وخير لك في الدنيا والآخرة، ولذلك إذا استخرت الله عز وجل فحينئذٍ تنشرح نفسك، ولا تجعل في قلبك من هذا الأمر أي هم، إن تيسر فعله فافعل، وإن تيسر تركه وصرفت عنه فهو الخيرة من الله عز وجل، وهذه رحمة من الله عز وجل.وأما هل يفعل الدعاء في آخر الصلاة، أو يفعله بعد السلام فأصح الأقوال أنه يفعله داخل الصلاة.
وقال بعض العلماء: إذا فعله داخل الصلاة أو بعد السلام فلا حرج عليه.ولكن الأولى والأكمل أن يكون عقب تشهده وقبل السلام،
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن بعد الفراغ من التشهد: (ثم ليتخير من المسألة ما شاء)، وهذه مسألة، وشرعت الصلاة من أجل هذه المسألة، فالذي يظهر إيقاع السؤال والاستخارة قبل السلام.
[صلاة الإشراق]
ومن الصلاة النافلة: صلاة الإشراق، وهي تكون بعد جلوس الإنسان في مصلاه بعد صلاة الفجر في جماعة،
فقد ثبت في الحديث عند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الفجر في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع عليه الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامةٍ تامة).
وهذا الفضل له شروط: أولها: أن يصلي الفجر في جماعة، فلا يشمل من صلى منفرداً، وظاهر الجماعة يشمل جماعة المسجد وجماعة السفر وجماعة الأهل إن تخلف لعذر، كأن يصلي بأبنائه في البيت فيجلس في مصلاه.
ثانياً: أن يجلس يذكر الله، فإن نام لم يحصل له هذا الفضل، وهكذا لو جلس خاملاً ينعس فإنه لا يحصل له هذا الفضل، إنما يجلس تالياً للقرآن ذاكراً للرحمن، أو يستغفر، أو يقرأ في كتب العلم، أو يذاكر في العلم، أو يفتي، أو يجيب عن المسائل، أو ينصح غيره، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن جلس لغيبة أو نميمة لم يحز هذا الفضل؛
لأنه إنما قال: (يذكر الله).
الأمر الثالث: أن يكون في مصلاه، فلو تحول عن المصلى ولو قام يأتي بالمصحف فلا يحصل له هذا الفضل؛ لأنه فضلٌ عظيم، وهو حجةٌ وعمرة تامة تامة، فهذا فضل عظيم، والمراد به الرباط؛
لأنه قال: (ثم جلس في مصلاه)، فهذا يدل على أنه لا يبرح المصلى، ومن قام من مصلاه لسلام أو تحية أو طلب حاجة فإنه لا يصدق عليه هذا الشرط،
وهو قوله:.(ثم جلس في مصلاه)، فلذلك يلزم المصلى؛ لأنه فضل عظيم، وتحصيل الفضل العظيم يكون أكثر عناءً وأكثر نصباً، فيحتاج إلى أن يتكلف العبد في إصابة ظاهر هذه السنة، فيجلس حتى تطلع الشمس، ثم يصلي ركعتين.
رابعاً: أن يصلي ركعتين.وهاتان الركعتان هما ركعتا الإشراق، وهناك من يطلق ركعة الإشراق على الركعة التي تكون بعد ارتفاع الشمس بين الضحى وبين طلوع الشمس،
أي: بعد ارتفاعها قيد رمح.وأثر عن ابن عباس في التسبيح بالإشراق،
قال في قول الله عز وجل: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18]: ما كنت أعلم التسبيح بالإشراق حتى سمعت أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها تذكره.فحملوه على الركعتين ركعتي الإشراق، وجعلوها صلاةً تكون في أول النهار.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة التطوع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (110)
صـــــ(1) إلى صــ(24)
[صلاة الهم والحاجة]
وهناك أيضاً صلاة الهمّ والحاجة، كأن ينزل بالإنسان كرب، أو -لا قدّر الله- فاجعة أو مصيبة، فإذا نزل به أمر ضاق به صدره، أو جاءته مصيبة، أو بلغه خبر يحزنه أو يفجعه، أو أهمه أمر فالسنة له أن يتوضأ ويصلي ركعتين؛
لما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزّ به أمرٌ
-وفي رواية: إذا حزبه أمر- فزع إلى الصلاة) فقولها: (فزع إلى الصلاة) أي: ناجى الله عز وجل وصلّى، فالأفضل للإنسان إذا نزلت به كربة أو مصيبة أن يصلي، ولذلك أخبر الله عز وجل أنها معونة للعبد،
فقال سبحانه وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، وذكر الصلاة مع الصبر،
فمعناه: أن يستعان بالصلاة عند وجود الشدائد والأهوال، وهذا أبلغ ما يكون في العبودية؛ لأن الله يحب من عبده إذا نزلت به المصائب أو نزلت به البلايا أن يضرع إليه،
قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]،
أي: فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، وأبلغ الضراعة الصلاة،
ولذلك قالوا: يشرع أن يصلي إذا نزلت به مصيبة، أو ألمت به حادثة، أو أصبح عنده أمرٌ يهمه ويقلقه، فينزل حاجته بالله جل جلاله الذي تنزل به الحاجات ومنه تفرج الكربات، فهذا من أفضل ما يكون عند نزول الشدائد بالعبد.
[أحكام سجود التلاوة]
قال رحمه الله: [وسجود التلاوة صلاة].
بعد أن فرغ رحمه الله من النوافل التي تكون بفعل الصلاة شرع في النوافل التي هي أجزاء من الصلاة، كسجود التلاوة، وهو آخذٌ حكم الصلاة من حيث الطهارة واستقبال القبلة والتكبير والتسليم.فسجود التلاوة يأخذ حكم الصلاة،
وقال بعض العلماء: يجوز له أن يسجد ولو لم يكن متوضئاً،
بل قال بعضهم: يسجد ولو لغير القبلة،
وهذا القول من أضعف الأقوال أي: أن يسجد لغير القبلة،
وذلك لما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً) يعني الكعبة، وهذا نصٌ عام، ولذلك شرع في الميت إذا وضع في قبره أن يقبّل للقبلة، وهكذا إذا كان عند الاحتضار،
فقال: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، ومن هنا أخذ العلماء رحمة الله عليهم أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأراد السلام عليه عند الدعاء أن يستقبل القبلة، وذلك لأن القبلة تقصد عند الدعاء وعند السجود، ولذلك لا يقال بالتوسع بحيث يسجد لأي جهة، ومن قال بالسجود لغير القبلة فهو مطالبٌ بالدليل، ومطالب بأن يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد لغير قبلة، ونحن لا نحفظ ذلك عنه عليه الصلاة والسلام في صلاة فريضة ولا نافلة، بل حتى في سجود التلاوة ما حفظ عنه نصٌ واحد أنه استقبل غير القبلة وسجد، ولذلك لا بد من استقبال القبلة، ولا يعتبر ساجداً إلا إذا استقبل القبلة التي سنّ الله عز وجل للصلاة، وما في حكم الصلاة -
أعني: سجود التلاوة-، وبناءً على هذا فسجود التلاوة يشرع لأن الله عز وجل ذكره في كتابه، وامتدح أهله، وكذلك فعله النبي صلى الله عليه وسلم،
كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ آية السجدة فيسجد ونسجد معه حتى لا يجد أحدنا موضعاً يضع فيه جبهته)، وهذا دليل على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في السجود.
[الخلاف في وجوب سجود التلاوة]
وسجود التلاوة للعلماء فيه وجهان: أحدهما: أنه عزيمة وواجب.وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، واستدل بالأوامر في القرآن، حيث جاءت أكثر آيات السجدة بالأمر بالسجود في مواضع متعددة،
فقال: هو واجب ولازم.وذهب الجمهور إلى أنه ليس بواجب،
واحتجوا بحديث أبي داود بسند صحيح أنه عليه الصلاة والسلام: أنه لما قرأ السجدة وتهيأ الصحابة أن يسجدوا قال: (على رسلكم، إنها ليست بعزيمة)، ولما رآهم تهيأوا للسجود نزل فسجد تطييباً لخواطرهم صلوات الله وسلامه عليه، فدل على أنها ليست بعزيمة.ومما يؤكد هذه الآثار الصحيحة ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
فقد روى عنه مالك في الموطأ أنه قرأ السجدة وهو في الخطبة أي: قرأ آية السجدة-، فنزل فسجد في أصل المنبر، فسجد الناس معه، ثم لما كانت الجمعة الثانية قرأها فتهيأ الناس للسجود،
فقال: على رسلكم، إنها ليست بعزيمة -
أي: سجود التلاوة ليس بعزيمة- وإنما هو فضل لا فرض)،
ولذلك قال جمهور العلماء: إنه فضيلة وليس بفريضة.أما استدلال الإمام أبي حنيفة رحمة الله ورضوانه عليه بما ورد من الأوامر بالسجود في الآيات فهو مردود بورود حديث السنة الذي يدل على صرف الأمر عن ظاهره من الوجوب إلى الندب.كما أنه لو قيل بهذا الاستدلال -كما أجاب بعض العلماء- للزم المصلي أن يصلي عند كل آيةٍ فيها أمر بالصلاة،
كقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، ولا قائل بهذا، فدل على أن الأمر بالسجود غير واجب كما أن الأمر بالصلاة غير واجب عند تلاوته الأمر بها.فسجود التلاوة يشرع عند تلاوة الآية التي فيها سجدة.
[سجود التلاوة للمستمع واقتداؤه بالقارئ]
قال رحمه الله: [يسن للقارئ والمستمع دون السامع].
أي: يسن سجود التلاوة لمن قرأ ولمن استمع،
أي: حضر مجلس القراءة وكان مع القارئ في نفس المجلس، أما لو سمعه بالمبلّغ الذي لا يجتمع معه في المكان، أو سمعه في الأجهزة من مسجلٍ ونحو ذلك فإنه لا يشرع له أن يسجد معه، وذلك لأنه ائتمام، وحكمه حكم الائتمام في الصلاة، وحينئذٍ لا يسجد معه، كما أنه لا يصلي وراءه ولا يركع ولا يسجد بالتبليغ بالجهاز دون التبليغ الحقيقي الذي يكون فيه مجتمعاً معه في المكان، وعلى هذا فلا تسجد إذا كنت مستمعاً إلا إذا كان المكان متحداً، ولذلك بعض العلماء يضيف قيد المجلس، ولا يقتصر على كونه مستمعاً، وإنما يضيف قيد المجلس، وهو اتحاد القارئ والمستمع في المجلس؛ لأنه ربما حصل الاستماع بدون حضور المجلس، كأن يعلو صوته من بيته وأنت في بيتك فتسمعه، أو تسمعه من غرفته وأنت في غرفتك،
فحينئذٍ قالوا: إنه لا يشرع السجود لمكان عدم صحة الاقتداء.وأما السامع فإنه لا يسنّ له السجود، وهناك فرق بين السامع والمستمع، ففضل الاستماع أكثر من فضل السماع؛ إذ السامع هو الذي لا يقصد،
ولذلك قالوا: لو مررت على صوت غناءٍ وسمعته ولم تستمع له لم تأثم، ومن هنا خرّجوا أثر ابن عمر الوارد عنه حينما كان معه مولاه نافع، فمر بالسوق فسمع صوت الغناء فوضع أصبعيه في أذنيه،
فما زال يسأل نافعاً: أنتهى الصوت؟
فيشير له: لا بعد.حتى أشار له أنه قد انقضى.
فاستشكل العلماء: كيف ابن عمر يضع أصابعه ولا يأمر نافعاً أن يضع أصبعه في أذنه؟
فقالوا: وضعها ابن عمر ورعاً وكمالاً في البعد والهجر لمعصية الله، وبقي نافع على الأصل من الرخصة.ولذلك قد تغلب على سماع شيءٍِ وأنت لا تريده، فإذا سمعته ولم تستمع له -
بمعنى: لم تصغ إليه- لم تأثم، وهكذا إذا سمعت القرآن ولم تستمع له لم تؤجر، وبناءً على ذلك فرقوا بين السماع والاستماع من هذا الوجه، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم، ونبه عليهم علماء محققون، منهم الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في المغني.
قال رحمه الله تعالى: [وإن لم يسجد القارئ لم يسجد].
أي: إذا لم يسجد القارئ لا تسجد لمكان الاقتداء، وقد جاء فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه آثار عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لم يسجدوا،
حتى إن ابن مسعود رضي الله عنه أمر تميماً رحمة الله عليه فقال له: اسجد حتى نسجد معك.فدلّ على أن سجود المستمع متوقف على سجود القارئ، ولذلك قالوا: لا يسجد المستمع دون أن يسجد القارئ.
[عدد سجدات التلاوة]
قال رحمه الله: [وهو أربع عشرة سجدة].
أي: سجود التلاوة أربع عشرة سجدة.أولها سجدة الأعراف، ثم تليها سجدة الرعد، ثم النحل، ثم الإسراء، ثم مريم، ثم في الحج سجدتان، ثم الفرقان، ثم النمل، ثم السجدة، ثم سجدة حم فصلت ثم سجدة النجم، ثم الانشقاق، ثم العلق، فهذه أربع عشرة سجدة، ومذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه وطائفة من السلف أنها كلها من عزائم السجود.وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يسجد في المفصّل، كما هو مذهب إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمة الله عليه،
فقال: إنه لا يسجد في المفصل،
واستدل بحديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سجد في المفصل بعد الهجرة)، ولكنه حديث منكر كما بيّن العلماء رحمة الله عليهم، ومنهم الحافظ ابن عبد البر الذي بيّن أنه حديث ضعيف.والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في المفصل، وعلى هذا يشرع السجود في المفصل، ولا حرج على الإنسان، وتكون السجدات أربع عشرة سجدة.واختلف العلماء في سجدة الحج الثانية، وأما الأولى منهما فعزيمة،
والثانية وهي قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] فيها خلاف.ومذهب طائفة كـ الشافعي وأحمد رحمة الله عليهما السجود فيها، وثبت فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على صحة القول بالسجود فيها.وأما سجدة (ص) فالصحيح أنها ليست من عزائم السجود،
وجاء فيها حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (إنها ليست بعزيمة، إنما كانت توبة من نبي من أنبياء الله)، فيكون الاقتداء به على سبيل الاستنان العام بهدي الأنبياء، ولذلك ابن عباس لما قيل له في سجدة (ص) قرأ قول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فسجد نبي الله داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فنحن نسجد من باب الاستنان العام، لكنها ليست من عزائم السجود،
والفرق بين قولنا: إنها تسجد من باب الاستنان العام وكونها من عزائم السجود أنه لو سجد الإمام بها في الصلاة فلا تتابعه؛ لأنها ليست من عزائم السجود، فتكون فعلاً زائدة.وبناءً على ذلك لا يسجد وراء الإمام إذا سجدها، وهذا إذا كان الإنسان لا يراها عزيمة، أما إذا كان يراها من عزائم السجود -كما هو مذهب بعض السلف رحمة الله عليهم- فحينئذٍِ لا حرج أن يسجد وراء الإمام إذا سجدها.
قال رحمه الله: [في الحج منها اثنتان].
أشار إلى الخلاف رحمة الله عليه، أي أنه يرى القول الذي يقول بالسجدة الثانية من الحج، وهي التي تكون في آخر سورة الحج، أما الأولى منهما فيكاد يكون بالاتفاق أنها من عزائم السجود.
[التكبير والتسليم والقيام في سجود التلاوة]
قال رحمه الله: [ويكبر إذا سجد وإذا رفع ويجلس ويسلم ولا يتشهد].
قوله: (ويكبر إذا سجد وإذا رفع) هذا هو المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح أنه كبّر لسجوده، وفي حديث أبي داود أيضاً ما يؤكد ذلك حينما سجد عليه الصلاة والسلام، فكان يكبّر لسجوده ورفعه من السجود.
وقوله: [ويجلس ويسلم ولا يتشهد].
أي: يجلس ثم يسلم، ولا يتشهد في جلوسه.
وللعلماء في الأفضل في كيفية الابتداء في هذا السجود وجهان: فاختار بعض العلماء من الحنابلة والحنفية رحمة الله عليهم أن الأفضل في سجود التلاوة أن تقوم ثم تخر ساجداً؛
لأن الله أثنى على من خرّ ساجداً فقال تعالى:: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء:107]،
فالخرور قالوا: من أعلى إلى أسفل.فإذا وقف كان هذا أبلغ؛ لأن فيه تكلف الفعل، ووجود المشقة فيه أكثر مما لو سجد وهو جالس، ثم إنه مطابقٌ لوصف الآية.
وقال بعض العلماء: لا فضيلة في القيام، وإنما يجلس ويسجد وهو جالس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه تكلف القيام.وهذا القول الثاني فيه قوة ووجاهة، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه قام ثم خرّ ساجداً، لكن لو خرّ الإنسان وسجد فلا حرج عليه ولا بأس.
[سجود الإمام للتلاوة في الصلاة السرية]
قال رحمه الله تعالى: [ويكره للإمام قراءة سجدة في صلاة سر وسجوده فيها].
هذا لأنه إذا قرأ سجدة -مثلاً- في صلاة الظهر وهي صلاة سر ثم سجد فإنه يشوش على المأمومين، وهذه من آداب الإمامة، ولذلك ينبغي للإمام أن يكون ملماً بفقه الإمامة، فمن فقه الإمامة هذه المسألة.وذكروا مسألة ثانية في سجود التلاوة، وهي إذا قرأ آية السجدة وكانت في آخر قراءته، كما في سورة العلق،
فحينئذٍ قالوا: إذا كان لا يرغب في السجود فليقرأ بعد فراغه من آخر السورة آيات أو سورة حتى ينبه من وراءه أنه لا يريد السجود؛ لأنه لو كبّر راكعاً في هذه الحالة سيخرّ الناس سجداً، وحينئذٍ يحصل الاختلال في صلاة الناس، فعدوا من فقه الإمام أن يتفطن لمثل هذا، فلا يركع عند آية السجدة؛ لأنه إذا ركع لبّس على الناس، خاصةً في الفريضة فإن الأمر أشد، فتجد هذا قائماً وهذا راكعاً وهذا ساجداً؛ لأن الناس يلتبس عليهم الأمر.
ولذلك قالوا: لا يقرأ آية السجدة عند الركوع، إلا إذا كان يريد أن يسجد فحينئذٍ يقرؤها.ومن ذلك أن يقرأ السجدة في السرية، فكره بعض العلماء أن يقرأها، ولكن ورد ما يدل على مشروعية قراءتها في السرية وسجوده فيها، وعلى هذا فلا حرج أن يفعل ذلك،
لكن يقول بعض العلماء: لو أنه رفع صوته قليلاً بآية السجدة قبل أن يسجد في السرية فلا بأس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة السرية يرفع صوته أحياناً يُسمِّع بالآية،
قالوا: فإذا ثبت التسميع بالآية وهو مشروع فليفعل ذلك قبل سجوده حتى ينبه الناس أنه يريد أن يسجد، وإنما كره من كره من العلماء أن يقرأ آية السجدة في السرية لأنه إذا ترك السجود ترك السنة، وإن سجد ظن الناس أنه وهِم، فبدل أن يركع سجد، فيلتبس على الناس فعله،
ولذلك قالوا: لا يقرأ في الصلاة السرية السجدة.والصحيح أنه لا حرج عليه أن يقرأ السجدة لثبوت ما يدل على مشروعية ذلك، والأصل العام يقتضيه.
قال رحمه الله: [ويلزم المأموم متابعته في غيرها].
أي: إن شاء سجد وإن شاء لم يسجد،
فيلزمه متابعته على الأصل في حديث أنس بن مالك في الصحيح: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا)، فأمر المأموم بمتابعة إمامه، ولذلك يلزم المأموم في الأصل بمتابعة الإمام، وسيأتي إن شاء الله الكلام على المتابعة وأحكام الاقتداء في باب صلاة الجماعة بعد هذا الباب.
[مشروعية سجود الشكر]
قال رحمه الله: [ويستحب سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم].
استحباب سجود الشكر هو مذهب طائفة من السلف رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين،
قالوا: إنه يستحب للمسلم إن أصابته نعمة أن يسجد شكراً لله عز وجل؛ لأن داود عليه السلام أناب إلى ربه وخر راكعاً، حينما تاب الله عز وجل عليه،
فقالوا: يستحب للإنسان إذا نزلت به النعمة أو اندفعت عنه الشدة والنقمة أن يستقبل القبلة ويسجد لله عز وجل شكراً.وسجود الشكر كسجود التلاوة، لكن خصص بعض العلماء الطهارة له،
فقالوا: إنه لو سجد على غير طهارة صح منه سجوده ولا حرج عليه.
ويكون سجود الشكر في موضعين: الأول: حصول النعم، كأن يأتي خبرٌ سار بحصول الخير، فأول ما تستقبل الخبر تشكر الله عز وجل فتسجد، وقد تأذن الله بالزيادة لمن شكر.
الثاني: اندفاع النقم، كزوال بلية أو مصيبة، عامة كانت أو خاصة، فلو بلغه أن كربة فرجت عن المسلمين، أو ضائقة زالت عنهم سجد شاكراً لله عز وجل، وهكذا إذا بلغه أن نعمة أصابت إخوانه المسلمين خرّ ساجداً شاكراً لله عز وجل، فكل ذلك مما هو مشروعٌ، ولا حرج على المكلف في فعله.
قال رحمه الله: [وتبطل به صلاة غير جاهل وناسٍ].
هذه مسألة العذر بالجهل،
قالوا: إنه يعذر إذا كان جاهلاً ويعذر إذا كان ناسياً.والسبب في ذلك أن الله عز وجل رفع المؤاخذة عن الناس،
فقد جاء في الحديث الصحيح في قوله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، أن الله تعالى قال:: (قد فعلتُ)، أي أني لا أؤاخذكم إذا نسيتم أو أخطأتم،
فقالوا: إذا كان الإنسان جاهلاً بالحكم عذر؛
لحديث معاوية رضي الله عنه عندما تكلم في الصلاة فقال: واثكل أمياه وكذلك أيضاً إذا كان ناسياً فتابعه فيها وهي زيادة فعل،
فحينئذٍ يقولون: إنه لا تبطل صلاته لمكان الجهل والنسيان
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة التطوع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (111)
صـــــ(1) إلى صــ(24)
الأسئلة
[اندراج ركعتي الإشراق والضحى في ركعتي الطواف]
q هل تجزئ ركعتي الطواف عن ركعتي الإشراق أو الضحى؟
a مذهب طائفة من العلماء أنه يحصل الاندراج في مثل هذا، ولكن بما أن الأمر متوقف على ركعتين فاركع لطوافك واركع لإشراقك، وهذا خير كثير ونعمة عظيمة.أما في الإشراق فلا يحصل هذا؛ لأن الإشراق -كما هو معلوم- متصل بجلوسه، فإذا فصل بالطواف فصل بأمرٍ أجنبي عن الذي من أجله قصد الصلاة التي هي ركعتا الإشراق، وعلى هذا فلا يحصل الاندراج.فالذي يظهر أن الإنسان يركع ركعتي الإشراق أولاً، ثم بعد ذلك يطوف، ثم يصلي ركعتي الطواف على الأصل المعروف الذي وردت به السنة.والله تعالى أعلم.
[قراءة الإمام للقرآن بعد الرفع من سجود التلاوة]
qإذا قام الإمام من سجود التلاوة فهل له أن يركع، أم لا بد أن يقرأ ما تيسر؟
a ذكر بعض العلماء أنه يستحب له أن يقرأ، حتى لا يكون هناك وصل بين السجود وبين الركوع، ولا يحفظ في هذا أصل، وإنما استحبه بعض العلماء.والله تعالى أعلم.
[حكم تكرار صلاة الاستخارة]
q هل يشرع تكرار صلاة الاستخارة إذا لم يحصل انشراح الصدر من أول مرة؟
a لا يشرع هذا فمن الحدث والبدعة تكرار صلاة الاستخارة، أو سؤال غير أن يصليها، أو ادعاء أنه يرى في النوم ما يسر وما يزعج، فكل هذا من البدع، فإن صلاة الاستخارة إنزال للأمر بباب الله جل وعلا الذي تنزل به الأمور، وبه تتيسر الأمور، ويستفتح المغلق، ويزال الهم والغم، فلذلك إذا صليت هاتين الركعتين فحسبك، وخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإياك والحدث، ولا تلقَ الله عز وجل وقد زدت في دين الله ما ليس منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليركع ركعتين من غير الفريضة)، فلا تزد على هذا الحد الذي حده رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليكون لك في ذلك الخير والفلاح والصلاح والنجاح.أما تكرار الاستخارة وتعلق القلب برؤيا ونحوها فكل ذلك مما لا أصل له، فإن أصابك الهم فأكثر من ذكر الله عز وجل حتى يأتيك الفرج من الله، فإنك إن صليت هاتين الركعتين فقد قضي الأمر وفرغ من الأمر، فإن وجدت هماً وعيق بينك وبين الأمر بهذا الهم فاعلم أنه صرفٌ من الله صرفك الله به عن هذا الأمر بالهم، وإن حصل انشراح ولو بعد حين فهو خيرة الله عز وجل، فيكون ما سبق من الهم نفث من الشيطان نفثه في قلبك فعوضك الله به تيسير الأمر، وقد يسلط الله على المستخير هماً بمجرد انتهائه من الاستخارة، فيبقى اليوم واليومين والأسبوع والشهر والشهرين والثلاثة ثم يجد الانشراح؛ لحكمةٍ من الله، فهو يعلم أنه لو فعل هذا الأمر خلال هذه الأيام فإنه لا يكون له خير، ولذلك أَنْزِل الأمر بالله عز وجل، ولا تنتظر شيئاً غير أن يأتيك الفرج بإذن الله عز وجل، أما أن ينتظر الإنسان رؤيا في المنام، أو يأمر غيره أن يصلي له، ويكثر الاستخارة ويقول: ما تبين لي شيء فكل هذا من حدث الناس، وهو غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى المسلم الاتباع ونبذ الابتداع.والله تعالى أعلم.
[اشتراط الطهارة لسجود التلاوة]
q هل تشترط الطهارة لسجود التلاوة؟
a هذا هو المحفوظ: أن السجود أُمِر فيه باستقبال القبلة والتكبير وما ورد من صفات الصلاة مما يدل على أنه آخذ حكمها، والنظر الصحيح دال على صحة هذا القول، ووجه ذلك: أن صلاة الجنازة تشتمل على القيام، وتشتمل على القراءة، وهذه أركان، ويشابهها سجود التلاوة؛ فإن سجود التلاوة فيه ركن السجود، والرفع من السجود مع وجود الذكر من تسبيح وسؤال الله عز وجل الخير، كما ورد في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول في سجود تلاوته: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين)، وفي الحديث الآخر: (اللهم اكتب لي بها أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك ونبيك داود)، فهذا ذكر، ولذلك خصه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الذكر، فيقوى إلحاق سجود التلاوة بصلاة الجنازة، وصلاة الجنازة قال الجمهور رحمهم الله بوجوب الوضوء فيها لحديث أبي هريرة: (لا صلاة بغير طهور)، وبناءً على ذلك فإذا كانت صلاة الجنازة مع اشتمالها على هذا القيام والتكبير الذي لا سجود فيه فإن في حكمها سجود التلاوة؛ لأنه مشتمل على جزء الصلاة، ولا فرق بين هذا وهذا من جهة النظر الصحيح.والله تعالى أعلم.
[تكرار السجود بتكرار قراءة السجدة لمن يحفظ القرآن]
qإذا كان الإنسان يحفظ ومرت به سجدة التلاوة فهل يسجد عند كل إعادة؟
a إذا كان الإنسان يكرر آية السجدة فما أحلى وما أجمل وما ألذ تكرار السجود؛ لأنه من الذي يشرع له أن يكرر السجود غيره؟ فما يشرع لأحد أن يكرر السجود إلا بتكراره بالتلاوة، وهذا على سبيل الحفظ، ولذلك قالوا: لو قرأ وسجد ثم رجع مرة ثانية يقصد تكرار السجود كان مبتدعاً لكن هذا معذور لمكان الحفظ، فما ألذه من سجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة وكتب لك بها حسنة، فهذه نعمة عظيمة من الله عز وجل، وهذا هو الأفضل والأكمل.أما لو أخذ بقول جماهير العلماء، فجمهور العلماء يقولون: من حفظ وكرر فإنه يجزيه السجود لأول مرة، فيسجد السجدة الأولى ثم التكرار الباقي تبع للسجدة الأولى؛ لأنه لم يقصده، وقصده إنما وقع على سبيل التبع، والقاعدة أن المشقة تجلب التيسير والأمر إذا ضاق اتسع، قالوا: فيضيق عليه أنه كلما قرأ يسجد، لكن إذا كان لا مشقة عليه وكان يمكنه أن يكرر السجود فلا حرج، وهو حسن، وهو مأجور على ذلك.والله تعالى أعلم.
[حكم من أحدث وهو ينوي الجلوس إلى الشروق]
q إذا أحدث الإنسان فهل يخرج من المسجد للوضوء، ثم يرجع إلى مصلاه، أو يبقى حتى تطلع الشمس ثم يخرج ويتوضأ ثم يصلي الركعتين؟
a استحب بعض العلماء إذا أحدث أن يبقى حتى تطلع الشمس، ويجلس في ذكر حتى يصيب فضيلة: (جلس يذكر الله)، ثم يعذر في صلاة الركعتين لوجود الحدث، فيتوضأ ويصلي ركعتيه، فتقع حينئذٍ بعد انتهاء جلوسه، فكانت كما لو جلس ولم يحدث.والله تعالى أعلم.
[نصيحة وتوجيه في صلة الأرحام]
q إلا لم أصل الأرحام بالزيارات ووصلتهم بالكلام معهم عبر الهاتف هل أعتبر قاطعاً للرحم؟
a الله المستعان وإلى الله المشتكى.صلة الرحم من أحب الأعمال وأفضلها عند الكبير المتعال، ولذلك عظّم الله شأنها ورفع الله قدرها، وأمر عباده أن يتقوه فيها: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]، فالأرحام أمرهم عظيم وشأنهم كبير، وصلة الرحم منسأةٌ في الأثر، وزيادة في العمر، وبسطٌ في الرزق، وتيسيرٌ في الخير، وقلّ أن يصل عبدٌ رحمه إلا خرج مسرور النفس منشرح الصدر قوي العزيمة على طاعة الله عز وجل، فمن أحب الأعمال بعد توحيد الله وبر الوالدين صلة الأرحام، ودخل صلوات الله وسلامه عليه المدينة فكانت أول الكلمات التي قالها: (أيها الناس! أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا جنة ربكم بسلام)، فمن وصل الرحم وصله الله، ففي الحديث القدسي: (إني أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فأنا الرحمن وهي الرحم، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)، فمن قطعه الله عز وجل فبئس -والله- حاله، ولذلك أخبر الله عز وجل أن من قطعها ملعون، وأنه لا ينتفع بخير ولا ذكر، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، قال بعض العلماء: أصمهم فإذا سمعوا موعظةً لا ينتفعون بها، (وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) فإذا رأوا خيراً لا يهتدون إليه -والعياذ بالله- ولذلك تجد بعض الناس إذا ذكّرته بالله لا يتذكر، فهو قاسي القلب يتمنى أن يكون خاشعاً، وقد حالت الرحم بينه وبين الله عز وجل، فالرحم أمرها عظيم.وأوصيكم ونفسي -وخاصةً طلاب العلم- أن نتقي الله في الرحم، فكم من طالب علم يجد في قلبه الظلمة ويجد في نفسه الوحشة، وقد يبتلى ببعض الذنوب، وقد يبتلى ببعض المعاصي بسبب لعنة أصابته بقطيعة الرحم، فسل نفسك كلما مر عليك أسبوع متى عهدك بالرحم، ومتى عهدك بالعم، ومتى عهدك بالعمة، ومتى عهدك بالخال، ومتى عهدك بالخالة، ومتى عهدك بهذا القريب الضعيف، ومتى عهدك بذلك القريب المحتاج، وإذا وصلتهم أعظم الله أجرك، قال صلى الله عليه وسلم: (من أحب منكم أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه فليصل رحمه)، فهذه نعمةٌ عظيمة، ولذلك كان الناس بخير، وكنت تجد كبار السن فيهم الرحمة، وتجدهم دائماً يعصمون من كثير من الشرور والبلايا؛ إذ تجدهم من أوصل الناس للرحم.واليوم نشأت الناشئة ونشأ الشباب بعيدين عن الأرحام، حتى تجد الإنسان عهده بعمه في العيد، وهذا إذا كان يأتيه في العيد، بل إنه لا يكاد يعرف عمه إلا في المناسبات -نسأل الله السلامة والعافية-، بل إن بعضهم يستحي في المناسبات أن يسلم على عمه وخاله، فتكمل له القطيعة حتى تكمل عليه لعنة الله والعياذ بالله.والله عز وجل يقطع من قطع الرحم ولو كان أقرب الناس منه، فإن قطيعة الرحم أمرها عظيم، ولقد توعد الله عز وجل من يقطعها أن يقطعه، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لهذا الأمر، وقد تجد الرجل صالحاً لكنه قاطع للرحم من حيث لا يشعر، فهذا أمر يحتاج طالب العلم دائماً أن يضعه في حسبانه، ويسأل نفسه دائماً عن عهده بالعم والعمة والخال والخالة، والأقارب والأرحام، خاصةً إذا كانوا محتاجين، وإذا وصلت الرحم وكان له حقٌ عليك -كأن يكون كبير سن- فعظمه وأجله، فقد دخل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فقام له يجر رداءه صلوات الله وسلامه عليه، فالتزمه وقبّل بين عينيه.فمن آداب الإسلام وشعائر الإسلام إجلال ذي الرحم، خاصةً إذا كان كبير سن، أو كان من أهل العلم والفضل وبينك وبينه رحم فينبغي أن توصل، بل إن الرحم قد تكون من أجل المصاهرة، ولو كانت في طبقة عالية، فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط -وهي مصر-، فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم رحماً)؛ لأن أم إسماعيل منهم، وكذلك مارية أم إبراهيم منهم، فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بها لوجود الرحم البعيد، فكيف بالرحم القريب كالعم والخال؟! فلذلك ينبغي للإنسان أن يحرص كل الحرص على صلة رحمه، وإذا دخلت على العم فقبّل بين عينيه، ولو كان أصغر منك سناً عظمه وأجله؛ فإن جعفراً دون النبي صلى الله عليه وسلم في الفضل، ومع ذلك قبّل النبي صلى الله عليه وسلم بين عينيه؛ لكي يرسم للأمة المنهج في صلة الرحم، وينبغي عليك مع صلة الرحم أن تعوّد أبناءك وبناتك وتأخذهم معك، فيا لها من نعمةٍ عظيمة إذا نشأت أبناءك على صلة الرحم، ووالله ما خرجت بابنك إلى صلة عم أو عمة أو خال أو خالة فاغبرت قدمه إلا كان لك أجره، ولن يحافظ من بعد موتك على صلة رحم إلا أجرت كأجره؛ لأنه ما عرف صلة الرحم إلا بك، فإذا نشأت أبناءك على هذا الخير وعودتهم على صلة الرحم وجعلت فيهم حب القرابة والميل إلى القرابة آجرك الله وعظّم ثوابك، وفتح لك أبواب الخير، بل يسعدك حتى في هذا الابن؛ لأن الابن الذي ينشأ على صلة الرحم يكون فيه رحمة من الله عز وجل، فينبغي التواصي بهذا الأمر، ولذلك لما سأل هرقل أبا سفيان: بماذا يأمركم؟ قال: يقول: اعبد الله ولا تشركوا به شيئاً.ويأمرنا بصلة الرحم، فكانت من الأمور الهامة التي اعتنى بها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته صلة الرحم.وينبغي دائماً على طلاب العلم أن يحيوا هذا الأمر في المساجد في كلمة بعد الصلاة تذكر فيها الناس بصلة الرحم، وكذلك الأئمة والخطباء، ولو بكلمة عابرة في الشهر، أو على الأقل في العام تذكر فيها بحق الرحم؛ حتى تنشأ الناس على التواصل والرحمة.نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(أوقات النهي في الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (112)
صـــــ(1) إلى صــ(10)
شرح زاد المستقنع - أوقات النهي في الصلاة
جاء النهي عن الصلاة في خمسة أوقات: بعد صلاة الفجر، وعند طلوع الشمس، وعند انتصاف الشمس في السماء، وبعد صلاة العصر، وعند الغروب، وهذا النهي يتعلق بالنوافل، واختلف في إيقاع بعض النوافل في وقت النهي، وكذلك قضاء الفرائض.
[أوقات النهي عن صلاة التطوع]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [وأوقات النهي خمسة].
بعد أن بيّن لنا رحمه الله أنواع النوافل شرع في بيان الأوقات التي يمنع فيها الإنسان من فعل النافلة؛ لأن الكلام عن الصلاة يستلزم بيان مواقيتها،
ولذلك يقول العلماء: إن لصلاة النافلة ميقاتاً، يعنون بذلك ألا تقع في وقت النهي.والوقت: مأخوذ من وقّت الشيء يؤقته تأقيتاً إذا حدده فإما أن يحدد بالزمان أو يحدد بالمكان، فالحدود الزمانية مواقيت، والحدود المكانية مواقيت، ومواقيت الصلاة التي ذكرها هنا مواقيت زمانية.
قوله: [وأوقات النهي] أي: الأوقات التي ينهى فيها عن الصلاة، وهذا راجع إلى الزمان، وجمعها رحمة الله عليه لأنها أكثر من وقت، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيقاع الصلاة فيها،
وهي على التفصيل الآتي: الأول: من بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس،
الثاني: من بعد طلوعها حتى تبلغ قيد رمح،
الثالث: حين يقوم قائم الظهيرة -أي: حالة انتصاف الشمس في كبد السماء كما سيأتي-،
والوقت الرابع: من بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس،
الخامس: من الغروب حتى يتم الغروب، فهذه خمسة مواقيت ينهى فيها عن صلاة النافلة،
والأصل في ذلك حديث عبد الله بن عباس في الصحيحين قال رضي الله عنه: (شهد عندي رجال مرضيون -وأرضاهم عندي عمر - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وعن الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس)،
وفي الحديث الصحيح قال: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة)،
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (فإذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان)، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأوقات الثلاثة -التي تنقسم بالتفصيل إلى خمسة- عن إيقاع الصلاة، والمراد بهذا صلاة النافلة.
[حكم قضاء الفريضة في وقت النهي]
لو أنك نمت عن صلاة الفجر، واستيقظت فتوضأت ثم صليت فأوقعت ركعة قبل الطلوع، ثم أثناء أدائك للركعة الثانية طلعت عليك الشمس، فهل تتم الصلاة، أو تقطعها؟
في هذا قولان للعلماء: فمذهب جمهور العلماء أن النهي لا يشمل الفرائض، وأن الفريضة مستثناة؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، فقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إدراكك للركعة قبل الطلوع يوجب إدراكك لصلاة الصبح، وكذلك إدراكك لها قبل الغروب يوجب الحكم بكونك مدركاً للعصر، وهذا لا يتّأتى إلا إذا أتممت الصلاة؛ لأنك لو قطعتها لكنت كمن أداها بعد الطلوع وبعد الغروب.وبناءً على هذا الحديث الصحيح ثبت أن من طلعت عليه الشمس أثناء أدائه لصلاةٍ مفروضة فإنه يتم الصلاة ولا يقطعها.وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى أنه إذا طلعت عليك الشمس وأنت في صلاة الصبح، أو غربت عليك وأنت في صلاة العصر،
أو في غيرهما من الفرائض فإنك تقطع الصلاة لظاهر الحديث الذي تقدم: (لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس).والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ فإن الحديث نصٌ في موضع النزاع، وهو دال على أن من أدرك الركعة قبل الطلوع فقد أدرك الصبح، ومن أدركها قبل الغروب فقد أدرك العصر.
وهنا أيضاً مسألة ثانية في قوله رحمه الله: [وأوقات النهي] حيث تقيد بالنافلة ولا تشمل الفرائض،
والنوافل على قسمين: نافلة لها سبب، ونافلة لا سبب لها، ثم النافلة ذات السبب على صور، وسيأتي إن شاء الله الكلام على أحوال الأسباب المتقدمة والمصاحبة والمتراخية.
من العلماء من يقول: إن النهي يتبدئ من صلاة الصبح حتى تطلع الشمس.
ومنهم من يقول: من طلوع الفجر الثاني.والفرق بين القولين يظهر في مسألة خلافية،
وهي: لو أذن أذان الصبح هل يجوز لك أن تتنفل غير راتبة الصبح؟ فذهبت طائفة من العلماء إلى أنه لا يصلي الإنسان بعد أذان الصبح إلا راتبة الصبح،
حتى قالوا: إذا دخل المسجد فإنه ينوي تحية المسجد تحت راتبة الصبح.كل ذلك تشديدٌ لمنع غير الراتبة بين الأذان والإقامة في الصبح،
وهذا فيه الحديث الصحيح: (لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتي الفجر)،
قالوا: إنه يحمل على هذا.
وبناءً على ذلك قالوا: إنه لا يصلي بعد أذان الصبح إلا راتبة الفجر، وأما غيرها فلا يصليها.وذهب الجمهور إلى أنه يجوز للإنسان أن يصلي بعد أذان الفجر بين الأذان والإقامة؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا صليت العشاء فصلّ فإن الصلاة حاضرة مشهودة حتى تصلي الصبح، فإذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس) الحديث، وهو حديث صحيح، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للصحابي أن يتنفل بعد العشاء ما لم يصلّ الفجر، فدل على أن ما بين الأذان والإقامة من الفجر وقت نافلة.
أما الذين قالوا: إنه لا يتنفل فقد احتجوا بالحديث الذي فيه النهي،
وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الفجر -التي هي الرغيبة- ثم اضطجع ولم يصلّ، فدل على أنه ليس بوقت نافلة.لكن أجيب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان متهجداً، وأراد أن يتقوى على الفريضة؛ لأن تهجده عليه الصلاة والسلام كان طويلاً حتى تفطرت قدماه فيه، فكان يصلي بالبقرة وآل عمران والنساء في ركعةٍ واحدة، فهذا يأخذ من الجهد شيئاً كثيراً، ويحتاج بعد الأذان أن يستجم حتى يقوى على الصلاة، خاصة أنه كان يقرأ في صلاة الصبح -كما في حديث أبي برزة في الصحيح- من الستين إلى المائة آية، فاضطجاعه بين الأذان والإقامة ليس لتحريم الصلاة، وإنما ليتقوى على صلاة الفجر.فالذي يترجح أنه لا حرج في إيقاع النوافل بين الأذان والإقامة؛ لأن الأصل جواز ذلك،
وأما حديث: (لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتي الفجر) فالمراد بذلك على أحد الوجهين أنه يقضي رغيبة الفجر بعد صلاة الصبح، وفي ذلك أحاديث أخرى صحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رخّص في استثناء ركعتي الرغيبة بعد صلاة الصبح.
[حكم قضاء الرغيبة وقت النهي]
المسألة الثانية: من نام حتى سمع الإقامة، أو نام حتى سمع الأذان، وأثناء تهيؤه لصلاة الفجر أقيمت الصلاة، فلم يتمكن من الرغيبة، فهل يصلي الرغيبة بعد صلاة الصبح، أم ينتظر إلى طلوع الشمس؟
للعلماء وجهان: فذهب الجمهور إلى أنه ينتظر إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قضى رغيبة الفجر.وفي ذلك أحاديث صحيحة، منها ما صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بتأخيرها إلى ما بعد طلوع الشمس، ومنها -أيضاً-
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن حزبه من الليل فقرأه ما بين طلوع الشمس وزوالها -أو صلاة الظهر كما في الرواية الثانية- كتب له كأنما صلاه من ساعته) قالوا: فإذا كان هذا في صلاة الليل فمن باب أولى في رغيبة الفجر التي هي بين أذان الفجر وإقامته وهذا القول هو أحوط الأقوال، لكن لو كان الإنسان يخشى أن ينسى رغيبة الفجر، أو يخشى أن تفوته فحينئذٍ لو صلاها بعد صلاة الفجر فلا حرج عليه إن شاء الله.
[النهي عن النافلة في الساعات الثلاث]
المسألة الثالثة: أجمعوا على أنه أثناء الطلوع وأثناء الغروب وأثناء بقاء الشمس في كبد السماء لا تصلى النوافل، وهذا الإجماع يحكيه طائفة من علماء الإجماع، حتى ذوات الأسباب لا تصلى؛ لأن النص فيها صريح،
وهو قوله: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة)، فهذه الثلاث الساعات نهي عن الصلاة فيها،
قالوا: فلا تصلى النافلة في أثناء الطلوع وأثناء الغروب وأثناء انتصافها في كبد السماء، خاصةً في أثناء انتصافها في كبد السماء؛ لأنها ساعة عذاب وليست بساعة رحمة -والعياذ بالله- ولذلك نهى عن قبر الموتى فيها،
وفي الصحيح عنه عليه الصلاة السلام أنه قال: (فإذا انتصفت الشمس في كبد السماء فأمسك عن الصلاة؛ فإنها ساعةٌ تسجر فيها جهنم).
قال رحمه الله: [من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس، ومن طلوعها حتى ترتفع قيد رمح].
دل حديث ابن عباس المتقدم على النهي عن الصلاة من بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس.والعبرة بصلاتك لا بصلاة الناس،
توضيح ذلك: لو أنك دخلت المسجد بعد انتهاء الجماعة فصليت رغيبة الفجر، أو صليت تحية المسجد، ثم أقمت للصبح فلا حرج؛
لأنه قال: (لا صلاة بعد صلاة الصبح)، فلذلك العبرة بفعلك لصلاة الصبح،
وعلى هذا: فلو أوقعت النافلة قبل أدائك لصلاة الصبح فلا حرج.
وقوله: [ومن طلوعها حتى ترتفع قيد رمح]
دلّ عليه حديث العيدين: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي الأضحى والشمس على قيد رمح، ويصلي الفطر والشمس على قيد رمحين)، وقد بينا فيما سبق أنه أخّر الفطر وعجّل الأضحى؛ لأن الناس يحتاجون في عيد الأضحى إلى الوقت حتى تقع الأضحية في الضحى، وفي صلاة الفطر الناس يحتاجون إلى الوقت لإخراج زكاة الفطر، فأخّر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفطر إلى قيد رمحين، وقدم صلاة الأضحى إلى قيد رمح، فأخذوا من كونه عليه الصلاة والسلام يوقع صلاة الأضحى على قيد رمح أن وقت النهي ينتهي بارتفاع الشمس قيد رمح.
[تسعير جهنم عند انتصاف الشمس في السماء]
قال رحمه الله: [وعند قيامها حتى تزول].
قوله: [وعند قيامها] أي: انتصافها في كبد السماء؛ لأن الشمس تسير من المشرق إلى المغرب، فإذا جاءت في منتصف السماء الذي هو منتصف النهار وقفت لحظات،
وبعض العلماء يقول: من ثلاث دقائق إلى خمس دقائق تقف ولا تتحرك، وهذا الوقوف تسعر عنده -والعياذ بالله- جهنم، وعلى صفة الله أعلم بها، وهذا أمر يرد غيبه إلى الله عز وجل، وقد تجد من أهل الفلسفة والعقل من لا يتصور ذلك، ويقول: كيف هذا، وهي تسير على الأرض كلها، فما من فترة إلا وهي تقف فيها؟
فنقول: هذا أمرٌ مردهُ إلى الله، كالنزول في الثلث الآخر من الليل، فهذه أمور نسلم ونؤمن بحقيقتها، والله أعلم بالكيفية التي تقع عليها، فتسعير جنهم مردهُ إلى الله عز وجل، لكن نؤمن بأنها تسعر كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، ولذلك قال العلماء: إنها ساعة عذاب وليست بساعة رحمة، ولذلك يمسك عن الصلاة في وقتها.
ومن هنا قال بعض العلماء: إن مواطن العذاب لا يصلى فيها، فكما أن ساعات العذاب لا يصلى فيها فكذلك مواطن العذاب لا يصلى فيها،
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما مر على ديار ثمود التي تسمى مدائن صالح: (لا تدخلوها إلا وأنتم باكون أو متباكون، لا يصيبكم ما أصابهم) وضرب دابته وأسرع، حتى إنه أرخى عليه الصلاة والسلام رداءه على عينيه،
كأنه يقول: إني مؤمن ولو لم أر.وهذا يدل على أن مواطن العذاب لا ينبغي الجلوس فيها،
كذلك قالوا: ولا يصلى فيها حتى قال بعض العلماء ببطلان الصلاة فيها كمواطن الغصب.
[النهي عن التطوع بعد صلاة العصر إلى الغروب]
قال رحمه الله: [ومن صلاة العصر إلى غروبها].
أي: غروب الشمس، لحديث ابن عباس المتقدم.
قال رحمه الله: [وإذا شرعت فيه حتى يتم].
أي: وإذا شرعت الشمس في الغروب حتى يتم،
أي: حتى يتم غروبها.
بمعنى: تتوارى في الحجاب فإذا توارت الشمس في الحجاب فحينئذٍ تم غروبها،
قال بعض العلماء: العبرة بتواريها في الحجاب،
وذهاب الحجاب ليس بشرط ومن أهل العلم من قال: ذهاب الحجاب شرطٌ لصلاة المغرب وبناءً على ذلك طردوا النهي فيه، فقالوا: يمسك بعد غروبها إلى قدر ما تتوارى بالحجاب والصحيح أنها إذا توارت بالحجاب وسقطت فقد حل إيقاع الصلاة، ويجوز للإنسان أن يتنفل بين الأذان والإقامة في ذلك الوقت؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين،
وقال في الثالثة: لمن شاء).
وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (ولقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري -
أي: يسرعون إلى السواري لأجل أن يجعلوها سترة- حتى لو دخل الداخل ظن أن الصلاة قد أقيمت)، من كثرة من يصلون.
قال رحمه الله: [ويجوز قضاء الفرائض فيها].
إذا استيقظت بعد صلاة العصر ولم تصل الظهر فيجوز لك أن تقضيها وتصليها في هذا الوقت.
[حكم إيقاع ركعتي الطواف وقت النهي]
وأما ركعتي الطواف فاختُلف في إيقاعها في الأوقات المنهي عنها: فقال بعض أهل العلم رحمة الله عليهم: يجوز فيها إيقاع ركعتي الطواف؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أي رجلٍ طاف بهذا البيت وصلى أي ساعةٍ شاء من ليلٍ أو نهار)، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عمم،
ثم قالوا: إن ركعتي الطواف لهما سبب، وكل ما له سبب يجوز إيقاعه بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر، ولا حرج في فعل هذا، وهذا القول هو منصوص الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم.وذهب طائفة من أهل العلم -وهو مذهب الحنفية والمالكية، وبعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليهم- إلى أن ركعتي الطواف لا تفعل بعد صلاة الصبح ولا بعد صلاة العصر ولا حين يقوم قائم الظهيرة،
وذلك لأنهم قالوا: إن العموم مخصص، ولأن النهي عن فعل الصلاة في هذا الوقت نصٌ في موضع النزاع، ولأن القاعدة في الأصول أنه إذا تعارض نصان أحدهما نهيٌ والثاني أمر يقدم النهي على الأمر.فركعتا الطواف أبلغ ما فيها إذا كانت عن طواف واجب أنها واجبة، فتعارض النهي عن فعل الصلاة والأمر بفعلها فيقدم النهي.
والوجه الثاني للترجيح: أنه إذا تعارض نصان وعمل الخلفاء الراشدون أو واحد منهم بواحد من النصين كان مرجحاً،
فلما تعارض حديث يدل على جواز فعل ركعتي الطواف على العموم وحديث أوقات النهي قلنا: نرجع إلى الخلفاء الراشدين، فنجد عمر رضي الله عنه كان يؤخر ركعتي الطواف حتى تطلع الشمس وحتى تغرب.
وفي الأثر الصحيح عنه الذي رواه مالك في الموطأ: أنه طاف طواف الوداع بعد صلاة الصبح، فأخر ركعتي الطواف إلى ذي طوى وهذا بمحضرٍ من الصحابة وباطلاعٍ منهم ولم ينكر عليه أحد، فكان هذا مرجحاً.
والوجه الثالث لرجحان مذهب من يقول بالمنع: أنَّ حديث: (يا بني عبد مناف) عام دخله التخصيص،
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، وبناءً على ذلك لو أنه استأنف الصلاة بعد المكتوبة لمنع، فدخل العموم التخصيص،
ولذلك قالوا: إنه إذا دخل النص العام التخصيص لم يصح الاستدلال بعمومه،
مع أنهم يقولون: إنه عام ويخص بالأوقات والقاعدة: (لا تعارض بين عام وخاص)،
فقوله: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار)، نقول هذا عام، وجاءت أحاديث المواقيت خاصة،
فيخص العموم للقاعدة: لا تعارض بين عام وخاص.وهذا المذهب لا شك أنه أحوط وأسلم، خاصةً أنه لو أخر ركعتي الطواف إلى ما بعد الطلوع أو الغروب خرج من الخلاف ولم يحصل له محظور، لكن لو فعلها في وقت النهي شك هل تجزيه أو لا تجزيه.وبناءً على ذلك يحتاط الإنسان لإيقاعها بعد الطلوع وبعد الغروب، والله تعالى أعلم.
[حكم إعادة الجماعة وقت النهي]
قال رحمه الله: [وإعادة جماعة].
هذه المسألة ثبت فيها الحديث الصحيح، ولكن المقصود بها أعلى،
حتى قال بعض العلماء: إن إعادة الجماعة واجبة.
صورة ذلك: لو أنك صليت الصبح في بيتك، ثم طلبت رجلاً في مسجد فدخلت فإذا الناس يصلون صلاة الصبح، فإنه يجب عليك أن تدخل معهم،
وذلك لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى بالناس الفجر في الخيف -خيف منى-،
فرأى رجلين لم يصليا فقال: عليّ بهما فأتي بهما ترعد فرائصهما من الخوف،
قال: ما منعكما أن تصليا معنا ألستما بمسلمين؟
قالا: يا رسول الله! صلينا في رحالنا قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة)،
ووجه الدلالة أنه قال: (فصليا) فأمر،
فقالوا: إن الوجوب فيها آكد من الوجوب في ركعتي الدخول إلى المسجد،
قالوا: لأن الإسلام منع من الشذوذ، وجواز عدم الصلاة مع الجماعة فيه فتح بابٍ ليدخل الرجل ويجلس والجماعة تصلي، ولذلك حارب الإسلام هذا الشذوذ، وأمر من دخل المسجد ولو كان قد صلى أن يصلي مع الجماعة، ولذلك قال: (ألستما بمسلمين؟)، فأمر بالدخول في جماعة المسلمين،
ولذلك قالوا: شدد في هذا وعلى هذا قالوا: تعاد الجماعة،
واختلف العلماء في إعادة الجماعة: فمنهم من يقول: تعاد الجماعة في كل الصلوات، فإذا دخلت المسجد وقد صليت تعيد في جميع الصلوات،
سواءٌ أدخلت في صبح أم ظهر أ/ عصر أم مغرب أم عشاء لظاهر هذا الحديث: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا)، فهذا عام، والأصل في العام أن يبقى على عمومه.ومنهم من قال: لا تعاد أي صلاة صلاها المكلف،
وقالوا: إن هذا الحديث منسوخ بحديث ميمونة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعاد الصلاة مرتين).
والقول الثالث يقول: تعاد في جميع الصلوات ما عدا صلاة الصبح وصلاة العصر، للنهي عن النافلة بعد الصبح وبعد العصر.
ومنهم من قال: تعاد في جميع الصلوات إلا صلاة الصبح والعصر والمغرب؛ لأن المغرب وترية، ولا وتران في ليلة.فحاصل أقوال العلماء رحمة الله عليهم في المسألة تتلخص في هذه الأربعة الأقوال.وأصحها -والعلم عند الله- أن الصلوات جميعها تعاد، وذلك لصحة دلالة النص الذي معنا، حيث إنه نصٌ في موضع النزاع، أما من قال باستثناء الصبح والعصر فجوابه أن الحديث ورد في صلاة الصبح، وهو نصٌ في وقتٍ منهي عنه، وفيه الأمر، ولذلك يعتبر مستثنى.
أما من قال: بالنسخ فالقاعدة أن النسخ لا يثبت إلا بإثبات أن الناسخ متأخر عن المنسوخ ولا دليل هنا،
بل لو قال: إن الأمر بإعادة الصلاة آخر ما كان لكان أقوى؛ لأنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ومعلوم أن حجة الوداع توفي النبي صلى الله عليه وسلم بعدها بفترة وجيزة، ولذلك الذي يقوى أن حديث الأمر بإعادة الصلاة لم يدخله النسخ،
ويقوي هذا حديث أبي ذر: (كيف بك إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى؟ قال: فما تأمرني يا رسول الله! قال: صلّ الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم)،
والقاعدة في الأصول: (النسخ لا يثبت في الأخبار)،
فقال له: (صلها معهم)، فأعطاه حكماً إلى ما بعد وفاته، فدلّ على أن هذا الحكم غير منسوخ، ولهذه الأوجه يقوى القول بأنها تعاد الصلوات كلها،
ويبقى الإشكال: كيف نجيب عن حديث: (نهى أن تعاد الصلاة مرتين)؟ فيجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إعادتها لمن يعتقد أن كلتا الصلاتين فرض،
بمعنى: يعيد الصلاة الثانية على أنها فرض أيضاً، فيحتسب أجر الأولى فريضة والثانية فريضة، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة على أن الثانية نافلة،
والقاعدة في الأصول: لا تعارض بين نصين إلا إذا اتحد موردهما، وهنا النصان اختلف موردهما، فالنهي وارد لمن يعتقد الفريضة في الاثنتين، والأمر بالإعادة لمن يعتقد النافلة في الثانية، فلا تعارض بينهما، وهذا جمع بين النصين.
[حكم فعل ذوات الأسباب وقت النهي]
قال رحمه الله: [ويحرم تطوع بغيرها في شيء من الأوقات الخمسة حتى ما له سبب].
هذا مذهب الجمهور، وهو أنك لا تصلي بعد العصر وبعد الصبح حتى ذوات الأسباب،
والصلاة التي لها سبب ينقسم سببها إلى ثلاثة أقسام: السبب السابق، والسبب المصاحب، والسبب المتراخي، فيكون السبب سابقاً كدخول المسجد، فإن تحية المسجد وجبت لسبب سابق وهو دخولك المسجد،
ولذلك قالوا: إن السبب إذا كان سابقاً أثّر وإذا كان مقارناً أثر، وأما إذا كان لاحقاً فإنه لا يؤثر،
فإن كان السبب سابقاً كالدخول للمسجد وركعتي الطواف فإنهم قالوا: تصلي.أما إذا كان السبب مصاحباً كما لو كسفت الشمس واستمر كسوفها إلى ما بعد صلاة العصر فإنك تصلي صلاة الكسوف، وعند الجمهور لا تصلي، والسبب المتراخي يكون بعد الصلاة، فتشرع الصلاة لسبب بعدها،
ومن أمثلته: الاستخارة، فهنا لا يجوز لك أن تصلي بعد الصبح وبعد العصر بالإجماع قولاً واحداً، فهذه أحوال السبب الثلاثة،
وهي: أن يكون سابقاً كتحية المسجد وركعتي الطواف، وأن يكون مقارناً كالكسوف، وأن يكون متراخياً كمسألة الاستخارة.وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (113)
صـــــ(1) إلى صــ(20)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجماعة [1]
فرض الله تعالى على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، وأوجب عليهم أن يؤدوها جماعة مع المسلمين، فصلاة الجماعة واجبة على الرجال دون النساء، ولها حكم وفوائد عظيمة، وأحامها معلومة في بابها،
ومنها: حكم صلاة الجماعة في البيت، وصلاة أهل الثغور في المسجد الجامع وغيرها.
أحكام صلاة الجماعة
[مشروعية صلاة الجماعة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الجماعة].وهذه الترجمة تشتمل على مضاف ومضاف إليه، وذلك في قوله [صلاة الجماعة]، وقد تقدم معنا تعريف الصلاة لغة واصطلاحا.وأما الجماعة فإنها مأخوذة من قولهم: جمع الشيء إلى الشيء إذا ضمهإليه، فأصل الاجتماع الانضمام، وسميت الجماعة جماعة لانضمام أفرادها بعضهم إلى بعض.وقد ائتسى العلماء والفقهاء رحمة الله عليهم في هذه الترجمة برسول الله صلى الله عليه وسلم في تسميته لهذا النوع من الصلوات التي تقع على صورة الاجتماع،
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين) وفي رواية: (بخمس وعشرين درجة)، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة بهذا الوصف،
فمن الفقهاء من يقول: (باب صلاة الجماعة) مراعاة لهذا الحديث،
ومنهم من يقول: (باب الإمامة) وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لـ مالك بن حويرث وأخيه الذي كان معه من قومه: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وليؤمكما أكبركما)،
فقال: (وليؤمكما)،
وقال كما في الصحيح من حديث ابن مسعود: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فعبر بالإمامة.
فبعض العلماء يقول: (باب صلاة الجماعة)،
وبعضهم يقول: (باب الإمامة) والمعنى واحد،
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصلاة الجماعة، وتقوم الجماعة على ربط المأموم صلاته بالإمام، فيتابعه قولا وفعلا كما يتابعه مكانا، فلا يتقدم على الإمام من جهته، وذلك مراعاة لهذا الائتمام.
والإمامة مأخوذة من أم الشيء يؤمه إذا قصده.
وهي هنا: ربط المأموم صلاته بالإمام، ويقع هذا الربط بصورة مخصوصة بين الشرع حكمها كما في دليل الكتاب في صلاة الخوف، وكذلك أدلة السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.وقد شرع الله صلاة الجماعة في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبفعله عليه الصلاة والسلام، وكذلك أجمع العلماء رحمة الله عليهم على مشروعيتها.
أما دليل الكتاب على مشروعية هذا النوع من الصلاة فقوله سبحانه وتعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} [النساء:102]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله تبارك وتعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقوم بالطائفة، وذلك في صلاة الخوف، وإذا كانت الجماعة مشروعة في حال الخوف فمن باب أولى وأحرى أن تشرع حال الأمن والطمأنينة، ولذلك دلت هذه الآية الكريمة على مشروعية صلاة الجماعة، كما يقول العلماء،
واحتج بعض أهل العلم بدليل الكتاب في قوله سبحانه: {واركعوا مع الراكعين} [البقرة:43]، ووجه الدلالة أن هذه الآية الكريمة أمرت بني إسرائيل أن يركع بعضهم مع بعض، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وهنا ورد شرعنا بما يوافقه.وأما دليل السنة فأحاديث صحيحة،
منها حديث ابن عمر في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية صلاة الجماعة، وأنها أفضل من صلاة الفذ، وذلك لما ذكر من الدرجات،
وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث مالك بن حويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكما أحدكما، وليؤمكما أكبركما)، فدلت هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث الصحيحة على مشروعية صلاة الجماعة، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعة، بل إنه حين وطئت قدمه طيبة الطيبة بعد نزوله من قباء كان أول ما فعل أن اختط مسجده صلوات الله وسلامه عليه تأكيدا لأهمية الصلاة في المساجد وفي بيوت الله عز وجل.فالصلاة إذا ثبتت مشروعيتها، وتبين لنا أنها مشروعة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يعلم أنه قد أجمع العلماء رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على مشروعيتها.وهذه المشروعية لها فضائل ونوائل تعود على الإنسان بالخير في دينه ودنياه وآخرته،
ولذلك قال العلماء رحمهم الله: شرع الله صلاة الجماعة وجعل فيها الخير للفرد وللمجتمع وللأمة كلها، وهذا الخير لا يقتصر على خير الدين بل يشمل حتى خير الدنيا،
ويقولون: إن صلاة الجماعة تعود على الإنسان بالخير في دينه، فمن خيراتها في دينه أن الله يكفر بها سيئاته ويرفع بها درجاته،
والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ كثرة الخطا إلى المساجد)، وإنما يأتي الإنسان إلى المساجد تحصيلا لصلاة الجماعة،
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل في مسجده تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمسا وعشرين ضعفا، وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة، ورفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفضل من كونها تكفر خطايا العبد وترفع درجاته، وكفى بذلك فضلا ونبلا للإنسان، مع أن فيها إيمانا واهتداء، ولذلك يعمر المسلم بيوت الله بشهود صلاة الجماعة،
وأثنى الله عز وجل على من كان متخلقا بذلك ومتصفا به بقوله: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التوبة:18]، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه من أهل الإيمان، وأن مآله إلى الاهتداء، وكان العلماء رحمة الله عليهم إذا لمسوا من الإنسان ضعفا في دينه سألوه عن الصلاة مع الجماعة.فصلاة الجماعة جعل الله فيها هذه الخيرات الدينية للفرد والمجتمع، فبها يتواصل الناس ويتراحمون؛ لأن الإنسان إذا غاب عن المسجد لمرض أو عاهة أو بلاء علم الناس ذلك واطلعوا عليه وأدركوه بتخلفه عن الصلاة مع الجماعة، خاصة إذا كان من المحافظين والمداومين عليها، ومع ما فيها من جوار لله عز وجل،
كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي)، فهذه نعم عظيمة وخيرات كثيرة، وبشهود الناس لصلاة الجماعة تتحقق أواصر المحبة للمجتمع، فهذا يلقى أخاه يسلم عليه، ويسأله عن حاله، ويعين الضعيف، ويفرج كربة المكروب، إلى غير ذلك من الخيرات التي جعلها الله عز وجل في هذه الصلاة.
[حكم صلاة الجماعة]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [تلزم الرجال للصلوات الخمس لا شرط].
قوله: (تلزم) الضمير عائد إلى صلاة الجماعة،
أي: تجب.والمراد بالتعبير باللزوم الدلالة على أنها واجبة لازمة في ذمة المكلف،
لكنه قال: (تلزم الرجال)،
ومفهوم قوله: (الرجال) أنها لا تلزم النساء، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم،
ولذلك كان من تعبير العلماء أن قالوا: ليس على النساء جمعة ولا جماعة.
أي: ليس على النساء أن يشهدن الجمعة ولا الجماعة، وهذا من باب درء المفاسد؛ إذ إنه لو أذن للنساء كلهن بالخروج لكان في ذلك مفاسد عظيمة وأضرار كثيرة لوجود العبء عليهن بالخروج.
وقوله: (تلزم الرجال) هذه الجملة ظاهرها أن كل مسلم بالغ من الرجال يجب عليه أن يشهد الصلاة مع الجماعة، والمراد بذلك الصلوات الخمس،
وهذا الحكم اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيه على قولين: فذهب الإمام أحمد وداود الظاهري -وهو قول مأثور عن جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان- إلى أن صلاة الجماعة واجبة على كل بالغ ذكر، وأنه إذا تخلف عنها من غير عذر يعتبر آثما.ووافقه على هذا القول بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة والشافعي رحمة الله على الجميع، فعند أصحاب هذا القول أن صلاة الجماعة لازمة، ولا يجوز للمسلم أن يتخلف عنها إلا إذا وجد عنده عذر من مرض يحبسه أو نحو ذلك.
القول الثاني: أن الصلاة ليست واجبة على الرجل.وبهذا قال جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله على الجميع.
وقد استدل أصحاب القول الأول الذين قالوا بالوجوب بدليل الكتاب والسنة والأثر: أما دليلهم من الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} [النساء:102]،
ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله عز وجل قال: (فلتقم طائفة منهم معك) وهذا أمر، والأمر للوجوب،
ثم أمر الطائفة الثانية التي تخلفت بالشهود فقال تعالى: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك} [النساء:102]،
قالوا: فدلت هذه الآية الكريمة على وجوب صلاة الجماعة، وذلك في حال الخوف، فلأن تجب في حال الأمن والسلامة من باب أولى وأحرى.وكذلك استدلوا بدليل السنة،
وذلك بأحاديث: الأول: حديث أبي هريرة رضي الله الثابت في صحيح مسلم: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد.فرخص له، فلما ولى دعاه،
فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟
قال: نعم.
قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة) رواه مسلم.ووجه الدلالة من هذا الحديث أن هذا الرجل الأعمى مع وجود المشقة والعناء عليه بشهود الجماعة أمره النبي صلى الله عليه وسلم بها، فدل على أنها واجبة لازمة،
خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (فأجب)، وهذا أمر، والأمر للوجوب،
وقال: (فإني لا أجد لك رخصة)، فدل على اللزوم، وأن من تخلف عن الجماعة آثم.
الدليل الثاني: حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم).ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أنه سيعاقب من تخلف عن الجماعة، وأنه هم بمعاقبة من لا يشهد هذه الصلاة، ولا ترد العقوبة إلا على ترك واجب أو على فعل محرم، فدل على أن شهود الجماعة واجب، وأن التخلف عنها من غير ضرورة ولا عذر محرم.
الدليل الثالث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة وغيره.ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في هذا الحديث أن من لم يشهد الجماعة فلا صلاة له إلا من عذر، فدل على أنها واجبة لازمة، فهذا حاصل ما احتج به أصحاب القول الأول من دليل الكتاب والسنة.
وأما دليلهم من الأثر فما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن؛ فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو تركتموها لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين فيقام في الصف.ووجه الدلالة من هذا الأثر أن هذا الصحابي الجليل الموسوم بالفقه والعلم والعمل أخبر عن أهمية هذه الصلاة، وأنها بمثابة اللازم الواجب الذي لو ترك لضل العبد بتركه، وهذا كله يؤكد وجوبها ولزومها؛ لأنه لا يوصف بالضلالة إلا على ترك الهدى اللازم والواجب على المكلف.فهذا حاصل ما استدل به أصحاب القول الأول القائلين بالوجوب.
أما من قال بعدم الوجوب فقد استدلوا بحديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين)، وفي رواية: (بخمس وعشرين درجة).ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر كلتا الصلاتين، وجعل لصلاة الفرد فضلا، فدل على أن صلاة الجماعة ليست بواجبة؛ إذ لو كانت واجبة لما ورد الفضل لضدها، أعني صلاة الفرد.والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بوجوب صلاة الجماعة، وذلك لصحة دلالة الكتاب والسنة على هذا القول.وأما ما استدل به من قال بعدم الوجوب فإن حديث ابن عمر رضي الله عنهما غاية ما دل عليه إثبات الأجر لصلاة الفذ، وذلك لا يستلزم عدم وجود الإثم المترتب على التخلف عن صلاة الجماعة.
ووجه ذلك أن يقال: إن الأحاديث التي أمرت بصلاة الجماعة دلت على وجوبها، وحديث أبي هريرة دل على المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة الفذ، فكأن حديث أبي هريرة خرج عن موضع النزاع؛ لأن موضع النزاع في الدلالة على الوجوب أو عدم الوجوب، وكون الأجر يرد على هذا أقل من غيره، أو يرد على هذا أكثر من غيره فهذا خارج عن موضع النزاع، والقاعدة في الأصول أن النص إذا خرج عن موضع النزاع لم يصلح دليلا على عين المسألة المختلف فيها.وبهذا يترجح القول القائل بالوجوب.
وقوله: [للصلوات الخمس] أي: تلزم في الصلاة المكتوبة،
وهي الصلوات الخمس: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ولذلك قيد المصنف رحمه الله إطلاق الوجوب واللزوم بهذه الصلوات الخمس على ظاهر النصوص؛ لأنها إنما وردت في الصلاة المفروضة والمكتوبة، وأما جماعة النوافل كصلاة التراويح والصلاة على الجنازة إذا كانت جماعة فهذه ليست بلازمة ولا واجبة على المكلف.
وقوله: [لا شرط] أي: صلاة الجماعة شهودها مع الجماعة واجب ولازم، ولكن ليس شرطا في صحة الصلاة.ونحن ذكرنا أن العلماء رحمة الله عليهم -الظاهرية والحنابلة وبعض الحنفية والشافعية-
الذين قالوا بوجوب صلاة الجماعة انقسموا إلى طائفتين: فطائفة أوجبت صلاة الجماعة،
وقالت: لو صلى لوحده صحت صلاته.وطائفة قالت بوجوب صلاة الجماعة،
وقالت: لو صلى فردا من دون عذر لم تصح صلاته.وإذا ثبت أن صلاة الجماعة واجبة، فهل وجوبها وشهودها شرط في صحة الصلاة أو ليس شرطا؟
في المسألة قولان عند من يقول بالوجوب: قال الحنابلة،
والحنفية والشافعية الذين يوافقونهم على وجوب صلاة الجماعة: إنها ليست بشرط في صحة الصلاة، فمن صلى منفردا صحت صلاته وأجزأت ويأثم؛ لأنه لم يشهد الجماعة.وقال الظاهرية -وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله على الجميع- إنها واجبة وشرط في الصحة.فلو صلى منفردا بدون عذر فإن صلاته باطلة على هذا القول.وقد استدل الذين قالوا بالوجوب وأنها ليست بشرط في الصحة بأدلة الوجوب التي ذكرناها؛ لأن الأصل أن من أدى صلاته كاملة بأركانها وشرائطها وواجباتها فصلاته صحيحة حتى يدل الدليل على البطلان.
فلو سألك سائل: ما الدليل على أن الأصل فيمن أدى الصلاة بأركانها وواجباتها أن يحكم بصحة صلاته تقول: حديث المسيء صلاته؛
فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بين له ما يجب في الصلاة قال له: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك)، فإذا صلى المنفرد وأدى الصلاة بأركانها وواجباتها انطبق عليه ما ورد في هذا الحديث.
أما فقهاء الظاهرية ومن وافقهم فقد استدلوا على بطلان صلاة المنفرد بدون عذر بما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة، وهذا الحديث مختلف في إسناده وفيه كلام، ولكن على القول بصحته،
قالوا: إن قوله: (فلا صلاة له) أي: فلا صلاة صحيحة.فدل هذا الحديث على بطلان صلاة المنفرد؛ لأنه صلى بدون عذر.
وأما الذين قالوا بصحتها فإنهم يقولون: إن قوله: (فلا صلاة له) أي: كاملة،
والذين يقولون بعدم صحتها يقولون: فلا صلاة صحيحة، فأصبح حديث ابن عباس مترددا بين نفي الكمال ونفي الصحة.والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بصحة صلاة المنفرد ولو كان تاركا للجماعة بدون عذر،
وذلك لما يلي: أولا: لصحة ما احتج به أصحاب هذا القول.
ثانيا: أن استدلال أصحاب القول الثاني بحديث ابن عباس يجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: من جهة السند، فإنه معارض لما هو أصح منه، مع ما فيه من الطعن في روايته.
الوجه الثاني: من جهة المتن،
فإن قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا صلاة له) يتردد بين نفي الصحة ونفي الكمال، وال
[صلاة الجماعة في البيت]
قال رحمه الله تعالى: [وله فعلها في بيته].
قوله: (وله) أي: للمكلف، (فعلها) أي: فعل صلاة الجماعة في بيته، بأن يجمع أهله، فيصلي بامرأته أو ببناته، أو يصلي بإخوانه وأخواته، أو يصلي بأبنائه وبناته، وقس على هذا، فلا حرج عليه على هذه الرواية.
ومن الأصحاب من قال: إن كان تخلفه عن المسجد لا يؤدي إلى ضعف الجماعة فإنه يجوز له أن يتخلف ويصلي مع جماعته في المنزل، واحتجوا بحديث الرحل -وهو ثابت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام-: أنه صلى بالناس بخيف منى، فرأى رجلين لم يصليا، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟
قالا: قد صلينا في رحالنا.
قال: فلا تفعلا.إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه؛ فإنها لكما نافلة).ووجه الدلالة أنهما تركا جماعة المسجد لجماعة الرحل والبيت، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهما ذلك.
وهناك من العلماء من قال: إن هذا لا يشمل صلاة الرجل في أهله، وإنما هو وارد في صلاة السفر، والجماعة في السفر ساقطة عن المسافر لهذا الحديث، فلا تشمل من جمع في أهله.وهذا القول من القوة بمكان، أعني أنه لا يشرع للإنسان أن يتخلف عن الصلاة مع الجماعة ويجمع بأهله؛ لأنه لو فتح هذا الباب لفات كثير من مقاصد الشريعة بإيجاب الجماعة، ولذلك يحمل حديث الرحل على المسافرين؛ لأنهما كانا بخيف منى فكانا في حكم المسافرين، ولذلك صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم قصرا، فالحديث وارد في المسافرين، وأحاديث الجماعة إنما هي في المقيم،
وعلى هذا نقول: إن المسافر لا تجب عليه الجماعة إن كان يصلي في رحله رفقا وتوسعة من الله عز وجل على هذا النوع من المكلفين.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (114)
صـــــ(1) إلى صــ(20)
[صلاة أهل الثغور في مسجد جامع]
قال رحمه الله تعالى: [وتستحب صلاة أهل الثغر في مسجد واحد].
أهل الثغور: هم الذين يكونون في الجهاد، ويوصف الجهاد بكونه ثغرا،
فيقال: ثغور الإسلام؛ لأنها منافذ يدخل منها على المسلمين، ويقف المجاهدون المرابطون عليها صيانة لثغور الأمة.فيستحب لأهل الثغر -
أي: الذين يكونون في الجهاد -أن لا يتفرقوا في جماعات متعددة؛ لأنهم إذا اجتمعوا في جماعة واحدة كان أمكن في إظهار هيبة الإسلام وعزة أهله وتآلف أصحابه، وإذا رآهم العدو وهم بهذه الكثرة العظيمة يصلون مع بعضهم ويركعون وراء إمام واحد وينضبطون انضباطا كاملا كان ذلك أبلغ في الهيبة،
حتى إن الأوزاعي قال: لقد هممت أن أحرق المساجد في الثغور من أجل أن يجتمع المجاهدون على إمام واحد، وهذا لا شك أنه أبلغ في الجماعة، وفي الألفة والمحبة، وفي قوة الأخوة وتحقيق الأواصر، وأبلغ في النكاية بالعدو وإرهابه من شوكة المسلمين، فلذلك استحب العلماء أن تكون جماعتهم واحدة، ولكن نظرا لأن الثغور يعتريها ما يعتريها من وجود التفرق خوفا من دهم العدو ومباغتته فلا حرج أن تكون هناك أكثر من جماعة، ولا حرج أن يتفرقوا جماعات، ويكون الأمر مرتبطا بمصلحة الجهاد على حسب ما يراه إمامهم.
[صلاة الرجل في المسجد القريب منه]
قال رحمه الله تعالى: [والأفضل لغيرهم في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره ثم ما كان أكثر جماعة].بعد أن بين لنا لزوم الجماعة ووجوبها، وأنها ليست شرطا في الصحة شرع الآن في بيان أفضل الجماعات.
فمنها: أن الرجل الذي تتوقف الجماعة عليه في مسجده، ويكون مسجده محتاجا إليه لحصول الكثرة، فهذا الأفضل له أن يصلي في جماعة مسجده.
مثال ذلك: أن يكون لحيك جماعة، وهذه الجماعة قليلة العدد، وبشهودك يكثر العدد ويعرف الناس هذا المسجد ويقبلون عليه وتقوى جماعتهم، فحينئذ تصلي معهم، ولا تنصرف إلى غيره؛ لما فيه من تقوية هذه الجماعة ودعوة الناس لشهودها، وهذا يحقق مقصود الشرع.
قال: (ثم ما كان أكثر جماعة).إن كان مسجدك لا تتوقف جماعته عليك يردq لو أن عندك أكثر من مسجد، فهل الأفضل أن تصلي في هذا المسجد، أو في ذاك المسجد؟و a أن المساجد قد فاضل الشرع بينها، فما كان من المساجد منصوصا على فضله فمقدم على غيره، فيقدم المسجد الحرام على سائر المساجد على وجه الأرض، فمسجد الكعبة أفضل المساجد على الإطلاق، والصلاة فيه أشرف وأكمل وأعظم أجرا وحظا، وذلك من كل الوجوه، خاصة وجود المضاعفة التي تصل إلى مائة ألف صلاة، وكذلك الجمعة فإنها آكد، والحض عليها في مسجد الكعبة آكد،
ولو كان الإنسان يرجح القول الذي يقول: إن كل مكة يعتبر من المسجد الحرام فلا ينبغي له أن يذهب الفضل بعدم شهود الصلاة في المسجد الحرام؛ فإن دخوله وشهوده وتكثير سواد المسلمين فيه من الخير بمكان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن صلاة الرجل مع الرجل أفضل وأزكى من صلاته وحده، وأنها مع الثلاثة أزكى من الاثنين، وما كان أكثر كان أفضل، كما في حديث أحمد، فصلاة الجماعة في المسجد الحرام فيها فضيلة المكان، وفضيلة العدد -الكثرة-، وفضيلة القدم؛
لأن الله يقول: {لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} [التوبة:108]، فقدم هذا المسجد، وشهود الله عز وجل بقدمه يدل على فضله وبركة الصلاة فيه؛ لأن كل شيء شهد الشرع بفضله فهو مبارك.ويلي ذلك المسجد النبوي،
وذلك لشهود النبي صلى الله عليه وسلم له بالفضل في قوله: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصلاة فيه أفضل، ثم يليه المسجد الأقصى، فإنه بخمسمائة صلاة فيما سواه إلا ما ذكرنا من المسجدين، فهذه المساجد الثلاثة هي أفضل المساجد على وجه الأرض، والصلاة فيها أكمل وأعظم أجرا، ويليها مسجد قباء،
وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه كان له كأجر عمرة) رواه النسائي وغيره بسند صحيح.ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الفضل لمسجد قباء، وأما الصلاة فيه فمطلقة، سواء أكانت نافلة أم فريضة،
وأما رواية: (فصلى فيه ركعتين) فضعيفة،
لكن الرواية القوية: (فصلى فيه) بإطلاق، ولذلك لو صلى فيه فريضة أو نافلة فإنه ينال أجر العمرة.فهذه المساجد أفضل، وشهود الجماعة فيها أكمل، وفي مكة لا شك أن الإنسان ينبغي له الحرص على الصلاة في المسجد الحرام، خاصة في يوم الجمعة؛ فإن الجمعة فيه بمائة ألف جمعة، فهي الفضل بمكان، ولو أن الإنسان حسبها لوجدها تعادل قرونا من العمر، فهذا فضل عظيم خص الله عز وجل به أهل مكة، فلا ينبغي -خاصة لأهل العلم وطلاب العلم- البعد عن هذا الفضل، خاصة وأن المسجد الحرام -مع ما في شهوده من الخير- فيه تعليم الجاهل وإحياء السنة؛ لأنه إذا كثر شهود أهل السنة الصلاة في هذا المسجد ائتسى الناس، وأحييت السنن، وكان في ذلك من الخير ما الله به عليم، ولذلك ينبغي الحرص على هذه الفضيلة.
وبعد هذه المساجد للعلماء تفصيل في تفضيل الجماعات: - فمنهم من يقول: يلي هذه المساجد أقدم المساجد، فلو كان عندك مسجدان، أو جماعتان إحداهما مسجدها أقدم فإنه تقدم الجماعة على المسجد الذي يلي ذلك المسجد في القدم،
واحتجوا بقوله تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} [التوبة:108]، فقد أخبر الله تعالى أن قدم المسجد دال على فضله، فأثبت الأحقية للأقدم، وعلى هذا كلمة جماهير العلماء، فالمسجد القديم أفضل من المسجد الجديد وأحق،
حتى قالوا: لو وجد مسجد قديم ثم جاء إنسان وأحدث مسجدا جديدا من دون حاجة لصلاة جماعة وإنما لقصد جذب الناس إلى مسجده فإنه يعتبر مسجد ضرار، ولو أحدث مسجد للجمعة بعد مسجد قديم فإن العبرة في الجمعة بالمسجد القديم، ولا تصح الجمعة في المسجد الجديد إذا لم توجد حاجة، وهذا على ظاهر آية التوبة التي ذكرناها.وعلى هذا جمع من أهل العلم رحمة الله عليهم من الفقهاء، فالمسجد القديم أحق لنص كتاب الله عز وجل على تفضيله، ولأنه أكثر طاعة وشهودا للخير، وذلك لفضل الزمان الذي امتاز به على المسجد الذي هو دونه في الزمان.
فقوله: [ثم ما كان أكثر جماعة] أي: ثم ينظر إلى المسجد الذي هو أكثر جماعة؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أفضل)، وهذا الحديث المسند يدل على أن الجماعة الأكثر عددا أفضل من الجماعة الأقل عددا.
قال رحمه الله تعالى: [ثم المسجد العتيق].اختلف العلماء فيما لو كان هناك مسجدان أحدهما قديم وجماعته قليلة، والثاني جديد وجماعته أكثر، فهل الأفضل أن تشهد القديم مع قلة الجماعة، أو تشهد الجديد مع كثرة الجماعة؟
فمنهم من يقول: أقدم فضيلة المكان
-أي: فضيلة المسجد القديم-، وذلك لورود النص بها من القرآن.
ومنهم من قال: أقدم فضيلة الجماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين مسجد قديم وجديد، والذي يظهر -والله أعلم- أن المسجد القديم ولو كان أقل جماعة أفضل؛ وذلك لأن حديث النسائي فيه كلام في سنده، ودلالة نص الآية أقوى من دلالة السنة.
قال رحمه الله تعالى: [وأبعد أولى من أقرب].أي أن أبعد المساجد أفضل من أقربها.فلو كان عندك جماعة بعيدة وجماعة قريبة، فالجماعة البعيدة أفضل؛
لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا دياركم تكتب آثاركم.وذلك لأنهم أرادوا أن يتحولوا إلى جوار المسجد،
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى)، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن أعظم الناس أجرا في صلاة الجماعة أبعدهم إليه ممشى، فدل على أن المسجد البعيد أفضل من المسجد القريب،
ولذلك قالوا: الأفضل أن يذهب إلى ما هو أبعد لما فيه من المشقة والعناء.وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أن رجلا كانت لا تخطئه صلاة في المسجد،
فقيل له: لو أنك اتخذت دابة تقيك حر الرمضاء وهوام الليل؟
فقال: ما أحب لو أن بيتي معلقا بطنب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.إني أحتسب أن يكتب الله لي الأجر في ذهابي ورجعتي.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد جمع لك بين ذلك)، فمن كان بعيدا واحتسب الخطا إلى المسجد فإن ذلك أفضل وأكمل،
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ كثرة الخطا إلى المساجد، وإسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، فدل هذا على أن من كان أبعد فهو أفضل ممن كان أقرب،
ولذلك قالوا: إذا وجد مسجدان أحدهما أبعد والثاني أقرب فإن الأبعد أحب وأفضل من الأقرب.
الأسئلة
[حكم صلاة الجماعة للمسافر]
q هل يعتبر السفر عذرا في سقوط الجماعة عن المسافر ولو سمع النداء؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فظاهر حديث الخيف أنه إذا صلى المسافران أو المسافرون في رحلهم سقطت عنهم الجماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل من الرجلين: أسمعتما النداء أو لم تسمعا.والقاعدة في الأصول: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال)، فكأنه إذن بالعموم، سواء أسمعوا أم لم يسمعوا، وهذا هو الذي يترجح من ظاهر السنة.والله تعالى أعلم.
الترخص برخص السفر لمن نوى السفر وهو لا يزال مقيما
q نويت السفر، وأثناء الاستعداد للرحيل نودي لصلاة الظهر، فهل الجماعة واجبة في هذا الظرف، أم أصلي بأهلي ثم أسافر؟
a إذا سمعت النداء وأنت تنوي السفر فحكمك حكم المقيم، ولا يأخذ المسافر رخصة المسافر إلا إذا أسفر وخرج من آخر العمران، فإذا أسفر فقد سافر، وحينئذ لا حرج عليه أن يأخذ برخص السفر من قصر الصلاة والفطر ونحو ذلك مما يشرع للمسافر أن يترخص به، أما وأنت لا زلت مقيما وتسمع النداء فإنه يجب عليك شهود هذه الجماعة، إلا إذا كنت مسافرا واضطررت بحيث يتوقف على تعجيلك أمور مهمة ويكون في تأخرك ضرر عليك، فحينئذ ينزل هذا منزلة العذر، كالعذر في حال الإقامة، ولا حرج عليك أن تبرد وتسافر.والله تعالى أعلم.
[حضور صلاة الجماعة لمن سمع النداء وهو في نزهة]
q نحن مجموعة من الشباب نخرج إلى نزهة ونصلي الجماعة في المكان الذي نحن فيه، ونسمع النداء في المكان المجاور لنا، فما حكم صلاتنا؟
a إذا كنتم تسمعون النداء بدون وسائل التكبير الموجودة الآن فإنه يجب عليكم شهود الجماعة، وذلك لنص النبي صلى الله عليه وسلم على شهودها لمن سمع النداء، ولا عذر لكم.والله تعالى أعلم.
[تعدد صلاة الجماعة في أيام الحج]
q ما حكم تعدد الجماعات في وقت واحد في أيام الحج، وما الواجب علي فعله أثناء تواجدي في ذلك المكان؟
a الأصل أن يجتمع الناس على إمام واحد تحقيقا لمقصود الشرع، فإن كان المنزل الذي نزلته فيه مكان قد هيئ لصلاة الجماعة فإنه أحق، وجماعته هي الجماعة، فالزمها واحرص عليها، وأنت مأجور بشهودها أكثر من غيرها، وأما إذا كان منزلا يستوي فيه الناس، كأن يكون في أطراف المناسك -كما يحصل في عرفات وفي مزدلفة وفي منى- فحينئذ تصلي في أقرب الجماعات إليك إن أردت اللزوم، وأما إن أردت الفضل فانظر إلى أكثرها عددا وأكثرها جماعة؛ فإن شهودها أفضل.والله تعالى أعلم.
[اللحن الذي تبطل به الصلاة]
q ما هو اللحن الذي تبطل به الصلاة، وهل لي أن أعلم جماعة المسجد بذلك؟
a اللحن الذي يبطل الصلاة أن يكون لحنا يحيل المعنى، كأن يقول: (أهدنا)، فإن (اهدنا) غير (أهدنا)، ولذلك يقولون: إذا لحن هذا اللحن الموجب لخروج المعنى من الدلالة فإنه حينئذ تبطل صلاته وصلاة من وراءه إذا كان من وراءه يحسن الفاتحة، أما إذا كان هذا الرجل لا يحسن الفاتحة ومن وراءه مثله أو أسوأ منه، فإن صلاته صحيحة، وتصح صلاته ولا يأثم إلا إذا فرط في التعلم.والله تعالى أعلم.
[إتمام الصلاة لمن فاته بعضها]
q من أعاد صلاة في مسجد آخر وقد سبقته الجماعة الثانية بركعة فأكثر هل يتم ما فاته؟a
من صلى وراء إمام فإنه يتم ما فاته؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمام والكمال، إلا إذا كان مسافرا ودخل وراء المقيم في الركعتين الأخريين من الرباعية.فإنه يشرع له أن يسلم بسلام الإمام والله تعالى أعلم.
[نصيحة لمن يتخلف عن صلاتي الفجر والعصر]
q كثير من الناس في هذا الزمن يتخلفون عن الجماعة في صلاتي الفجر والعصر بحجة غلبة النوم، فما توجيهكم لهؤلاء؟
a على المسلم أن يأخذ بالأسباب، وذلك إذا كان شديد العناء شديد التعب، فإنه يوصي من يوقظه، أو يضع بجواره من الآلات ما يعينه على الاستيقاظ، فإن تعاطى أسباب إيقاظه وغلبه النوم فإنه يعذر، أما إذا لم يأخذ بالأسباب فإنه يعتبر آثما؛ لأن تعاطي الأسباب واجب عليه، وتركها أوقعه في محظور التخلف عن الجماعة، فيعتبر آثما من هذا الوجه، أما لو تعاطاها واحتاط لنفسه فإنه لا يأثم؛ لظاهر حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه حينما عرس النبي صلى الله عليه وسلم في مقدمه من غزوة تبوك إلى المدينة.وأما تساهل الناس في شهود هاتين الصلاتين فإنه لا يجوز للناس أن يتعاطوا أسباب التقاعس عن هاتين الصلاتين وشهودهما مع الجماعة، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فضل شهودهما مع الجماعة، فقال في الحديث الصحيح: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، وشهود الصلاة فيه خير كثير على الإنسان، من استفتاح يومه بالعمل الصالح، واستفتاحه بسماع كلام الله وكتاب الله عز وجل، خاصة إذا كان الإمام قد أعطى كتاب الله حقه من الترتيل والتجويد؛ فإن في ذلك أثرا عظيما على النفس، من انشراح الصدر وطمأنينة القلب وقوة النفس واستجمامها وإقبالها على الخير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأصبح طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)، نسأل الله المعونة وكفاية المئونة.والله تعالى أعلم.
[إمامة المتنفل بالمفترض]
q إذا صليت في جماعة ثم أتيت إلى مسجد آخر وقد أقيمت الصلاة فهل لي أن أصلي بهم؟
a من صلى الفريضة في جماعة ثم قدم على جماعة ثانية، فإن وجد غيره ممن هو أهل للإمامة فإن الأفضل له أن لا يتقدم؛ لأن العلماء رحمهم الله اختلفوا في إمامة المتنفل بالمفترض، وإن كان الصحيح جوازها، ولكن صيانة صلاة الناس والخروج من خلاف العلماء رحمهم الله أولى وأحرى، ولذلك تقدم غيرك، إلا إذا لم يكن هناك إمام سواك، فتتقدم بهم ولا حرج عليك.والله تعالى أعلم.
[الصلاة في المسجد لمن فاتته صلاة الجماعة]
q لو جئت إلى المسجد وقد انتهت الصلاة، فهل الأفضل أن أصلي في المسجد أم أرجع إلى البيت؟
a الأفضل أن تصلي في المسجد، وذلك لأن صلاتك في المسجد فيها فضيلة إتيان غيرك إليك، فإنه ربما رآك إنسان متخلف وصلى معك فأصبت وإياه الجماعة، ثم قد يصلي معك إنسان ممن صلى فيتصدق عليك ويثاب وتثاب أيضا فتحصل فضيلة الجماعة، أما الرجوع إلى البيت فهذا قول شاذ ضعيف قال به بعض العلماء في المتخلف وراء الصف، حيث قالوا: من دخل ووجد الصفوف مكتملة فإنه يقف وينتظر، فإذا لم يأت أحد فإنه يرجع إلى بيته ويصلي.وهذا القول من الشذوذ بمكان؛ لأن معناه أو مبناه على أن صلاته في المسجد غير صحيحة، فأين الدليل الذي يدل على أنه لو صلى لا تصح صلاته؟! وبناء على ذلك لا تصح صلاته إلا إذا صلى منفردا خلف الصف، أما لو صلى منفردا بعد الجماعة فعلى الأقل يقال: إنه يصلي، فإن جاء أحد معه فبها ونعمت، وإن لم يأت أحد معه استقبل الصلاة.أما أن يرجع بعد أن أمره الله عز وجل بالشهود والحضور فهذا قول ضعيف قال به بعض العلماء رحمة الله عليهم، ووصفه جمع من العلماء رحمة الله عليهم بالشذوذ، أعني القول الذي يقول: إنه لو جاء والصف قد اكتمل ولم يجد من يصلي معه فإنه ينصرف ويرجع إلى بيته ولا يصلي في المسجد.والله تعالى أعلم.
[كيفية إحرام من دخل مكة لغرض العمل ثم غير نيته]
q ما حكم رجل يقيم في جدة، وخرج إلى مكة بنية العمل فغير نيته إلى نية الحج، فحج من مكانه؟
a من كان من أهل جدة وبعد أن خرج إلى مكة للعمل طرأت عليه النية في الطريق أو في مكة ففيه تفصيل: فإن طرأت عليه النية في الطريق فمن المكان الذي طرأت عليه يجب عليه الإحرام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ)، فإذا أنشأ نية الحج وهو في طريقه بين مكة وجدة يلزمه أن يحرم من المكان الذي جددت فيه نيته، ولذلك أحرم عبد الله بن عمر رضي الله عنه من وادي الفرع، وذلك من مزرعته التي كانت هناك، وهذا يدل على أن من طرأت عليه النية أحرم من حيث طرأت عليه النية، وعلى ذلك جماهير العلماء رحمة الله عليهم.أما لو طرأت عليه النية بعد أن دخل مكة، أو بعد أو وصل إلى منى فيحرم من موضعه ولا حرج عليه، والله تعالى أعلم.
[حكم من جامع زوجته بعد التحلل الأول]
q ما حكم رجل جامع زوجته بعد التحلل الأول، وهل على الزوجة شيء؟
a هذه المسألة قضى فيها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن حجه صحيح.وعلى هذا جماهير العلماء رحمة الله عليهم، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)، ولكن يلزمه أن يذهب إلى التنعيم ويأتي بعمرة حتى يقع طواف الإفاضة في نسك صحيح؛ لأنه بجماعه قد أفسد نسكه -أعني فيما يستقدم-، فيمضي إلى التنعيم ويحرم بعمرة، ثم يطوف طواف الإفاضة قبل العمرة، ثم يعتمر بعد ذلك، ثم يرجع ويتم مناسكه وعليه الدم.والله تعالى أعلم.
[صلاة الحاج من أهل مكة]
q هل الحاج من أهل مكة في الحج بين المشاعر يقصر الصلاة أو يتمها؟
a هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم -أعني مسألة أهل مكة-، وبعض العلماء يرى أن أهل مكة في حكم المسافر، وإذا خرجوا إلى عرفات أو منى يقصرون؛ لأن أصحاب هذا القول لا يرون أن للسفر حدا، وعلى هذا فإن قليل المسافة وبعيدها سفر، وبناء عليه يشرع لهم الجمع لا للنسك ولكن للسفر، وذهب جمع من العلماء رحمة الله عليهم إلى أنهم يأخذون حكم المقيم إعمالا للأصل، ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) صح عنه في مكة، ولم يصح عنه في عرفة، قالوا: إنما سكت في عرفة؛ لأنه سبق وأن أعلن أهل مكة بمكة.وهذه المسألة مشكلة حتى على القول بأنهم قد خرجوا، فالمشكلة الآن أنه اتصل البناء، فأصبحت الأرض سكنا لأهل مكة، ولذلك أرى أن يحتاط وأن يخرج من خلاف العلماء رحمة الله عليهم، وإن جمعوا تجمع للنسك في يوم عرفة، وتجمع للنسك أيضا ليلة مزدلفة لورود السنة بها، فإذا جمعت للنسك فلا حرج، لكن إتمام الصلاة يعتبر خروجا من الخلاف.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (115)
صـــــ(1) إلى صــ(11)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجماعة [2]
لصلاة الجماعة أحكام ومسائل متعلقة بها،
منها: حكم إمامة الشخص في المسجد مع وجود الإمام الراتب، وحكم إعادة الصلاة لمن صلاها ثم حضر جماعة يصلون نفس الصلاة، وحكم تكرار الجماعة في المسجد، وحكم النافلة إذا أقيمت الصلاة، وبماذا تدرك الجماعة ونحوها من المسائل.
تابع أحكام صلاة الجماعة
[التقدم للإمامة مع وجود الإمام الراتب]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه أو عذره].
قوله: [ويحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه] أي: يحرم على المكلف أن يؤم غيره في المسجد الذي له إمام راتب إلا بإذنه.
أي: بإذن الإمام الراتب.فلا يجوز للإنسان أن يتقدم للإمامة إذا وجد الإمام الراتب إلا بعد إذنه، وذلك لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه تخلف للصلح بين حيين من بني عوف، فلما تأخر جاء بلال فآذن أبا بكر بالصلاة، فأقام وتقدم أبو بكر يصلي بالناس، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فنبه الناس أبا بكر رضي الله عنه، فالتفت فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب يتأخر، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأتم، وتأخر أبو بكر.
ووجه الدلالة: -كما يقول العلماء- أن أبا بكر تأخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأحقية النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة، وذلك لمكان الرسالة من وجه، ولمكان الإمامة من وجه؛
ولذلك قالوا: إن هذا الحديث سنة، فلو قدم الإمام الراتب أثناء الصلاة وقد تقدم غيره، وأراد أن يؤخره ويتقدم صح ذلك وأجزأه، وبه أفتى جمع من العلماء رحمة الله عليهم، والسنة دالة على هذا.والسبب في ذلك أنه أحق، والشرع قد أعطاه ذلك إن تعين من الإمام، أو من ينوب منابه، كما هو الحال لو عين إمام راتبا لمسجد، فهذه الأحقية من جهة الولاية لا يجوز لأحد أن يتقدم عليها إلا بإذن من الشرع، وأذن لك الشرع أن تتقدم إماما بدل الإمام الراتب عند عدم وجوده، فأما لو وجد فإن التقدم عليه يعتبر طعنا فيه وأذية له، وتقدما من دون حق، وقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث عنه-: (من زار قوما فلا يؤمهم)، فنص عليه الصلاة والسلام على أن لا يتقدم على إمامهم،
ولذلك قال جماهير العلماء: الإمام الراتب أحق، ولا يجوز لأحد أن يتقدم عليه، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل أن يؤم الرجل في سلطانه، والإمام الراتب سلطان في مسجده.
وقالوا: هو في حكم الرجل في بيته وفي سلطانه، فلا يجوز التقدم عليه، ومن هنا لا يشرع للإنسان أن يتقدم للإمامة مباشرة، وإنما يتقدم إذا لم يوجد الإمام الراتب، أو وجد إمام راتب وأذن له أن يتقدم، كأن يكون أعلم وأحق وأولى لعلم وفضل ونحو ذلك، فإنه يشرع للإمام أن يقدمه إظهارا لفضله وإظهارا لنبله ولذلك تأخر أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لعظيم حقه صلوات الله وسلامه عليه، فإن تأخر له فحينئذ يتقدم.فإذا لم يوجد الإمام الراتب ولم يوجد له نائب فحينئذ يجوز لك أن تتقدم إذا كنت أهلا للإمامة، أو جد إمام راتب لكنه يلحن في الفاتحة لحنا يوجب بطلان صلاة من وراءه، فحينئذ يشرع لك أن تتقدم، وذلك صيانة لصلاته وصلاة من وراءه، فحينئذ لا حرج عليك أن تتقدم، إلا إذا وجدت مفسدة أو ضرر فحينئذ لا تعتد بصلاتك وراءه.
وقوله: [أو عذره].
أي: وجود العذر.وإذا تأخر الإمام عن المسجد فحينئذ يرسل إليه إذا كان بيته قريبا، ولا حرج أن يطلب من الأئمة إذا تأخروا أن يحضروا، فإن عمر رضي الله عنه لما أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة العشاء خرج يصرخ ويقول -كما في الصحيحين-: الصلاة يا رسول الله! رقد النساء والصبيان.
فإذا كان تأخير الناس في انتظار الصلاة يحصل به المشقة والضرر فلا حرج أن يرسل إلى الإمام ويقال له: بادر إلى الصلاة.فإن كان.عنده عذر، أو طرأ عليه عذر فقال لهم: صلوا.وأذن لهم بالصلاة، فحينئذ يقدمون من رضوه لإمامتهم ويصلي بهم.
[إعادة الصلاة لمن صلى ثم حضر جماعة يصلون]
قال رحمه الله تعالى: [ومن صلى ثم أقيم فرض سن أن يعيدها إلا المغرب] قوله: [ومن صلى] أي: الفريضة.
[ثم أقيم فرض] أي: لنفس الفريضة التي صلاها، كأن تصلي العصر في مسجد، ثم تذهب إلى مسجد آخر تطلب أخا أو تريد حاجة، فدخلت في هذا المسجد فأقيمت الصلاة، فإنه يجب عليك أن تدخل مع هذه الجماعة الثانية،
وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: فمنهم من قال: من صلى صلاة ثم دخل المسجد وأقيمت نفس الصلاة فلا يصليها ولا يعيد.
واحتجوا بحديث ميمونة: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تعاد الصلاة مرتين).
والقول الثاني: يعيد جميع الصلوات بدون استثناء وهو مذهب بعض أهل الحديث وأهل الظاهر،
وذلك لظاهر حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (صل الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم،
ولا تقل: إني صليت)،
وحديث الخيف بمنى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجلين: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا؛ فإنها لكما نافلة).ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإعادة الجماعة، وهذا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن الصلاة تعاد في المسجد مطلقا؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إلا المغرب، أو العصر، أو الفجر،
وإنما قال: (فصليا؛ فإنها لكما نافلة).
ومنهم من قال: يعيد جميع الصلوات إلا صلاة الفجر والعصر.
ومنهم من قال: يعيد جميع الصلوات إلا المغرب، كما اختاره المصنف.
ومنهم من قال: يعيد جميع الصلوات إلا صلاة الفجر والعصر والمغرب.والسبب في استثناء المغرب -كما درج عليه المصنف- أن المغرب وتر، وإذا صلاها فإنه يكون موترا وترين في ليلة،
وفي حديث الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا وتران في ليلة).والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- أنه يشرع له أن يعيد جميع الصلوات بدون استثناء،
وذلك لما يلي: أولا: لصحة حديث أبي ذر في الصحيحين أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صل الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم، ولا تقل: إني صليت)،
ولم يقل: إلا المغرب.بل أطلق،
والقاعدة في الأصول: (المطلق يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده)، ولا مقيد له هنا.وكذلك حديث الخيف،
حيث قال للرجلين: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا)،
ولم يقل: إلا المغرب، أو الفجر، أو العصر.وهذان النصان مطلقان.
أما استثناء المغرب لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة) فيجاب عنه بأن الوتر يبتدئ وقته من بعد صلاة العشاء، وإذا صلى المغرب فإنه لم يدخل بعد وقت العشاء، فيكون هذا الوتر غير معتد به ولا مؤثر.ثانيا: أن نقول: إنه بعد سلام الإمام يقوم ويشفع صلاته بركعة،
جمعا بينه وبين حديث: (لا وتران في ليلة)، وعلى هذا فلا تعارض بين هذه النصوص، وكل من صلى ثم دخل المسجد فإنه يعيد صلاته مع الجماعة الثانية.وهذا -كما يقول العلماء- فيه نكتة لطيفة، وهي أن الإسلام حرص على الجماعة ونهى عن الشذوذ؛ لأن الشذوذ عن الجماعة شر وبلاء، ولذلك من خرج عن جماعة المسلمين العامة مات ميتة جاهلية والعياذ بالله، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج عن الجماعة،
حتى قال: (من مات وليس في عنقه بيعة فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا)، فالخروج عن جماعة المسلمين هلاك، فأدب الله عز وجل عباده المؤمنين في أهم أركان الدين وهي الصلاة أن يكونوا على وتيرة واحدة ولا يشذون، ولأنه لو فتح باب التخلف عن الجماعات لفتح لأهل الأهواء والبدع أن يتخلفوا عن أهل السنة، ولذلك جمع الله شمل المسلمين بهذه الصورة، فإذا دخل الإنسان إلى المسجد فإنه يلتزم بجماعة المسجد، حتى نص جماهير العلماء على أنه لو دخل قبل تسليم الإمام ولو بلحظة وأمكنه أن يكبر يجب عليه أن يكبر، ولا ينتظر، ولا يحدث جماعة ثانية،
وذلك للنص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا) أي: ما أدركتموه مع الإمام فصلوا،
قالوا: فهذا مطلق يشمل جميع ما يدرك،
وإذا أراد أن يحدث جماعة ثانية يقول لمن معه: ندخل في التشهد، فإذا سلم الإمام فائتم بي.فإن كل هذا تعظيم لأمر الجماعة،
ولذلك قالوا: من دخل وقد صلى فإنه يصلي ويدخل مع الجماعة ويعيد، وتعتبر هذه الإعادة لازمة وواجبة؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها دون استثناء لفرض.
[حكم تكرار الجماعة في المسجد]
قال رحمه الله تعالى: [ولا تكره إعادة الجماعة في غير مسجد مكة والمدينة].
أي: لا حرج في استحداث جماعة ثانية بعد الجماعة الأولى،
وذلك لأدلة: أولها: أنه قد ثبتت النصوص في الكتاب والسنة باعتبار المساجد للجماعات، وأن الأصل في المساجد أنها للجماعة.
ثانيها: أنه ثبت في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس جماعة، ثم لما انفتل من صلاته رأى رجلا يصلي وحده،
فقال صلى الله عليه وسلم: (من يتصدق على هذا؟) فقام أبو بكر فصلى معه.ووجه الدلالة أن هذا الرجل دخل لوحده، وأبو بكر كان قد صلى، ولم يوجد مع الرجل رجل ثان، فندب النبي صلى الله عليه وسلم من كان صلى أن يصلي معه.
قالوا: عرف منه الشرع أنه ينبه بالأدنى على الأعلى.
وقالوا: فإذا شرعت الجماعة في المسجد بعد الجماعة الأولى لمتنفل مع مفترض، فلأن تشرع لمفترض مع مفترض من باب أولى وأحرى.
ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لو وجد معه رجلا لم يقل للناس: (من يتصدق على هذا)، فكأن مقصود الشرع الرفق بالناس،
ونفهم من قوله: (من يتصدق على هذا) أن مقصود الشرع حصول الجماعة بأية وسيلة ولو بإعادة الصلاة مرة ثانية،
فإذا علمت أن مقصود الشرع هو حصول الجماعة من جهة قوله: (من يتصدق) دل قوله: (من يتصدق) على العموم، أي أن مقصود الشرع أن تحصل الجماعة الثانية،
بدليل قوله: (من يتصدق) أي: من يجعل صلاة هذا صلاة جماعة، فإذا كان مقصود الشرع أن يتصدق على هذا، وأن تكون الصلاة بالرجل صلاة جماعة فلا فرق أن تقع الجماعة الثانية بمفترض مع مفترض، أو بمفترض مع متنفل، والقول بأن هذا خاص بالمتنفل تخصيص بدون مخصص، ولا يستقيم هذا القول.
فلو قال قائل: إن هذا يختص بمتنفل مع مفترض، فهذا قول ضعيف؛ لأن مسلك التخصيص عند الأصوليين شرطه أن يكون الأصل خلاف ما ورد به النص، بمعنى أن يأتي أصل نص صريح يدل على أنه لا تجوز الجماعة الثانية، وليس عندنا نص صريح بل غاية ما فيه حديث ابن مسعود، وحديث تأخر النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح بين حيين بقباء، فقدم المسجد فوجدهم قد صلوا، فلم يعرج على المسجد بل مضى إلى بيته، فهذا الحديث لا يدل على المنع من الجماعة الثانية -كما يقول الإمام مالك ومن وافقه-؛ لأن حديث الصلح يجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى بيته،
ودعوى أصحاب هذا القول أنه: لا تشرع الجماعة الثانية -أي: نهي ومنع وتحريم- تحتاج إلى صريح نص،
ولذلك يقولون: دلالة الفعل لا تدل على التحريم،
فيقول الجمهور: لا مانع أن ينصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته لئلا يكسر خواطر أصحابه؛ لأنه لو دخل المسجد لانكسر خاطر من صلى بهم، وقد كان عليه الصلاة والسلام من أرحم الناس بأصحابه،
وغاية ما فيه أن يقال: إنه خارج المسجد، وخلافنا في داخل المسجد،
والقاعدة في الأصول: (لا يحكم بالتعارض بين نصين إلا إذا اتحدا موردا ودلالة).وقد جاءنا حديث أبي بكر في داخل المسجد، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في خارج المسجد، مع وجود صريح اللفظ في حديث أبي بكر، ووجود دلالة فعل محتملة في حديث الصلح، فبقي قول من قال بمشروعية التكرار أقوى وأوجه وأولى بالاعتبار، ولذلك كان أرجح القولين، والعلم عند الله عز وجل.
وقوله: [في غير مسجدي مكة والمدينة].أي أن مسجدي مكة والمدينة لا يشرع تكرار الجماعة فيهما، وهذا توسط بين القولين اللذين ذكرناهما، وإلا فإن الخلاف بين العلماء رحمة الله عليهم عام في المساجد كلها، وكان الإمام مالك رحمة الله عليه ومن وافقه من السلف يشددون في الجماعة الثانية من باب سد الذرائع، ومن أصول المالكية سد الذريعة؛ لأن عصورهم كان فيها أهل بدع وأهواء يتخلفون عن جماعة أهل السنة ويحدثون الجماعة الثانية، فخشي أن يفتح لأهل البدع والأهواء ما يفعلونه من التخلف عن الجماعة واستحداث جماعة ثانية حتى تكون شعارا لهم،
قالوا: ولأنه لو حدثت الجماعة الثانية لتقاعس الناس عن الجماعة الأولى،
وهذه كلها علل عقلية لا تصادم النص الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من يتصدق على هذا)، ولا تصادم النصوص التي دعت إلى إحياء الجماعة،
وغاية ما نقول: إن الجماعة الثانية لو تخلف الإنسان لها فقد فاته فضل الجماعة الأولى، فبقي مشدود الهمة للجماعة الأولى تحصيلا لفضيلة أول الزمان وفضيلة أولى الجماعتين.
[حكم صلاة النافلة إذا أقيمت الصلاة]
قال رحمه الله تعالى: [وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة فإن كان في نافلة أتمها إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها] هذه العبارة تعتبر جملة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح، وأصله قصة وقعت لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة فأقيمت الصلاة فكبر رجل ودخل في الصلاة،
فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (يا هذا بأي الصلاتين اقتديت؟ أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟) وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعا)، وهذا الحديث يتضمن النهي عن الدخول في صلاة النافلة إذا أقيمت الصلاة المفروضة.
فقوله: [إذا أقيمت الصلاة] معناه: إذا كان الإنسان في المسجد وأقيمت الصلاة الحاضرة [فلا صلاة] أي: لا يجوز له أن يبدأ في صلاة إلا المكتوبة التي أقيمت.وبناء على ذلك فلو كان يريد التنفل، كأن يصلي الفجر القبلية ويكون ذلك عند الإقامة أو بعد الإقامة فإنه ينهى عن ذلك، ويعتبر فعله هذا محرما ومنهيا عنه؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلا صلاة إلا المكتوبة)،
والنفي في قوله: (فلا صلاة) يتضمن النهي؛ إذ لم يفرق بين صلاة وأخرى.وهناك فائدة ثانية، وهي أن هذا الحديث دلنا على أن التعارض بين الواجب وغير الواجب الذي هو أدنى منه يوجب تقديم الواجب لعلو مرتبته في الشرع، ووجه ذلك أنه إذا أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فإنك مخاطب بواجب حاضر وهو الصلاة مع الجماعة، والتنفل دون هذا الواجب، وبناء على ذلك تقطع هذه النافلة وتدخل في الفريضة مع الجماعة.وفيه دليل على فائدة ثالثة، وهي أن الإسلام يريد من المسلمين أن يكونوا جماعة واحدة، ولا يريد التفرق حتى في أشرف العبادات وهي الصلاة، ولذلك منع المصلي أن ينفرد عن الجماعة في المسجد، وكما أنه في الابتداء يدخل مع الجماعة فكذلك عند الانتهاء، فلو دخلت قبل تسليم الإمام ولو بلحظة فإنك تدخل مع الجماعة،
وحينما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أنه سيكون عليهم أئمة يؤخرون الصلاة قال الصحابي: ماذا أفعل؟
قال: (صل الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم) أي: لا تشذ عن الجماعة،
وقال للرجلين لما صليا بعد يوم النحر بمنى ثم جاءا إلى ناحية من المسجد فلم يصليا: (ألستما بمسلمين؟) أي: لو كنتما مسلمين لكنتما مع جماعة المسلمين قالا: بلى يا رسول الله.ولكنا صلينا في رحالنا.
قال: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا؛ فإنها لكما نافلة) يقول العلماء رحمة الله عليهم: وهذا كله يؤكد أمر ولزوم جماعة المسلمين ما أمكن، حتى في أشرف المواطن وأعظمها وهي الصلاة.فلو فتح للناس أن يتنفلوا أثناء الفريضة لتفرقت جماعة المسلمين، وأصبح هذا يصلي الرغيبة وهذا يصلي تحية المسجد، فلا يدري الإنسان وهو داخل عن حال الجماعة، لكنهم إذا صلوا وراء إمام واحد، واقتدوا بإمام واحد كان ذلك أبلغ في الاجتماع والاتئلاف، وهذا هو مقصود الشرع من صلاة الجماعة.
وللإنسان عند إقامة الصلاة حالتان: الحالة الأولى: أن تقام الصلاة ثم يبتدئ النافلة، وهذا محرم بالإجماع، فلا يشرع في النافلة بعد إقامة الصلاة، سواء أكانت في أول الإقامة أم بعد الانتهاء من الإقامة، أم في أثنائها،
فإذا قال المؤذن: (الله أكبر)، يقيم الصلاة فإنه يحرم على الإنسان أن يكبر لنافلة أو غيرها.وقد استثنى بعض فقهاء الحنفية المتأخرين رحمة الله عليهم رغيبة الفجر، فتجدهم ينفردون يصلون ولو كان الإمام في الأولى،
واحتجوا بحديث ضعيف: (إلا رغيبة الفجر)، ولكنه لا يقوى على استثناء هذا النص الصحيح الصريح، وبناء على ذلك فإن العمل على ما عليه جماهير العلماء من أنه لا يجوز إذا أقيمت الصلاة أن يبتدئ المصلي بصلاة نافلة أيا كانت هذه النافلة.
الحالة الثانية: أن تقام الصلاة وأنت في أثناء الصلاة، فإن غلب على ظنك أنك سوف تتم الصلاة قبل أن يركع الإمام ويمكنك أن تدرك الركعة معه فحينئذ تتم الصلاة على قول جماهير العلماء، خلافا للظاهرية وأهل الحديث،
حيث قالوا: إذا أقيمت الصلاة -حتى ولو غلب على ظنك أنك تدرك الإمام في ركوعه- فإنك تقطع هذه الصلاة، ولو كنت في آخرها؛
لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (فلا صلاة إلا المكتوبة) والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن الله يقول -كما في التنزيل-: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33]، فنهانا عن إبطال العمل،
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن خير أعمالكم الصلاة)، فنهانا الله عن إبطال العمل، والصلاة عمل، فلا نبطلها إلا بوجه بين، فإنه إذا غلب على ظنك أنك مدرك للركعة جمعت بين الأمرين،
والقاعدة: (الجمع بين النصين أولى من العمل بأحدهما وترك الآخر).
ثم إننا نقول: إن قوله: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة) هو نص في ابتداء الصلاة، وليس المراد به إلغاء الصلاة التي من قبل،
وبناء على ذلك فإنه يقوى أن يكون المعنى: (فلا صلاة ابتدءا)، ويؤخذ المعنى منسحبا إلى كل صلاة تؤدي إلى فوات جزء الصلاة ركعة فأكثر.
وقوله: [فلا صلاة إلا المكتوبة].المكتوبة هي المفروضة؛ لأن الكتب يطلق بمعنى الفرض،
ومنه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} [البقرة:183] أي: فرض ووجب ولزم عليكم الصيام، فالكتب هو الفرضية والوجوب،
فمن هنا يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) أي: المفروضة الحاضرة.
وقوله: [فإن كان في نافلة أتمها إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها]: أي: إن كان في نافلة فإنه يتمها إن وسعه الإتمام دون أن تفوته الركعة، وأما إذا كانت الركعة سوف تفوته فإنه يقطعها ويدخل في الجماعة.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (116)
صـــــ(1) إلى صــ(11)
[ما تدرك به فضيلة الجماعة]
قال رحمه الله تعالى: [ومن كبر قبل سلام إمامه لحق الجماعة].إذا دخلت إلى المسجد والإمام في التشهد الأخير ففي هذه الحالة تعتبر غير مدرك للركعة؛ لأن من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة،
وهناك أمران عند العلماء: أحدهما: حكم الصلاة مع الجماعة.
وثانيهما: فضل الجماعة.فهناك فرق بين الحكم وبين الفضل،
يقال: أدرك الفضل.
ويقال: أدرك الحكم.وإدراك الحكم شيء، وإدراك الفضل شيء آخر، فإذا كان الإنسان قد أدرك ركعة فأكثر مع الإمام فقد أدرك الصلاة، فلو أدركت ركعة فأكثر، كأن دخلت في صلاة الظهر فأدركت الإمام في الركعة الأخيرة، وكبرت وركعت معه فأنت مدرك للصلاة، وكذلك الحال لو أدركته يوم الجمعة في الركعة الأخيرة، فأنت مدرك للجمعة، وحكمك حكم المجمع.
الحالة الثانية: إدراك الفضل،
وهو على صورتين: الأولى: إدراك الفضل الحقيقي بالدخول مع الجماعة الأولى الذي يتضمن إدراك فضلها وقتا.
الثانية: إدراك فضلها ثوابا، ولكن دون ثواب من أدركها كاملة، وهناك إدراك فضلها بمطلق الخروج.
فأما إدراك فضلها الذي يكون دون إدراك الحكم فكما لو أدركته قبل التسليم وقلت: (الله أكبر)، فانتهيت من تكبيرة الإحرام قبل أن يسلم فقد أدركت فضل الجماعة،
وبناء على ذلك قال بعض العلماء: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)،
وفي رواية: (بخمس وعشرين درجة) محمول في رواية السبع والعشرين على من أدركها من أولها، وأجر الخمس والعشرين لمن أدرك آخر أجزائها، فيكون أقل ما يدركه الإنسان في فضل صلاة الجماعة الخمس والعشرين جزءا، وإذا أدركها من ابتدائها فيدرك سبعا وعشرين درجة، ويتردد بين الفضيلتين، فهذا بالنسبة لإدراك الفضيلة.وتوضيح هذين الأمرين يتضح بصلاة الجمعة، فلو أن إنسانا أدرك الإمام في يوم الجمعة في الركعة الأخيرة فقد أدرك الجمعة، ويتم ركعة واحدة،
لكنه لو أدرك الإمام بعد الرفع من الركوع ولم يدرك الركعة الأخيرة نقول: أدرك فضيلة الجمعة ويتمها ظهرا؛ لأنه لم يدرك الحكم، فهناك فرق بين حكم الجمعة وبين فضلها، وبين حكم الجماعة وبين فضلها.وبناء على هذا فمن أدرك الإمام قبل تسليمه ولو بلحظة فكبر فإنه مدرك للفضيلة، وبناء على ذلك لو دخلت ولو قبل تسليم الإمام بلحظة فإن الجماعة الأولى التي تدركها أفضل من الجماعة الثانية التي ستصلي معها، خلافا لمن اختار من بعض الأئمة أنه ينتظر ويقيم جماعة ثانية،
وهذا فيه إشكال من وجوه أشهرها وجهان: الوجه الأول: أنه مخالف لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (فما أدركتم فصلوا)، وهذا عموم؛ حيث لم يفرق بين إدراك الحكم وإدراك الفضيلة، وهذا نص لا يحتاج إلى اجتهاد،
ولم يقل: إلا أن يكون قبل السلام بلحظة فجمعوا،
وإنما قال: (فما أدركتم فصلوا).
الوجه الثاني: أنك لو دخلت مع الجماعة الأولى أدركت فضيلة الجماعة الأولى في الوقت، ولكن لو تأخرت وأحدثت جماعة ثانية فقد فاتك من الفضائل ما الله به عليم؛ لأنه ربما تكون اللحظة بين أول وقت الصلاة وبين التي تليها كما بين السماء والأرض.
وفي الحديث: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها -
أي: الكامل- ولما فاته من وقتها خير من الدنيا وما فيها)، فربما أن الجماعة الأولى ستأخذ الركعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة فيها أجزاء من الوقت، وقد تطول الصلاة، فعندما تدخل مع الإمام قبل تسليمه ولو بلحظة فقد أدركت فضيلة الوقت، وكان لك حكم الجماعة الأولى التي أدركت من فضل الوقت ما لم تدركه الجماعة الثانية.ومن هنا ترجح قول الجماهير أنه يدخل مع الجماعة الأولى،
ولكن استحب بعض العلماء أنه لو دخل بجواره من يفقه ويعلم أن يقول له إذا دخل بعد الركعة الأخيرة: إذا سلم الإمام فائتم بي.فإذا سلم الإمام فإنه يقتدي هذا المتأخر بالمتأخر، ولو كانا اثنين دفعهما وراءه ثم صلى بهما، أما لو أدرك ركعة فأكثر فلا يحدث جماعة ثانية، فيكون مدركا لفضيلة الجماعة الثانية ومدركا لفضيلة الجماعة الأولى، وهذا أنسب الوجوه وأحبها عند طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم.
قال رحمه الله تعالى: [وإن لحقه راكعا دخل معه في الركعة وأجزأته التحريمة].الضمير في [وإن لحقه] راجع إلى الإمام، فإن لحق الإمام راكعا أدركه، أي: إذا كبر تكبيرة الإحرام فإنه يعتبر مدركا لتلك الركعة ما لم يرفع الإمام رأسه، وبناء على ذلك فإن أصح أقوال العلماء -وهو مذهب الجمهور- أن من أدرك الإمام راكعا وركع معه فإنه يعتبر مدركا للركعة وتسقط عنه الفاتحة.وهناك حديث في ذلك صحيح قوي،
وهو حديث أبي بكرة رضي الله عنه: أنه انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصا ولا تعد)،
فروي بلفظ: (ولا تعدو)،
ولفظ: (ولا تعد)،
وأصحها: (ولا تعد) أي: لا تعد إلى التأخر عن الجماعة حتى تضطر إلى هذا الفعل.
وقيل: (لا تعد) بتكبير دون الصف والمشي؛ لأنه حركة في أثناء الصلاة،
وأما رواية: (لا تعد) فلأن المساجد القديمة المفروشة بالحصى إذا أسرع الإنسان فيها شوش بصوت الحصى، وهذا موجود إلى الآن،
فقال: (لا تعد)؛ لأن الصلاة تحتاج إلى سكينة.
وأما رواية: (ولا تعد) أي: لا تعد الركعة فقد أجزأتك، والروايتان الأخيرتان أضعف من الرواية الأولى،
وهي: (ولا تعد)،
أي: لا تعد إلى هذا التأخير الموجب لفوات الفضل عليك.و (راكعا) في قوله: [وإن لحقه راكعا] حال،
أي: حال كونه راكعا،
وبناء على ذلك فأنت حينما تدرك الإمام راكعا فأنت على أحوال: الحالة الأولى: أن تنتهي من التكبير والانحناء قبل أن يسمع الإمام ويرفع رأسه؛
لأن هنا شيئين: شيئا يصدر منك وهو التكبير، وشيئا يصدر من الإمام وهو التسميع والرفع من الركوع.فعندنا أمران لا بد من بيانهما لتفصيل أحكام الإدراك، فالذي يفعله المكلف التكبير والانحناء لكي يدرك الركوع، والذي يفعله الإمام التسميع والرفع من الركوع، فالذي يدرك الإمام راكعا إما أن يقول التكبير ويفعل الانحناء، بمعنى أن يركع قبل أن يتلفظ الإمام ويرفع رأسه، وبناء على ذلك تكون قد أدركت القول والفعل قبل أن يكون من الإمام القول والفعل،
فحينئذ لا إشكال أنك مدرك للركوع عند من يقول: إن إدراك الركوع يوجب إدراك الركعة.
الحالة الثانية: أن تدرك القول ولا تدرك الفعل قبل رفعه،
بأن تقول: (الله أكبر)،
ثم يقول الإمام: (سمع الله لمن حمده) قبل أن تحني رأسك، أو قبل أن تركع، ففي هذه الحالة إذا انتهيت من راء (أكبر) قبل أن يبتدئ الإمام بالسين من (سمع الله لمن حمده) فأنت مدرك للركعة؛ لأنك بتكبيرك قد دخلت، وتسقط عنك التكبيرة الثانية؛ لأنها داخلة في الأولى، وبناء على ذلك يجزئ المكلف في قول الجماهير تكبيره واحدة لإدراك الركعة، كما اختاره المصنف ودرج عليه.
وبناء على هذا فالعبرة بانتهائك من قولك: (الله أكبر)، فإن ابتدأ الإمام بالسين من (سمع) أثناء تكبيرك، أو قبل ابتدائك التكبير فتبقى واقفا؛ لأنك لم تدرك الركوع، وقد أدركت الرفع من الركع، فتبقى واقفا لم تدرك الركعة ويلزمك قضاءها.
الحالة الثانية: أن تبتدئ بالتكبير وترى الإمام أمامك رافع الرأس قبل أن يسمع كما يفعل بعض الأئمة، فيسبق الفعل القول، فأنت تراه أمامك قد رفع رأسه،
فإذا رفع قلت: (الله أكبر)، قبل أن تسمع منه الصوت فحينئذ أنت مدرك ولا عبرة بالفعل؛ لأن العبرة بالانتقال الذي هو التسميع، قال صلى الله عليه وسلم: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة)، وأمر عليه الصلاة والسلام من أدرك الإمام على حالة أن يدخل معه عليها،
وقوله: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة) نص في أن إدراك الركوع يوجب ثبوت إدراك الركعة،
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) فإنه عموم مخصص بالنصوص السابقة، كحديث أبي بكرة الصحيح،
وحديث: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة)،
ثم إننا نقول: إن إيجاب قراءة الفاتحة محله إذا وسع الوقت لقراءتها، وهذا لم يسع الوقت له بالقراءة، وبناء على ذلك لا يجب عليه أن يقرأ الفاتحة ولا يلزمه ذلك، وتسقط عنه، والركعة مجزئة.
الأسئلة
[كيفية قطع النافلة إذا أقيمت الصلاة]
q إذا شرع المصلي في نافلة، ثم أقام المؤذن للصلاة، فكيف يكون القطع لصلاة النافلة؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن دخل في صلاة ثم أقيمت الصلاة وأراد أن يقطع فمذهب جمهور العلماء أن قطعها يكون بالتسليم، وذلك لحديث علي الصحيح في الصلاة قال (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)، فلم يفرق بين التحليل الذي يكون أثناء الصلاة أو بعد الصلاة، والقاعدة أن النص العام يبقى على عمومه.وذهب الحنفية رحمة الله عليهم وأهل الرأي إلى أنه ما دام سيقطع الصلاة فلا يحتاج إلى تسليم، فقالوا: لو التفت أي التفات، أو فعل أي فعل فإنه يخرج به عن الصلاة ويجزئه ذلك.وقال بعضهم: لو نوى الخروج بقلبه أجزأه.وكلا القولين ضعيف للآتي: أولا: أنه اجتهاد في مقابل النص؛ فإن النص: (وتحليلها التسليم) عام، والأصل في العام أن يبقى على عمومه.ووجه هذا العموم أنه قال: (تحريمها) بمعنى أنه دخل في الحرمات بالتكبير، فدل على أنه أثناء الصلاة في حرمة، ولا يخرج إلا بما يخرج من الحرمة وهو التحليل، فقال: (وتحليلها التسليم)، وبناء على ذلك يبقى هذا العام على عمومه، كما هو مذهب الجمهور.أما قولهم: إنه يخرج بنيته فهذا محل نظر؛ لأن الشريعة فيها ثلاثة أوجه: الأول: ما انحصر فيه الحكم في الباطن.الثاني: ما انحصر فيه الحكم في الظاهر.الثالث: ما اجتمع فيه الحكم بينهما، أي: بين الظاهر والباطن.فهناك أمور تجزئ فيها النية -الباطن- ولا يحتاج إلى ظاهر، وهناك أمور يجزئ فيها الظاهر ولا يحتاج فيها إلى نية، وهناك أمور يجمع فيها بين الأمرين.فما كان فيه حكم للظاهر فإنه لا يقتصر فيه على الباطن، وما كان الحكم فيه للباطن لا يقتصر فيه على الظاهر؛ لأن الشريعة أعطت كل شيء حقه وحظه، فلما كانت الصلاة أفعالا قائمة على الظاهر والدخول فيها راجع إلى النية فإنه كما أنه لا يصح أن يصلي بنية خالية عن الفعل كذلك لا يصح أن يبطل الصلاة بنية خالية عن الفعل، ولذلك فإن الخروج من الصلاة في حكم الشرع وفعل الشرع إنما يكون بالفعل مع النية المصاحبة، فلو سلم ساهيا لم يجزه السلام وعليه أن يعيد السلام؛ لأن الشرع اعتبر الظاهر مع الباطن، فكذلك هنا، وهذا إذا جئنا إلى العقل والرأي.أما إذا جئنا إلى النص الذي ينبغي أن يحتكم إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (وتحليلها التسليم)، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس: من كبر في صلاة فقد دخل في حرمات الصلاة.ولذلك سميت التكبيرة بتكبيرة الإحرام، فمن دخل في حرمات الصلاة لا يخرج إلا بتحليل، ولذلك قال: (تحليلها التسليم)، وقال: (تحريمها التكبير)، فكل من كبر فقد أحرم، ومن أحرم لا بد وأن يخرج بحل وإذن من الشرع.فالذي يظهر أنه لا بد وأن يسلم، ويجزئه أن يسلم تسليمة واحدة عن يمينه يقول: (السلام عليكم)، فيكون قد خرج من صلاته، ويدخل في الفريضة بعد ذلك.والله تعالى أعلم.
[قراءة الفاتحة لمن يخشى فوات الركعة]
Qإذا دخلت مع إمام في سرية، وبعد شروعي في قراءة الفاتحة ركع الإمام، وإذا علمت أني لو أكملت قراءة الفاتحة فلن أدرك الركعة مع الإمام فماذا أفعل؟
a من أدرك الإمام قبل أن يركع فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تدرك قدرا يمكنك معه قراءة الفاتحة فحينئذ يجب عليك قراءة الفاتحة، وتتم الفاتحة ثم تركع، وتدرك الإمام.الحالة الثانية: أن تكون غير مدرك للقدر الذي يمكن معه قراءة الفاتحة، فعند تكبير الإمام لو قرأت آية أو آيتين، وغلب على ظنك أنك لو أتممت الفاتحة أن الإمام سيرفع فإنك تقطع الفاتحة وتركع؛ لأن الذي وجب عليك قراءة الآيتين اللتين أدركت وقتهما، وما بعدهما ليس بواجب عليك؛ لأن الوقت الذي أدركته ليس كافيا لوجوب الفاتحة عليك، فكأنك أدركت الإمام راكعا فتسقط عنك قراءة الفاتحة، وتعتبر قراءة ما قرأته حدا مجزئا أو كافيا في براءة الذمة، والله تعالى أعلم.أما لو أدرك قدرا يمكن معه قراءة الفاتحة وتساهل أو تشاغل، ثم ركع الإمام وغلب على ظنه أنه سوف يرفع فترك الفاتحة وركع مع الإمام فإنه يلزمه قضاء هذه الركعة؛ لأنه فرط، والمفرط ملزم بسبب تفريطه، والله تعالى أعلم.
[الائتمام بالمسبوق بعد ما يفارق الإمام]
q من أدرك الإمام قبيل السلام فهل يشترط أن يخبر من بجواره أن يأتم به، أم لا حرج ولو ائتم به دون قصد مسبق؟
a لا حرج عليه، سواء أطرأ القصد أم كان سابقا؛ لكن ينبغي أن لا يقف قبل وقوفك، فإن وقف قبل وقوفك فإنه لا يدخل معك؛ لأنه ينتقل من الإفراد إلى الائتمام، لكن لو أنك أخبرته قبل أن تدخل مع الإمام فقلت: إذا سلم الإمام فائتم بي فهذا هو الذي ينبغي، وهو الأفضل والأحرى، وخاصة لكثرة جهل الناس بمثل هذا، فتخبره قبل أن يسلم الإمام حتى يكون على بينة، ثم تنال فضل الجماعتين على الصورة التي ذكرناها.والله تعالى اعلم.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (117)
صـــــ(1) إلى صــ(17)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجماعة [3]
أحكام صلاة الجماعة كثيرة ومتنوعة، ينبغي على المسلم أن يعلمها ويلم بها،
ومنها: حكم القراءة للمأموم، سواء في الجهرية أم في السرية، وحكم متابعة المأموم لإمامه، ومشروعية التخفيف في صلاة الجماعة، وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية،
ومنها: حكم خروج المرأة إلى المسجد وغيرها من المسائل.
[تابع أحكام صلاة الجماعة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا قراءة على مأموم].
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم: - فمن أهل العلم من يرى وجوب قراءة الفاتحة على المصلي، سواء أكان منفردا أم كان في جماعة،
وذلك لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)،
وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)، والقاعدة في الأصول أن (أي) من ألفاظ العموم؛ حيث لم يفرق بين المأموم والمنفرد.وذهبت طائفة من العلماء إلى سقوط الفاتحة وراء الإمام مطلقا في السرية والجهرية.وذهبت طائفة ثالثة إلى وجوبها في السرية على المأموم دون الجهرية؛ فإن الإمام يحملها عنه في الجهرية، كما درج على ذلك المصنف رحمه الله، وهي رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.
أما الذين قالوا بسقوطها عن المأموم وراء الإمام فيحتجون بحديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، كما هو مذهب الحنفية ومن وافقهم،
ويحتجون أيضا بما رواه أبو داود وأحمد في مسنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) قالوا: الضمين: هو الحميل الذي يضمن الشيء ويتحمله، فهو يحمل عن المأموم، وبناء على ذلك لا تلزم المأموم قراءة الفاتحة، فهذا مذهب من يرى الإسقاط، سواء في جهرية أم سرية.
وهناك من يرى التفصيل فيقول: إن كانت جهرية سقطت القراءة؛
لقوله سبحانه وتعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204]،
وفي السرية يقرأ لحديث: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)، الحديث،
وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، فعملوا بالنص في السرية، وأما في الجهرية،
فقالوا: إنه مأمور بالإنصات، فيلزمه الإنصات ولا يقرأ.والذي يترجح -والعلم عند الله- القول بوجوبها مطلقا، سواء أكانت الصلاة سرية أم جهرية، في جماعة أم منفردا،
وذلك لما يلي: أولا: لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ... ) الحديث، ولم يفرق.
كما أن الصلاة في قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ) نكرة في سياق النفي، والقاعدة أنها تفيد العموم.ثانيا: النص الصحيح الصريح القوي في هذا، وهو أنه لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه فارتج عليه قال: (لعلكم تقرءون وراء إمامكم؟ قالوا: نعم.قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)،
وقد قال بعض العلماء المتأخرين: إن هذا الحديث منسوخ بحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)،
وهذا القول ضعيف من وجوه: الوجه الأول: أن حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) ضعيف عند جماهير المحدثين، والضعف فيه من القوة بمكان.
الوجه الثاني: أنه لو قيل بتحسينه فهناك قاعدة في الأصول تقول: (إن النسخ لا يثبت بالاحتمال)؛ لأنا لا ندري أي الحديثين أسبق.
الوجه الثالث: أن متن هذا الحديث وهو: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) لا يقوى على معارضة متن: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)؛
فإن قوله: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) دل على أن هناك قراءتين: قراءة الفاتحة، وقراءة ما بعد الفاتحة التي هي السورة،
فقال: (لا تفعلوا
-أي: في السورة- إلا بفاتحة الكتاب)، فاستثناها،
وفي الحديث الآخر لم يقل: فكل قراءة الإمام له قراءة.
وإنما قال: (فقراءة الإمام له قراءة)، والقراءة إنما تكون لما بعد الفاتحة، وتبقى الفاتحة على الأصل.وهذا أنسب الوجوه عند جمع من العلماء؛ لأنه يجمع بين النصين،
ولذلك يقولون: لا يقوى التخصيص ولا المعارضة إلا إذا استويا دلالة وثبوتا،
فحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) أضعف ثبوتا؛
لأن غاية ما قيل فيه: إنه حسن لغيره، وحديث (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج) وحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وكذلك حديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) أقوى صحة من هذا الحديث، فهذا من جهة السند.أما من جهة المتن فعمومات صريحة، حتى إن بعض العلماء يرى أن النص العام قطعي الدلالة على أفراده ثم إن القاعدة في الأصول أن صورة السبب قطيعة الدخول في الحكم.وصورة السبب وردت في صلاة الفجر وهي جهرية،
وبناء على ذلك تعتبر الصلاة الجهرية قطعية الدخول في هذا الحكم: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)،
وحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) متردد، فلا ندري أقراءة الفاتحة هي المرادة به أم قراءة ما بعد الفاتحة، فهو لا يقوى على المعارضة.وبناء على ذلك فالذي تطمئن إليه النفس القراءة،
ولذلك فقد روى البيهقي بسند صحيح في كتابه النفيس: (القراءة وراء الإمام) أن أبا هريرة سئل: متى أقرأ إذا عجل الإمام؟ قال: اقرأها في سكتات الإمام قال: فإن عجزت؟
قال: اقرأها وقول الله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204] عموم تستثنيى منه الصلاة؛ لأن القرآن إذا قرئ فالاستماع له واجب،
وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج) يدل على الوجوب واللزوم ويدل على أنه ركن من أركان الصلاة، كما هو قول من يقول باعتبار الفاتحة، فوجوب الفاتحة آكد من وجوب الاستماع.
وثانيا: أن الاستماع منفصل ووجوب الفاتحة متصل، والقاعدة أن الواجبات أو الفروض إذا تعارضت ينظر إلى جهاتها، فيقدم باختلاف الجهات، فلما كانت عين الفاتحة على المأموم متصلة به، والاستماع إلى غيره منفصل عنه قدم المتصل بوجوبها على المنفصل، ولذلك ترجح القول بالوجوب على العموم.
حكم قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام
[استحباب قراءة الفاتحة للمأموم أثناء سكوت الإمام أو إسراره]
قال رحمه الله: [وتستحب في إسرار إمامه وسكوته وإذا لم يسمعه لبعد لا لطرش]؛ لأنهم لا يرون وجوبها.
قوله: [في إسراره] أي: في الصلاة السرية.
وقوله: [وسكوته] أي: في حال سكتات الإمام، فإذا أراد أن يقرأ الفاتحة فلا يقرأها في الصلاة الجهرية على مذهب من يرى أنها لا تقرأ في الصلاة الجهرية.وقوله: [وإذا لم يسمعه لبعد لا لطرش].كأن هذا المذهب قائم على كونه يسمع قراءة الإمام، ولذلك يعتبر الاستشهاد بالآية أضعف من الاستشهاد بالحديث الذي هو نص في موضع النزاع،
فقالوا: لما كان وجوب أو إسقاط الفاتحة مبنيا على سماع قراءة الإمام فإنه لو كان بعيدا لن يسمع؛ لأنه في القديم لم تكن هناك وسائل تعين على نقل الصوت مثل الأجهزة الموجودة الآن، فكان الصف قد يصل إلى مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة أحيانا فلا يسمع الصوت، ولذلك اختلفوا فيما لو أن إنسانا أراد أن يصلي الفجر والصف طويل وليس هناك مكبر صوت، فإذا اقترب من الإمام يسمع القراءة سيكون في الصف الثاني أو الثالث، فهل الأفضل أن يكون في الصف الأول مع عدم سماع القراءة، أم يكون قريبا من الإمام مع تخلفه في الصف؟ فهذا مسألة خلافية في صلاة الفجر، فبعضهم يرى أن استماعه للقرآن وتأثره به لفضل القراءة في صلاة الفجر أفضل؛
لقوله تعالى: {إن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء:78] فيستثنون صلاة الفجر.
وبناء على ذلك قالوا: إذا كان بعيدا لا يسمع الإمام لا لطرش
-والأطرش: هو ثقيل السمع- فمثل هذا يبقى على الأصل، أما من لا يسمع لبعد فيستحب له القراءة.
[دعاء الاستفتاح]
قال رحمه الله: [ويستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه إمامه].
قوله: [ويستفتح] أي: يقرأ دعاء الاستفتاح.
وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)،
قالوا: فيسن أن يقرأ دعاء الاستفتاح ولذلك لما سأل أبو هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعاء الاستفتاح علمه، ولم ينكر عليه ذلك،
ولم يقل: هذا خاص بي.وهنا مسألة مهمة،
وهي أنه: إذا قلنا بمشروعية الاستفتاح وراء الإمام فلو جئت في صلاة الظهر أو العصر، أو أي صلاة والإمام قبل الركوع بقليل، بحيث يغلب على ظنك أنك لو قرأت الاستفتاح لم تستطع قراءة الفاتحة فحينئذ تترك الاستفتاح، وبمجرد تكبيرك تبدأ بقراءة الفاتحة؛ لأننا عهدنا من الشرع تقديم الواجب على ما هو دونه،
كما في الحديث: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، فعلمنا أن الشرع يقدم الأهم على المهم، وبناء على ذلك فإنه يقدم قراءة الفاتحة ويشتغل بها،
قال بعض العلماء: لو كبر وقرأ الاستفتاح وركع الإمام ولم يقرأ الفاتحة ولم يتمكن منها لم تجزه الركعة، وعليه قضاؤها؛ لأنه حينما أدرك القدر الذي تقرأ فيه الفاتحة فوجبت عليه قراءتها، وهذا إذا أدرك وقتا يغلب على ظنه أنه لو قرأ الاستفتاح وراء الإمام فاتته الركعة، فتسقط عنه من هذا الوجه.
فإذا كان الأصل في إسقاط القراءة عن المأموم الاستماع في الجهريات أو غير الجهريات بناء على أن الإمام يتحمل قالوا: يبقى دعاء الاستفتاح على ما هو عليه، ويبقى التعوذ، فيستفتح ويستعيذ بالله عز وجل من الشيطان، ثم يبقى ساكتا منصتا لقراءة الإمام إذا كان يقرأ، أو ينتظر تكبير الإمام، وإذا قرأ على الاستحباب فلا حرج عليه، لا على الحتم والإيجاب.
[سبق الإمام بالركوع أو السجود]
قال رحمه الله: [ومن ركع أو سجد قبل إمامه فعليه أن يرجع ليأتي به بعده].ذلك لأن الله عز وجل أوجب على المأموم متابعة الإمام، ويحرم على المأموم أن يسابق إمامه، ويكره له أن يوافقه،
قال صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به ... ) الحديث.
أي: إنما شرع الله الإمام من أجل أن يؤتم به،
فقوله: (ليؤتم به) بمثابة التعليل،
كقوله: (إنما فعلت هذا لتأتموا بي)، فاللام تعليلية،
أي: إنما شرع الله الإمامة في الصلاة لكي يكون الإمام بمثابة القدوة لمن بعده، فيوقع فعله بعد فعله، ولا يوقعه قبله.
وقال أئمة اللغة: الإمام: مأخوذ من الأمام والأمام هو الخط الذي يخط في أول الباب عند البناء؛ لأنه يعول عليه ويبنى عليه، فصلاة المأموم لما كانت واقعة وراء الإمام كأنها بنيت على صلاة إمامه، ولذلك لا يجوز للمأموم أن يسبق الإمام، فإن سبقه أعاد.
قال رحمه الله: [فإن لم يفعل عمدا بطلت].
أي: إن سبقه في ركن فركع قبله، ولم يرجع لكي يتابع الإمام ويكبر ويركع بعده بطلت صلاته، وحينئذ يلزمه أن يستأنف الصلاة، لكن لو أنه ركع قبل الإمام ولم يشعر، إما لغلبة هم أو حزن عليه، أو فرح، أو انشغال ذهن، فلم يشعر إلا وقد كبر وركع،
فلم يفاجأ إلا والإمام قال: (الله أكبر) وركع، فقالوا في هذه الحالة يرجع ويكبر وراء الإمام ويدركه في الركوع، وهكذا الحال لو شعر قبل أن يكبر الإمام.فإنه يرجع مباشرة إلى حالته مع الإمام، ولا يبقى على حالة السبق والتقدم؛ لأن ذلك مما نهى الله عز وجل عنه.
ومن الأدلة التي تدل على عظم هذا الأمر قوله عليه الصلاة والسلام: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)، والقاعدة في الأصول أنه إذا ورد الوعيد بعقوبة دينية أو دنيوية أو أخروية فإن هذا مشعر بالإثم وبكون الفعل ذنبا وهذا من دلائل المنهيات وأنها تدل على التحريم، ويعتبر العلماء رحمة الله عليهم سبق الأئمة بالأركان كبيرة من الكبائر؛ لورود الوعيد على من سبق الإمام، واختص الرفع من الركوع لكثرة البلوى به؛ لأن الانحناء في الركوع غالبا ما يكون فيه مشقة، فالركوع ليس كالسجود، ولذلك يعجل الناس في مثله لقربهم من الاعتدال، ولخفته عليهم، فخص الركوع بهذا،
فلذلك يقولون: لا فرق بين ركن الركوع وغيره من سائر الأركان، فالشرع قصد أن يرتبط المأموم بإمامه، وكونه يورد هذا الوعيد على هذا الفعل يدلنا على أنه كبيرة من كبائر الذنوب، ولذلك عده جمع من الأئمة والعلماء -منهم صاحب الزواجر- أنه من كبائر الذنوب وهذا بناء على ثبوت ضابط الكبيرة فيه.
قال رحمه الله: [وإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالما عمدا بطلت].
أي: بطلت صلاته، سواء أتم الركعة ورفع قبله أم ركع عامدا ولم يرفع أو ينتظره حتى رفع، فكل ذلك يوجب بطلان صلاته بالعمد.
قال رحمه الله: [وإن كان جاهلا أو ناسيا بطلت الركعة فقط].يعذر بالجهل -عند من يقول بالعذر بالجهل- أن يكون جاهلا بالاقتداء، وبعد ذلك رأى الناس يتابعون الإمام فرجع إلى المتابعة، فإنه في هذه الحالة يعذر عند من يقول بعذره، وهذا خاصة في الناس الذين هم حديثوا عهد بإسلام،
فمثلا شخص قيل له: صل مع الجماعة وعرف أنه يقرأ ثم يركع ثم يرفع، فجاء وسبق الإمام في الركوع، فرأى أن أصحابه لم يركعوا، فعلم أن الذي فعله خطأ، ثم رجع والتزم مع الإمام، فإن هذا يعتبر عذرا عند طائفة وجمع من أهل العلم رحمة الله عليهم.
وقوله: [أو ناسيا].
أي: أو ناسيا كونه مع الإمام، فيظن أنه لوحده، وهذا يحصل مع غلبة الفرح، أو غلبة الترح، أو الحزن، أو يكون منصرف الذهن -نسأل الله السلامة والعافية- فيسهو عند الانتهاء من القراءة، فلا يفاجأ إلا وهو راكع يظن أنه لوحده، ثم يتذكر أنه مع الإمام، فإنه يرجع ويتابع الإمام على الصورة التي ذكرنا.
قال رحمه الله: [وإن ركع ورفع قبل ركوعه، ثم سجد قبل رفعه بطلت إلا الجاهل والناسي].ومن فعل هذا يلزمه في هذه الحالة قضاء هذه الركعة بعد سلام الإمام، كأنه لم يدرك الإمام في هذه الركعة، فإن كان قد صلى مع الإمام أربع ركعات -كصلاة الظهر- فإنه يلغي هذه الركعة، ويصبح حاكما على نفسه بأنه مدرك لثلاث ركعات، كأنه سبق بركعة كاملة؛ لأنه إذا سبق الإمام في الأركان الثلاثة فقد سبقه في أغلب الركعة، فحينئذ تلغى هذه الركعة، ويلزمه قضاؤها كاملة.
قال رحمه الله: [ويصلي تلك الركعة قضاء].
أي: بعد سلام الإمام يقوم ويأتي بهذه الركعة قضاء،
والفرق بين قولك: إنه يتمها،
وقولك: يقضيها هو أنه إن قلت: يتمها ففي هذه الحالة -إذا كان في الظهر- يأتي بالفاتحة وحدها،
لكن إذا قلت: يقضيها وكان في الركعات الأول فإنه يأتي بالفاتحة والسورة؛ لأن القضاء يحكي الأداء، فكأنه لم يفته شيء مع الإمام، ويعتبر كأنه يؤديها حال قضائه على الصورة المعتبرة حال متابعته للإمام.
[مشروعية التخفيف بالمصلين]
قال رحمه الله: [ويسن لإمام التخفيف مع الإتمام].من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف، والتخفيف ضد التطويل، والمراد به الرفق بالناس؛ لأن شريعتنا شريعة رحمة ويسر،
قال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)،
وقال: (أنا رحمة مهداة)،
وفي التنزيل قوله سبحانه وتعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107]، وهذا يتضمن أن الشعائر والشرائع التي بعث بها صلوات الله وسلامه عليه فيها رحمة، وليس فيها عنت ولا عذاب، ولذلك ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن الأفضل والأكمل والأصل التخفيف من قبل الإمام؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف)، فهذا أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل على أن السنة والأصل هو التخفيف على الناس؛ لأن التطويل عليهم ينفرهم من الصلاة مع الجماعة، وقد حدث هذا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أفضل الأمة، فقد أخبر رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يتأخر عن الصلاة بسبب تطويل إمامهم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فوعظ موعظة -
قال الراوي: ما رأيت أشد منه في تلك الموعظة- وقال: (إن منكم منفرين)،
وقال لـ معاذ لما اشتكاه الرجل في تطويله لما صلى بالناس البقرة في العشاء قال: (أتريد أن تكون يا معاذ فتانا)،
أي: هل تريد فتنة الناس عن دين الله؟! وصرفهم عن دين الله! فالدين يسر والشريعة شريعة رحمة، فعندما يأتي الإمام ويطول على الناس، وإذا دخل المحراب لا يشعر بالضعيف ولا بكبير السن، ولا يشعر بالسقيم والمريض وذي الحاجة، فهذا يدل على غفلته وعدم فقهه بسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من هديه أنه كان يطيل فما يمل من إطالته، ويخفف فما يخل في تخفيفه صلوات الله وسلامه عليه،
ولذلك قال أنس: ما صليت وراء أحد أتم ولا أخف صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.ودخل في صلاة الفجر - وكان يقرأ من الستين إلى المائة آية، كما في الصحيح من حديث أبي برزة وجابر في صلاة الفجر-
فلما سمع بكاء صبي قرأ: {إنا أعطيناك الكوثر} [الكوثر:1]،
فلما سلم قال: (إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه)، وهكذا الحال إذا صلى الإمام بالناس ورأى أن الوقت وقت إزعاج، وأنهم في حالة من التعب والإعياء فليخفف عنهم، كأن يكونوا في سفر، ونزلوا بعد عناء السفر، فيجب على الإمام أن يخفف ويقرأ قراءة محببة إلى النفوس، وتكون إمامته بهم تدل على رحمته وشفقته، فهذا من خيرية الإمامة، ولذلك يرزق أمثال هؤلاء القبول وحب الناس والدعاء بظهر الغيب، وترى الناس يقبلون على مواعظهم، ويتأثرون بهم؛ لأنهم يحسون أنهم يريدون الخير ويتلمسون أحوال الناس، بل والغريب أن الإنسان إذا تعود التخفيف على الناس بدون أن يكون تخفيفا زائدا عن الحد، ثم أطال في بعض صلواته لتطبيق السنن في التطويل في بعض المناسبات فلن تجد أحدا يكرهه؛ لأنه يعلم أنه يحب الرحمة والتيسير، وأنه إنما فعل هذا على سبيل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيحب السنة، لكن إذا ألف التطويل على الناس ولو جاء بسنة نفروا منه، وتجدهم لا يحبون ذلك منه، وأشد ما يكون هذا في الخطب؛ فإن الخطب إذا كانت طويلة جدا ومزعجة فإن الناس لا تتيسر لهم الاستفادة، وربما ينفرون، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصر الخطبة، ولو جئت إلى بعض خطبه المأثورة عنه عليه الصلاة والسلام تجده لم يتجاوز الصفحة، ولو تتبعت المرويات في خطبة حجة الوداع التي بين فيها شرائع الإسلام وشعائره فإنها لا تتجاوز صفحة ونصف صفحة، وهكذا الأئمة وغيرهم كانوا على هذا الحال، فخير الكلام ما قل ودل، وكان آخذا بمجامع قلوب الناس موجبا لحبهم لهذا العلم الذي يكون في الخطب والمواعظ، نسأل الله العظيم أن يرزقنا الائتساء والاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم.وقوله: [مع الإتمام]؛
لأن التخفيف على حالتين: الحالة الأولى: التخفيف مع التقصير.
الحالة الثانية: التخفيف مع الإتمام، كأن يقرأ فيهز بقراءته القلوب، فيعطي الحروف حقها من صفة لها ومستحقها، ويعرب كتاب الله ويفصله ويبينه، فيقرأ السور المناسبة، ثم إذا ركع سبح ثلاث تسبيحات تدل على طمأنينته، كذلك إذا رفع من الركوع قرأ هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأذكار وحافظ عليها، وما تقوم به الأركان، فهذا كله من الكمال، فيخفف مع التمام والكمال؛
لحديث أنس: (ما صليت وراء أحد أتم ولا أخف صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (118)
صـــــ(1) إلى صــ(17)
[تطويل الركعة الأولى على الثانية]
قال رحمه الله: [وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية].من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف،
وقال بعضهم: الأصل التطويل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالأعراف في صلاة المغرب، كما كان يقرأ المرسلات والطور صلوات الله وسلامه عليه.ولكن هذا محل نظر؛ فإن المفردات لا تدل على العموم، ولذلك ولو سلم أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا فإن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قراءة مرتلة لا يشعر الناس معها بالملل ولا بالسآمة، وكان عليه الصلاة والسلام لا يمل في إطالته، ولو سلم هذا فإن له خصوصيات عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما صلى معه الصحابي في الركعة الواحدة في قيام الليل قرأ البقرة والنساء والمائدة في ركعة واحدة، وهذا إنما يكون بقوة نفسه عليه الصلاة والسلام، أما كون الإنسان يأتي يريد أن يقرأ سورة الأعراف، ويحاول أن يتكلف في أحكام التجويد، أو يقرأ -مثلا- سورة المرسلات ويتكلف فيها، أو يقرأ فجر يوم الجمعة سورة السجدة والإنسان بالتجويد، ويحاول أن يتكلف ويتقعر ويترنم ويشق على العجزة وعلى المسلمين وكبار السن فهذا ليس من السنة، إنما السنة أن القراءة إذا كانت لجزء طويل فيرتل، والدليل على هذا واضح؛ إذ القراءة على مراتب معروفة، وهي التجويد والتدوير والترتيل والحدر،
كما قال الناظم: إن القراءة على مراتب أربع قد فصلت للراغب ترتيلنا والحدر والتدوير كذلك التجويد يا فصيح فلو جاء يجود سورة الأعراف وقت المغرب فيخرج الوقت وما انتهى من الأعراف، ولذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم مناسبات في القراءة، فمن كانت عنده قدرة على القراءة بحيث يقرأ للناس في فجر يوم الجمعة ويرتل وتكون قراءته بالحدر الذي يعطي به أيضا للقرآن حقه من التأثر بالآيات فهذا شيء طيب، ولذلك تجد الناس يرتاحون إذا قرأ الإمام بالحدر وأعطى الآيات حقها من التأثر، هذا من أفضل ما يكون؛ لأنه لا يشق على الناس، ويطبق السنة، ويتأثر بكتاب الله، أما لو جاء يتكلف بالإتيان بأحكام التجويد، ويحاول أن يتقعر في الآيات ويبالغ فيها فهذا يشق على الناس كثيرا، ولذلك ينبغي أن نطبق السنة من جميع وجوهها، فعندنا سنة قراءة السجدة والإنسان في الجمعة -مثلا-
أو قراءة الأعراف في المغرب لكن عندنا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف)، وهذا أمر والأمر للوجوب، ويدل على اللزوم، خاصة وأن هناك مفاسد، فلذلك ينبغي الالتزام بمثل هذه السنة، فيفعل هذه السنن دون أن يؤدي إلى إحراج الناس أو الإضرار بهم.ومن السنة -ونبه عليه المصنف- تطويل الركعة الأولى وتقصير التي بعدها، فهذا من السنة، والتطويل للأولى والتقصير في الثانية من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.ولكن ينبغي أن ينبه على أمر، فإن العبرة بالآيات لا بعدد الآيات، فقد تكون السورة آياتها قليلة ولكن قراءتها تأخذ وقتا، ولربما تكون السورة كثيرة الآيات ولكنها سهلة تقرأ بسرعة، ويمكن للإنسان أن يقرأها في وقت أقل من التي هي أطول منها، فإذا نظرت إلى سورة الأعلى مع الغاشية فإنك تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما، فإنك إذا نظرت إلى سبح تجد في آياتها ما يحتاج إلى التأخر، ولكن الغاشية تجد فيها سهولة في الانسياب في الآيات، وهذا يختلف باختلاف الحروف ومخارجها كما هو معروف، وكذلك تجد -مثلا- سورة الليل إذا قرنتها بسورة الشمس، وقد تجد سورة أقل في الآيات ولكنها تحتاج إلى معالجة مثل العاديات، بحيث يطول وقتها أكثر،
فقال العلماء: العبرة بالوقت والقدرة على الأداء، وليست العبرة بالقدر، فإن كان في قراءة الأولى مسترسلا بحيث يستطيع أن يقرأ القدر الأكثر فحينئذ يؤخر، وإذا كانت الثانية أقل فإنه يجعل القليل للثانية والكثير للأولى.ويجوز له أن يجمع في الوقت بين الأولى والثانية، فلو جعل وقت الأولى والثانية متناسبا فإنه لا حرج عليه؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قرأ: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} [الزلزلة:1] في الركعة الأولى،
وقرأ في الركعة الثانية: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} [الزلزلة:1]،
فأخذ العلماء منه دليلا على مسألتين: المسألة الأولى: جواز تكرار السورة في الركعتين.
المسألة الثانية: جواز العدل بين الركعتين، بحيث تكون الأولى والثانية بقدر واحد،
وبناء على ذلك قالوا: لو كانت السورة ثلاثين آية فإنه يقرأ في الركعة الأولى خمس عشرة آية، وفي الركعة الثانية خمس عشرة آية.فبناء على ذلك يكون قد عدل بين الركعتين، ولو جعل للركعة الأولى عشرين آية وللثانية عشر آيات فحسن، ولا حرج عليه، والأمر واسع في هذا كله.ومن السنة أيضا أن يطيل الأوليين ويخفف الأخريين؛
فإن سعدا رضي الله عنه وأرضاه الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي)، وكان من المبشرين بالجنة، اشتكاه أهل الكوفة إلى عمر،
حتى قالوا: إنه لا يحسن كيف يصلي وهذا يدل على أن الإنسان لا يسلم من الناس، فلما جيء إلى عمر وبلغت الشكوى، أمر محمد بن مسلمة أن يأتي به إلى المدينة، فجاء إلى المدينة،
فقال له: لقد قالوا: إنك لا تحسن أن تصلي.
قال: والله ما كنت آلوا أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أطيل في الأوليين، وأركض في الأخريين.فدل على أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم تطويل الركعتين الأوليين وتخفيف الركعتين الأخريين.
قالوا: لأنه كان يقرأ فيهما بالفاتحة وحدها، كما في حديث ابن عباس،
وكان أحيانا ربما قرأ بالفاتحة وسورتي: (قل يا أيها الكافرون) و: (قل هو الله أحد)، كما كان يفعل ذلك في صلاة الظهر، وثبت وصح عنه ذلك.
قال رحمه الله: [ويستحب انتظار داخل ما لم يشق على مأموم].هذه المسألة اختلف فيها العلماء، فإذا كنت راكعا وأنت إمام فسمعت الداخل فهل تنتظر هؤلاء الداخلين أو لا تنتظر؟
فللعلماء أقوال في هذه المسألة أشهرها قولان: القول الأول: ينتظر؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى واستدلوا بالعمومات التي فيها الرفق والتيسير،
وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم من ولي من أمور المسلمين شيئا فرفق بهم فارفق به).
قالوا: فهذا من الرفق.
القول الثاني: لا ينتظر؛ لأنه أطال الصلاة من أجل الداخل لا لله جل وعلا.
وبناء على ذلك قالوا: لا يشرع هذا.ولأنه يفتح باب المحاباة، ويعين على التكاسل عن الصلاة.إلى غير ما ذكروا من العلل.والذي يظهر أنه لا حرج أن يطيل قليلا إذا رأى أكثر الناس يأتون، فيزيد في القراءة لا في الركوع؛ لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صلاة الظهر-
أنه: (كان يصلي حتى لا يسمع قرع النعال)، فدل على أنه كان يراعي حال الناس، فيكون التطويل في القراءة، فإذا ركع بعد تطويله في القراءة فالأفضل إذا كان لا يوجد مشقة على الناس وأحب أن ينتظر ولا حرج، وإن وجدت مشقة فإنه لا ينتظر.
[حكم خروج المرأة إلى المسجد]
قال رحمه الله: [وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد كره منعها، وبيتها خير لها].الاستئذان استفعال من الإذن، والإذن: هو السماح بالشيء،
يقال: أذن له إذا أحل له الشيء وسمح له به، واستأذنت،
أي: طلبت الإذن.فالحل للمرأة أن يسمح لها زوجها بالخروج،
وهذا فيه دليل وهو حديث ابن عمر في الصحيح: (إذا استأذنت أحدكم امرأته المسجد فلا يمنعها)،
وقال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)،
وفيه دليل على مسائل: المسألة الأولى: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها؛ لأنها إذا كانت وهي خارجة إلى الصلاة تستأذن فمن باب أولى إذا خرجت لأمور الدنيا، وهذا أمر يقصر فيه كثير من النساء، فلا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها، وينبغي على المرأة أن تسمع وتطيع،
فلو قال لها زوجها: لا تخرجي فلا تخرج، ولا تراجع ولا تحاول؛ لأن الزوج ربما كانت عنده أعذار، لا يستطيع أن يبينها،
كما قال الإمام مالك رحمه الله: ليس كل الناس يستطيع أن يبين عذره.وقد تكون عنده حمية أو يريد لها الخير،
كما قالت فاطمة رضي الله عنه: خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال.
المسألة الثانية: من سماحة الشرع أنه جعل الأمر للزوج،
ولكن قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)،
فإذا قالت له: أريد أن أصلي، أو أريد أن أشهد التراويح أو التهجد فإنه يعينها على الخير، وينبغي للزوج أن يكون حكيما؛
لأن الشيطان ربما دخل عليها وقال لها: هذا يمنعك من الخير،
فيزين لها أن زوجها أحد رجلين: الأول: أنه إنسان يشك فيها والعياذ بالله؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم،
يقول العلماء: إنه يدخل الشك والوساوس على المرأة والمرأة ضعيفه،
فإذا منعها من الخير قالت: الصلاة لا أحد يمنع منها، فليس هناك سبب إلا الشك فيدخلها الشيطان من هذا الباب،
فكان من حكم الشرع: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله).
الثاني: أنه إذا ضعيف الإيمان؛ لأنه لو كان قوي الإيمان لأحب لها الخير كما يحبه لنفسه، ولذلك منع الشرع من منعهن،
ولما قال بلال بن عبد الله بن عمر: والله لنمنعهن أقبل عليه ابن عمر فسبه سبا سيئا،
قال الراوي: ما سمعته سبه مثله قط،
قال: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن.
أي: تجرأ على السنة! فهذا يدل على أن المسلم ملزم باتباع السنة.ولكن يجوز للزوج أن يمنعها إذا علم أو غلب على ظنه الوقوع في الفتنة والمحظور، كأن يغلب على ظنه وجود الفساق والفجار، وأنها قد تتعرض لما لا يحمد عقباه، فمن حقه أن يمنعها؛ لأن الله لم يجعل الأمر بيده إلا لكي يتقي الله عز وجل، ومن تقوى الله سبحانه وتعالى منعها عند وقوع الفتن، ولذلك أثر عن عمر رضي الله عنه أنه ضرب عجيزة امرأته لما خرجت إلى الصلاة،
وقال: إن الناس قد تغيروا، فأصرت عليه أن تخرج فتركها، فلما كانت الليلة الثالثة ضرب عجيزتها،
أي: ضربها على عجيزتها وهي مارة، وكانت النساء على حياء وخجل، وكانوا يعرفون أن المرأة الحرة،
فيقولون: لو ضربت بالسوط على ظهرها لم تلتفت من كمال عفتها وحيائها.
حتى إن العلماء لما تكلموا على توبة الزانية من الزنا قالوا: توبتها أن تترك ماشية، ثم يصاح وراء ظهرها، فإن التفتت فما زالت في ضعف العفة؛ لأن من كمال عفة المرأة الحية أنها لا تلتفت ولا تنظر إلا في أرضها، وقد يبلغ بها أن تتعثر وتسقط، ولكن سقوط الجسم أهون من سقوط الهوى والردى، ولذلك كن بهذه المثابة.وإذا أذن لها فعليها أن تخرج تفلة، بمعنى أنها لا تخرج متعطرة ولا متبرجة، وإلا منعها وأخذ على يدها، فإن لم يفعل فهو آثم، وبناء على ذلك فمن حقه أن يمنعها في مثل هذه الأحوال، وكذلك الحال إذا كان طريقها غير آمن، فإنها قد تكون صالحة ولكن غيرها غير صالح، فيشرع للزوج أن يحبسها.
وقوله: [وبيتها خير لها] لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاتها في مخدعها خير لها من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في مسجد حيها، وصلاتها في مسجد حيها خير لها من صلاة المسجد الجامع)، وهذا مبالغة في ستر المرأة.
الأسئلة
التطويل في الركعتين الأوليين ليس خاصا بالقراءة فقط
q هل التطويل في الركعتين الأوليين مختص بالقراءة فقط كأم هو عام في سائر الأركان كالركوع والسجود؟
a المحفوظ من هديه -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- أن قراءته وركوعه وسجوده ورفعه من السجود كل ذلك كان قريبا من المساواة، وهذا هو هديه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك وصفت صلاته بالتمام، فإذا فعل الإنسان هذا ووسعه ذلك فإنه يفعل، لكن إذا كان فيه مشقة على الناس فإنه يقتصر على حد الإجزاء، ففي التسبيح يقتصر على ثلاث، وكذلك أيضا في الرفع من الركوع يقرأ الدعاء المأثور: (ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) إلى آخره، ويجعل صلاته موزونة حتى يدرك السنة بصورتها إن لم يدرك حقيقتها، فإنه يدرك فضل صورة السنة، فيكون مدركا للسنة من وجه؛ لأن الله لا يضيع عمل العامل، فهذا من إدراك جزء السنن كما يقرره جمع من الأصوليين رحمة الله عليهم.والله تعالى أعلم.
[دعاء الاستفتاح لمن دخل والإمام يقرأ الفاتحة]
Qمن أدرك الإمام وهو يقرأ الفاتحة فهل ينصت، أم يقرأ دعاء الاستفتاح؟
a إذا أدركت الإمام وهو يقرأ الفاتحة تنصت، ويسقط دعاء الاستفتاح لفوات المحل والانشغال بالواجب؛ فإن مرتبة دعاء الاستفتاح دون مرتبة وجوب الإنصات، وبناء على ذلك يسقط دعاء الاستفتاح لمكان المتابعة، ولوجود قراءة، ويشتغل الإنسان بالاستماع على ظاهر النص.والله تعالى أعلم.
[حكم صلاة الراتبة بعد السلام من الفريضة]
q ما حكم صلاة الراتبة بعد السلام من المكتوبة مباشرة؟
a هذا فيه حديث في يوم الجمعة، حيث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن يصل الصلاتين ببعضهما حتى يتكلم أو ينصرف على الأقل من مكانه، لا أن تقوم مباشرة بعد سلامه من صلاة الجمعة، فهذا هذا منهي عنه في حديث معاوية رضي الله عنه وأرضاه.فالسنة أن يأتي بالأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك يتسنن ويتنفل بما شاء، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام الاستغفار وقول: (اللهم أنت السلام ... ) إلى آخره، وكذلك أيضا: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) كما في حديث معاذ، ثم يشرع في الأذكار والمعقبات التي لا يخيب قائلهن، ثم إذا انتهى من المعقبات وقال تمامهن: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على شيء قدير، بعد ذلك يقول: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت.ثم بعد هذا يتسنن إذا أحب ذلك، والأفضل أن يؤخر السنة إلى بيته.وقال بعض الحفية: إنه يصل الصلاة بالصلاة.ولهم في هذا حديث ضعيف: (صلاتان لا لغو بينهما)، والحديث ضعيف، لكن لو صح فإنه يجاب عنه بأن قوله: (صلاتان) المراد به صلاة فريضة وفريضة، كصلاة الظهر والعصر، وقوله: (لغو بينهما) أي: لا يغتاب الناس، ولا يقول النميمة، ولا يسب، ولا يشتم، ولا يفعل الحرام؛ لأنها موجبة للرحمة وللخير، فيشمل الفريضة مع الفريضة، وهذا يدل على أن صلاته الأولى مقبولة؛ لأن الرجل إذا كان يصلي الصلاة ويتبعها بالصلاة الثانية لا ذنب بينهما فإن هذا -كما يقول جمع من العلماء- من علامات القبول، وأن صلاته تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وهذا بأفضل المنازل عند الله سبحانه وتعالى، فمن أفضل المنازل أن يصل إلى درجة أن تكون صلاته تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ومن دلائل ذلك أن تجده يصلي الصلاة ويعقبها بالصلاة لا لغو بينهما، فهذا يدل على أنه بخير المنازل، وأن صلاته نهته عن الفحشاء والمنكر، نسأل الله العظيم أن يبلغنا هذه المنزلة، وأن يجعلنا من أهلها بمنه وكرمه.والله تعالى أعلم.
[قراءة آيات معينة في صلاة العشاء]
q هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة سور أو آيات معينة في صلاة العشاء؟
a نعم ورد عنه.وأخذوا من قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (هلا قرأت بهم بـ: (سبح اسم ربك الأعلى)، و (والليل إذا يغشى)، و (والشمس وضحاها)) على الروايات التي وردت، ولذلك يقولون في هذه السور: هذا هو الذي يقرأ في صلاة العشاء؛ لأن الشكوى كانت من معاذ في صلاة العشاء، وأمره أن يقرأ هذه السور في صلاة العشاء، فدل على أنها السنة، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: (والتين والزيتون) كما جاء من حديث البراء رضي الله عنه وأرضاه، فالأمر في هذا واسع، والناس يختلفون، فقد يصلي الإنسان العشاء مع جمع لكن على حرج ومشقة، وقد يصلي بجمع على سعة وجلد، كشباب وراءهم عمل ولا شغل، ويكونون متهيئين للإطالة فيطيل بهم، فهذا من الأفضل.ومن أفضل ما تكون الصلاة إذا طولت القراءة فيها، فإن بعض العلماء يقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) المراد به أن السبع والعشرين درجة للصلاة الجهرية؛ لأن فيها قراءة للقرآن وتأثر الناس به، وكلما كان استماع الإنسان مع التأثر وحضور القلب والخشوع وحب هذه الآيات المنزلة من الله سبحانه وتعالى وحبه للعمل بها والتأثر بها كلما كان أرفع درجة وأعظم حظا، ولذلك يرى بعض العلماء أن السبع والعشرين مختصة بالصلاة الجهرية، كصلاة الفجر وصلاة العشاء وصلاة المغرب كله لمكان القراءة.وعلى العموم فإن قراءة العشاء تكون على الوصف الذي ذكرناه، ولكن إذا كان هناك مجال للإطالة، كأن يكون الإنسان مع جمع ورفقة تحب الإطالة وترتاح لقراءته، ويرى أن هذا فيه خير لهم، فإنه يطيل، ونعم الإطالة أن يشتغل الإنسان بكتاب الله عز وجل، فلا يزال بخير ما وقف بين يدي الله عز وجل، نسأل الله العظيم أن يوفقنا لحسن الصلاة وكمالها.
حكم من أفطر رمضان جاهلا بوجوبه عليه
q امرأة لما بلغت كانت تجهل وجوب الصيام عليها، ولم تصم طيلة عامين، فماذا عليها، وهل تعذر بالجهل؟
a يجب عليها قضاء الشهرين، قضاء الشهر من السنة الأولى وقضاؤه من السنة الثانية، وفي هذا تفريط ولو ادعت الجهل، خاصة في هذه الأزمنة الذي أمكن فيها سؤال العلماء والرجوع إليهم.وكون المرأة تجلس هكذا لا تسأل ولا تراجع العلماء، وتبلغ ولا تبحث عن أحكام دينها ولا تسأل، ثم تقول: إنها جاهلة فمثل هذا الجاهل يلزم بعاقبة التقصير، ويقال له: تقضي ما فاتك.فليس هذا الجهل بعذر؛ لأنه يمكنها أن تسأل وقد قصرت، والواجب على من أسلم أن يعلم شعائر الإسلام، وأن يتفقه كما ندب الله عباده إليه، فقال سبحانه وتعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين} [التوبة:122]، فندبهم إلى هذا، قال العلماء: يتعين طلب العلم على من بلي بالعبادة والمعاملة، فمن أراد أن يصلي صار فرضا عليه أن يسأل عن أحكام الصلاة، ومن أراد أن يزكي صار فرضا عليه أن يسأل عن أحكام الزكاة.أما أن يجلس ويترك الزكاة السنة والسنتين والثلاث، ولا يسأل وهو يعلم أن هذا من دينه فإنه في هذه الحالة يلزم بعاقبة تقصيره، ويتحمل وزر ذلك.والله تعالى أعلم.
[ضابط الموالاة في الوضوء]
q ما هو ضابط الموالاة في الوضوء؟
Aالموالاة: وقوع الشيء وهو يلي الشيء الذي قبله.والضابط عند العلماء رحمة الله عليهم في الموالاة: أن تغسل يدك -مثلا- ثم بعد غسل اليد مسح الرأس، قالوا: يشترط في صحة مسح الرأس أن لا تنشف اليد، والتنشيف يختلف باختلاف الصيف والشتاء، فقالوا: ننظر للزمان المعتدل، فلو أن إنسانا توضأ وغسل كفيه فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه، ثم غسل يديه فانقطع الماء من الصنبور، أو انتهى الماء الذي معه فنزل من دور إلى دور يبحث عن الماء، أو ذهب يبحث عن الماء، أو ذهب إلى مكان آخر فيه ماء، والمسافة التي بين المكان الأول للذي يتوضأ فيه والمكان الثاني الذي يوجد فيه الماء يسيرة جدا بحيث تبقى نداوة العضو، ويبقى أثر الماء عليه، فحينئذ شرط الموالاة لم يذهب، ويصح منه أن يبتدئ من الموضع الذي انتهى إليه فيغسل ما بعده.وبناء على ذلك يكون شرط الموالاة أن لا ينشف العضو في الزمان الواحد، لكن لو فرض أنه في شدة البرد ينشف بسرعة، وفي شدة الحر يكون فيه شيء من الرطوبة والنداوة للجسم، خاصة إذا لم ينشف، فيتأخر في الصيف ويبادر في الشتاء، قالوا: في هذه الحالة ننظر إلى الزمان المعتدل، فمثلا: الزمان المعتدل دقيقتان إلى ثلاث دقائق فنقول: لو كان في شدة الصيف أو شدة الشتاء فالعبرة بثلاث دقائق، أو العبرة بالدقيقين.وهذا يرجع إلى غلبة ظن الإنسان، أما العضو فما زال الماء عليه.والله تعالى أعلم.
[عدم اشتراط الطهارة للأذان]
q هل تشترط الطهارة للأذان؟
a الطهارة للأذان لا تشترط، وبناء على ذلك يجوز للإنسان أن يذكر الله في الأذان ولو لم يكن متوضئا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن وهو على غير وضوء، فمن باب أولى الأذان الذي هو دون القرآن؛ لأن القرآن أفضل، وقد جاء في الأثر: (فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)، كما في الصحيح، فإذا كان القرآن الذي هو أفضل الأذكار وأشرفها وأعظمها لا تشترط له الطهارة لتلاوته فمن باب أولى الأذان الذي هو دون ذلك، وبناء على هذا يصح الأذان من المحدث، ولكن ليس الإشكال هنا، فالإشكال أنه إذا دخل المسجد وأذن سيضطر إلى الخروج بعد الأذان، وهذا أمر منكر يقع حتى من بعض طلاب العلم؛ فإن الإنسان إذا سمع الأذان وهو في المسجد لا يخرج ولو إلى مسجد أفضل من المسجد الذي هو فيه، بل يجب عليه أن يبقى في المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخروج بعد الأذان، حتى إن ابن مسعود رضي الله عنه لما رأى رجلا خرج بعد الأذان قال: أما هذا فقد عصى الله ورسوله فلا يجوز الخروج بعد الأذان إلا لمن كان محدثا، قالوا: فهذا محدث، ويكون حدثه عالما به قبل الأذان، فكأنه يتعاطى أسباب التقصير، بخلاف من أحدث أو تذكر أنه محدث بعد الأذان، لكن إذا أحدث قالوا: يضع يده على فيه كما ورد في السنة، ثم يخرج أما أن الإنسان يؤذن ثم يخرج من المسجد، خاصة ما يجعله بعض المؤذنين الآن -أصلحهم الله- من التساهل في مثل هذه الأمور، فتجده لا يحضر إلا عند الإقامة، فيؤذن ثم يخرج، وقد يخرج خارج المسجد، وقد يخرج إلى مصالح دنيوية، وهذا من بالغ الغفلة -نسأل الله السلامة والعافية- وبسبب تقصير كثير من الناس في تعظيم شعائر الله عز وجل بعد أن كان الأئمة والمؤذنون لا يفارقون المساجد، وترى الرجل منهم وتعرفه كحمامة المسجد، وإذا أردت أن تبحث عن إنسان منهم وتعلم أين هو فانظر إليه في المسجد، فلا يؤذن للصلاة إلا وجدته في الصفوف الأول حريصا عليه، أو قريبا من المسجد، لكن الآن قد تجده يؤذن ثم يخرج في صلاة الفجر ويجلس مع أصحابه أو أولاده، ثم لا يخرج إلا وقت الإقامة، كأنه أمر من أمور الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية.فينبغي التناصح في مثل هذا، حتى لطلاب العلم الذين يخرجون بعد الأذان، ولو كانوا أئمة لا يخرجون، فإذا أرادوا أن يخرجوا فعليهم أن يخرجوا قبل الأذان.نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا للسداد والرشاد، وأن يلهمنا لما فيه مرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (119)
صـــــ(1) إلى صــ(18)
شرح زاد المستقنع - فصل: الأولى بالإمامة [1]
مما يتعلق بصلاة الجماعة: أحكام الإمامة، ويقدم فيها الأقرأ للقرآن العالم فقه الصلاة، ثم الأكبر سنا، ثم الأقدم هجرة، ثم يقرع فمن خرجت قرعته تقدم، وهناك أئمة أحق من غيرهم؛ كصاحب البيت، وإمام المسجد الراتب.ويقدم الحر والحاضر والمقيم والبصير على غيره، ولا تصح الصلاة خلف الكافر، ولا خلف امرأة أو خنثى.
أحكام الإمامة
[تقديم أقرأ الناس للإمامة في الصلاة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: الأولى بالإمامة الأقرأ العالم فقه صلاته] الإمامة منصب شريف ومقام عزيز منيف لا ينبغي لكل أحد أن يتصدر له، ولا ينبغي لكل أحد أن يكون فيه إلا إذا كان أهلا لهذا المقام، فحينئذ يجوز له أن يتقدم على الناس، وأن يتشرف بهذا المكان الذي يكون فيه مؤتمنا على صلاتهم، وإقامة هذه الشعيرة لهم، والناس تقتدي بالأئمة، فكلما كان الإمام على صلاح وتقوى لله عز وجل وعلم بالشريعة وفقه في الدين ومعرفة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم كلما كان ذلك أدعى لحبه وحب الصلاة وراءه، والتأثر بقراءته ومواعظه وخطبه، الأمر الذي يكون له أحمد العواقب، وأحسن الثمرات، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة أن تهيئ لهذا المقام من توفرت فيه شروط الأهلية، فقال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي مسعود في الصحيح-: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).فأمرنا عليه الصلاة والسلام أن نقدم الأقرأ لكتاب الله عز وجل، والسبب في ذلك أن الغالب في الإنسان إذا شرفه الله وكمله وفضله بحفظ كتابه فالأصل فيه أن يكون من أهل كتاب الله العالمين به، العاملين بما فيه، ومثل هؤلاء أئمة يقتدى بهم إذا كان القرآن إماما لهم في القول والعمل والاعتقاد،
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).فلما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يحفظ كتاب الله عز وجل إلا من علمه وعمل به كان ذلك أدعى لتقديم هؤلاء الخيرة البررة الذين هم صفوة الله عز وجل من الخلق، أعني العلماء بكتاب الله العاملين به.فالمصنف رحمه الله بعد أن بين لنا حكم صلاة الجماعة، والمسائل المتعلقة بمباحث صلاة الجماعة شرع في بيان من الذي يقدم للإمامة لكي يصلي بالناس جماعة،
فقال رحمه الله: [الأولى بالإمامة الأقرأ] وفي هذه النسخة [العالم فقه صلاته]،
وفي غيرها الإطلاق: [الأقرأ]، وهذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها،
ولذلك لا بد من بيان المراد بقولهم: (الأقرأ) ثم بعد ذلك نبين أقوالهم وأدلتهم، والراجح من الأقوال والأدلة.فلفظ (الأقرأ) اختلف العلماء رحمهم الله فيه على قولين: قال بعض العلماء: الأقرأ: هو الأكثر أخذا للقرآن، والمراد بذلك أن يكون حفظه أكثر من غيره، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال ذلك فهم منه الصحابة هذا الفهم، كما في الحديث في الصحيح أن سالما مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما كان يؤم المهاجرين والأنصار،
وذلك في المدينة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم قال الراوي: وكان أكثرهم قرآنا.
فقوله: كان أكثرهم قرآنا، أي: كان حفظه أكثر.وكذلك استدلوا بحديث عمرو بن سلمة،
ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فارقه قوم أبي سلمة قال لهم: (وليؤمكم أكثركم قرآنا) قال: فرجعوا فنظروا فإذا أنا أكثرهم أخذا للقرآن، فقدموني.ووجه الدلالة أنه علق التقديم على كثرة الحفظ، فدل على أن المراد بالأقرأ الأكثر حفظا للقرآن، وعلى هذا يقدم حافظ القرآن كله على من حفظ ثلاثة أرباعه، ويقدم من حفظ ثلاثة أرباع القرآن على من حفظ النصف ولو كان أكثر ضبطا لأحكام التجويد والترتيل، فهذا هو الوجه الأول، فالعبرة عندهم بكثرة الحفظ، ولكن يلاحظ أنهم يرون مع كثرة الحفظ أن يكون ضابطا لما ينبغي أو يشترط لصحة التلاوة واعتبارها.
القول الثاني يقول: إن المراد بالأقرأ الأتقن في مخارج الحروف وضوابط القراءة، وهو المجود لكتاب الله عز وجل الذي يحسن ترتيله ويحسن تحبيره وتتأثر الناس بقراءته أكثر،
وهذا القول يعتمد على ظاهر اللفظ في قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)؛ فإن اللغة العربية تدل على أن (الأقرأ) أفعل تفضيل، والمراد به أنه فضل على غيره بحسن التلاوة وحسن الأداء للقراءة،
فقالوا: المهم عندنا أن يكون محبرا لكتاب الله عز وجل، وعلى هذا الوجه.فلو اجتمع حافظ للقرآن كله وحافظ لنصف القرآن، والذي يحفظ نصف القرآن أكثر ضبطا لأحكام القراءة، والناس تتأثر بقراءته أكثر،
ويحسن تحبيره وتجويده قالوا: يقدم على من هو أكثر حفظا منه.والذي يظهر -والعلم عند الله- أن العبرة بكثرة الحفظ، وليس المراد التحبير وحسن النغمات والمبالغة في التجويد، وعلى هذا فلو اجتمع من هو أكثر حفظا للقرآن مع من هو أحسن أداء وأحسن ترتيلا وتجويدا فإنه يقدم الأحفظ؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه هو المعول وعليه العمل.وإذا عرفنا ما هو المراد بالأقرأ فq لو اجتمع عندنا رجلان أحدهما أقرأ، سواء أكان أكثر أخذا للقرآن أم أكثر ضبطا للقرآن، والآخر أفقه، بمعنى أنه يعلم أحكام الصلاة وما يكون فيها من أحكام السهو ونحوه، وما يطرأ فيها من الطوارئ التي يحتاج الأئمة فيها إلى جبر النواقص والزوائد، أو كان عالما بالأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات، فهل نقدم الأقرأ أو نقدم الأفقه؟
في ذلك قولان للعلماء: القول الأول: ذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، ووافقه جمع من المحدثين، وبه قال بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي رحمة الله على الجميع إلى أن الأقرأ لكتاب الله يقدم على الأفقه.القول الثاني -وهو قول الجمهور-: أن الأفقه يقدم على الأقرأ، فلو اجتمع حافظ للقرآن ومن هو أكثر منه علما وفقها في الدين فإنه يقدم الأفقه والأعلم بالحلال والحرام على الحافظ لكتاب الله عز وجل.واستدل الذين قالوا بتقديم الأقرأ بظاهر حديث أبي مسعود رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح،
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، ووجه الدلالة من هذا الحديث واضح، حيث قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة)،
قالوا: فقدم الأقرأ على الأعلم بالسنة فدل على أن القارئ مقدم على الفقيه.وأصحاب القول الثاني احتجوا بحديث أبي بكر رضي الله عنه في إمامته،
كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر، وكان أبو بكر رضي الله عنه من أعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،
ولذلك قالوا: قدم لفقهه لا لقراءته؛ لأن أبيا رضي الله عنه أعلم منه بالقراءة، ومع هذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فدل هذا على أن الأفقه مقدم على الأقرأ، وهناك أدلة أخرى، ولكن المعول على هذين الدليلين، فالأول حديث أبي مسعود رضي الله عنه، والثاني حديث أبي بكر في إمامته.
ومما علل به الجمهور لمذهبهم أن قالوا: إن الأقرأ نحتاج إليه للقراءة، والقراءة تتعلق بركن واحد وهو القيام.وأما بالنسبة للأفقه فنحتاج إليه في أركان الصلاة؛ فإن الصلاة قد يطرأ فيها السهو، فتطرأ فيها الزيادة ويطرأ فيها النقص، وتختلج الصلاة على الناس، فإذا كان الأفقه موجودا أو هو الإمام فإن ذلك أدعى لتعليم الناس، وهو أعرف وأعلم بما ينبغي فعله على الإمام في مثل هذه الأحوال الطارئة.فكأن الفقه يحتاج إليه لأركان، والقراءة يحتاج إليها لركن، فقدم ما يحتاج إليه لأركان على ما يحتاج إليه لركن واحد.والذي يترجح -والعلم عند الله- هو القول بتقديم الأقرأ لكتاب الله، وذلك لظاهر السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.ثانيا: أن سالما مولى أبي حذيفة -كما في الصحيح- كان يؤم المهاجرين والأنصار، وفيهم عمر رضي الله عنه وأرضاه، وأما إمامة أبي بكر رضي الله عنه فإنها لم تتمحض بإمامة الصلاة، وإنما قصد منها الإشارة إلى استخلافه رضي الله عنه وأرضاه، فخرج الدليل عن موضع النزاع، ولذلك يعتبر تقديم الأقرأ لكتاب الله هو المعول عليه، لكن ينبغي أن ينبه على أن الأقرأ يقدم إذا كان عنده إلمام بضوابط الصلاة، وليس المراد أن يقدم مطلقا حتى ولو كان جاهلا ببعض الضوابط، كالأمور التي تطرأ في السهو ونحوه.
فقول المصنف رحمه الله: [الأولى بالإمامة الأقرأ]،
أي: أقرأ الناس لكتاب الله عز وجل.والسبب في هذا ظاهر؛ فإن القرآن يشرف أهله، ويرفع من مكانتهم في الدنيا والآخرة،
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعمله)، وما أوتي أحد عطاء أشرف ولا أكمل -بعد الإيمان بالله عز وجل- من حفظ كتاب الله عز وجل والعمل بهذا الكتاب؛ فإنه نور في قلبه، ونور له في حشره، ونور له بين يدي ربه ولذلك إذا أنعم الله على العبد بهذا الكتاب فإنه يشرفه ويكرمه، ولم يبق إلا أن يكرم قارئ القرآن ما في قلبه، فيصونه -أو يصون نفسه- عن الأمور التي لا تليق بمثله.وقوله: [العالم فقه صلاته] هذا إضافة في بعض النسخ، فنقدم الأقرأ إذا كان عنده إلمام بفقه الصلاة، لكن لو كان عندنا إنسان يحفظ القرآن ولكنه يجهل أحكام الصلاة، ولربما يقع الناس في لبس في صلاتهم فحينئذ لا يقدم؛ لأنه قد يعرض صلاة الناس للفساد.
قال رحمه الله تعالى: [ثم الأفقه].(ثم) تقتضي الترتيب، فيقدم بعد الأقرأ الأفقه، والأفقه: أفعل،
من فقه الشيء: إذا فهمه.
ويقال: إن الفقه يختص بالمعضلات، ولا يكون إلا في المسائل الدقيقة، والفقه شرف ونعمة عظيمة ينعم الله عز وجل بها على من شاء من عباده،
كما قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
[الأدلة على تقديم الفقيه للإمامة]
أما الدليل على تقديم العالم بالحلال والحرام فحديث أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة).
والعلم بالسنة يكون على ثلاثة أضرب: الأول: أن يحفظ السنة ويكون من حفاظها، وهذا الذي يسميه العلماء الحافظ والمحدث، وهو الذي يسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظ الأحاديث، ويكون عالما بما قاله عليه الصلاة والسلام.
الثاني: أن يعرف، أو يفهم ويفقه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام التي تتضمنها هذه الأحاديث، ولكن حفظه للأحاديث قليل، وليس عنده حفظ للأحاديث، ولكن إذا جاء النص من الأحاديث يحسن فهمه، ويحسن تخريجه، ويعرف ما تعارض من الأحاديث وكيفية الجواب عنها، وكيف الخروج من إشكالها، فالأول حافظ للحديث، والثاني فقيه بالحديث.
الثالث: من جمع الله له بين الحسنيين فحفظ الأحاديث مع الفهم، فيكون عنده إلمام بما قال عليه الصلاة والسلام، بحيث يحفظ الأحاديث والآثار، وعنده شغف وتلهف لمعرفة ما ورد من هدي النبي صلى الله عليه وسلم القولي والفعلي والتقريري، ثم كذلك إذا جاءته السنة فإنه يعرف كيف يفهمها، وعلى أي محمل يحملها عليه، فهذه أشرف المراتب، وهي أعلى مراتب السنة، فيكون حافظا لها فقيها بما فيها من المعاني، وكل هذه المراتب مراتب شرف.وأما المرتبة الأولى -وهي مرتبة الحفظ-
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها -
وفي رواية: فوعاها- فأداها كما سمعها)،
فقوله: (نضر الله) قال بعض العلماء: هو من النضارة، وهي الحسن.وقال بعض العلماء: يحشر أهل الحديث وهم بيض الوجوه لهذا الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم،
أي: نضر الله له وجهه في الآخرة.
وقال بعض العلماء: بل الحديث على إطلاقه،
أي: نضر الله وجهه في الدنيا والآخرة.فمن حفظ حديثا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وبلغه فإنه داخل تحت هذا الفضل، فمن شاء فليستكثر، ومن شاء فليستقل،
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (نضر الله) وأطلق،
وقال بعض العلماء: لأهل الحديث نور في وجوههم بحفظهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.وأما فقه الأحاديث فهذا هو المقصود في النصوص،
كما قال الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [ص:29]، ولم يجعله للحفظ وحده، وإنما قال: {ليدبروا آياته} [ص:29].وقد عتب على بني إسرائيل حين حفظوا ولم يعملوا،
فقال تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} [الجمعة:5]، فالمهم مرتبة الفقه والعمل، وإذا جمع الله للعبد الحسنيين فقد حاز تلك الفضيلتين، فلو اجتمع من يحفظ الأحاديث ومن يحفظ القرآن فإننا نقدم من يحفظ القرآن، ثم لو اجتمع من يحفظ السنة أكثر ومن هو أقل منه حفظا للسنة فإننا نقدم من هو أحفظ للسنة.
[تقديم الأكبر في السن للإمامة عند التساوي في الحفظ والعلم]
قال رحمه الله: [ثم الأسن] الأسن: مأخوذ من السن،
والمراد بذلك: الأكبر سنا، فلو كان عندنا رجلان كلاهما حافظ للقرآن، وكلاهما فقيه أو عالم بالحلال والحرام من السنة، فحينئذ استوت مرتبتهما في الكتاب والسنة، فنرجع إلى التفضيل بالسن، والسبب في ذلك أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم منعقد على تفضيل الكبير وإكرامه وإجلاله،
كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا -
أي: ليس على هدينا الكامل- من لم يوقر كبيرنا)، فتوقير الكبار وإجلالهم ومعرفة قدرهم شأن الفضلاء، فلا يجلهم إلا الكرام ولا يحتقرهم إلا اللئام، فالكبير له حق على الصغير، ومن هنا قدمت الشريعة الإسلامية الكبير في السن حتى في الإمامة، فلو كان أحدهم أسن فإنه يقدم.
قال العلماء: الدليل على التقديم بالسن حديث مالك بن الحويرث، وذلك أن مالكا هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه رجل من قومه،
فجلسا قرابة عشرين يوما فقال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حليما رحيما رفيقا بأصحابه، فرأى أنا قد اشتقنا إلى أهلنا،
فقال: (ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما وليؤمكما أكبركما)، ووجه الدلالة أن مالكا رضي الله عنه والذي معه اجتمعا في الحفظ والفهم، فعلما وسمعا القرآن، وسمعا السنة، فاستوت مرتبتهما في العلم،
فقال: (وليؤمكما أكبركما).
قال العلماء: في هذا دليل على التقديم للإمامة بالسن، فلو اجتمعت مراتب المتقدمين علما بالقرآن والسنة فإننا نقدم بالسن.وهذا يدل على ما ينبغي من تقديم الكبار وإجلالهم،
وقال العلماء: تقديم الكبار له فضيلة، فإن الكبير -خاصة إذا كان كبير السن ضابطا لصلاته- يكون أخشع في الصلاة وفي القراءة؛ لأنه قريب من الآخرة، فيتأثر أكثر من تأثر الشاب الحدث.
ثانيا: أن كبير السن أكثر هيبة وأكثر إجلالا، فتهاب الناس المحراب، وتهاب المنبر، وتحس بهيبته ورهبته إذا تقدم كبار السن والأجلاء والعقلاء.
الأمر الثالث: أنهم أناس لهم بصيرة ولهم علم ومعرفة بالحوادث وبما يكون، فإذا وقع أمر ما على الناس واحتاجوا إلى من عنده تجربة ومعرفة وجدوا عند الإمام ما يعينهم على صلاح دينهم ودنياهم، فهذه كلها أمور تدل على حكمة الشريعة في تقديم الأكبر سنا، ولكن إذا استوت مرتبة العلم بكتاب الله والعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله تعالى: [ثم الأشرف].
الأشرف: مأخوذ من الشرف، والشرف يرجع إلى النسب؛ فإن الإنسان إذا شرف نسبه فكان من أهل البيوت الشريفة، وفضله الله عز وجل بنسبه فإنه يقدم، وهذا مذهب بعض العلماء، والصحيح أن النسب لا دخل له في التقديم بالإمامة، ولكن على سبيل الاستحباب، فلو وجد من ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وله شرف النسب فإنه يقدم،
كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش)، ففضل بالنسب،
وقالوا: لأنه لما يكون نسيبا فإن الناس تهابه وتجله وتكرمه، وكل ذلك المراد منه أن تتهيأ الأمور التي تعين على إجلال الإمامة وتشريفها وتشريف من يقوم بها.فالصحيح أن الشرف لا يقدم به،
أي: أنه لا يلزم بالتقديم به كما تقدم في القراءة وفي السنة وفي السن، فلو اجتمع عندنا من هو أتقى لله عز وجل، ومن هو أشرف فإننا نقدم الأتقى لله عز وجل،
قال علي رضي الله عنه لما نزل قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13] قال: ذهب النسب اليوم.ولكن قوله هذا معناه -كما قال العلماء-: ذهبت المفاخرة بالنسب، لكن لو وجد إنسان عنده دين وصلاح وأعطاه الله شرف النسب فإنه يقدم؛ لأن الله جمع له بين الحسنيين، وشرفه بهاتين الفضيلتين، فهو مقدم على من دونه.
[تقديم الأقدم هجرة والأتقى للإمامة]
قال رحمه الله تعالى: [ثم الأقدم هجرة].وهذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم،
في قوله: (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما) وهذه رواية صحيح مسلم، ومعنى (أقدمهم سلما): أي: إسلاما.ويمكن الآن أن ينظر إلى التزام الشخص واستقامته وهدايته، فلو كان كلا الشخصين حافظا للقرآن عالما بالسنة، ولكن أحدهما أقدم وأسبق في الالتزام وسنهم سواء؛ فإننا نقدم من نشأ في طاعة الله عز وجل على من هو دونه؛
ولذلك له شرف السبق والالتزام بدين الله عز وجل فحملوا عليه رواية الصحيح: (فأقدمهم سلما)،
وقال صلى الله عليه وسلم: (فإن كانوا في السلم سواء فأقدمهم هجرة) وفي رواية الأشج في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأقدمهم سنا) بدل (سلما)، وعليها حملت الرواية بتقديم الأسن، ثم بعد السن جاء التفضيل من جهة الهجرة، وكانت الهجرة -ولا زالت- سنة من السنن،
فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، ولذلك الهجرة باقية، وإذا كان أحدهم أقدمهم هجرة فإنه يقدم لسبقه إلى الإسلام، وابتلائه في ذات الله عز وجل، وصبره على هذا الابتلاء أكثر من غيره، وهذا يدل على أن التقديم كله من جهة الدين، وهذا شرف للإنسان من جهة الدين لا من جهة الدنيا.
قال رحمه الله تعالى: [ثم الأتقى].
الأتقى: أي: الأكثر تقوى لله عز وجل، وهذا بلا إشكال؛ لأن الله تعالى يقول: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13]، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم أشخاصا للإمامة ومفاضلته بين المتقدمين يدل على أن الأتقى لله عز وجل مقدم؛ فإن الأتقى لله عز وجل ينفع الله بقراءته، وينفع الله بمواعظه، وينفع الله بهديه واستقامته، بخلاف الفاسق الفاجر المتهالك المتهافت، فإنه قد يدعو الناس إلى الرذائل، وقد يستخف الناس بالحرام بسبب وجود هذا الفاجر والعياذ بالله، وقد ترى هذا الفاجر وهو إمام يصلي بالناس يفعل أمورا لا تليق بمثله، فيشين الإمامة ويجعل الناس في نفرة من دين الله عز وجل، ولكن الأتقى لله عز وجل على العكس من ذلك؛ فإنه لا يزال الإنسان يتمسك بشريعة الله عز وجل ويلتزم بدين الله حتى يتأثر به من يراه، ويحبه من يسمع قوله ويرى هديه،
كما قال سبحانه وتعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} [مريم:96] أي: سيجعل الله لهم في القلوب حبا.ولكن بالإيمان والعمل الصالح، فإذا كان الإمام تقيا نقيا يخاف الله عز وجل ورعا بعيدا عن الحرام فإن هذا أدعى لتأثر الناس به واقتدائهم به.
[العمل بالقرعة عند التنازع على الإمامة]
قال رحمه الله تعالى: [ثم من قرع].
أي: من أصابته القرعة، فلو كان عندنا جماعة تقدموا للإمامة حفظهم لكتاب الله على حد سواء، وكلهم عالم بالسنة بمرتبة واحد، وكلهم في سن واحد، والتزامهم واحد، وتقواهم وديانتهم وصلاحهم واحد فإننا حينئذ نرجع إلى التفضيل بالقرعة، والسبب في ذلك أن القرعة تخرج عند المشاحة، وقد عمل بها العلماء والأئمة والسلف رحمة الله عليهم، واعتبرها العلماء رحمهم الله حتى في مسائل عديدة مسائل القضاء، فإذا تشاح القوم فإن الناس سيفترقون بسبب أن كل طائفة تريد فلانا أن يتقدم، فتقع فتنة ويقع شر، ولذلك يقرع، أي: تكتب أسماؤهم، ثم بعد ذلك يؤخذ بالقرعة، فمن خرج اسمه فقد اختاره الله عز وجل، فيقدم على غيره.
[صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره]
قال رحمه الله تعالى: [وساكن البيت وإمام المسجد أحق إلا من ذي سلطان].
قوله: (وساكن البيت) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يؤمن الرجل في داره، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه)، فدل على أن صاحب البيت أحق،
وهذا فيه حكم ذكر العلماء رحمهم الله منها: أولا: أحقيته بالدار.
ثانيا: أنه ربما كان يحتاج في ضيافته للناس إلى أن يستعجل، وإذا تقدم الإنسان الذي ليس وراءه مثل هذه الأمور فقد يجحف برب البيت، فحينئذ يقدم للإمامة صاحب الدار، وشرط هذا ألا يكون فيه ما يمنع من إمامته، فإذا كان أهلا للإمامة قدم، وإلا تقدم من هو أهل على الصفة التي ذكرنا، إلا من ذي سلطان؛ فإن السلطان إمام للإنسان ولو في بيته، كالأمير ونحو ذلك، فإنه يلي أمره ويقدم؛ لأنه ولي أمر الإمامة العامة، فمن باب أولى أن يلي ما دون ذلك، وهذا هو الأصل، وبناء على ذلك يتقدم عليه، وفيه استثناء حديث السنن، فإذا حضر على بساطه، أو في بيته يتقدم عليه،
وقال العلماء: ينبغي لصاحب البيت إذا رأى من هو أعلم وأفقه منه أن يقدمه ويشرفه بالإمامة، وهو مثاب على ذلك؛ لأنه من إنزال الناس منازلهم.
[إمام المسجد أحق بالإمامة من غيره]
قال رحمه الله تعالى: [وإمام المسجد أحق إلا من ذي سلطان].
إمام المسجد هو الذي يسميه العلماء: الإمام الراتب.والإمام الراتب سواء أكان من قبل ولي الأمر كما يحصل الآن، حيث يكون الإنسان مرتبطا بالإمامة ومعينا فيها، فهو أحق ويقدم على غيره، أم كان راتبا لأن أهل الحي أحبوه، ورضوا به أن يتقدمهم، فهو إمام راتب، فيقدم ولا يتقدم عليه أحد إلا بإذنه.أما الدليل على تقديمه فإن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- لما تأخر في قباء ليصلح بين حيين من بني عوف جاء إلى المسجد وقد تقدم أبو بكر يصلي، فسبح القوم فلم يلتفت أبو بكر -وكان رضي الله عنه خشوعا في صلاته مقبلا-، فلما أكثروا عليه التشويش التفت فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب يتأخر، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، فتأخر رضي الله عنه وأرضاه.وهذا لمكان أحقية النبي صلى الله عليه وسلم مع النبوة ومع الولاية، وأحقيته كذلك بالإمامة الراتبة ولذلك استنبط العلماء رحمهم الله أنه إذا حضر الإمام الراتب في الركعة الأولى حق له أن يتقدم، وهذا نص عليه غير واحد من السلف، فلو حضر أثناء إمامة هذا المستخلف الذي وضع من قبل الناس، أو تقدم من نفسه وحضر الإمام الراتب فمن حقه أن يؤخره ويتقدم ويتم بالناس صلاتهم، وهذا مذهب طائفة من العلماء، وتدل عليه السنة.وذهب بعض العلماء إلى تخصيص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم،
وذلك لقول أبي بكر: (ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
قالوا: كان يتأول آية الحجرات.والصحيح أنه على ظاهره، وإمام الحي إذا حضر فإن إمامة من دونه إنما كانت لضرورة وحاجة، وما أبيح للضرورة والحاجة يبطل بزوالها، فيتأخر ويتقدم الإمام الراتب، وهذا إذا كان في الركعة الأولى، أما إذا كان في أثناء الركعة الثانية والثالثة فمن حقه أن يتقدم، ثم الناس يثبتون بعد تمام صلاتهم، ويتم كصلاة الخوف، ولكن نظرا لجهل كثير من الناس وعدم معرفتهم بالسنن وحدوث التشويش، إذ قد يحدث هذا إرباكا في المسجد، فحينئذ إذا اقتصر الإمام وبقي في آخر القوم فلا حرج، ولكن لو أراد الفضل فله أن يتقدم؛ لأن صلاته بالناس لها فضل، ولا إيثار في الفضل؛ لأنه إذا تأخر فقد آثر غيره بهذا الفضل، ولذلك قالوا: لو رضي أن يتنازل عن هذا فلا حرج.
وقوله: [إلا من ذي سلطان] هو لمكان الولاية كما قلنا.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (120)
صـــــ(1) إلى صــ(18)
[استحباب بعض العلماء لبعض صفات الإمام]
قال رحمه الله تعالى: [وحر وحاضر ومقيم وبصير ومختون ومن له ثياب أولى من ضدهم].
قوله: [وحر].هذه من باب الأفضلية، فالحر يقدم على العبد والرقيق؛ لأن الرق يكون بسبب الكفر، كما هو معلوم أنهم يؤخذون في الجهاد ويضرب عليهم الرق، فلمكان النقص الموجود في الرقيق يقدم عليه الحر، فهو أولى، ولكن ليس هناك نص، بل لو كان العبد حافظا لكتاب الله عز وجل، أو عالما بالسنة فإنه يقدم ولو كان مولى أو عبدا،
خلافا لمن قال: إنه لا يؤم العبد، وهذا قول ضعيف،
والصحيح أن القرآن يقدمه وعلمه يقدمه ولذلك لما سئل بعض السلف رحمة الله عليهم عن إمامة العبد قال: سبحان الله! ومن لا يصل وراء عكرمة؟ ثم ذكر غيره ممن كان من الموالي كـ نافع وغيره، فمن الذي لا يستطيع أن يصلي وراء هؤلاء الأئمة الأجلاء، فالإسلام وإن كان قد ضرب الرق عليهم فإن هذا لا يعني عدم إعطائهم حقوقهم إذا كانوا أهلا لهذه الإمامة بحفظهم لكتاب الله عز وجل وعلمهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وفقههم في الدين، فإنهم يقدمون ولو كان فيهم شائبة الرق.
وقوله: [وحاضر].
قالوا: يقدم الحاضر على البادي.والسبب في ذلك غلبة العلم في الحاضر أكثر من البادي، ولكن لو كان من بالبادية أعلم وأفقه فإنه يقدم، والصحيح أنه لا تمنع إمامة البادي إذا كان عالما أو فقيها أو عارفا بالسنة؛ لأن العبرة في الإمامة بالأوصاف التي ذكرناها، وأما ما ذكره العلماء رحمة الله عليهم من هذه الأوصاف فهذه كلها أمور اجتهادية،
والنص الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم سلما، فإن كانوا في السلم سواء فأكبرهم سنا) يدل على التفضيل بهذه الأمور، وأما ما عداها فإنه لم يرد به نص مما اجتهد به العلماء رحمهم الله، كالعبد والحاضر ونحو ذلك، فكل هذا مما لا نص فيه، بل قد تجد غير الحاضر أكثر ديانة واستقامة، وأبعد عن المعاصي والفواحش من غيره، وأكثر تمسكا بالدين، وقد يكون على فطرته التي فيها استقامة في الأخلاق، وكمال في العقل، فالعبرة بالديانة والاستقامة، بغض النظر عن كون هذا حاضرا أو غير حاضر، فهذا كله لا تأثير له مع وجود الدين والاستقامة والعلم بأحكام الصلاة.
وقوله: [ومقيم].
قالوا: يقدم المقيم على المسافر، والسبب في ذلك أن المسافر سيقصر الصلاة،
وبناء على ذلك قالوا: ربما اختلجت على الناس صلاتهم؛ لأنه سيصلي ركعتين في الرباعية، فإذا تقدم بالناس وصلى بهم فإنهم يظنون أنه وهم فربما سبحوا له، وربما سلم بعضهم معه؛ لأن الناس بعضهم فيه غفلة فيدخل في الصلاة ولا يعي عدد ما صلى،
فإذا قال الإمام: (السلام عليكم) ظن أنه على الكمال فسلم معه،
ولذلك قالوا: يقدم المقيم على المسافر.وكل ذلك من باب الاجتهاد، ولكن المسافر إذا كان على علم، وكان حافظا لكتاب الله عز وجل، وأحب القوم أن يقدموه فإنه يقدم.
وقوله: [وبصير].
قالوا: البصير يقدم على الأعمى.وهذا لا نص فيه، وإنما هو اجتهاد من العلماء رحمة الله عليهم،
ولكن قالوا: إن وجد من هو أعمى ومن هو بصير، فإن البصير ربما يكون أرفق بالناس.ولكن الحقيقة أن العبرة بالديانة والاستقامة، وأما البصير والأعمى فهما على حد سواء؛ فإنه لا يفضل بينهما إلا بنص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكم من أعمى قد كف بصره ولكن استنارت بصيرته، والعمى عمى القلب، ولذلك إذا جمع الله للإنسان الفقه في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مقدم ولو كان كفيف البصر.
وقوله: [ومختون].
قالوا: يقدم على الأقلف وهو غير المختون؛ لأن غير المختون تنحبس النجاسة في الموضع المعروف، ولذلك يكون المختون أكمل طهارة من غير المختون، وهذا ذكره العلماء رحمة الله عليهم من باب الاحتياط للصلاة، وعندهم كلام في إمامة الأقلف، ولكن ليس هناك نص على بطلانها وعدم صحتها، والصحيح أنه يجوز أن يصلي بالناس،
ومثاله: أن يسلم رجلان، ثم أحدهما اختتن، وكلاهما حفظ القرآن، أو حفظا مع بعضهما من كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فكان علمهم على حد سواء، ولكن أحدهم اختتن والثاني لم يختتن،
فقالوا: نقدم المختون.وفي مثل هذا يستقيم، فيقدم المختون على غير المختون؛ لأن هذا تقديم من جهة الدين، والسبب في ذلك أنه التزم بشرع الله أكثر من غير المختون؛ فإنه بادر واختتن، ولذلك يكون هنا التقديم من جهة الدين، ويعتبر زيادة في تقوى الله عز وجل، والتزاما بحدود الله سبحانه وتعالى.
وقوله: [ومن له ثياب].لأن شرط صحة الصلاة ستر العورة، فإذا وجد العاري وغير العاري فإن الذي يؤم هو الذي قد ستر عورته، ولا يتقدم العاري؛ لأنه إذا تقدم انكشف، وتكون إمامته سببا في انكشافه ولذلك يتقدم غير العاري على العاري.
وقوله: [أولى من ضدهم].ولا يشترط أن يكون العري كاملا، فلو كان أحدهم عنده ثوب كامل، وآخر عنده ثوب يستر العورة، والثاني عنده ثوب إلى نصف العورة فإننا نقدم من كمل ستر عورته على من هو دونه.
[حكم الصلاة خلف الكافر والفاسق]
قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح خلف فاسق ككافر].بعد أن بين لنا رحمه الله من الذي يقدم للإمامة ومراتب الأئمة والمفاضلة بينهم شرع رحمه الله في حكم إمامة من لا تصح الصلاة وراءه،
فقال رحمه الله: [ولا تصح خلف فاسق ككافر].
والفاسق: مأخوذ من قولهم: فسقت الرطبة، أو الثمرة عن قشرها إذا خرجت،
فأصل الفسق في لغة العرب: الخروج، وسمي الفاسق فاسقا لأنه خارج عن طاعة الله -والعياذ بالله-، وذلك بعصيانه والتمرد عليه سبحانه وتعالى،
والفسق يكون على حالتين: الأولى: أن يصل بالإنسان إلى الكفر والعياذ بالله، فإن الكافر يوصف بكونه فاسقا لأنه على أعلى درجات الفسق والخروج عن طاعة الله عز وجل.
الثانية: أن يكون دون حد الكفر، بمعنى أن فسقه لا يخرجه من الإسلام، ولذلك تجد في القرآن وصف الكفار بالفسق؛ لأنهم خرجوا عن طاعة الله عز وجل على أكمل ما يكون عليه الخروج.فأما إذا كان الإمام كافرا فالصلاة لا تصح وراءه بإجماع العلماء؛ لأن إمامة الكافر لا تجوز، ولا يجوز تقديمه، ومذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أنهم يلزمون بإعادة الصلاة فلو أن كافرا قدم للصلاة بالناس ولم يعلموا إلا بعد خمس سنوات فإنهم يلزموا بإعادتها خمس سنوات، ووقع هذا في بعض الأماكن، حيث قدموا بعض الكفار فصلوا وراءه أكثر من خمس سنوات، ثم تبين أنه كافر فأعادوا صلاتهم خمس سنوات، وهذا يكون بالترتيب في الفروض على الصفة التي ذكرناها في قضاء الفوائت.فلا تجوز إمامة الكافر، ولا يجوز تقديمه، ولا تجوز الصلاة وراءه.
وبناء على ذلك قال رحمه الله: [ولا تصح خلف فاسق ككافر].والفاسق الذي يرتكب الكبائر أو يصر على الصغائر ضد العدل،
فالعدل: الذي لا يرتكب الكبيرة ولا يصر على الصغيرة.
كما قيل: العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فالذي يرتكب الكبائر ولو كبيرة واحدة، أو يصر على الصغائر ويداوم عليها يوصف بكونه فاسقا، فلا تصح الصلاة وراءه، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، فلو أن إنسانا فاسقا تقدم وصلى بالناس، فهل صلاتهم وراءه صحيحة أو ليست بصحيحة؟
فللعلماء قولان فيها: القول الأول: الصلاة وراء الفاسق صحيحة، ما دام أن فسقه لم يخرجه عن الإسلام، وبه قال جمهور العلماء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية وبعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
القول الثاني: الصلاة وراء الفاسق باطلة لا تصح إمامته، ولا تصح الصلاة وراءه، وهو مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه.واستدل الذين قالوا بصحة الصلاة وراء الفاسق بأدلة، أولها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)،
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإن أخطأوا فلكم -
أي: لكم صلاتكم كاملة- وعليهم): أي عليهم خطؤهم.فبين أنه لا علاقة للإنسان بفسق الإمام أو صلاحه، فالعبرة بصلاتك،
فقال: (يصلون لكم، فإن أصابوا -أي: إن كانوا صالحين- فلكم ولهم -
أي: الصلاة على ما هي عليه- وإن أخطئوا -أي: كانوا على خطأ- فلكم -أي: صلاتكم لكم وعليهم خطؤهم-.وهذا الحديث نص واضح في صحة إمامة الفاسق.
الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا ذر رضي الله عنه أن يصلي مع الجماعة،
وقال: (صلها معهم فإنها لك نافلة)، كما في الصحيح، ووجه الدلالة أنه صحح صلاته وراء الفساق، وأثبت كونها نافلة؛ إذ لو كانت باطلة لم تكن نافلة ولا فريضة.
الدليل الثالث: هدي السلف وإجماع السلف الصالح رحمة الله عليهم، فإن ابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عن الجميع صليا وراء الحجاج، ومع ذلك لم يحكم أحدهما ببطلان الصلاة وراءه، ولم ينكر عليهما أحد، فدل على أن الصلاة وراء الفاسق صحيحة.
الدليل الرابع من العقل: قالوا: الفاسق صلاته في نفسه صحيحة،
أي: مجزئة لنفسه، فمن باب أولى أن تجزئ إمامته لغيره.
وتوضيح ذلك أنهم قالوا للحنابلة: الفاسق لو صلى الظهر وصلى العصر فهل تطالبونه بإعادة الظهر والعصر؟ قالوا: لا.قالوا: ما دام أن صلاته صحيحة في حق نفسه فمن باب أولى أن تصح في حق غيره.أما بالنسبة لمن قال بعدم صحة الصلاة وراء الفاسق ففي الحقيقة ليس لهم دليل واضح صحيح صريح يدل على بطلان الصلاة وراء الفاسق.ولكن لهم أصول،
منها: أنه إذا تقدم الفاسق وأم بالناس فإنه لا يؤمن أن يحملهم على المحرمات، أو يدعوهم إلى المنكرات، ثم إن هذا فيه انتقاص من مكانة الإمامة، وامتهان لهذه الإمامة التي تقوم عليها أعظم شعائر الدين بعد الشهادتين وهي الصلاة، ولهم في ذلك اجتهادات، لكن الصحيح ما ذهب إليه الجمهور وهو أن الصلاة وراء الفاسق صحيحة، وأن الفاسق له صلاته، فكما أن صلاته صحيحة في حق نفسه فمن باب أولى أن تصح في حق غيره.
فقوله رحمه الله: [ولا خلف فاسق ككافر] جمع به رحمه الله بين هذه المسائل: أولا: عدم صحة الصلاة وراء الفاسق، وهذا مذهب مرجوح.
ثانيا: عدم صحة الصلاة وراء الكافر، وهذا يكاد يكون إجماعا.ثالثا: الدليل في قوله: [خلف فاسق ككافر] قياس.
أدلة تقديم الفقيه للإمامة
[حكم صلاة الرجال خلف امرأة أو خنثى]
قال رحمه الله تعالى: [ولا امرأة وخنثى للرجال] أي: ولا تصح الصلاة وراء امرأة،
أي: الرجال أن تكون إمامتهم امرأة، فلا تجوز إمامة المرأة للرجال، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، لكن شذ بعض العلماء -وينسب الشذوذ إلى الطبري وداود -
فقالوا: يجوز أن تؤم المرأة الرجال.وهذا قول شاذ، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)،
وقال في الحديث: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فخير الأمور الصلاة، فإذا لم تصح إمامتها فيما هو دونها، وورد الوعيد فيما دونها فمن باب أولى في الصلاة نفسها، فلا تقدم المرأة للإمامة بالرجال، ولأنها إذا تقدمت بالرجال فتنت أو فتنت، أو اجتمعت الفتنتين، فكانت الإمامة فتنة لها في نفسها وفتنة لغيرها، فلا تتقدم المرأة على الرجال.
قوله: [وخنثى] كذلك الخنثى؛ لأن الخنثى محكوم بكونه أنثى، ولا يؤم الرجال، وإنما يؤم من هو مثله، أو يؤم من هو دونه وهي المرأة.
الأسئلة
[الفرق بين الإمامة والأذان من حيث الفضل]
q أيهما أفضل: الإمامة أم الأذان؟
a اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك: فمذهب الجمهور أن الإمامة أفضل، وذلك لأن الإمامة هي المقصد، والأذان وسيلة للإمامة والصلاة جماعة، ولأن الإمامة يشترط فيها من الفضائل ما لا يشترط في الأذان، ويشترط لصحة الصلاة نفسها ما لا يشترط لصحة الأذان، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أم، وأم من بعده الخلفاء الراشدون، وكذلك أيضا لم يحفظ عنه عليه الصلاة والسلام نص صحيح بتقديم الأذان على الإمامة، ولهذا قالوا بتقديم الإمامة على الأذان.القول الثاني: الأذان أفضل.وهو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه اختارها جمع من أصحابه، وقيل: إنها هي المذهب، فالأذان أفضل من الإمامة.واحتجوا بما أثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لولا الخلافة لأذنت، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)، وهو حديث أبي داود وأحمد في مسنده عن أبي هريرة.قالوا: هذا يدل على أن الأذان أفضل من الإمامة، وقال صلى الله عليه وسلم: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا حجر ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة)، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أطول الناس أعناقا يوم القيامة المؤذنون) قالوا: هذا يدل على فضل الأذان، وأنه أفضل من الإمامة.والصحيح أن الإمامة أفضل من الأذان؛ لأن الله اختارها لنبيه عليه الصلاة والسلام، ولم يحفظ في حديث واحد أنه تولى عليه الصلاة والسلام الأذان.وأما كونه يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم الدلالة على فضل الأذان فإن هذا لا يدل على أنه أفضل من الإمامة، ألا ترى الصلوات النوافل وردت فيها أحاديث بفضلها، ولم يرد بخصوص صلاة الفرائض كصلاة الفجر والعشاء والمغرب مثل الأحاديث التي وردت في النوافل، ولذلك الإمامة مقدمة من وجوه عديدة، فإن الإنسان إذا نظر إلى ما للإمامة من مسئولية ومن تحمل أعباء أدرك ذلك، ولما فيها من الفضل، كما قال بعض السلف: من صلى بالناس كتب له أجره.يعني أن الإمام له أجر من يصلي وراءه قلوا أو كثروا، وهذا فضل عظيم، مع ما في مواعظهم وتذكيرهم؛ فإن الإمام يذكر الناس في الخطب، وفي المواعظ العابرة، وفي المناسبات المقتضية لذلك، وهذا التذكير فيه حياة للقلوب، ودلالة على الخير، وانشراح للصدور، وهداية إلى سبيل الله عز وجل، والله تعالى يقول: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله} [فصلت:33]، فإن (من): بمعنى (لا)، أي: ولا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله.وقد يقول قائل: إن هذه وردت في المؤذن! فنقولك هذا قول مرجوح، وإنما هي عامة.وعلى هذا نقول: المؤذن داع إلى شيء معين وهو الصلاة، والإمام الخطيب داع إلى أشياء، بل داع إلى شعائر الإسلام كلها، فإن قلت بتفضيل المؤذن لكونه يدعو إلى الصلاة فإن الإمام يقوم بها، وإن قلت إنه يدعو فإن الإمام يدعو إلى الصلاة، ويدعو إلى ما هو أعظم وأجل، كدعوته إلى توحيد الله عز وجل، وخطبته في الناس وتذكيره، فالذي يظهر -والعلم عند الله- أن القول بترجيح الإمامة أولى وأحرى، وأن الإمامة لها فضل عظيم.وقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين) دليل لنا لا علينا؛ فإن قوله: (اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين) يدل على فضل الإمام؛ لأنه لعظم مسئوليتها صرف الدعوة إلى أن يعينهم على أدائها حتى يكون أجرهم أكثر، وقال عليه الصلاة والسلام: (واغفر للمؤذنين) فلخفة أعباء الأذان كان الدعاء لهم بما يناسبهم، وقال بعض العلماء: إنما هو دعاء بما يناسب الحال لا علاقة له بالتفضيل، والذي يظهر -والله أعلم- أن تفضيل الإمامة أولى وأحرى، وذلك لما ذكرناه من الوجوه التي بنيت على النقل والعقل والقول بتفضيلها، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس.والله تعالى أعلم.
[حالات المأمومين أثناء سهو الإمام]
q إذا قام الإمام لركعة خامسة فهل المسبوق بركعة يصلى معه الخامسة وهي له رابعة، أم ماذا يفعل؟
a إذا قام الإمام لخامسة فحينئذ الناس على ثلاثة أقسام: القسم الأول: من منهم تامة صلاته ويعلم بخطأ الإمام، فحينئذ يجب عليه أن يبقى في التشهد، ويترك الإمام يتم الخامسة ويتشهد معه ويسلم، أي: يتشهد ويطيل في الدعاء حتى ينتهي الإمام من الركعة الخامسة الزائدة، فأنت معذور لأن الواجب عليك أربع، والإمام معذور لأنه مأمور إذا شك أن يتم الخامسة، وأما المأموم فيبقى على ما هو عليه وصلاته صحيحة.القسم الثاني: من يكون غير عالم بزيادة الإمام، فتلزمه متابعة الإمام ولا يجوز له أن يبقى؛ لأنه ملزم بالمتابعة حتى يتيقن أنها الخامسة فيجلس كالطائفة الأولى، وبناء على ذلك إذا لم تعلم هذه الزيادة، ولم تدر هل زاد أم لم يزد.فالأصل أنك تتابع، فتصلي معه، فإن تبين أنها خامسة فصلاتك صحيحة؛ لأنك كالإمام لمكان العذر بالسهو.القسم الثالث: هم الذين سبقوا بأجزاء من الصلاة، أو بكل الصلاة، فهؤلاء يتابعون الإمام ويصلون معه الركعة الخامسة؛ لأنهم مأمورون بالاقتداء بالإمام، والإمام معذور فيما زاد، وبناء على ذلك: ركعة الإمام صالحة له وصالحة لمن وراءه، فلو أنك علمت أنها زائدة وقد فاتتك ركعة دخلت وراءه وأتممت وسلمت معهم، فتسلم معه لأنه قد تمت لك أربع ركعات، فأنت مأمور بالصلاة أربعا، ومأمور بمتابعة الإمام، فتابعت الإمام فيما يشرع لا فيما يمنع، والطائفة الأولى إنما تعذرت عليها المتابعة لأنها في الممنوع لا في المشروع، والله تعالى أعلم.
[حكم الصلاة في مسجد فيه قبر]
q ما حكم الصلاة في المسجد الذي به قبر؟
a لا تجوز الصلاة في القبور، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى، واتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: يحذر مما صنعوا.أي: يحذر أمته أن تصنع كما صنعت اليهود والنصارى.فإن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح يبين لنا أنه لا يجوز اتخاذ القبور مساجد، فلا تجوز الصلاة على قبر، ولا عند قبر، ولا بين القبور، وكذلك لا تجوز الصلاة إلى القبور، كأن تكون جدرانها متصلة بالمساجد.وهذا القول قال به جماهير السلف رحمة الله عليهم، وقال جمع منهم بعدم صحة الصلاة، وأنها باطلة ولو صلى في المقابر فإن صلاته غير صحيحة.ويستثنى من هذا الصلاة على الجنازة في القبر إذا دفن وقبر، فقال بعض السلف بجواز الصلاة على الميت بعد قبره، ثم اختلفوا في المدة فقال بعضهم: في حدود ثلاثة أشهر.وقال آخرون: في حدود ستة أشهر.وقال آخرون: ما لم يبل.فهي ثلاثة أقوال للعلماء الذين يقولون بجواز الصلاة على القبر بعد دفنه، وإن كان الأقوى والأولى من ناحية الدليل أن الصلاة على القبر مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لما صلى على المرأة التي كانت تقيم المسجد قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم)، فهذا يقتضي التخصيص كما يقول الجمهور، حيث قال: (ينورها بصلاتي)، وهذه رواية مسلم، لكن لو أن إنسانا صلى على قبر يتأول قول من يقول بالجواز فلا حرج.فالشاهد أنه لا تجوز الصلاة في المسجد الذي فيه قبر لعدم صحة الصلاة فيه، ولأنه ذريعة إلى الشرك والعياذ بالله؛ فإن الصلاة على القبور أو عند القبور تفضي إلى تعظيمها، وقد حدث الشرك أول ما حدث في قوم نوح بتعظيم الصالحين، وذلك حينما صوروا صورهم، ثم جاء من بعدهم جيل فعبدوهم والعياذ بالله، وكان السبب في عبادتهم تعظيم الأوائل لهم.فالصلاة عند القبر تعظيم له، فقد يعتقد أن هذه البقعة لها فضل ولها مزية، ولذلك إذا فتح هذا الباب للجهال فإنهم يسترسلون ويقعون في الشرك -والعياذ بالله-، كما هو واقع في بعض الأماكن -نسأل الله السلامة والعافية-؛ فإنه لما بنيت المساجد على القبور طافوا واستغاثوا بها، وذبحوا ونذروا لها -نسأل الله السلامة والعافية- حتى إنهم يعظمونها كتعظيمهم لبيت الله الحرام -نسأل الله السلامة والعافية-، بل إن بعضهم لو دعي إلى تعظيم شيء من هذه الأمور فإنه قد يعظمها أكثر من البيت، فلو دعي للحلف عند قبر فلان من الصالحين ودعي للحلف عند الكعبة لربما وجد أن الحلف عند قبر الصالح أشد وأعظم من الحلف عند البيت، وقيل لرجل: أتحلف بالله؟ فحلف بالله أيمانا مغلظة أنه ما فعل.فقيل له: احلف بفلان الصالح؟ قال: لا.فأصبح -والعياذ بالله- تعظيمه لهذا أكثر من تعظيمه لله، وهذا بسبب الجهل، وبسبب التساهل في الذرائع التي تفضي إلى الشرك، فلا تجوز الصلاة في القبور أو عندها أو الصلاة إليها.والله تعالى أعلم.
[حكم من صلى بالناس وهو محدث وعلم ذلك بعد الصلاة]
q لو صلى الإمام بجماعة وهو محدث، ولم يعلم إلا بعد انتهاء الصلاة، فهل يخبر المأمومين ويعتبر من واجبات الإمامة بيان هذا الأمر؟
a إذا صلى الإمام وهو محدث ثم تبين له بعد الصلاة وبعد تمام الصلاة أنه كان محدثا فصلاة من وراءه صحيحة، ولا يلزمه أن يخبرهم، بل يقتصر على الوضوء إذا كان محدثا حدثا أصغر، أو الغسل وإعادة الصلاة إن كان محدثا حدثا أكبر، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه وأرضاه -كما روى مالك في الموطأ- أنه صلى بالناس الصبح -أي: الفجر- ثم انطلق إلى مزرعة له بالجرف -وهي من ضواحي المدينة- فلما جلس على الساقية -أي: على القنطرة التي فيها الماء- رأى أثر المني على فخذه، فقال: ما أراني إلا أجنبت وصليت وما اغتسلت.وهذا بعد طلوع الشمس، ثم اغتسل رضي الله عنه، وفي رواية قال: إنا لما أصبنا الودك لانت العروق.اغتسل رضي الله عنه وصلى، ولم يأمر الناس بالإعادة.قالوا: وهذا القول هو قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وله أصل في حديث أبي هريرة الذي ذكرناه في صحيح البخاري: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) أي: لكم صلاتكم صحيحة وعليهم خطؤهم.ولكن لا يجوز للإمام أن يتقدم بالناس وهو محدث، ولا يجوز للمأموم أن يأتم به إذا علم حدثه، أو رأى عليه نجاسة، فإنك إذا رأيت حدثه وعلمت كونه محدثا، أو رأيت الإمام وقد دخل وقضى حاجته وانتقض وضوؤه، أو سمعت منه ما يوجب انتقاض وضوئه، ثم رأيت منه الذهول والنسيان، فتقدم بالناس وصلى فلا يجوز لك أن تأتم به، وإن ائتممت به فذهب طائفة من العلماء إلى أن الصلاة باطلة ولا تصح.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (121)
صـــــ(1) إلى صــ(21)
شرح زاد المستقنع - فصل: الأولى بالإمامة [2]
من المسائل المتعلقة بالإمامة: من هم الذين تصح خلفهم الصلاة والذين لا تصح خلفهم الصلاة؟ وهنا بيان للذين لا تصح الصلاة خلفهم،
وهم: الصبي غير البالغ، إلا أن فيه خلافا والصحيح الجواز،
ومنهم: الأخرس والعاجز عن الركوع أو السجود أو القيام أو القعود.وتصح الصلاة خلف من به سلس البول بمثله، ولا تصح خلف محدث ولا متنجس، ولا أمي لا يحسن القراءة.وهناك من تكره إمامتهم في الصلاة ذكرهم العلماء في باب الإمامة.
[تابع أحكام الإمامة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا تصح خلف فاسق ككافر، ولا امرأة وخنثى للرجال، ولا صبي لبالغ].ما زال المصنف رحمه الله يبين لنا الأمور التي تؤثر في الإمامة، فبين رحمه الله من لا تصح إمامته، وذكرنا عدم صحة إمامة الكافر بالمسلمين وبينا وجه ذلك، ثم تعرض رحمه الله لإمامة الفاسق، وبينا أن مذهب الحنابلة رحمة الله عليهم وجمهور أهل العلم على أن الصلاة خلف الفاسق صحيحة؛
لثبوت الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)،
أي: لكم صلاتكم كاملة وعليهم خطؤهم.
وقال العلماء: إن الفاسق تجزئه في حق نفسه، ولذلك تصح إمامته لغيره.وبينا أن السلف الصالح رحمة الله عليهم كانوا يصلون خلف الفساق وما كانوا يبطلون الصلاة، كما هو فعل أنس بن مالك وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع.ثم بعد ذلك ذكرنا إمامة المرأة للرجال،
وقلنا: لا تصح إمامة المرأة للرجال، وأما إمامتها للنساء فللعلماء فيها قولان.
وأما الدليل على أن المرأة لا تؤم الرجال: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، فالنساء جبلن على الضعف الذي هو كمال لهن في أمورهن الخاصة، وجعل الله هذا الضعف رفقا بهن وبغيرهن، وفيه خير لهن ولغيرهن، ثم جعل في الرجل ما لم يجعله للمرأة من إمامة الرجال لافتتان الرجال بها وافتتانها بهم، ولذلك يضيع المقصود من الإمامة والصلاة من قصد القربة إلى الله عز وجل، وبناء على ذلك لا تصح إمامة المرأة للرجال، وشذ داود والطبري رحمة الله عليهما، فقالا بصحة إمامة المرأة للرجال،
وذلك لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).وهذا القول ضعيف لمعارضته للسنة الصحيحة التي دلت على عدم ولاية المرأة، والإمامة ولاية، والصلاة كذلك من أعظم الأمور، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة).
وأما بالنسبة لاحتجاجهم بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فمحل نظر؛ لأن لفظ (القوم) يطلق بمعنى الرجال،
كما في قوله تعالى: {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء} [الحجرات:11]، فقيل: إن القوم يطلق ويراد به الرجال خاصة،
بدليل عطف النساء عليه بعد ذلك بقوله تعالى: (ولا نساء من نساء)، فلم تجتزئ الآية بذكر القوم حتى خصصت ذكر النساء، فدل على أن القوم يطلق ويراد به الرجال.
وأيضا قول الشاعر: فما أدري ولست إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء؟
فقوله: أقوم آل حصن أم نساء؟
أي: هل هم رجال أم نساء؟ فدل على إطلاق القوم وإرادة الرجال وحدهم، وهذا هو لسان العرب الذي نطق به القرآن، وكذلك نطقت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.وبناء على ذلك لا تؤم المرأة الرجال، ولكن يردq هل المرأة تؤم النساء؟
في هذه المسألة قولان: فقالت الحنابلة والشافعية رحمة الله عليهم: إن المرأة تؤم النساء.
واحتجوا بحديث أبي داود في سننه وعند أحمد في مسنده: (أن أم ورقة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكانت امرأة صالحة- أن تؤم أهل دارها، فأذن لها -عليه الصلاة والسلام- بذلك)، وكان يؤذن لها رجل أعمى كفيف البصر،
قال الراوي: فلقد رأيته قد سقط حاجباه فكان يؤذن لها، ثم تؤم أهل دارها، فدل على أنها تؤم النساء مثلها.وقالت الحنفية والمالكية رحمة الله عليهم: إن المرأة لا تؤم النساء.وهذا قول ضعيف،
وقد احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (آخروهن حيث أخرهن الله)، وهو حديث ضعيف.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)،
فقالوا: إن الإمامة تكون فضلا، ولكن على هذا الوجه تكون بخلافه فتعارض مقصود الشرع من تأخير النساء.والصحيح جواز إمامة المرأة للنساء، وبناء على ذلك فلا حرج أن تصلي المرأة بمثلها من النساء.ثم قال رحمه الله: [ولا صبي لبالغ].
أي: لا تصح إمامة الصبي للبالغ.
والصبي لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون غير مميز، وهو الصبي الطائش الذي لا يضبط أمور الصلاة ولا يعيها ولا يعقلها، فهذا لا يؤم البالغين بالإجماع.
والحالة الثانية: أن يكون الصبي يميز،
والمميز للعلماء فيه ضابطان: فمنهم من يضبطه بالسن فيقول: هو الذي بلغ سبع سنين، وهو المميز، فمن كان دون سبع سنين فليس بمميز.
واحتجوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع)، فدل هذا الحديث على أن سن السبع هو سن التمييز، وأن الصبي يؤمر بالصلاة لسبع، وما دون سبع لا يؤمر لها، فدلنا على أن السبع فاصل بين التمييز وعدمه.وهناك قول ثان ضبط الصبي المميز بضابط الحال،
فقالوا: الصبي المميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب.
أي: إذا كلمته فهم ما تريد،
وإذا أجابك أحسن الجواب على الوجه الذي تطلب والفرق بين القولين: أن الصبي قد يكون قوي الذكاء فيحسن الجواب والخطاب وعمره خمس سنوات، أو ست سنوات؛ فحينئذ -على القول الأول- ليس بمميز، وعلى القول الثاني هو مميز، والصحيح اعتبار السن.
فقوله: [ولا صبي لبالغ] أي: ولا تصح إمامة الصبي، والصبي من هو دون البلوغ، ومحل الخلاف في المميز، واختلف العلماء لو أن صبيا كان حافظا لكتاب الله عز وجل، وأم البالغين فهل تصح إمامته أو لا تصح؟ وجمهور العلماء على أن الصبي لا يؤم البالغين، وأنه لا يؤم البالغين إلا البالغ.وبهذا القول قال فقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة رحمة الله على الجميع.
القول الثاني: إن الصبي إذا كان أحفظ القوم فإنه يؤم البالغين ولا حرج في ذلك، وبهذا القول قال الإمام الشافعي، وهو كذلك قول لطائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
والذين قالوا: لا يؤم الصبي البالغين احتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب البالغين فقال في الحديث الثابت في الصحيح: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) يخاطب البالغين، فدل على أنه لا يؤم البالغين إلا واحد منهم.وقالوا أيضا: إن الصبي كالمجنون؛ لأن الصبي لم يبلغ الحلم ولم يكتمل عقله،
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رفع القلم عن ثلاثة) ثم قال: (وعن الصبي حتى يحتلم)، فأخبر أنه لا يبلغ الحلم والعقل، وهذا معروف ومجمع عليه، فالصبي لا عقل عنده بمعنى الكمال،
وبناء على ذلك قالوا: إنه كالمجنون وهذا ضرب من القياس والنظر.
الوجه الثالث: قالوا: إن الصبي إذا أم البالغين فإنه متنفل؛ لأن الصلاة ليست بواجبة عليه، والذين يصلون وراءه من البالغين مفترضون، ولا يؤم المتنفل المفترض.فهذه هي أوجه من قال بعدم صحة إمامة الصبي للبالغين.أما الذين قالوا بصحة إمامة الصبي للبالغين فاحتجوا بحديث عمرو بن سلمة -وهو ثابت في الصحيح- أنه قال: كانت العرب تلوم بإسلامها فتح مكة ومعنى هذه العبارة: أن العرب كانوا يقولون: اتركوا هذا الرجل وقومه، وكانوا يجلون قريشا ويقدرونها ويعظمون أمرها،
وكانوا يقولون: أهل الحرم -
أي: أهل مكة- لا يقصدهم ظالم إلا آذاه الله عز وجل، ولا يسلم من نقمة الله عز وجل.
فقالوا: إن كان محمد ظالما فسيكفيكم أمره ظلمه لقريش، وإن كان على حق وغلبهم أسلمنا وأطعنا، فقال عمرو بن سلمة: كانت العرب تلوم بإسلامها فتح مكة.
أي: تنتظر ما الذي سيجري بين محمد وأهل مكة، فلما فتحت مكة ظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم دينه دين حق؛ لأنه لو لم يكن على حق لما فتحت له مكة،
كما قال الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا} [النصر:1 - 2]، قال: فقدم أبي وقومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمهم ما شاء الله أن يعلمهم من أمور الإسلام وشرائعه.قال: ثم قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا صلاة كذا في حين كذا وكذا وليؤمكم أكثركم قرآنا)، والرواية في الصحيح تقول: فرجعوا فنظروا فإذا أنا أكثرهم أخذا للقرآن فقدموني.
قالوا: وهذا الحديث فيه أن عمرو بن سلمة وهو غلام ابن تسع سنوات قد أم هؤلاء البالغين، وكان في عصر التشريع والوحي، فلو كانت إمامة الصبي للبالغين لا تصح لما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك.
ووجه هذا أنهم قالوا: إن عموم قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) يدل على أن الصبي إذا كان حافظا للقرآن فإنه يقدم.
وناقش الجمهور هذا الحديث من وجوه: فكان الإمام أحمد رحمة الله عليه إذا ذكر هذا الحديث -كما نقل عنه الإمام ابن قدامة وغيره-
يقول: أي شيء هذا؟ أي شيء هذا؟ دعه فإنه ليس ببين.والسبب في هذا أن حديث عمرو بن سلمة فيه إشكال،
ووجهه أنه يقول: (كنت أؤمهم) وكان من التابعين ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا سجد بدت عورته كما في رواية البخاري،
فقالت امرأة: استروا عنا است قارئكم.فالإمام أحمد فطن إلى هذا المأخذ؛ إذ إن الإنسان لو صلى مكشوف العورة بالاختيار لبطلت صلاته، فدل على أنهم مجتهدون وهم قريبوا العهد بالجاهلية كما هو ظاهر الرواية في الصحيح،
فكان رحمه الله يقول: أي شيء هذا؟ دعوه فإنه ليس ببين.أي: إذا أخذ على ظاهره من أنهم اجتهدوا؛ لأنه قال: فرجعوا فنظروا.
فقوله: (فنظروا) واضح في الدلال على أنهم اجتهدوا.كما رد الجمهور على هذا الحديث
[حكم إمامة الأخرس]
قال رحمه الله: [وأخرس].أي: ولا تصح الإمامة من أخرس، وهو الذي لا ينطق، وكل من كان مبتلى بالخرس -على أحد الوجهين- فإنه لا يتقدم الناس، والسبب في ذلك أن الإمام يتحمل القراءة،
قال صلى الله عليه وسلم: (الإمام ضامن)، فالأخرس لا يستطيع القراءة، فكيف يتحمل عن الناس قراءتهم؟ وكيف يقوم بواجبات الصلاة وأركانها المشتملة على قراءة الفاتحة، وهكذا بالنسبة لأذكار الانتقال من التكبير والتسميع ونحو ذلك؟ فلا تصح إمامة الأخرس.
[حكم إمامة العاجز عن الركوع أو السجود]
قال رحمه الله: [ولا عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود أو قيام].
هذه كلها أركان للصلاة، فالقيام مع القدرة والركوع والسجود والجلوس كلها من أركان الصلاة،
فقالوا: إذا كان الإمام عاجزا عن القيام أو الجلوس أو الركوع أو السجود فإنه لا يصلي بغيره، والسبب في ذلك أنه معذور في نفسه وغيره غير معذور، فعذره لا يتعدى إلى الغير،
ومن ثم قالوا: لا يؤم العاجز عن القيام والعاجز عن الركوع والسجود غيره،
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى جالسا في موضعين: الموضع الأول: حينما وقع من على فرسه وجرح شقه الأيمن، قال أنس -كما في صحيح مسلم-: (سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم من على فرس فجحش شقه الأيمن -
أي: جرح-، فصلى قاعدا فصلى وراءه أصحابه قياما،
فلما سلم قال: لقد كدتم أ، تفعلوا فعل الأعاجم.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا.وإذا رفع فارفعوا،
إلى أن قال: وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين)، فهذا يدل على أنهم يقتدون بالإمام إذا كان جالسا، وبناء على ذلك قالوا: إذا كان معذورا وهو الإمام الراتب جاز أن يصلي بالناس قاعدا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إمام راتب.والذين يقولون بالمنع من إمامة من يعجز عن الركوع والسجود والقيام السبب عندهم أن العجز مختص به والإمام ضامن، وبناء على ذلك لا يكون الناقص ضامن للكامل، وعلى هذا لا يحمل ولا يضمن للناس صلاة فلا يصح أن يتقدم بهم،
وهناك حديث: (لا يؤمن أحد بعدي جالسا)، وهو حديث ضعيف.قال رحمه الله: [إلا إمام الحي المرجو زوال علته، ويصلون وراءه ندبا].هذه المسألة فيها خلاف،
فقال بعض العلماء: لا يؤم الإمام الجالس أو القاعد مطلقا، سواء أكان إمام حي أم غيره.ويحتجون بالحديث الذي ذكرناه،
ومنهم من قال: يؤم الإمام ولو كان جالسا إذا كان إماما راتبا أو إمام الحي فإنه يؤم جالسا ويصلي الناس وراءه، واختلفوا في المأمومين على قولين،
فقيل: يصلون قياما.وقيل: يصلون جلوسا مثله.
فالذين قالوا: يؤم ويصلي الناس وراءه جلوسا يحتجون بحديث أنس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سقط من على الفرس وصلى جالسا عتب على الصحابة أن صلوا وراءه قياما،
وبناء على ذلك قالوا: إن هذا يدل على أن الإمام لا يصلى وراءه إلا بالصفة التي هو عليها،
فإن صلى معذورا جالسا صلينا وراءه جلوسا لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين).
القول الثاني يقول: لا يصلون وراءه جلوسا، وإنما يصلون وراءه قياما؛ لأن الإمام معذور في حق نفسه ومن وراءه غير معذور، فهو مخاطب بأن يقوم كما أمره الله، فيبقى العذر مخصوصا بصاحبه ويبقى غيره على القيام، فقيل لهم: كيف تجيبون عن حديث أنس؟
قالوا: حديث أنس كان في أول الأمر، ثم نسخ بصلاته عليه الصلاة والسلام في مرضه.فإنه لما مرض مرض الموت وتقدم أبو بكر ليصلي بالناس جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ثم قعد فصلى، فصلى أبو بكر بصلاته يسمع الناس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا والصحابة من ورائه قياما،
فقالوا: هذا وقع في آخر إمامة أم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة، ويؤكدون هذا بأن النصوص قوية في الدلالة على مخاطبة المكلف بالقيام، فنبقي هذه النصوص التي أوجبت القادر على القيام على دلالتها، ثم يستثنى الإمام لمكان العذر، وتكون صورة الصلاة كصورة إمامته عليه الصلاة والسلام في هذه الواقعة التي كانت آخر حياته، بل كانت آخر إمامة وقعت منه عليه الصلاة والسلام للصحابة.
وجمع الإمام أحمد رحمة الله عليه بين هذه النصوص فقال: إذا كان إمام الحي المرجو زوال علته فإنهم يصلون وراءه جلوسا -على الصفة التي ذكرناها، ويكون ذلك ندبا كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم، وهذا بأمره عليه الصلاة والسلام- وأما إذا كان طرأ عليه العذر أثناء الصلاة فإنهم يصلون وراءه قياما.
فجمع بين الحديثين بأن قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين) عام سواء أبتدأ الصلاة جالسا أم طرأ عليه الجلوس أثناءه، وأما حديث مرض الموت فإن الجلوس من الإمام طرأ ولم يكن في أول الصلاة؛ لأن الذي استفتح الصلاة إمام قائم وهو أبو بكر، والجلوس طرأ بعد هذه الإمامة،
وبناء على ذلك يقول: كأنه وجب عليهم أن يقوموا في مرض الموت، وبقي حديث أنس على العموم.فكأنه يرى أنه لا يصلي المأمومون وراء الإمام قياما إلا في حالة واحدة، وهي أن يستفتح الصلاة بهم وهو صحيح ثم يشتد عليه مرضه فيجلس، فإذا استفتح بهم الصلاة وهو صحيح واشتد عليه المرض وجلس فيصلي المأمون وراءه قياما، وأما في غيرها، كأن يصلي من بداية الصلاة جالسا فيصلي الناس وراءه جلوسا.فهذا في الحقيقة فيه الجمع بين النصوص وهو أقوى الأقوال -إن شاء الله- وأقربها إلى الصواب.
وقوله: [ويصلون وراءه جلوسا ندبا].لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر، فصرف الأمر من الوجوب إلى الندب لوجود حديث مرض الموت؛ لأنه معارض لحديث الأمر، فحملوا الأمر على أنه محمول على الندب، وأكدوا هذا بأن الصحابة لما صلوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم قياما لم يؤثمهم.
وقالوا: إن هذا يدل على أن الأمر للندب والاستحباب، وليس للحتم والإيجاب.
قال رحمه الله: [وإن ابتدأ بهم قائما ثم اعتل فجلس ائتموا خلفه قياما وجوبا].هذا على ظاهر حديث مرض الموت، فإن الصحابة بقوا على حالتهم وهم قائمون، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك،
وبناء على ذلك نقول: إذا دخلت المسجد والإمام الراتب يريد أن يصلي جالسا واستفتح الصلاة جالسا فصل وراءه جالسا،
ودليلك حديث أنس: (وإذا صلى جالسا فصلوا وراءه جلوسا أجمعين)، وأما إذا دخلت والإمام يستفتح الصلاة وليست به علة، ثم طرأ عليه المرض، أو طرأ عليه العذر فاحتاج للجلوس فإنك تبقى على القيام حتى تتم الصلاة لحديث مرض الموت.
[حكم إمامة من به سلس البول]
قال رحمه الله: [وتصح خلف من به سلس البول بمثله].بعد أن ذكرنا المعذور في الأركان انتقل إلى المعذور في الشروط، فابتدأ بالمعذور في شرط الطهارة.فلو كان الإمام به علة، أو به مرض كسلس البول، فهذا المرض -في الأصل- يقتضي أنه معذور، وبناء على ذلك فإن طهارته لا تأتي على الوجه الكامل، وإنما رخص له أن يتوضأ عند دخول وقت كل صلاة، وإلا فإنه غير متوضئ؛ لأن السلس لا يمكنه من إبقاء طهارته على ما هي عليه، فكأنك تصلي وراء إنسان محدث،
وبناء على ذلك قالوا: هذا عذر في حق نفسه أن يصلي وبه سلس، والإمام -خاصة على مذهب الحنابلة والحنفية- يحمل الفاتحة عن المأموم، ويحمل الأركان،
فقالوا: لا بد وأن يكون على صفة يكون بها حصول براءة الذمة، وهي أن يكون متطهرا، فلا يكون محدثا، أو في حكم المحدث،
فقالوا: صحيح أن الشرع عذره أن يصلي وبه سلس البول، ولكن عذره في حق نفسه، ولم يأتنا دليل أن من به سلس يصلي بالناس، وعلى هذا فإنه لا يصح أن يصلي بغيره، وإنما يصلي بمن هو مثله، فلو وجد إنسان به سلس البول إماما به سلس بول فإنه يصلي معه؛ لأن حالتهما واحدة، فيبني المثل على مثله، أما القوي فلا يبنى على الضعيف.
[حكم صلاة المأمومين خلف محدث]
قال رحمه الله: [ولا تصح خلف محدث].
قوله: [ولا تصح خلف محدث] عموم، سواء أحدث حدثا أصغر أم أكبر، وصورة ذلك أن يعلم المأمومون أن إمامهم محدث، فإن علموا أن إمامهم محدث فإنه لا يجوز لهم أن يأتموا به، ولو وقع الحدث أثناء الصلاة وتابعوه بركن واحد بعد الحدث بطلت صلاتهم، وإنما يلزمهم بمجرد حدث الإمام أن ينووا مفارقته.فلو أن إماما تقدم، ثم أحدث أثناء صلاته وإمامته، سواء في أول الصلاة أم في وسطها أم في آخرها قبل تمامها، فالذي يفعله الإنسان هو أنه إذا أمكن أن يستخلف فلا إشكال، لكن لو كان جاهلا، أو لا يمكنه الاستخلاف فإنك تنوي المفارقة، وتنوي مفارقته كأنك منفرد، وتحتسب لنفسك ما كان من صلاتك، وبناء على ذلك لو أحدث في الركعة الثانية وأنت في الظهر فتتم الثانية ثم الثالثة والرابعة وتسلم، وهذا إذا أحدث وعلمت بحدثه أثناء الصلاة، أما لو علمت بحدثه قبل الصلاة فلا يجوز لك أن تأتم بإمام محدث، وبناء على ذلك لو ائتم به وهو يعلم بحدثه قبل الصلاة بطلت صلاته.وهناك صورة ثالثة وهي لو أن هذا الإمام كان محدثا ولم يعلم المأمومون إلا بعد انتهاء الصلاة، كما لو قام إلى صلاة الفجر يظن أنه على غير جنابة، فتوضأ ثم صلى بالناس، وبعد أن سلم وانتهى تبين له أنه محدث، أو أحدث حدثا أصغر ثم نسي أنه محدث، فتذكر أنه على طهارة ولم يذكر الحدث الذي بعد طهارته، ثم تقدم وصلى بالناس، وبعد أن صلى تذكر أنه أحدث قبل صلاته،
فللعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: إذا كان الإمام محدثا ولم يعلم المأمومون بحدثه إلا بعد الصلاة فإن صلاتهم صحيحة.وبهذا قال جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث.أي أن الإمام إذا صلى بالناس ناسيا للحدث، ثم لم يتذكر إلا بعد انتهاء الصلاة فإن صلاة المأمومين وراءه صحيحة، ولو كان بعد تسليمه مباشرة.
القول الثاني: إن صلاة المأمومين فاسدة وتلزمهم الإعادة حتى ولو بعد سنوات وبهذا القول يقول فقهاء الحنفية رحمة الله على الجميع.
واستدل الجمهور على صحة صلاة المأمومين بما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأئمة: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأو فلكم وعليهم)،
فوجه الدلالة من هذا الحديث أن قوله: (وإن أخطأوا فلكم) أي: لكم صلاتكم كاملة، (وعليهم) أي: عليهم خطؤهم.وهذا عام يشمل خطأ الشروط وخطأ غيرها.
وبناء على ذلك يقولون: إن هذا يدل على صحة الصلاة وراء الإمام المحدث.وكذلك احتج الجمهور بإجماع الصحابة، وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -كما روى مالك عنه في الموطأ- صلى بالناس الفجر ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف بضاحية المدينة، فلما جلس على الساقية -على قنطرة الماء-
نظر إلى فخذه فإذا هو بأثر الماء من الاحتلام فقال: ما أراني إلا أجنبت وصليت وما اغتسلت.فقام رضي الله عنه مباشرة واغتسل وأعاد صلاة الفجر بعد طلوع الشمس، ولم يأمر الناس بالإعادة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم.فهذه سنة راشدة عن خليفة راشد في نفس المسألة المتنازع عليها، ولم ينكر عليه أحد من فقهاء الصحابة وأجلائهم، وبناء على ذلك فكأنه إجماع منهم أن الإمام إذا صلى بالناس وهو لا يعلم بحدثه فإن صلاتهم صحيحة، ولا تلزمهم الإعادة.وأما الذين قالوا بأنه تلزمهم الإعادة فإنهم احتجوا بما جاء عن علي رضي الله عنه أنه صلى بالناس الفجر، ثم رأى أثر الاحتلام، فأمر مناديا أن ينادي في الناس بإعادة صلاة الفجر.ووجه الدلالة أن عليا أعاد الصلاة، ولم تكن الإعادة لازمة حتى ألزم الناس بها.والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بعدم الإعادة، وأن الصلاة صحيحة؛ لظاهر الأدلة من السنة والآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، وأما ما احتج به أصحاب القول الثاني من أثر علي ففيه كلام، ولو صح فإنه معارض بما هو أقوى، ويحتمل أن عليا لم يبلغه حديث أبي هريرة رضي الله عنه،
ونقول: إن فعل عليا قد عارضه فعل عمر، ولا شك أن عمر رضي الله عنه محدث ملهم مقدم؛ لأنه إذا تعارضت آراء الصحابة نظر إلى الفضائل، ففضل عمر رضي الله عنه لا شك أنه مقدم على فضل علي رضي الله عن الجميع.وبناء على هذا فإن الذي يترجح هو القول بصحة الصلاة، وأن المأمومين لا تلزمهم الإعادة، ودرج على هذا المصنف رحمه الله، وهو قول الجمهور كما قلنا.
[حكم صلاة المأمومين خلف متنجس]
قال رحمه الله: [ولا متنجس يعلم ذلك، فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحت لمأموم وحده).
قوله: [ولا متنجس] أي: ولا تصح الصلاة وراء متنجس يعلم بنجاسته، كإنسان -مثلا- كان على ثوبه بول، أو غيره من النجاسات، فإنك إذا رأيت النجاسة في ثوب الإمام فإن أمكنك أن تريه النجاسة وينصرف ويستخلف فلا إشكال، فلو أن النجاسة في طرف كمه فإنك تتقدم إلى جوار الإمام وتسحب كمه لتريه -لأنها حركة لمصلحة الصلاة- حتى يستخلف وتصح صلاة من وراء.وإذا تعذر عليك إعلامه، أو كان الإمام جاهلا فحينئذ بمجرد رؤيتك للنجاسة والخلل في الإمام فإنك تنوي مفارقته -
أي: تنوي أنك منفرد-، وتتم لنفسك وصلاتك صحيحة، أما لو رأيت النجاسة وبقيت وراءه عالما بنجاسته التي في ثوبه فإن صلاتك وراءه باطلة، وتبطل بأداء ركن واحد بعد العلم.قوله: [فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحت لمأموم وحده].
هنا مسألتان: المسألة الأولى: أن يصلي الإمام وهو محدث غير عالم بحدثه؛ فلا إشكال أنه يطالب الإمام بالإعادة ولا يطالب المأمومون.
الحالة الثانية: أن يصلي بنجاسته التي لا يعلمها حتى ينتهي من الصلاة فلا يعيد هو ولا المأمومين.فإذا كان الإمام محدثا فحينئذ تلزمه الإعادة؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وأما إذا كان في ثوبه أو بدنه نجاسة لا يعلمها، فإن الإعادة لا تلزمه ولا تلزم المأمومين،
والسبب في ذلك حديث أنس الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى بالصحابة فخلع نعاله أثناء الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم -عليه الصلاة والسلام-
قال: ما شأنكم؟
قالوا: يا رسول الله! رأيناك خلعت فخلعنا.
فقال عليه الصلاة والسلام: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين)،
أي: خلعتهما لعذر، وهو وجود النجاسة.ووجه الدلالة من هذا الحديث -وهو دقيق- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد الصلاة من بدايتها، حيث كبر تكبيرة الإحرام، ويحتمل أنه فعل بعض الركعات، ومع ذلك لم يستأنف الصلاة بعد العلم بالنجاسة، وإنما بنى، فكما صحت أجزاء الصلاة والإحرام بتكبيرة الإحرام التي هي الركن، فكذلك تصح الصلاة في كمالها إذا علم بعد السلام،
وبناء على ذلك يفرق في الإمام بين أمرين: الأول: أن يكون محدثا ولا يعلم بحدثه أو لا يتذكر أنه محدث إلا بعد الصلاة.فإنه حينئذ تلزمه الإعادة.
والثاني: أن يكون الإمام عليه نجاسة في بدنه أو ثوبه ولا يعلم بها، أو كانت في المكان الذي يصلي به ولا يعلم بها إلا بعد انتهاء الصلاة، فصلاته وصلاة من وراءه صحيحة.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (122)
صـــــ(1) إلى صــ(21)
[حكم إمامة الأمي]
قال رحمه الله: [ولا إمامة الأمي، وهو من لا يحسن الفاتحة، أو يدغم فيها ما لا يدغم، أو يبدل حرفا، أو يلحن فيها لحنا يحيل المعنى إلا بمثله].
أي: ولا تصح إمامة الأمي، والأمي نسبة إلى أمه، أي: الإنسان الذي لا يقرأ ولا يكتب.والأمية وصف لهذه الأمة،
والعلماء رحمة الله عليهم يقولون: الأمية وصف شرف لهذه الأمة.على خلاف ما يظن بعض المتأخرين -وخاصة في هذه الأزمنة- أن الأمية وصف ذلة، أو وصف نقص.فهذا ليس بصحيح، بل الأمية وصف شرف لهذه الأمة،
قال تعالى: {الذي بعث في الأميين رسولا منهم} [الجمعة:2]، وقال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين-: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا).
وانتبه رحمك الله: فإن الأمية لا تستلزم الجهل، وفرق بين الأمية والجهل؛ لأن الإنسان قد يكون أميا لا يقرأ ولا يكتب وهو عالم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إمام العلماء وقدوتهم صلوات الله وسلامه عليه وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، فليست الأمية مستلزمة للجهل، وفرق بين الجهل والأمية،
إلا أنهم قالوا: الغالب في الشخص إذا بقي على حاله منذ أن ولدته أمه أن يكون جاهلا أي: أنه يكون به الجهل، ولكن ليس هذا مطردا، فكم من علماء لا يقرؤون ولا يكتبون، وكم من كفيف البصر لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك قد يكون أعلم الناس وأعرفهم بالحلال والحرام.فعدم القراءة والكتابة الذي هي وصف الأمية لا يستلزم الجهل،
ولذلك قالوا: إن الأمية وصف شرف لهذه الأمة، وليست بوصف نقص.ف (الأمي) الذي يجهل، فالجاهل الذي لا يعلم أحكام الصلاة ولا يعرف ما يقرأ فإنه لا تصح صلاته إلا بمثله،
وبعض العلماء يضع ضابطا للأمي فيقول: هو من لا يحسن الفاتحة.وهذا ضابط خاص بالإمامة وهو الصحيح، فالمراد بالأمي: الذي لا يحسن الفاتحة، وبناء على ذلك إذا كان لا يحسن الفاتحة فإنه لا تصح صلاته إلا بمثله أو من هو دونه،
ولكن إذا كان أعلم منه فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: إذا أم الأمي غيره ممن هو أحسن منه وأعلم منه بطلت صلاة من وراءه وصحت صلاة الأمي.
وقال الحنفية: إذا حضر القارئ والأمي في الصلاة بطلت صلاة الأمي ومن وراءه والقارئ معه؛ لأن الواجب أن يقدم القارئ، وكانوا معذورين قبل حضور القارئ، فلما حضر القارئ بطل عذرهم، ووجب عليهم أن يأتموا بالقارئ؛ لأنه عندهم، والإمام لا بد وأن يكون على وجه يضمن به،
لقوله عليه الصلاة والسلام: (الإمام ضامن)، وبناء على ذلك لا تصح إمامة الأمي إلا بمثله أو من هو دونه.
قوله: [وهو من لا يحسن الفاتحة، أو يدغم فيها ما لا يدغم، أو يبدل حرفا].هذا كله من صفات الأمي فمن ذلك أن لا يحسن الفاتحة، أو يدغم ما ليس يدغم، فتجده يغير في أوضاع الحروف وصفاتها التي هي من حقوق الحرف، فإذا كان بهذه الصفة فلا تصح إمامته،
ولو كان يبدل المعنى ويلحن لحنا يحيل المعنى كأن يقول: (أهدنا الصراط المستقيم)،
أو يقول: (إياك نعبد)، فإن (إياك) و (إياك) معناهما مختلف؛
فإنه إذا قال: (إياك) خرج عن المعنى المقصود، ويعتبر لحنا محيلا للمعنى، فتبطل صلاته، فإذا صلي وراء مثل هذا تبطل صلاة من وراءه، ويعذر إذا كان جاهلا وليس هناك من يعلمه.أما لو كان هذا الأمي يمكنه أن يتعلم وقصر في التعليم فإنه تبطل صلاته وصلاة من رواءه وتلزمه الإعادة مدة تقصيره.فلو كان الأمي في بادية بعيدا عن الناس، وليس عنده من يعلمه فإنه يعذر، وبناء على ذلك يعتبر بعده وعدم وجود من يعلمه عذرا له، لكن لو فرض أنه كان بموضع قريب من العلماء ويمكنه أن يأتيهم، أو جاء أناس من أهل العلم إلى الموضع الذي هو فيه وأمكنه أن يصحح قراءته فقصر وترك التصحيح، ولم يتعرض لهم بشيء ليتيسر له أن يصحح قراءته ولم يفعل؛ فتعتبر صلاته وصلاة من وراءه باطلة؛ لأنه غير معذور حينما كان عاجزا عن إتقان الفاتحة،
لكنه لما تيسر له أن يتقنها قالوا: فإنه يأثم، ويكون عليه إثمه وإثم من يصلي وراءه -نسأل الله السلامة والعافية-.
وقالوا: لو صلى بالناس عشر سنوات بهذه الصفة تلزمه الإعادة عشر سنوات.فالأمر جد عظيم، فإذا كان يلحن في الفاتحة لحنا يحيل المعنى ويمكنه أن يجلس مع العلماء ولا يتعلم، أو جاءه عالم، أو من يستطيع أن يصحح له قراءته فامتنع وتكبر، أو استنكف، أو اعتذر بأعذار لا تغني فإنه يأثم ويتحمل وزره ولو مرت عليه سنوات، نسأل الله السلامة والعافية.
قوله: [أو يلحن فيها لحنا يحيل المعنى].
هذا كما لو قال: (أنعمت عليهم).
فإذا قال: (أنعمت عليهم) أو: (إياك نعبد) أو: (أهدنا الصراط المستقيم)، أو أبدل حرفا بحرف، أو أدغم بعض الحروف ببعضها يجعل في موضع لا يصح فيه الإدغام فإنه في هذه الحالة يعتبر لحنا مؤثرا، وهكذا إذا لحن، أو كان في لسانه علة يبدل بها حرفا مكان حرف،
كأن يقول: أهدنا الشراط.بدل الصراط، فإنه في هذه الحالة يكون إبداله مؤثرا، وهكذا بالنسبة للتمتام والفأفاء ونحوهم ممن فيه آفة في لسانه لا تمكنه من إعطاء الحروف حقوقها من الصفات المعتبرة.
وقوله: [إلا بمثله].
أي: إذا أم الأمي مثله صحت.
قال رحمه الله: [وإن قدر على إصلاحه لم تصح صلاته].
أي: وإن قدر على إصلاح خطئه لم تصح صلاته؛ لأنه مفرط ويلزم بعاقبة تفريطه، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من التكبر والاستنكاف عن الحق، ومثل هذا لا يجوز أن يقدم إذا كان يلحن لحنا يحيل المعنى وهناك من يستطيع أن يقرأ بدون لحن، فيجب على الناس أن يقدموا القارئ، وإذا لم يقدموه فإنهم يأثمون.
[من تكره إمامته للناس]
قال رحمه الله: [وتكره إمامة اللحان والفأفاء والتمتام، ومن لا يفصح ببعض الحروف، وأن يؤم أجنبية فأكثر لا رجل معهن أو قوما أكثرهم يكرهه بحق].
أي: الذي يلحن لحنا لا يحيل المعنى، أما لو كان لحنا يحيل المعنى فكما تقدم في الأمي.
وقوله: [والفأفاء والتمتام].
الفأفاء: الذي إذا جاء يقرأ يكثر من الفاء أثناء حديثه بقوله: (ف ف ف)، فتجده يرددها مرات.والتمتام في التاء، فتجده إذا أراد أن يتكلم يتأخر ويأتي بالتاء مكررة.
قوله: [ومن لا يفصح بعض الحروف].
كأن يقول: (الشراط) بدل الصراط، أو تكون صفات الحروف متداخلة عنده بطبيعة لسانه، أو يكون فيه عجمة، كأن يقول في (الرحمن): الرهمن، بالهاء، فهذا أيضا يعتبر إبدال حرف بحرف، وهكذا بالنسبة للراء إذا كان ألثغ.قوله: [وأن يؤم أجنبية فأكثر لا رجل معهن].
أي: ويكره له أن يؤم أجنبية فأكثر لا رجل معهن، وذلك لأنه منهي عن الدخول على النساء والخلوة بهن إذا لم يكن من المحارم،
قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء.
قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟
قال: الحمو الموت)،
وإذا خلا بأجنبية فإنه منهي عن هذه الخلوة لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وقال: (ألا لا يخلون رجل بامرأة) فهذا نهي،
قالوا: وبناء على ذلك لا يصلي الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية على خلوة؛ لأنه قد يخرج عن مقصود الصلاة إلى الفتنة.وقوله: [أو قوما أكثرهم يكرهه بحق].
لقوله عليه الصلاة والسلام: (وأن يؤم القوم وهم له كارهون)، وفي هذا الحديث وعيد شديد، حتى عد بعض العلماء هذا من الكبائر.
والكراهة تنقسم إلى قسمين: إما تكون كراهة مشروعة، وإما أن تكون كراهة غير مشروعة.فالكراهة المشروعة التي تكون لخلل في الإمام لدينه، أو يكون إنسانا يعسر عليهم ويؤذيهم ويخرج عن حدود السنة، فتجده يطول عليهم وأسلوبه منفر، فمثل هذه الكراهة شرعية،
ولذلك لما جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه يتأخر عن الصلاة مما يطول فلان قال عبد الله فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعظ موعظة أشد من تلك الموعظة وقال: (إن منكم منفرين) فأقر الرجل حينما كره من هذا الإمام إطالته، ولما شكي بـ معاذ في الإطالة لم يعتب على الشاكي في ذلك، وإنما سمع شكواه،
وعنف معاذا وقال له: (أفتان أنت يا معاذ)، فهذه كراهة مشروعة، فكون الإمام إذا دخل المحراب نسي من وراءه، فلم يرحم الشيخ الكبير، ولا يراعي السقيم، ولا يراعي ذا الحاجة، ولربما يكون المسجد في مكان فيه الناس في شغل فلا يراعي أوضاعهم، ويحاول أن يطول بهم ويعنفهم، وقد تكون فيه شدة وغلظة وعنف فمثل هذا يكره كراهة جبلية لا يستطيع الإنسان أن يمسك عنها نفسه، خاصة وأنه على خلاف السنة، وعلى خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه،
فقال: (إن منكم منفرين)، فإذا كرهوه لهذا الوجه من وجود العنف والمشقة والإضرار بهم فالكراهة شرعية، ومثل هذا ينطبق عليه الوعيد الشديد،
وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم رءوسهم قيد شبر:
-أي: لا تقبل منهم نسأل الله السلامة والعافية، ولا ترفع إلى السماء- رجل أم قوما وهم له كارهون، وعبد أبق عن سيده حتى يعود إليه، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط)، فهؤلاء الثلاثة لا تجاوز صلاتهم رءوسهم قيد شبر، فنسأل الله السلامة والعافية.وإذا كان الإمام لا يبالي فالأمر أشد وأعظم،
فإذا قيل له: إن الناس يكرهونك.
أو: لا تطول على الناس ولا تؤذهم،
قال: من أعجبه فالحمد لله، ومن لم يعجبه فلينصرف.فهذه جرأة، ومثل هذا على خطر، فينبغي عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يراقب نفسه، وأن يستشعر أنه على نقص وأنه بشر، وقد يكون من الإنسان الخطأ وهو لا يدري، فالعين لا ترى ما بها إلا بالمرآة، فالإنسان لا يستطيع أن يرى ما بعينه إلا بمرآة، والمرآة هم الناس،
فإذا جاءك الناس وقالوا لك: إنك تطول أو جاءك أكثر من شخص، أو شخص تثق بدينه وبأمانته فاعذر الناس وأنصفهم من نفسك.وأما الكراهة غير الشرعية فهي التي تكون من أناس متساهلين في أمور دينهم والإمام يدعوهم إلى السنة، ويدعوهم إلى طاعة الله عز وجل فيكرهونه لأنه يدعوهم إلى الخير، ويكرهونه لأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويكرهونه؛ لأنه لا يحابيهم، ويصدع بالحق، فهذه الكراهة وجودها وعدمها على حد سواء،
ومثل هذا ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس)، فهذا على خير وعلى سنة ورشد، فإن كان الإمام مكروها فإنه لا يقدم على الناس من يكره؛ لأنه إذا تقدم على الناس من يكره لا ترتاح الناس للصلاة وراءه، ولا تتأثر بقراءته، ولا تتأثر بمواعظه، وفي هذا صرف للناس عن الخير، ولذلك عاتب النبي صلى الله عليه وسلم معاذا، وأمره أن يهيئ لنفسه ما يدعو إلى قبول إمامته وحبه والإقبال عليه.
[حكم إمامة ولد الزنا والجندي]
قال رحمه الله: [وتصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما].تصح إمامة هذين إذا كانا على ديانة واستقامة، فولد الزنا الذنب ذنب غيره وليس بذنبه،
وقد قال تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164]، وكره بعض العلماء أن يقدم ابن الزنا للإمامة بالناس، وهذا قول فاسد؛
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، وقد يكون على صلاح وديانة واستقامة، والذنب ذنب غيره وليس بذنبه هو، وليس عليهم من وزر والده شيء، وما ورد من أنه لا يدخل الجنة فباطل وقول مردود مصادم للنصوص الصحيحة الصريحة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قول شاذ لا يعول على مثله، وهذا قول رده العلماء وأبطلوه؛ لأنه يصادم النصوص الصحيحة الصريحة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف يضيع الله صلاحه وقد صلح واستقام؟! وقد أخبر الله تعالى أنه يخرج الحي من الميت، فقد أخرج عكرمة من رأس الكفر أبي جهل، فلذلك لا يمتنع أن يخرج العبد الصالح من أصل فاسد، وقد يكون الرجل زنى ثم تاب إلى الله فتاب الله عليه، وهكذا بالنسبة لأمه، فالمقصود: أن ولد الزنا تصح إمامته إذا استقام،
لكن بعض العلماء يقول: إذا وجد غيره وهو مثله
-أي: في مثل حاله- يقدم عليه؛ لئلا يغتابه الناس، ولأجل صيانة الإمام إذا وجد غيره، أما إذا لم يوجد غيره، أو كان أفضل الموجودين فخليق بها، ونعما هو عليه.
وقوله: [والجندي].كذلك الجندي تصح إمامته ويصلي بالناس إذا كان على استقامة وخير.
حكم صلاة من يصلي قضاء خلف مؤد والعكس
قال رحمه الله: [ومن يؤدي الصلاة بمن يقضيها وعكسه].
مثال ذلك: لو أنك دخلت على أخيك وهو يصلي العصر -
خاصة عند من يقول: إنه يجوز أن تصلى الظهر وراء العصر- وأنت تنوي الظهر قضاء فإنه يجوز ذلك ولا حرج فيه، فصلاتك مقضية وراء مؤد، وهكذا لو قضى الظهر فجئت وصليت وراءه العصر أداء صح هذا، فيصح الأداء خلف القضاء والقضاء خلف الأداء إذا اتحدت صورة الصلاتين، وبناء على ذلك لا حرج، ويعتبر العلماء هذا مع اختلاف النية لحديث معاذ رضي الله عنه الثابت في الصحيح حينما كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، وينطلق إلى قومه يصلي بهم العشاء فهو متنفل وهم مفترضون، فاختلفت نيته معهم، وقالوا: فلا يؤثر أن ينوي القضاء وينوي غيره الأداء، أو ينوي هو الأداء وغيره ينوي القضاء، فلا حرج في هذا.
وقوله: [وعكسه].
أي: كذلك لو صلى أداء وصليت وراءه قضاء فلا حرج، وهكذا بالنسبة لصلاة الظهر، فلو أن إنسانا نسي صلاة الظهر البارحة ولم يذكرها إلا اليوم، ودخل عليك وأنت تصلي الظهر، فإنه هو قاض وأنت مؤد، فيصح القضاء خلف الأداء، ولو ابتدر هو بصلاة الظهر وصلاها بنية القضاء، ثم دخلت عليه بعده فنويت وراءه الأداء صح ذلك ولا حرج.
[حكم صلاة مفترض خلف متنفل]
قال رحمه الله: [لا مفترض بمتنفل].
أي: لا يصح أن يصلي المفترض وراء إمام متنفل.
وهذه المسألة فيها قولان للعلماء: القول الأول يقول: يجوز أن يصلي المفترض وراء المتنفل.وبهذا القول قال فقهاء الشافعية وجمع من أصحاب الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله على الجميع.
القول الثاني: لا يصح أن يؤم المتنفل المفترضين.وبهذا القول قال جمهور العلماء من المالكية والحنابلة والحنفية.أما الذين قالوا بصحة صلاة المفترض خلف المتنفل فاحتجوا بحديث معاذ الذي سبقت الإشارة إليه الثابت في الصحيح أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم عشاء، ثم ينطلق إلى قومه فيصلي بهم وهو متنفل وهم مفترضون.
وفي الرواية عن جابر: (هي له تطوع ولهم فريضة)، ووجه الدلالة أن هذا وقع من معاذ رضي الله عنه وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك، فدل على صحة إمامة المتنفل بالمفترض.وذهب الجمهور -كما قلنا- إلى عدم صحة إمامة المتنفل بالمفترض،
واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به إلى أن قال: فلا تختلفوا عليه)، فوجه الدلالة أن هذا نهي، فإذا كانوا ناوين للفريضة وراءه فقد اختلفوا عليه، وبناء على ذلك لا يصح أن يوقع الفريضة مع إمام متنفل، ثم إن الفريضة أقوى من النافلة، وقد عهدنا بناء الضعيف على القوي لا بناء القوي على الضعيف، خاصة أن الإمام ضامن.ثم أجابوا عن حديث معاذ بوجوه،
فقالوا: إن حديث معاذ محمول على أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم النافلة ويأت قومه فينوي الفريضة.وهذا مردود وباطل، خاصة وأنه يصادم الراوية الصحيحة عن جابر أنه كان ينوي وراء النبي صلى الله عليه وسلم الفريضة ثم يصلي بقومه نافلة.ولا يعقل أن معاذا رضي الله عنه -وهو الفقيه- يضيع صلاته وراء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفريضة أفضل.كما أجابوا -أيضا-
عن حديث معاذ بقولهم: سلمنا في حديث معاذ أن قومه مفترضون وهو متنفل،
ولكن نقول: قد نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.ولذلك يقول فقهاء الحنفية أنه منسوخ.
وبناء على ذلك لا يصلح للاحتجاج به لرواية السنن: (إما أن تصلي معنا أو تصلي مع قومك)،
فقالوا: فهذا يدل على أن هذا الفعل منسوخ.وهذا باطل؛ لأن الرواية متكلم في سندها، وبناء على ذلك لا يسلم النسخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الصحيحة أنكر عليه الإطالة، ولم ينكر عليه إمامته بقومه وهو متنفل،
وإنما قال: (أفتان أنت يا معاذ؟)، ثم بين له السبيل الأمثل والسنة في إمامة الناس، فدل هذا على أن النبي صلى الله وسلم قد أقره على إمامته، وأن إمامته صحيحة، وأن هذا الفعل يعتبر في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الإقرار؛ أي أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إقراره، وعلى هذا يعتبر القول بجواز إمامة المتنفل للمفترض هو القول الراجح، فالصحيح أنه لا حرج للمتنفل أن يؤم المفترضين،
ولهذه المسألة نظائر وصور منها: لو أنه دخل وراء متنفل فإن اتحدت صورة الصلاة فلا إشكال، وإن اختلفت فلا، وبناء على ذلك لو أنه دخل والمتنفل يصلي التراويح فإنه يجوز له أن يصلي وراءه العشاء، سواء أكان مسافرا فيسلم بتسليم الإمام أم كان مقيما فبعد تسليمه من الركعتين يقوم ويأتي بركعتين كأنه مسبوق، وهكذا الحال بالنسبة لبقية الصور، أما لو اختلفت صورة الصلاتين، كأن تكون المغرب وراء العشاء، أو العشاء وراء المغرب فإنه لا يصح الائتمام في هذه الحالة؛ لأنه يؤدي إلى اختلاج الصلاة، والمحفوظ من إقراره عليه الصلاة والسلام إنما هو في اتحاد صورة الصلاتين، أما في الاختلاف فإنه لم يثبت، فيبقى الأصل في متابعة الإمام على ما هو عليه.
وأما ما استدل به من قال بالمنع من قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تختلفوا عليه)، فإنه محمول على الاختلاف في الأفعال، وليس المراد به الاختلاف في النيات؛ لحديث معاذ الذي دل على تخصيص هذا الأمر.
[حكم صلاة الظهر خلف من يصلي العصر وغيرها]
قال رحمه الله: [ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرها].هذا بناء على المذهب الذي يقول: إنه لا يصلى مع اختلاف النيات.والصحيح أنه يجوز أن يصلي مع اختلاف النية، أما لو كانت نيتك النافلة والإمام مفترض فإنها تصح بالإجماع، كأن تكون قد صليت الظهر، ثم دخلت المسجد والإمام يصلي، فإنك تصلي وراءه الظهر، فهي لك نافلة ولهم فريضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك الصحابيين، كما في حديث خيف منى، وهو ثابت في الصحيح، وكذلك أمر أبا ذر رضي الله عنه لما أخبره عن الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها.
الأسئلة
[حكم الأذان للمرأة]
q إذا صلى النساء جماعة فهل يجوز أن تؤذن إحداهن وتقيم؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.فالثابت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يؤذن لـ أم ورقة الشهيدة وكانت تسمى الشهيدة؛ لأنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في خروجها لبدر فمنعها عليه الصلاة والسلام فأخبرته أنها تريد الشهادة، فقال لها: (امكثي في بيتك وستأتيك الشهادة)، فمكثت حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر وعمر، حتى إذا كان زمان عثمان قام غلامان من غلمانها فغطاها بقطيفة حتى ماتت، فصدقت فيها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه المرأة الكريمة الفاضلة رضي الله عنها وأرضاها أمرها أن يؤذن لها، فدل على أن الأذان ليس للنساء، ومن ثم قالوا: ليس على النساء أذان ولا جماعة، وإنما هو للرجال.والغالب في صوت المرأة أنه فتنة، وبناء على ذلك فإن الأذان إنما يكون لرجل يؤذن لها على ظاهر السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.والله تعالى أعلم.
[استخلاف الإمام غيره في الصلاة إذا خرج منها]
q إذا خرج الإمام من الصلاة بسبب تذكره أنه محدث واستخلف، فهل يستأنف النائب أم يبني؟
a يبني ولا يستأنف، وهذا هو المقصود من الاستخلاف، فيبني على الصلاة ولا يستأنف، وظاهر حديث أبي بكر رضي الله عنه في إمامة النبي صلى الله عليه وسلم في مرض الموت يدل على الاستخلاف في صورة العكس.والله تعالى أعلم.
[حكم من وجد ببدنه أو ثيابه نجاسة أثناء الصلاة]
q من علم أن ببدنه نجاسة، أو بثوبه أثناء الصلاة وهو إمام فماذا يفعل؟
a هذا فيه تفصيل، فإذا كان الماء قريبا، وأمكنه أن يصل إليه دون أن ينحرف عن القبلة فإنه يجوز له أن يمضي إلى الماء، وأن يغسل هذه النجاسة، ثم يبني على صلاته ويستمر، كأن يكون بجواره صنبور ماء، أو بجواره وعاء فيه ماء وأمكنه أن يأخذ منه ويغترف دون أن ينحرف عن القبلة، فإن الجماهير على أن له ذلك ويتم صلاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه، فخلع النعال فعل لإزالة النجاسة، فلما خلع النعال وفعل فإنه كذلك يخلع النجاسة عن ثوبه بالغسل؛ لأن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فلما أذن له بأن يزيل نجاسته أذن له بلازم ذلك من الأفعال التي لا يخرج بها عن كونه مصليا ولا ينحرف بها عن القبلة.أما لو كان الإمام بعيدا عن الماء، أو يتعسر عليه، أو لا يمكنه أن يصل إلى الماء إلا بفعل كثير، أو ينحرف عن القبلة فإنه يستأنف ولا يبني، وبناء على ذلك يقطع الصلاة ويخرج منها، ويستخلف غيره إن كان إماما.والله تعالى أعلم.
حكم الصلاة خلف الفاسق فسقا أكبر
q إذا كان الإمام فاسقا فسقا أكبر، كأن يكون ممن يستغيث بالقبور ويقع في الشركيات، فهل تجوز الصلاة خلفه؟
a لا تجوز الصلاة وراء كافر، وهكذا الحكم فيمن ثبت شركه، فإنه لا يصلى وراءه، أي: إذا ثبت أن في عقيدته خللا يوجب بطلان صلاته فإنه لا يصلى وراءه، إنما المراد الفسق الذي لا يخرج عن الملة، أما لو كان فسقه -والعياذ بالله- أكبر مخرجا عن الملة فإنه لا يصلى وراءه.
[حكم من فاتته بعض تكبيرات صلاة الجنازة]
q كيف يقضي المصلي صلاة الجنازة إذا دخل مع الإمام بعد التكبيرة الثالثة؟
a إذا دخل المصلي مع الإمام في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثالثة فإنه إذا سلم الإمام لا تخلو الجنازة من حالتين عند المحققين من العلماء، فإن كانت الجنازة تترك برهة لقضاء من فاتته الصلاة لكي يقضي فحينئذ يكبر ويقول الأذكار التي بين التكبيرات، أما لو كانت ترفع -كما هو الحال في غالب الجنائز الآن- فإنه يوالي بين التكبيرات ويسلم، وهذا اختيار جمع من أهل العلم رحمة الله عليهم.ووجهه أن الصلاة إنما شرعت بحضور الجنازة، ولذلك لا يصلى في المسجد قبل حضور الجنازة، وإنما يصلى بعد حضورها، وبناء عليه فرفعها يعتبر موجبا لانتهاء الصلاة عليها، فمتى ما رفعت من المسجد، أو من الأرض فقد انتهت الصلاة عليها، فيوالي بين التكبير، فإن فاتته تكبيرتان فعند سلام الإمام يقول: الله أكبر.الله أكبر.السلام عليكم ورحمة الله.وإن فاتته ثلاث تكبيرات فإنه عند سلام الإمام يقول: الله أكبر.الله أكبر.الله أكبر.السلام عليكم ورحمة الله، فيوالي بين التكبيرات ولا يقول الأذكار التي بينها.والله تعالى أعلم.
[حكم صلاة المغرب خلف من يصلي العشاء]
q شخص مسافر أراد أن يؤخر صلاة المغرب جمع تأخير مع صلاة العشاء، وعندما حضر وقت صلاة العشاء، فهل يصلي العشاء مع الجماعة ثم يصلي المغرب؟
a يصلي العشاء بنية النفل، ثم يقيم للمغرب ويصليها، ثم يصلي العشاء، ووجه ذلك أن صلاة العشاء لا تصح قبل المغرب، فقد قال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء:103]، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى الصلوات مرتبة، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وبناء على ذلك لا يصح إيقاع فريضة قبل فريضة إلا إذا كانت مرتبة على الوجه الذي وقعت عليه.وعلى هذا فلو قلنا له صل العشاء ثم صل المغرب فقد خالفنا مقصود الشرع من مراعاة الترتيب، حيث لا يخاطب بصلاة العشاء إلا بعد أن تبرأ ذمته بصلاة المغرب، وعلى هذا قال العلماء يدخل بنية النافلة في العشاء، ثم بعد ذلك يقيم للمغرب فيصليها، ثم يصلي بعد ذلك العشاء، وهذا إذا كان المسجد لا يسع أكثر من جماعة، أما لو كان مسجدا سابلا كمساجد السفر التي على طرقات السفر فإنك تقيم للمغرب وتحدث جماعة ثانية للمغرب وتصلي بمن شئت؛ لأن المساجد السابلة رخص فيها تكرار الجماعات، شريطة ألا يشوش بعضها على بعض.والله تعالى أعلم.
[مسألة مضاعفة صلاة الفرض والنافلة في المسجد الحرام]
q هل الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في الفريضة والنافلة، أم ذلك خاص بالفريضة؟
aهذه المسألة فيها وجهان للعلماء: أصحهما أن المضاعفة في مسجد مكة والمدينة والمسجد الأقصى شاملة للفرض والنفل لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة)، فإنها نكرة، والقاعدة في الأصول أن النكرة تفيد العموم.فشملت الفريضة والنافلة.وقال جمع من أهل العلم: إن المضاعفة تختص بالفريضة دون النافلة، واحتجوا بوجوه.أولها وأقواها حديث رمضان، حينما أم النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة في قيام الليل، ثم في الليلة الثالثة امتنع من الخروج.وقال: (صلوا في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، ووجه الدلالة أنه صرفهم عن صلاة القيام في المسجد إلى صلاتها في البيت، فدل على أن المضاعفة مختصة بالفريضة دون النافلة وأكدوا ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في بيته، ولم يكن يصليها في مسجده إلا ما ورد من الاستثناء في صلاة الجمعة البعدية، فقالوا: إن هذا كله يؤكد أن النوافل الأفضل فيها أن تكون في البيوت، وأن المضاعفة هذه المساجد مختصة بالفرائض دون النوافل.والذي يترجح القول الأول الذي هو للجمهور، وهو أن المضاعفة شاملة للفرض والنافلة لعموم الحديث الذي ذكرناه، وهذا أولا.ثانيا: الاستدلال بحديث: (فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، الذي يظهر أنه لا تعارض بين النصين؛ فإن المضاعفة في قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه) مضاعفة متجهة إلى العدد، وحديث: (فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) راجع إلى البعد عن الرياء، فانفكت الجهة بين النصين، والقاعدة في الأصول أنه لا يحكم بالتعارض إلا إذا اتحد مورد النصين.أي: أن يأتي حديث ويقول: بألف صلاة، وحديث يقول: هي بصلاة وبناء على ذلك لا نسلم أن الحديثين متعارضان، وإنما كل منهما في جهة، ويؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته؛ فإن الله جاعل له من صلاته في بيته خيرا)، وهذا من جهة بعده عن الرياء وعمارته لهذا البيت حتى لا يكون كالقبر الذي لا يصلى فيه، فالذي يظهر -والله أعلم- أن المقصود بذلك إحياء البيوت بالذكر؛ لكي لا تشابه القبور، ولكي تعود بالبركة والخير عليه وعلى أهل بيته، وأما بالنسبة لمضاعفة الصلاة في المساجد فهي باقية على عمومها لثبوت السنة فيها على العموم.والله تعالى أعلم.وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه وسلم.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (123)
صـــــ(1) إلى صــ(21)
شرح زاد المستقنع - فصل: يقف المأمومون خلف الإمام
يجب على المأمومين التأخر خلف الإمام إن كانوا جماعة، والواحد يقف عن يمينه إلا المرأة فخلفه، ولا يجوز لمنفرد أن يصلي خلف الصف وحده إلا المرأة، ولا تعتبر المصافة مع الكافر والمحدث والمرأة، ومن وجد فرجة دخل فيها وإلا جذب من يصلي معه، ولابد من سماع لمن صلى في المسجد أن يسمع الإمام، وإن لم يره، وإن كان خارج المسجد فلابد أن يرى الإمام وتكره الصلاة بين السواري، وهناك آداب ينبغي للإمام أن يتحلى بها.
تابع أحكام الإمامة
[موقف المأموم من الإمام]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: يقف المأمومون خلف الإمام] تقدم في المواضع السابقة بيان جملة من الأحكام المتعلقة بالإمام، وما ينبغي أن يكون عليه من صفات قبل إمامته للناس، وكذلك حال إمامته.وهنا شرع المصنف في مسألة مهمة من مسائل الإمامة وصلاة الجماعة، وهي التي تعرف بموقف المأموم مع الإمام، وذلك أن الجماعة تتحقق بواحد مع الإمام، ولا تكون الجماعة لواحد منفرد.وعلى هذا يرد السؤال عن موقف الواحد مع الإمام، وعن موقف الاثنين، وعن موقف الثلاثة وأكثر.ثم بعد ذلك يرد السؤال عن موقف الرجال وموقف النساء وموقف الصبيان والخناثى، ونحو ذلك من الأحكام المتعلقة بالمواقف.
قال رحمه الله: [يقف المأمومون خلف الإمام].السنة للمأموم أن يقف وراء الإمام، وهذا إذا كان المأمومون أكثر من واحد،
والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما جعل الإمام ليؤتم به).والإمام -كما يقول العلماء رحمهم الله-: مأخوذ من الأمام، وهو الخط الذي يخط في أول الدار؛ فكأنه ينبني عليه غيره، ولذلك يكون متقدما متميزا على غيره بهذا التقدم، ولا يكون مساويا للمأمومين، فهذا في الأصل.
فقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، معناه أن يكون المأموم تبعا للإمام، وهذا يشمل ما يكون في الأفعال وما يكون في الصورة، فصورة المأموم في موقفه، فالأصل إذا كان المأمومون أكثر من واحد أن يكونوا وراء الإمام، أما لو كان المأموم واحدا فسيرد التفصيل في أحكامه، لكن الأصل في المأموم أن يقف وراء الإمام.
وقوله: [يقف المأمومون] عبر فيه بالجمع، وهذا يقتضي أن موقف الجماعة يكون وراء الإمام إذا كانوا اثنين فأكثر، وإذا وقف الاثنان عن جانبه الأيمن صحت صلاتهم؛ لأنه موقف معتبر.وفي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما،
أنه لما قام عليه الصلاة والسلام بعد هوي من الليل وتوضأ ووقف قال ابن عباس: (فقمت فصنعت مثل ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جئت فقمت عن يساره فأدارني فجعلني عن يمينه).فدل على أن ميمنة الإمام موقف، لكن إذا كان المأمومون أكثر من واحد فإنهم يقفون وراء الإمام، فلو وقف الاثنان عن يمينه فقد وقفا في موقف معتد به شرعا فيصح ائتمامهم.
قال رحمه الله تعالى: [ويصح معه عن يمينه] هذا يقع في الأحوال التي قد توجد فيها حاجة، أو توجد فيها ضرورة، كما لو كان المكان لا يتسع أن يتأخر المأمومون عن الإمام، فإذا كان المكان لا يتسع أن يتأخر المأمومون عن الإمام فإنهم يقفون ويصلون عن يمينه، ثلاثة كانوا أو أكثر، ولو كان صفا طويلا فلا حرج، كأن يكون هناك ممر وليس هناك متسع أن يكون الإمام متقدما، فحينئذ يقفون عن يمينه.
وقال بعض العلماء: إنهم لو جعلوا الإمام أمامهم ثم تأخروا قليلا عنه، وجعلوا فسحة بينهم وبينه فإنه لا حرج، واغتفروا هذا الفاصل اليسير، لكن شدد فيه بعض العلماء؛ لأنه بمثابة قطع الصف.فالحاصل أنهم لو كانوا محتاجين ووقفوا عن يمينه فلا حرج، وهكذا إذا كانت ثم مشقة، بأن قطع الإنسان الصفوف وجاء ووقف عن يمين الإمام فلا حرج.
قال رحمه الله تعالى: [أو عن جانبيه].يعني عن جانبي الإمام، فإنه لا حرج في أن يقف المأمومان أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره، وهذا ثابت في حديث أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلى بـ علقمة والأسود صاحبيه، فأقام أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره، ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.وإن كان هذا الحديث فيه إشكال في رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه إن صح موقوفا فـ ابن مسعود ناهيك به علما وفقها، وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم، فيرون أن الاثنين يقف أحدهما عن يمينه والثاني عن يساره.وخالفهم الجمهور رحمة الله عليهم فقالوا -وهو الصحيح-: إن الاثنين يقفان وراء الإمام؛ لحديث جابر وجبار فإنه لما قام جابر عن يمينه صلى الله عليه وسلم وجاء جبار دفع صلوات الله وسلامه عليه بصدورهما وراءه، كما في الحديث الصحيح، فدل على أن الاثنين يقفان وراء الإمام، ولا يقفان بحذاء الإمام عن يمينه وعن يساره.وأما حديث ابن مسعود فالذي يظهر -والعلم عند الله، كما هو جواب طائفة من المحققين- أنه كان في أول الإسلام، وهي الصلاة المكية، ثم نسخت بالتشريع المدني.والسبب في ذلك أن ابن مسعود لما صلى بـ علقمة والأسود رحمة الله عليهما ركع فطبق بين يديه،
والتطبيق: هو أنه حينما يركع يجعل كفه اليمنى مع كفه اليسرى مجموعتين غير متداخلتين
-أي: بدون تشبيك-، ويجعلهما بين الفخذين.وكانت الصلاة بهذه الصفة كالتعظيم لله سبحانه وتعالى، ثم نسخت بوضع الكفين على الركبتين وإلقامهما، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم معنا في صفة الركوع.فكانت سنة مكية أنه إذا صلى الإمام يجعل أحد المأمومين عن يمينه والثاني عن يساره، ثم نسخ هذا بحديث جابر وجبار،
وكما يقول العلماء: إنه يستفاد من رواية الراوي ما يدل على النسخ، فلما كان ابن مسعود من أحفظ الناس للتشريع المكي، وهو من أسبق الصحابة رضوان الله عليهم وأعرفهم بالفقه المكي،
وحديث جابر وجبار إنما كان بالمدينة قالوا: هذا يشير إلى أنه كان منسوخا، بدليل أن جبارا لما جاء وقف عن اليسار، فدل على أنه كان معهودا في أول الأمر أن يقف أحدهم عن يمينه والثاني عن يساره، وهذا هو أعدل الأوجه وأقواها في الجواب عن هذه السنة الواردة، والتي حفظها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.فالخلاصة أن الاثنين فأكثر يقفون وراء الإمام، والأصل في ذلك حديث أنس (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فلو أنه وقف الإمام بينهم لم يكن ائتماما بالصورة،
ولذلك قالوا: يتقدم ويتأخران.
قال رحمه الله تعالى: [لا قدامه].
أي: لا يجوز للمأموم أن يتقدم على الإمام،
وذلك لنص الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فلو تقدم عليه لم يأتم به، وإنما صار المأموم كأنه إمام لإمامه، وهذا خلاف المقصود شرعا.ثم إن تقدم المأموم على الإمام فيه مفاسد، ومن أعظمها أنه تختلف عليه أفعال الإمام، ولربما يحصل منه اختلاج في صلاته، والسبب في ذلك واضح، فلو صلى وراء الإمام رباعية وسها الإمام ولم يجلس للتشهد الأول فقام ووقف، فإن المأموم سيجلس للتشهد؛ لأن ظنه أن الإمام جلس للتشهد، فلا يشعر إلا والإمام راكع، وحينئذ تختلف صلاة المأموم مع إمامه.
قال رحمه الله تعالى: [ولا عن يساره فقط].الدليل على أن اليسار ليس بموقف حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإن ابن عباس لما بات عند خالته ميمونة رضي الله عنه وعنها قال: (فلما كان هويا من الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى إلى شن فتوضأ، ثم قمت فصنعت مثلما صنع فقمت عن يساره فأدارني عن يمينه).ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرك ابن عباس، وحصل هذا الفعل لمصلحة الصلاة، فدل على أن يسار الإمام ليس بموقف، وأنه إذا وقف المأموم في يسار الإمام وجب أن يحوله إلى يمينه.
[بطلان صلاة المنفرد خلف الصف غير المرأة]
قال رحمه الله تعالى: [ولا الفذ خلفه أو خلف الصف إلا أن يكون امرأة].
أي: لا تصح صلاة الفذ إذا وقعت خلف الصف، فإنه إذا صلى منفردا خلف الصف لم تصح صلاته، إلا المرأة، فإن النص ورد باستثنائها.
أما الدليل على أن المنفرد لا تصح صلاته خلف الصف فحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف).
وكذلك حديث علي بن شيبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم انفتل من صلاته ورأى رجلا يصلي وحده فقال له: (استقبل الصلاة -أي: أعد الصلاة- فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف)، فدل على أن من صلى وراء الصف ركعة كاملة فأكثر أن صلاته باطلة وتلزمه الإعادة.
قوله: [إلا أن يكون امرأة] أي: إلا أن يكون الواقف امرأة، وهذا الأصل فيه حديث أنس رضي الله عنه -وهو ثابت في الصحيحين- أن النبي صلى الله عليه وسلم زار أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها، قال أنس: فقال لنا: (قوموا فلأصلي لكم) -وهذا في الضحى-
قال أنس: (فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لبس فنضحته، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من خلفنا).ووجه الدلالة أن العجوز
-أي: المرأة- صلت وراءهم وهذا يدل على أن المرأة إذا انفردت فصلاتها صحيحة،
وعلى هذا قالوا: إن عموم قوله: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) يخصص، وتستثنى منه المرأة لثبوت الحديث الصحيح باستثنائها، وللشرع في ذلك حكم،
منها: دفع المفاسد باختلاط الرجال مع النساء.
[موقف إمامة النساء]
قال رحمه الله تعالى: [وإمامة النساء تقف في صفهن].ذكرنا أن النساء يشرع لهن أن تكون بينهن جماعة، وأن تكون إمامتهن منهن، ولا حرج في ذلك؛ لحديث أم ورقة الأنصارية رضي الله عنها، حيث أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي بأهل دارها.فلما أذن لها عليه الصلاة والسلام أن تصلي بأهل دارها دل هذا على أن المرأة تكون إماما، ولكن للنساء، وعلى هذا يردq حيث عرفنا أن موقف المأموم يكون وراء الإمام فهل هذا الحكم عام للرجال والنساء؟ والجواب أنه يختص بالرجال دون النساء، أما النساء فلو كانت الإمامة منهن فإنها تقف بينهن ولا تقف أمامهن، وهذا فعل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكذلك أم سلمة رضي الله عن الجميع، وروى ذلك سعيد بن منصور في السنن.
فقالوا: إنه لا يمكن أن تفعل أم المؤمنين رضي الله عنها وهي الفقيهة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها، لا يمكن أن تفعل هذا دون توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم.ثم إن مقاصد الشرع تؤكد هذا، حيث إن المرأة إذا صلت بين النساء كان هذا أستر لها وأحفظ، بخلاف ما لو تقدمت عليهن، ولأن للرجال درجة على النساء، وفرق ما بين النساء والرجال، فقدم الرجال لأمن الفتنة، وتأخرت النساء لوجود الفتنة.
[ترتيب المأمومين خلف الإمام]
قال رحمه الله تعالى: [ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء كجنائزهم].
أي: يلي الإمام الرجال،
والأصل قوله عليه الصلاة والسلام: (ليلني منكم أولو الأحلام).فدل على أن السنة أن يلي الإمام الكبار والعقلاء، خاصة أهل العلم والحلم والعقل والفضل، ويكون هذا المكان -الذي هو خلف الإمام مباشرة- لأمثال هؤلاء.والمطلوب أن يبكروا، وأن يبادروا بالحضور لا أن يتأخروا ويتخطوا رقاب الناس، أو تحجز لهم أماكن، فإن المساجد لا يجوز فيها حجز الأماكن إلا لمن خرج لضرورة وحاجة بعد أن يجلس وينال حق المكان، أما أن يحجز لأمثال هؤلاء الأماكن ويمنع منها من سبق فهذا لا يجوز، وهذا من الظلم الذي يعتبر أذية للناس، والله تعالى منع أن يمنع الإنسان أحدا أن يصلي في مساجده، فإذا جاء شخص إلى الصف الأول مبكرا فهذا حقه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من سبق إلى شيء فهو أحق به).
وبعض الناس يفهم من قوله: (ليلني منكم أولو الأحلام) أنه يحجز ما وراء الإمام للكبار وأهل العقل ونحوهم، وهذا ليس بصحيح، فإن الناس في المساجد على حد سواء.ولذلك من سبق فهو أحق،
وإنما مراده عليه الصلاة والسلام في قوله: (ليلني منكم أولو الأحلام) أن يبادروا وأن يبكروا بالمضي، حتى يكون ذلك أدعى لحفظ صلاة الإمام.والسبب في الأمر بأن يليه الرجال وأهل العقل أنه ربما طرأت أمور، بمعنى أن الإمام قد يسهو، وكذلك أيضا ربما يصيبه السهو في القراءة، فيحتاج إلى من يرد عليه، وكذلك ربما التبس عليه الأمر ماذا يصنع في صلاته، فإذا كان وراءه من يعقل ويفهم فإنه ينبهه.ثم إنه يكون على درجة من الوعي والإدراك لما يفعله الإمام، بخلاف العوام وهيشات الناس فإنهم دون ذلك لانشغالهم بمصالحهم، وبعدهم عن استشعار الصلاة مثل أولي الأحلام والنهى.فيتقدم الرجال، ثم بعد الرجال الصبيان، كما ورد في حديث أنس وأبي موسى الأشعري رضي الله عن الجميع، فكان صلى الله عليه وسلم يكون الرجال وراءه، ثم وراءهم الصبيان، ثم من بعد ذلك النساء، فهذه هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.والخناثى يكونون بين الرجال والنساء، ولا يكون الخناثى مع النساء ولا مع الرجال؛ لأنهم لم يبلغوا درجة الرجال، وليس بمتحقق أنهم نساء، فهم بين الأمرين، ونظرا لهذا يكون موقفهم بينهما، أي بين الرجال والنساء.
وقوله: [كجنائزهم].يعني مثلما تقدم في الجنائز.
[صلاة المنفرد خلف الصف وما يتعلق بها]
قال رحمه الله تعالى: [ومن لم يقف معه إلا كافر أو امرأة أو من علم حدثه أحدهما أو صبي في فرض ففذ].هذا نوع من التسلسل في الأفكار، ومن عادة الفقهاء رحمة الله عليهم أنهم يذكرون لك الأصل، وبعد تقريرهم للأصل يبينون ما استثني من الأصل، أي يبين الأصل الذي دلت عليه النصوص، ثم بعد ذلك يرد السؤال في الأحوال الطارئة.
فنحن لو قلنا: إن المنفرد لا تصح صلاته خلف الصف، فهذا يأتي على صور، فإن كان المنفرد جاء وصلى وحيدا وراء الصف فلا إشكال في أن هذا انفراد حقيقي.وهناك نوع ثان وهو الانفراد الحكمي،
وصورة ذلك: أن يصلي معه صبي، أو يصلي معه كافر، أو يصلي معه محدث يعلم بحدثه، فهؤلاء وإن كانت صورة حالهم أنهم مؤتمون، ولكنهم في الحقيقة وجودهم وعدمهم على حد سواء، فإن الكافر لا تصح صلاته، والصبي لا تعتبر مصافته على هذا القول الذي درج عليه المصنف رحمه الله،
والمحدث كذلك صلاته غير صحيحة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ).فمعنى ذلك أن المحدث الذي يصلي بجانبه لا صلاة له، وإذا كان لا صلاة له فإنه حينئذ لا تعتبر مصافته، فوجوده وعدمه على حد سواء.وأما الكافر فإنه لا إشكال أن الكافر وجوده وعدمه على حد سواء، والمحدث لا إشكال أن وجوده وعدمه على حد سواء،
وبقي عندنا اثنان: أحدهما الصبي، والثاني المرأة.فلو فرضنا أنك جئت والإمام في ركعة من الركعات، فجئت وكبرت وبجوارك صبي ليس هناك غيره، وأنت وإياه دون الصفوف، فهل تعتد بهذه الركعة وتصح صلاتك، وتعتبر في حكم من دخل الصف، أم أن وقوف الصبي بجوارك وجوده وعدمه على حد سواء فأنت منفرد، ولو كنت في الظاهر مع غيرك؟a هذه المسألة فيها قولان للعلماء: فالجمهور على أن الصبي يعتبر من صلى بجواره غير فذ وصلاته صحيحة.وذهب بعض الحنابلة رحمة الله عليهم -ونص البعض أنه هو مذهب الإمام أحمد - إلى أنه لا يعتد بالصبي، وأنه يلزمه أن يعيد صلاته إذا لم يأت بالغ يعتد بموقفه.والصحيح مذهب الجمهور أن وقوف الصبي معك معتد به؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع)، فدل على صحة الصلاة واعتبارها منهم، وأمر بضربهم عليها لعشر.
والدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف ابن عباس عن يساره أداره عن يمينه، فدل على أنه معتد بموقفه، إذ لو لم يكن لموقفه اعتداد لما كان لإدارته من فائدة؛ لأنه يستوي أن يقف هنا أو هنا إذا كان لا يعتد به.فدل على أن الصبي يعتبر وقوفه مع الإنسان رافعا لوصف الفردية،
كذلك أيضا مما يؤكده حديث أنس في الصحيحين: (وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا) فقوله: (وصففت أنا واليتيم وراءه) يدل على أن الصبي يعتبر رافعا لوصف الانفراد.إذ لو لم يكن رافعا لقدم النبي صلى الله عليه وسلم أنسا يصلي بجواره،
فلو قال قائل: إن أنسا ربما كان صبيا، أو صغير السن،
فجوابه: ولو قلنا بذلك! ألا تراه عليه الصلاة والسلام أخرهما، فدل على أنهما اثنان، وإذا كانا اثنين فمعنى ذلك أنه معتد بوقوف اليتيم مع أنس، فبوقوف أنس مع اليتيم صارا بمثابة الصف، وعلى هذا فمن وقف بجوار صبي صحت صلاته، ولا يعتبر منفردا على الصحيح.
وأما المرأة ففيها خلاف أيضا: فمن العلماء من قال: إن المرأة إذا وقفت بجوار الرجل وهو فذ فصلاته صحيحة، ويرتفع عنه الوصف المؤثر الموجب لبطلان صلاة الفذ؛ لأنه ليس بفذ.وهذا مذهب المالكية والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني يقول: إن وقوف الرجل بجوار المرأة لا يعتبر رافعا لوصف الفذ،
بل هو فذ وشدد الحنفية وقالوا: لو وقف الرجل بجوار امرأة، أو صف الرجل بجوار النساء ولو كان معه رجال من الطرف ونساء من الطرف، ولو امرأة واحدة بالغة بطلت صلاة الرجال الذين صفوا والنساء.وقد ذكرنا هذه المسألة من قبل، وبينا أن الصحيح أن الرجال إذا حاذوا النساء لا تبطل صلاة الرجال؛ لأنه ليس ثم دليل على أن المرأة إذا وقفت بجوار الرجل تبطل صلاته، لكن المسألة التي معنا هي أنه لو وقفت المرأة مع الرجل فإنه فذ على الصحيح، وهو المذهب، والسبب في ذلك واضح، وهو أن الشرع أمر المرأة في هذه الحالة أن تتأخر، فإن تقدمت وصافت الرجل فإن هذا التقدم منهي عنه شرعا، والمنهي عنه شرعا لا يعتد به ولا يحتسب، فصار وجوده وعدمه على حد سواء.
[الدخول في الفرجة والتفصيل فيه]
قال رحمه الله تعالى: [ومن وجد فرجة دخلها وإلا عن يمين الإمام].
أي: من وجد فرجة في الصف فمن حقه أن يدخل، بل يجب عليه أن يسد ما بين الصفوف من الفرج، وهذا هو الأصل، حتى لا يتخلل الشيطان.وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإلزاق الكعب بالكعب والمنكب بالمنكب، وكل ذلك حتى لا يتخلل الشيطان، وبناء عليه فمن وجد فرجة فإنه يحاول أن يتمكن منها ويدخل.والفرجة فيها تفصيل، فالفرجة في بعض الأحيان تكون دون الشخص، فلو وجد فرجة ولكنها دونه بحيث لو دخل في الصف فإنه يضايق الناس فهذا لا يدخل في الصف لوجود الحرج والأذية، والذين سبقوا أحق بذلك.والحل في هذه الحالة أنه إذا وجدت الفرجة سحب بعضهم بعضا، والعبرة بجهة الإمام، فإن كانت الفرجة عن اليمين والإمام في المنتصف فإن معنى ذلك أن ينسحبوا إلى جهة اليسار؛ لأن العبرة بجهة الإمام، وإن كانت الفرجة في اليسار والإمام في المنتصف فإنهم ينسحبون إلى جهة اليمين، فيسحب بعضهم بعضا إلى جهة اليمين حتى تصير الفرج في الأطراف.
فإن صارت الفرجة في الطرف ففيها تفصيل: فإن كانت الفرجة تسع الرجل أثم من تأخر من الرجال في الصف الذي يليه، وإن كانت الفرجة لا تسع بأن كانت لا يمكن دخول الرجل فيها فإنهم يعذرون في ذلك، ولا تؤثر شيئا، كما لو صلوا وانتهى حد الصف عند هذا القدر.
قوله: [وإلا عن يمين الإمام].
أي: إن وجد الفرجة دخل حتى لا يصلي منفردا، وإلا صلى عن يمين الإمام حتى تصح صلاته، ويصح له أن يأتي عن يمين الإمام، ولا حرج عليه.
[حكم جذب المنفرد لشخص من الصف]
قال رحمه الله تعالى: [فإن لم يمكنه فله أن ينبه من يقوم معه] إذا جئت فوجدت الصفوف مكتملة بينك وبين الإمام، ولا تستطيع أن تتخطى هذه الصفوف، ولم تجد فرجة أمامك، فلك أن تنبه من أمامك،
قالوا: فإذا أمسك الساحب بطرف ثوبه يتراجع، وإذا رجع كان هذا من التعاون على البر والتقوى، ولا إثم عليه.
وقالوا: إنه إذا رجع فقد أعان على صحة صلاة، خاصة إذا لم يوجد شخص آخر، فإعانته على صحة الصلاة له فيها الأجر؛ لأن الصلاة لهذا المنفرد لا تصح إلا مع وجود من يقوم معه، وهذا قد فعل السبب الذي صحت به صلاته فكان له كأجره؛ لأنه أعان على خير.وقد ورد في هذا حديث عند الحاكم، ولكن تكلم في إسناده ولم يخل من مقال، ففي هذا رواية معضلة،
وفيه رواية مرسلة وهي رواية الجذب: أي أنه يجذب أحدا من الصف،
وقال بعض العلماء: إنه لا يجذب، وإذا جذب أحدا فإنه يأثم، ولا ينبغي للمجذوب أن يستجيب لمن يجذبه.وإن كان الأقوى والأشبه أنه إن جذبه واستجاب فبها ونعمت، وإن لم يجذبه فإنه يصلي، فإن جاء أحد فبها ونعمت، وإن لم يجئ أحد فإنه يستقبل صلاته ويصليها.
وشدد بعض العلماء حتى قال ابن حزم الظاهري: إنه إذا لم يجد أحدا فإنه يرجع إلى بيته، وهذا أمر الصعوبة منه بمكان؛ فإن المساجد بنيت لإقامة الجماعة، وكونه يؤمر بالرجوع إلى بيته فيه مخالفة لمقصود الشرع.والذي يظهر -والله أعلم- أنه يحاول الجذب حتى يجد من يستجيب،
فإن رجع الإنسان بالجذب فعلى حالات: الحالة الأولى: أن تمكث معه بقية الصلاة ولا يأتي أحد فلا إشكال، فتصير الفرجة التي حدثت في الصف يمكن سدها بجذب بعض الناس لبعض حتى تصير في طرف الصف، ويصير الناس معذورين بهذا، وأنت معذور بتصحيح صلاة من معك.
قالوا: إن مفسدة الفرجة أهون من مفسدة فساد الصلاة وهذا صحيح؛ فإنك لو تأملت أنه لو سحب صارت فرجة فإن هذه الفرجة يمكن سدها لو حضر شخص معه، وإذا لم يمكن سدها وبقيت فإن مفسدتها أهون من مفسدة فوات الصلاة على هذا المصلي.وعلى هذا فإن لم يجئ أحد وبقيت معه فلا إشكال، فلك أجر إعانته على صحة صلاته، وإن جاء أحد تقدمت إلى الفرجة وسددتها؛
لأن القاعدة تقول: (ما شرع لعذر بطل بزواله)،
وبعضهم يقول: (ما جاز لعذر بطل بزواله)، وهذا جاز لعذر -وهو تصحيح صلاته معك- وقد صحت، ثم لما جاء الثاني زال العذر، فحينئذ يبطل تأخرك عن الصف، فتتقدم للصف الذي كنت فيه.قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى فذا ركعة لم تصح].
قيل: لم تصح صلاته،
وقيل: لم تصح الركعة التي صلاها دون الصف، وعلى هذا لو أدركه أحد في الركعات الباقية فإنه يقضي هذه الركعة وحدها، فتبطل الركعة التي دون الصف ويلزم بإتمامها،
وقال بعض العلماء: بل تبطل جميع الصلاة.
حكم الركوع فذا قبل الدخول في الصف
قال رحمه الله تعالى: [وإن ركع فذا ثم دخل في الصف، أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام صحت].هذه مسألة اعترض بها الجمهور على القائلين بأن صلاة الفذ لا تصح،
فالإمام أحمد رحمة الله عليه يقول: من صلى فذا أو منفردا دون الصف بطلت صلاته إلا المرأة.فاعترض عليه بحديث أبي بكرة، وحاصل حديث أبي بكرة أنه (دخل والنبي صلى الله عليه وسلم راكع، فخاف أن يرفع النبي صلى الله عليه وسلم فكبر دون الصف، ثم دب ودخل في الصف،
فلما سلم عليه الصلاة والسلام قال: من فعل كذا وكذا؟
قال أبو بكرة: أنا.قال: زادك الله حرصا ولا تعد)،
فروي في لفظ الحديث: (لا تعد)، (ولا تعد)، (ولا تعد).وأقوى الروايات: (ولا تعد) قيل معناها: لا تعد إلى التأخر عن الصلاة حتى لا تضطر إلى مثل هذا الفعل.وهذا عند من يرى صحة هذا الفعل وبقاء التشريع به.
وقيل: ولا تعد إلى مثل هذا الفعل مرة ثانية.
وقيل: لا تعد إلى الإسراع؛ لأنه كأنه أسرع بعد ركوعه فصار فيه تشويش؛ لأن المساجد كانت في الرمال، ومشي الناس بسرعة يزعج المصلين.
ولذلك قالوا: هذا هو المقصود من قوله (ولا تعد)، وأما (ولا تعد)، و (ولا تعد) فلا إشكال فيهما.فعلى هذا اعترض الجمهور،
فقالوا: أنتم تقولون: إن المنفرد إذا صلى خلف الصف بطلت صلاته، وهذا أبو بكرة قد كبر تكبيرة الإحرام وركع ودب إلى الصف، فانعقد ركنه دون الصف! فلو كانت صلاة الفذ لا تصح لبطلت صلاته، ولأمره عليه الصلاة والسلام بإعادتها.
والجواب عن ذلك ما قاله الإمام أحمد حيث قال: أبقي حديث (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) على عمومه، وأستثني من فعل فعل أبي بكرة وهذا هو الفقه، وهو الجمع بين النصوص على حسب دلالتها،
فأعمل رحمة الله عليه عموم قوله: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف)، واستثنى حالة أبي بكرة،
وقال: لا إشكال فيمن فعل فعل أبي بكرة، فإني أصحح صلاته، بمعنى أنه يكبر ثم يدب إلى الصف.
قال: وفي حكمه ما لو ركع وجاء رجل معه وركع قبل أن يرفع الإمام فإنه تصح صلاته وتجزيه.وهذا القول لا شك أن السنة تدل عليه، خاصة أنه مسلك أصولي صحيح، فأنت إذا تأملت حديث (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) وجدت أن هذا العموم دخله التخصيص، والدليل على ذلك أنه استثني منه المرأة فيما ذكرناه من حديث أنس، فإذا استثنيت المرأة فمعنى ذلك أنه عام مخصص، فلا مانع أن تخصص منه الأحوال في جنس ما قيل بالعموم فيه، أعني الرجال.
[حكم الاقتداء بالإمام مع رؤيته وعدمها]
يقول رحمه الله: [فصل: يصح اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وإن لم يره].هذا كما في الأعمى، فإنه يصح اقتداؤه به، خاصة أنه إذا كان داخل المسجد فإنه سيرى من يقتدي بالإمام، وسيعلم بأفعال الإمام من جهة المأمومين الذين يصلون معه.
قال رحمه الله تعالى: [ولا من وراءه إذا سمع التكبير وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين].
أي: كذلك إذا لم ير من وراءه، بشرط سماعه للتكبير، وهذا أحد المذاهب عن العلماء رحمة الله عليهم،
فيقولون: المهم عندنا أن يكون في المسجد، كما هو مذهب الحنابلة، ووافقهم الشافعية رحمة الله على الجميع.
فيقولون: ما دام أنه داخل مسجد واحد وموضع واحد يصلي مع الإمام، فيستوي ألا يراه ويرى المأمومين، أو لا يراه ولا يرى المأمومين، لكن المهم أن يسمع الصوت.
قوله: [وكذا خارجه إن رأى الإمام أو المأمومين].ظاهر السنة أن الصلاة تصح إذا رأى المأموم الإمام أو المأمومين.
فيقولون: إن هذا يدل على أن الأصل أن يرى الإمام أو من يقتدي بالإمام داخل المسجد؛ لأنه إذا لم ير الإمام لم يأمن أن تختلج أفعاله، ولا يأمن عند سهو الإمام ألا يدري ماذا يصنع، كما لو سها في الرباعية فقام الإمام بدل أن يجلس للتشهد، فإنه لا شك إذا لم ير الإمام ولا من يقتدي بالإمام أن يقع منه هذا اللبس.
لكن قالوا: إنه يصح الاقتداء ولو لم ير أحدا قياسا على الأعمى.وأكدوا هذا بحديث الحجرة أيضا، فإنهم ائتموا بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم يسمعون صوته ولا يرون شخصه،
قالوا: لأن الحجرة مع المسجد كالشيء الواحد، فاستثني هذا.فهذا حاصل ما قيل إذا كان داخل المسجد، أما إذا كان خارج المسجد فجماهير أهل العلم لا يصححون الصلاة إلا برؤية الإمام، أو من يقتدي بالإمام، ولا يكون هذا إلا باتصال الصفوف؛ لأنها هي الإمامة الحقيقية، وهي السنة والهدي والاقتداء.أما لو كان لا يرى الإمام ولا يرى المأمومين وهو منفصل عن المسجد، كأن يكون في بيت بينه وبين المسجد طريق، أو بينه وبين المسجد بيوت، ويسمع عن طريق الأجهزة الموجودة الآن فإنه لا يصح اقتداؤه ولا تصح متابعته.وهكذا لو سمع عن طريق الأجهزة التي تنقل، كالراديو ونحوه، فإنه لا تصح صلاته؛ لأنه غير مؤتم حقيقة بالإمام.
فلذلك قالوا: لابد وأن يرى الإمام أو من يقتدي بالإمام.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (124)
صـــــ(1) إلى صــ(21)
[حكم ارتفاع الإمام على المأمومين]
قال رحمه الله تعالى: [وتصح خلف إمام عال عنهم].إن كانت الأرض التي يقف عليها الإمام والمأموم واحدة فلا إشكال، وهذا الأصل في موقفه عليه الصلاة والسلام.لكن هناك حالة يرتفع فيها الإمام ويكون المأموم أنزل منه، وحالة يكون الإمام في أرض هي أدنى في الارتفاع من أرض المأموم.فأما إذا علا الإمام فإنه لا يعلو إلا من ضرورة وحاجة؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنه في حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه وأرضاه قال لامرأة من الأنصار: (انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها) فصنع أعواد المنبر، قال سهل: (فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليها فكبر
-أي: كبر تكبيرة الإحرام على المنبر- ثم ركع، ثم رفع -وهو على المنبر- ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر، ثم رفع ثم سجد، ثم رفع ثم صعد المنبر، ثم كبر فركع، ثم رفع، ثم رجع القهقرى وسجد في أصل المنبر،
ثم قال: إنما صنعت هذا -
أي: كوني صليت على المنبر- لتأتموا بي)، واللام للتعليل،
أي: من أجل أن تأتموا بي فتروني، (لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي).
فللعلماء في هذا وجهان: فمنهم من قال: لا حرج عندي في ارتفاع الإمام عن المأمومين، ولا بأس بذلك؛ لأن السنة دلت عليه فلا حرج.
ومنهم من قال: لا يجوز للإمام أن يرتفع عن المأمومين، وإن ارتفع من غير حاجة فإنه يأثم.وشدد بعضهم فقال بعدم صحة الصلاة والاقتداء إذا كان الارتفاع بدون حاجة، خاصة إذا قصد به الكبر والترفع، والعياذ بالله.وأكدوا هذا بما جاء عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مع ابن مسعود، فإن حذيفة حينما صلى بأصحابه وهو على دفة الدكان القديمة وقف عليها رضي الله عنه والمأمومون وراءه، فلما رآه ابن مسعود جاء وجذبه فأنزله،
فلما سلم قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا؟
قالوا: فدل على أنه منهي عنه، وأنه لا يجوز،
قال: قد علمت، أو تذكرت حينما جذبتني.فدل على أن ارتفاع الإمام عن المأمومين الأصل فيه الحظر والمنع.وهذا القول هو الصحيح، فلا يرتفع الإمام عن المأمومين إلا إذا وجدت حاجة،
لقوله عليه الصلاة والسلام: (لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي)، فكأنه ارتفع بقصد التعليم،
فقالوا: لو زار عالم أناسا لا يعرفون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فأحب أن يكون في موضع يراه الجميع فيعلمون صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في انتقاله وفي وقوفه وفي ركوعه وسجوده، فصلى على نشز أو مرتفع فلا حرج.ويكون بقدر المنبر، فلا يرتفع ارتفاعا فاحشا؛ لأنه هو الهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الحاجة تتحقق بمثل هذا،
فقالوا: لا حرج.أما إذا لم توجد الحاجة فلا.
قال رحمه الله تعالى: [ويكره إذا كان العلو ذراعا فأكثر كإمامته في الطاق].ذلك لأنهم حزروا وقدروا منبره عليه الصلاة والسلام -الذي هو ثلاث درجات- بهذا القدر؛ لأنه لا يقل عن ثلاثة أشبار،
وبناء على ذلك قالوا: لا يزيد على ذراع،
فإذا زاد على ذراع قالوا: إنه في هذه الحالة يكون مكروها.ونص بعض العلماء على حرمته؛
لقوله: كانوا ينهون عن ذلك.والأصل في النهي أنه يحمل على أعلى درجاته، إلا إذا دل دليل على ما هو أدنى من ذلك، أعني الكراهة.
قوله: [كإمامته في الطاق] الطاق هو: المحراب،
أي: دخلة المحراب، وكان السلف كـ ابن مسعود وغيره يشددون في ذلك ويمنعون منه، خاصة أن في القديم ما كان هناك سماعات، فإذا دخل الإمام في الطاق داخلا لم يروه، وبناء على ذلك تخفى على بعض الناس الذين هم في أطراف الصف أفعاله،
ولذلك قالوا: لا يصلي داخل الطاق، وكرهوا ذلك، وشدد فيه بعض أئمة السلف كالإمام مالك رحمة الله عليه وغيره.
[حكم تطوع الإمام في موضعه]
قال رحمه الله تعالى: [وتطوعه موضع المكتوبة إلا من حاجة] أي: لا يتطوع الإمام موضع المكتوبة، وهذا فيه تفصيل،
فبعضهم يقول: الإمام لا يصلي النافلة في موضع إمامته.وهذا القول وجيه، وسبب ذلك أن المحفوظ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا صلى بالناس وانتهى من الأذكار ينصرف.
يقول العلماء: الحكمة في ذلك -والله أعلم- أن الإنسان إذا تقدم على الناس تميز وصار له فضل، وحينئذ يكون الناس وراءه، وهذا الفضل شرع لحاجة وهي الإمامة، ثم أعطي قدر الأذكار، فبقي ما عداها على الأصل، فلا ينبغي له أن يبقى في موضع إمامته.ولذلك شدد العلماء رحمة الله عليهم، وبعض المتقدمين شددوا على الإمام أن يطول في الأذكار ويطيل الجلوس في المحراب، ولا يتذكر أنه متقدم على الناس؛ لأن هناك أناسا لهم فضلهم ولهم مكانتهم، فلا يتقدم عليهم إلا بقدر ما أذن له الشرع بالتقدم.وهذه من آداب الإمامة التي ينبغي أن يتنبه لها الإمام، وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لا يبقى في موضعه إلا بعد صلاة الفجر، فكان عليه الصلاة والسلام يجلس -كما ثبت في الصحيح- ويتحلق حوله أصحابه، واستثنى بعض العلماء إذا وجدت حاجة كالتعليم، كأن يكون عند الإمام درس علم ونحو ذلك، ويكون في موضع المحراب،
قالوا: لا حرج في هذا.وإن كان بعضهم يستحب له أن ينتقل.
فالشاهد أنهم قالوا: لا يتطوع في موضع المكتوبة، وجاء فيه حديث ضعيف عند ابن حبان، أو ابن ماجة ينهى عن التطوع في موضع المكتوبة.واختلف الأئمة في تعليل ذلك،
فقال بعض العلماء: إنما هو للتميز -كما ذكرنا-،
وقال بعضهم: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يوصل بين الصلاتين، فلا يصل بين الصلاتين حتى يتكلم، أو يفعل فعلا يخرج به عن الصلاة، وهذه من سماحة الإسلام، حتى يخرج المسلم عن رهبنة النصارى والغلو في العبادات.
ولذلك قالوا: إنه لا يصل الصلاة بالصلاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وصل الصلاتين ببعضهما ما لم يتكلم أو يعمل، قالوا لا يصلي حتى يكلم أحدا، أو ينتقل من موضعه،
وقالوا: فإذا انتقل من موضعه صلى ولا حرج عليه.
وقال بعض الأئمة في تعليل ذلك: إنه إذا صلى في موضع المكتوبة فإنه يشهد الموضع له بالصلاة، فإن أراد أن يصلي النافلة فليستكثر من الخير وليتقدم أو يتأخر أو يتيامن أو يتياسر، وقد حفظ عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصلي على يمين منبره، وهو الموضع الذي ورد في الصحيح أنه كان يتحرى الصلاة عنده عليه الصلاة والسلام.فهذا يدل على أن الإمام لا يتعطن،
كأنهم يقولون: إنه إذا صلى في هذا الموضع كأنه تعطنه؛ لأنه إمام يصلي المكتوبة ويصلي النافلة في هذا الموضع،
قالوا: كأنه تعطن، وقد نهي عن تعطن المواضع في المساجد.فهذا حاصل ما ذكر في تنفله في موضع المكتوبة، وإن كان الأشبه أن المراد به ألا يتميز على الناس، وألا يتقدم عليهم، فبعد انتهائه من الأذكار يدخل إلى بيته متأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم ويصلي الراتبة، إلا ما ورد فعله منها في المسجد، أو يصلي في أي ناحية من المسجد، حتى لا يكون متميزا على الناس.
[حكم إطالة الإمام القعود في موضعه بعد الصلاة وكيف ينصرف]
قال رحمه الله تعالى: [وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة].السنة للإمام إذا صلى بالناس وانتهى أن يستغفر وهو مستقبل القبلة ولا يلتفت.
والسبب في هذا أنه يمكث بقدر ما يقول: أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله ثلاثا،
قالوا: لاحتمال أن تكون الصلاة فيها نقص، واحتمال أن يكون قد سها في صلاته، فإذا انتقل مباشرة فإنه لا يكون بحالة أكمل مما لو بقي في موضعه.ولذلك كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لا يتحول مباشرة، فعلى الإمام أن يبقى،
قالوا: فيه مصالح،
منها: قضية تدارك ما فات، سواء أكان بسجود سهو، أم بقضاء ركعة بقيت وسلم قبل أن يفعلها،
وكذلك أيضا قالوا: إنه قد يكون هناك نساء يردن الانصراف، فإذا عجل فإنه لا يأمن الفتنة،
ولذلك قالوا: لا يبادر بالانصراف.وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يتأخر في انصرافه قليلا ليتمكن النساء من الانصراف، كما ورد في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام.فهذا من آداب الإمامة، فإذا ثبت أنه لا يستعجل فكذلك أيضا لا يتأخر، فلا يبقى معطيا للناس ظهره؛ لأنها صفة لا تليق؛ لما فيها من الانتقاص؛ لأن تولية الظهر للشيء انتقاص له.ولذلك وصف الله عز وجل من أعرض عن القرآن بأنه اتخذه وراءه ظهريا، فإذا كان الإنسان معطيا لغيره ظهره فإن هذا لا يكون إلا بقدر الحاجة، فلما وجدت الحاجة بالإمامة وانتهت الإمامة فإنه ينفتل إلى الناس ويستقبلهم.
وللعلماء أوجه في جهة الانصراف: فقيل: السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر الانصراف عن يساره،
وقال: (لا يجعل أحدكم للشيطان حظا من صلاته)،
قالوا: إذا انصرف فلا ينصرف دائما عن يمينه وإنما ينصرف عن يساره،
وقال بعض العلماء: بل ينصرف عن يمينه كابتداء انفتاله من الصلاة؛ لفضل اليمين وشرفه، ثم إذا قام وهب إلى بيته، أو هب إلى موضع درسه، أو إلى موضع في المسجد فإنه يكون انصرافه عن اليسار تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم.وهذا ضعيف؛ لأن بيت النبي صلى الله عليه وسلم كان في اليمين بعد أن ينفتل، ولم يكن في اليسار.فلو كان انصراف النبي صلى الله عليه وسلم دائما المراد به عن يمينه ثم ينفتل عن يساره، لأصبح في هذا مشكلة أنه عن يساره سينفتل إلى الجهة الغربية في المدينة، والجهة الغربية جهة الخوخات في المسجد، وهي بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه وغيرهما من الصحابة، وليس ببيته وحجراته عليه الصلاة والسلام، ولم تكن إلا حجرة بعض نسائه عند باب الرحمة، وهي الجهة الغربية،
ولا يمكن أن يقصدها ابن مسعود في إخباره عن أكثر انفتاله عليه الصلاة والسلام في قوله: (أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم ينفتل عن يساره).والذي يظهر أن الإنسان لا يجعل حظا للشيطان، فينفتل تارة عن يمينه وتارة عن يساره، والناس تنكر هذه السنة، فإحياؤها طيب، ومستحب أن يحيي الإنسان هذه السنة، والأفضل أن يسبق ذلك بتنبيه للناس حتى لا يحدث تشويشا عليهم.
قال رحمه الله تعالى: [فإن كان ثم نساء لبث قليلا لينصرفن].هذا من باب الرفق بهن حتى يكون ذلك أدعى لسترهن وأبعد عن فتنته.
[حكم الصلاة بين السواري]
قال رحمه الله تعالى: [ويكره وقوفهم بين السواري إذا قطعن الصفوف] الصلاة بين السواري قد جاء فيها حديث أنس رضي الله عنه أنهم كانوا يطردون عنها طردا.
وقال بعض العلماء: إنه لا تجوز الصلاة بين السواري، واختلفوا،
فقال بعضهم: إنما نهي عن الصلاة بين السواري لأنها تقطع الصفوف، وهذا وجه للتعليل.والوجه الثاني أنها كانت موضع الأحذية، وليست موضع العبادة، ولذلك منع منها تنزيها وتشريفا للصلاة، كما هو معهود في غير ما مثال من الشرع.
فلذلك قالوا: لا يصلى بين السواري لهذا، وإنما يصلى في الصف التالي، واغتفر بعض العلماء رحمة الله عليهم القاطع اليسير والقاطع المضطر إليه كقاطع المنبر ونحوه،
قالوا: إن هذا يغتفر، وهكذا إذا كان القاطع يسيرا لا يمنع العلم بأطراف الصلاة، كما كان في المسبوقات القديمة التي تكون للأئمة ونحوهم.
قالوا: إن هذه القياسر ونحوها تستثنى ولا حرج فيها، خاصة إذا كانت قدر شبر ونحوه،
أي: يسيرة،
قالوا: إن هذا يغتفر ولا حرج فيه.
الأسئلة
[حكم التقدم على الإمام من غير جهته في الكعبة]
q الصلاة في الحرم المكي أمام الصف الأول مما يلي الكعبة في غير جهة الإمام هل تعتبر من التقدم على الإمام أم لا؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن صلى داخل المسجد الحرام فإنه على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون في الجهة التي فيها الإمام.والحالة الثانية: أن يكون في غير جهة الإمام.فأما من كان في جهة الإمام فإنه لا يجوز له أن يتقدم على الإمام، وهذا هو الأصل الذي ذكرناه وقررناه.توضيح ذلك: لو صلى الإمام في الجهة التي تلي باب الكعبة وكان بينه وبين الكعبة ثلاثة أذرع، فلا يجوز لأحد أن يتقدم على هذا القدر، وإنما يكون وراء الإمام.وأما بالنسبة للجهات الأخر فإنه يجوز له أن يكون على بعد ذراع من الكعبة، ولا حرج عليه في ذلك، وهذا قول جماهير العلماء، وأفتى به طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وكان معروفا في مكة في أزمنة الأئمة رحمة الله عليهم، ونقله الإمام الشافعي رحمه الله، قالوا: إن هذا لم يكن أحد ينكره، أي: التقدم في غير جهة الإمام.والسبب في ذلك أن غير جهة الإمام لا يكون الإنسان فيها مطالبا بالتأخر عن الإمام؛ إذ لو قلنا: إنهم مطالبون بالتأخر إلى حد الإمام لوجب عليهم أن يرجعوا ويصلوا وراءه فتتعطل الجهات الأخر، فلما أذن بالصلاة في الجهات الأخر استوى أن يكونوا قريبين أو بعيدين.والأمر الثاني: أن المفسدة التي من أجلها نهي عن التقدم على الإمام غير موجودة في هذه الحالة، والسبب في ذلك أنهم في الجهة هذه يرون الإمام أو من يقتدي بالإمام، وعلى هذا قالوا: إنه إذا لم يره بشاخص الكعبة فإن أطراف الصف يرون، فينتقل العلم بطرف الصف.وإذا ثبت أنه يجوز في الجهة التي هي غير جهة الإمام أن يتقدم فلو كان الإمام من جهة الباب، أو من جهة المقام بينه وبين الكعبة متر حيث يجوز أن يكون بينك وبين الكعبة قدر ذراع، فيجوز أن تكون أقرب إلى الكعبة، فإنه يرد السؤال: هل العبرة في الصف الأول بمن يلي الإمام من حده دائرا على الكعبة؟ أم العبرة في الصف الأول في غير جهة الإمام بمن كان أقرب للكعبة؟ وجهان للعلماء: أصحهما وأقواهما أن من كان أقرب للكعبة فإنه هو الصف الأول؛ لأنه لما أذن بالشرع بتقدمهم فإنه يعتبر صفهم هو الأول، ولا يستقيم أن يقال عن صف: إنه الصف الأول، وقد تقدم عليه غيره؛ لأن الوصف لا يتحقق، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول).فالصف الأول من غير جهة الإمام الذي أذن به الشرع هو أقرب الصفوف إلى الكعبة، فكما أن الصف الأول من جهة الإمام أقربها إليه كذلك من غيرها الصف الأول أقربها إلى الكعبة، وهو أولى الأقوال وأقواها إن شاء الله تعالى.
[حكم القصر إذا سافر دون مسافة القصر]
q إذا وصل المسافر إلى ضاحية أو قرية من قرى مدينته التي لا تبعد عنها مسافة القصر، فهل له أن يقصر الصلاة إذا قفل راجعا من سفره؟
a من خرج من مدينته إلى موضع دون مسافة القصر فإنه لا يقصر الصلاة، فلا بد في جواز القصر من وجود المسافة، وهذا هو مذهب طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتدل عليه السنة في ظاهرها.أما دليل السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم)، فوصف مسيرة اليوم بكونها سفرا، ولو كان ما دون اليوم يسمى سفرا لمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن تسافر.الأمر الثاني: أن الصحابة رضوان الله عليهم أفتوا بذلك، فإن ابن عباس رضي عنه سئل وهو بمكة عن قصر الصلاة إلى مر الظهران وما قرب من مكة فقال: لا، إنما يقصر إلى عسفان وجدة والطائف، وكانت عسفان وجدة والطائف على مسافة القصر.ولذلك قالوا: إن هذا يدل دلالة واضحة على أن مسافة القصر مؤقتة، ويؤكد هذا السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد وهي بضاحية المدينة ولم يقصر الصلاة، ومكث بالخندق وهي تبعد ميلين عن المدينة إبان عهده عليه الصلاة والسلام ولم يقصر الصلاة، وخرج إلى بني النضير خمسة عشر يوما وحاصرهم ولم يقصر الصلاة، وخرج إلى بني قريظة وصلى بأصحابه العصر ولم يقصر الصلاة، وكلها ضواح، مع أنه في حكم المسافر؛ لأنه حينما نزل على بني قريضة إنما قصد حصارهم وحربهم، وهذا سيكون بلا شك أنه في حكم السفر، ومع ذلك لم يقصر الصلاة، حتى إن الإمام ابن حزم الظاهري مع تمسكه بظواهر النصوص والتزامه بها رحمة الله عليه يقول: علمنا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يقصر في القليل والكثير، وإنما كان يقصر في المسافة.فدل على أنه يؤقت السفر بالمسافة، وهذا هو الذي أفتى به جمهور العلماء، وعليه العمل، فالعبرة في السفر بالمسافة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى ضواحي المدينة لم يقصر.وعلى هذا إذا كان المكان الذي تريد قصده دون مسافة القصر كضاحية فإنك لا تقصر، لكن لو أنك قصدت مدينة بعيدة، كأن تخرج من مكة إلى المدينة، ثم لما خرجت من مكة نزلت بعد بعدك عن مكة بعشرة كيلو مترات، أو بخمسة كيلو مترات في موضع أو في ضاحية حل لك أن تقصر.فمتى خرجت عن آخر عمران مكة جاز لك أن تترخص بالقصر في السفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا وبذي الحليفة العصر ركعتين.فدل على أن القصر يكون بمجاوزة آخر العمران، وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما يفهم من حديث أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه وأرضاه.والله تعالى أعلم.
[حكم إعادة تحية المسجد عند الخروج والدخول للمسجد]
qيصلي كثير من الطلاب مع الجماعة في الصف الأول، ثم يصعدون للحلقات في الدور الثاني، فهل عليهم إعادة تحية المسجد مرة أخرى؟
a هذا فيه تفصيل، فإن خرجوا من باب المسجد ودخلوا من باب ثان صاعدين إلى المسجد فالسنة واضحة: (إذا دخل أحدكم المسجد)، ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين طول العهد وقصر العهد، والأصل في العام أن يبقى على عمومه.فلو قيل: إنه إذا كان حديث العهد جاز، وإن كان طال العهد لم يجز، أو: إذا خرج بالنية جاز له أن يدخل ولا يصلي فإن هذا فيه نظر؛ لأنه إذا خرج وكان خروجه قريبا ورجع فإنه يحتاج إلى تأقيت يفرق فيه بين القليل والكثير، وهذا ليس فيه دليل من الشرع، ولذلك يقولون: تأقيت بدون مؤقت.وقالوا: إن التفريق بين كونه قريبا وبعيدا مبني على الاستحسان، والأصل أن إعمال عموم النص أولى من إعمال الاستحسان في مثل هذا، خاصة وأنه شرع على وجه التعبد؛ فقال: (إذا دخل أحدكم المسجد)، ولم يفرق بين هذا وذاك.وقال بعض العلماء: لو خرج بكامل جسمه ثم رجع مباشرة لزمه أن يعيد تحية المسجد، أما لو خرج من المسجد ناويا الرجوع، أو خرج من المسجد على نية أن يبقى فهذا مبني على إلغاء الظاهر وإعمال النية والباطن.وتوضيح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (إذا دخل أحدكم المسجد)، علق هذا على ظاهر المكلف ولم يعلقه على نيته.وما من إنسان يخرج من المسجد -إذا كان عبدا صالحا أو يريد الخير- إلا وفي نيته غالبا أن يعود إليه، ولذلك ورد في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد).بل قل أن تجد إنسانا صالحا يخرج إلا وفي نيته أن يعود إلى الفرض الذي بعده، وعلى هذا تسقط تحية المسجد، والذي يظهر والله أعلم أن العبرة بعموم النص، وما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا دخل أحدكم المسجد)؛ حيث لم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين دخول يطول الفصل فيه ودخول يقصر فيه الفصل، ولم يفرق بين كونه ناوي الرجوع، أو غير ناو.والله تعالى أعلم.
[حكم قطع الطواف لصلاة الجنازة]
q من كان يطوف فهل له أن يقف ويصلي على الجنازة، أم يمضي في طوافه؟
a الذي يظهر -والعلم عند الله- أنه يتم طوافه ولا ينشغل بصلاة الجنازة، أما لو كان الطواف فرضا كطواف الإفاضة ونحوها من الأطوفة الواجبة واللازمة كطواف الوداع فلا إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الطواف بالبيت بأنه صلاة، ولا يترك الصلاة المفروضة اللازمة لما هو دونها في المرتبة، فإن الصلاة على الجنازة من فروض الكفايات، وقد قام حقها بصلاة غيره عليها، فلا يترك الفرض العيني المتعلق به إلى فرض قد سقط عنه بفعل غيره، ولذلك يبقى في طوافه ولا يقطع.ولكن إذا أقيمت صلاة فريضة فإنه ينسحب ويصلي، ثم إذا صلى الفريضة كالعصر والظهر ونحوها ورجع فهل يرجع من أول الطواف، أو يرجع من الموضع الذي قطع فيه؟ أصح الأقوال أنه يرجع من الموضع الذي قطع فيه.وبناء على ذلك يرجع إليه ويتم طوافه، والأحسن أن يبتدئ من بداية الشوط الذي قطعه على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب.والله تعالى أعلم.
[نصائح وتوجيهات لطلبة العلم]
q نود ذكر ما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم من حيث ضبط المسائل ومراجعتها؟
a أولا: أوصي الإخوان وأوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل، فيتقي الإنسان ربه، وهذا العلم يراد به ما عند الله سبحانه وتعالى.وكان العلماء رحمة الله عليهم يوصون دائما بالإكثار من التواصي بالإخلاص في العلم، فإن الله يضع البركة فيه، ويكثر خيره، وينمي ما فيه من نفع المسلمين بحسن نية صاحبه.فينوي الإنسان بهذا العلم أن ينقذ نفسه من الضلال، وأن يعمل به، وأن يعلمه الناس، وأن يكون في نيته ألا يبخل على أحد بحكمة رزقه الله علمها، فهذا من أفضل ما يكون في توفيق الإنسان، وكلما صلحت نية طالب العلم كان ذلك أدعى لتوفيق الله ورحمته به.فإن الله اختار القلوب للنظر، ففي الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فأر الله من نفسك حسن النية.الأمر الثاني: لا تعجب، ودائما كن في احتقار وانتقاص لنفسك؛ فإن الله يرفع قدرك، قال بعض السلف: والله ما جلست مجلسا أظن نفسي أني أعلى القوم إلا خرجت وأنا أدناهم، وما جلست مجلسا أرى نفسي أصغر القوم إلا خرجت وأنا أعلاهم.فإذا احتقر الإنسان نفسه وقال: من أنا، وأخذ يظن بنفسه أنه دون الناس رفع الله قدره، وجعل بين الناس حبه والثقة بما يقول.الأمر الثالث: أن تضبط هذا العلم حق ضبطه، فتأخذه كما ينبغي أن يأخذه طالب علم بجد واهتمام وصدق كما قال تعالى: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم:12]، فيحتاج العلم إلى عزيمة، ولا يكون بكسل أو خمول أو توان، فتأخذ العلم بهمة صادقة وعزيمة على الخير وحب للانتفاع به.قال صلى الله عليه وسلم: (منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا)، فأر الله منك الجد والاجتهاد والصبر والتحمل.ولذلك موسى عليه السلام لما بلغه أن هناك من هو أعلم منه قال: {لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا} [الكهف:60] ومعنى (حقبا) أي: إلى آخر الدهر حتى أبلغ هذا الذي هو أعلم مني.وهذا يدل على الهمة الصادقة في العلم، فإن وجدت من هو عالم ويوثق بدينه وما عنده من العلم فخذ العلم كما ينبغي أن يؤخذ، فتكون عندك الهمة الصادقة فيه، والجد والاجتهاد والتفاني فيه، وبقدر ما تضحي للعلم يضع الله لك البركة والخير والنفع للمسلمين.فمن تعب اليوم فإنه يجني الثمار غدا، فيجنيها في الدنيا والآخرة، ويجنيها من الله سبحانه وتعالى في عاجل أمره وآجله؛ لأن المعاملة مع الله رابحة على أتم الوجوه وأكملها.الأمر الرابع: أول ما تعنى به تطبيق العلوم بعد أن تعلمها وتعرف حلالها وحرامها، فتعمل بهذا العلم الذي علمته، ولذلك قالوا: اعمل بالحديث ولو مرة تكن من أهله.فإذا علمت أن الله أحل فأحل، وإذا علمت أن الله حرم فحرم، وكن عاملا بهذا العلم، فإذا وفقك الله للعمل بما علمت فإن الله يرزقك علم ما لم تعلم.قالوا: من عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يعلم، أي: رزقه ما لم يكن له على الحسبان، وفتح الله له البركة؛ لأن العمل توضع بسببه البركة في علم العالم.الأمر الآخر الذي أحب أن أوصي به بعد العمل: أن تدعو الناس، وتهدي الناس إلى هذه السنن، وتحس أنها في رقبتك أمانة، فتبين للناس حلال الله وحرامه، وتدعوهم بالتي هي أحسن إلى أن يعملوا بالحلال وأن يحلوه، وأن يجتنبوا الحرام ويبتعدوا عنه وينبذوه.فمن خير المنازل الدعوة إلى الله عز وجل بالعلم، حتى تكون ممن عناهم الله عز وجل بقوله: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا} [فصلت:33].وينبغي عليك أن تتنبه لأمور: أولا: شيء لا تعلمه لا تتكلم فيه؛ فإن الله عز وجل إذا أراد أن يسلم العبد من تبعة هذا العلم رزقه الأمانة فيه، فلا تتكلم إلا بقدر ما علمت، وكلما كان طالب العلم دقيقا من أول طلبه للعلم، فلا يتكلم إلا في حدود ما يعلم كان أدعى لضبطه للعلم، وأدعى -أيضا- لسلامته من تبعة العلم.فإن الإنسان تزل قدمه بكلمة واحدة، وقد يمقت الله العبد بكلمة من غضبه حينما يفتري على الله كذبا فيقول: هذا حلال، والله حرم، أو: هذا حرام، والله أحل، خاصة إن كان عن جهل وجرأة على الله، نسأل الله السلامة والعافية.قال الله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا} [الأنعام:21]، فلو وقفت أمام الناس والخلق أجمعين يسألونك عن شيء لا تعلمه فقل بكل عزة وإباء: الله أعلم، فمن قال: لا أدري، فقد أنفذت مقاتله، ويكون الله أعلم في قلبك من كل أحد، ولا تبال بأحد.ولو ضاقت عليك الأرض بما رحبت فلا تقل في دين الله وشرع الله ما لا تعلم أبدا، فلا تتقدم، فإنك إن فعلت فقد تقحمت النار على بصيرة، نسأل الله السلامة والعافية.ومن كانت عنده الجرأة على الاجتهادات والخوض في الآراء وكثرة الجدل حتى يحدث لنفسه أقيسة وفروعا فقد زلت به القدم -نسأل الله السلامة والعافية- إن عاجلا أو آجلا، وقل أن يسلم من مكر الله به والعياذ بالله، فينبغي أن تكون أمينا.فاتق الله يا طالب العلم، فإن الناس إن جلست بين يديك تريد علما صادقا، ولا تريد الكذب، ولا تريد الغش، ولا تريد إحلال الحرام وتحريم الحلال، وإنما تريد الأمانة.وقد قال تعالى: {ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين} [الأحقاف:4]، قال بعض العلماء: في هذه الآية دليل على أن العالم لا يكون صادقا إلا إذا تتبع الأثر.ولذلك تجد في بعض الأحيان بعض الكتب تنقل ولا تزيد، حتى إن الكلمات مكررة، وهذا يدل على أمانة العلماء، وهم قادرون على أن ينظروا، وأن يجتهدوا، وأن يفرعوا، وأن يؤصلوا، ولكن الخوف من الله حبسهم.فينبغي لطالب العلم أن يكون بهذه المثابة، فلا تتكلم في شيء لا تعلمه، وإذا أصبحت من الآن لا تخطو خطوة إلا وأمامك دليل وحجة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فأنت على خير.والوصية التي أحب أن أنبه عليها أيضا أنك لا تدخل في مماراة السفهاء ومجادلة العلماء، فلا تتعلم العلم لتماري به السفهاء، أو تجادل به العلماء، فمن تعلم العلم ليماري به السفهاء أو ليجادل به العلماء أو ليصرف وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار.وليكن أهم شيء عندك رضوان الله العظيم، وأهم شيء أن الله يرضى عنك حينما علمت فعملت وعلمت ودعوت، فإذا بلغت هذا وضع الله في قلوب العباد الثقة بعلمك، ووضع الله في قلوب العباد حبك، وتجد من تيسير الله لك في العلم، حتى إنه في بعض الأحيان تقول: (الله أعلم) فتخاف الله عز وجل وتتورع، فلا تجاوز مكانك حتى يفتح الله عليك بالحق فيها، وهذا مجرب، فربما تتذكر أدلة ونصوصا في المسألة، وكأن الله يمتحنك، وكأن الله يبتليك ويختبرك، فإذا كنت بهذه المثابة فإن الله يفتح عليك.ثم عليك أن تشوب العلم بالصلاح والتقوى والورع، فكلما نظرت إلى الله سبحانه وتعالى كيف علمك وفهمك وهداك وأرشدك فينبغي أن تشكر هذه النعمة؛ فإن الله تأذن بالزيادة لمن شكر، وتأذن بمحق البركة لمن كفر.ولذلك يقول العلماء: قرينان لا يمكن أن يكون الإنسان إلا على واحد منهما، إما شكر وزيادة، وإما كفر -والعياذ بالله- فمحق للبركة وخسارة، فإذا أردت أن يبارك الله لك في هذا العلم فدائما اذكر فضل الله عليك، وأثن على الله بما هو أهله.ودائما ينبغي أن تدمع عينك، خاصة إذا كنت في خلوة بينك وبين الله، فتقول: يا رب: لك الحمد، علمتني وكنت جاهلا، وهديتني وكنت ضالا، وأرشدتني وكنت حائرا.إلى غير ذلك.فلا تزال تثني على الله وتصعد منك هذه الكلمات، ففي الحديث: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها).فلربما أنك تجلس خاليا فتذكر ولو مجلسا واحدا جلسته، ولو فتوى واحدة سمعتها من أهل العلم، فإن الله يرفعك بها درجات، فإن شكرت بارك الله لك.والوصية الأخيرة: أن تتأدب مع العلماء والسلف الصالح رحمة الله عليهم، فأنت لم تتعلم العلم لكي تضع نفسك في مكان لست بأهله، فلا تكن جريئا على تخطئة الأسلاف، وكذلك بيان عوارهم وانتقاصهم، وإنما تأدب مع السلف الصالح والأئمة، وتأدب مع من هو أعلم منك.وإن جلست في مجلس وهناك من هو أعلم منك فأعط الزمام له، قال صلى الله عليه وسلم: (كبر كبر)، فاحفظ حق من هو أكبر منك، ومن هو أسبق منك، ولا تتعال على الناس، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} [القصص:83].نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل علمنا نافعا، وعملنا صالحا خالصا لوجهه الكريم، ونسأله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا فيما علمنا وعملنا، وأن يجعله خالصا لوجهه ليس فيه لأحد سواه حظ ولا نصيب؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (125)
صـــــ(1) إلى صــ(16)
فصل: أعذار ترك صلاة الجماعة
المرض هو أحد الأعذار التي يعذر بها صاحبها عن ترك صلاة الجمعة والجماعة، وقد قسم العلماء المشقة فيه إلى مشقة مقدور عليها ومشقة غير مقدور عليها،
ومن الأعذار التي يعذر بها صاحبها عن التخلف عن صلاة الجمعة والجماعة: مدافعة أحد الأخبثين، وحضرة الطعام مع الحاجة إليه، وكذلك الضرورة التي يقاس عليها بعض الأعذار وغيرها، ولأهل الأعذار كالمريض كيفية خاصة في الصلاة كما جاء في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
أعذار ترك صلاة الجمعة والجماعة
[المرض]بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ويعذر بترك جمعة أو جماعة مريض].
قوله: [يعذر بترك] أي: بالتخلف.فالجمعة والجماعة لا تجب على المريض الذي لا يستطيع شهودها وحضورها، والسبب في ذلك أن تكاليف الشرع مبنية على التيسير على الناس، لا على التعسير عليهم.وقد بعث الله نبيه رحمة للعالمين، ولم يبعثه -صلوات الله وسلامه عليه- بما فيه حرج ومشقة لا يطيقها الناس، والمرض فيه مشقة وحرج.ولذلك لما مرِض عليه الصلاة والسلام لم يشهد الجماعة،
كما في الصحيحين أنه قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فتخلف عليه الصلاة والسلام عن شهود الجماعة، فأخذ العلماء من هذا دليلاً أن من كان مريضاً يُعذر بترك الجماعة.والمرض له أحوال، فتارةً يمتنع الإنسان بالكلية عن شهود الجماعة، كأن يكون مشلولاً أو به ألم لا يطيق معه الخروج من بيته، فهذا يُعذر، ويعتبر وجود مثل هذا الأذى رخصة له في ترك الجمعة والجماعة.
وتارة يكون مرضه يستطيع معه الخروج، ولكن يتضرر بالخروج؛ فتارة يزداد عليه المرض، كأن يكون مصاباً بالزكام، فلو خرج في شدة البرد زاد عليه زكامه، ولربما ساءت صحته، واشتدت عليه علّته، وتارةً يستطيع الخروج ولا يزداد المرض، ولكن يجد الأذى والمشقة في النقلة، كأن يكون مرضه في قدميه، فلو سار عليهما أو حمل بين اثنين فإنه يتضرر بالمشي.ففي الحالة الأولى اختار بعض العلماء والمحققين أنه إذا خاف زيادة المرض، وغلب على ظنه أن المرض يزداد والعلة تشتد فإنه يترك شهود الجماعة، فلو أنه أصابه الزكام، وغلب على ظنه أنه لو خرج لهذه الصلاة تشتد عليه العلة ويعظم عليه البلاء فإنه يتخلف.
وهكذا لو كان خروجه فيه المشقة والحرج والأذية، أما لو كانت به مشقة يستطيع أن يتحملها فعليه أن يخرج،
ولذلك يقول العلماء: المشقة مشقتان: مشقة مقدور عليها، ومشقة غير مقدور عليها، فالمشقة غير المقدور عليها لا يكلف معها إجماعاً وإذا كان الإنسان لا يطيقها، ولا يمكنه أن يأتي بالشيء مع وجودها، فلو أن إنساناً أصابه مرض لا يستطيع معه القيام ألبتة -كالشلل- فإنه لا يكلف إجماعاً بالقيام.
والمشقة المقدور عليها تنقسم إلى قسمين:
الأول: أن تكون مقدوراً عليها وفيها حرج وضيق وعناء.
الثاني: أن تكون مقدوراً عليها، ولا يلحق الإنسان بها حرج ولا ضيق.فمثال الأول -إذا أصابته المشقة وأجحفت به- أن يكون في سفر وتشتد عليه المخمصة، فلو كان في سفر وهو صائم، فإنه في حال السفر يمكنه أن يصبر على الصيام، ولكن تصل نفسه إلى الضيق والحرج، فهذا يرخص له في الفطر.
ومثال الثاني: مشقة الخروج لصلاة الفجر، فإنه يترك النوم ويخرج، ومشقة الوضوء في الشتاء، فإنه يكلف بها،
فأصبحت المشقة ثلاثة أقسام: الأول: ما لا يُقدر عليه، كالمخمصة التي تفضي به إلى الموت.فهذه يسقط فيها التكليف، وينتقل إلى الرخصة بأكل الميتة.
الثاني: مشقة مقدور عليها مع الحرج، كالصوم في السفر، فيخير بين الفعل والترك، والرخصة له أن يترك، فالإنسان في السفر يخير بين أن يفطر ويصوم.
الثالث: مشقة مقدور عليها بدون حرج، فيلزم فيها بالتكليف،
ولذلك قال العلماء: سميت التكاليف تكاليفاً لوجود الكلفة والمشقة فيها.وبناءً على ذلك فالمريض الذي إذا خرج من بيته أجحف به الخروج وحصل له العناء والضررله أن يترك شهود الجماعة، ولا حرج عليه في ذلك.أما لو كان يطيق -ولو مع يسير المشقة- فإنه يشهد،
فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم نفاقه، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).فهذا يدل على حرصهم رضي الله عنهم على شهود الجماعة، ويدل على تأكدها ولزومها.
[مدافعة أحد الأخبثين]
قال رحمه الله تعالى: [ومدافع أحد الأخبثين] أي: يعذر بترك الجماعة من كان يدافع أحد الأخبثين.والمدافعة: مأخوذة من دفع الشيء، والمراد به كفه.وهناك (دفع) و (رفع)،
والعلماء يقولون في القاعدة المشهورة: (الدفع أسهل من الرفع).
وسأل بعضهم: ما الفرق بين الدفع والرفع؟
فقالوا: الدفع لما لا يقع، والرفع لما وقع.فأنت ترفع شيئاً قد وقع وحصل، كأن ترفع شيئاً على الأرض، فإنه بعد سقوطه على الأرض يرفع.وأما بالنسبة للدفع فإنه يكون لشيء لا يراد وقوعه،
فمدافعة الأخبثين المراد بها: أن يكون حاقناً بالبول أو الغائط أو بهما معاً، فمثل هذا لا يستطيع أن يكون مستحضراً للخشوع في صلاته، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من يدافع الأخبثين أن يصلي حال مدافعته للأخبثين،
فقال صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)، والأخبثان -كما قلنا-: البول والغائظ.
ومدافعة الأخبثين تكون على صور: الصورة الأولى: أن تكون إلى درجة لا يعي الإنسان معها الصلاة، بأن تشتد عليه، وتبلغ به إلى مقام تذهله عن صلاته، وكذلك عن خشوعه وموقفه بين يدي ربه.
الصورة الثانية: أن تكون في بدايتها، بحيث يطيق الصبر إلى انتهاء الصلاة، فيرجع إلى صلاته تارة ويغيب عن صلاته تارة.فإن وصلت به إلى حد لا يستطيع معه أن يدرك صلاته فإن صلاته لا تصح في قول طائفة من العلماء، وهو مذهب الظاهرية، وكذلك قال به الإمام مالك، وكذلك قال به بعض السلف رحمة الله على الجميع.فإذا وصلت المدافعة إلى درجة لا يعي معها صلاته، فإن صلاته غير صحيحة، ويُلزم بإعادة الصلاة.
والقول الثاني: صلاته مكروهة، وتقع مجزئة؛ لأنه صلى وهو متوضئ وغير محدث، وإنما كانت مدافعة الأخبثين متعلقة بالخشوع، وفوات الخشوع لا يؤثر في ذات الصلاة، وإنما يؤثر في كمالها وحصول الأجر فيها، وهذا مذهب الجمهور.
وهذا المذهب يقول: لا يستلزم فوات الخشوع بطلان الصلاة، فغاية ما هو فيه -أي: الذي يدافع الأخبثين- أنه لا يعي صلاته، بمعنى أنه لا يخشع فيها الخشوع المعتبر.
وبناءً على ذلك قالوا: إن صلاته صحيحة.والحقيقة أنه إذا دافع مدافعة يذهل فيها عن صلاته بالكلية فإن القول بالإعادة من القوة بمكان.وأما إذا كانت المدافعة يسيرة، بأن تغلبه تارة ويرجع تارة إلى الصلاة، فإن الظاهرية يقولون ببطلان الصلاة، وبعض أهل الحديث يوافقهم، والجمهور على صحة الصلاة،
وقالوا: لكن يُكره له أن يصلي على هذه الحالة.والصحيح أنه إذا كان في بداية المدافعة بحيث يرجع إليه الشعور تارة ويغيب عنه تارة فإن صلاته صحيحة.
والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لأم المؤمنين عائشة: (أميطي عنا قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي)،
فقوله: (أميطي) أي: أزيلي.(قرامك) القرام: هو الستارة، وكانت فيها صور،
فقال: (أميطي عنا قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي)، ولم يبطل صلاته ولم يقطعها.فدل على أنه إذا فاء تارة وغلبه فذلك لا يؤثر في الصلاة، وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام،
فأمر عليه الصلاة والسلام فقال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي، وائتوني بأنبجانية أبي جهم)، فهذا الحديث يدل على أن من ذُهل عن صلاته بحيث يفيء تارة ويغلب تارة فصلاته صحيحة.وبناءً على ذلك يفرق فيمن يدافع الأخبثين بهذا التفريق، فإن غلبته المدافعة إلى درجة لا يعي معها الصلاة بالكلية فإنه حينئذٍ يعيد، وأما إذا كان تغلبه تارةً وتارةً يغلبها فإنه تصح صلاته وتجزيه، لما ذكرنا من الأحاديث.فمن يدافع الأخبثين إذا أقيمت الصلاة يشرع له أن يخرج ويتوضأ، أو يعيد وضوءه، والسبب في ذلك واضح إذا كانت المدافعة قوية؛ لأن صلاته محكوم ببطلانها، أما إذا كانت المدافعة يسيرة فإنه يصلي.
وقال بعض العلماء: لا حرج أن يخرج من المسجد وأن يعيد وضوءه في هذه الحالة ولو كانت يسيرة.
[حضرة الطعام مع الحاجة إليه]
يقول المصنف: [ومن بحضرة طعام محتاج إليه] الطعام قد يكون غداءً أو عشاءً،
وحضور الطعام مع الصلاة هو المعبر عنه في الحديث في قوله في حديث أم المؤمنين عائشة: (لا صلاة بحضرة طعام)، وحضور الطعام كمال نضجه واستوائه وتهيؤه لتناوله، فالمراد بذلك أن تحضر الصلاة في حال حضور الطعام.بمعنى أن يكون فعل الجماعة للصلاة وقت وضع الطعام بين يديه، أو يكون مشغولاً بالأكل فتقام الصلاة أثناء اشتغاله بالأكل، فإذا كان الطعام يحتاج إليه وتتعلق نفسه به فإنه حينئذٍ ينصرف إلى الطعام؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدأوا بالعشاء).وهذا من سماحة الشريعة، وفيه دليل على كمال منهجها ورحمة الله عز وجل بعباده؛ فإن الإنسان ضعيف، إذ لو صلى وهو بحضرة الطعام تنشغل نفسه فيفوته الأجر، فأُذِن له أن يشتغل بالطعام.
وقوله: [محتاج إليه] خرج به الطعام الذي لا يحتاج إليه، فلو دعي إلى صلاة العِشاء، وكان بحضرة طعام لا يحتاج إليه، كأن يكون في شبع، أو يكون شراباً كالشاهي أو نحوه، كما هو موجود في زماننا الآن فإنه ينصرف إلى الجماعة، ولا يجوز له أن يتخلف عنها.أما إذا كان محتاجاً إليه، كمن أصابه الجوع وحضرته صلاة العصر والطعام بين يديه فإنه يتخلف، وينبغي أن يُنبه أنه لا يجوز اتخاذ هذا وسيلة لترك الجماعة، كأن يُهيئ طعامه عند حضور الصلوات بقصد التخلف عنها، فإنه يعامل بنقيض قصده،
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).فإذا نوى مخالفة الشرع وتفويت هذه الفريضة عليه من شهود الصلاة مع الجماعة فإنه يأثم بهذا الفعل،
وقال طائفة: لا يرخص له.فتسقط الرخصة عنه معاملة له بنقيض قصده، والمعاملة بنقيض القصد الفاسد معروفة شرعاً ومعهودة عند العلماء رحمة الله عليهم.فالمقصود أن حضور الطعام المراد به نضجه وتيسر أكله له مع تعلق نفسه به، فإن كان الطعام لم ينضج بعد فإنه ينصرف إلى صلاته، وكذلك إذا كانت نفسه لا تتعلق بهذا الطعام، بمعنى أنه في شبع ولا يجد الحاجة لهذا الطعام، فيجب عليه شهود الجماعة إعمالاً للأصل.
[الخوف من ضياع المال أو فواته]
قال المصنف: [وخائف من ضياع ماله أو فواته أو ضرر فيه] أي: يرخص للإنسان إذا كان عنده مال ويحرس هذا المال ويقوم عليه أن يتخلف عن الجماعة إذا خاف بذهابه إليها أن يسرق هذا المال، أو يضيع عليه.فمن كان عنده مال أمانة، أو ماله هو يملكه، ولا يستطيع أن يدخله معه فإنه يرخص له في ترك الجماعة لوجود الضرر.
وقد نبه الشرع بالنهي عن الصلاة بحضرة الطعام على اعتبار حاجة الإنسان، والمال من حوائجه، ولذلك لا حرج عليه في قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم في ترك الجماعة، خاصة إذا كانت هناك جماعة أخرى كأهله وزوجه ونحو ذلك.
فإن خاف على ماله، أو مال يكون أمانة عنده فإنه حينئذٍ يُشرع له أن يحفظ المال، وأن يتخلّف لوجود الحاجة،
والحاجة تنزل منزلة الضرورة للقاعدة التي تقول: (الحاجة تنزَّل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة).وهذا بالنسبة لفوات المال، ويكون أيضاً ضياع المال في حكم الفوات، كأن يكون عنده دابة ولا يجد مكاناً يحفظ فيه هذه الدابة، فإن أقيمت الصلاة وإذا تركها فإنها تضيع فحينئذٍ يجوز له أن يتخلف عنها، خاصة إذا كان في سفر وفواتها يضر به ويجحف.
[الخوف من موت قريب إذا تركه بمفرده]
يقول المصنف: [أو موت قريبه].
أي: إذا خاف موت القريب فإنه يُشرع له أن يتخلف لمداواته والقيام عليه وتجهيزه للصلاة عليه، وقد أُثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما سمع الصارخ على ابن عمه -وقد كان خرج للجمعة- ترك الجمعة، وانصرف إليه وأقام حاله.وهذا من باب التيسير، وبناءً على ذلك فإذا أقيمت الصلاة والإنسان يخاف على والدته أو على والده أن يموت، أو كان في شدة المرض يحتاج إلى قيامه عليه ورعايته له، فلا حرج عليه أن يتخلف للقيام عليه ورعايته.
وكذا لو غلب على ظنه أنه لو ترك المريض وذهب فإنه يموت، أو ربما يحصل له ضرر، كالأطباء في بعض الأحوال التي يقومون فيها على المرضى، فيشرع لهم أن يتخلفوا عن الجماعة في الحالات الطارئة.
فالأطباء الذين يستقبلون الحالات التي تطرأ على الناس، ويغلب على الظن فيها فوات الأنفس يشرع لهم أن يصلوا جماعة مع بعضهم، وأن يتخلفوا عن الجماعة العامة إحياءً للأنفس إذا غلب على ظنهم وجود الضرر أو التلف.
وهكذا بالنسبة لمن يحفظ الأموال وخاصة عند وجود الفساد، فإنه يُشرع لهم أن يتخلفوا لوجود الحاجة، وهكذا الخوف على العرض، فإذا كان الإنسان في سفر ومعه زوجه أو معه أخته، وهو في موضع لا يجد فيه أين يضع أهله، ويخشى لو فارقهم أن يُعتدى عليهم، أو يحصل الضرر عليهم، فإنه يجوز له أن يصلي معهم جماعة، ولا حرج عليه في مثل هذه الأحوال.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (126)
صـــــ(1) إلى صــ(16)
[الخوف على النفس من ضرر أو سلطان]
يقول المصنف: [أو على نفسه من ضرر أو سلطان].إذا خاف على نفسه من ضرر فإنه يجوز له -في قول جماهير العلماء- أن يتخلف عن الجماعة، وذلك لأنه إذا تعارض حق الله وحق العبد فحقوق الله مبينة على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة والمقاصة.
ولذلك أباح الله عز وجل للعبد أن يأكل من الميتة في حال خوفه على نفسه، فسقط التكليف بالحرمة، فإذا خاف على نفسه سقط التكليف بوجوب شهادة الجماعة، وجاز له أن يتخلف.والأمثلة التي ذكرها إنما هي أمثلة أنواع، وليست أمثلة تقييد، فإذا خاف على نفسه الضرر من أي جهة كانت فإنه يشرع له ويجوز له أن يتخلف دفعاً لهذا الضرر، فإن الشرع دفع الضرر عن المكلف كما في الصوم، وكما في المخمصة.
ولذلك قالوا: إن الشرع قصد المحافظة على الأنفس فيخفَّف في شهود الجمعة والجماعة، فيصليها في بيته إذا خاف الضرر، ولا حرج عليه في هذه الأحوال.
قالوا: وأصول الشريعة تدل على هذا؛
لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وهذا ليس في وسعه أن يعرض نفسه للهلاك والتلف.
وكذلك أيضاً يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فلو أُلزِم بشهودها كان ضررا يخالف القصد الذي بُنيت الرسالة عليه من الرحمة بالناس،
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن خير دين الله أيسره)،
وقال: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).فلو أوجبنا عليه شهود الجماعة مع وجود هذه الأضرار كان هذا مخالفة للأصول التي دلت عليها هذه النصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستنبط الجماهير رحمة الله عليهم من هذا الحكم بجواز التخلف عن شهود الجماعة في مثل هذه الأحوال.
[ملازمة غريم]
قال رحمه الله تعالى: [أو ملازمة غريم ولا شيء معه] ملازمة الغريم تكون على حالتين: الأولى: أن يكون الإنسان معذوراً بالتخلف عن سداد الدين.
الثانية: أن يكون غير معذور.فإن كان معذوراً لا يجد السداد والغريم يسيء إليه، فيؤذيه بالكلام، أو يتسبب في التضييق عليه، أو الاستعداء عليه، بحيث يكون سبباً في لحوق ضرر به، أو يخاصمه أمام الناس،
فيقول له: يا ظالم.يا مماطل.أو يؤذيه بدون حق فيجوز له أن يتخلف في هذه الأحوال.والسبب في ذلك -كما يقول العلماء رحمة الله عليهم- أنه لو خرج لحقت به المشقة والحرج،
والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فإن الإنسان إذا أوذي أمام الناس وانتقصت كرامته، وأوذي بسبه وشتمه قد يكون الأذى والضرر عليه أكبر مما لو أُوذِي بجرحه والضرر في جسده.
ولذلك قالوا: جرح اللسان أعظم من جرح السنان.فالمقصود أن الإنسان إذا خاف من أذية صاحب الدين وكان مظلوماً بهذه الأذية وليس عنده سداد شرع له التخلف.أما لو كان عنده سداد ويستطيع أن يدفع فإنه ظالم؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته) فإذا امتنع عن السداد وهو قادر عليه، وعنده ما يتمكن به من سداد الحقوق التي عليه فإنه لا يشرع له أن يتخلف عن الجماعة، بل يجب عليه أن يخرج، وإذا أُوذِي فإنه يستحق الأذية بإذن الشرع بذلك.
[فوات الرفقة]
قال رحمه الله تعالى: [أو فوات رفقة] إذا كان في سفر وكان فوات الرفقة قد يعرضه للهلاك فقد قالوا: يشرع له أن يترك الجماعة.أما لو كانت هناك رفقة بديلة عن هذه الرفقة، أو يستطيع أن يمشي وحده ولا حرج عليه فإنه حينئذٍ يتخلف ويصلي، فإن أدركهم فبها، وإلا أقام حق الله عز وجل عليه بشهود الجماعة.
[غلبة نعاس]
قال رحمه الله تعالى: [أو غلبة نعاس] مثال هذا: لو أن إنساناً اشتغل من الصباح الباكر، فجاء قبل صلاة الظهر وإذا به في شدة الإعياء والإرهاق، ثم إنه غلب على ظنه أنه لو نزل إلى المسجد فإنه سينتظر بقدر ربع ساعة إلى ثلث ساعة وهو في غاية الإرهاق، وغلب على ظنه أنه لو نزل لا يعي الصلاة من شدة ما يجد من العناء والتعب، أو قد لا يستطيع ذلك إلا بعناءٍ شديد ومشقة، فحينئذٍ يصلي في موضعه، ولا حرج عليه في التخلف عن الجماعة.
[الأذى بمطر أو وحل]
قال رحمه الله تعالى: [أو أذى بمطر أو وحل] وذلك لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا نزل المطر وحضرت الصلاة كان ينادي المنادي: (الصلاة في الرحال الصلاة في الرحال).
وهذا بعد قوله: حي على الصلاة.وهذا من سماحة الشرع ويسره، وذلك أن الخروج في المرض أو في المطر لا يخلو من وجود الضرر والأذية،
ولذلك يقولون: إذن الشرع بالتخلف عن الجماعة في حال المطر يدل على اعتبار الأضرار مرخِّصة في ترك الجماعة.فكون الشرع مع وجود المطر يأذن في ترك الجماعة ينبِّه على أنه لو وُجِد الضرر الذي ذكرناه من خوف النفس والخوف على الأموال ونحوها يُشرع له التخلف؛ فإنها في مقام ضرورة، أو مقام حاجة قد تكون أشد من أذية المطر وما يكون فيه من مشقة.
وبعض العلماء يقول: يسير المطر وكثيره سواء، وهذه سنة ضائعة اليوم إلا ممن رحم الله، وينبغي للمؤذنين أن يحيوها، وأن يُنبه على المؤذنين بإحيائها، فإن الأذان يؤذن -سواءٌ هناك مطر أم لم يكن هناك مطر- وقل أن تسمع هذه السنة،
بحيث يقال: الصلاة في الرحال.فينبغي إحياء هذه السنة والتنبيه عليها،
وأنه إذا وجد المطر يقول المؤذن: (الصلاة في الرحال الصلاة في الرحال) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من هديه ذلك، وقد فعل ذلك ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاهما، ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.ولذلك لا يقتصر على الأذان وحده، وإنما يدخل هذه العبارة؛ لأنها من ألفاظ الأذان المشروعة.والمطر إن كان شديداً فقولاً واحداً أنه يتخلف ويعذر بالتخلف عن الجمعة والجماعة.
وأما إذا كان يسيراً فقال بعض العلماء: إن يسيره لا يوجب الترخيص، وإنما يوجب الترخيص إذا كان فيه ضرر.بمعنى أن يكون شديداً.وإن كان ظاهر النص على أنه يُرخص في المطر مطلقاً، والاحتياط أنه إذا كان يسيراً وأمكن الإنسان أن يشهد معهم الجماعة دون وجود ضرر فإنه يشهدها.
قوله: [أو وحل].هو الذي يكون ناتجاً عن المطر، كالطين الذي يكون في الطريق، فإذا كان طريقه فيه وحل فحينئذٍ لا حرج أن يتخلف عن الجماعة؛ لأن الشرع لما أذن بالصلاة في البيوت مع وجود المطر فإن الوحل أثر من الآثار التي أوجبت الرخصة.
[الريح الشديدة البرودة في الليلة المظلمة]
قال رحمه الله تعالى: [أو بريح باردة شديدة في ليلة مظلمة].الريح فيها حرج ومشقة، وخروج الناس مع وجود الريح في شدة البرد يُضر بهم، وقد يتسبب في حصول الضرر بالإنسان،
ولذلك قالوا: يشرع له أن يتخلف عن الجماعة إذا كانت الريح باردة، والريح الساخنة التي تسمى بالسموم يمكن الصبر عليها، ويمكن اتقاؤها وإذهاب حرها بما يكون من الملابس ونحوها.والريح الباردة أقوى في الإضرار بالجسد من الحارة، ولذلك رخِّص في الباردة دون الحارة،
فالأمر الأول: أن تكون الريح باردة.
الأمر الثاني: أن تكون شديدة، فإذا كانت يسيرة وجب عليه أن يشهد الجماعة؛ لأنه الأصل.الثالث أن تكون في ليلة مظلمة، والسبب في ذلك أن الضرر بها يكون أبلغ ما يكون إذا كان بهذه الصفة، أما لو كانت الريح باردة وشديدة، ويمكنه أن يخرج ويرى فحينئذٍ يخرج، فقوله: [مظلمة] إشارة إلى أنه لا يرى الطريق، فلما كان الشرع يأذن بالتخلف عن الجماعة مع وجود المطر الذي يعيق السير كان تنبيهاً إلى الريح الشديدة الباردة وما في حكمها.
قالوا: فحينئذٍ يتخلف، لكن بشرط أن يكون متأذياً، أو متضرراً ببرودة هذه الريح وشدتها وكونه في ليلة ظلماء، أما لو اتقى الريح بركوب سيارة، أو كان عليه ما يحفظه من الأذى والضرر فإنه يشهد الجماعة، ولا يتخلف عنها؛ لأن العلة في مثله ليست بمتحققة، فيشهد الجماعة ويصلي مع الناس.
وهذا كله من سماحة الشرع وتيسير الله عز وجل على عباده، والعلماء ذكروا هذه الصور، وهي إما منصوص عليها كمدافعة الأخبثين والصلاة بحضرة الطعام ونحوها من الأعذار التي نص عليها.وإما أن تكون في حكم المنصوصة، كالخوف على النفس، وما يوجب الحرج على الإنسان، سواء أكان ذلك في نفسه أم في ماله، فإنه يجوز له أن يتخلف للمعنى الذي استنبط من النصوص.فعندنا أعذار نصية وأعذار اجتهادية، فالأعذار النصية مثلما ذكرناه، والأعذار الاجتهادية آخذة حكم الأعذار المنصوصة؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على مثله،
كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخاطب أبا موسى: (اعرف الأشباه والنظائر).
فإنه قد ينبه الشرع على شيء لكي يكون أصلاً لغيره، فلما نبه الشرع على المطر، وكان ذلك موجباً للترخيص في ترك الجمعة والجماعة كان أصلاً في دفع كل ما فيه ضرر لشهود الجماعة.
الأسئلة
[أكل الثوم أو البصل ونحوهما ومدى تأثير ذلك في حضور الجماعة]
qهل يعذر من أكل ثوماً أو بصلاً في ترك الجمعة والجماعة على ظاهر حديث النهي عن أكلهما قبيل الصلاة؟
aباسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن أكل الثوم والبصل فإنه لا يشهد الصلاة في المسجد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا -أو ليعتزل مسجدنا- وليقعد في بيته، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)، وحينئذٍ يصلي في بيته، ولكن هناك فرق بين من أكل الثوم والبصل من غير عذر ومن كان معذوراً، فإن المعذور يكتب له أجره كاملاً، وأما من أكل الثوم والبصل من غير عذر فقد فاته الأجر.ومن أمثلة المعذور: من أكله للتداوي، بمعنى أن الطبيب أمره بأكل الثوم والبصل للدواء فأكله، أو أكل دواءً له رائحة نتنة ومضرة، فإنه حينئذٍ يكون في حكم المريض، ويُكتب عمله كاملاً ولا ينقص أجره، والله تعالى أعلم.
[قياس مدافعة الريح بمدافعة الأخبثين]
qهل تنزل مدافعة الريح منزلة من يدافع الأخبثين وتأخذ نفس الحكم؟
aمدافعة الريح قال بعض العلماء بالرخصة فيها، ونص بعض العلماء على أن من يدافع الريح فإنه آخذ حكم من يدافع الأخبثين ولكن في الريح فرق بينه وبين البول والغائط، ولذلك يجعلون ضرر البول والغائط أعظم من الريح، فيخففون في البول والغائط ولا يخففون في الريح.وهنا مسألة ذكرها بعض العلماء، فلو أن إنساناً فيه بعض الأمراض، وإذا وقف استطلقت بطنه، أو كان معه الريح، وإذا صلى جالساً فإنه لا يحصل معه شيء من ذلك، فهل نقول له: صل جالساً حتى لا ينتقض وضوءك، أو نقول له: صل قائماً ولو انتقض وضوءك؟ وهذا إذا كان معه المرض باستمرار، أو يكون المرض لا يستطيع معه أن يحافظ على طهارته، فالصحيح أنه يصلي قائماً ولو استطلقت بطنه بالريح، وهذا يتفرع على مسألة اعتنى العلماء رحمهم الله بها وهي مسألة الازدحام.
والازدحام يكون على صور: منها:
ازدحام الفروض مع الفروض، وازدحام الشروط مع الشروط، وازدحام الواجبات مع الواجبات، وازدحام الفروض مع الشروط، وازدحام الشروط مع الواجبات، وازدحام الفروض مع الواجبات، فهذه من مسائلها التي تكلم عليها الأصوليون.فمن مسائل الازدحام ازدحام الركن -وهو هنا القيام والركوع- مع شرط الصحة وهو الطهارة، فلو قلنا له:
صل قاعداً حتى لا ينتقض وضوؤك، فإننا قدمنا شرط الصحة على الأركان فأسقطنا الأركان واعتبرنا الشرط، والركن أقوى من الشرط.وحينئذٍ يُقدَّم الركن على الشرط، فالصحيح أنه يصلي قائماً ولو استطلق بطنه ولا حرج عليه في ذلك، والله تعالى أعلم.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (127)
صـــــ(1) إلى صــ(6)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة أهل الأعذار
الإسلام دين يسر ورحمة، ومن تيسيره على العباد أن جعل لمن كان به عذر صفة خاصة في الصلاة بحسب استطاعته، فمن كان مريضاً صلى قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، ويومئ إيماءً، ومن كان في سفينة وقدر على القيام في الصلاة قام، وإن لم يقدر صلى قاعداً، ومن كان على راحلة وحضر وقت الفرض وكان هناك وحل ونحوه، صلى على راحلته وهذا كله يدل على يسر الإسلام ورحمته بالناس.
صفة صلاة أهل الأعذار
[كيفية صلاة المريض]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة أهل الأعذار].
أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالمعذورين.وهذا الباب من أهم الأبواب، نظراً لأنه تعم به البلوى،
خاصة وأن المرضى يكثر تساؤلهم: كيف يصلون؟ وقد يكون الإنسان مريضاً في نفسه أو في جسده، وقد يكون في بيته المريض فيسأله، وقد يسأل عامة الناس عن مثل هذه المسائل والأحكام.وقد اعتنت نصوص الكتاب ونصوص السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ببيان الرخص وأهل الأعذار.فبعد أن فرغ رحمه الله من أهل الأعذار في شهود الصلاة مع الجماعة شرع في أهل الأعذار الذين يعذرون في صفة أداء الصلاة.فهناك من يعذر في شهود الصلاة، وهناك من يعذر في كيفية أداء الصلاة، وهذا الباب من أهم الأبواب؛ لأن مسائل الناس تكثر عنه، وهو صلاة المريض وما في حكمه.
قال رحمه الله تعالى: [تلزم المريض الصلاة قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب] قوله: [تلزم المريض الصلاة قائماً] أي: إذا أطاق ذلك وقدر عليه،
والأصل في ذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6]، فدل على أن من يصلي يكون قائماً.
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فاستقبل القبلة ثم كبر)، وقال عليه الصلاة والسلام لـ عمران بن حصين: (صل قائماً).فالأصل أن يصلي الإنسان قائماً، والمريض مطالب بالصلاة قائماً، ولكن إذا أطاق القيام، وأما إذا كان عاجزاً عنه ففيه التفصيل.وهذا هو نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله عمران بن حصين، وكانت بـ عمران رضي الله عنه وأرضاه بواسير فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما يجده،
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً)، فدل هذا على الأصل.
ولذلك نقول: الأصل في المصلي أن يصلي قائماً بنص الكتاب ونصوص السنة التي ذكرنا، ولقوله عليه الصلاة والسلام لـ عمران وهو مريض: (صل قائماً).
قوله: [فإن لم يستطع فقاعداً].أي: لا يستطيع أن يقوم، كأن يكون الإنسان مصاباً بالشلل والعياذ بالله، فإنه حينئذٍ ينتقل إلى الرخصة، فشرط إيجاب القيام الاستطاعة والقدرة،
لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
والمريض إذا لم يستطع القيام فله حالات: الحالة الأولى: أن لا يستطيعه بالكلية، فحينئذٍ يصلي جميع الصلوات قاعداً بلا إشكال.
الحالة الثانية: أن يطيق بعض القيام دون بعض، فحينئذٍ يلزمه القيام بقدر ما يطيق،
ويأتي هذا على صورتين: الأولى: أن يستطيع القيام من أول الصلاة ثم يضعف، فالرخصة له بعد ضعفه،
فنقول له: افتتح الصلاة وصل قائماً، فإذا أحسست بالعناء والمشقة جلست.
الثانية: أن يكون العكس، كأن يبتدئ الصلاة عاجزاً ثم يجد الخفة والنشاط،
فنقول: تُلزَم بالقيام، ويلزمك أن تتم قائماً.وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم الصورة الثانية، حيث كان في قيام الليل يصلي قاعداً لما بدُن وكثر لحمه عليه الصلاة والسلام وأسن صلوات الله وسلامه عليه، فكان لا يطيق طول القيام؛ لأنه كانت ركعته بما يقارب البقرة وآل عمران والمائدة، حتى إن قدمه تتفسخ من طول القيام صلوات الله وسلامه عليه.
فلما كبر وضعف في آخر سنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي قاعداً،
تقول أم المؤمنين: حتى إذا بقي قدر مائة قام.فجعل الإطاقة بعده،
ولذلك يقولون: إذا كان الإنسان بمثل هذه الحالة فالأفضل أن يجعل ذلك في الثانية.أما إذا كان في الفرض فإنه يبتدئ بقدرته، ثم إذا وجد الضعف ترخص عند وجود الضعف.وأما جلسة المريض فهناك من يجلس متربعاً، وهناك من يجلس مفترشاً، وهناك من يجلس متوركاً كجلسة التشهد، فهل يصلي قاعداً متربعاً، أو يصلي قاعداً كقعدة التشهد؟ هذه المسألة فيها قولان للعلماء، فمن العلماء من قال يتربع.
وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار عن بعض أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، وقال بعضهم بل يفترش.
وقد أشار إليهما الإمام ابن المنذر رحمه الله في الأوسط، وكذلك أشار إليها الإمام الطبري في اختلاف الفقهاء.هذان الوجهان مشهوران عن أهل العلم،
فالذين يقولون: يجلس جلسة المتشهد قالوا: لأنها جلسة صلاته، إذ لا يعرف في الصلاة أن يجلس متربعاً، وإنما جلسته في الصلاة لما يُصلي ويبلغ الجلسة بين السجدتين أو التشهد، ما عهدنا من الشرع أنه يجلس كجلسة التشهد.
وبناءً على ذلك قالوا: إنه يجلس مفترشاً.والصحيح أنه يجلس جلسة المفترش، ولا حرج عليه أن يجلس جلسة المتربع، خاصة إذا كان يحتاج إليها، أما جلسة الافتراش فإنها أشبه عند طائفة من السلف رحمة الله عليهم؛ لأنها هي جلسة الصلاة.والحديث الذي ورد في تربعه عليه الصلاة والسلام فيه كلام لا يخلو من ضعف،
فقالوا: إنه يجلس جلسة المتشهد.والدليل على أنه يجوز له أن يصلي على هذه الصورة أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق،
فقال عليه الصلاة والسلام: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فمن جلس متربعاً فهو قاعد، ومن جلس مفترشاً فهو قاعد،
لقوله عليه الصلاة والسلام في المفترش: (إذا قعد أحدكم للتشهد)، فسمَّى جلسة التشهد ووصفها بكونها قعدة.ولذلك يكون الافتراش أولى وأشبه لأنه على صفة الصلاة؛
لقوله: (إذا قعد أحدكم للتشهد)، ولأنها جلسة معهودة، فهو أولى وأحرى.
لكن هنا مسألة وهي: لو أن إنساناً يصلي قاعداً بين القائم والجالس، كمن يصلي على كرسي ونحوه، فهذا فيه تفصيل، فإن كان جلوسه لوجود العلة وما يوجب ارتفاقه بعلو ونشز فلا إشكال في جواز ذلك وحله.
وأما إذا كان من دون حاجة، كأن يرى ذلك أيسر له، وأريح لنفسه وأجم لجسمه فإنه حينئذٍ ينبغي عليه أن يجلس في الأرض؛ لأنه ليس هناك ما بين القيام والقعود، فإما أن يقف على الأصل الذي أمر به الشرع، وإما أن يجلس؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فلم يجعل ما بينهما موضعاً للرخصة، وإذا كان به علة أو مرض يمتنع معه نزوله إلى الأرض، كمن يكون به الضرر تحت ركبته، أو يكون عنده مرض يمنعه من النزول إلى الأرض فحينئذٍ يجلس على كرسيه.فإذا جلس على كرسيه يبتدئ تكبيرة الإحرام واقفاً فيكبر، ثم إذا أطاق القيام قرأ الفاتحة وصلى قائماً بقدر ما يطيق، ثم يجلس إذا لحقه العناء والمشقة، أما أن يكون قادراً على القيام ويجلس مباشرة ويكبر وهو جالس فلا يجزيه، إنما يجزيه أن يكبر قائماً؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قمت إلى الصلاة فاستقبل القبلة وكبر).فدل على أن التكبير يكون حال القيام،
وعلى هذا فلابد وأن يفصل في مثل هذا بالآتي: أولاً: أنه لا يجلس على الكرسي من دون حاجة، وإن جلس خالف الأصل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لـ عمران: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فهذا ليس بقائم ولا قاعد في الصورة، وإن كان قاعداً في الحكم.ثانياً: أن يكون محتاجاً لهذا الجلوس، فيكبر تكبيرة الإحرام قائماً ثم يجلس، ولا يكبرها وهو جالس متى أطاق التكبير وهو قائم.
قوله: [فإن لم يستطع فعلى جنب] هذا هو تكملة حديث عمران: (فإن لم تستطع فعلى جنب)، والجنب: هو شق الإنسان الأيمن أو الأيسر.وقد اختلف العلماء في تعيين الجنب،
فقال بعضهم: على جنبه الأيمن ويستقبل القبلة، وذلك لأنها صفة مَن في اللحد؛ إذ يوجه للقبلة على هذه الصفة.وقال بعضهم: على شقه الأيمن أو الأيسر أيهما شاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق.والمذهب الأول أحوط،
خاصة وأن الحديث يقول: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، وهو حديث حسنه بعض العلماء رحمة الله عليهم، والعمل بالإجماع عليه في القبور.
وبناءً على توجيه الميت في قبره على هذه الصفة لفضل اليمين نقول: إذا أطاق الجنب الأيمن فإنه أولى وأحرى وفيه خروج من الخلاف،
وفيه استئناس بالسنة المقيدة: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً).فدل على أن استقبال القبلة حال الاضطجاع إنما يكون بالشق الأيمن لا بالشق الأيسر، وهذا إذا أطاقه.وأما إذا لم يطق الشق الأيمن فإنه ينتقل إلى الشق الأيسر ولا حرج، فإذا انتقل إلى الشق الأيسر فإنه يجعل القبلة في وجهه.فيصلي على جنبه على التفصيل الذي ذكرناه من كونه إذا كان يطيق الجنبين يصلي على جنبه الأيمن للحديث الذي ذكرناه، ولاستقبال القبلة استئناساً بالفعل بالميت حال تقبيله في لحده.وأما إذا كان لا يطيق الأيمن، أو فيه حرج عليه ومشقة فينتقل إلى الأيسر، لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]،
فيدخل الشق الأيسر لعموم قوله: (فإن لم تستطع فعلى جنب)، وهذا على جنب.
قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى ورجلاه إلى القبلة صح].
وذلك بأن يكون مستلقياً كهيئة النائم،
فقالوا: تصح صلاته.وهذا قول طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وله أصل،
وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة النائم على النصف من صلاة القاعد)، فجعل النائم -وهو من استلقى- آخذاً نصف صلاة القاعد،
كما في حديث: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد)، قالوا: فسماه مصلياً حال استلقائه على قفاه.
وبناءً على ذلك فإنه إذا اضطجع ونام على قفاه ووجهه إلى السماء قالوا: يُرفع صدره قليلاً، وهو التقبيل للميت، فيكون جذعه الأعلى إلى جهة القبلة، بحيث لو قام كان أول ما يباشره القبلة، وهكذا يكون التقبيل، وكذلك في الصلاة.وهذا وجه صلاة المريض مستلقياً مع القدرة على القيام للمداواة
قال رحمه الله تعالى: [ولمريض الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام لمداواة بقول طبيب مسلم] قوله: [لمريض الصلاة مستلقياً] هذا إذا كان العذر الدواء والعلاج، كما في بعض الأمراض الجراحية في بعض الأعضاء التي لا يستطيع معها أن يركع ولا يسجد ولا يقف، فحينئذٍ إذا كان على الفراش بحيث لا يستطيع أن يقوم فإنه يصلي على هذه الحالة.
كذلك لو كان يتداوى، فلو كان المرض في عينيه وأُلزم بوضع معين لا يستطيع معه القيام ولا يستطيع معه الركوع ولا السجود،
وقيل له: إن قمت أو ركعت أو سجدت فإنه سيحدث الضرر فإنه في هذه الحالة يصلي وهو مستلقٍ، لكن بشرط أن يكون ذلك بشهادة طبيب مسلم.ووجه هذا أن احتمال وقوع الضرر بغلبة الظن كوجوده؛
لأن القاعدة: (الغالب كالمحقق)، فلما غلب على ظننا أنه لو صلى قائماً أو ركع أو سجد يصاب بالضرر والأذى، أو أن علاجه لا يتمكن منه الطبيب، فإنه حينئذٍ يعتبر هذا رخصة، كما لو كان مريضاً لا يطيق القيام والركوع والسجود.وهذا قول جمع من السلف، وأُثر عن ابن عباس رضي الله عنه، وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً روي عن ابن عباس أنه شدد في ذلك،
حتى قالوا: إن سبب العمى الذي بلي به رضي الله عنه وأرضاه أنه نصحه الطبيب في علاجٍ وضعه له أن لا يسجد، فامتنع وسجد فكُفَّ بصره رضي الله عنه وأرضاه، فهذا مما ذكروه.
فالشاهد أنه كان بعض السلف يشدد في هذه المسألة ويقول: التداوي ليس كالمرض الذي يمنع.والصحيح أنه ينزل منزلة المرض المانع، وإنه إذا كان بالإنسان عملية جراحية، أو يتداوى من مرض في جوفه أو في صلبه أو في عينيه، أو نحو ذلك من الأمراض التي تكون في مواضع الجسم المختلفة،
وقيل له: إنه لا يتم علاجك إلا إذا امتنعت من الركوع، أو امتنعت من السجود، أو امتنعت من القيام فإنه يمتنع، بشرط أن يكون الطبيب الذي يخبره عدلاً مسلماً.
والسبب في ذلك أنها أمور الديانات، وأمور الديانات لا يُجتزأ فيها إلا بشهادة الثقة العدل، وأما إذا كان غير ثقة وغير عدل فإنه يُنتقل إلى من هو أعدل منه.فإذا وجد الطبيب المسلم الذي يشهد له بهذا فلا إشكال،
وحينئذٍ إذا قال له الطبيب الكافر: ينبغي عليك أن تصلي مستلقياً.فإنه لا يسمع قوله حتى يشهد الطبيب المسلم؛ لأن وجود الطبيب المسلم يغني عن شهادة الكافر.
والسبب في ذلك أن الكافر لا يُوثق بقوله في الديانات، وقد كان بعض أئمة السلف رحمة الله عليهم -مثل الإمام أحمد رحمه الله- يستطب عند اليهودي والنصراني،
فيقول الراوي: كان يستطبه بمعنى أنه يتعالج عنده ويعتمد على ما يصفه له من دواء.فإذا نهاه عن أمر من أمور الديانة،
كأن يقول له: لا تصم.أو: صلِّ قاعداً.لم يطع في ذلك لمكان التهمة، وهذا إذا لم يوجد المسلم، وإذا وجد المسلم فعلى حالتين:
الأولى: أن يوجد العدل وغير العدل، فحينئذٍ ينبغي اعتبار شهادة العدل دون غير العدل.
الثانية: أن لا يوجد العدل، بأن يكون الأطباء ليس فيهم مَن تتوفر فيه شروط الشهادة المعتبرة، فحينئذٍ يؤخذ بأمثلهم.وهذه قاعدة قررها جمع من المحققين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن فرحون في تبصرة الحكام، حيث بين فيها أنه يرجع إلى الأمثل في مثل هذا إذا تعذر وجود العدل في أهل الصنعة.
فالقاضي لو احتاج إلى قول أهل الخبرة في الخصومات والنزاعات من مهندسين أو أطباء ولم يجد العدل فإنه يأخذ أمثلهم، وهو من وُجدت فيه صفات أفضل من غيره.وعلى هذا فإما أن يوجد المسلم والكافر، فلا يجوز أن يقبل شهادة الكافر مع وجود شهادة المسلم، وإما أن لا يوجد الطبيب المسلم، كأن يكون هذا المرض الذي به لا يحسنه إلا طبيب كافر، أو في بلد ليس فيه إلا كفار، فحينئذٍ يأخذ بشهادة أمثلهم، وله أن يأخذ بذلك.
وهذه المسألة تكلم عليها الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية بكلام نفيس في الفتاوى المصرية، بيّن فيه رحمة الله عليه أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستعانة بالكافر والمشرك إذا أُمنت منه المفسدة، وذكر لذلك الأدلة الصحيحة،
ومنها حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً).وهو عبد الله بن أريقط، والحديث ثابت في الصحيحين، ووجه ذلك أنه مكَّنه من السير معهما في الهجرة، والهجرة يُسلك فيها مسالك وعرة، ومسالك لا يسلكها الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد التخفي عن العيون، ومع ذلك مكنه النبي صلى الله عليه وسلم من السير بهما لمكان الثقة.
وكذلك ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في الزاد،
فقال: وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسلمهم وكافرهم.فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ بأخبارهم مع أنهم مع الشرك والكفر، لكن علم فيهم الثقة والأمانة.وكذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الصحابة أن يستطبوا الحارث بن كلدة، وكان على دين قومه،
ومع هذا قال: لم يمنعه الكفر أن يأمرهم أن يستطبوه.فالشاهد من هذا كله أنه لا مانع من أخذ شهادة الطبيب الكافر إذا لم يوجد طبيب مسلم في هذا المرض الذي يحتاج المسلم لعلاجه، أو كان المسلم في بلد فيه كفار وأطباء كفار ولا يوجد المسلم فإنه يعمل بشهادتهم وقولهم.
[كيفية الصلاة في السفينة]
قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح صلاته في السفينة قاعداً وهو قادرٌ على القيام] الإشكال في الصلاة في السفن أنها تتقاذفها الأمواج، ولا يستقر الراكب فيها، خاصة عند اشتداد الموج.ولذلك تكون أحوالهم مختلفة -أعني الملاَّحين، أو من يكون في السفينة-، فإن أطاقوا القيام بأن سكن الموج، وأمكنهم أن يقوموا فإنه يجب عليهم أن يقوموا ويصلوا قياماً، فلو أنهم في هذه الحالة وهم قادرون على الصلاة قياماً صلوا قعوداً بطلت صلاتهم؛ لأن الفريضة القيام فيها ركن كما بيناه، وهذا في الحالة الأولى، وهي أن يطيقوا القيام ويؤمن الضرر.
الحالة الثانية: أن يوجد الضرر في قيامهم، كأن يسقط الإنسان، أو يغرق، أو يسقط ويتضرر بسقوطه، كما يكون بجوار شيء عالٍ، أو على نشز داخل السفينة، فلو اضطربت به الأمواج وهو قائم ربما سقط، ففي هذه الحالة يجوز لهم أن ينتقلوا إلى القعود إن غلب على ظنهم فوات الوقت.أما لو غلب على ظنهم أن الموج سيهدأ كأن يقطعوا مسافة ويغلب على ظنهم سكون الموج، فإنهم يؤخرون الصلاة حتى يقطعوا هذه المسافة ويهدأ الموج، ثم يصلون الفرض.فإن أُمن الضرر فإنهم يصلون قياماً.وإن لم يؤمن الضرر فإنهم يصلون قعوداً.
وإن شكوا فإن الأصل وجوب القيام عليهم ولزومه، فيصلون قياماً حتى يطرأ الضرر، فإن طرأ عليهم الضرر أثناء القيام قعدوا.
[جواز الصلاة على الراحلة خشية التأذي]
قال رحمه الله تعالى: [ويصح الفرض على الراحلة خشية التأذي لوحل لا للمرض] أي: تصح الصلاة -أي: الفريضة- على الراحلة إذا خشي الأذى من الأرض إذا كانت السماء قد أمطرتها، وفي هذا حديث الترمذي،
وكذلك أحمد في مسنده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة عند المضيق والسماء ممطرة والأرض بها بلة، فأقام عليه الصلاة والسلام الصلاة ثم تقدم وصلى بهم).
وهذا الحديث حديث ضعيف، وذكر الإمام الترمذي رحمه الله بعد إيراده للحديث أن العمل عند أهل العلم على هذا الحديث، واختاره جمع من السلف رحمة الله عليهم، فعندهم يصلي إذا كان هناك ضرر ومشقة بالطين والوحل.
ولكن -نظراً لضعف الحديث- إذا أمكن الإنسان أن يحتاط ويستبرئ لدينه فإنه أولى وأحرى.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (128)
صـــــ(1) إلى صــ(22)
شرح زاد المستقنع - فصل: صلاة المسافر [1]
السفر مظنة لوجود المشقة والتعب، والله سبحانه وتعالى رحيمٌ بعباده، ومن رحمته أن خفف عليهم الصلاة في السفر، فشرع للمسافر قصر الصلاة الرباعية، والجمع بين الصلاتين.
[صلاة المسافر]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد ذكر المصنف رحمه الله باب صلاة الجماعة، وبين الأحكام المتعلقة بصلاة الجماعة والمسائل التي تندرج تحت هذا الباب.ثم بعد ذلك عقد فصلاً في آخر باب صلاة الجماعة في الأعذار التي تُسقط عن المكلف الجمعة والجماعة، ثم بعد أن انتهى من الأعذار شرع في باب صلاة أهل الأعذار، وذكر صلاة المريض، ثم انتقل إلى صلاة المسافر، وهذا الترتيب فيه تسلسل في الأفكار، ومراعاة لما تتضمنه هذه الفصول من معان شرعية.وذلك أن التخفيف في الشرع يكون فيه شيء من الإسقاط، وهذا الإسقاط تارة يكون لذات العبادة، بحيث تسقط العبادة عن المكلف، وهذه أعلى درجات الإسقاط في العبادات، وتارة يُخفف عنه في هذه العبادة ولا تسقط عنه، وهذا التخفيف بالنسبة للصلاة، أما بالنسبة للرخص عامة فلها تقسيمات أخر واعتبارات أخر، لكن التخفيف في الصلاة إما إسقاط للصلاة، وإما تخفيف في الأركان، وإما تخفيف في الشروط، كما سنبين إن شاء الله.فابتدأ رحمه الله بالفصل الذي قبل صلاة أهل الأعذار، وهو سقوط الجمعة والجماعة، فهذا إسقاط كلي لعبادة الخروج إلى الجمعة وشهودها، وكذلك صلاة الجماعة.
وبعد أن انتهى من التخفيف بالإسقاط شرع في التخفيف الجزئي، وهو التخفيف في هيئة الصلاة، فابتدأ بالتخفيف في أركانها بعذر المرض، ثم شرع في التخفيف في ذات الصلاة من حيث الأعداد، وذلك في صلاة المسافر، فإن الشرع خصص بعذر السفر عدد الصلوات، وذلك في الرباعية وحدها، فجعل الرباعية تقصر إلى ركعتين، وهذا نوع من التخفيف، وهو التخفيف في أعداد الصلاة.
وأما التخفيف في شروط الصلاة؛ فكاستقبال القبلة بالنسبة للمصلي في السفر، فقد خفف الشرع عنه لو كان على راحلته بأن يصلي حيثما توجهت به، وكذلك التخفيف على المريض الذي به سلس بول فإنه يخفف عنه في شرط الطهارة، وكذلك بالنسبة للنجاسة التي يحملها يخفف عنه.فالتخفيف إما بإسقاط الصلاة، أو بالنقص من أعدادها، أو بالتخفيف في أركانها وشروطها.
[معنى السفر وسبب تسميته]
السفر في لغة العرب: مأخوذ من قولهم: أسفر الشيء: إذا بان واتضح.
ومنه قولهم: أسفر الصبح: إذا بان ضوؤه واتضح.وسمي السفر سفراً لمناسبات،
فقيل: لأن الإنسان يُسفِر، بمعنى أنه يَبِيْن عن العمران، فإن المسافر يبِيْن عن القرى والأمصار والمدن، فينفرد عنها ويبِيْن منها.
كما سمي بذلك لأن فيه معنى الوضوح، وذلك أنه يسفر عن حقيقة الإنسان من ناحية صبره وضعفه وجلده وخوفه وقوة شكيمته إلى غير ذلك من أخلاقه.
ولذلك قالوا: سمي السفر سفراً لأنه يسفر عن وجه صاحبه،
وفي سنن البيهقي لما شهد الشاهد عند عمر قال له عمر: إني لا أعرفك، فاذهب وائتني بمن يزكيك.فجاءه برجل فقال عمر للرجل: أتعرفه؟
قال: أعرفه بالعدالة والأمانة.
قال: أهو جارك الذي تعرف مدخله ومخرجه؟
قال: لا.
قال: أعاملته بالدينار والدرهم الذي يعرف به صدق الرجل من كذبه؟
قال: لا.
قال: أسافرت معه؟ قال: لا.
قال: لا تعرفه.
ثم قال للرجل: اذهب وائتني بمن يعرفك.فالسفر من حيث هو يعين على معرفة حقيقة الإنسان ويسفر عن وجهه.والسفر له ضوابط معينة، فلا يحكم بكون الإنسان مسافراً إلا بها.
[أحوال المسافر]
لا يخلو الإنسان الذي يريد أن يخرج للسفر من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مستقراً في بيته ناوياً السفر، فيكون السفر في باطنه -أي: في نيته-، ويكون ظاهره أنه غير مسافر.
الحالة الثانية: أن يخرج من بيته.فإذا كان في بيته ناوياً السفر فإنه ليس بمسافر في قول جماهير العلماء حتى يخرج من البلد، فإن خرج من البلد فإنه يحكم بسفره على التفصيل الذي سنذكره، وهذا قول جماهير السلف رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم رحمة الله على الجميع.
فلو أصبحت فنويت الخروج إلى بلد ما بعد الظهر، فإنك -على هذا القول- لست بمسافر حتى تخرج، فلا يكفي باطنك حتى يجتمع مع الباطن دليل الظاهر على السفر.وذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -وهو رواية عن عطاء، وقال به موسى بن سليمان - إلى أنه يحكم بكونه مسافراً بالنية، فلو نوى السفر فإنه يأخذ برخص السفر وهو في البلد.
مثال ذلك: لو أنه نوى السفر بعد الساعة الحادية عشرة ولم يخرج إلا بعد الثانية فإنه سيؤذن عليه الظهر وهو في بيته،
وحينئذٍ قالوا: يصلي ركعتين.وهكذا لو كان صائماً يجوز له أن يفطر في بيته قبل أن يخرج.وهذا القول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجماهير لدلالة الكتاب والسنة على ذلك.
أما دلالة الكتاب فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101]، فقوله: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ)) [النساء:101] يدل على أنه شرع وضرب في الأرض، ولا يكون ذلك إلا بالخروج.
وقوله سبحانه وتعالى في شأن الصوم: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]، ولا يمكن أن نحكم على الإنسان بأنه على سفر إلا إذا كانت صورته تدل على أنه مسافر، وبناءً على ذلك فظاهر التنزيل على أنه لا يكون مسافراً إلا إذا ضرب في الأرض.
وأما دليل السنة -وهو أقوى الأدلة- فحديث أنس الثابت في الصحيحين، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فإنه قد كان نوى حجة الوداع عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لم يترخص برخص السفر إلا بعد أن خرج إلى ذي الحليفة.وهذا يدل على أن نية السفر لا تكفي في ترخُّص الإنسان بالرخص.
وأما ما أُثر عن الصحابة فإنهم إذا قالوا: (إنها السنة) تردد ذلك عند جماهير العلماء رحمة الله عليهم بين أن يكون الصحابي فاهماً لها أنها السنة، وبين أن تكون من صريح فعله عليه الصلاة والسلام.فلما جاء فعله يخالف ما فعله هؤلاء الصحابة -مع أنهم عزَوا ذلك إلى السنة- فهِمنا أنه فهمهم رضي الله عنهم وأرضاهم.فإذا تبيَّن لنا أن من كان ناوياً للسفر لا يترخص إلا إذا خرج، فحينئذٍ لا يخلو الذي يريد أن يخرج للسفر إما أن يكون في المدينة، بمعنى أن يكون داخل المدن والقرى -أي: البناء والعمران- وإما أن يكون في البر، كأهل العمود والخيام في البادية، فخيمته هي منزله ومكانه.فإن كان في البلد والعمران فإنه لا يُحكم بكونه مسافراً، ولا يَتَرخَّص برخص السفر إلا إذا خرج من آخر العمران، وهي البيوت، فإذا انقطع عن البيوت فحينئذٍ يصدق عليه أنه سافر.
وبناءً على ذلك لا تخلو المدن من حالتين: الحالة الأولى: أن يتصل بناؤها ويكون حد نهايتها معروفاً، كأن تكون بيوتاً متصلة آخرها محدود، فإذا بلغ هذا الآخر وبعده تنقطع الأرض فإنه مسافر.فهذه الحالة لا إشكال فيها، فيحكم بأنه أنه مسافر بمجاوزته لآخر بيت من العمران، فلو أذَّن عليه الظهر بعد مجاوزته آخر بيت من العمران فإنه يصليها ركعتين.
ولو أذن عليه الظهر قبل أن يخرج من آخر بيت من العمران -كأن يقف عند إشارة، أو يقف عند المحطات يريد أن يتزود منها، أو يأخذ زاده من طعام أو غير ذلك-
فإن قلنا: العبرة في الصلوات بالأذان فإنه يجب عليه أن يصلي أربعاً؛ لأنه لما أذن للصلاة وهو داخل العمران توجه عليه الخطاب أن يصلي الظهر أربع ركعات.وعلى هذا لا تسقط عنه لكونه لم يتلبس بالسفر بعد.
الحالة الثانية: أن تتصل المباني ويكون وراءها خراب، كما يقع في بعض المدن، حيث تكون المباني المعمورة والتي فيها السكان متصلة، ثم بعد ذلك تأتي خرابات، أو بساتين مهجورة، أو نحو ذلك،
فللعلماء وجهان: قال بعض العلماء: هذه البيوت الخربة في حكم العامر ولا يترخص حتى يجاوزها.واختاره جمع من العلماء، وهو مذهب الحنابلة.
القول الثاني: يترخص بانقطاع العمران، ولو دخل في الخرابات ونحوها فإنه مسافر.وهذا مذهب الشافعية رحمة الله على الجميع.والصحيح أنه إذا انقطع العمران فقد أسفر وصار مسافراً؛ لأن هذا الخراب لا يُعتد به، وليس في حكم العامر.
وبناءً على ذلك يكون في العمران التفصيل، فإن اتصل فلا إشكال، وإن كان هناك خرابات فالعبرة بمجاوزة العمران، ولا تأثير للخراب في إسقاط الركعتين.وأما إذا كان في البادية، كأن يكون عنده خيمة،
فلا يخلو من حالتين أيضاً:
الحالة الأولى: أن تكون خيمته متصلة بفريق، وهم القوم والجماعة الذين ينزلون مع بعضهم، كأبناء عمٍ وقبيلةٍ ونحو ذلك، فالعبرة بآخر الخيام حتى يجاوز آخر خيام محلته، بشرط أن تتصل خيمته بهم.
الحالة الثانية: أن تكون خيمته منفردة، فإنه بخروجه من خيمته يكون مسافراً ويَترخص برخص السفر.
وفائدة ذلك أنه إذا قلنا: إن العبرة بمجاوزة آخر الخيام، فإنه لو أذَّن الظهر وقد جاوز آخرها وجب عليه الظهر ركعتين، وأما لو أُذن قبل أن يجاوز آخرها فقد وجب عليه أن يصلي الظهر أربعاً.وهكذا الحال لو كانت الخيام متفرقة،
فإننا نقول: بمجرد خروجه من خيمته يأخذ برخص السفر.وهكذا لو كانت خيمته ليس بجوارها أحد، فإنه بمجرد ركوبه على دابته -كما يقول العلماء- أو بمجرد أخذه في الطريق يُحكم بكونه مسافراً، ويأخذ برخص السفر.
[أنواع السفر]
يقول العلماء: السفر تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً، ومندوباً، ومباحاً، ومكروهاً، وحراماً.فيكون السفر واجباً إن اشتمل على واجب، كسفر حج الفريضة، وكذلك السفر لبر الوالد والوالدة، فلو أن الوالد أمر ولده أن يأتيه في مدينته والولد في مدينة أخرى، وليس عند الولد عذر يمنعه من السفر وجب عليه أن يسافر، ولزمه برُّ أبيه بالسفر، فهذا السفر يكون واجباً.وهكذا بالنسبة للسفر الذي يكون الإنسان فيه يؤدي أمراً واجباً عليه، فإنه يعتبر من الأسفار الواجبة.ويكون السفر مندوباً ومستحباً لو اشتمل على أمر مندوب ومستحب كحج النافلة والعمرة، فهذا مندوب ومستحب،
فإنه إذا سافر يقال: هذا سفر مندوب.ويكون السفر مباحاً إذا انتفت فيه الدوافع، سواءٌ أكانت للنّدب أم للوجوب، وانتفت فيه الموانع، سواءٌ أكانت للتحريم أم للكراهة،
ومن أمثلته: السفر للتجارة، فإنه يعتبر من المباحات، وهكذا السفر للنزهة، فإنه يعتبر من الأسفار المباحة.ويكون السفر مكروهاً إذا اشتمل على أمر مكروه لا يصل إلى درجة الحرمة، فلو أنه سافر على وجه لا يتضمن الحرام، كما لو كان مشتغلاً بطلب العلم، وهذا السفر يشغله عن طلب العلم فإنه يكون في حقه مكروهاً إذا اتصل هذا السفر بما يوجب شغله عن طلب العلم.ويكون حراماً إذا تضمن أمراً محرماً، كسفره -والعياذ بالله- للزنا، أو لشرب خمر، أو لقطع طريق، أو عقوق والدين، ونحو ذلك، فهذه خمسة أحوالٍ للسفر.
فإذا كان سفره مباحاً جاز له أن يترخص، وإذا كان مندوباً جاز له أن يترخص؛ لأن المندوب فيه الإباحة وزيادة، وهكذا إذا كان واجباً؛ لأن الواجب فيه الإباحة وزيادة.ففي هذه الثلاثة الأحوال يجوز له أن يترخص برخص السفر.
أما لو اشتمل سفره على معصية كأن يسافر لقطع طريق، أو عقوق والدين -والعياذ بالله-
فإن هذا السفر المحرم قد اختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول يقول: إن السفر المحرم لا يحل لصاحبه أن يترخص فيه، فيجب عليه فيه أن يُتِم الصلاة أربعاً، ولا يأخذ برخص السفر.وهذا مذهب الجمهور رحمة الله عليهم.
القول الثاني: من سافر سفر معصية يجوز له أن يترخص.وهو مذهب الحنفية، واختيار بعض المحققين من العلماء رحمة الله على الجميع.
أما من قال: إنه لا يترخص فإنه يحتج بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] قالوا: إن الاضطرار شرطه أن لا يكون بغياً ولا عدواناً،
ولذلك لما فسر حبر الأمة وترجمان القرآن هذه الآية قال: غير قاطع للطريق وذكر المحرمات.
فكأنه يرى أنه إذا كان باغياً أو عادياً لا ضرورة له فلا رخصة له.
قالوا: وهذا حبر الأمة وترجمان القرآن وقد فسر كتاب الله عز وجل، وهو المدعو له أن يُفقَّه في الدين، وأن يُعَلَّم تأويل الكتاب، فقصر الرخص على انتفاء وجود البغي والعدوان، فهذا أولاً.
ثانياً: أن السفر إذا أُطلق في الشرع ينبغي أن يتقيد بالمعروف شرعاً، والمأذون به شرعاً؛ لأنه لا يعقل أن الشرع يأذن له بالرخصة مع كونه يمنعه من السفر، فيعتبر السفر من وجهٍ ويحرمه من وجه.
قالوا: فهذا شيء من التناقض، فلما كان هذا السفر غير مأذون به شرعاً لم تتصل به الرخص؛ لأنه مأمور بإلغاء هذا السفر، فكيف يباح له أن يترخص فيه؟ والعجيب أن هذا القول من القوة بمكان من جهة الأصل؛ فإن القاعدة تدل على أنه إذا شك في الرخصة فإنه يرجع إلى الأصل، والأصل أن الإنسان يجب عليه أن يصلي أربعاً بناءً على أنه مقيم.
ولا نعني بالأصل ما سبق التشريع من كون الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فهذا أصل الوصف وليس له تأثير في الاستدلال، وإنما نعني أن الأصل فيه أنه مقيم.
ولما شككنا هل هذا السفر سفر رخصة أو ليس برخصة رجعنا إلى الأصل من كونه مطالباً بفعل الصلاة أربعاً.
وأما الذين قالوا: إنه يقصر فقالوا: إن الله عز وجل أطلق فقال: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:101]، ولم يفرق بين كونه ضرباً بسفر مباح، أو ضرباً بسفر محرم.
وهكذا قالوا: إن الأدلة التي وردت في القصر مطلقة، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه.
وقد ناقش الجمهور هذا فقالوا: إن المطلق في الشرع مقيد بالمعهود، فنحن نعني بالسفر ما أُذن به شرعاً، فحينئذٍ يستقيم التقييد بما عرف شرعاً.والنفس تميل إلى أنه يُحتاط، فالسفر القائم على المعصية لا يُتَرخص فيه ما أمكن؛ إعمالاً للأصل الذي ذكرناه،
وإعمالاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)؛ فإن أقل درجاته الشبهة، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.وعلى هذا فإنه يتم الصلاة ويبقى على الأصل الذي أوجبه الله عز وجل عليه، كما قال جمهور العلماء رحمة الله عليهم.
وهناك أمر ينبغي التنبه له، وهو أن العلماء رحمة الله عليهم فرقوا بين كون السفر سفر معصية، وكونه سفراً تُفعَل فيه المعصية.
فالمعصية في السفر كأن يسافر لأمر مباح، ثم يفعل معصية أثناء سفره، فهذا لا يشمله هذا الحكم، فلو أن إنساناً سافر لقصد التجارة ثم -والعياذ بالله- زنى أثناء سفره، أو شرب الخمر، فإن هذا لا ينطبق عليه ما ذكرناه؛ لأنه ما خرج أصلاً لفعل الحرام، وإنما خرج للمباح وهو التجارة.ولو أنه سافر للمباح ولفعل الحرام،
فإنهم قالوا: يأخذ حكم من سافر للحرام أصلاً.
الأسئلة
[الجمع بين عدم الإذن للأعمى بالتخلف عن الجماعة والإذن بالتخلف لعذر المطر ونحوه]
q كيف نجمع بين مشروعية التخلف عن صلاة الجماعة لعذر خوف الضرر الشديد حال المطر والوحل والريح الشديدة، وعدم إذن النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى الكبير في السن بالتخلف عن صلاة الجماعة بعد أن سمع النداء؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن العلماء رحمهم الله أخذوا من حديث ابن عمر الثابت في الصحيح أن المؤذن إذا بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح قال: الصلاة في الرحال.
فأخذوا من إذن الشرع بالصلاة في الرحال وسقوط الجماعة مع وجود المطر دليلاً على أنه إذا وُجِدت المشقة بالريح الشديدة في الليلة المظلمة فإنه يترخص بترك الجماعة، وهذا معنىً صحيح.وأما حديث الأعمى الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتسمع النداء؟) قال: نعم.قال: (فأجب)، وفي رواية أخرى: (ما أجد لك رخصة) فقد قال العلماء فيه: سماعه يدل على قربه، ولذلك أمره بشهود الجماعة لمكان القرب.ثم إنه إذا حضر ليست هناك ريح شديدة، فإن الريح الشديدة تعيق الإنسان وتدفعه عن المضي إلى المسجد وإلى شهود الجماعة، بخلاف العذر الذي هو مطلق، كقول الأعمى رضي الله عنه (تكون الظلمة والسيل والمطر)، فإنه لا يدل على سقوط الجماعة بعد وجوبها.ولبعض العلماء رحمة الله عليهم من المتأخرين جواب آخر لو صح لكان أقوى، حيث قالوا: الذي يظهر أن حديث الأعمى متقدم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الصلاة بعذر المطر فقال: الصلاة في الرحال.
لأن الأعمى قال: (إنه تكون الظلمة والسيل والمطر، وليس لي قائد يقدوني)، فكانت عزيمة في أول الأمر، ثم جاء التخفيف، فيكون من نسخ الأثقل بما هو أخف.
وهذا القول لو صح فثبت أن التخفيف بالمطر ونحوه متأخر، وثبت ما يدل على التأخر فلا شك أنه يزيل الإشكال.والله تعالى أعلم.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (129)
صـــــ(1) إلى صــ(22)
[موضع جواز جمع الصلاة للمسافر]
q نويت السفر قبل صلاة الظهر، ولم أخرج من بيتي إلا بعد الظهر، فصليت الظهر أربعاً مع جماعة، فهل أصلي العصر جمع تقديم، مع العلم أن صلاة العصر تدركني وأنا في الطائرة، ولا تهبط إلا بعد خروج الوقت؟
a بعض العلماء يقول: إنه لا يترخص بالجمع إلا بعد الخروج من المدينة.وهذا -مثلما ذكرناه- على ظاهر نص الكتاب والسنة، فالمسافر لا يترخص إلا بعد الخروج من العمران.وعليه فإنه لا يحق له أن يجمع ما دام داخل مدينته حتى يخرج ويبرز إلى العمران، فحينئذٍ يجوز له أن يترخص بالجمع، والله تعالى أعلم.
[التفصيل في كمية تناول الطعام عند حضور وقت الصلاة]
qهل يكون الأكل عند حضرة الطعام بمقدار ما تنكسر نهمته، أو له أن يشبع؟
aمن حضرته الصلاة وحضره الطعام فإنه إما أن يمكنه أن يكسر شهوته ونهمة نفسه، ثم يدرك الجماعة، ولا يفسد الطعام بحيث يعود ويتمه، فإنه حينئذٍ يفعل ذلك إعمالاً للأصل، وبكسره لشهوة نفسه يزول المعنى الذي من أجله سقطت الجماعة.وأما إذا كان تركه لبقية الأكل يُفسد الأكل ولا يمكنه أن يدركه بعد الصلاة، فحينئذ يقضي نهمته ولو فاتته الصلاة؛ لنص حديث عائشة رضي الله عنها.والله تعالى أعلم.
[البدء بالصلاة الفائتة قبل الحاضرة]
q إذا كنت مسافراً من مكة الساعة الحادية عشرة -مثلاً-، وأخرت صلاة الظهر مع العصر، ودخلت المسجد والناس يصلون العصر فماذا أفعل؟
a إذا دخل المصلي المسجد والناس يصلون العصر وهو لم يصل الظهر فإنه يدخل وراءهم بنية الظهر، ثم إذا سلموا أقام للعصر وصلاها.والله تعالى أعلم.
[جواز ترك الجماعة لمن خرج خارج البنيان ولا يسمع الأذان]
q نخرج غالباً خارج البنيان ونحن جماعة، وذلك للتنزه وغير ذلك، ولا نسمع الأذان، فهل نعذر في ترك الجماعة العامة في المساجد؟
a من خرج خارج العمران، أو خرج إلى مكان لا يسمع فيه النداء فإنه يجوز له أن يصلي بمكانه، وإن كانت معه جماعة فإنه يؤذِّن ويقيم ويصلي بهم جماعة، وأما إذا كان قريباً من العمران بحيث يسمع النداء فإنه يلزمه أن يمضي إلى أقرب المساجد إليه ويجيب داعي الله عز وجل له، والله تعالى أعلم.
[حكم الصلاة في الرحال]
q إذا سافر شخصان إلى مدينة ما، وأرادا الإقامة بها يومين فقط، فهل يصح لهما قصر الصلاة في المنزل وترك الجماعة؟
a إذا كان الإنسان مسافراً ومعه جماعة وكلهم مسافرون فإنه يجوز لهم أن يصلوا جماعة في رحالهم، لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بالناس الفجر بخيف مِنى فرأى رجلين فقال: (علي بهما، فأُتي بهما فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا.قال: فلا تفعلا.إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة).
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على فعل الجماعة في الرحال مع أن جماعة النبي صلى الله عليه وسلم قد انعقدت في الخيف، فدل هذا -كما يقول العلماء- على جواز أن يصلي المسافر جماعة في رحله، ثم إذا حضر المسجد فإنه يصلي مع جماعة المسجد نافلة، ولو كانت الصلاة عصراً أو صبحاً أو مغرباً على أصح أقوال العلماء.والله تعالى أعلم.
[وقت ذكر دعاء السفر]
qمتى يشرع قول دعاء السفر، هل عند ابتداء ركوب الدابة، أم إذا لزم جهة السفر، أم إذا تجاوز البنيان؟
a بعض الأحاديث فيها التكبير عند ركوب الدابة، كما في السنن، فيكبِّر إذا وضع رجله في الغرز، أو إذا ركب السيارة كما هو موجود الآن، ويقول الدعاء: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) قالوا: لِحَمْد نعمة الله عز وجل على المركوب، ولا علاقة له بالسفر، وإنما شُرِع في السفر لمكان المناسبة.وأما بقية الأدعية التي نص فيها على السفر فإنها لا تكون إلا بعد مجاوزته للعمران، لأنه يسأل الله عز وجل في وجهه الذي هو ماض إليه، والله تعالى أعلم.
[الأخذ برخص السفر لا يشترط فيه مدة معينة]
q من سافر وهو ينوي الرجوع في نفس اليوم فهل يجوز له القصر؟
a من سافر وهو ينوي الرجوع في نفس اليوم فإنه مسافر، وبناءً على ذلك يجوز له أن يترخص برخص السفر إعمالاً لحالته، ويصدق عليه ظاهر التنزيل وظاهر ما ورد من النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم.وكونه يرجع في نفس اليوم أو غيره من الأيام الأخرى لا تأثير له؛ لأننا لا نحفظ دليلاً يدل على تقييد الرجوع بزمان معين، وإنما وردت الأدلة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة للمسافر مطلقاً.وعلى هذا فلو خرج إلى تدريس أو تعليم بمكان يبعد مسافة القصر حل له أن يترخص بِرُخَص المسافر في الطريق ذاهباً وراجعاً.والله تعالى أعلم.
[حكم المريض إذا مات وعليه بعض الصلوات]
q كان عندنا مريض يصلي بعض الأوقات، وبعض الأوقات لا يصليها، وذلك لشدة المرض، وأحياناً يصلي فيغلبه النوم أثناء الصلاة، وقد مات وعليه فروض لم يصلها، فهل عليه شيء؟
a هذا المريض ظاهره أنه قد حيل بينه وبين الصلاة بالمرض، وهذا الذي يظهر، بدليل أنه إذا حضرته الصلاة صلى، وإذا عجز لم يصلِّ.أما بالنسبة لأهله فلا شيء عليهم، وبالنسبة له هو فقد مضى إلى الله عز وجل، وإلى الله حكمه، ولا يلزمهم في ذمتهم من شيء، فإن كان يترك الصلاة تساهلاً وتكاسلاً فحكمه إلى الله سبحانه وتعالى، وإن كان تركها لعذر من غيبة عقلٍ وإغماء ونحو ذلك فهذا حكمه حكم المعذور، والله تعالى أعلم.
حكم من أكل ثوماً أو بصلاً قبل صلاة الجمعة
q هل يعذر الإنسان بترك صلاة الجمعة إذا أكل ثوماً أو بصلاً؟
a من أكل الثوم والبصل في يوم الجمعة قاصداً التخلف عن الجمعة فإنه آثم، وقال بعض العلماء: إنه لا يحضر الجمعة ويكون عليه وزر من تعمد تركها.وذلك أنه تقصد أن يتخلف واحتال على الشرع، والحيلة على الشرع لاغية.فيكون فعله المحتال به كما لو قصده، وأما لو أنه أكل طعاماً وهو لا يدري أن فيه الثوم والبصل، أو أكل الثوم والبصل ناسياً أنه يوم جمعة، فلما أكل وتلبَّس به، شعر أنه في يوم جمعة، فإنه يعتبر معذوراً لنص النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا -أو ليعتزل مسجدنا- وليقعد في بيته، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)، والله تعالى أعلم.
[حكم الصلاة بين السواري]
qقيد بعض العلماء كراهة الصلاة بين السواري بأن يكون بين السارتين ثلاثة أذرع، ومعنى هذا أن السواري الموجودة اليوم لا تأخذ هذا الحكم، وأن الصف بينهما صحيح، فهل هذا صحيح؟
a هذا التحديد الذي ذُكِر تحديد بدون دليل نعلمه، والأصل في التقديرات والتحديدات أنها تكون مستندة إلى نصوص الكتاب أو السنة، وأما هذا التحديد فلا أحفظ له دليلاً من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.وبناءً على ذلك فإنه لاغٍ ولا يُعتد به، ويبقى الحكم بالصلاة بين السواري على ما هو عليه، لكن قال العلماء في السواري المنفصلة المتباعدة بعداً قوياً: إنها لا تؤثِّر.وقالوا: إنه يجوز أن يصلى بينها كما لو صلى بين جدارين، فإنه لا حرج عليه، ويعتبر هذا مأذوناً به، وليس داخلاً في النهي، والله تعالى أعلم.
[حكم قضاء السنن الرواتب]
q هل يجوز قضاء السنن الرواتب إذا لم يصلها في أوقاتها أم لا؟
a قضاء السنن الرواتب ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد فعل ذلك في السفر، كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه أنه: (لما نام عليه الصلاة والسلام عن صلاة الفجر واستيقظ بعد طلوع الشمس أمر بلالاً فأذن بالصلاة، ثم صلى رغيبة الفجر، ثم أمر فأقام فصلى الفجر).فدل على مشروعية قضاء الراتبة بعد خروج وقتها، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتين، فقالت: يا رسول الله: رأيتك تصلي ركعتين لم أرك تصليهما من قبل؟! قال: (أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان).فدل هذا الحديث على مشروعية قضاء السنن الرواتب إذا كان الإنسان عذر بتركها، كما لو نام عن صلاة الفجر لعذر ثم استيقظ بعد طلوع الشمس، وهكذا إذا دخل والإمام يصلي الظهر ولم يتمكن من صلاة السنة القبلية، فإنه بعد سلام الإمام يجوز له أن يصلي القبلية، ثم يصلي بعدها السنن الراتبة البعدية، والله تعالى أعلم.
[حكم الجهر في الصلاة]
q إذا نسي الإمام الجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية هل يسجد للسهو؟
a للعلماء في الجهر في الصلاة وجهان: قال بعضهم: إنه من الواجبات، ويلزمه إذا نسيه أن يسجد له سجود السهو.وهذا قول يختاره بعض السلف رحمة الله عليهم، وهو في مذهب بعض العلماء، كـ مالك رحمة الله على الجميع.وقال بعض العلماء: الجهر ليس بواجب، ولذلك لو أسرّ في جهرية أو جهر في سرية ولو كان متعمداً صحت صلاته، والأحوط أنه يسجد إذا كان يريد الخروج من الخلاف، أما لو ترك السجود فإنه لا حرج عليه، والله تعالى أعلم.
[حكم من أفطر في رمضان ولم يعلم بوجوب القضاء إلا بعد فترة طويلة]
q امرأة أفطرت شهر رمضان كاملاً بسبب الحمل والولادة، ولم تكن تعلم أنه يجب عليها القضاء، فلم تقض ذلك الشهر حينها، وبعد عشرين سنة تبين لها أنه يجب عليها القضاء، فماذا تفعل؟
aيلزمها قضاء هذا الشهر، وللعلماء رحمهم الله في الجاهل وجهان: قال بعضهم: الجهل عذر، ويُسقط التكليف، ولا كفارة لمكان العذر.وقال بعضهم: ليس بعذر بعد استقرار الشرع.وهذا واضح، خاصةً إذا كانت في المدن والعمران؛ لأنه يتيسر وجود العلماء وسؤالهم، ومع ذلك تسكت عن سؤالهم ثم تأتي وتقول: إنها جاهلة.فقالوا: مثل هذه لا يُعذر، إنما يُعذر من كان في البوادي بعيداً عن العلماء، أو كان في زمان التشريع.وهذا القول من القوة بمكان، فإنه لا يفتح للناس الترخص بالجهل؛ لأنهم إذا كانوا في حاضرة وأمكنهم سؤال العلماء فهم مقصرون مستهترون، ومن قصر في الشرع يُلزم بعاقبة تقصيره.ولذلك يُفصَّل في هذه المرأة، فإن كانت في العمران وأمكنها سؤال العلماء فإنها آثمة بالتقصير ومعرفة حكم الله عز وجل.وأما إذا كانت في مكان لا يتيسر معه أن تبعث من يسأل لها أو لا يتيسر فيه وجود العالم الذي تسأله فإنها معذورة، ولا كفارة عليها، على القول بأن الجهل عذر مطلقاً، فلا كفارة عليها ولا إثم.وعلى القول بالتفصيل -وأميل إليه- أنها تأثم إن كانت قصّرت ولا تأثم إن لم تقصر، ثم إذا قلنا: إنها قصرت.وحكمنا بإثمها فمذهب جمهور العلماء أن من قصّر فدخل عليه رمضان الثاني ولم يقض رمضان الأول فعليه عن كل يوم ربع صاع، وهو قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك جمع من العلماء يُنسب إلى جمهور أهل العلم رحمة الله عليهم، ويُفتى به على سبيل الاحتياط، وإلا فقول الظاهرية بعدم وجوب التكفير من القوة بمكان.والله تعالى أعلم.
[معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)]
q ما المقصود بالأذانين في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)، والصلاة بينهما هل هي النافلة والمكتوبة؟
a هذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (بين كل أذانين صلاة) من باب التغليب، والعرب تقول: القمران والعشاءان والظهران والعمران، كل ذلك من باب التغليب، فقوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين) أي: بين الأذان والإقامة فغُلِّب الأذان على الإقامة).ووجه ذلك أن الأذان في لغة العرب الإعلام، فلما كان الأذان الأول أذاناً -بمعنى أنه يُعلم بدخول وقت الصلاة- وكانت الإقامة إعلاماً بقيام الصلاة وُصِفت بكونها أذاناً من هذا الوجه.وعلى هذا فإنه يصلي بين الأذان والإقامة، وهذه النافلة ليست براتبة، وإنما هي نافلة مستحبة يفعلها الإنسان، وليست من السنة الراتبة، إلا إذا كانت للصلاة الذي أُذِّن لها راتبة قبلية كالظهر والفجر ونحو ذلك.أما إذا لم تكن لها راتبة قبلية كصلاة المغرب، فإنه إذا أذن المغرب يُشرع للإنسان ويسن له أن يصلي ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة)، وهكذا لو أذن العشاء فله أن يصلي بين الأذان والإقامة ركعتين.والله تعالى أعلم.
[حكم التقصير في حق الوالدين بعذر طلب العلم والدعوة]
q لي أبٌ عاجز، وأشتغل بطلب العلم وبعض المشاريع الدعوية، وأقصر في حق الوالد، فهل أنا معذور بهذا التقصير؟
a أخي في الله! اتق الله في أبيك، واتق الله في والديك، وابدأ بهما؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بتوحيده ثم ثنى ببر الوالدين، فاتق الله عز وجل في أبيك عند المشيب والكبر، فارحم ضعفه واجبر كسره، وكن إلى جواره، والزم قدمه؛ فإن الجنة ثم.قال سبحانه وتعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23].وفي الحديث:: (رغم أنف رجل أدرك والديه فلم يدخلاه الجنة.قل: آمين.قلت: آمين)، فاحمد الله عز وجل إذ متّع ناظريك بوجود والديك، واغتنم هذه الفرصة، خاصة إذا كان الوالد ضعيفاً فقم على حالته، واقض حوائجه وفرج كربته، وكن إلى جواره، فإنه فرضٌ لازم عليك مقدم على النوافل، ومقدم على حلق الذكر، ومقدَّم على مجالس الصالحين إذا كانت على سبيل النفل ولم تكن واجبة.وما تقرب العبد إلى الله بشيء أحب إليه مما افترض عليه، فابدأ بوالديك، وفي الحديث أن صحابياً قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد.-يريد أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهاجر لكي يكون تحت ظله، يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال: أحي والداك؟ قال: نعم.قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)، وفي رواية: قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت أبواي يبكيان.قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)، وأبى أن يخرج معه.فبر الوالدين فرض لازم ينبغي على المسلم أن يبدأ به قبل النوافل والطاعات، فابدأ بنفسك وبمن تعول، وارحم ضعفه وارحم كبره، وكن مع الوالدين ولا تسأم ولا تمل، ولا تتعب ولا تضجر، فإنك تخوض في رحمات الله جل جلاله.فكل لحظة وأنت في جواره تُدخل السرور عليه، وتذهب الوحشة عنه بأنسه برؤية وجهك، فكم من قلوب للوالدِين تتعطش وتتألم، ولكن يزول ألمها ويروى عطشها إذا اطلعت ورأت أبناءها وبناتها.وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما احتضر ابنه إبراهيم دمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، فقال له الصحابة: (ما هذا يا رسول الله؟ قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده).فالوالدان فيهما رحمة، وفيهما حنان للولد وشوق وحنين، ولو أمرك أن تسافر أو تذهب للدعوة فينبغي أن تكون أحرص على الخير منه.فالوالد قد لا يحب أن يزعجك، ولا يحب أن يضيق عليك، فيراك تحب السفر فيقول لك: سافر.وتحب أن تكدح وتتاجر وتذهب هنا وهناك فيقول لك: اذهب.ولكن ينبغي أن تكون فطناً لبيباً حكيماً أريباً، فهذا الوالد في آخر عمره وضعفه ومشيبته وكبره بحاجة إليك.فالدنيا تُدرك، ولكن بر الوالدين ليس إلا ساعات ولحظات، اختار الله عز وجل والديك فسوف تعض على أصابع الندم، ولات ساعة مندم.فاتق الله عز وجل في والديك، واشكر نعمة الله سبحانه وتعالى إذ متع عينيك برؤية الوالدين.فينبغي ألا ينام الإنسان إلا وهو يفكر كيف يبر والديه، وأول الفروض بعد توحيد الله عز وجل بر الوالدين، فتكون إلى جواره، ولو أدى ذلك إلى انقطاعك عن بعض الدروس، فإن الوالد في أشد الحاجة أن تجلس معه، فإن كان مريضاً تداويه، وإن كان محتاجاً إلى معونة تعينه وتساعده، حتى ولو كان الإنسان يجد من والديه الأذية، فإن أفضل البر وأحسنه وأكمله وأجمله إذا كنت تُحسن إلى الوالدين ويسيئان إليك، وإذا كنت ترحمهما فتجد منهما الغظاظة، ولربما تجد منهما أنهما يكرمان غيرك ويهينانك، فإذا رأيت من الوالدين السباب والشتام والاحتقار فاعلم -إن شاء الله- أن ذلك من دلائل القبول، فما دمت لا تتسبب في غضبهما، وكأن الوالد لا يحفظ معروفك، ولا يشكر إحسانك، فلعل الله لحكمة يريد أن يرفع درجتك ببرك بوالديك.واعلم رحمك الله أنها من فواتح الخير، فكم من علماء وأفاضل وصلحاء بلغوا الخير بفضل الله جل جلاله ثم برضا الوالدين.وأعرف عالماً من العلماء الذين بلغوا شأواً عظيماً في العلم كتب ترجمته بيده فقال: لا أعرف أمراً وفقني الله عز وجل إليه بعد توحيده بلغت به بفضل الله عز وجل هذا العلم مثل بري بوالدي، فقد توفي وهو في النزع يدعو لي بالعلم والعمل.فإذا وفقك الله لبر الوالدين كسبت منهما الدعوات الصالحات، وخضت في رحمات الله سبحانه وتعالى، فتخرج من عند والديك والأكف ترفع إلى الله أن يسعدك، وأن يوفقك، وأن يكون معك، فأبشر بكل خير في دينك ودنياك وآخرتك.فلا يشتغل الإنسان بالنوافل ويترك الفرائض، وبعض طلاب العلم يجد السآمة، ويجد الضيق، ويجد الملل، ولا يدري من أين جاءه هذا الهم والغم والنصب والتعب، فقد يكون عق أباه؛ لأن الإنسان قد يعق والده بكلمة واحدة، فتغيب عليه شمس ذلك اليوم وهو من العاقين -والعياذ بالله-.فكيف يحتاج والدك إلى حاجة ويأتيك قبل أن تأتيه، وهو الذي طالما سهِر وتعب عليك؟ والله إن الإنسان ليكاد يذوب خجلاً -لو أن القلوب والضمائر والنفوس حية- حينما ينظر إلى والده يسأله حاجة.فالمفروض أنك لا تنتظر من الوالد أن يسألك، ولا تنتظر من الوالد أن يعرض حاجته عليك، بل عليك أن تلبي حاجته، وأن تفرج -بإذن الله- كربته، وتسعى في تحقيق مصالحه وإدخال السرور عليه، وبذل كل ما تستطيع من الخير.فقبل الجلسات، وقبل الأصدقاء والأصحاب والأحباب بر الوالدين، فالواحد منا يجلس مع أصحابه وأحبابه ساعات متأخرة من الليل لا يسأم، ولا يمل ولا يضجر، وقد يكون في فضول الحديث، ولكن بمجرد أن يجلس مع أبيه لحظة واحدة يتذمر، وتجده إذا دخل عليه رجل من أهل الدنيا يقوم من مكتبه يقضي حوائجه، ويفرج كربته، فإذا قال له الرجل: أشكرك على ما قدمت.يقول: هذا واجب.وإذا جاء والده في أبسط حاجة أو أقل معروف أعرض عنه، ولربما جاء وقضى الحاجة بتذمر، حتى إن الوالد يكره هذه الحاجة مما يرى من السآمة والملل من ابنه.فالله الله في هذه القلوب الضعيفة، فارحموا ضعف الوالدين.وينبغي على الخطباء وطلاب العلم دائماً أن يذكِّر بعضهم بعضاً ببر الوالدين، فهذه فواتح رحمة، وهذه من الأمور التي كان العلماء رحمهم الله يتفقدون فيها طلابهم، فلا تمر فترة إلا وهم يذكرون، وقد عهِدت بعض المشايخ رحمة الله عليهم أنه كان لا يجلس معه طلابه إلا وهو يتفقدهم في أمرين، ويقول: أمران لا أسأم منهما: الإخلاص وبر الوالدين.فتجده دائماً يقرع طلابه ويذكرهم بهذا.وإن كنت في حيِّك، أو في مسجدك، فاذكر فضل بر الوالدين، وأَشِدْ بهما؛ لأن الناس تناست، وكلما طال العهد عن النبوة كان الناس في فتنة ومحنة وغربة عن الدين، فقد أصبح اليوم قضاء حوائج الوالدين كائناً مع الضيق والسآمة والملل، حتى إن كثيراً من الآباء يضجرون، فتجد الأب تُقضى حاجته، لكن تُقضى بدون رغبة.وقد اتصل بي ذات مرة رجل من الأخيار، وكان من خيار طلاب العلم والدعاة، فقال لي: إني أريد أن أخرج إلى كذا وكذا -وهي قربة من أجل القربات- فقلت له: يا أخي! هل والداك موجودان؟ قال: الوالد موجود.قلت: هل أذن لك في الخروج؟ قال: أذن لي.قلت: لو كنت تريد مني الرأي فأنا أنصحك أن تبقى عند والدك.قال: لماذا؟ قلت: والدك كبير، ولو أذن لك فالمفروض أن تستحي من الله عز وجل أن تتركه على ضعف وخور في هذا العمر وتخرج تتنفل بالطاعات، فقال: أنا واثق أنه راض.قلت له: تأكد.وثلاث مرات وأنا أراجعه، ولكن يأبى الله عز وجل، وأرجو أن الرجل كان فيه الخير والصلاح، أحسبه ولا أزكيه على الله.فيشاء الله عز وجل أنه يُقدم على ما هو طالبه من الخير، فخرج، فلما خرج وابتعد عن المدينة التي هو فيها مسافة تذكر شيئاً في البيت أنه لم يأخذه معه، وكان من لوازم سفره.قال: فرجعت، فلما رجعت وجدت الوالد في حالة من البكاء والحزن والهم والغم ما الله به عليم، قال: فلما رأيت الوالد ذُهِلت حتى عن الشيء الذي أتيت من أجله، فقلت: ما هذا يا والد؟ قال: يا بني! ماذا أفعل؟ رأيتك تحب هذا الشيء ولا أحب أن أمنعك عما تريد، أما لو كان باختياري وهواي فلا أريدك أن تفارقني.قال: والله ما هو إلا أن قبلت قدمه، وجلست أبكي عنده.فالوالدان فيهما رحمة، ولا يستطيع الوالد إذا رآك تريد شيئاً أن يصدّك عنه، والوالدة أرحم من الوالد، فلا يغتر الشاب لقول الوالد: اذهب.فإذا قال: اذهب.فقل: لا أذهب، بل أجلس عند قدمك وأقضي حوائجك.وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الزم رجلها فإن الجنة ثم).فالوالدان يحتاجان إلى وفاء، وإلى رد جميل، وإلى الإحسان مهما كان، حتى ولو كان الوالد يقول لك: اذهب إلى طلب العلم.فلتذهب إلى طلب العلم ولكن بقدر، ولتجعل حاجته بين عينيك، ولا تنتظر منه -إذا كنت تريد الرحمة والرضوان والتوفيق من الله، وسعادة الدنيا والآخرة- يوماً من الأيام أن يطلب منك شيئاً، وإنما تكون أنت الذي تقضي حوائجه، وأنت الذي تبادره وتسبقه إلى حوائجه.نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بالبر، وأن يجعلنا من أهله، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا في هذا المجلس المبارك أن يسبغ شآبيب الرحمات على من كان منهم من الأموات من الآباء والأمهات.اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، وأوسع مدخلهم، واجزهم عنا خير ما جزيت والداً عن ولده، اللهم أسبغ عليهم شآبيب الرحمات، واجعلهم عندك في نعيم الجنات.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (130)
صـــــ(1) إلى صــ(27)
شرح زاد المستقنع - فصل: صلاة المسافر [2]
السفر غالباً تصحبه مشقة وعناء، ولذلك خفَّف الله عن المكلفين في السفر وشرع لهم قصر الصلاة فيه، لمسافة معلومة ومدة معلومة، وبشروط معينة، على أن يراعى وقت أداء الصلاة ووقت وجوبها، وكذلك حال الاقتداء بالمقيم،
ومن التخفيف عن المسافر: مشروعية الجمع بين الصلاتين، مراعاة لحال المسافر وتيسيراً عليه، وقد يكون الجمع في غير حال السفر كالجمع في عرفة ومزدلفة.
تابع أحكام صلاة المسافر
[حكم القصر في السفر المحرم]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [من سافر سفراً مباحاً أربعة برد سن له قصر الرباعية ركعتين إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه].
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان المسائل والأحكام المتعلقة بصلاة المسافر، والله سبحانه وتعالى جعل الصلاة في السفر إذا كانت رباعية ركعتين،
كما شهد بذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر).وقد بينا أن السفر يعتبر من الأمور التي توجب التخفيف عن العباد والمكلفين في الصلاة.
قوله: [من سافر سفراً مباحاً] يفيد أنه يشترط في السفر الذي تقصر فيه الصلاة أن يكون سفراً مباحاً وليس بسفر معصية، فإن كان السفر سفر معصية فإنه لا يحل له أن يقصر الصلاة، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173]،
فقد فسر حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الاضطرار في حال البغي والعدوان فقال: (أن يسافر سفر بغي، أو سفر عدوان).فإذا كان مسافراً سفراً محرماً فإن الخطاب يتوجه عليه بالرجوع، فكأن السفر وجوده وعدمه على حد سواء،
فلو قال قائل: إنه مسافر في الصورة! قلنا: إن الصورة يشترط فيها أن يعتد بها شرعاً، فلما كانت لاغية في حكم الشرع لم يترخص برخصه.
[المسافة التي يقصر فيها المسافر]
قوله: [من سافر سفراً مباحاً أربعة برد].
البرد: جمع بريد،
والبريد كلمة أصلها فارسي وهو: (برده ذم)،
قالوا: كان أصل البريد في اللغة الرسول، وكانوا يستخدمون البغال في إيصال الرسائل، فعلى كل مرحلة يجعلون محطة تكون فيها بغال مهيأة، فإذا أخذ الرسول الرسالة من محطة انطلق إلى المحطة الأخرى، فيجد رسولاً آخر ينتظره في المحطة فيعطيه الرسالة، فينطلق إلى المحطة التي تليها، فيكون أبلغ في وصول الرسالة في أقرب وقت، أو ينطلق نفس المسافر، فإذا وصل إلى المحطة الأولى وجد دابة فركب عليها إلى المحطة التي تليها، وهكذا حتى يبلغ المكان الذي يريده لرسالته، فسمي بريداً.فالبريد نفس المسافة التي يقطعها المسافر في اليوم وهي المرحلة الكاملة، وهذه المسافة -التي هي أربعة برد- توقيت وتحديد ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله، فالمسافر لا يكون مسافراً إلا إذا قصد هذه المسافة فما فوقها، فلو كانت المنطقة أو المدينة التي يريد بلوغها دون أربعة برد فإنه لا يوصف بكونه مسافراً، فكما أن من خرج من مدينة إلى ضواحيها لا يعتبر مسافراً في حكم الشرع، فكذلك من انتقل إلى مسافة دون هذه المسافة.
أما الدليل الذي دل على اعتبار هذه الأربعة البرد فحديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة -وفي رواية: مسيرة يوم- إلا ومعها ذو حرمة)، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المرأة أن تسافر بدون محرم، ولم يذكر مسافة توصف بكونها مسافة سفر دون اليوم والليلة، فدل على أن مسافة اليوم والليلة ومسيرة اليوم والليلة هي السفر.
وقالوا: إن الأربعة البرد من إنسان يسير يوماً كاملاً تكون على هذا الوجه؛ لأنه إذا مشى من أول النهار إلى أوسطه فإنه يقطع بريداً، ثم من أوسطه إلى آخره يقطع بريداً، فيتم له في النهار بريدان، ثم في الليلة بريدان، فأصبح المجموع أربعة برد، فهي مسيرة اليوم والليلة،
فإن قالوا: مسيرة يوم وليلة فإنها مسيرة أربعة برد.والبريد من الفراسخ أربعة، والفرسخ ثلاثة أميال، وبناء على ذلك لتكون المسافة ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً، وتقدر بالكيلو مترات، فبعض المتأخرين -قبل ما يقرب من أربعين سنة- اختبر سير الإبل، فذكر أن الإبل في اليوم تسير ما يقارب أربعين كيلو متراً،
أي: من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد تسير دون الأربعين شيئاً قليلاً، وقد تصل إلى الأربعين، فإذا كان السير معتاداً في الزمان المعتاد الذي ليس بشديد الحر ولا بشديد البرد، فإنه يصل السير إلى ما يقارب الأربعين كيلو متراً، فإذا حسبت في النهار أربعين كيلو متراً وفي الليل أربعين كيلو متراً فهي إلى الثمانين،
فهو يقول: إنها تصل إلى ما يقارب ثمانية وسبعين كيلو متراً.
ومن العلماء من يقول: اثنان وسبعون كيلو متراً.
ومنهم من يقول: ستة وسبعون كيلو متراً.
ومنهم من يقول: ثمانون كيلو متراً.فهي ما بين اثنين وسبعين كيلو متراً إلى ثمانين كيلو متراً، فإن احتاط فإنه يوصلها إلى الثمانين، ولكن الأشبه -فيما ذكره غير واحد- أنه إلى اثنين وسبعين يرخص له برخص السفر.
وقلنا: إن الدليل من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة أن تسافر مسيرة يوم وليلة)، فدل هذا النص الشرعي على أن من سار مسيرة اليوم والليلة فهو مسافر.
فإن قال قائل: كيف أسقطت ما دون اليوم والليلة عن كونه سفراً؟ وما هو الدليل على أن من خرج دون اليوم والليلة لا يكون مسافراً؟
قلنا: السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مواضع دون هذه المسافة -أي: دون مسيرة اليوم والليلة-، ومكث فيها ولم يقصر الصلاة، فقد خرج إلى الخندق وهو يبعد عن المدينة ثلاثة أميال تقل أو تكثر، خاصة إذا خرج من طريق بطحان، ومع ذلك لم يقصر رباعية، وخرج إلى أحد ولم يقصر رباعية، وكذلك ثبت عنه في الأحاديث أنه خرج إلى بني النضير وحاصرهم خمس عشرة ليلة في شهر ربيع ومع ذلك لم يقصر الصلاة، وبنو النضير على أميال من المدينة، وكذلك خرج إلى بني قريظة ولا تقل المسافة بينه وبينهم عن ستة أميال كما ذكر غير واحد، وهذه كلها ضواحٍ من المدينة بينها وبين المدينة دون اليوم والليلة، فكونه يخرج إلى هذه المسافات التي هي دون اليوم والليلة قاصداً إياهم -حيث قصدهم بالحصار والقتال- ومع ذلك لم يقصر الصلاة يدل على أن ما كان دون اليوم والليلة لا يحكم بكونه سفراً.
ولذلك قالوا: نرجع إلى أقل ما سماه الشرع سفراً، فنحكم بكون الإنسان مسافراً إذا قطعه، وأما ما دونه -كما لو خرج إلى قرية دون مسافة اليوم والليلة -فإنه في حكم من خرج إلى ضواحي المدينة وما قاربها.وأكدوا هذا بأن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان لا يجيز لأهل مكة أن يقصروا الصلاة بعرفة،
فقد سألوه رضي الله عنه وأرضاه: أنقصر الصلاة في عرفة؟
قال: لا.ولكن إلى جدة وعسفان، أو الطائف.وهذا السند صحيح عنه رضي الله عنه، ولم يختلف على ابن عباس رضي الله عنهما في فتواه بهذه المسألة، وقد كانت عسفان مسيرة يوم وليلة، وكانت جدة في ذلك الزمان مسيرة يوم وليلة، وكانت الطائف تربو على مسافة اليوم والليلة بشيء.
قالوا: فهذا يدل على أن الخروج المطلق لا يوصف بكونه سفراً، وإنما يكون سفراً إذا كانت المنطقة التي يريدها تبعد بمقدار اليوم والليلة فأكثر.
ثانياً: أنه قد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قصر الصلاة حينما خرج إلى وادي ريم، ووادي ريم يبعد عن المدينة ما يقارب ستين إلى سبعين كيلو متراً يقل قليلاً أو يكثر على حسب الطريق، وقد يزيد على السبعين قليلاً إذا قصدت آخر الوادي، وعلى هذا فهو يقارب مسيرة اليوم والليلة، وجاء عنه أيضاً في الرواية الأخرى -رضي الله عنه وأرضاه- أنه قصر في الأربعة البرد، وما ورد عنه من أنه كان يقصر في الثلاثة الأميال فهو ابتداء قصره، بمعنى أنه لو خرج مسيرة اليوم والليلة كان إذا سار ثلاثة أميال قصر، بل حتى لو خرج من العمران يقصر، فعلى هذا لا تعارض بين الروايات عن ابن عمر، فإن الروايات القوية واردة عنه رضي الله عنه بالتأقيت في الأربعة برد ومسيرة اليوم والليلة،
وإذا نظرنا إلى الأسانيد عن ابن عمر وجدنا أصحها وأقواها ما جاء عنه في القصر في الأربعة البرد، وهي عن أوثق أصحابه وأقربهم منه كـ سالم ابنه، وكذلك نافع مولاه رحمة الله على الجميع، خاصة وأنه ورد عنه أنه أمر بالقصر في هذه المسافة، فيقوى مذهب من قال -أعني: الجمهور-:
إنها أربعة برد، وما ورد عنه من القصر في الثلاثة الأميال فإنه محمول على أنه ابتدأ القصر، بمعنى أنه خرج من المدينة ثلاثة أميال فحضرته الصلاة فصلى وهو قاصد لمسيرة اليوم والليلة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما خرج من المدينة، فإنه بمجرد أن وصل إلى ذي الحليفة قصر الصلاة، مع أن ذا الحليفة ليست على مسيرة مرحلة كاملة.فهذا حاصل ما ذكر بالنسبة لأدلة السنة، وكذلك الآثار الصحيحة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولأننا لو لم نقل بالتحديد فإن ذلك سيؤدي إلى اختلاج الأحكام،
فلو قلنا: إنه يرجع فيه إلى عرف الناس لاختلفت أعرافهم،
فتجدنا نقول: عند هؤلاء يعتبر سفراً وعند غيرهم لا يعتبر سفراً.
ولأن نوايا الناس تختلف، فقد أراه على سفر ولا يراه غيري على سفر مع أن المسافة قد تكون واحدة.
وعلى هذا فإن نص النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مسيرة يوم وليلة) يتضمن مسألتين: المسألة الأولى: أن يعتد بالزمان.
المسألة الثانية: أن يعتد بالمكان.فعند اختلال إحداهما يرجع إلى الآخر، فإذا كانت المسافة الزمنية التي تقطع فيها المسيرة قاصرة عن اليوم والليلة رجعنا إلى مسافة المكان، وإن كانت مسافة المكان شاقة فيمشي الإنسان ويواصل بحيث يمضي يوماً وليلة وهو يمشي فإنه يرجع إلى التأقيت بالزمان.توضيح ذلك أن الإنسان لو قطع مسافة السفر في سيارة في نصف ساعة أو ساعة فإنه مسافر؛ لأنها مسيرة يوم وليلة، وبنص الحديث مسيرة اليوم والليلة سفر،
فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة) يدل على أن المسافة معتد بها،
وعلى هذا فلو سافر بالطائرة أو بالسيارة في برهة يسيرة أو زمان يسير فإننا نقول: هو مسافر التفاتاً إلى المكان الذي قطعه، أما لو كان المكان شاقاً كالأماكن الوعرة والجبال التي يصعب تسلقها والوصول إليها وشق عليه أن يقطع هذه المسافة فإننا نرجع إلى التأقيت بالزمان، ولذلك قالوا: إن الحديث تضمن التحديدين: تحديد الزمان إن تعذر المكان، وتحديد المكان إن تعذر الزمان، والاعتداد بهما إن تسايرا وتوافقا.
فالحاصل أن البريد أرعبة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال،
كما قيل: إن البريد من الفراسخ أربع وفرسخ ثلاثة أميال ضعوا فمسافة القصر أربعة برد، أو ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعون ميلاً، وما دونها فليس بسفر،
فإذا قلنا: إن المسافة -مثلاً- ثمانية وأربعون ميلاً فلو أن إنساناً سافر سبعة وأربعين ميلاً فليس بمسافر،
إلا أننا نقول: هذا لا حرج فيه، فإن الرجل إذا خرج إلى العمرة وحاذى الميقات ثم خطا خطوة واحدة ولبى ولم يحرم فإنه يجب عليه الدم، وإذا رجع إليه وأحرم منه سقط عنه الدم، فالشرع إذا حدد المكان فإنه لا يختلف فيه القليل ولا الكثير، ما دام أن هذا تحديد الشرع وهذا نصه، وهذه مكة فإنك قد تقف على آخر حدها فلو أن إنساناً دخل هذا الحد ونوى فيه -نسأل الله العافية- الظلم والإثم فإنه متوعد بالوعيد،
ولو خرج شبراً واحد لم يحصل له ذلك الوعيد؛ لأن هذا تأقيت من الشرع، فلو سافر دون ثمانية وأربعين ميلاً ولو باليسير فإننا لا نقول -على ظاهر هذا النص-: إنه لا يحكم بكونه مسافراً.هذا حاصل ما ذكره العلماء رحمه الله عليهم في مسافة السفر.
[حكم القصر في السفر ومن أين يبتدئ به]
[سن له قصر الرباعية ركعتين إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه].[سن له] أي: لا يجب عليه القصر.
وهذا مذهب الجماهير؛ لأن عثمان رضي الله عنه وأرضاه أتم الصلاة بالناس في حجه، ومع ذلك صلى وراءه الصحابة، فدل على أن الإتمام لا يعتبر موجباً لبطلان الصلاة، ولا يحكم فيه بإثم صاحبه، وعلى ذلك فإنه من السنة، ولكن ينبغي على الإنسان أن لا يجاوز هذا الهدي،
فإنه إذا قال: أريد أن أتم الصلاة وأنا مسافر طلباً للفضل فإنه تخشى عليه الفتنة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتم الصلاة لطلب الفضل، وإذا صلى زيادة على الركعتين فجعل الرباعية المقصورة أربعاً معتقداً أنه يكون له فضل الركعتين وأنه أفضل فإنه مبتدع في قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم.إنما الكلام فيما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم من إتمام عثمان،
وقد أجيب عنه بأجوبة: فقيل: إن عثمان رضي الله عنه تزوج من أهل مكة،
كما ورد في مسند أحمد أنه قال: (إني تأهلت بمكة،
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تأهل ببلد فليتم فيه)، فيعتبر كأنه مكي من هذا الوجه.
وقيل: إنه سمع أعرابياً يقول: ما زلت أصليها ركعتين منذ أن فارقتك عام أول.
قالوا: إن هذا يدل على أن عثمان رضي الله عنه خاف أن الجهال يعتقدون أن الرباعية ركعتان،
ولذلك قالوا: إنه أتم لخوف هذه المفسدة، فزاد في الصلاة من هذا الوجه.فهذه من أقوى الأوجه التي اعتذر بها لأمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
وقوله رحمه الله: [سن له قصر الرباعية] يدل على أن القصر يختص بالرباعية، وهي الظهر والعصر والعشاء، أما صلاة الفجر والمغرب فإنها لا تقصر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.قوله: [إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه].
الإنسان له حالتان: فإما أن يكون في مدينة وقرية ونحو ذلك، وإما أن يكون في خيام وبر.
فإن كان في مدينة قلنا: إنه إذا خرج من آخر بنائها فإنه يعتبر مسافراً،
فلو أن البنيان اتصل بالبساتين والحوائط فلا يخلو من حالتين: الأولى: أن تكون الحوائط عامرة، فحينئذٍ بعد أن يخرج منها يقصر.
الثانية: أن تكون الحوائط مهجورة والبيوت مهجورة فإن العبرة بالعمران، فبمجرد خروجه من المواضع التي فيها العمران يقصر الصلاة ويستبيح رخص السفر من الفطر ونحوه.وإذا كان في الخيام فإما أن تكون له خيمة منفردة، فحينئذٍ يبتدئ الرخص بمجرد ركوبه على دابته ومفارقته لخيمته، كأن يولي قفاه لها.
وإما أن يكون مع خيام جماعته وقرابته أو قوم معه، فحينئذٍ إذا جاوز آخر خيمة من هذه الخيام فإنه يترخص برخص السفر، ويأخذ حكم المسافر بمجاوزتها.
حالات القصر والإتمام للمسافر
الإحرام بالصلاة حضراً ثم الشروع في السفر[وإن أحرم حضراً ثم سافر، أو سفراً ثم أقام، أو ذكر صلاة حضر في سفر أو عكسها، أو ائتم بمقيم أو بمن يشك فيه، أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها، أو لم ينو القصر عند إحرامها، أو شك في نيته، أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام، أو ملاحاً، معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد لزمه أن يتم].
قوله: [وإن أحرم حضراً ثم سافر] مثاله -كما ذكر العلماء- أن يكون في سفينة، وتكون هذه السفينة على شاطئ البحر، فحينئذٍ ما دامت السفينة واقفة فإنه لا يحكم بكونه مسافراً؛ لأنها لا تزال متصلة بالعمران، وأما إذا تحركت السفينة فإنه يستبيح الرخص بمجرد حركتها، فلو أنه أحرم وكبر تكبيرة الإحرام ولم تتحرك السفينة، ثم لما كبر وانتهى من التكبير وأراد أن يشرع في القراءة تحركت السفينة في السفر، فإنّا إن نظرنا إلى ابتدائه الصلاة وجدناه مقيماً، وإن نظرنا إلى حاله في الصلاة وجدناه مسافراً، فهل العبرة بالابتداء والشروع، أم العبرة بما ينتهي إليه أمره؟
قال بعض العلماء: العبرة بإحرامه، فإن أحرم حال السفر ثم دخل إلى الحضر فإنه يتمها سفراً، وإن أحرم وهو حاضر ثم مضت السفينة فإنه يتمها حضراً كأنه حاضر.فهذا وجه لبعض العلماء رحمة الله عليهم، وهم الظاهرية ومن يوافقهم من أهل الحديث.
الوجه الثاني -وهو للشافعية والحنابلة ومن وافقهم-: إذا أحرم وهو حاضر وتحركت السفينة فإنه يتمها أربع ركعات حضراً،
لقاعدة: (الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)، وهذه قاعدة شرعية حاصلها أنك إذا كنت تريد أن تفعل شيئاً فيه رخصة من الشرع فإن كنت تشك في كونك من أهل الرخصة رجعت إلى الأصل، فلو شككت في كونك من أهل الرخصة فتخفف الصلاة وتقصرها، أو لست من أهل الرخصة فتكون في حكم المقيم وتتمها، فالقاعدة أن تبني على أنك مقيم حتى تتحقق من كونك من أهل الرخص؛ لأن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل.
وربما يعترض معترض ويقول أيضاً: قد أحرم بصلاته وهو حاضر، فمعنى ذلك أنه قد وجب عليه أن يصلي صلاة الحاضر.وهذا هو أقوى الوجهين، فيتمها أربع ركعات، والسبب في هذا واضح،
بل إن بعض العلماء يقول: إذا أذن المؤذن وأنت في داخل المدينة فإنك تعتد بالأذان، وهذا القول النفس إليه أميل؛ لأنه عندما أذن أذان الظهر قبل أن تخرج من المدينة فإنه قد توجه عليك الخطاب الشرعي أن تصلي أربع ركعات، ولم تسقط عنك الركعتان اللتان هما تمام الأربع، فلا تسقطان باحتمال وشك،
وعلى هذا قالوا: إنه عندما أذن المؤذن وجبت عليه أربعاً، فيتم الصلاة ولو سافر بعد ذلك،
فبعض العلماء يقول: العبرة عندي بأذان الصلاة، فإن أذن المؤذن وهو داخل المدينة صلى مقيماً، وإن أذن المؤذن بعد خروجه من المدينة صلى مسافراً.
والوجه الثاني يقول: العبرة عندي بالصلاة.ويعتدُّ بالصلاة على حسب أحوالها، ومنهم من يعتد بتكبيرة الإحرام كما أشار إليه المصنف.لكن أعدل هذه الأقوال أن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل،
وهذه القاعدة هي التي ذكر فيها المصنف هذه المسائل التي منها: أن تكبر تكبيرة الإحرام وأنت في المدينة، ثم تتحرك بك الدابة أو السيارة، فتبقى بقية الصلاة وأنت متلبس بصفة السفر فإنك تتمها صلاة مقيم.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (131)
صـــــ(1) إلى صــ(27)
[ذكر صلاة الحضر في السفر والعكس]
قال: [أو ذكر صلاة حضر في سفر].ذِكر صلاة الحضر في السفر،
مثاله: أن يخرج من مكة بعد انتهاء وقت صلاة الظهر، ثم في الطريق تذكر أنه لم يصل الظهر، فيكون ذكر الحضرية؛ لأن وقت الظهر كان فيه مقيماً، فهو ذكر الحضرية -وهي الظهر- في السفر،
فبعض العلماء يقول: إذا ذكر الحضرية في السفر فإنه يصليها كاملة؛ لأن الخطاب توجه عليه بإتمامها أربعاً، ولذلك يجب عليه أن يصليها صلاة حاضر، ولا عبرة بحاله أثناء الأداء، والعكس أيضاً لو ذكر سفرية في حضر، فلو أنه قدم المدينة وكان مسافراً ومضى عليه وقت العشاء ودخل الفجر فنسي أن يصلي العشاء، وصلى الفجر ثم وصل الصباح، ثم تذكر بعد أن وصل إلى بيته أنه لم يصل العشاء البارحة،
فإنهم قالوا: إنه يصليها أربعاً؛ لأنه يشك في استباحة الرخصة، فيرجع إلى الأصل، على القاعدة التي قررناها وأشرنا إليها.
[الائتمام بالمقيم]
قال: [أو ائتم بمقيم].
وفيه حديث ابن عباس: (من السنة إذا صلى المسافر وراء المقيم أن يتم)،
والمسافر إذا صلى وراء المقيم له صور: الصورة الأولى: أن يدخل معه في الصلاة من أولها، فهذا يتم صلاته، وعليه يتنزل ما ورد عن ابن عباس،
وهو قوله: (من السنة أن يتم المسافر وراء المقيم).
الصورة الثانية: أن يدخل معه في الصلاة في أغلبها بحيث يتعذر عليه القصر، وصورة ذلك أن يدخل في الركعة الثانية من الظهر، فإنه في هذه الحالة يصعب عليه القصر، وكذلك أيضاً بالنسبة للركعة الثانية من العصر، أو الثانية من العشاء، فكل هذه يصعب عليه فيها أن يقصر،
وإن كان هناك وجه ضعيف يقول: إذا دخل في الظهر يصلي وراءه، ثم يجلس بعد الركعة الثالثة للتشهد، وينتظر الإمام حتى يأتي بالرابعة ثم يتشهد مع الإمام ويسلم قياساً على صلاة الخوف، وهذا من أضعف الأقوال، وهو وجه شاذ عند أهل العلم رحمة الله عليهم.
الصورة الثالثة: أن يدخل وراء المقيم موافقاً له في صفة صلاته، كأن يدخل وراء المقيم في الركعتين الأخريين من الظهر، أو الركعتين الأخريين من العصر، أو الركعتين الأخريين من العشاء،
فللعلماء فيه وجهان: فمنهم من قال: يتم.وهذا مذهب الجمهور.
ومنهم من قال: إنه يقصر ويسلم؛ لأن الله أوجب عليه ركعتين، وهو مذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم، وأحد الوجهين عند الشافعية، وهذا الوجه من القوة بمكان، فله أن يسلم مع الإمام؛ لأن الله أوجب عليه ركعتين، فإذا دخل ونوى القصر وسلم مع الإمام فلا حرج عليه.
الصورة الرابعة: أن يدخل وراء الإمام مدركاً ركعة واحدة، فهنا يضيف إليها ركعة، وقد قال به جمع من السلف رحمة الله عليهم، وبه يقول الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة،
فقالوا: إذا أدرك ركعة فإنه يضيف إليها ركعة ثانية ويسلم.
الصورة الأخيرة: أن لا يدرك شيئاً من الركعات، فيتمها صلاة سفرية،
أي: يتمها ركعتين، وهذا إذا نوى وراء المقيم القصر، أما إذا لم ينو القصر فإنه بتمها صلاة حضرية وجهاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم.
[الائتمام بمن يشك في إقامته أو سفره]
قال: [أو بمن يشك فيه].
هذا عند من يقول: إن المسافر وراء المقيم يتم،
فإن المساجد في السفر لا تخلو من حالتين:
الأولى: أن يكون لها غالب وظاهر حال.
الثانية: غالب ولا ظاهر حال.فالجماعة أو المساجد التي لها غالب حال مثالها مساجد مكة، فإنه إذا دخل المسافر مكة فإن مساجد مكة ظاهر حال أهلها أنهم متمون، فحينئذٍ لا إشكال إذا دخل وراء إمامهم أنه ينوي الإتمام بدون أي شك، وليس هناك مجال للشك؛ لأن المسجد ظاهر حاله أنه مسجد إتمام، وكذلك الجماعة ظاهر حالها أنها متمة.
وأما ما لا يعرف لها ظاهر حال، حيث تكون في موضع وتشك في كون المصلين من أهل الموضع فمثاله ما يحدث في القرى، فإنك تدخل فترى جماعة فتشك في هذه الجماعة في كونها جماعة سفر فتنوي القصر وراءهم وتسلم معهم، أو أنها جماعة مقيمة فتدخل وراءهم ناوياً الإتمام،
فقالوا: في هذه الحالة ينوي الإتمام ويتم الصلاة.لكن هناك وجه عند بعض العلماء يخرج من الإشكال، وهو أنك إذا شككت تنوي وراءهم القصر، فإن كانوا مسافرين فلا إشكال، وإن كانوا غير مسافرين فإنه لا حرج في الإتمام بعد نية القصر،
ولذلك يقولون: لا حرج فيه ويغتفر، وإنما يصعب أن ينتقل من الإتمام إلى القصر، أما أن ينتقل من القصر إلى الإتمام فإنه لا حرج فيه، والأمر واسع.
فإذا قلنا: يجوز أن تدخل وراء الإمام في الركعتين الأخيرتين وتسلم معه، ففي هذه الحالة إذا دخلت في صلاة الظهر ولا تدري هل الإمام المقيم في الركعتين الأخريين، أم في الركعتين الأوليين، فإنك تنوي القصر، فإن ظهر أنه في الأخيرتين سلمت معه وصحت نيتك، وإن ظهر أنه في الأوليين فإنك حينئذٍ تتم معه، وتنتقل من الأدنى إلى الأعلى ولا حرج، وإنما يحظر عليك أن تنتقل من الأعلى إلى الأدنى، كأن تنتقل من نية الإتمام إلى نية القصر،
قالوا: لأنك إذا نويت الإتمام وجبت عليك أربعاً، وإن نويت القصر وجبت عليك اثنتان، فلا مانع أن تزيد على ما شرعت فيه الزيادة.
[الإحرام بصلاة يلزمه إتمامها ثم بطلانها]
قال: [أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها].
إذا كنت على سفر فدخلت وراء إمام يتم فإنه يلزمك إتمام الصلاة على القول الذي اختاره المصنف رحمه الله، فإن دخلت وراءه وأصابك عذر يوجب انفصالك عنه أو خروجك من الصلاة وراءه فإنك تخرج، وحينئذٍ يردq هل يجب عليك أن تقضيها أربعاً، بناء على أنك حينما دخلت وشرعت تعين عليك بالخطاب الشرعي أربع ركعات؛ لأنك نويت الإتمام، فأصبحت ذمتك مشغولة في الصلاة بأربع ركعات، أم أن العبرة بحالك عند الأداء، فإنه وجب عليك أن تتم لما كنت مع هذا الإمام، ولما فارقته أصبح حكمك سارياً على الأصل؟ فمن العلماء من اختار الوجه الأول،
وقال: إنه لما دخل وراء الإمام المقيم فقد ألزم ذمته بأربع ركعات، فإذا ألزم ذمته بأربع ركعات فإنه ليس عندنا دليل على إسقاطها، وهو وإن كان إنما يلزمه إتمامها مدة اتصاله بالإمام لكن الذمة انشغلت بالأربع الركعات.
ولذلك قالوا: يلزمه أن يتم.
ومن العلماء من اختار الوجه الثاني فقالوا: لزمه الإتمام حال متابعته لهذا الإمام، وقد بطلت فرجع إلى الأصل، وبناء على ذلك يكون الواجب عليه أن يصلي قصراً لا أن يتم.ولا شك أنه لو احتاط فهو أفضل.
[ترك نية القصر حال الصلاة والشك فيها]
قال: [أو لم ينو القصر عند إحرامها].إذا صلى مسافر وراء مسافر، ونوى القصر فلا إشكال، في أنه يقصر ويسلم معه وجهاً واحداً عند العلماء.
وإن صلى وراءه ولم ينو القصر ونوى الإتمام كأن يكون نسي أنه في سفر فنوى أن يتم أو ظن أن إمامه يتم فنوى الإتمام وراءه لزمه أن يتمها أربعاً.
قال: [أو شك في نيته].إذا شك هل نوى القصر فيبقى على الركعتين، أم نوى الإتمام،
فقد قالوا: يتم.وإن كان الأقوى في هذه الحالة أن يبقى على الركعتين لأنهما هما الواجبتان في ذمته، وظاهر حاله أنه ينوي القصر فيرجع إلى تغليب الحال مع اعتضاده بالأصل، فتسقط عنه الركعتان، فإن احتاط بالإتمام فهو أفضل.
[نية الإقامة فوق أربعة أيام]
قال: [أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام].
هذه مسألة مبنية على وصف السفر إن قلنا: إن للسفر حداً معيناً، وإنَّ المسافر ينتهي إلى أمد يحكم فيه بكونه مقيماً،
فالناس ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مسافر، وقد بينا حكمه.
والثاني: المقيم، ولا إشكال في حكمه.
والثالث: من هو في حكم المقيم، فهو مسافر في الأصل لكنه يأخذ حكم المقيم.وهذا التقسيم مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمة الله عليهم، فالسفر قد ينتقل الإنسان به إلى حكم المقيم، فيكون الإنسان مقيماً ومسافراً ومسافراً في حكم المقيم، والذي في حكم المقيم للعلماء فيه خلاف مشهور، وفيه أكثر من خمسة عشر قولاً بين العلماء رحمة الله عليهم في ضابطه، والسبب في ذلك اختلاف الأدلة، فالجمهور يقولون -من حيث الجملة- العبرة بأربعة أيام، ولا يحسب فيها يوم الدخول ولا يوم الخروج.
وتوضيح ذلك أنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سافر وقصر الصلاة، والنصوص تدل على أن المقيم يجب عليه إتمام الصلاة،
فأصبحت عندنا حالتان: حالة سفر، وحالة حضر.فمن كان حاضراً فإنه يتم، ومن كان مسافراً فإنه يقصر، فجئنا ننظر إلى تأقيت السفر فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم ينقل المسافر عن كونه مسافراً إلى كونه مقيماً بالزمان، وذلك في حديث المهاجرين حينما رخص لهم أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام، فإنه لما رخص لهم أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام دل على أنهم في اليوم الرابع ينتقلون إلى حكم المقيم، وتوضيح ذلك أنهم تركوا مكة لله،
والعلماء يقولون: من هاجر من بلد لله -كأهل مكة حينما هاجروا من مكة إلى المدينة- لا يجوز له أن يرجع إليها ويقيم فيها؛ لأنه لما هاجر عنها تركها لله عز وجل، ولذلك نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا بمكة،
وقال: (لكن البائس سعد بن خولة) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، ثم قال: (اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم خائبين).
ووجه الدلالة أن المهاجرين لا يبقون في مكة، وإذا كانوا لا يبقون بمكة فترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الثلاثة الأيام دل على أنهم لو بقوا اليوم الرابع انتقلوا إلى حكم المقيم بمكة، وأكدوا هذا بأنه عليه الصلاة والسلام حينما قدم في حجته قدم لصبح رابعة، ثم انطلق في اليوم الثامن يوم التروية إلى منى، فدل هذا على أن أقصى ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام هذه المدة.أما ما ورد عنه في تبوك فإنه كان عليه الصلاة والسلام لا يعلم مدة إقامته، ونحن نتكلم على علم مدة الإقامة،
أي: إذا علم المسافر مدة إقامته، فلما رخص للمهاجرين هذا القدر تحددت المدة.أما إذا لم تعلم المدة كإنسان قدم مدينة لا يدري كم يمكث فيها لحاجة أو لغرض، فحينئذٍ يقصر الصلاة مدة جلوسه ولو جلس سنة كاملة، فإن أنساً رضي الله عنه مكث ستة أشهر -حينما حاصرهم الثلج في الفتوحات- يقصر الصلاة رضي الله عنه وأرضاه، وحملوا عليه حديث تبوك، فإن غزوة تبوك خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى بني الأصفر يريد قتالهم فأرسل العيون،
ومعلوم أنه إذا أرسلت عيون الجيش فربما بعد لحظة يأتي العين ويقول: إنهم على ماء كذا، كما هو معلوم، وربما يأتي بعد يوم، وربما يأتي بعد يومين أو بعد ثلاثة، فالأمر محتمل، ولا يدرى كم القدر،
فجماهير العلماء رحمة الله عليهم يقولون: إنه محمول على من جهل المدة وهذا واضح من ظاهر السنة؛ لأنه لما قدم إلى تبوك جهل مدة إقامته عليه الصلاة والسلام، وليس هناك نص واضح أنه نوى إقامة مدة معينة،
ولذلك قالوا: أرسل العيون على حسب الحال، فإن وجد حالاً يقتضي القتال بإخبار العيون تقدم، وإن لم يجد رجع عليه الصلاة والسلام، فمكث هذه المدة جاهلاً بالأمد،
فقسموا حالة المسافر إلى حالتين: الحالة الأولى: أن يعلم مدة إقامته.
الحالة الثانية: أن لا يعلم مدة إقامته.فإن لم يعلم مدة إقامته فإنه يقصر أبداً، ولو جلس سنة كاملة.وإن علم مدة إقامته فحينئذٍ إما أن تكون دون أربعة أيام، وإما أن تكون أربعة أيام فأكثر، فإن كانت دون أربعة أيام قصر، وإن كانت فوق الأربعة الأيام فإنه يتم صلاته ويأخذ حكم المقيم.
[المسافر الذي لا ينوي الإقامة ببلد]
قال: [أو ملاحاً معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد لزمه أن يتم].
الملاح: هو صاحب السفينة، أو قبطان السفينة، فالشخص الذي يعمل في نقل الناس بين المدن، ويدمن السفر والرحلة،
والذي تمضي عليه أيام متنقلاً بين المدن سواءٌ في بر أم بحر أم جو إذا لم يكن له مكان يستقر فيه ومعه أهله فإنهم قالوا: إنه يتم في كل موضع.فهذا الملاح في كل مكان مقيم، وهذا مذهب طائفة من العلماء.ومذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أن الملاح ومن في حكمه يأخذ حكم السفر على ظاهر حاله، وهو أقوى من جهة النصوص.
[حكم سالك أبعد الطريقين ليقصر الصلاة، ومن تذكر صلاة سفرية في سفر]
قال رحمه الله: [وإن كان له طريقان فسلك أبعدهما أو ذكر صلاة سفر في آخر قصر].قوله: [وإن كان له طريقان] مثاله: إنسان في قرية تبعد عن مكة ولها طريقان: طريق تبعد به مسافة القصر ثمانين كيلو متراً، وطريق تبعد به ستين كيلو متراً،
فإننا إذا جئنا ننظر إلى الطريق الذي فيه ثمانون كيلو متراً نقول: من سلك هذا الطريق فهو مسافر، ومن سلك الطريق الذي هو ستون كيلو متراً فليس بمسافر.
وبناء على ذلك يقولون: إنه يأخذ حكم المسافر بالمسيرة، فإن سلك الطريق الذي هو طريق سفر فمسافر؛ لأن ظاهر السنة يدل عليه،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن نهي المرأة أن تسافر بغير محرم: (أن تسافر مسيرة يوم وليلة)، وهذا سافر مسيرة اليوم والليلة، ولذلك تنطبق عليه السنة، ويترخص برخص المسافر.
قوله: [أو ذكر صلاة سفر في آخر] أي: في سفر آخر، كأن تكون سافرت من المدينة إلى جدة أو إلى مكة، فلما رجعت تذكرت وأنت مسافر أنك البارحة لم تصل صلاة العشاء وهي سفرية، فإنه حينئذٍ تصليها صلاة سفر، سواءٌ أكان السفر اعتبارياً مع اتحاد الجهة، كأن تكون ذهبت إلى جدة ورجعت إلى المدينة، فالسفر واحد، فحينئذٍ لو نسيتها في ذهابك وتذكرتها في إيابك فهي في حكم السفر الواحد.أم كان السفران مختلفين، كأن تكون سافرت من جدة إلى المدينة وأنت من أهل المدينة، فلما سافرت من جدة إلى المدينة نسيت صلاة العشاء وقد وجبت عليك في السفر، فجلست في المدينة إلى الضحى، ثم تحركت من المدينة في الضحى إلى القصيم، وفي طريقك للقصيم -بعد أن خرجت من المدينة- تذكرت أنك لم تصل صلاة العشاء البارحة، فإنك تصليها صلاة سفر،
أي: تصلي ركعتين؛ لأنه في هذه الحالة لا يختلف الحكم.
قال رحمه الله تعالى: [وإن حبس ولم ينو الإقامة، أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة قصر أبداً].
هذا ما ذكرناه، فالشخص الذي لا يدري كم يمكث في مكان إقامته فإنه يصلي قصراً ولو طالت مدة إقامته؛ لظاهر حديث تبوك، فقد جلس النبي صلى الله عليه وسلم سبع عشرة ليلة يقصر الصلاة بتبوك، ولا حرج عليه في هذه الحالة أن يقصر ولو طالت مدة جلوسه.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (132)
صـــــ(1) إلى صــ(27)
الأسئلة
[حكم القصر لمن يسافر ويعود في نفس اليوم]
q إذا كانت المدة دون أربعة أيام، فهل يدخل تحتها لو سافر ورجع في غضون ساعات وكان سفره أكثر من مسافة قصر، كما هو الحال في من يعمل خارج منطقته ويرجع إليها في نفس اليوم؟
a من كان عنده عمل، أو كانت عنده مزرعة تبعد عن موضعه مسافة القصر، فخرج إليها في سويعات، أو خرج إليها أثناء النهار وعاد في نفس اليوم فإنه يترخص في طريقه، وذلك على ظاهر السنة لما ذكرناه من النصوص، فلو حضرته صلاة الظهر وهو في طريقه بين المنطقتين فإنه يقصر، لكن لو أنه -مثلاً- كان في مكة ومزرعته بعسفان، فخرج من مكة إلى عسفان ففي الطريق يقصر، وإن حضرته الصلاة وهو في مزرعته فإنه يتم، فيعتبر مكياً إن كان في مكة، ويعتبر أيضاً من أهل عسفان إذا نزل في مزرعته ووصل إليها، فيترخص في الطريق، ولكن لا يترخص في موضعه الذي تأهل فيه، أو كانت له فيه تجارة، أو كان له ملك، كما أثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه حينما كان له مال بوادي الفرع، وكذلك زرعه بخيبر وزرعه بوادي ريم كما ذكرنا.والله تعالى أعلم.
[حكم الانتقال من نية الفرض إلى النافلة والعكس]
q إذا كان يجوز أن ينتقل المسافر من نية القصر إلى نية الإتمام، فهل يجوز للمصلي أن ينتقل من صلاة الفرض إلى النفل والعكس؟
a أما انتقاله من صلاة الفرض إلى النفل فلا حرج فيه، كأن يكون دخل وراء شخص يريد أن يصلي الظهر، ثم تذكر أنه صلى الظهر، فإنه يقلبها إلى نافلة ويجزيه ويصح منه ذلك.أما انتقاله من الأدنى إلى الأعلى فلا، كأن يحرم متنفلاً وراء إمام وهو يظن أنه قد صلى الظهر، ثم تذكر أنه لم يصل الظهر، فإنه لا ينتقل من الأدنى -وهو النافلة- إلى الأعلى -وهو الفريضة- وحينئذٍ يبقى مع هذا الإمام بنية النافلة ويسلم، ثم بعد انتهائه يقيم ويصلي صلاة الظهر، فإن كان الوقت ضيقاً بحيث لو سلم مع الإمام خرج الوقت فإنه يلزمه أن يقطع صلاته وراء الإمام ولا يشتغل بالنفل، وعليه أداء الفرض إذا ضاق الوقت، وحينئذٍ يقطع صلاته، ثم يكبر وينوي وراءه نية الفرض.والله تعالى أعلم.
[حكم تسليم المسبوق المسافر مع الإمام]
q يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فكيف نوفق بين هذا، وقول من قالوا: إن المسافر إن أدرك الركعتين الأخريين مع الإمام اكتفى بهما إن نوى القصر؟
a لا حرج في كونه يصلي ركعتين مع الإمام، فإنه إذا سلم مع الإمام فقد ائتم بالإمام، الإمام سلم وهو سلم، فيكون قد صلى وراء الإمام، فكبر وراءه، وقرأ الإمام فأنصت، وركع فركع، وسجد فسجد، ثم قرأ التحيات، وسلم الإمام فسلم معه، فوجبت عليه ركعتان فصلاهما وراء الإمام سواء بسواء، فأين المخالفة؟ ولذلك ليس في هذا النص معارضة بينة، بل هذا حجة على مشروعية أن يصلي وراء الإمام ركعتين.
[حكم القصر بين البلدين المتباعدين عند اتصال البنيان]
q إذا كان السفر مسافة قصر، وكان البنيان متصلاً طوال الطريق حتى يصل المسافر إلى المدينة الأخرى التي يريدها، فهل يقصر الصلاة.أم لا؟
aإذا اتصل البنيان بين موضعين، أو كان البنيان كثيراً بحيث كانت المسافة دون مسافة القصر فحينئذٍ لا يكون ذلك سفراً، فلو أن الذي بين مكة وعسفان انتشر فيه البنيان من جهة عسفان، أو انتشر فيه البنيان من جهة مكة حتى تقاصرت المسافة، وأصبح ما بينهما قدر خمسين كيلو متراً فإنه لا يعتبر سفراً؛ لأنه لا يعتبر مسافراً ظاهراً إلا بعد مجاوزته لآخر العمران من عسفان، كما أنه ليس بمسافر إلا بعد مجاوزته لآخر العمران من مكة، والذي يقطعه بينهما ليس مسيرة اليوم والليلة، فليس بمسافر من هذا الوجه، ولذلك تعتبر جدة في هذه الحالة دون مسافة القصر، وإن كانت في القديم مسافة قصر، وذلك لسعة العمران وامتداده، حتى تقاصرت المسافة عن مسافة القصر، أما لو خرج أهل جدة للحج فإنهم قاصدون لعرفة، فإنهم مسافرون ويشرع لهم أن يقصروا الصلاة؛ لأن التقاصر الذي حصل في المسافة قد ازداد ببلوغ عرفات، فإنه تزيد المسافة حتى تصل إلى قدر السفر، وحينئذٍ يترخصون.والله تعالى أعلم.
[حكم إجابة النداء للمسافر النازل]
q إذا كان سفري دون أربعة أيام، ولكنني أسمع النداء، فهل تلزمني صلاة الجماعة؟
المسافر إذا سمع النداء وهو نازل في المدينة التي هي غير مدينته اختلف العلماء رحمهم الله فيه: فقال جمع من أهل العلم: يجوز له أن يترك الجماعة، وأن يصلي إذا وجدت جماعة ثانية كرفقته في السفر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الرجلين حينما تركا صلاة الفجر في خيف منى، فدل على أنه يجوز للإنسان أن يترك الجماعة إذا كان مسافراً.وهذا هو أصح القولين وأولاهما بالصواب، فلا حرج على المسافر أن يترك الجماعة ولو سمع النداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجلين: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة)، ولم ينكر عليهما، بل أذن لهما أن يصليا في رحالهما.والله تعالى أعلم.
[كيفية صلاة المسافر إذا وصل قبل خروج الوقت]
q رجل كان على سفر، فلم يصل صلاة العشاء وهو مسافر، ودخل بلدته قبل خروج الوقت، فهل يصلي صلاة مسافر، أم يتم؟
a إذا كان الإنسان مسافراً وترك الصلاة الرباعية ودخل بلده، أو وصل إلى بلده قبل انتهاء وقتها فإنه يلزمه الإتمام، وذلك أنه لما أخر الصلاة خوطب بالصلاة في آخر وقتها، ولزمه الإتمام في قول جماهير العلماء رحمهم الله.والله تعالى أعلم.
[حكم صلاة المسافر خلف من يخالفه في النية]
q إذا دخل المسافر على جماعة مقيمين فيما بين الأذان والإقامة لصلاة العصر وهو لم يصل الظهر، فهل يصلي الظهر، أم ينتظر الجماعة ويصلي معهم بنية الظهر؟
a يجوز للإنسان أن يصلي الظهر وراء من يصلي العصر، والعصر وراء من يصلي الظهر، فيصلي وراءهم في هذه الحالة لكي يدرك فضل الجماعة، ولو اختلفت نيته مع نيتهم؛ فإن حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه يدل على مشروعية صلاة الفرض وراء من يصلي الفرض مع اختلاف النية، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه، بشرط اتحاد صورة الصلاتين، فالظهر وراء العصر والعصر وراء الظهر قد اتحدت فيهما صورة الصلاتين، فلا حرج عليه في هذه الحالة أن يوقع الصلاة وراء الصلاة، لكن في مسألة الجمع منع العلماء رحمهم الله أن يصلي وراء هؤلاء جماعة ثم أقيم للثانية دخل معهم بنية العصر بعد أن صلى الظهر مع الجماعة الأولى، ويرون أن الجمع صورته مخصوصة بما ورد، وهذه الصورة تخالف ما ورد، فلا يصح جمعه على هذا الوجه.والله تعالى أعلم.
[حكم الصلاة إلى غير القبلة]
q إذا صلى الإنسان في مكان لا يعرف اتجاه القبلة فيه، وبدأ في الصلاة، ثم مر به شخص يعرف القبلة فأدارها إلى اتجاهها، فما حكم الركعات التي صلاها في غير اتجاه القبلة؟
a هذه المسألة فيها تفصيل: فإن كان الإنسان في موضع يمكنه أن يرجع إلى أهله، أو يعتمد دلائل البلد الذي هو فيه على القبلة وقصر في ذلك فإنه يلزم بعاقبة تقصيره، فيلزمه أن يقطع صلاته وأن يستأنف الصلاة على الجهة الجديدة، بشرط أن تكون الجهة فرعيةً ينتقل بها من فرع إلى فرع، أما لو كان انحرافه قليلاً فإنه لا يؤثر إذا كانت الجهة هي الجهة.مثال ذلك: أن يصلي إلى الجنوب منحرفاً انحرافاً لا ينصرف به من الجنوب المحض إلى الجنوب الفرعي الذي هو الجنوب الغربي، فإذا لم ينصرف من الجنوب المحض إلى الجنوب الغربي فهذا الانحراف لا يؤثر.أما لو انحرف انحرافاً بيناً يخرجه من جهة إلى جهة فحينئذٍ إن قصر في السؤال والتحري فإن صلاته تعتبر باطلة، ويقطع الصلاة ويستأنف، وإن كان معذوراً حيث لم يجد من يدله، أو اجتهد بناء على عدم وجود من يدله فإنه حينئذٍ إذا حضر من هو أعلم، أو وجد من هو من أهل البلد أثناء الصلاة فإنه ينتقل إلى الأصل الذي هو العمل بقول هذا العالم، أو هذا الخبير، أو هذا الذي هو من أهل البلده ويتم بقية الصلاة ويعذر فيما مضى.والله تعالى أعلم.
[حكم دخول الجد لأم على الزوجة]
q هل الجد لأم يكون محرماً لزوجة حفيده مثل الجد لأب؟
aالجد لأم يعتبر محرماً لزوجة حفيده، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]، فإن ابن البنت ابن لأبيها، فابن البنت يعتبر ابناً للجد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحسن: (إن ابني هذا سيد)، فجعله ابنه، وقد قال الله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:23]، فلما سمى النبي صلى الله عليه وسلم ابن بنته الذي هو الحسن ابناً دل على أنه لا فرق بين الجد المتمحض بالذكور والجد المتمحض بالإناث والجد الذي جمع بين الذكور والإناث، فإنه في هذه الحالة تثبت له محرمية المصاهرة، فتصبح زوجة ابن بنته أو ابن ابنه محرماً له.والله تعالى أعلم.
[حكم استخدام حبوب منع الحمل]
q هل يجوز أن تأخذ زوجتي ما يمنع الحمل، وذلك لأجل الراحة من الحمل مدة معينة، وتُمنع بعد ذلك؟
a لقد ذهبت البركة في كل شيء، حتى النساء ذهبت منهن البركة، وقد كانت المرأة في القديم تضع أربعة عشر ولداً وخمسة عشر ولداً ويضع الله فيها البركة، ويكون من الخير ما الله به عليم، والمرأة الآن تجدها تحمل بمشقة وعناء، وتذهب تلتمس الرخص وتلتمس الأعذار، وتتكلف في ذلك حتى تحرم الأمة من الخير الذي يكون في النسل والذرية، فلولا الأبناء والأولاد لما خرجنا إلى هذه الدنيا، ولو كنا ولدنا في هذا العصر لكان كثير منا لم يوجد، بسبب تعاطي هذه الحبوب التي تمنع الحمل -نسأل الله السلامة والعافية-.فمن الأمور التي ينبغي تنبيه النساء عليها وتذكيرهن بالله عز وجل فيها أن الشرع يقصد تكثير النسل وتكثير سواد الأمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة)، وكأنه يقول: شرع لكم النكاح من أجل الولد، وتجد المرأة تتبع الرخص من هنا وهناك وتحتج بأنها تتعب، والله عز وجل شرّف الأم وأمر ببرها، وجعل لبرها ثلاثة أضعاف ما للأب، وقد قال تعالى عنها: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف:15]، فأخبر أن الحمل كره، وأخبر عن مريم ابنت عمران عليها السلام أنها لما جاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23]، فهكذا الحمل، فكونها تتألم من الحمل أو تجد المشقة ليس بعذر لها أن تقطعه، ولا يرخص فيه، وإنما يكون العذر إذا خيف عليها الهلاك، وهي حالات مخصوصة ومعينة يقررها الأطباء، أما أن المرأة تأتي فتمنع الزوج من نسله وذريته حتى يضع الله البركة في هذا النسل وهذه الذرية، وتحرمه من هذا الخير فإنه أمر من الصعوبة بمكان.وأصبح الرجال يسترسلون مع النساء، وأصبح النساء يتتبعن الرخص، وما يدري المرأة أن هذه الآلام وهذه المتاعب درجات لها في الجنة لا تبلغها بكثرة صلاة ولا صيام.وليس من عيب على امرأة جاهلة أن تفعل هذا، ولكن العيب أن تجد المرأة طالبة علم، أو تجدها من الصالحات القانتات الفاضلات وتجدها تتعاطى حبوب منع الحمل، فأين الإيمان بالله عز وجل وحب النسل والذرية، والصبر على النسل والذرية؟! وقد كان النساء يرعين الغنم في البادية على فطرتهن، فلا طبيب ولا مغيث ولا مجير إلا الله سبحانه وتعالى، وتجدها وهي ترعى بهائمها تضع ولدها، وليس معها أحد، ولا يعلم بحالها إلا الله سبحانه وتعالى، فتضع الولد ثم تنتقل به إلى بيتها، وهذا حدث لأكثر من امرأة، وكان مشهوراً معروفاً، لكن لما ضعفت عقائد الناس، وأصبح الإنسان ضعيف الإيمان بالله عز وجل -نسأل الله السلامة- محقت البركة حتى من النساء، فأصبحت المرأة تشتكي من القليل والكثير، فإذا كانت تشتكي بسبب الدراسة والتدريس فليس هذا هو الأصل، فالأصل أنها أم، والأصل أنها مربية، والأصل أنها أم للأطفال والأولاد، وأنها هي التي تقوم على هذا الأمر الذي شرّفها الله وكرمها به.فلذلك لا ينبغي للنساء أن يبحثن عن هذه الرخص، ولا ينبغي للمرأة أن تقول: إنها تريد أن ترتاح من الحمل.وما يدريك لعل الله عز وجل أن يجعل هذا الولد الذي تفرين منه هذا العام من الذرية الصالحة.وقد ذكروا عن امرأة أنها كانت تلد بنات، حتى ولدت تسع بنات متتابعات، فسئمت من البنات -وهذا الكلام قبل أكثر من مائة سنة، وهي قصة مشهورة عن أحد أهل الفضل في المدينة رحمة الله عليه، وكان من حفاظ كتاب الله عز وجل-، وكانت بمكة، فأخذت دواء من العطار تتناوله في السَحَر -أي: في الصباح الباكر- قبل الأكل وقبل الشراب لأجل أن تسقط هذا الحمل العاشر؛ لأنها لا تريد البنات، وهي لا تحمل إلا بنات، فأرادت أن تسقط هذا الجنين، فلما أرادت أن تستعمل هذا الدواء سمعت صائحاً في الفجر يصيح ويقول: يا أرحم الراحمين.فاقشعر بدنها، وتعلقت بالله سبحانه وتعالى ليضع الله لها الخير في هذا الولد، ويريد الله سبحانه وتعالى أن يكون ذكراً، وأن يكون من حفاظ كتاب الله، والله لقد أدركته -وكان من أصدقاء الوالد- من أفضل الناس ديانة واستقامة وطاعة لله عز وجل، فلو أنها تعاطت هذا الدواء فكم كانت ستحرم من الخير؟ وكم كانت ستحرم من الدعوات الصالحات؟ ولذلك ينبغي على المرأة أن تكون قوية الإيمان بالله عز وجل، وأن تتوكل على الله، وأن يكون عندها حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وفي الحديث الصحيح: (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، ورؤي سلمان الفارسي بعد موته -كما روى أبو نعيم في الحلية- فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: ما وجدت أفضل بعد الإيمان من حسن الظن بالله عز وجل.والمرأة إذا أحسنت الظن بالله وقالت: أصبر وأتوكل على الله عز وجل.فتح الله لها أبواب رحمته، وفي الحديث الصحيح: (من يصبر يصبره الله)، فتحس أن هذا الحمل كأنه يمر في ساعة، وكأنه طيف من الخيال والأحلام، ثم إذا بها يبارك لها الله عز وجل في هذه الذرية وهذا النسل، فلعله أن يذكرها بدعوة صالحة، وما يدريها لعل هذا النسل الذي تريد أن تمتنع منه يكون من أبر أولادها بها بعد مشيبها وكبرها، وما يدريها لعل الله أن يسخر لها بعد موتها بالدعوات الصالحات.نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (133)
صـــــ(1) إلى صــ(17)
- فصل: صلاة المسافر [3]
الجمع بين الصلاتين مما أجازته الشريعة في أحوال خاصة تخفيفا وتيسيرا على المكلفين، سواء بالتقديم أو التأخير، ولها أعذار موجبة للترخص بها كالسفر والمطر، ولكن يراعى فيها شروطها المعتبرة، ومفسداتها المبطلة للجمع، ونحوها من الأحكام.
الجمع بين الصلاتين
[حكم الجمع بين الصلاتين]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله:
[فصل: يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين في وقت إحداهما].
هذا الفصل يتعلق بمسألة الجمع بين الصلاتين، والجمع بين الصلاتين رخصة رخص الله بها لعباده، تقع في الحضر وتقع في السفر، فقد يجمع الإنسان بين الصلاتين في سفره، وقد يجمع بين الصلاتين في حال حضره.
والجمع بين الصلاتين فيه خلاف مشهور بين العلماء: فمن أهل العلم من قال: يجوز الجمع مطلقا.وهذا مذهب الشافعية والحنابلة من حيث الجملة.
ومنهم من يقول: لا يجوز الجمع مطلقا إلا في حالة الجمع في النسك، وذلك بتقديم الظهر مع العصر بعرفة، وتأخير المغرب مع العشاء بمزدلفة.وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.
والقول الثالث: أن الجمع يجوز للمسافر إذا جد به السير.وهو مذهب الإمام مالك رحمة الله عليه، ويختاره بعض المحققين كـ ابن القيم وغيره رحمة الله على الجميع،
فيقولون: تجمع إذا جد بك السير، فلو كنت تريد أن تسافر من مكة إلى المدينة، وخرجت من مكة قبل أن يؤذن الظهر، وأذن الظهر وأنت في الطريق تريد أن تكسب الوقت فلم تنزل للصلاة، حيث تريد أن تدرك حاجة بالمدينة،
فحينئذ يقولون: يجوز لك أن تؤخر الظهر والعصر إلى آخر وقت العصر؛ لأنه جد بك السير وأنت محتاج إلى الوقت فتجمع.وهكذا إذا كان جمع تقديم، فلو خرجت من مكة ونزلت بقرية بين مكة والمدينة، ثم أردت أن تمشي بعد دخول وقت الظهر وتريد أن تكسب الوقت لوصول المدينة، فحينئذ تجمع في هذه القرية بين الظهر والعصر جمع تقديم،
فهذا هو الذي يعبر عنه العلماء بقولهم: إذا جد به السر.
أي: إذا احتاج إلى الجمع لضرورة وحاجة، وهي كسب الوقت،
فحينئذ يقولون: يجوز الجمع.أما إذا لم تكن هناك حاجة أن تجمع وليس هناك جد سير فإنك تبقى على الأصل، ولا يجوز لك الجمع.فهذا بالنسبة لمذهب من يقول بالتفصيل.هناك مذاهب أخرى ضعيفة تفصل في الجمع بين الصلاتين تفصيلات لا دليل لها من النصوص.وهذه أشهر الأقوال في مسألة الجمع بين الصلاتين.
وهناك قول يقول: يجوز جمع التأخير ولا يجوز جمع التقديم.فيرون أنه يرخص للإنسان أن يجمع جمع تأخير، ولا يرون له أن يجمع جمع التقديم.والذي يظهر -والعلم عند الله- مشروعية الجمع، سواء أكان جمع تقديم أم جمع تأخير، والسنة في ذلك صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جمع -بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام- بين الظهر والعصر،
وبين العشاءين: المغرب والعشاء، جمع جمع تقديم وجمع جمع تأخير.أما الحديث في مسلم فإنه أطلق الجمع،
وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين).وأما بالنسبة لتفصيل الجمع فحديث معاذ ظاهر في ذلك، وقد حسنه غير واحد من الأئمة كـ الترمذي وغيره، فإنه قال: (كان إذا ارتحل -أي: عليه الصلاة والسلام- قبل أن تزول الشمس أخر الظهر فصلاها مع العصر، وإذا ارتحل قبل أن تغرب الشمس أخر المغرب إلى وقت العشاء فصلاهما معا، وكان إذا ارتحل بعد أن تزول الشمس قدم العصر مع الظهر فصلاهما معا، وإذا ارتحل بعد أن تغيب الشمس قدم العشاء إلى وقت المغرب فصلاهما معا)، وهذا يدل على مشروعية جمع التقديم وعلى مشروعية جمع التأخير.
وهذا القول الذي يقول بمشروعية الجمع مذهب الجمهور، وذكرنا أن هذا الحديث أصله في صحيح مسلم واضح،
فيبقى الإشكال عندنا في القول الذي يقول: لا يجمع إلا إذا جد به السير،
خاصة وأن الرواية عن معاذ: (كان إذا جد به السير)، وهي متكلم فيها،
قالوا: ثم إن هذا يقويه النظر، فإن الأصل أن الصلاة تصلى في وقتها، والجمع خارج عن الأصل، فلا يجوز إلا عند وجود الحاجة،
فيقولون: إذا جد به السير جمع.ويجاب عن هذا القول بحديث تبوك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين ولم يجد به سير؛ لأنه كان في خيمته وخبائه عليه الصلاة والسلام، وهذا يؤكد أن الجمع لا يشترط فيه جد السير،
وبناء على ذلك يترجح قول من قال من الأئمة رحمة الله عليهم: إن الجمع بين الصلاتين مشروع، سواء أكان يحتاجه لجد سير أم لغيره، وسواء أقدم أم أخر، فلا حرج عليه في ذلك كله.
وقوله: [يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين].
الظهران: هما الظهر والعصر،
كما يقال: العمران والقمران.فكل ذلك من باب التغليب، والعشاءان: هما المغرب والعشاء.
وقوله: [يجوز] يدل على أنه ليس بواجب.
[الجمع في عرفة ومزدلفة والحكمة منه]
اختلف في الجمع في عرفة ومزدلفة، فقال جمع من العلماء والسلف رحمة الله عليهم بوجوبه ولزومه، خاصة وأنه مرتبط بالنسك.وقد شرع الله الجمع تخفيفا عن المسافر، وشرعه أيضا للعبادة كما هو الحال في الحج، فإن الإنسان يوم عرفة أذن له أن يجمع بين الظهر والعصر حتى يكون الوقت للذكر والعبادة أطول ويتفرغ لذكر الله سبحانه وتعالى، فإنه إذا صلى الظهر والعصر جمع تقديم كان الوقت لدعائه وذكره لله عز وجل أطول، وكان حظه من الخير أكثر، وهذا يدل على أنه ينبغي على الإنسان إذا انتهى من صلاة الظهر والعصر يوم عرفة أن يقبل على الله عز وجل، وأن يكثر من الدعاء والذكر لله سبحانه وتعالى، على خلاف ما يفعله بعض الجهلة الذين لا يعرفون مقدار هذا المنسك العظيم وهو الوقوف بعرفة، فإنك تجد بعضهم ينام، ولربما يجلس بعضهم لفضول أحاديث الدنيا.فانظر رحمك الله إلى عبادة يقدمها الله عن وقتها، ويشرع لعباده أن يقدموها عن وقتها المعتبر، كل ذلك تعظيما للذكر والدعاء في هذا اليوم؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحج عرفة)، وأشرف شيء وأفضل شيء في يوم عرفة هي السويعات التي قبل مغيب الشمس ما بين انتهاء الصلاتين إلى مغيب الشمس، هذا أفضل ما يكون في يوم عرفة،
حتى إن بعض العلماء يقول: أرجى الناس لفضل الله عز وجل من أعطي القوة على الذكر من بعد الصلاة إلى مغيب الشمس، والمحروم من حرم،
ولذلك يقولون: إن الله لما شرع لعباده تقديم العصر عن وقتها وجب على العباد أن يتنبهوا لشرف هذا الموقف.فهذا الجمع يقصد به المعونة على الذكر لشرف الموقف الذي يباهي الله عز وجل به ملائكته، مع أن الصلاة من أفضل الطاعات وأفضل الأعمال بعد الإيمان بالله،
قال صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، وهذا كله يؤكد أن هذا الجمع قصد منه أن يتفرغ لذكر الله عز وجل، ولذلك يجمع أهل مكة، ولو كانوا مع الإمام فإنهم يجمعون، مع أنهم مقيمون وفي حكم المقيم،
وبناء على ذلك قالوا: إنه ينبغي أن يكون هذا الجمع يقصد به الاستعانة في هذا الوقت على ذكر الله عز وجل والتفرغ للدعاء.وأما الجمع ليلة المزدلفة فإنه يجمع بمجرد وصوله تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليرتاح بعد عناء الموقف، ووراءه المنسك الذي يكون بعد الفجر، وهذا الموقف أيضا له فضله وله شرفه، فهو مشعر وله مكانته،
حتى قال بعض السلف: شهدت هذا المكان أكثر من ستين عاما أسأل الله العظيم أن لا يجعله آخر العهد فردني إليه، وإني أستحيي أن أسأله هذه السنة، فمات من عامه، وكان من أئمة الحديث، فما رد الله دعاءه في هذا الموقف وهو موقف المشعر،
فيقولون: إنه شرع أن يجمع بين المغرب والعشاء حتى يتقوى بنومه، فإذا استيقظ استطاع أن يقف للدعاء بنفس مرتاحة وصدر منشرح، فيقوى على الذكر والطاعة.ولذلك كان الجمعان لقصد النسك، فلهما ارتباط بالنسك، ويؤكد هذا أنه لما قدم عليه الصلاة والسلام منى ما جمع بين الصلاتين، ولو كان الجمع للسفر، أو لشيء آخر منفك عن الحج لجمع في منى عليه الصلاة والسلام، لكن كونه عليه الصلاة والسلام يخص هذين الموضعين بالجمع يدل على أن الجمع قصد به الاستعانة على الذكر والدعاء في هذين المشعرين العظيمين.
فلما قال: [يجوز] دل على أنه ليس بواجب،
أي: يباح لك.وهذه رخصة، فإن أخذت بها فلا حرج، وإن صليت كل صلاة في وقتها فإن ذلك هو الأصل ولا عتبى ولا حرج عليك، لكن لو أن الإنسان وجد المشقة والحرج في الصلاة لوقتها وإذا جمع وجد التيسير والراحة فإنهم قالوا: إنه ينبغي له أن يستعين برخص الله عز وجل،
كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عليكم برخص الله التي رخص لكم).فمن السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين الصلاتين، خاصة إذا وجد ما يوجب الجمع.
فلما قال لنا رحمه الله: [يجوز الجمع]، فهمنا من ذلك أن رخصة الجمع ليست بواجبة ولا بلازمة، وأن المكلف مأذون له بذلك الفعل، فلا هو ملزم به ولا هو واجب عليه، وكذلك ليست بمحرمة ولا مكروهة، فالإذن بها إذن إباحة، بمعنى أنه يجوز له أن يفعل الجمع وأن يتركه،
ولكن قال العلماء: إذا كانت هناك حاجة فالأفضل أن يجمع؛ لما فيه من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، فكونه يجمع تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل، وكذلك إذا قصد إحياء السنة، كأن يكون بين قوم يجهلون أحكام الجمع، فيحيي هذه السنة بينهم حتى يتعلموا، أو يكون معه طلاب علم وهو ليس بحاجة للجمع في طريقه ولكنه يجمع حتى يعلموا أحكام الجمع، فذلك مستحب له ومندوب.[في وقت إحداهما في سفر قصر].
وقوله: [في وقت إحداهما] تضمن نوعين من أنواع الجمع: النوع الأول: ما يوصف بكونه جمع تقديم، وذلك بأن توقع الصلاة الثانية في وقت الصلاة الأولى، فتصلي العصر في وقت الظهر، وتصلي العشاء في وقت المغرب، فهذا هو جمع التقديم.
النوع الثاني: جمع التأخير، بأن تكون الصلاة الأولى في وقت الصلاة الثانية، فتؤخر الظهر وتصليها مع العصر، أو تؤخر المغرب وتصليها مع العشاء.وليعلم أن الأصل في الصلوات أن تصلى كل صلاة في وقتها؛
لأن الله يقول: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء:103] أي: محددا.وقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالصلاة في مواقيتها،
وقال للأعرابي لما صلى له في اليومين: (ما بين هذين وقت)،
أي: ألزمه وقتا للصلاة، فعندنا شيء يسمى: أصل، وشيء يسمى: رخصة، فالشيء الذي هو الأصل أن تصلى كل صلاة في وقتها، فالظهر يصلى في وقته، والعصر يصلى في وقته، والمغرب يصلى في وقته، والعشاء يصلى في وقته، ولكن لما جاء الإذن من الشرع بفعل الجمع كان رخصة من هذا الوجه.
أعذار الترخيص في الجمع بين الصلاتين
[السفر]
قال رحمه الله تعالى: [يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشائين في وقت إحداهما في سفر قصر] أي: محل الرخصة أن يكون الإنسان مسافرا سفر قصر، ولذلك لا يجمع الصحيح في غير السفر على ما اختاره المصنف رحمه الله وهو قول الجماهير، فالجمع من حيث الأصل يكون في السفر، وأما جمع المرض وجمع الخوف فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.ولذلك يجمع على الصورة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث معاذ، وحديث أنس بن مالك، وحديث عبد الله بن عمر، وكلها في جمعه عليه الصلاة والسلام في السفر.
وسفر القصر ينقسم إلى أقسام: فإما أن يكون سفرا واجبا، وإما أن يكون سفرا مندوبا، وإما أن يكون سفرا مباحا، فأنت إذا سافرت لحج فريضة فهذا سفر واجب تجمع فيه الصلاة، ويجوز لك أن تجمع قولا واحدا عند من يقول بالجمع، وإذا سافرت إلى سفر مندوب وسفر طاعة وقربة مندوب إليها كعمرة النافلة، فإن هذا سفر مندوب، وتجمع فيه وجها واحدا لأهل العلم، ولكن إذا سافرت سفرا مباحا كالتجارة وزيارة بعض أحبابك وإخوانك دون أن تكون بقصد القربة، فحينئذ اختلف العلماء: فجمهور من يقول بجواز الجمع يقول: لا فرق عندي بين أن يكون السفر سفر طاعة أو سفرا مباحا.
وهناك من يقول من السلف: إن الجمع يختص بالسفر الذي هو سفر القربة والطاعة، أما لو سافر للتجارة، أو سافر لنزهة وسياحة، أو لصيد فإنه لا يجمع بين الصلاتين، كما يختاره الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس رحمة الله على الجميع.
والصحيح أن كل سفر تقصر فيه الصلاة سواء أكان واجبا أم مندوبا أم مباحا، حل للإنسان أن يجمع الصلاة فيه.
[المرض]
[وبين العشاءين لمطر يبل الثياب أو لوحل].
(وبين العشاءين لمطر يبل الثياب) هذا السبب الثالث الذي يبيح الجمع: المطر،
وللعلماء في المطر قولان مشهوران: القول الأول: أنه إذا وقع المطر جاز للإنسان أن يجمع بين الصلاتين، وهذا هو مذهب جمهور السلف رحمة الله عليهم، فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وكذلك أبان بن عثمان فعله بالمدينة، وفعله عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وطائفة من أصحاب الحديث،
وقال به أجلاء التابعين: كـ سعيد بن المسيب ومحمد بن القاسم بن أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد وكذلك أبو سلمة ابن عبد الرحمن ونحوهم من الأجلاء قالوا: إن الجمع في المطر رخصة، ولا حرج إذا نزل المطر أن يجمع بين الصلاتين على تفصيل عندهم، رحمة الله على الجميع.
القول الثاني يقول: إنه لا يجمع في المطر، وهذا القول هو مذهب أهل الرأي، فالقول الأول للجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث،
والقول الثاني للحنفية: لا يجمع في المطر، وهو قول إبراهيم النخعي وكذلك ابن سيرين، رحمة الله على الجميع.أصح هذين القولين هو القول بمشروعية الجمع في المطر،
وذلك لحديث ابن عباس في الصحيح أنه قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في غير مطر ولا سفر)،
فلما قال: (مطر ولا سفر)، دل على أن المطر يوجب الترخيص بفعل الجمع كما أن السفر يوجب ذلك، وعلى هذا لو نزل المطر فمتى يجمع؟
الذين قالوا بمشروعية أن يجمع الإنسان في المطر لهم قولان: القول الأول يقول: يجوز لك أن تجمع الظهر مع العصر، وتجمع المغرب مع العشاء، وهذا مذهب الشافعية وطائفة من أصحاب الإمام مالك، رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني يقول: إنك لا تجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء كما درج عليه المصنف فقال رحمه الله: (ولمطر بين العشاءين) أي: تجمع بين المغرب والعشاء فقط، أما الظهر والعصر فلا تجمع بينهما للمطر؛ والسبب في هذا القول الذي يقول بالتخصيص وهو مذهب الحنابلة والمالكية رحمة الله عليهم أنهم يرون أن النصوص التي وردت بالجمع إنما وردت في المغرب والعشاء،
والظاهرية استدلون بإطلاق ابن عباس: (من غير مطر ولا سفر)،
قالوا: هذا فيه إطلاق، فيدل على مشروعية الجمع، سواء كان بين الظهر والعصر أو بين المغرب والعشاء.والقول بالتخصيص بالمغرب والعشاء من القوة بمكان،
ووجه ذلك: أنه إذا كان المطر في الليل فإن الناس يصيبهم الضرر، والغالب أن المطر يصحب بالريح، فلا يأمن عند تبلل ثيابه أن يأتيه ضرر في جسده، ثم لا يأمن إذا أصاب الأرض الوحل والطين أن تزل قدمه، ويستضر الناس إذا كان المطر موجودا في ثيابهم وكذلك إذا كان يصيبهم في مشيهم وذهابهم إلى المسجد،
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في الرحال)، حيث أذن إذا كان هناك المطر أن ينادي المنادي الصلاة في الرحال، فرخص في تركها،
فكذلك يرخص إذا وجد المطر في الجمع بين الصلاتين أعني: المغرب والعشاء.
ومذهب التخصيص يستدل بحديث أبي النجاد رحمه الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء)، وليس هناك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر،
فقالوا: فتبقى الظهر والعصر على الأصل ويرخص في المغرب والعشاء؛ لأن الحاجة والمشقة في الليل أكثر، وهذا القول أحوط القولين وأولاهما -إن شاء الله- بالصواب: أنه لا يجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء.ثم إذا جمع بين المغرب والعشاء في المطر فالمحفوظ من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم أنهم كانوا يؤخرون المغرب قليلا،
كما جاء عن أبان بن عثمان حينما أم وصلى عبد الله بن عمر معه ولم ينكر عليه: كان ينتظر إلى اختلاط الشفق -حمرة الشفق- بوجه الليل، أي: ابتداء الظلمة،
قالوا: هذا أرفق بالناس.فالجمع بين العشاءين يكون جمع تقديم، هذا في الأصل، وإلا فيجوز أن يجمع جمع تأخير،
لكن قالوا: يجمع جمع تقديم؛ لأن الناس -خاصة في القديم- إذا مضوا إلى المسجد في صلاة المغرب، وجمع جمع تأخير فإن هذا سيضر بهم؛ لأنه سيتركهم ينتظرون إلى صلاة العشاء ويجحف بهم، فيفوت المعنى الذي من أجله شرع الجمع بين الصلاتين،
ولذلك يقولون: إنه لا يؤخر ولكن يمضي ويصلي صلاة المغرب والعشاء في وقت المغرب،
أي: يكون الجمع في وقت الأولى.واستثنى العلماء ما لو كان جمع التأخير أرفق،
فإذا كان جمع التأخير أرفق مثل: لو أن إنسانا خرج في نزهة مع جماعة أو مع أصحابه أو رفقائه وأصابهم المطر على وجه المغرب ثم مضوا إلى بيوتهم، فإنهم لو نزلوا شق عليهم ذلك ولا يستطيعون أن يجمعوا، فاختاروا أن يؤخروا المغرب والعشاء إلى وقت العشاء فلا حرج؛ لأن جمع التأخير في حق هؤلاء أرفق، لكن جماعة المسجد جمع التقديم في حقهم أرفق، ولذلك يجمع جمع تقديم بين صلاة المغرب والعشاء؛ للأسباب التي ذكرناها من وجود الحرج والمشقة للمصلين.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الخوف)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (134)
صـــــ(1) إلى صــ(17)
[المطر]
قال رحمه الله تعالى: [وبين العشاءين لمطر يبل الثياب أو لوحل].هذا السبب الثالث الذي يبيح الجمع، وهو المطر،
وللعلماء في المطر قولان مشهوران: القول الأول: أنه إذا وقع المطر جاز للإنسان أن يجمع بين الصلاتين.وهذا هو مذهب جمهور السلف رحمة الله عليهم، وفعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر، وكذلك أبان بن عثمان فعله بالمدينة، وفعله عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وطائفة من أصحاب الحديث، وقال به أجلاء التابعين كـ سعيد بن المسيب، ومحمد بن القاسم بن أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد، وكذلك أبو سلمة ابن عبد الرحمن ونحوهم من الأجلاء،
قالوا: إن الجمع في المطر رخصة، ولا حرج إذا نزل المطر أن يجمع بين الصلاتين، على تفصيل عندهم رحمة الله على الجميع.
القول الثاني يقول: إنه لا يجمع في المطر.وهذا القول هو مذهب أهل الرأي، فالقول الأول للجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث، والقول الثاني للحنفية، وهو قول إبراهيم النخعي، وكذلك ابن سيرين رحمة الله على الجميع.وأصح هذين القولين هو القول بمشروعية الجمع في المطر،
وذلك لحديث ابن عباس في الصحيح أنه قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في غير مطر ولا سفر)،
فلما قال: (مطر ولا سفر) دل على أن المطر يوجب الترخيص بفعل الجمع، كما أن السفر يوجب ذلك.
والذين قالوا بمشروعية أن يجمع الإنسان في المطر لهم قولان في الصلوات التي يجمع بينها: القول الأول يقول: يجوز لك أن تجمع الظهر مع العصر، وتجمع المغرب مع العشاء، وهذا مذهب الشافعية وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني يقول: إنك لا تجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء،
كما درج عليه المصنف فقال رحمه الله: [وبين العشاءين لمطر.] أي: تجمع بين المغرب والعشاء فقط، أما الظهر والعصر فلا تجمع بينهما للمطر.والسبب في هذا القول الذي يقول بالتخصيص -وهو مذهب الحنابلة والمالكية رحمة الله عليهم- أنهم يرون أن النصوص التي وردت بالجمع إنما وردت في المغرب والعشاء،
والظاهرية استدلوا بإطلاق ابن عباس: (من غير مطر ولا سفر)،
قالوا: هذا فيه إطلاق، فيدل على مشروعية الجمع، سواء أكان بين الظهر والعصر أم بين المغرب والعشاء.والقول بالتخصيص بالمغرب والعشاء من القوة بمكان، ووجه ذلك أنه إذا كان المطر في الليل فإن الناس يصيبهم الضرر، والغالب أن المطر يصحب بالريح، فلا يأمن عند تبلل ثيابه أن يأتيه ضرر في جسده، ثم لا يأمن إذا أصاب الأرض الوحل والطين أن تزل قدمه، ويستضر الناس إذا كان المطر في ثيابهم، وكذلك إذا كان يصيبهم في مشيهم وذهابهم إلى المسجد،
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في الرحال)،
حيث أذن إذا كان هناك المطر أن ينادي المنادي: (الصلاة في الرحال)، فرخص في تركها، فكذلك يرخص إذا وجد المطر في الجمع بين الصلاتين، أعني المغرب والعشاء.
ومذهب التخصيص يستدل بحديث أبي النجاد رحمه الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء)، وليس هناك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر،
فقالوا: تبقى الظهر والعصر على الأصل، ويرخص في المغرب والعشاء؛ لأن الحاجة والمشقة في الليل أكثر، وهذا القول أحوط القولين وأولاهما -إن شاء الله- بالصواب، فلا يجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء.ثم إذا جمع بين المغرب والعشاء في المطر فالمحفوظ من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم أنهم كانوا يؤخرون المغرب قليلا، كما جاء عن أبان بن عثمان -حينما أم وصلى عبد الله بن عمر معه ولم ينكر عليه- أنه كان ينتظر إلى اختلاط الشفق -حمرة الشفق- بوجه الليل،
أي: ابتداء الظلمة.
قالوا: هذا أرفق بالناس.فالجمع بين العشاءين يكون جمع تقديم في الأصل، وإلا فيجوز أن يجمع جمع تأخير،
لكن قالوا: يجمع جمع تقديم؛ لأن الناس -خاصة في القديم- إذا مضوا إلى المسجد في صلاة المغرب وجمع جمع تأخير فإن هذا سيضر بهم؛ لأنه سيتركهم ينتظرون إلى صلاة العشاء ويجحف بهم، فيفوت المعنى الذي من أجله شرع الجمع بين الصلاتين،
ولذلك يقولون: إنه لا يؤخر، ولكن يمضي ويصلي صلاة المغرب والعشاء في وقت المغرب،
أي: يكون الجمع في وقت الأولى.واستثنى العلماء ما لو كان جمع التأخير أرفق، كما لو أن إنسانا خرج في نزهة مع جماعة أو مع أصحابه أو رفقائه، وأصابهم المطر وقت المغرب، ثم مضوا إلى بيوتهم، فإنهم لو نزلوا شق عليهم ذلك ولا يستطيعون أن يجمعوا، فإن اختاروا أن يؤخروا المغرب والعشاء إلى وقت العشاء فلا حرج؛ لأن جمع التأخير في حق هؤلاء أرفق، لكن جماعة المسجد جمع التقديم في حقهم أرفق، ولذلك يجمع جمع تقديم بين صلاة المغرب والعشاء للأسباب التي ذكرناها من وجود الحرج والمشقة على المصلين.
[الوحل والريح الشديدة]
قال رحمه الله تعالى: [أو لوحل وريح شديدة باردة].
قوله: [أو لوحل] أي: أن ينقطع المطر ثم تبقى الأرض فيها الزلق والوحل،
قالوا: فيجوز أن يجمع، وهذا في الحقيقة فيه خلاف، وإن كان قوى غير واحد من الأئمة أن الوحل لا يوجب الجمع، وهو من القوة بمكان، لعدم ورود النص بالترخيص في مثله، وإنما رخص في المطر، وشرط المطر الذي يبيح للناس أن يجمعوا بين المغرب والعشاء أن يكون مطرا يبل الثياب، أما لو كان مطرا يسيرا أو خفيفا فإنه لا يوجب الترخيص في الجمع.
وفي حكم المطر الثلج، ثم يفصل في الثلج مثلما يفصل في المطر، فإن كان الثلج يسيرا وخفيفا لا يشق على الناس أن يصلوا كل صلاة في وقتها فلا جمع، وإن كان الثلج كثيرا ويؤذي الناس فإنهم يجمعون بين الصلاتين كالحال في المطر.
وقوله: [وريح شديدة باردة].هذا قول بالقياس، وهو قول ضعيف.والصحيح أن الريح الشديدة لا توجب الجمع بين الصلاتين، إعمالا للأصول من النصوص الواردة في الكتاب والسنة بإلزام المكلف بإيقاع كل صلاة في وقتها، واستثني ما استثني من الجمع لورود النص، فلا يقوى القياس ولا الإلحاق.
قال رحمه الله تعالى: [ولو صلى في بيته أو مسجد طريقه تحت ساباط].
إذا كان العلماء رحمة الله عليهم يقولون: إن الناس يرخص لهم أن يجمعوا بين المغرب والعشاء لمكان المطر، فهذه الرخص التي تقع في المطر وفي السفر وفي المرض نظر الشرع فيها إلى غالب أحوال الناس، فأعطى الرخصة بغض النظر عن أفراد لا تتوفر فيهم معاني الرخصة، وتوضيح ذلك أن الأصل في السفر أن فيه مشقة، وأن فيه عناء وتعبا ونصبا،
فلو فرض أن إنسانا سافر ولم يجد عناء ولا مشقة ولا نصبا فلا نقول: يبقى على الأصل ولا يفطر ويبقى على موجب الإمساك والصيام، بل نقول: إن الرخصة هنا عامة من الشرع ولا يلتفت فيها إلى الأفراد،
كأن الشرع قال: الغالب في السفر أن يكون فيه الضرر، فلا عبرة بالنادر؛ لأن الحكم للغالب، كذلك هنا
-إذا قلت: إن المطر يوجب الترخيص- لأن الناس إذا مضوا إلى المسجد تضرروا، فلو فرضنا أن المسجد طريقه مظلل، أو كان الإنسان قريبا من المسجد، أو بيوت الناس كلها تطل على المسجد، فليس هناك وحل، وليس هناك ضرر ببلة الثياب،
فهل نقول: لا يجمعون؟
قال بعض العلماء: العبرة عندي بوجود موجب الرخصة،
أي: الوصف العام وهو وجود المطر، بغض النظر عن كونه يتضرر أو لا يتضرر، وبغض النظر عن كون طريقه تحت الساباط الذي هو المظلات التي هي مثل ما يكون تحت البيوت، أو الذي يكون ملصقا بالبيوت يقي الناس الشمس ويقيهم المطر،
فيقول: العبرة عندي بوجود المطر، بغض النظر عن كونهم تضرروا أو لم يتضرروا، كالحال الآن، حيث يمكنه أن يركب سيارته ويمضي إلى المسجد فلا يبتل له ثوب ولا يتضرر،
قالوا: لا نلتفت إلى هذا؛ لأن الحكم للغالب والنادر لا حكم له.وهذا أصل في الرخص، فيقولون: ننظر إلى الأصل، وكون بعض الأفراد يتخلف فيهم المعنى الذي هو موجب الرخصة لا نلتفت إليهم،
ولذلك لو اعترض عليك معترض وقال: كيف تقولون بالفطر والإنسان قد يسافر في طائرة وقد يسافر في سيارة وهو مستريح؟
تقول له: أذن الله بالفطر في السفر؛ لأن الغالب فيه وجود المشقة، وكون النادر في بعض العصور وفي بعض الأزمنة لا يلتفت إليه؛ لأن الشريعة لا تلتفت إلى عصر دون عصر، ولكن إذا اختلفت العصور فإنك تنظر إلى الغالب، وبناء على ذلك فالغالب أنه إذا نزل المطر تضرر الناس، فكون بعض الناس يكون طريقهم إلى المسجد لا مضرة فيه ولا مشقة لا يلتفت إليه، ويبقى على الأصل من موجب الرخصة.
مسائل في الجمع بين الصلاتين
[الأفضل من جمع التأخير أو التقديم]
قال رحمه الله تعالى: [والأفضل فعل الأرفق به من تأخير أو تقديم].الأفضل للإنسان إذا أراد أن يجمع لسفر أو مرض أو مطر أن ينظر إلى الأرفق، فإن كان الأرفق به أن يقدم قدم، وإن كان الأرفق به أن يؤخر أخر؛ لأنها رخصة وسعة، وقد استحب بعض العلماء أن يجمع جمع التأخير، قالوا: لأن جمع التأخير لا خلاف فيه عند من يقول بمشروعية الجمع، ولكن جمع التقديم فيه خلاف، وجمع التأخير تقع فيه الصلاة الثانية وقد دخل وقتها؛ لأنها تقع بعد حكم الشرع بفعلها، ولكن جمع التقديم تكون فيه الصلاة الثانية في غير وقتها،
ولذلك قالوا: الأفضل أن يراعي جمع التأخير.فهذا مذهب بعض العلماء، وهو تفضيل جمع التأخير على جمع التقديم.والصحيح أن الإنسان ينظر إلى الأرفق؛ لأن الله وسع على عباده بالجمع، فليس لنا أن نحد حدا معينا،
وإنما نقول: ما دام أن الله وسع عليك فإن كان الأرفق بك أن تجمع جمع تقديم فافعل، وإن كان الأرفق بك أن تجمع جمع تأخير فافعل، والدليل على ذلك السنة، فقد روي أنس رضي الله عنه -كما في الصحيح-،
وكذلك مثله حديث معاذ في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس -يعني: قبل أن تزول- أخر الظهر إلى وقت العصر فصلاهما معا، وإذا ارتحل قبل أن تغرب الشمس أخر المغرب إلى وقت العشاء فصلاهما معا)،
فقوله: (كان إذا ارتحل قبل أن تزول الشمس) يلاحظ فيه أنه إذا ركب قبل أن تزول الشمس وقبل أن يدخل وقت الأولى فالأرفق أن يؤخر،
وقوله كذلك: (وكان إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس قدم العصر إلى وقت الظهر فصلاهما معا)، فدل على أن الأفضل للمكلف أن ينظر إلى الأرفق، فإن كان الأرفق به أن ينزل ويصلي في أول الوقت نزل وصلى، وإن كان الأرفق أن يؤخر أخر.فلو أنك خرجت من مكة تريد المدينة وأذن للظهر وأنت تريد حاجة وقت العصر، فإنك إن نزلت وصليت ربما تأخرت عن حاجتك، فإذا شئت نزلت وجمعت جمع التقديم ولا حرج، لكن لكون التأخير أفضل لك حتى تدرك الوقت وتحصل جد السير فحينئذ تجمع جمع تأخير ولا حرج، والعكس بالعكس أيضا، فلو أن إنسانا أذن عليه الأذان بعد أن خرج من مكة ويريد أن يقف لزاد ونحو ذلك،
فقال: ما دمت أني واقف فالأفضل أن أصلي الصلاتين فصلاهما حتى يكسب الوقت فلا حرج، فلا يقيد الناس ولا يلزمون بتقديم ولا بتأخير.
[النية في الجمع بين الصلاتين]
قال رحمه الله تعالى: [فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند إحرامها].
قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، فإذا أردت أن تجمع فيشترط أن تنوي الجمع في وقت أولاهما، فتكون النية أن تجمع الثانية إلى الأولى، وعلى هذا فإذا نويت كان لك الجمع،
وأما إذا لم تنو فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإنما لكل امرئ ما نوى)، فمن نوى الجمع كان له، ومن لم ينو لم يكن له.
وقالت طائفة من العلماء: النية ليست بشرط للجمع، ويجوز له أن يجمع ولو لم ينو.
[مبطلات الجمع بين الصلاتين]
قال رحمه الله تعالى: [ولا يفرق بينهما إلا بمقدار إقامة ووضوء خفيف ويبطل براتبة بينهما].
قوله: [ولا يفرق بينهما] يعني: لا يفرق بين الظهر والعصر، ولا بين المغرب والعشاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الفاصل بين الصلاتين قليلا، فلما صلى عليه الصلاة والسلام المغرب والعشاء ليلة النحر بمزدلفة تركهم بقدر ما يحط الإنسان رحله،
ولذلك قالوا: بقدر ما يتوضأ الإنسان ويفرغ من وضوئه.وهذا هو الهدي،
يقولون: لأن الجمع بين الصلاتين جعل الصلاتين قد صارتا بمثابة الصلاة الواحدة، فلا تدخل بينهما راتبة، ولا تدخل بينهما فاصلا مؤثرا، كمن ينام نوما يفصل بين الصلاتين به، أو كشغل يخرج به عن الصلاة،
قالوا: فإذا وقع الفاصل فإنه لا جمع، وحينئذ يصلي الثانية في وقتها ولا يجمع جمع التقديم.
قوله: [ويبطل براتبة بينهما].ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن بين المغرب والعشاء،
فقال: (ولم يسبح على إثر واحدة منهما) كما في الصحيحين، فدل على أنه لا يصلي الراتبة بينهما.
قال رحمه الله تعالى: [وأن يكون العذر موجودا عند افتتاحهما وسلام الأولى].هذا في المطر، فلو أن الإنسان أراد أن يجمع في المطر بين المغرب والعشاء، فيشترط عند تكبيرة الإحرام أن يكون المطر موجودا، فيكبر للمغرب والمطر موجود، ويسلم من المغرب والمطر موجود، وحينئذ يقيم ويصلي العشاء ويكبر ويكون المطر موجودا، فلو أنه كبر للمغرب والمطر موجود، ثم بعد ذلك انقطع المطر، فسلم والمطر منقطع، فحينئذ لا يجمع؛ لأن موجب الرخصة غير موجود، وينتظر إلى دخول وقت الثانية، لكن لو أنه كبر ثم انقطع المطر بعد تكبيره حتى كان في الركعة الثالثة، فنزل المطر فسلم والمطر ينزل، فأقام وكبر للعشاء والمطر لا زال نازلا، ثم بعد ذلك انقطع قبل سلامه من العشاء صح فعله وأجزأه.
وقال بعض العلماء: لا يصح إلا إذا سلم من العشاء والمطر موجود.
وهذا على مسألة: (هل العبرة بالابتداء، أو العبرة بالانتهاء) كمسألة من تيمم ثم رأى الماء أثناء الصلاة، فإن قلنا: العبرة بإحرامه مضت له الرخصة ولا يقطع، وإن قلنا: العبرة بسلامه -وهو أحوط ورجحناه في التيمم- فإنه حينئذ لا يعتد بجمعه.
[اشتراط النية قبل الجمع بين الصلاتين وبقاء العذر إلى دخول وقت الثانية]
قال رحمه الله تعالى: [وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأولى إن لم يضق عن فعلها واستمر العذر إلى دخول وقت الثانية].إذا كان الإنسان يريد أن يؤخر الظهر إلى وقت العصر، أو المغرب إلى وقت العشاء فإنه ينوي عند تأخيره أن يجمع، أما إذا لم ينو فإنه حينئذ تخرج عليه الصلاة الأولى، فيكون كأنه ترك الصلاة الأولى، فتعتبر صلاة قضاء لا صلاة جمع،
والدليل على ما ذكرناه قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)؛
لأن من ترك الصلاة الأولى حتى دخل وقت الصلاة الثانية لا يخلو من حالتين:
الأولى: أن يكون معذورا لنسيان أو نوم ونحو وذلك.
الثانية: أن يكون غير معذور.فلما لم ينو الجمع دخل في حكم غير المعذور، وبقيت صلاته قضاء لا جمعا.
وقوله: [واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية] بمعنى أنه يستمر المطر إلى دخول وقت الثانية، وهكذا السفر، فلو أن جماعة خرجوا لتدريس ونحو ذلك مسافة مائة كيلو، ثم رجعوا بعد انتهاء التدريس وأرادوا أن يجمعوا بين الظهر والعصر -لأنهم إذا دخلوا مكة سيكونون في عناء السفر ومشقة السفر، وقد يصعب عليهم أن يصلوا بعد التعب أو يكون عندهم من الخشوع ما يستحضرون به الصلاة
- فنقول: فيه تفصيل: فإن كان دخولهم إلى مكة بعد دخول وقت الثانية فحينئذ يصح جمعهم؛ لأن العذر استمر إلى دخول وقت الثانية وهم مسافرون، فترخصوا برخصة لوجود موجبها، وأما لو دخلوا قبل أذان العصر فحينئذ لا يعتد بجمعهم، وعليهم أن يصلوا ثم بعد ذلك يرتاحون،
فلو شق عليهم أن ينتظروا الجماعة نقول: امضوا إلى بيوتكم وصلوا؛ لأن الإنسان إذا شق عليه حضور الجماعة وانتظار ثلث الساعة أو نصفها الذي بين الأذان والإقامة بحيث يشق عليه فحينئذ يجوز له أن يقيم وأن يصلي العصر، ويكون ممن رخص له في الجماعة، كما تقدم معنا في أعذار ترك الجماعة.
الأسئلة
[الجمع الصوري بين الصلاتين]
q هل قال بعض العلماء رحمهم الله بأن حديث ابن عباس محمول على الجمع الصوري؟ وما هو الجمع الصوري وحكمه؟
aحديث ابن عباس حمل على الجمع الصوري عند الجمهور، وهناك من روى الحديث عن ابن عباس فقال: أراد أن يؤخر الظهر إلى قرب وقت العصر فيصلي الظهر فيدخل وقت العصر ويصليها.وهذا أصح الأقوال.
والحقيقة أن حديث ابن عباس نفسه في صحيح مسلم يؤكد هذا، فـ ابن عباس كان أميرا على الكوفة، ثم خطب الناس في يوم في الظهر، فكانت خطبته طويلة؛ لأن الخطبة في مصالح المسلمين فيها توجيه ويصعب قطعها، فما زال يخطب، فقام له أعرابي وقال: الصلاة.فسكت عنه ابن عباس واستمر في خطبته، فقام له مرة ثانية وقال: الصلاة.فسكت عنه، فقام المرة الثالثة وقال: الصلاة، فقال له: (أتعلمنا بالصلاة لا أم لك؟! جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير مطر ولا سفر)، فقالوا: إن ابن عباس أخر الظهر إلى آخره، فلما أقام وصلى الظهر دخل وقت العصر فأقام للعصر وصلاها، مع أن الأصل يقتضي أن يصلي الظهر في أول وقتها، فهذا وجه الرفق، وهذا وجه دفع الحرج؛ لأن الناس بدل أن يخرجوا للظهر ويرجعوا إلى بيوتهم، ثم يرجعوا إلى العصر ويرجعوا مرة ثانية إلى بيوتهم سهل عليهم بأن يصلوا الصلاتين بخروج واحد ورجوع واحد، وهذا هو وجه قوله: (أراد أن لا يحرج أمته)؛ لأن الأصل يقتضي أن تصلى الصلاة لوقتها، وهذا في الحقيقة هو أقوى الأقوال وأولاها بالصواب، خاصة وأن من روى عن ابن عباس فسره بذلك وقال: أراه ذلك.وأيضا عندنا قاعدة، وهذه القاعدة تدل عليها السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال للصحابة: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) قالت طائفة: النبي صلى الله عليه وسلم قصد التعجيل، فنبقى على الأصل، فنصلي العصر في وقتها.وقالت طائفة: نبقى على ظاهر اللفظ.فلما علم بالطائفتين أخبر أن الذين صلوا في الوقت أصابوا السنة؛ لأنهم نظروا إلى أن الأصل في الصلاة أن تصلى في وقتها، ونظروا إلى أن الحديث: (لا تصلو العصر إلا في بني قريظة) محتمل بين أن يكون للاستعجال وأن يكون على ظاهره، فردوا الأمر إلى أصله فقال: (أصابت السنة)، فالرجوع إلى الأصل هو إصابة للسنة.فكان عندنا الأصل أن الله تعالى يقول: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء:103].ولو قلنا بالجمع بدون حاجة فمعنى ذلك أن الظهر والعصر صار وقتهما واحدا، فحينما تجمع لعذر وغير عذر تصير الظهر والعصر بمثابة الصلاة الواحدة، وبناء على ذلك سنلغي الأصل بناء على هذا الحديث، فتلغى نصوص الكتاب، وتلغى أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة، لكن حينما تبقي أحاديث المواقيت على دلالتها وآيات المواقيت على دلالتها وتقول: الجمع في حديث ابن عباس جمع صوري، ومعنى: (أن لا يحرج أمته) على ظاهره تكون جامعا بين النصوص، والجمع بين النصوص أولى من العمل ببعضها وترك الآخر، والنفس تميل إلى هذا.يقول العلماء: لو أن شيخا أو عالما عنده أمر مهم، أو كان الناس عندهم موضوع مهم لا يستطيعون أن يقطعوه، وهم يتشاورون في أمره فلهم أن يؤخروا الصلاة، فيجلسون يتحدثون حتى يقضوا هذا الأمر وينتهوا منه ويفرغوا منه، ثم يقيمون للصلاة الأولى التي هي الظهر، ثم بعد ذلك يقيمون للعصر ويصلونها، وهكذا المغرب والعشاء، وكل ذلك تيسير من الله عز وجل ولطف بعباده.
[العبرة بنية الجمع حال الائتمام]
q إذا دخل الرجل مع إمام يريد أن يجمع ولم يعلم إلا بعد انتهاء الصلاة الأولى، فهل يحق له الجمع ونية الإمام نية النفل، أم لا يحق له ذلك؟
a النية معتبرة بالمأموم، فكل مأموم على حده، فإن نوى صح جمعه عند من يقول باشتراط النية، وإن لم ينو لم يصح جمعه.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الخوف)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (135)
صـــــ(1) إلى صــ(11)
فصل: صلاة الخوف
من رحمة الله تعالى بعباده وتيسيره عليهم أنه لم يكلفهم بأداء الصلاة كما هي إذا كان في حال خوف وفزع، بل شرع لهم صلاة الخوف المتضمنة للتيسير والتخفيف، ولها عدة صفات كلها جائزة وصحيحة، وسواء كان الخوف خوف قتال، أو خوفا من غيره.
أحكام صلاة الخوف
[سبب مشروعيتها]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وصلاة الخوف صحت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفات كلها جائزة].
صلاة الخوف: هي صلاة القتال، وهذه الصلاة شرعها الله في كتابه، وكذلك شرعت بهدي رسوله عليه الصلاة والسلام، وقال بها جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع، حتى ذكر الإمام ابن العربي رحمه الله أن لها ثماني عشرة صفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي اشتهر في المرويات -كما أشار إليه الإمام أحمد - سبع صفات وردت عن النبي صلى لله عليه وسلم.
والسبب في صلاة الخوف: أنه لما التقى النبي صلى الله عليه وسلم بالمشركين وكان المشركون يومها بعسفان -كما في حديث أبي عياش الزرقي -، وأصل الحديث في الصحيح عن جابر رضي الله عنه- وكان على المشركين يومها خالد بن الوليد، فصلى المسلمون صلاة الظهر،
فلم ينتبه المشركون لغفلة المسلمين فقالوا: لقد أصبنا منهم غرة لو أنا قتلناهم،
فقال بعضهم لبعض: انتظروا فإن لهم صلاة هي أحب إليهم من أهليهم وأولادهم.وهذا يدل على ما كان لصلاة العصر من مكانة في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، فأوحى الله إلى نبيه، وشرعت صلاة الخوف.
[صفات صلاة الخوف]
صلاة الخوف على صفات، لكن سنذكر منها المشروع: الصفة الأولى: أن يقسم الإمام الجيش إلى طائفتين،
فيكون الجيش صفين: الصف الأول يلي الإمام، والثاني من بعده، ويصلون وهم حاملون للسلاح، فتقام الصلاة وكل واحد معه سلاحه الذي لا يزعجه في صلاته، كالسلاح الذي يدفع به العدو ولا يمنعه من الركوع والسجود،
ولا يمنعه من أداء أركان الصلوات: وقد اختلف العلماء في حكم حملة سلاحه،
فقال بعضهم: يجب عليهم أن يأخذوا السلاح لظاهر قوله سبحانه وتعالى: {وخذوا حذركم} [النساء:102]، فأمر سبحانه وتعالى بأخذ الحذر بأخذ السلاح،
وقال تعالى: {وليأخذوا أسلحتهم} [النساء:102]، فكونه يأمر بأخذ السلاح يدل على الوجوب؛ لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب، وهذا مذهب الظاهرية وطائفة، وهو أقوى القولين، أنهم يأخذون السلاح.فعند انقسام الجيش إلى صفين تقام الصلاة فيصلي الإمام الركعة الأولى، فإذا ركع الإمام ركع معه الصف الأول وبقي الصف الثاني واقفا، ثم بعد أن ينتهي من الركوع يرفع معه الصف الأول ثم يسجد السجدتين الأوليين من الركعة الأولى والصف الثاني قائم، وهذا وجه في هذه الصفة.
الوجه الثاني وهو الأقوى: أنه يركع الركعة الأولى ويرفع، فإذا رفع الصف الأول ركع الصف الثاني، وينتظر الإمام بعد الركوع بقدر ما يرفع الصف الثاني، ثم بعد ذلك يهوي للسجود الصف الأول ويبقى الصف الثاني في وجه العدو، فإذا سجد الصف الأول مع الإمام السجدتين قام الإمام بهم، فإذا استتم قائما نزل الصف الثاني وسجد السجدتين، ثم بعد انتهائه من السجود يقوم فيتقدم الصف الثاني إلى مكان الصف الأول، ويرجع الصف الأول إلى مكان الصف الثاني، فإذا رجع ركع الصف الثاني معه في نفس الركعة الثانية، وبقي الصف الأول الذي كان أولا وأصبح ثانيا واقفا في وجه العدو، وهذا من باب العدل، فإذا صلى بهم يعدل بين الطائفتين، فلا يفضل إحداهما على الأخرى، فإذا ركع ورفع ركعت الطائفة التي تليها ثم رفعت، ثم ينزل للسجود وهم وقوف، فإذا سجد السجدتين وجلس للتشهد نزلت الطائفة الثانية وسجدت؛ لأنه في التشهد يكون الصف الأول منتبها للعدو، فتسجد الطائفة الثانية ويتشهد بالجميع ويسلم، فهذه الصفة الأولى، وهي التي وردت في حديث عسفان؛ لأنه في عسفان كان المشركون جهة القبلة، فهذه الصفة في حالة أن يكون العدو في جهة القبلة.وهذه الصفة الأولى جاءت في حديث أبي عياش الزرقي، وأصلها في الصحيح.
الصفة الثانية: وردت في حديث ابن عمر في الصحيحين، وهي مما اتفق عليه البخاري ومسلم، والظاهر -كما يقول جمع من العلماء-: أنها إذا كان العدو في غير القبلة، فلو كان العدو في الظهر والقبلة في الأمام فإنه يقسمهم طائفتين، فيأمر طائفة أن تحرس في وجه العدو، ويأخذ طائفة ويصلي بهم ركعة، فإذا انتهى من الركعة وسجد السجدة الثانية وقام للركعة الثانية انصرفت هذه الطائفة ولم تسلم وكأنها في غير صلاة، فتنصرف وتقف في وجه العدو وهي في صلاة، ويطول الإمام في القراءة حتى تدركه الطائفة الثانية، فتأتي هذه الطائفة الثانية وتكبر تكبيرة الإحرام وتصف معه ويصلي بهم الركعة الأولى، فإذا انتهى الإمام من هذه الركعة وسجد السجدتين فإنها الثانية بالنسبة له، فيجلس للتشهد فتقوم هذه الطائفة الثانية وتنصرف إلى العدو مثل ما انصرفت الطائفة الأولى، ثم يتشهد الإمام لوحده ويسلم، فترجع الطائفة الأولى وتصلي الركعة الثانية قضاء، وتكون صلاتهم فرادى، فكل يصلي لوحده ركعة فيتم صلاته، ثم يتشهدون ويسلمون، ثم يرجعون إلى وجه العدو، فتأتي الطائفة الثانية وتصلي أيضا ركعة كما صلت هذه وينصرفون إلى وجه العدو، فهذه هي الصفة الثانية التي اشتمل عليها حديث عبد الله بن عمر.
الصفة الثالثة: أن يقسمهم الإمام قسمين، فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين تامتين ويسلم ويسلمون معه، ثم يقيم مرة ثانية ويصلي بالطائفة الثانية ركعتين ويسلم بهم، وهذه واضحة لا إشكال فيها، وغاية ما فيها أن الإمام يصلي الصلاة الثانية نافلة ومن وراءه مفترضون.الصفة الرابعة: هي مثل الصفة الثالثة، إلا أن الإمام لا يسلم، فيصلي ويتشهد التشهد الأول ويترك الطائفة الأولى تتم التشهد وتسلم وتنصرف وهو في التشهد،
ثم للعلماء وجهان في هذه الصفة: قال بعض العلماء: يثبت في التشهد حتى يحس بالطائفة الثانية، فإذا أحس بالطائفة الثانية يقوم ويكبر، ولا يكبر إلا بعد حضورها.فهذا وجه.
الوجه الثاني: تبقى معه الطائفة الأولى، فإذا قال: (الله أكبر) قائما للثالثة سلموا وقام هو وقرأ الفاتحة وأطال في ذكر الله عز وجل حتى تأتي الطائفة الثانية، فهذا بالنسبة إذا جمع وصارت له أربع ركعات.
الصفة الخامسة: هي صفة حديث ابن عباس، وكانت في غزوة ذي قرد، وحديث ابن عباس مشكل عند العلماء، لكن أجاب عنه جمع من الأئمة، فحديث ابن عباس مثل حديث ابن عمر، وهو أنه يصلى بالطائفة الأولى ركعة فتنصرف إلى العدو وتجزيها عن الركعة الثانية، ويصلي بالطائفة الثانية ركعة وتجزيها عن صلاتها كلها، ولكن هذا الوجه ضعيف على الصحيح.
الصفة الأخيرة: أن يصلي بسهم ركعة ثم يتمون بأنفسهم، ثم يصلي الركعة الثانية بالطائفة الثانية وتتم لنفسها فيتشهد بها ويسلم.فهذه ست صفات في صلاة الخوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الست الصفات قد تصل إلى اثنتي عشرة صفة، فنفس هذه الست تجعلها في صلاة السفر والحضر، ففي السفر يصلي ركعة، وفي الحضر يصلي ركعتين فتصير اثنتي عشرة، صفة، ثم إذا أدخلت صفات المغرب فيها قد تصل إلى ثماني عشرة صورة، فهذا بالنسبة لصلاة الخوف، وهذا أشهر ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة أدائها.
[حكم صلاة الخوف]صلاة الخوف شرعها الله عز وجل في كتابه المبين،
فقال سبحانه وتعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} [النساء:102]، وهذا يدل على سماحة الإسلام، وعلى حكمة التشريع، وعلى كمال علم الله سبحانه وتعالى ولطفه ورحمته وحلمه بعباده سبحانه وتعالى، فلو أن المسلم كان مطالبا أثناء القتال بفعل الصلاة كما هي لحصل في ذلك من الحرج ما الله به عليم.وهذه الصلاة مشروعة في قول جماهير السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم،
وإنما خالف أبو يوسف رحمه الله وقال: صلاة الخوف لا تشرع إلا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم؛
لأن الله يقول: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة)) [النساء:102]،
قال: فهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه قد تطرأ أمور من التشريع في الصلاة ففيه معنى ليس في غيره.
والصحيح أنها تشرع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زمانه لقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب:21]، وكما أن موجب الترخيص موجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فهو كذلك موجود في غير زمانه عليه الصلاة والسلام، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة، وأجمع الجماهير على مشروعيتها، وأنه يشرع فعلها على الصفات التي ذكرنا.
تفصيل صفات صلاة الخوف حضرا وسفراصلاة الخوف إما أن يكون العدو في وقتها في وجه القبلة، وإما أن يكون في غير القبلة، وإما أن تكون الصلاة سفرية، وإما أن تكون حضرية، وإما أن تكون الصلاة تقصر، وإما أن تكون الصلاة لا تقصر.فإذا كان العدو في وجه القبلة فإن القول بأنه يقسم الجيش إلى قسمين أو إلى طائفتين أولى وأحرى، فيقسم الإمام الجيش إلى طائفتين، فيصلي بالطائفة الأولى وينزل بهم ويركع ويسجد، ثم بعد ذلك يرتفع، فتنزل الطائفة الثانية وتصلي وتتم على الصفة الأولى التي ذكرناها، وإن شاء في حال وقوفه في وجه العدو -إن رأى أنه الأرفق بهم- صلى لوحده ركعة كاملة، ويثبت عند قيامه للركعة الثانية، فتقوم الطائفة الأولى وتتم لنفسها، ثم بعد ذلك تتشهد وتسلم، وتأتي الطائفة الثانية وتصلي الركعة التي بعدها.
وإذا قلنا: إنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ثم يصلي بالطائفة الثانية ركعتين فلا إشكال إذا كانوا في جهة القبلة، وإذا صلى بهم وسلم من الركعتين الأوليين وصلى بعد ذلك الركعتين الأخريين نافلة فلا إشكال.فكونه يصلي بالطائفتين معا، فتسجد معه الطائفة الأولى دون الطائفة الثانية، أو كونه يصلي بهم ركعتين ركعتين سواء أسلم أم لم يسلم، فكل هذه الصور لا إشكال فيها، وهذا إذا كان العدو في جهة القبلة، وهي أيسر الأحوال.وإذا كان العدو في جهة القبلة والصلاة حضرية،
فإنهم قالوا: يفعل مثلما يفعل في السفرية، فإن شاء جعلها رباعية مجزأة، وإن شاء جزأها ركعتين ركعتين، لكن الأولى أن يجزأها على صفة صلاة السفر تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي بهم الركعة الأولى، ثم يركع بالصف الأول ويسجد، ثم يرفع فيسجد الصف الثاني، ثم بعد انتهائه من الركعة الأولى يدخل الصف الثاني مكان الصف الأول ويرجع الصف الأول إلى مكان الصف الثاني، فيتم بهم الركعة الثانية، ويكون قد عدل بين الطائفتين فيتشهد، فينزل الصف الثاني ويسجد ويتشهد معه، ثم يقوم بهم إلى الركعة الثالثة فيتقدم الصف المتأخر مكان المتقدم كالحال في صلاة القصر، ويتم ذلك بنفس الترتيب، لكن بدل أن يفعلها ركعتين يفعلها أربع ركعات على نفس التقسيم ونفس الصورة.وإذا كانت الصلاة حضرية وقلنا إنه لا يسلم،
فإنهم قالوا: يبقى على صفة الصلاة التي يسلم فيها من أربع ركعات، فيصلي بالطائفة الأولى أربع ركعات، ثم يصلي بالطائفة الثانية أربع ركعات، إعمالا للأصل الموجود في صفة صلاة السفر.وهكذا الحال بالنسبة لما لو كان العدو في غير جهة القبلة، فأقوى الأقوال إذا كان العدو في غير جهة القبلة أنه يقسم الجيش إلى طائفتين، فيبدأ بالطائفة الأولى ويصلي ركعة كاملة، فإذا قام للركعة الثانية وهم وراءه نووا مفارقته كأنهم فرادى، ويتمون لأنفسهم وينصرفون جهة العدو، ويطول الإمام في قراءة الركعة الثانية، فتنصرف الطائفة الأولى بعد انتهاء الركعة التي كانت عليها بمثابة الإتمام إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية فتدرك الإمام قد طول في الركعة الثانية وتدخل معه، فإذا انتهى الإمام وركع ورفع وسجد السجدتين يجلس للتشهد، فإذا جلس للتشهد فإن هذه الطائفة تقوم وتتم لنفسها، ويطول الإمام في التشهد، ثم تدركه في التشهد فيتشهد بهم ويسلم، فهذا بالنسبة لما إذا كان العدو في غير وجه القبلة.
[كيفية الصلاة عند هجوم العدو]
المصلون صلاة الخوف في أثناء الصلاة لا يخلون من حالتين:
الحالة الأولى: أن تمضي الأمور على سلم وارتفاق، أي: لا يوجد ما يسوء أو يضر.
الحالة الثانية: أن يهجم العدو، فإن هجم العدو عليهم وهم في الصلاة فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون هجومه يمكن دفعه بالطائفة التي وقفت بإزائه، كأن يكون العدد كافيا لصد العدو، فيبقى الأولون في صلاتهم ولا يشتغلون بالعدو.وإما أن يخشى أو يغلب على الظن أنهم لا يقدرون على العدو فحينئذ ينصرفون من صلاتهم ويقاتلونه.وهم في صلاتهم، فيصلون رجالا وركبانا وهم يضربون بالسلاح،
لقوله تعالى: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} [البقرة:239]، فيكبر ويقرأ الفاتحة وهو يضرب العدو، سواء أكان إلى غير القبلة أم إلى القبلة، فهذه رخصة من الله عز وجل وسماحة، وهذا يدل على عظمة هذا الدين، وعلى عظمة أمر الصلاة، فإنهم في حالة الخوف والخشية على الأنفس ومع ذلك فإن الله عظم هذه الشعيرة وأمر أن تؤدى، ولذلك عظم السلف الصالح رحمهم الله الصلاة، وكانوا يستشهدون على تعظيم الله لها بأن الإنسان لا يعذر في تركها حتى في حال المسايفة والمقاتلة.
[كيفية صلاة الخوف في العصر الحديث]
إذا عرفنا صفة صلاة الخوف في القديم، فكيف تصلى صلاة الخوف في العصر الحديث؟ أما صلاة الخوف في العصر الحديث فإن العصر الحديث لا يمكن معه في بعض الأحوال أن يفارق الإنسان موضعه، بل إنه لو كان على بعض الأجهزة وغفل طرفة عين فربما يدخل العدو من هذه الثغرة، فالأمر جد خطير، وقد يكون في آلة لا يستطيع أن يفارقها، وقد يكون في خندق لو رفع رأسه يقتل.فكل إنسان في ثغره وفي موضعه إذا لم يمكنه أن يتحرك بقيام ولا بركوع ولا بسجود، ولم يمكنه أن يؤدي الصلاة على صفتها،
فإنه يصلي على أيسر ما يكون، وعلى أقل ما يستطيع من طاقة، وحينئذ لو كان في خندقه يضرب العدو فإنه يكبر ويركع ويسجد ولو بالذكر، فإذا كان على سلاحه في وجه العدو كأن يكون مراقبا، بحيث لو غفل لحظة ربما هجم العدو، كما هو موجود في بعض الآلات التي ترصد العدو، فلو كان يراقب بهذه الآلة ولا يمكن أن يفارقها في وقت الصلاة، إذ ربما أنه لو غفل عنها لحظة تدمرت أمة كما هو موجود الآن، فيرخص لمثل هذا أن يصلي ولو كانت عينه على الجهاز، ولو كان يضرب، ولو كان يحرك أصابعه، فيذكر الله عز وجل،
فيقول: الله أكبر، ويقرأ: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:2]، ويقرأ ذكره وورده على ما هو عليه، ويصلي بالانتقال، كالحال في العاجز عن القيام والركوع والسجود، وذلك متى ما كان الوقت لا يسمح، ولا يمكن لغيره أن يكون في موضعه.وهكذا لو كان داخل الآلات كالدبابات ونحوها فإنه يصلي بداخلها، سواء أكان على قبلة أم على غير القبلة، خاصة في حال الهجوم،
أو حال دفع الهجوم، فإنها -كما يسميها العلماء- حالة المسايفة، وفي حالة المسايفة قرر العلماء رحمهم الله في القديم أنه يصلي على حالته وهو يضرب بالسيف، فلا فرق بين أن يضرب بسيفه، أو برشاشه، أو بمدفعه، أو بقنابله، كل ذلك سائغ؛ لأن المراد المحافظة على النفس والنكاية بالعدو، فيصلي على حالته بشرط أن لا يمكنه إلا ذلك، وبشرط أن يكون وقت الصلاة لا يسع إلا لهذا، أما لو أمكنه أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها ثم يصلي على صفتها فيلزمه ذلك ويجب عليه.
[حمل السلاح في صلاة الخوف]
[ويستحب أن يحمل معه في الصلاة من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله كسيف ونحوه].مذهب الجمهور أن حمل السلاح للطائفة الأولى والثانية مستحب.والصحيح والأقوى هو مذهب الظاهرية وطائفة من أهل الحديث ويقول به جمع من الفقهاء، وهو أن حمل السلاح واجب؛ لأن الغالب أن العدو يتربص، والله سبحانه وتعالى نبه على هذا، ولما ورد الأمر بأخذ السلاح وحمل السلاح فالأصل في هذا الأمر أن يبقى على ظاهره حتى يدل الدليل على صرفه عن هذا الظاهر، ولذلك لا بد من حمل السلاح، وحمل أقل ما يدفع به العدو من رشاش، أو نحو ذلك من الأسلحة التي يمكن أن يدفع بها العدو لو هجم عليهم، وهكذا لو كان الموضع الذي يصلي فيه يوضع فيه من الآلات والأجهزة ما يمكن به الدفع عند مباغتة العدو، فبعض الأجهزة الآن لا يمكن حملها على جسد الإنسان، كالرشاش الكبير أو نحو ذلك، فيمكن أن يصلي وهو بجواره، بحيث لو دهم العدو يدفعه،
أما أن يتركه في موضعه ويتباعد عنه فإن هذا يخالف نص القرآن لقوله تعالى: {وخذوا حذركم} [النساء:102]، فليس من الحذر أن يترك الإنسان سلاحه ومع غلبة الظن بأن العدو يتربص،
والله سبحانه وتعالى يقول: {وخذوا حذركم} [النساء:102]، فليس من الحذر ذلك،
فكونه يأمر بحمل السلاح ثم يقول: {وخذوا حذركم} [النساء:102]، يدل دلالة واضحة على أن الأمر بحمل السلاح على الوجوب، وهذا من القوة بمكان.
[حكم صلاة الخوف في القتال المحرم، وحكمها لطائفة من الجيش]
ذكر المصنف صلاة الخوف، لكن هذه الصلاة لا تشرع إلا بشرط أن يكون القتال مشروعا، أما لو كان القتال محرما فلا، فإن الرخص لا تستباح بالمحرمات، فلو كان القتال قتال بغي، كأن يخرج إنسان باغ على المسلمين، أو معتد على المسلمين، أو مفارق جماعة المسلمين -والعياذ بالله-، فمثله لا تشرع في حقه صلاة الخوف.ثم إن صلاة الخوف لا يشترط فيها أن يصليها كل الجيش، فلو أن طائفة صلت صحت صلاتهم، ولو أن طائفة من المسلمين نزلوا في موضع وطلبهم عدو فإنهم في حكم الجيش،
فإذا كانوا ستة أنفار فإنه يقسمهم إلى قسمين: ثلاثة في وجه العدو وثلاثة يصلون معه، ولو كانوا أربعة فإنه يقسمهم، فتكون اثنان في وجه العدو واثنان معه، وقيل: لا يكون المصلون أقل من أربعة،
لقوله تعالى: {فلتقم طائفة منهم معك} [النساء:102]، ولكن قال بعض العلماء: إن قوله تعالى: {فلتقم طائفة منهم معك} [النساء:102] خرج مخرج الغالب في قتال العدو، وهو أنه لا يكون عددهم أقل من الطائفة، وهي من الثلاثة إلى العشرة.
ولذلك قالوا: أقل ما تنقسم عليه الصفوف ثلاثة.
وعلى هذا فكأنهم يقولون: صلاة الخوف لا تشرع لأقل من ستة؛ لأنه لا يمكن قسمهم إلى صفين، ولكن إذا كانوا ثلاثة ثلاثة فيمكن أن يكونوا طائفة مع الإمام.والصحيح أنه يمكن أن تكون صلاة الخوف بناء على وجود الوصف الغالب، والقاعدة أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه.فذكر الطائفة هنا خرج مخرج الغالب، فلو فرضنا أن سبعة خرجوا في مهمة في أرض العدو ثم حضرتهم الصلاة، فإنه يشرع لهم أن يصلوا صلاة الخوف.ولا يشترط في صلاة الخوف أن يصليها الجيش بعامته، بل لو كان بعض الجيش على ثغر من الثغور وعددهم عشرة أو اثنا عشر، فيمكن أن يصلوا صلاة الخوف بهذه الصفة، فلا يشترط فيها أن يصليها الجيش بكماله.
[حكم صلاة الخوف في غير خوف القتال]
في حكم الخوف في القتال الخوف بغير القتال الذي يكون في الغزوات وغزو الجيوش، فلو كان إنسان مطلوبا من إنسان آخر يريد أن يأخذه، أو أن قوما بغاة أو قطاع طريق هجموا على طائفة من المسلمين، فإن هؤلاء المظلومين من هؤلاء الذين هجموا عليهم يشرع لهم أن يصلوا صلاة الخوف، فلا يشترط أن يكون في جهاد الدفع أو جهاد الطلب، بل حتى إذا خشي الإنسان على نفسه فإنه يصليها.وهنا مسألة، وهي صلاة المطلوب،
ومثالها: طلبك عدوك وأنت على دابتك، فلو نزلت تصلي أدركك العدو وغلب على ظنك أنك تهلك، فهذه المسألة اختلف فيها العلماء.
والمطلوب هو الذي طلب بالظلم، أما لو طلب بحق فلا،
فالمطلوب: هو الذي يخشى على نفسه لو نزل وصلى الصلاة على صفتها في الأرض أن يدرك، فأصح الأقوال في المطلوب أنه يصلي على حالته، فلو كان على سيارة فإنه يصلي ويومئ على قدر ما يستطيع، ولو كان على فرس أو على بعير فإنه يصلي ويومئ على قدر حالته، وهكذا لو فر بقدميه فلو توقف فسيدركه العدو، فإنه يصلي وهو يعدو على حالته، وهكذا لو فر على سيارته،
أو فر على دابته، وهذا كله من رحمة الله عز وجل ولطفه بعباده، فالحمد لله على سعة رحمته، والحمد لله الذي جعل هذا الدين دين تيسير لا دين تعسير، وجعل فيه من الخير والرحمة واليسر على عباده، فالحمد لله على هذا الفضل العظيم.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجمعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (136)
صـــــ(1) إلى صــ(16)
باب صلاة الجمعة [1]
يوم الجمعة هو خير أيام الأسبوع، ففيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وقد شرع الله صلاة الجمعة وفرضها، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، وانعقد إجماع العلماء رحمة الله عليهم على وجوبها، وأنها فرض عين على المكلفين بشروطها المعتبرة.
[أحكام صلاة الجمعة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الجمعة].الجمعة: مأخوذة من الاجتماع، وهو ضد الانفراد.وسميت الجمعة جمعة لأجل اجتماع الناس، وذلك أن الناس يجتمعون للخطبة والصلاة، فوصفت هذه الصلاة بهذا الوصف لاشتمالها على اجتماع الناس.
وقيل: لأن الله عز وجل جمع في هذا اليوم خلق آدم،
كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فيه خلق آدم).
وقيل: لاجتماع الخلق فيه بخلق آدم.
وقيل: سميت (جمعة) اسما إسلاميا، ولم يكن ذلك معروفا في الجاهلية، وذلك أن هذا اليوم كانوا يسمونه يوم العروبة، ثم إن الإسلام سماه باسم يوم الجمعة وهذا هو الصحيح، فلم يكن اسما جاهليا وإنما سمي في عصر الإسلام.وهذا اليوم هو أفضل أيام الأسبوع، وهو خير أيام الأسبوع، وفيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه تاب الله عز وجل عليه، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تقوم الساعة، وما من يوم جمعة يصبح العباد فيه إلا وكل دابة مصيخة -أي: مستمعة- تخاف أن تقوم الساعة، ولذلك عظم الله شأن هذا اليوم، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خير الأيام.
وقد اختلف العلماء في خير الأيام: فقال بعض أهل العلم: خير الأيام هو يوم الجمعة.
وقال بعض العلماء: خير الأيام هو يوم عرفة.وهذان قولان مشهوران للعلماء، فمنهم من يقول: يوم الجمعة أفضل من يوم عرفة.
ومنهم من يقول: يوم عرفة أفضل من يوم الجمعة.
وفائدة هذا الخلاف تظهر فميا لو أن إنسانا قال: لله علي أن أعتق عبدي في أفضل أيامه فمن يقول: إن يوم الجمعة هو أفضل الأيام يقول: إنه يقوم بفعل الطاعة في هذا اليوم ويجزيه،
ومن يقول: إن يوم عرفة هو أفضل يقول: لا يخرج من نذره ولا تبرأ ذمته إلا بالعتق يوم عرفة.وأصح الأقوال عند المحققين أن التفضيل نسبي، فيكون يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم عرفة أفضل أيام العام، وذلك أن الله اختار فكان الاختيار نسبيا، فإن نظر إلى أيام الأسبوع المتكررة فإن أفضل شيء هو يوم الجمعة، على ظاهر النص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنسبة إلى العام كله فخيرها وأفضلها يوم عرفة، وهذا التفضيل النسبي فيه جمع بين النصوص، وذلك أن تفضيل كلا اليومين قد خرج من مشكاة واحدة، ولا شك أن الوحي بريء من التعارض، ولذلك يجمع بهذا الجمع، فيقال بتفضيل الجمعة بالنسبة للأسبوع، وبتفضيل يوم عرفة بالنسبة للعام كله.وقد شرع الله الجمعة وفرضها، ودلت الأدلة على هذه الفرضية، كما في دليل الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانعقد إجماع العلماء رحمة الله عليهم على وجوب الجمعة، وأنها فرض عين على المكلفين بشروطها المعتبرة.
أما دليل الكتاب على وجوبها فقوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9]، فإن قوله تعالى: (فاسعوا) أمر، والأمر دال على الوجوب، فأمر سبحانه وتعالى بالمضي إلى الجمعة، فدل على لزومها وأنها من فروض الأعيان.كذلك أيضا ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التي دلت على وجوبها،
ومن أقوى ما ورد في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليطبعن الله على قلوبهم -وفي رواية: أو ليختمن الله على قلوبهم- ثم ليكونن من الغافلين)، ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح أنه توعد من ترك الجمعة وتخلف عنها، وهذا يدل على حرمة تركها من غير عذر، وإذا كان تركها من غير عذر حراما، فإن هذا يدل على وجوبها؛ لأن الوعيد إنما يأتي على ترك الواجب أو فعل المحرم.وانعقد الإجماع على وجوب الجمعة ولزومها، وهذا على تفصيل سنذكره، فهناك من تلزمه وهناك من لا تلزمه إذا وجد العذر لسقوط الوجوب عنه.والجمعة يوم فضله الله وشرفه، وقد شرعه الله عز وجل لهذه الأمة، وفضلها وشرفها بدلالتها على هذا اليوم،
كما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إننا السابقون، وإن أهل الكتاب تبع لنا)، فأضل الله اليهود والنصارى عن هذا اليوم المفضل المكرم المشرف المعظم، وهدى إليه أمة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فأصبحت بهذه المنزلة العظيمة حيث شرفها الله بهذا اليوم الذي فيه الفضائل العظيمة، حتى ذكر بعض العلماء أن هناك ما يقرب من مائة فضيلة تخص هذا اليوم، فاليهود ضلوا عنه فأصابوا يوم السبت ولم يصيبوا الجمعة، والنصارى ضلوا عنه فأصابوا يوم الأحد،
كما قال عليه الصلاة والسلام: (اليهود غدا والنصارى بعد غد)، وهذا يدل على فضل هذا اليوم، وتفضيل الأمة باختياره لها واختيارها لهذا اليوم، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.فالناس في يوم الجمعة يجتمعون لكي يعرف المسلم إخوانه، وينظر أحوالهم، ويتفقد أمورهم، وقبل ذلك يجتمعون في كل يوم على خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فيجتمعون في أحيائهم، ثم إذا كان يوم الجمعة تداعى الناس من أطراف المدينة، فنظر المسلم إلى إخوانه الذين يعيشون معه في بلدته ومدينته، فإن كان غنيا عطف على الفقراء والضعفاء والمحتاجين وواساهم، وكذلك تنبه لإخوانه المرضى والمنكوبين فزارهم وعادهم،
كما يجتمع الناس يوم الجمعة لكي يشعروا بألفة الإسلام ومودته ومحبته، ويشعر الناس أنهم أمة واحدة بهذا الدين الذي جمع بينهم على اختلاف أحسابهم وأنسابهم وأقطارهم وألوانهم، وكل ذلك من الله سبحانه وتعالى بحكم عظيمة ينبغي للمسلم أن يتنبه لها، فليس هذا الاجتماع يراد به أداء الصلوات مجردة عن هذا الشعور الإسلامي النبيل الذي يحس به المسلم أنه مع أخيه المسلم كالجسد الواحد يشد من أزره ويعضده ويناصره ويؤازره ويتعاون معه على الخير.
[بيان من تجب عليهم صلاة الجمعة]
قال رحمه الله تعالى: [تلزم كل ذكر حر مكلف مسلم].أي: تجب الجمعة على كل ذكر.
وقلنا: إن اللزوم والوجوب دليله دليل الكتاب والسنة والإجماع.
وقوله: [ذكر] خرج به الأنثى، فالجمعة لا تلزم الأنثى، إذ قد أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن المرأة لا تجب عليها الجمعة، ولكن لو حضرت المرأة الجمعة فإنها تصح منها ولذلك تعتبر النساء من الطائفة الذين لا تلزمهم الجمعة، ولكن إذا حضرنها صحت منهن،
ولذلك قالوا: إن النساء لا تلزمهن الجمعة ولا الجماعات، فلا تلزمهن الصلوات الخمس جماعة، وكذلك لا تلزمهن الجمعة.
وقوله: [حر].خرج به العبد، فالعبد لا تلزمه الجمعة في قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وخالف داود الظاهري فقال بوجوبها ولزومها على العبد، ووافقه الإمام أحمد في رواية،
وقالا: إن العبد يجب عليه أن يشهد الجمعة؛ لأنها فرض عيني فاستوى هو والحر.وقد جاء في سقوط الجمعة عن العبد حديث عن طارق بن شهاب، وهذا الحديث تكلم العلماء رحمهم الله على سنده؛ لأن طارقا لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض الرواة تكلم فيهم، وتسامح بعض أهل العلم رحمة الله عليهم فيه؛ لأنه وإن كان طارق لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه صحابي؛ لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، فهو صحابي، ويكون حديثه أشبه ما يكون بمرسل الصحابي، وقد دل هذا الحديث على سقوط الجمعة عن العبد والمريض والمسافر والمرأة،
فقالوا: إن العبد لا تجب عليه الجمعة؛ لأنه مشغول بخدمة سيده، والله أمره بأن يكون في خدمة سيده، فلذلك لا تجب عليه الجمعة.والقول بوجوبها على العموم من القوة بمكان، إلا إذا وجد ما يشهد للحديث بالصحة فلا إشكال.
قوله: [مكلف].التكليف شرطه البلوغ والعقل، فلا نقول للصبي صل الجمعة على سبيل الإلزام، فلا تلزمه الجمعة ولا تنعقد به، والمجنون لا تلزمه ولا تنعقد به ولا تصح منه، وسنبين معنى الانعقاد.وأما بالنسبة للصبي فإنها لا تنعقد به ولا تلزمه، ولكن تصح منه إن فعلها،
وهذا إذا كان مميزا لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فدل على أن الصبي لو صلى صحت صلاته وكانت معتبرة، ولكن لا تجب عليه.فالتكليف شرطه البلوغ والعقل، فالمجانين لا يطالبون بشهود الجمعة، وكذلك الصبيان، ولكن يؤمر الصبيان في قول بعض العلماء بشهود يوم الجمعة أمر تعليم وإرشاد،
وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نأمر الصبيان بالصلاة، ولم يفرق بين الجمعة وغيرها، فلذلك يأمر الوالد ولده إذا بلغ سبع سنين أن يشهد الجمعة ولا يلزمه بها، ثم إذا بلغ العاشرة فإنه يضربه إن تخلف عنها.والتكليف -كما قلنا- شرطه البلوغ والعقل، ولا يحصل التكليف باختلال أحد الشرطين،
وقد نظمها من قال: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولا ظهر فقوله: مع البلوغ بدم أو حمل أي: علامة البلوغ دم المرأة إذا حاضت، والحمل يعتبر دليلا على كونها بالغة.
وقوله: أو بمن أراد به الاحتلام لظاهر حديث علي رضي الله عنه.
وقوله: (أو بإنبات الشعر).أي: يعتبر البلوغ: بإنبات الشعر كذلك، وأصح الأقوال أن الإنبات يعتبر دليلا على البلوغ،
أي: ظهور شعر العارضين، وشعر العانة، وشعر الإبط على خلاف فيه.
وقوله: أو بثمانية عشر حولا ظهر الصحيح أن سن البلوغ خمسة عشر، وثمانية عشر هو مذهب المالكية والحنفية في الذكور، وسبعة عشر في الإناث، وأما عند الشافعية والحنابلة فخمسة عشر، وهو الصحيح لحديث ابن عمر.والحاصل أن الإنسان غير مكلف ومأمور بالجمعة أمر إلزام من جهة التكليف إلا إذا كان بالغا عاقلا،
فلما قال: (مكلف) أشار إلى هذين الشرطين.وقوله: [مسلم].خرج به الكافر، والكافر مختلف فيه، فمن يقول: إنه غير مخاطب بفروع الإسلام يقول: لا تلزمه حتى يسلم.
ومن يقول: إنه مخاطب بفروع الإسلام يرى أن الكافر ممن تلزمه الجمعة ولا تصح منه.
قوله: [مستوطن ببناء اسمه واحد ولو تفرق].أي: تلزمه الجمعة إذا كان مستوطنا ببناء، والسبب في ذلك أن الأصل في المكلف أن يصلي صلاة الظهر، فإذا انتقل عن هذا الأصل إلى صلاة الجمعة ركعتين فكأننا بالجمعة نسقط عنه التكليف بالركعتين الأخريين، فلا نسقطها إلا على الصفة التي وردت عليها الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت في دليل أن الجمعة يصليها غير المستوطن، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر وزال عنه وصف الإقامة والاستيطان لم يجمع صلوات الله وسلامه عليه، فدل هذا على أن الاستيطان شرط، وهناك أحاديث ضعيفة في اشتراط الاستيطان في الجامع، والصحيح أن هذا الاستيطان منتزع من صورة الأصل،
ولذلك يقولون: لا تصح الجمعة لغير المستوطنين.
وبناء عليه فأهل البادية الذين يرحلون للمرعى، والذين إذا نزل المطر في موضع ينتقلون إليه ولا يثبتون في مكان، بل ينتقلون على حسب المراعي لا تجب عليهم الجمعة، ولا نلزمهم بها؛ لأنهم غير مستوطنين في موضعهم، ولو استوطنوا صيفا فإنهم يرتحلون شتاء، ولو استوطنوا شتاء فإنهم يرتحلون صيفا، ولو استوطنوا ربيعا فإنهم يرتحلون في الخريف، وهكذا، فليسوا بمستوطنين، والاستيطان -كما ذكر المصنف- إنما يعتبر إذا كان ببناء وكانت فيه الجوامع، كالمدن والقرى العامرة، فهذا لا إشكال فيه، أما لو كانوا غير مستوطنين كأهل العمود والخيام فإنه لا يحكم بوجوب الجمعة عليهم، ولذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كانوا في البادية أن يجمعوا، فدل على أن الجمعة إنما تكون لأهل الجوامع والأمصار والمدن والقرى ونحوها.
قوله: [اسمه واحد ولو تفرق].أي: يكون هذا البناء اسمه واحد ولو تفرقت بيوت أهله، فبعض المدن تكون فيها المحلات وقد تتباين وتتباعد، لكنها في حكم المدينة الواحدة واسمها واحد، ولو تفرق البنيان بأن تكون في منطقة خمسة بيوت، وفي أخرى خمسة بيوت، وخمسة بيوت في منطقة أخرى، ونحو ذلك لكنها في حكم المدينة الواحدة، فإنهم يعتبرون كالمستوطنين في الجامع، وتجب عليهم الجمعة.
قوله: [ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ].أي: من شروط إلزام المكلف بالجمعة ألا يكون بين المكلف وبين المسجد الذي فيه الجمعة أكثر من فرسخ، والسبب في ذلك أن الجمعة إنما تجب بسماع النداء، والنداء يسمع في حدود فرسخ إذا كان في زمن ليس بشديد الحر،
ولا تتحرك فيه الرياح كالحال في الفجر.ويقوي هذا ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد شهد الصحابة الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم من قباء، وكذلك من ضواحي المدينة كالعوالي، وهي تبعد عن المدينة ثلاثة أميال أو أربعة، على حسب قرب المزارع ودنوها من المدينة، فهي في حدود الفرسخ، والفرسخ، ثلاثة أميال،
كما قيل: إن البريد من الفراسخ أربع ولفرسخ فثلاثة أميال ضعوا فالفرسخ ثلاثة أميال، وهذا القدر إنما هو نسبي تقريبي، فمن كان في هذه المسافة فإنه يسمع النداء وتلزمه،
وبناء على ذلك قالوا: إذا كان بعيدا عن المصر أو عن الجامع بهذا القدر يلزمه أن يصلي الجمعة، أما لو كان -مثلا- على بعد سبعة كيلو مترات فما فوق فإن هذا لا تجب عليه الجمعة، ولكن يصلي ظهرا،
فإن نزل وجمع فلا حرج فمثل هذا يقال فيه: لا تلزمه، وإن حضرها صحت وانعقدت به، فهو على غير المسألة المعتبرة.لكن بالنسبة للذين هم داخل المدن ولو كانوا على بعد عشرين كيلو مترا فإنه تلزمهم الجمعة، فلو كانت المدينة طولها -مثلا- أربعون كيلو مترا وكان بعدهم عن وسط المدينة الذي يكون فيه المسجد قرابة عشرين كيلو مترا، فإنه تلزمهم الجمعة؛ لأنهم في حكم البلد الواحد، وبناء على ذلك يلزم القريب والبعيد داخل المدينة أن يصلي الجمعة،
ولا يقال: إن من كان على بعد أحد عشر كيلو مترا من وسط المدينة لا تلزمه الجمعة.
بل نقول: إن من كان على حدود المدينة يلزمه أن يجمع مع أهلها.
[بيان من لا تجب عليهم صلاة الجمعة]
قال رحمه الله تعالى: [ولا تجب على مسافر سفر قصر ولا على عبد وامرأة].أي: لا يلزم الإنسان إذا كان في السفر أن يصلي الجمعة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة في السفر، ولم يثبت عنه في أي سفر من أسفاره أنه جمع، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن المسافر لا تلزمه الجمعة، ويؤكد ذلك فعله صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة، فإنه خطب الناس خطبة حجة الوداع، وقد كان بالإمكان أن يصليها جمعة، وقد كان أهل مكة معه عليه الصلاة والسلام ومع ذلك لم يصل بهم جمعة.ومن البدع والغرائب التي يقع فيها من لا ينتبه لهذه الأحكام الشرعية أنه ربما يخرج بعضهم إلى رحلة مبتعدين عن المدينة مسافة قصر ثم يصلون جمعة، وقد يمكثون شهرا أو أسبوعين أو ثلاثة،
فجمعتهم باطلة وتلزمهم إعادتها ظهرا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الناس في السفر، وقد سافر صلوات الله وسلامه عليه ولم يثبت عنه حديث صحيح أنه صلى الجمعة في السفر، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا جمعة على المسافر إذا كان في حال السفر.أما لو دخل المسافر المدينة، كرجل من أهل المدينة قدم إلى مكة يوم الجمعة،
فقد اختلف في هذا العلماء: فمنهم من قال: يلزمه أن يصلي معهم الجمعة.
ومنهم من قال: لا يلزمه، على الخلاف الذي ذكرناه في الجماعة.وقد استدل العلماء بحديث طارق بن شهاب في ذكره للأربعة الذين لا تجب عليهم الجمعة حين ذكر منهم المسافر، فقالوا: إن المسافر لا تلزمه الجمعة.
قوله: [ولا على عبد].أي أن العبد لا تلزمه الجمعة، فالمصنف شرع في ذكر عكس الشروط المتقدمة للايجاب من قوله: [ولا تجب على مسافر.]؛ فلما ذكر لنا أنها تلزم الحر ذكر هنا أنها لا تلزم العبد، فهو عكس ما ذكرناه من الشروط.
قوله: [وامرأة].أي: لا تجب الجمعة على النساء لما ذكرناه.
قال رحمه الله تعالى: [ومن حضرها منهم أجزأته ولم تنعقد به].أي: من حضرها من العبيد ومن النساء؛ لأنهم ليسوا من أهل الجمعة.
قوله: [ولم تنعقد به].مسألة الانعقاد ترجع إلى اشتراط عدد المصلين للجمعة، فمذهب الجماهير أنه يشترط لها عدد معين،
ثم اختلفوا في هذا العدد: فقال بعضهم: أربعون.
وقال بعضهم: اثنا عشر.
وقال بعضهم: أربعة.
وقال بعضهم: اثنان.فهذه مشهورات الأقوال في هذه المسألة،
فلو قلنا: إن العدد يشترط فيه أن يكون أربعين، فإنه إذا حضر تسعة وثلاثون من الرجال البالغين العاقلين وحضرت امرأة، لا تنعقد الجمعة، وكذلك لو حضر عبد على هذا القول الذي ذكرناه، لكن الصحيح أن العبد يلزم بالجمعة وتنعقد به، فلو حضر تسعة وثلاثون وعبد فإنه انعقدت به الجمعة.
قال رحمه الله تعالى: [ولم يصح أن يؤم فيها].أي: أن امرأة حضرت فلا تصلي ولا تجمع بغيرها ولو بنساء، وكذلك العبد، فإنه لا يجمع بالأحرار في قول طائفة من أهل العلم رحمهم الله، واختاره المصنف.وذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم إلى أن العبد تصح إمامته في الجمعة.وقد قررنا أن العبد تصح جمعته ويلزم بها، وعلى ذلك فأنه لو صلى بهم صحت إمامته واعتد بتلك الجمعة وكانت مجزئة.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجمعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (137)
صـــــ(1) إلى صــ(16)
[وجوب صلاة الجمعة على من حضرها إذا سقطت عنه]
قال رحمه الله تعالى: [ومن سقطت عنه لعذر وجبت عليه إذا حضرها وانعقدت به].من مرض مرضا يعذر به في عدم شهود الجمعة فتحامل على نفسه واحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى حتى جاء ودخل المسجد، فحينئذ تجب عليه وتنعقد به وتصح إمامته للناس،
فلو أن الإمام مرض فقوى الله سبحانه وتعالى نفسه وعزيمته فقال: أحتسب الأجر عند الله تعالى، وصلى بالناس صحت جمعته وأجزأته وانعقدت به، وعلى هذا فالمريض ممن لا تلزمه الجمعة، وتصح منه وتنعقد به، لا تلزمه الجمعة ولكن تصح منه إن حضرها وتنعقد به.والعذر بالمرض يشمل المريض والممرض للمريض، فإن الممرض للمريض يعتبر معذورا، فلو أذن المؤذن للجمعة وكان المكلف قائما على مريض عنده كوالده أو زوجته أو ابنته أو ابنه، وخشي عليه الضرر وتفاقم المرض، أو كان يحتاج إلى حمله للإسعاف ونحو ذلك، فله أن يجلس مع هذا المريض، ويعذر بترك الجمعة إذا خاف عليه.وإذا كان المريض يحتاج إليه لسقي دواء وفعل علاج ونحو ذلك من الأمور التي يحتاج إليها المريض، فإن الشرع يرخص لمثل هذا، ويدل على ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه لما سمع الصارخ على ابن عمه وهو خارج إلى الجمعة ترك الجمعة وعاد إليه، فقام عليه حتى غسل وكفن ثم صلى عليه رضي الله عنه وأرضاه،
وعلى هذا فإن الممرض في حكم المريض، ويقال في الممرض مثلما يقال في المريض، فلا تلزمه الجمعة، ولكن إن حضرها انعقدت به وصحت، وأجزأت إمامته لو صلى بالناس.ومن المعذورين أيضا من كان بينه وبين الجمعة وحل شديد ومطر، ولو خرج إلى الجمعة في شدة المطر الذي يعذر به وشهد الجمعة صحت جمعته، فيقولون: لا تلزمه، وتصح منه، وتنعقد به.
[متى يصلي الظهر تارك الجمعة بغير عذر وتاركها بعذر]
قال رحمه الله تعالى: [ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لم تصح].هذه المسألة -نسأل الله السلامة والعافية- في رجل في مدينة قادر على شهود الجمعة مسلم عاقل بالغ حر مستوطن سمع نداء الجمعة فتخلف -والعياذ بالله- متعمدا بدون عذر، فحينئذ يردq متى يصلي الظهر؟a الأصل فيه أن يصلي الجمعة،
وبناء على ذلك فالواجب في حقه أن يمضي إلى الجمعة لظاهر قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9]،
فإذا لم يسع إلى ذكر الله فإنهم قالوا: هذا المكلف مكلف بالجمعة، فلا يصلي ظهرا حتى تفوته الجمعة؛ لأن الأصل أنه مخاطب بالجمعة وليس مخاطبا بالظهر، فيبقى حتى يفرغ الإمام من صلاة الجمعة، أو يقدر ذلك على غلبة الظن وحينئذ يصلي، فلو صلى قبل أن يصلي الإمام لم تصح منه ظهرا؛ لأنه يصلي الظهر قبل أن يخاطب بها، وفعل الصلاة قبل الخطاب بها موجب للحكم بعدم الاعتداد بها وعدم إجزائها، كما لو صلى قبل أذان الظهر.وتوضيح ذلك أنه إذا صلى الظهر أثناء صلاة الناس للجمعة فإنه كالمتنفل للظهر؛ لأنه أثناء الصلاة كان بإمكانه أن يلحق ويصلي معهم الجمعة، فلا زال الخطاب متجها عليه أن يصلي ركعتي الجمعة وأن يشهد الجمعة، فلا يسقط عنه الخطاب بالجمعة حتى ينتهي وقت الجمعة فيتوجه عليه الخطاب بالظهر،
ومن هنا قالوا: من لزمته الجمعة ولم يعذر بتركها لا تصح منه صلاة الظهر إلا بعد انتهاء الإمام من صلاة الجمعة.لكن من كان معذروا لا يدخل في حكم هذا، وهو الذي سيذكره المصنف رحمة الله عليه.
قال رحمه الله تعالى: [وتصح ممن لا تجب عليه، والأفضل حتى يصلي الإمام].
قوله: [وتصح] أي: تصح صلاة الظهر.وقوله: [ممن لا تجب عليه] أي: من عذر بتركها كالمرأة، فلو أن امرأة في بيتها أرادت أن تصلي الظهر يوم الجمعة، جاز لها أن تصلي أثناء صلاة الإمام، ويجوز لها أن تصلي قبل صلاة الإمام؛ لأن الجمعة ليست بواجبة عليها، والخطاب متوجه عليها بفعل صلاة الظهر بمجرد زوال الشمس،
وعلى هذا يقولون: إنه يجب عليها أن تصلي الظهر بزوال الشمس فحينئذ لا علاقة لها بصلاة الإمام، فيستوي أن تصلي الظهر قبل الإمام وأن تصليه أثناء صلاة الإمام وأن تصليه بعد صلاة الإمام، كالحال في الصلوات العادية، فلو أذن المؤذن للظهر، وبعد أذان الظهر مباشرة قامت وكبرت وصلت الظهر، فبالإجماع صلاتها صحيحة؛ لأنها مخاطبة بالظهر بمجرد دخول الوقت، وقد أدت الصلاة بعد دخول وقتها.وهكذا لو أن المريض صلى بعد زوال الشمس يوم الجمعة فلا حرج عليه، فكل إنسان معذور لا حرج عليه.
لكن قالوا: الأفضل في المعذور أن ينتظر انتهاء الإمام لاحتمال أن يزول عنه العذر،
ولذلك قال: [والأفضل حتى يصلي الإمام] لما فيه من الاحتياط.
[حكم السفر يوم الجمعة بعد الزوال]قال رحمه الله تعالى: [ولا يجوز لمن تلزمه السفر في يومها بعد الزوال].
أي: لا يجوز للمكلف الذي تلزمه الجمعة أن يسافر بعد زوال الشمس من يوم الجمعة، والسبب في هذا واضح،
وهو أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9]،
فقالوا: هو مكلف بفعل صلاة الجمعة بعد زوال الشمس ودخول وقت الجمعة، فإذا أراد أن يسافر فإنه يسقط هذا الوجوب ويحتال على الشرع.وبناء على ذلك قالوا: لا يجوز للإنسان أن يسافر بعد زوال الشمس من يوم الجمعة؛ لأن ذلك يؤدي إلى فوات صلاة الظهر.لكن لو كان يريد أن يسافر ويمكنه أن يصلي الجمعة في موضع آخر غير المدينة -كأن يسافر إلى قرية بجوار مدينته بحيث يدرك فيها الجمعة-
فإنهم قالوا: لا حرج عليه؛ لأنه لم يقع في المحذور الذي من أجله منع من السفر يوم الجمعة، ولا يكون مخالفا لأمر الله عز وجل بالمضي إلى صلاة الجمعة.فاستثنوا من هذا أن يكون بإمكانه أن يصلي الجمعة في المحل الذي يسافر إليه، أو في الطريق، كما لو كان بينه وبين البلد الذي يقصده قرى تقام فيها الجمعة، أو مواضع يصلى فيها الجمعة ويعتد بهذه الجمعة،
فقالوا: يجوز له في هذه الحالة أن يسافر ولا حرج عليه؛ لأنه لم يقع المحذور في تركه للجمعة.فالذي ذهب إليه بعض العلماء أن المنع يبتدئ من بعد الفجر؛ لأن نهار الجمعة يعتد به من طلوع الفجر الصادق.
والاعتداد بطلوع الفجر الصادق أو بعد طلوع الشمس في جريان الأحكام عليه مسألة خلافية بين العلماء: فبعض العلماء يرى أن طلوع الفجر نهار، كما هو معلوم من قوله سبحانه وتعالى: {أقم الصلاة طرفي النهار} [هود:114]،
فإن المراد بهذه الصلاة التي في طرفي النهار: صلاة الفجر وصلاة العصر؛ لأنهما في طرفي النهار، فالفجر في طرفه الأول، والعصر في طرفه الثاني، فلما قال: (طرفي النهار) قالوا: إن هذا يدل على أن النهار يبتدئ من تبين الفجر الصادق.وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة تقسيم الليل لمعرفة الثلث الأخير منه،
فإن قلت: ينتهي الليل بطلوع الفجر الصادق ويحكم بابتداء النهار بطلوع الفجر الصادق، فحينئذ تقسم الساعات من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق على ثلاثة، ويكون الثلث الأخير هو الثلث الذي قبل تبين الفجر الصادق،
أما لو قلت: إنه يستمر إلى طلوع الشمس فلا إشكال.
الأسئلة
[حكم الخنثى المشكل في وجوب صلاة الجمعة]
q هل تجب الجمعة على الجنثى المشكل؟
aباسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد: فإن الخنثى حكمها حكم الأنثى، والسبب في ذلك أن القاعدة: (اليقين لا يزول بالشك) فالخنثى متردد بين الرجل والمرأة، فلما كان الوصف بالرجولة أعلى قالوا: اليقين أنه أنثى حتى نتأكد أنه رجل.ولذلك فجماهير العلماء يعطون الخنثى حكم الأنثى، وقالوا: إنه يأخذ حكم الأنثى فلا تجب عليه الجمعة، وإنما تجب على الخنثى الذي استبان أنه رجل، وأما إذا كان خنثى مشكلا فإنه لا تجب عليه الجمعة.والله تعالى أعلم.
[العامل والأجير لا يأخذان حكم العبيد في إسقاط الجمعة عنهما]
qهل المراد بالعبد الخصوص في سقوط الجمعة عنه، أم يدخل معه العامل والأجير؟
a لا يأخذ العامل والأجير حكم العبيد، ولكن العامل والأجير فيهما نظر، فلو كان عند الإنسان مال، وكان العامل أو الأجير هو الحارس لهذا المال والقائم عليه، فإنه يجوز له أن يتخلف عن الجمعة إذا غلب على ظنه أنه لو نزل وصلى الجمعة سرق المال أو تلف، وهكذا من كان في حراسة ونحوها، فإنه يشرع له أن يتخلف عن الجمعة إذا كان قائما على مصالح المسلمين، أو قائما على حراسة الأنفس، وهكذا الطبيب إذا كان قائما على علاج المريض، ونحو ذلك، فهؤلاء يرخص لهم في ترك الجمعة، وهم في حكم المعذورين، وقد تقدم معنا في صلاة أهل الأعذار الإشارة إلى مثل هذه المسائل.فإذا كان العامل يقوم على عمل فيه أموال وفيه مصالح لا يستطيع أن يتركها ويتخلف عنها، أو يغلب على ظنه أنه لو شهد الجمعة سرقت أو تلفت أو تعرضت للأذية والضرر، فإنه يجوز له حينئذ أن يتخلف للقيام عليها، ويكون معذورا.والله تعالى أعلم.
[ما يتفق فيه الرجل مع المرأة من أحكام الجمعة وما يختلفان فيه]
qهل يجب على المرأة إذا حضرت الجمعة ما يجب على الرجل من الغسل، والصمت عند حضورها، وعدم مس الحصى ونحوها مما يبطل الجمعة؟
aتشارك المرأة الرجل في عدم جواز الكلام أثناء الخطبة، وكذلك يحكم بكونها لاغية إن تكلمت أو مست الحصى، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من مس الحصى فقد لغى)، والقاعدة في الأصول أن (من) من صيغ العموم، ولذلك يقولون: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من مس الحصى فقد لغى) محمول على العموم، وعلى هذا فإن المرأة لو كانت في المسجد فعبثت أو تكلمت فإنها لاغية، ويحكم عليها بما يحكم على الرجل.وأما اغتسالها للجمعة فقد قال به بعض العلماء، لقوله عليه الصلاة والسلام: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، فقالوا: إن (كل) من ألفاظ العموم.ولذلك يقولون: إنه يجب عليها أن تغتسل حتى إن بعضهم يقول: تغتسل المرأة ولو لم تشهد الجمعة.وإن كان الصحيح أن الغسل واجب على من شهد الجمعة؛ لأن حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الترمذي يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالغسل من أجل الشهود، فقد قالت: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم -أي: يقومون على أمورهم بأنفسهم-، وكانوا يغشون المسجد من العالية، وكانت الأرض أرض زرع، فعلت المسجد منهم زهومة، فأمروا أن يغتسلوا.فدل على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل ليوم الجمعة إنما هو من أجل النتن، وذلك أن الناس إذا اجتمعوا ربما تضرروا بالرائحة الكريهة، حتى إن بعض العلماء يقول: كل صلاة شرع لها الاجتماع ينبغي أن يتنظف لها الإنسان ويتطيب حتى لا يؤذي الناس، ولذلك أمر بالتطيب صلوات الله وسلامه عليه.وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: إن المرأة إذا شهدت الجمعة فإنها تغتسل -أي: تتنظف- ولكن لا تتطيب كالرجل؛ لأن الطيب ورد للرجال دون النساء، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (مس من طيب امرأته)، وفي رواية: (مس من طيب أهله) كما في الصحيح، فقالوا: إن هذا يدل على أنه للرجال دون النساء، خاصة أنه قد قال صلى الله عليه وسلم:: (أيما امرأة مرت بقوم فوجدوا ريحها أو طيبها فهي زانية) قالوا: هذا يؤكد أنها لا تتطيب.والله تعالى أعلم.
[حكم جمع صلاة العصر مع الجمعة للمسافر]
q مسافر صلى الجمعة مع المقيمين، ثم قدم صلاة العصر وصلاها قصرا، فما حكم صلاته للعصر؟
a هذه المسألة فيها خلاف، فلو أن مدنيا نزل بمكة يوم الجمعة، فقضى حاجته، وأراد أن يصلي الجمعة ثم يمشي بعد الجمعة مباشرة إلى المدينة، فجمع مع صلاة الجمعة العصر، فإنه قد قال جمع من العلماء رحمة الله عليهم: لا يجمع العصر مع الجمعة، وذلك لأن الجمع خارج عن الأصل، وإنما يقتصر فيه على الوارد، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع مع الجمعة صلاة العصر.قالوا: والرخص تقصر على صورة الإذن والجواز، أي: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يفصل بين الصلاتين إلا بالفاصل اليسير الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، واشترطوا لها شروطا مخصوصة؛ لأنها خارجة عن الأصل.وقال جمع من العلماء بجواز ذلك.ولكن الأحوط ألا يفعله.
الواجب على المسافر إذا لم يصل الجمعة ظهراq كنا نخرج للعمل خارج القرية على بعد خمسة عشر كيلو مترا في البر، ونجتمع ونصلي الجمعة، فهل صلاتنا -على القول الذي رجحتموه- باطلة وتلزمنا إعادتها، أم أنا معذورون بالجهل؟a تلزمكم إعادة هذه الجمعات كلها، ولو تعددت إلى سنوات، والجهل لا تعذرون به؛ لأنكم أقدمتم على أحكام شرعية مع إمكان الرجوع إلى العلماء، فليس هذا مسوغا لإسقاط فرض الله عليكم الذي هو صلاة الظهر، ولذلك يقولون: من قصر عوقب بعاقبة تقصيره.فإنه كان بالإمكان أن تسألوا العلماء وتستأذنوهم، وأن تعرفوا أنه يحل لكم أن تصلوا الجمعة أو لا، أما أن يقال بالعذر بالجهل مطلقا فإنه محل نظر، فجمعتكم هذه على غير الوجه الشرعي، ولا يستطيع الإنسان أن يتحمل مسؤولية أمام الله عز وجل، فما دمتم أنكم قصرتم في سؤال العلماء والرجوع إليهم فإنكم تتحملون مسئولية تقصيركم، وتعيدون هذه الصلوات، فإن كنتم لا تستطيعون عدها فإنكم تبنون على غالب الظن وتقدرون، وغالب الظن كالمحقق، وبناء على ذلك فإنكم تبنون على غالب ظنكم العدد الذي تحسون أنكم أبرأتم به الذمة، فتعيدون صلوات الظهر في هذا كله؛ لأنها جمعة لاغية وغير معتد بها شرعا.والله تعالى أعلم.
[دخول غسل الجمعة تحت غسل الجنابة]
qمن أصابته جنابة يوم الجمعة هل يلزمه غسلان للجنابة والجمعة؟
a من كان قبل صلاة الجمعة قد أجنب، ثم أراد أن يصلي الجمعة، فأصح الأقوال أن غسل الجمعة يندرج تحت غسل الجنابة بشرط أن ينوي، فينوي بغسل الجنابة غسل الجمعة، ويقع غسل الجمعة تحت غسل الجنابة، وهذه من مسائل الاندراج، فإذا تحقق مقصود الشرع بالاندراج يندرج.وتوضيح ذلك أن مقصود الشرع من غسل الجمعة أن يكون الإنسان نظيفا على ظاهر حديث أم المؤمنين عائشة، فإذا اغتسل لجنابته تحقق مقصود الشرع من زوال التفث، وزوال النتن عن البدن، فحينئذ إذا نوى بغسله غسل جنابته وغسل الجمعة أجزأه واعتد به.والله تعالى أعلم.
[الواجب على المسافر إذا طلب منه إلقاء خطبة الجمعة]
qبعض طلاب العلم يخرج في سفر، ويطلب منه أن يخطب خطبة الجمعة، فما حكم هذا الفعل؟ وهل فيه خلاف بين أهل العلم؟
a هذه المسألة على الأصل الذي ذكرناه، فإنه لم يجمع عليه الصلاة والسلام بالمقيمين، ألا تراه قد جاء إلى مكة -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- ولم يصل بأهل مكة الجمعة، ولذلك لا يجمع المسافر بالمقيمين لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن المسافر لو حضر وصلى الجمعة فإنها تنعقد وتصح به الجمعة على مذهب طائفة من العلماء.أي أنه إذا صلى بهم فإن صلاته يعتد بها.وفي النفس شيء من هذا القول، والذي ينبغي لطلاب العلم دائما أن يحتاطوا، لكن لو أن الإنسان ترجح عنده القول الذي يرى أن المسافر يجمع وجمع بالناس فإنه لا حرج عليه في ذلك، خاصة إذا كان طالب علم وجاء إلى قرية أو إلى بادية وأراد أن يفقههم في أمور دينهم، وأن يبين لهم أمورا يحتاجون إليها فقدموه للصلاة بهم، فهذا يرخص فيه بعض العلماء، لكن الذي تميل إليه النفس الاحتياط في صلوات الناس، وعدم تعريضها للمحتمل.والله تعالى أعلم.
[الجمع بين أدلة صلاة النبي للجمعة قبل الزوال وصلاته بعد الزوال]
q كيف نجمع بين حديث جابر: (كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس)، وحديث: (ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به)، وحديث: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة)؟
a حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه هو عمدة، وهو أقوى ما احتج به من يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقع صلاته وخطبته قبل زوال الشمس، ولكن أجيب عن هذا القول بأن حديث جابر رضي الله عنه معارض بحديثين: أولهما: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.ثانيهما: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في صلاته عليه الصلاة والسلام حين تزول الشمس.والقاعدة أنه إذا تعارض حديثان يحمل المحتمل على الوجه الذي يجمع به بينه وبين غير المحتمل، فإن حديث أنس من أقوى الأدلة على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى إلا بعد زوال الشمس، فيكون قوله: (نريح نواضحنا) متأخرا عن قوله: (صلى عليه الصلاة والسلام ... ) أي: كنا نصلي حين تزول الشمس، ثم نريح نواضحنا.لأن إراحة النواضح ليست مقصودة بالذكر، وليس زمانها مقصودا ولا مبحوثا عنه، فذكرت تبعا لا أصلا، وإنما يستقيم الاستدلال لو كان المعنى المفهوم أنه يخطب ثم يصلي ثم تراح النواضح حين تزول الشمس، وهذا -كما قلنا- ليس مرادا، على أن جابرا رضي الله عنه قصده أنه عليه الصلاة والسلام ابتدأ صلاته وخطبته عند زوال الشمس.وأما حديث أنهم كانوا يتبعون الفيء فلم يكن للحيطان ظل فهو حديث صحيح، ومعناه أنه ليس لها ظل يستظل به، كما قال جماهير الشراح، وهذا صحيح؛ فإن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تزيد على خمس دقائق، وهذا أمر حقيقي وواقعي، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن من مئنة فقه الرجل طول صلاته وقصر خطبته، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي بالجمعة والمنافقين، فإذا جئت تنظر إلى الجمعة فهي صفحة كاملة، وإذا جئت تنظر إلى المنافقين فهي كذلك صفحة كاملة، فمعنى ذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام دون الصفحتين، مع أنه عليه الصلاة والسلام من الفصاحة بمكان، وكلامه من الوضوح في غاية البيان صلوات الله وسلامه عليه، فتقسم الخطبتين على صفحة ونصف، فالخطبة الواحدة لا تبلغ الصفحة الكاملة، فكانت خطبته عليه الصلاة والسلام من القصر بمكان، وصلاته -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- بالجمعة والمنافقين مع ترتيله وحسن أدائه صلوات الله وسلامه عليه قد لا تعدو ربع ساعة.والزوال يحتاج إلى حساب دقيق؛ لأن الشمس إذا تحركت من الزوال تحتاج إلى وقت، وهذا التحرك يستغرق قرابة أربع دقائق في انسحاب الشمس عند زوالها، ثم تحسب تبين الزوال، فإذا كان انسحاب الشمس في زوالها في حدود هذا الوقت اليسير فمتى يكون الفيء والظل للحيطان؟!! فإذا ابتدأ صلى الله عليه وسلم بعد زوال الشمس أو عند زوالها وخطب في هذا القدر اليسير، ثم صلى بالناس عليه الصلاة والسلام -وكان لا يملهم- ثم انصرفوا، فإن الحيطان حينئذ لها ظل، ولكن ليس بذاك الظل؛ لأنه إذا كان لها ظل كبير فقد اقترب خروج وقت الظهر.فالمشكلة أن بعض الأحاديث تفهم بناء على الواقع؛ لأن الإنسان إن نظر إلى أن الجمعة تأخذ نصف ساعة، وأنه يركب سيارته، ثم يدخل إلى المسجد، ثم ينظر إلى الوقت الذي يضيع، فإنه يظن أن الجمعة تستغرق هذا الوقت الكبير، مع أنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج من حجرته إلى المنبر مباشرة، ولا يصلي ولا يتنفل قبل خطبته، ويلغى كلامه على الناس عند ابتداء الزوال، ويؤذن بلال بدون تمطيط ولا أخذ وقت، ثم يقوم عليه الصلاة والسلام ببيانه وفصاحته بالكلمات اليسيرة، ثم يصلي بالناس وتنتهي الجمعة، فهذا القدر إذا جئت تحسبه ربع ساعة أو ثلث ساعة صدق عليه أنه لو انصرف الناس بعده لا يجدون للحيطان ظلا، وفي رواية: أنهم كانوا يتتبعون الفيء، ومعنى ذلك أن هناك حيطانا، وأنه قد زالت الشمس.ثم إننا نقول: إن حديث جابر قد عارضه حديث أنس، فعارض المحتمل غير المحتمل، إضافة إلى حديث سلمة.وأما حديث: (ما كنا نتغدى ولا نقيل إلا بعد الجمعة)، فهذا لا إشكال فيه؛ فإن غداء الناس ومقيلهم نسبي، والقيلولة المعروفة قيلولة الضحى؛ لأن الوقت من طلوع الشمس إلى زوالها وقتان: ضحى وضحى، فإذا طلعت الشمس فهو الضحى إلى أن تصل إلى ثلاث ساعات، وبعده يبدأ الضحى -بالفتح- والضحى قبل الزوال ما بين الضحى وزوال الشمس، ثم بعد ذلك إذا زالت الشمس فإنه قد انتهى انتصاف النهار ودخل الإنسان في العشي، وقد كان من عادتهم أنهم ينامون قبل الظهر، وهذه هي القيلولة، وهذه القيلولة تعين على قيام الليل؛ لأن الغالب أن الإنسان إذا نامها يستعين بها على قيام الليل، وهذا شيء معروف ومجرب، ولذلك تجد كبار السن يسهل عليهم قيام الليل، وهم يحافظون على هذه النومة التي قبل الظهر، وتكون قبل الظهر بحدود الساعة، وهي قائلة الضحى التي عناها الصحابي بقوله في البخاري: (فنقيل قائلة الضحى)، فكانوا لأجل اشتغالهم بالجمعة اغتسالا وتهيؤا لا يتمكنون من هذا النوم، فكانوا يؤخرونه إلى ما بعد صلاة الجمعة، فقوله: (ما كنا نتغدى ونقيل إلا بعد الجمعة) لا علاقة له بالوقت، وليس فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقع الجمعة أثناء وقت الضحى، ولم يصرح الصحابي بهذا، وإنما قال: (ما كنا نتغدى ونقيل إلا بعد الجمعة)، وهذا ليس كصريح حديث أنس رضي الله عنه الذي يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وابتدأ صلاة الجمعة حين زالت الشمس، وأيا ما كان فعندنا أصول، والفقه الرجوع إلى الأصول، ألا ترى الصحابة رضوان الله عليهم لما مضوا إلى بني قريظة قال عليه الصلاة والسلام: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)، فاختلف الصحابة رضوان الله عليهم في قوله: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)، فقالت طائفة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد التعجيل فتصلى العصر في وقتها، وطائفة قالت: لا نصلي إلا في بني قريظة.فلما قدموا على بني قريظة قدموا بعد غروب الشمس فصلوا العصر بعد الغروب، فلما حكوا للنبي صلى الله عليه وسلم لم يعنفهم، فعذر الطائفتين؛ لأن الجميع عنده نص، لكن قال صلى الله عليه وسلم للذين صلوا في الوقت: (أصبتم السنة) التفاتا إلى الأصل.فإذا كانت الجمعة قائمة مقام الظهر بدليل الشرع وإجماع العلماء على أن من فاتته الجمعة يصلي الظهر، وهي بدل عن الظهر، فالأصل أنها تصلى بعد الزوال، وعندنا نصوص تؤكد أنها بعد الزوال، فإذا جاءت نصوص تدل على أنها تقع قبل الزوال، أو يفهم منها أنها تقع قبل الزوال، فإنه يرجع إلى ما يكون أبرأ وأقرب إلى الأصل، فنقول: إنه لا يجمع إلا بعد الزوال، ولكن الأفضل أن يوقع الجمعة عند ابتداء الزوال تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.وصلى الله على نبينا محمد.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجمعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (138)
صـــــ(1) إلى صــ(21)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجمعة [2]
دخول الوقت هو أحد شروط صلاة الجمعة، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تحديده،
فمنهم من يقول: إن وقت الجمعة يبدأ من حين ارتفاع الشمس قدر رمح،
ومنهم من يقول: من حين الزوال، ومنهم من يقول بعده، ويشترط كذلك شهود عدد معين لتقام الصلاة كما هو قول بعض العلماء، ويشترط كذلك الاستيطان في البلد، وأن تقدم الخطبتان على الصلاة، وهناك أمور يستحب أن يفعلها الخطيب في خطبته.
[شروط صلاة الجمعة]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله:
[فصل: يشترط لصحتها شروط ليس منها إذن الإمام].
الجمعة وقعت موقع صلاة الظهر،
ولذلك قالوا: إنه لا بد من وجود شروط معتبرة للحكم بالاعتداد بهذه الجمعة، والحكم بصحتها وإجزائها شرعا.
قوله: [يشترط] الشرط في اللغة: العلامة،
وفي الاصطلاح: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم.
قوله: [ليس منها إذن الإمام].هذه مسألة خلافية،
فبعض العلماء يقول: لا تقع الجمعة إلا بالإمام العام أو بإذنه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إماما عاما وجمع بالناس وصحت الجمعة، فهم يرون أن الأصل أن تصلي الظهر، فلا تنتقل من الظهر إلى الجمعة إلا على الصفة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم،
فلما جمع وهو الإمام العام قالوا: لا يعتد بالجمعة مع الإمام العام، ولما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أن يجمعوا بالمدينة كان هذا بمثابة أصل في الإذن العام، ويشترط الإذن العام الحنفية رحمة الله عليهم ومن وافقهم.وذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط الإذن العام.والذي لا شك فيه أنه لا تقام الجمعة حتى يرجعوا إلى من هو موكل بالنظر في الجمعة؛ لئلا يفتح للناس سبيل التلاعب بالجمعة، فكل جماعة سيفتحون في مسجدهم جمعة، وقد وقع هذا بين الأحياء، فإنهم ربما يتنافسون، وربما يكون فتحهم للجمعة في حيهم أشبه ما يكون بالاستغناء عن الحي الآخر، فلا يعتد بالجمعة إذا تعددت مساجدها من دون عذر،
فلو أن أهل حي قالوا: نفتح مسجدا عندنا ونصلي فيه الجمعة.وفعلوا ذلك بدون إذن، وبدون وجود فتوى من عالم، أو الرجوع إلى الموكل بالنظر في مثل هذه المساجد فإنه حينئذ لا يعتد بهذه الجمعة ولا تجزئ؛ لأنها أشبه ما تكون بالتلاعب والاحتيال، وقد قرر جمع من العلماء أنه لو أقدم أهل حي على إحداث جمعة في حيهم على سبيل النفرة من الحي الآخر، أو على سبيل الأنفة من الذهاب إلى الجمعة في الحي الآخر دون وجود عذر فإن مسجدهم مسجد ضرار، ولا يعتد بجمعتهم، والجمعة للمسجد الأول القديم، ولم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جمعتان، بل كانت في مدينته صلوات الله وسلامه عليه جمعة واحدة، مع أنه كان الأنصار في قباء بينهم وبين المسجد ثلاثة أو أربعة أميال، وكانت طائفة منهم من العوالي، ولذلك أمر الناس بالغسل يوم الجمعة،
كما قالت عائشة: كانوا يغشون الجمعة من العالية -والأرض أرض زراعة وفيها الغبار- فعلت منهم زهومة -أي: بسبب العرق في الطريق-، ومع ذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أهل العالية أن يجمعوا،
فقالوا: إنه لم يعرف إقامة جمعتين في بلدة واحدة.وأول ما وقع ذلك في عهد بني العباس، وإلا فعهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم تجمع فيه جمعتان، وكان أهل قباء يصلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد بني العباس، فإنه وقعت حادثة حاصلها أن الناس في بغداد كان بعضهم في شط وبعضهم في شطر آخر ليس فيه المسجد الجامع، وكان الناس في يوم الجمعة على الجسر يزدحمون، وربما سقط بعضهم ومات، فاشتكوا إلى الخليفة فاستأذن الخليفة القاضي أبا يوسف رحمه الله صاحب الإمام أبي حنيفة أن يجمع أهل الشط الثاني، وقد كانت بغداد عامرة،
فقد قيل: إن فيها ما لا يقل عن ثلاثمائة أو أربعمائة مسجد في ذلك الزمان، ومع ذلك لم يرخص لهم إلا بعد وجود الضرورة، فلما وجدت الضرورة أمرهم أن يجمعوا وأن يعيدوها ظهرا احتياطا، وكل ذلك خوفا من هذا التعدد الذي لم يعرف له أصل أن لا يكون معتدا به.ولكن الصحيح أنه يجوز تعدد الجمعة عند الحاجة وبإذن الإمام، أي: بعد الرجوع إلى أهل العلم، أو أناس مختصين بهذا أذن لهم في مثل هذه الأمور.
أما أن يقيم أهل كل حي وأهل كل منطقة الجمعة في حيهم ومنطقتهم فلا، ولذلك ينبغي الرجوع إلى المساجد المعتد بها،
ومن هنا قال العلماء: وإن تعددت الجمعة فالجمعة للعتيق، أي للمسجد القديم، والسبب في هذا أن ما أحدث من بعده دخيل عليه،
وقد قال الله في كتابه: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} [التوبة:108]، فجعل المسجد القديم أحق، فدل على أنه إذا أحدث مسجد ثان من دون حاجة لجمعة أن الجمعة الثانية لاغية.وذهب بعض العلماء إلى التفصيل،
قالوا: لو أحدثوا بدون إذن إمام وجمعوا نظر إلى أسبق الجمعتين، فمن أوقع صلاته قبل الثاني فالجمعة له.وهذا ضعيف، ويقول به بعض أصحاب الشافعي رحمه الله.والصحيح -كما قال جمع من الأئمة- أن العبرة بالمسجد القديم، سواء أوقعت جمعته قبل أم وقعت من بعد، فهو الذي يعتد بجماعته على ظاهر التنزيل،
وهو قوله تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} [التوبة:108].أما لو كان الناس في بلد فيه أقلية مسلمة، ويريدون أن يصلوا الجمعة،
فقد قال أهل العلم من فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة: لا حرج إذا كانوا في بلد ليس فيه إمام أن ينتدبوا منهم إماما ليصلي بهم إذا بلغوا العدد وتوفرت فيهم شروط الجمعة في محل إقامتهم واستيطانهم.
[الشرط الأول: الوقت]
قال رحمه الله تعالى: [أحدها الوقت].قال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء:103]، ولما كانت صلاة الجمعة صلاة دخلت في هذا العموم، فلا تصح صلاة الجمعة قبل وقتها، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها في ميقات معين.ووقت الجمعة فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، يبحث في أوله وآخره،
فأول الجمعة للعلماء فيه قولان: قال بعض العلماء: أول وقت صلاة الجمعة هو أول وقت صلاة الظهر، وذلك بزوال الشمس.وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم، ومنهم الإمام أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد في رواية عنه.
والدليل على ذلك حديث أنس في الصحيح أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تزول الشمس)، وهذا ثابت وصحيح،
وكذلك حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس وخطب حين زالت الشمس).فهذه الأدلة تدل على أن الجمعة يبتدئ وقتها بزوال الشمس؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم،
وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ولأن الجمعة قائمة مقام الظهر ووقتها في وقت الظهر، فيكون ابتداء وقتها بزوال الشمس.وذهب الإمام أحمد -في رواية- وطائفة من أصحابه وبعض أهل الحديث إلى أن وقت الجمعة يبتدئ في وقت صلاة العيدين، وذلك بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، فمن ارتفاع الشمس قيد رمح تجوز صلاة الجمعة.واحتجوا بحديث ابن سيدان أنه شهد الصلاة مع أبي بكر وإن النهار لم ينتصف، وشهدها مع عمر والنهار قد انتصف، وشهدها مع عثمان وذلك بعد زوال النهار.
قالوا: هذا يدل على أن أبا بكر رضي الله عنه أوقعها قبل الزوال، فدل على أن وقتها يبتدئ قبل الزوال، وليس هو وقت الظهر.وهذا الأثر عن ابن سيدان فيه إشكال، وذلك للكلام في سنده بالطعن بالجهالة،
وقال الإمام البخاري: إنه لا يتابع عليه.
كما أنه معارض من وجوه: أولا: ما في مصنف ابن أبي شيبة عن سلمة رضي الله عنه وأرضاه: أنه شهد الجمعة مع أبي بكر فصلاها حين زالت الشمس.وهذا يعارض ما ورد عنه، مع أنه أقوى ثبوتا.
ثانيا: ما في الموطأ عن عمر رضي الله عنه في طنفسة عقيل بن أبي طالب التي كانت توضع عند الحجرات، وكانت تفيء عليها الشمس.وهذا يدل على أنه ما صلى عمر رضي الله عنه إلا بعد بداية الزوال.
ثالثا: أن نفس هذا الأثر فيه نظر، وذلك أنه من الصعوبة بمكان أن تعرف اللحظة التي عندها تزول الشمس، وهذا أمر معروف، ولا يمكن إدراكه إلا بحسابات دقيقة جدا، وذلك العصر عصر أبي بكر وعمر وعثمان، ولم تكن هناك الموازين والآلات الحاسبة الدقيقة، فالأمور نسبية تقريبية،
فقوله: (فصلاها حين زالت الشمس) أي: ابتداء صلاته وخطبته كان عند الزوال، أي أنه كان يعجل بحيث يجلس على المنبر ويسلم على الناس كأن الشمس لم تتحرك ويتيقن زوالها، ثم جاء عمر -ومعروف احتياط عمر رضي الله عنه- فكان عند الزوال يجعلها بتأخر قليل عن أبي بكر، وكان عثمان رضي الله عنه يجعلها بعد الزوال تحريا أكثر، ولذلك أحدث النداء الثاني رضي الله عنه وأرضاه، وعلى هذا يكون الأثر محتملا.ثم لو أنه سلم به فإنه ليس بقوي صحيح؛ لأنه معارض بأثر عن الصحابة أنفسهم أبي بكر وعمر، ثم هو معارض بما هو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ويبقى الإشكال في حديث جابر: (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وخطب حين زالت الشمس).وجوابه: أن الصلاة والخطبة ابتدأت عند زوال الشمس على الأصل الذي قررناه، ومراد جابر أن ابتداء الصلاة كان على وصف الإنسان بكونه مصليا بابتداء الخروج، ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم من خرج إلى الصلاة بكونه مصليا،
فكأنه يقول: ابتداء الصلاة كان عند الزوال.لا أنه عليه الصلاة والسلام صلى وخطب حين زالت الشمس، فليست دلالة حديث جابر رضي الله عنه دلالة صريحة،
والقاعدة في الأصول: إذا تعارض الصريح وغير الصريح قدم الصريح على غير الصريح.فإن حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس) يدل على أن صلاته عليه الصلاة والسلام وقعت عند ابتداء ميل الشمس، بمعنى أنه خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وابتداء صلاة الجمعة عند الزوال، ثم إن الأصل يؤكد هذا، خاصة أن الجمعة في حكم صلاة الظهر، ولذلك من فاتته الجمعة صلاها ظهرا بالإجماع،
وعلى هذا فإنه يقوى القول الذي يقول: إن الجمعة لا تصلى إلا بعد زوال الشمس.
قوله: [وآخره آخر وقت صلاة الظهر].
أي: آخر الجمعة آخر وقت صلاة الظهر، وذلك حين يصير ظل كل شيء مثله، فمن انتهى من صلاته قبل أن يصير ظل كل شيء مثله فإن صلاة جمعته مجزئة.ولكن اختلف العلماء لو أنه خطب وطول في خطبته، وأحرم بالصلاة بعد أن صار ظل كل شيء مثله، أو خطب وابتدأ الصلاة قبل أن يصير ظل كل شيء مثله، وفي أثناء الصلاة صار ظل كل شيء مثله، فخرج عليه الوقت أثناء الصلاة،
فمنهم من يقول: العبرة بخطبته.
ومنهم من يقول: العبرة بتكبيرة الإحرام.
ومنهم من يقول: العبرة بالركعة الأولى.وهو أقواها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف من أدرك الركعة بكونه مدركا للصلاة،
فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)، فأقوى الأقوال أن العبرة لركوعه في الركعة الأولى، فإن كبر لركوعه في الركعة الأولى قبل أن يصير ظل كل شيء مثله أجزأه، أما لو كبر للركوع في الركعة الأولى بعد أن صار ظل كل شيء مثله يتمها أربع ركعات، فيتمها ظهرا ولا يتمها جمعة.
قال رحمه الله تعالى: [فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوها ظهرا وإلا فجمعة].هذا -على ما ذكرناه- أحد أقوال العلماء، وهو أن العبرة بالتحريمة، والصحيح أن العبرة بالركعة الأولى على ظاهر النص، ولذلك يعتد بإدراك وقته بهذه الركعة، كما لو أدرك الإمام في الركعة الأولى فإنه يعتبر مدركا لصلاة الجمعة ويتم ركعة معها، وهذا يدل على أن العبرة بإدراك الركعة وليست العبرة بإدراك تكبيرة الإحرام.
[الشرط الثاني: حضور عدد معين]
يقول المصنف عليه رحمة الله: [الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها].يشترط لصحة صلاة الجمعة وجود عدد معين إذا وجد حكم باعتبارها، وإذا نقص هذا العدد فإنه عند من يقول باشتراطه لا يحكم بصحتها وانعقادها جمعة، وإنما يلزم هؤلاء الذين لم يكتمل عددهم بالنصاب المعتبر أن يصلوا ظهرا.
وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم: فقال بعض السلف: الجمعة تصح بواحد مع الإمام.وبه يقول أبو ثور والطبري رحمهما الله تعالى.
وقال آخرون: تصح باثنين.وبه يقول بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله تعالى.
وقال آخرون: تنعقد بثلاثة مع الإمام.وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، واختاره جمع من المحققين.
وقال بعضهم: إن وجود الثلاثين يغني، وهو قول بعض أصحاب الإمام مالك، ويروى عنه أيضا.
وقال بعضهم: أربعون، فإن نقصوا عن الأربعين بواحد فإنه لا تصح جمعتهم ولا يعتد بها، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.وهناك قول باعتبار اثني عشر رجلا.وهناك أقوال أخرى، وأوصلها بعض العلماء إلى خمسة عشر قولا في المسألة.وهذه الأقوال هي أشهر أقوال أهل العلم رحمهم الله، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صحيح يصرح بأن هناك عددا معينا إذا نقص لا يحكم بالاعتداد بالجمعة، وهذا هو الذي دعا العلماء رحمهم الله إلى أن يختلفوا.
فمن قال باشتراط الأربعين فإنما بنى ذلك على حديث أسعد بن زرارة رضي الله عنه، فإن كعب بن مالك -كما روى عنه ابنه عبد الرحمن، وثبت في الصحيح- كان إذا أذن المؤذن يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة، فذكر له عبد الرحمن ذلك،
فقال: إنه أول من جمع بنا في هزم المبيت في نقيع الخضمات.ونقيع الخضمات يقع في حرة بني بياضة، وقد جاء مصرحا به في سنن الدارقطني في حديث حسنه غير واحد من أهل العلم، وهذا الموضع تقريبا في جنوب غرب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الموضع الذي أقيمت فيه أول جمعة في المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للصحابة وجمعوا فيها،
فلما سئلوا: كم كنتم يومئذ؟
قالوا: أربعين رجلا.فدل هذا على أن الأربعين هي العدد المعتبر عند من يقول باشتراط الأربعين، وعلى هذا نص المصنف على أن العدد المعتبر لصحة الجمعة هو الأربعون.
والذين يقولون بأنها تصح بثلاثة احتجوا بحديث السنن،
وفيه: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان)، وهذا المذهب هو أقوى هذه المذاهب، وذلك أن الجمعة صلاة، وتسمى صلاة بإجماع العلماء، وتوصف بهذا الوصف الشرعي، فدل هذا على أن الثلاثة تنعقد بهم الجمعة، كما يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله، واختاره جمع من المحققين من الأئمة، وعلى هذا فإنه لو اجتمع ثلاثة من غير الإمام صحت جمعتهم وأجزأت.
ولكن لو قلنا باشتراط الأربعين فاجتمع تسعة وثلاثون فإن الجمعة لا تنعقد، ويلزمهم أن يصلوها ظهرا.
[الشرط الثالث: الاستيطان]
قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أن يكونوا بقرية مستوطنين، وتصح فيما قارب البنيان من الصحراء].المراد بهذا إخراج أهل العمود وأهل الخيام، كأهل البادية الذين يرتحلون طلبا للمرعى، فإنهم لا يستقرون ولا يحكم بكونهم مستوطنين، ولكن لو أن الناس كانوا بجوار المدن وفي حكم ما قارب المدينة فإنه يحكم بلزوم الجمعة عليهم إذا كانوا يسمعون النداء، وإلا فالأصل أنها لا تجب على أهل العمود والخيام كأهل البادية.
قوله: [وتصح فيما قارب البنيان من الصحراء].
أي: تصح الجمعة إذا وقعت في مكان قريب من البنيان،
وهذا مبني على القاعدة المعروفة: ما قارب الشيء أخذ حكمه.ووجه ذلك أن ما قارب البنيان محكوم بكونه في حكم المدينة، وعلى هذا فلو كانوا قريبين من البينان بينهم وبينه ميل أو أقل صح أن يجمعوا في هذا الموضع.أما الدليل على هذه المسألة فحديث الدارقطني الذي سبقت الإشارة إليه، وهو أن نقيع الخضمات -وهو أحد الأبقعة والأنقعة التي كانت في المدينة كبقيع الغرقد- كان قريبا من المدينة ولم يكن متصلا بالبنيان اتصالا مباشرا، فدل على أنه إذا وقعت الجمعة في مكان قريب من البنيان، ورأى الإمام أن الرفق بالناس أن يصلوا في هذا الموضع، وأنه أرفق بمن كان داخل المدينة وأرفق بمن كان يأتي من البادية، فجعل الجمعة في مكان قريب من البنيان،
فحينئذ نقول: الجمعة صحيحة.فاشتراطهم الاستيطان لا يفهم منه أن الجمعة لا تصح إلا داخل المدن، بل إنها لو وقعت قريبة من المدن فإنها تأخذ حكم ما لو وقعت داخل المدن، وهذا -كما قلنا- دلت عليه السنة في حديث أسعد بن زرارة رضي الله عنه، فإن نقيع الخضمان قريب من المدينة، وليس بداخلها.
وتوضيح ذلك أن بنيان المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يجاوز المسجد الحالي الموجود الآن، وقد يكون أقل منه بقليل، وكان إلى جنوب غرب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يقع مصلى العيد، وهو المعروف الآن بالغمامة، وبعد الغمامة بمسافة أبعد عن المسجد يقع بقيع أو نقيع الخضمات في حرة بني بياضة، وهو إلى الجنوب أكثر، فهذا الموضع يبعد أكثر من ميل وقليل، وهو يبعد عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فكونهم جمعوا في هذا الموضع البعيد عن البنيان بهذه المسافة التي هي ميل وزيادة يدل على أن ما قارب المدينة يأخذ حكمها، وأنه لا حرج في إقامة الجمع قريبة من البنيان.
[حكم النقص من عددها المشترط قبل تمامها]
قال رحمه الله تعالى: [فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهرا].
لو قلنا: يشترط في صحة الجمعة أن يحضرها أربعون رجلا.فحضر الأربعون ثم أحدث أحدهم وقام فإنه يكون عددهم تسعة وثلاثين رجلا،
أي: دون النصاب المعتبر، فحينئذ يستأنفونها ظهرا، فإن رجع وأرادوا أن يجمعوا فلا حرج عليهم في ذلك.فمراد المصنف أن اشتراط العدد مستصحب، فليس اشتراط الأربعين موقوفا على الابتداء.
وقال بعض العلماء: العبرة بالابتداء، فلو ابتدأ بهم وهم أربعون ثم نقصوا أثناء الخطبة عن الأربعين صحت الجمعة وأجزأت.واحتجوا لذلك بحديث التجارة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يخطب، وقدمت العير من الشام قاموا عن النبي عليه الصلاة والسلام وتفرقوا حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقطع خطبته ولم يستأنف جمعته ظهرا، فدل على أنه إذا ابتدأ الإمام الصلاة بالناس وهم على العدد المعتبر، ثم طرأ نقص بعد ذلك عن النصاب المعتبر فذلك لا يؤثر في الجمعة، ولا يلزمهم أن يستأنفوها ظهرا.وهذا المذهب قوي من جهة الدليل.وقد بينا أن العبرة في العدد بثلاثة للأصل الذي ذكرناه من حديث السنة.
[المعتبر في إدراك حكم الجمعة مع الإمام]
قال رحمه الله تعالى:
[ومن أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة].
الأصل أن من أدرك ركعة مع الإمام فقد أدرك الصلاة، وهذا كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)،
وكذلك قوله: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجدة، ومن أدركها فقد أدرك الصلاة)، فدل على أن من أدرك الإمام راكعا ولو في الركعة الأخيرة فهو مدرك للصلاة.وبناء على ذلك فالعبرة في إدراك الجمعة أن يدرك الإمام قبل أن يرفع من الركعة الأخيرة، فلو أدركه قبل أن يرفع من الركعة الأخيرة ولو بيسير وركع معه فإنه يضيف ركعة واحدة، أي أن صلاته صلاة جمعة، ولكن لو وقف فرفع الإمام قبل أن يكبر تكبيرة الإحرام فإنه يكبر مع الإمام، حتى إذا سلم الإمام أتمها ظهرا، وهذا هو أصح الأقوال من مذاهب السلف رحمة الله عليهم، ودليل السنة الذي ذكرناه واضح في الدلالة على أن من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة.
لكن هنا أمران: أحدهما: إدراك الحكم.
الآخر: إدراك الفضل.ففي الجمعة والجماعة يدرك الفضل ولو كان قبل تسليم الإمام بلحظة، فمن كبر قبل أن يسلم الإمام فقد أدرك الفضل، ولكنه إدراك نسبي يتفاوت الناس فيه على حسب الإدراك كمالا ونقصا، فإذا أدرك هذا القدر مع الإمام لا تصح جماعته ولا جمعته، ويعتبر مدركا للفضل،
ولذلك قال العلماء: إنه لو دخل الإنسان المسجد فوجدهم في آخر التشهد فالأفضل له أن يكبر معهم؛ لأنه إذا كبر معهم أدرك فضيلة الجماعة الأولى.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (فما أدركتم فصلوا)، فإن هذا النص فيه عموم،
أي: أي شيء أدركتمونا عليه فصلوه معنا.ولم يفرق بين القليل والكثير،
ولذلك قالوا: من أدرك الجماعة ولو قبل التسليم بلحظة فالأفضل أن يصلي معهم، ولا ينتظر إلى سلامهم ليحدث جماعة ثانية؛ فإنه لو أحدث الجماعة الثانية فقد أدرك جماعة في الفضل دون الجماعة الأولى،
وعلى هذا قالوا: الأفضل له أن يدرك الفضيلتين،
فيقول لمن بجواره: إذا سلم الإمام فائتم بي لأنه منفرد، فإذا كبر ودخل مع الإمام أدرك فضيلة الجماعة الأولى، ثم يكبر ويقوم إلى الركعة الأولى، وهو في حكم الجماعة المستأنفة مع الرجل الذي دخل معه.
وقد قال بعض العلماءفي حديث: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة)،
وفي رواية: (بسبع وعشرين): إن الخمس والعشرين هي أقل الفضائل لمن أدرك آخر الجماعة، كأن يدرك الإمام قبل أن يسلم، ورواية: (سبع وعشرين) لمن أدركها من ابتدائها، ويبقى الفضل فيما بينهما على حسب ما أدرك من الصلاة، سواء أكان في أولها أم آخرها، فهذا بالنسبة لإدراك الفضيلة.وأما إدراك الحكم فلا يحكم بكون الإنسان مدركا للصلاة إلا بركعة فأكثر، وعلى هذا فلو أدرك الإمام في الجمعة وهو راكع في الركعة الأخيرة فإنه قد أدرك الجمعة ويضيف ركعة واحدة، فإذا رفع الإمام من الركعة الأخيرة وأدركه بعد الرفع من الركوع فإنه مدرك لفضل الجمعة وليس بمدرك لحكمها، فيلزمه أن يتمها ظهرا، وإلا فليصلها نافلة إذا لم ينو الظهر، ثم يقيم ويصلي بعد ذلك الظهر، فهذا بالنسبة لمن أدرك الإمام بعد الرفع.
وتتفرع على هذا مسائل: منها: صلاة العيدين، فإن صلاة العيدين -إذا قيل: إنها تقضى- تقضى على الصفة إذا أدرك بعضها، ولا تقضى إذا لم يدرك شيئا منها، فلو أدرك المأموم الإمام قبل أن يرفع من الركعة الثانية من صلاة العيد -عيد الأضحى أو الفطر- فإنه يضيف ركعة يجعلها الثانية، ويكبر فيها خمسا على صفة الركعة الثانية في صلاة العيدين، لكن لو أدرك الإمام في صلاة العيد بعد رفعه من الركوع من الركعة الثانية فإنه يتمها نافلة،
وقال بعض السلف: إنه إذا فاته العيد فإنه يستأنفها أربعا كالجمعة.وعلى هذا فرق العلماء بين إدراك الفضل وبين إدراك الحكم، فإدراك الفضل يكون قبل السلام ولو بلحظة، وإدراك الحكم يشترط فيه أن يدرك الإمام قبل أن يرفع رأسه، وقبل أن يسمع من ركوعه.وهنا مسألة،
وهي: لو أنك دخلت المسجد فرأيت الإمام يريد أن يرفع، فتحرك الإمام للرفع فكبرت قبل أن يقول سمع الله لمن حمده.فإذا انتهيت من لفظ التكبير قبل أن يبدأ بالسين من التسميع فأنت مدرك للركوع.أما لو أنك شرعت في التكبير وقبل أن تنتهي من التكبير،
بأن قلت: (الله) وقبل أن تقول: (أكبر) قال: (سمع الله لمن حمده)، فحينئذ تكون غير مدرك للركوع، ويلزمك أن تتم ظهرا على الأصل الذي قررناه.
قال رحمه الله تعالى: [وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهرا إذا كان نوى الظهر].
أي: من أدرك الإمام بعد الرفع من الركوع في الركعة الثانية، أو في السجدة الأولى من الركعة الثانية، أو بينهما، أو بين السجدة الأولى والثانية، أو في الثانية، أو في التشهد، أو قبل السلام ولو بيسير أتمها ظهرا إن نوى الظهر، أما إذا لم ينو الظهر فإنه لا يتمها ظهرا وإنما يتمها نافلة؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فلا ينعقد ظهره الفرض إلا بنية، فإن نواه اعتد به، وإلا فلا.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجمعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (139)
صـــــ(1) إلى صــ(21)
[الشرط الرابع: تقدم الخطبتين]
قال رحمه الله تعالى: [ويشترط تقدم خطبتين، ومن شروط صحتهما حمد الله تعالى، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقراءة آية، والوصية بتقوى الله عز وجل، وحضور العدد المشترط].
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة مجردة عن الخطبة، وإليه ذهب جماهير العلماء،
وقال بعضهم: إنه كالإجماع.فلو صلى الناس الجمعة ركعتين جهريتين بدون خطبة لم تنعقد جمعة، فلا بد في صحة الجمعة أن تكون هناك خطبتان، فإذا وقعت الخطبتان فإنه حينئذ يصح لهم أن يجمعوا، بمعنى أن لهم أن يصلوا ركعتين تكونان تمام جمعتهم، أما لو صلوا الركعتين مجردتين عن الخطبتين فإنه لا يعتد بذلك، ولا يحكم بكونها جمعة معتبرة.
والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9]، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما صلى جمعة إلا وخطب فيها خطبتين،
كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين يجلس بينهما) أي: يفصل بينهما بالجلوس.
فالخطبتان لازمتان لصلاة الجمعة.
قوله: [ومن شروط صحتهما حمد الله، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم] أي: يشترط لصحة الخطبتين أن يستفتحهما بحمد الله.وهذا هو الأصل في ذكر الله عز وجل، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في مواعظه أنه كان يستفتحها بالحمد،
وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فيستفتح بحمد الله.وأما الصلاة على رسوله عليه الصلاة والسلام، فقد اشترطها بعض العلماء.والصحيح -كما هو مذهب المالكية والحنفية وطائفة من أصحاب الإمام أحمد والإمام الشافعي، وكاد يكون قول الجمهور- أنه لا تشترط الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لصحة الخطبتين، فلو أنه خطب الخطبتين مجردتين عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحكم ببطلان خطبته، بل إن خطبته صحيحة؛
لأن الله يقول: {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9]، وذكر الله يتحقق لو تجرد عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن مع هذا لا ينبغي على الإنسان أن يخطب دون أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [والوصية بتقوى الله عز وجل] أي: الشرط الثالث: الوصية بتقوى الله عز وجل.
بمعنى أن يقول: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل).
وإن جمع بين نفسه والناس وقال: (أوصيكم ونفسي بتقوى الله) فإنه لا حرج،
أو قال لهم: (اتقوا الله)،
أو قال: (آمركم بتقوى الله)، أو: (آمركم بما أمر الله به، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه)، فكل ذلك من الوصية بتقوى الله.فالوصية بتقوى الله تكون على ضربين: الضرب الأول: صريح اللفظ بالوصية،
كأن يقول: (اتقوا الله)، أو: (أوصيكم ونفسي بتقوى الله)، أو: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل).
الضرب الثاني: أن تكون الوصية بتقوى الله بالمعنى،
وذلك كأن يقول: (عباد الله: أوصيكم بفعل أوامر الله وترك نواهي الله، فإنها هي وصية الله عز وجل، وهي تقوى الله) أي: فعل الفرائض وترك المحارم، فكلاهما معتبر عند من يقول باشتراط الوصية بتقوى الله عز وجل.
وأما قراءة آية فإنه ثبت في الصحيح من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن في خطبة الجمعة)، وكذلك حديث الصحابية التي كانت تقول: (ما حفظت سورة (ق) إلا من فم النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة ما يرددها على المنبر)،
فقالوا: يقرأ آية، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات بما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم.وهذه الشروط مستنبطة، وهناك مذهب لبعض السلف أنه لا يشترط هذه الشروط بتفصيلها، وأنه لو ذكر الناس فأمرهم بأي أمر من أوامر الله، أو نهاهم عن أي نهي من نواهي الله، واشتملت خطبته على البشارة والنذارة أجزأه ذلك.وهذا هو الصحيح،
فلا تشترط هذه الأمور بأعيانها حتى لا يقال للإنسان لو صلى بالناس ولم يقل لهم: أوصيكم بتقوى الله: إن خطبتك باطلة.فهذا محل نظر، والصحيح أنه إذا ذكر الناس ووعظهم بأقل ما يصدق عليه أنه ذكر وموعظة فإنه يجزيه؛
لأن الله يقول: {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9] فأطلق، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقيد خطبته بشيء معين يلزم الناس به، وعلى هذا فإنه يجزيه أن يوقع الخطبة بما فيه أمر بما أمر الله به، وبما فيه نهي عن ما نهى الله عز وجل عنه، وما يصدق عليه أنه ذكر.
وقال بعض السلف: لو أنه ذكر بأي ذكر،
كقوله: (سبحان الله) فإنه يجزيه.وهو مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه.ولكن الأقوى والأشبه أن يكون الكلام مؤثرا بالدعوة إلى الخير، أو النهي عن الشر، فإن وقع ما يدل على الأمر بالخير أو النهي عن الشر أجزأه.لكن لو أن الإنسان حافظ على تلك الشروط حتى تكون خطبته على أتم الوجوه، ليدفع عن الناس الوسوسة والشك بالاعتداد بخطبته فإن هذا أفضل، خاصة وأنه يؤلف القلوب، ويدعوهم إلى حضور جمعته والتأثر بها، والعمل بما يدعوهم إليه من الخير.
قوله: [وحضور العدد المشترط].
أي: في الخطبة.وهذا على ما سبق بيانه،
وقال بعض العلماء: الشرط مستصحب.
وقال بعضهم: لو أنه أثناء الخطبة نقص العدد لعذر فإن الجمعة معتد بها، ولا يلزمهم أن يستأنفوها ظهرا.
[ما لا يشترط في الخطبة]
قال رحمه الله تعالى: [ولا تشترط لهما الطهارة، ولا أن يتولاها من يتولى الصلاة].هذا مذهب طائفة من العلماء، ويقول به أصحاب الإمام أحمد والشافعي.وقال بعض العلماء رحمهم الله تعالى -كما هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية-: تشترط لها الطهارة.وسامح بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة كمذهب الحنابلة.
والصحيح أنه تشترط لها الطهارة تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث لم يحفظ عنه أنه خطب الناس بدون طهارة، وعلى هذا فإنه لا ينبغي للخطيب أن يخطب الناس وهو على غير طهارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك،
وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فحيث حكمنا أن صلاة الجمعة لا يعتد بها إلا بالخطبة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا بطهارته، والصلاة متصلة بالخطبة، فإنه حينئذ لا بد من اشتراط الطهارة.ويقوي هذا أن الخطبتين في مذهب بعض العلماء رحمهم الله منزلة منزلة الركعتين الأوليين من الظهر، بدليل أنه لا يجوز فيهما الكلام، وبدليل أنه يلزم بالجلوس، حتى لو أنه حرك شيئا من الحصى فقد لغى، كأنه في حكم المصلي.والذين يقولون بعدم اشتراط الطهارة،
يقولون: لو أن الخطيب تكلم بكلام محرم خرج عن كونه خطيبا.وهذا كله يؤكد أنها أشبه بالعبادة،
وعلى ذلك فإنه تنبغي الطهارة تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وهو قد صلى الجمعة -خطبة وصلاة- متطهرا،
فمن قال: لا تشترط الطهارة يطالب بدليل يصرفنا عن هذا الأصل، ولا نحفظ دليلا يدل على الانصراف والخروج عن هذا الأصل، ولذلك لا ينبغي للإمام أن يعرض جمعة الناس للبطلان، بل عليه أن يحتاط وأن يصلي بهم وهو على أكمل ما تكون عليه الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر.
قوله: [ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة].
أي: لا يشترط أن يتولى الخطبة الأولى والثانية من يتولى الصلاة.فلو كان هناك رجل قوي في الخطبة، وهذا الرجل إذا خطب أثر في الناس، والثاني قارئ إذا قرأ انتفع الناس بقراءته،
فإنهم قالوا: نترك الخطيب يخطب، والقارئ يقرأ ويصلي بالناس، فيجوز أن يخطب رجل ثم يصلي رجل آخر، بل ويجوز أن يخطب الخطبة الأولى رجل، ويخطب الخطبة الثانية رجل، ويصلي بالناس رجل ثالث.
وفي النفس شيء من هذا؛ فإن صلاة الجمعة عبادة توقيفية وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن تكون بالصفة الواردة، لكن إن وجد عذر أن يتخلف الخطيب ويتقدم غيره فحينئذ يكون كحكم الاستخلاف في الصلاة، وهذا أصح الأقوال عند العلماء، ويختاره جمع من العلماء، كأصحاب الإمام الشافعي، والإمام مالك، وغيرهم رحمة الله على الجميع، فلابد أن تكون صورة الجمعة على ما حفظ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
أما أن يخطب شخص ويصلي بالناس آخر دون وجود حاجة فلا، وبناء على ذلك فإنه لا يوسع في مثل هذا؛ لأنه يخرج الناس عن صورة السنة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمعته، ويبقى على الصفة التي أدى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة،
ونقول: إن وجد العذر ووجدت الحاجة -كأن يكون هناك أمر طرأ على الإمام يوجب خروجه كمرض ونحو ذلك- فلا حرج عليه أن يستخلف غيره، وهكذا لو ضاق به حصر أو نحو ذلك فقدم غيره ليكمل الخطبة، أو ليصلي بالناس، فهذا أصل مقرر لوجود العذر والضرورة، فالأصل في العبادات أن تكون توقيفية على الصورة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[سنن الخطبة]
قال رحمه الله تعالى: [ومن سننهما: أن يخطب على منبر أو موضع عال، ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم، ثم يجلس إلى فراغ الأذان، ويجلس بين الخطبتين، ويخطب قائما، ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا، ويقصد تلقاء وجهه، ويقصر الخطبة، ويدعو للمسلمين].
قوله: [ومن سننهما] أي: من سنن خطبة الجمعة الأولى والثانية [أن يخطب على موضع عال].
والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: (أنا أعلمكم بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة منا -أي: من الأنصار-: مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس.
قال: فصنعها)، فشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قام عليه.فهذا الحديث فيه قصة المنبر،
والمنبر: من النبر،
وأصله: ارتفاع الصوت.
قالوا: إن المنبر إنما شرع من أجل أن يبلغ صوته.والسبب في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس، وكان المسلمون في المدينة قليلين حينما كانت محصورة على أهلها والمهاجرين الذين هاجروا معه، فلما فتحت مكة وقدم الناس والوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر الناس في المدينة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمنبر لأجل أن يبلغ صوته في خطبته صلوات الله وسلامه عليه، فصنع هذا المنبر من ثلاث درجات، ثم خطب عليه صلى الله عليه وسلم، فصارت سنة أن يخطب الإمام على منبر، فإن تيسير وجود المنبر فبها ونعمت، وإن لم يتيسر فإنه يخطب على شيء عال، كأن تكون هناك صخرة يقف عليها، أو يكون هناك درج عال من الخشب، أو وعاء من الحديد عال، فالمهم نشز على الأرض عال يقف عليه، ولو كانوا في البر فوقف على هضبة أو ربوة فخطب عليها فلا حرج، والسبب في هذا أنه إذا علا فإن ذلك أدعى لسماعهم صوته وانتفاعهم بموعظته وخطبته.
قوله: [ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم].
هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، فمذهبهم أن السنة إذا رقى الخطيب المنبر والتفت بوجهه إلى الناس أن يسلم عليهم.
وقال بعض السلف: يسلم عند دخوله للمسجد، فإن سلم عند دخوله للمسجد لم يحتج أن يعيد السلام على المنبر.ولكن المحفوظ من فعله عليه الصلاة والسلام وفعل أبي بكر وعمر وعثمان السلام عليهم على المنبر، فالروايات تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم كان إذا رقى المنبر وأقبل على الناس سلم صلوات الله وسلامه عليه.وقد روى أبو النجاد أن أبا بكر وعمر كانا يفعلون ذلك.وفي رواية منفردة عن عثمان، أنه فعل ذلك، كل ذلك يؤكد على أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده السلام بعد رقي المنبر إذا أقبل على الناس.
قوله: [ثم يجلس إلى فراغ الأذان، ويجلس بين الخطبتين].
أي: إذا سلم جلس حتى يفرغ المؤذن من أذانه، ويردد معه، وبعد الفراغ من الأذان يقول الدعاء المشروع، ثم يبتدئ بخطبته، فهذا هو المسنون والمشروع لظاهر النصوص،
كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)، هذا يدل على أن السنة أن يسكت أثناء الأذان.وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا سلم على الناس وأذن المؤذن أخذ الصحابة يكلم بعضهم بعضا، فإذا ابتدأ عمر خطبته قطعوا الكلام وامتنعوا عن الحديث.
قوله: [ويجلس بين الخطبتين].
هذا كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وغيره أنه: (كان عليه الصلاة والسلام يفصل بين الخطبة الأولى والثانية بالجلوس)، وهذا الجلوس يسير، وضبطه بعض العلماء بقدر ما تحصل به الطمأنينة.
وقال بعضهم: يقارب قراءة سورة الإخلاص،
أي: بقدرها من الزمان اليسير.والصحيح أنه لا يتقيد بهذا، وإنما يكون بأقل ما تحصل به الطمأنينة، فلو جلس جلسة خفيفة تحصل بها الطمأنينة فإنه حينئذ يعتد بجلوسه، ولا يصل الخطبتين ببعضهما.وهنا مسألة، وهي أنه إذا كان يجوز للإنسان أن يخطب جالسا لوجود عذر كمرض ونحوه، فخطب جالسا الخطبة الأولى فإن كيفية فصله بين الخطبة الثانية والأولى- كما قالوا- أن يسكت هنيهة بقدر جلوسه بين الخطبتين، فإذا سكت بين الخطبة الأولى والثانية كان سكوته بمثابة الجلوس.
قوله: [ويخطب قائما].
ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه خطب قائما)، ولذلك قبح الصحابة رضوان الله عليهم وشنعوا على من خطب جالسا، كما أثر عنهم رضي الله عنهم وأرضاهم،
ولما دخل بعض الصحابة على بعض أهل البدع وهو يخطب جالسا قال: انظروا إلى هذا الخبيث.وذلك لأنه تمرد على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من باب غيرتهم على سنته صلى الله عليه وسلم، خاصة وأن الخطبة ينبغي أن تكون على صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في صفته وحاله، وهذا يؤكد ما ذكرناه، بدليل أن الصحابة كانوا يشنعون على كل من خالفه،
ولما رؤي مروان بن الحكم وهو يرفع يديه قال الصحابي: (تبا لها من يدين قصيرتين، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد على الإشارة)، أي: ما كان يرفع يديه على المنبر في الدعاء إلا في الاستسقاء.
فقوله: [ويخطب قائما] لأنه أبلغ في الهيبة، وأبلغ في التأثير، وأكثر نفعا للناس، وذلك برؤيتهم الخطيب، خاصة إذا رآه المستمع وهو ينفعل في كلامه ويتأثر بما يقول، فإن ذلك أدعى لحصول الموعظة في القلوب وتأثرها بها، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يخطب قائما، وإذا خطب رفع صوته واشتد غضبه، وهذه هي السنة، فلابد أن يكون في الخطيب في هيئته وصورته ومنظره ما يدل على هيبته لذلك المقام، وهو مقام الوعظ والتذكير بالله سبحانه وتعالى، وهو أشرف المقامات وأحبها إلى سبحانه وتعالى، وهو مقام الدعوة إلى الله عز وجل، فكان عليه الصلاة والسلام إذا خطب -كما في حديث جابر - تحمر عيناه، وتنتفخ أوداجه -أي: عروق رقبته عليه الصلاة والسلام-، ويشتد غضبه،
ويعلو صوته كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم،
قال العلماء: لأنه إذا خطب بهذه الصفة شعر الناس بهيبة الكلام الذي يقوله، أما لو خطب ببرود وخمول وبصوت ضعيف فإن الناس لا تتأثر ولا تتفاعل مع كلامه، ولا تحسب بأن هذا الكلام يخرج من إنسان يتأثر به، فإذا كان الخطيب يتأثر بالكلام الذي يقول، وكانت كلماته خارجة بوقع بليغ يدل على تأثره بالكلمات التي يلقيها على الناس، فإن الناس يستجيبون لذلك، ثم إن صورته من شدة الغضب وتغير وجهه تدعو الناس إلى دفع السآمة والملل والنوم، والإقبال عليه، حتى إنهم يشفقون عليه في حاله، ويحسون حينئذ أنه يتكلم عن أمر عظيم، وهذا أدعى إلى هيبة الشرع، بخلاف ما إذا تكلم الإنسان ببرود وبطمأنينة وهدوء، فإن الناس ربما ناموا وربما تكاسلوا وانشغلوا، ولكنه إذا تفاعل مع خطبته كان الأثر أبلغ، وهذا الشيء مجرب، ولذلك حمدت طريقة الإلقاء على طريقة الخطبة من الورقة، فإنه إذا خطب بالإلقاء تفاعلت الناس برؤيته وأحسوا أنه يتفاعل مع الكلام الذي يقول، بخلاف ما إذا كان يخطب من ورقة، وهذا الذي جعل بعض العلماء يستحب أن يكون الإلقاء مباشرة تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك المقصود منه أن يكون الأثر أبلغ في النفوس، حتى يعظم الناس شأن الخطبة وشأن المنبر، ويحس الناس بهيبة المنبر، أما لو علا المنبر ضعيف النفس ضعيف الإلقاء والتحضير فإنه لا يبلغ أثره في القلوب بموعظته، وترى الناس تستهين بالمنبر، وربما يصل إليه من ليس بأهل فلا يحصل المقصود من تأثير الناس في المواعظ والخطب، ويكون هذا مخالفا لمقصود الشرع ومراده.
قوله: [ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا] فيه حديث اختلف العلماء في سنده، وحسنه الحافظ ابن حجر رحمه الله في اعتماده عليه الصلاة والسلام على العصا.ولذلك لا ينكر على أحد اعتمد على عصا، ودرج على ذلك العلماء رحمة الله عليهم، ولكن لو خطب بدون عصا فإنهم يقولون: لا حرج عليه ولا ينكر عليه.وبعض العلماء يرى أنه ما دام الحديث مختلفا فيه فإنه يخطب بدون عصا.
قوله: [ويقصد تلقاء وجهه].
أي: إذا خطب الخطيب لا يلتفت يمنة ولا يسرة؛ لأنه إذا التفت يمينا ظلم أهل اليسار؛ لأن صوته يعزب عنهم، وإذا التفت يسارا ظلم أهل اليمين؛ لأن صوته يعزب عنهم،
ولذلك قالوا: يقصد تلقاء وجهه.
أي: يجعل وجهه إلى الأمام، فلا يلتفت يمينا ولا شمالا.وفي هذه المسألة دليل خفي أشار إليه بعض المحققين، كالإمام الحافظ ابن الملقن رحمه الله، فقد أشار إليه في حديث أنس في الصحيحين، وهذا يدل على عمق فهمه رحمة الله عليه، وذلك أنه ذكر أن الأعرابي -كما في الرواية الصحيحة- لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة التي استسقى فيها، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستسقي للناس، دخل من باب عمر)،
وكان يسمى: باب القضاء، وهي دار كانت لـ عمر بيعت وصارت دار قضاء، وهذا الباب كان في الجهة الغربية إلى الشمالية من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل منه هذا الأعرابي.
قال أنس: (فمضى حتى صار تلقاء وجه النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبله).ووجه الدلالة في انتزاع هذا الحكم -كما قالوا- أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتفت في خطبته لما احتاج الأعرابي أن يتكلف المسير من الجهة الغريبة حتى ينتصف المسجد ويأتي تلقاء وجهه،
فقالوا: دل هذا على أنه كان إذا خطب قصد تلقاء وجهه عليه الصلاة والسلام.واستثنى بعض العلماء الدروس وأثناء المجالس العامة،
فقالوا: إنه إذا خشي على الناس أن ينام بعضهم، أو يحصل له ما يدعوه إلى السآمة والملل فلا حرج أن يلتفت، خاصة عند تقرير المسائل وضبطها، أما في الخطب فالسنة أن يقصد تلقاء وجهه، ولا يلتفت يمينا ولا شمالا،
وقالوا: هذا كله أدعى لهيبة الخطيب ولإقبا
الأسئلة
[حكم إلقاء خطبة الجمعة بغير العربية]
q هل هناك حرج لو كانت الخطبة بلغة غير عربية لكي يفهمها المصلون؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد: فاختلف العلماء رحمهم الله في صحة خطبة الجمعة بغير العربية على قولين مشهورين، والصحيح أنه يبتدئ الخطبة والموعظة بالكلام العربي حتى يحصل القدر المعتبر لصحتها، ثم بعد ذلك يخطب بلغة القوم ولا حرج عليه حينئذ، أما لو تمحضت بالأعجمية، فإن في صحتها نظرا، ولذلك لا بد من ورودها على الوجه الذي ذكرنا، فيخطب بالعربية على القدر المجزي بما فيه بشارة ونذارة، ثم بعد ذلك شأنه بالقوم يعظهم ويذكرهم.والله تعالى أعلم.
[حكم الكلام أثناء خطبة الجمعة ومدى تأثيره على الصلاة]
q إذا كان لا يجوز الكلام أثناء الخطبة، فهل معنى ذلك أن من تكلم بطلت جمعته ولا أجر له؟ وهل يؤثر ذلك على صحة صلاته؟a إن تكلم أثناء الجمعة فإن جمعته صحيحة ولكنه ينقص في الأجر، ويكون كلامه من اللغو الذي يوجب نقصان أجره في الجمعة، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا جمعة له) أي: لا جمعة كاملة.والله تعالى أعلم.
[الجمع بين السعي المذكور في آية الجمعة والمشي بالسكينة المذكور في الحديث]
qكيف نجمع بين قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة)؟
a قوله سبحانه وتعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9] أي: امضوا إلى ذكر الله، وليس المراد به السعي الذي هو الاشتداد في السير، وأخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة دليلا على أنه يجوز السعي عند إقامة الصلاة، والصحيح أن ذلك خلاف السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)، فدل نهيه عليه الصلاة والسلام عن السعي عند المضي إلى الصلاة على أنه لا ينبغي من المكلف هذا الضرب من السير، وهذا اللفظ في الحديث عام شامل لصلاة الجمعة وغيرها، وتكون الآية: (فاسعوا إلى ذكر الله) المراد بها مطلق السعي الذي هو المضي، كما تقول: سعيت إلى المسجد، بمعنى: مضيت إليه، ويؤكد ذلك قراءة ابن مسعود: (فامضوا إلى ذكر الله)، والقراءة تفسر قراءة، وعلى هذا يكون السعي هنا في الآية الكريمة ليس على ظاهره، ولا يعارض منصوص السنة.والله تعالى أعلم.
[حكم الالتزام بخطبة الحاجة في خطبة الجمعة]
qهل يسن بدء الخطبة يوم الجمعة بخطبة الحاجة؟
aأما خطبة الحاجة فقد جاءت عنه عليه الصلاة والسلام وهي مطلقة، وأما بالنسبة لخطبة الجمعة فالأمر فيها واسع، وهكذا مجالس الذكر والمحاضرات والندوات، وأما الالتزام والتقيد بخطبة الحاجة إلى حد أن الإنسان لا يكتب رسالة ولا كتابا، ولا يخطب، ولا يحاضر، ولا يتكلم إلا ويستفتح بخطبة الحاجة، فهذا التقيد الزائد عن الحد لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالثابت في الأحاديث الصحيحة (حمد الله وأثنى عليه)، وهذا فيه حديث عائشة في الصحيحين، وحديث جابر في صحيح مسلم، وكلها بلفظ: (حمد الله وأثنى عليه)، فلم يتقيد بلفظ معين، ولو كان تعتد لقال: (خطب خطبة الحاجة) ولذلك السنة أن ينوع، وانظر إلى كتب الأئمة والسلف ودواوين العلم، فإنك لن تجد أحدا صدر كتابه بخطبة الحاجة، فالالتزام بها والتقيد يشعر بأنها واجبة، حتى إن بعض طلاب العلم ربما أنكروا على الخطيب، أو على المحاضر، أو على المدرس، أو على الواعظ إذا استفتح موعظته أو خطبته بغير خطبة الحاجة، أو استفتح كتابه بغير خطبة الحاجة، وهذا محل نظر، وحديث خطبة الحاجة يدل على فضل هذه الخطبة، ولكن لا يتقيد بها حيث يشعر أو يظن الناس كأنها واجبة لاستفتاح الذكر.والله تعالى أعلم.
[حكم تقديم الحافظ للصلاة بالناس يوم الجمعة على الخطيب غير الحافظ]
qإذا خطب الإمام الخطبة وكان في القوم من هو أقرأ منه، وهل يقدمه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليؤمكم أقرؤكم لكتاب الله)؟
a لا يقدمه؛ لأن صلاة الجمعة متصلة بخطبتها، وبناء على ذلك يسير على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن خطب بالناس صلى بهم، وعلى هذا فإننا نقول: يغتفر هذا اليسير، وخاصة إذا كان إماما راتبا فإنه: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، وإن كان على عمومه، فلا حرج أن يتقدم ولو كان هناك من هو أقرأ منه، ما دام أنه أقدر على الموعظة والتأثير على الناس، قال العلماء: المهم في صلاة الجمعة يوم الجمعة الخطبة، ولذلك لا يلي الجمعة القارئ، بمعنى أنه لو كان قارئا لا يحسن الخطبة ولا يحسن توجيه الناس فإنه يقدم من يحسن توجيه الناس على القارئ؛ لأن مقصود الجمعة يوم الجمعة التذكير والخطبة، ولذلك أمر الناس بالسعي إليها ونهوا عن الكلام أثناء خطبة الخطيب، وكل ذلك تعظيم لشأن الخطبة، الأمر الذي يدل على أن الشرع قصدها، وعلى هذا فإنه إن كان خطيبا مؤثرا وكلامه نافعا، أو كان فقيها عالما ولكنه دون غيره في القراءة فإنه أولى، والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من ولي الخطبة يلي الصلاة.والله تعالى أعلم.
[حكم الاحتباء يوم الجمعة بالحبل أو باليدين]
q هل النهي عن الاحتباء أثناء الخطبة يختص بمن كانت معه حبوته -أي: الحبل الذي يحتبي به- أم أنه إذا جمع رجليه بيديه يقع في النهي؟
a النهي عن الاحتباء فيه حديث تكلم العلماء رحمهم على سنده، وقال من يقول به: إن النهي عن الاحتباء لعلتين: العلة الأولى: خوف النوم، وذلك أنه إذا احتبى لم يأمن أن يسترسل في نومه، ثم بعد ذلك ينتقض وضوءه فتبطل صلاته، وكذلك ينشغل عن ذكر الله وعن الموعظة التي ينبغي أن يستمع إليها ويتأثر بها.العلة الثانية: أنه إذا احتبى انكشفت عورته، وذلك لأن الناس كانوا يأتزرون، والاحتباء مع الائتزار لا يمنع من كشف العورة في كثير من الأحوال والصور، ولذلك قالوا: إنه يبقى النهي على عمومه، سواء، أكانت معه الحبوة أم لم تكن معه.أما الذين يفرقون بين وجودها وعدمها فقالوا: إن كانت معه حبوته -كأن يكون معه القماش الذي يدار، أو يلف غطاء رأسه عليه ويعقده، أو يأتي بحزام ثم يجمع بالحزام ركبتيه إلى صدره- فإنها تعينه على النوم، فلا يحتبي بها، أما لو لم تكن معه حبوته وإنما احتبى بيديه، فإنه إذا نام سقط واستيقظ، ففرقوا بين أن تكون معه حبوته وبين ألا تكون معه، وهذا راجع إلى العلة؛ لأنهم لما نظروا أن العلة هي النوم قالوا: إذا كانت معه حبوته يسترسل وينام ولا يشعر، ولكن إذا لم تكن معه حبوته فإنه يجمع بيديه، فإذا نام انفكت يديه فيستيقظ.ففرقوا بين أن تكون معه الحبوة أولا تكون معه، ولكن ظاهر السنة العموم، ولذلك يكون تخصيص هذا العموم من جهة علته، والتخصيص من جهة العلة إن قويت قوي وإن ضعفت ضعف.والذي يظهر والله أعلم -عند من يقول باعتبار هذا الحديث- أن النهي على العموم أولى، وعلى ذلك يشمل من جمع بحبوة أو جمع بيديه فقط.والله تعالى أعلم.
[الواجب على الخطيب إذا نسي الخطبة الثانية]
qإذا نسي الخطيب الخطبة الثانية، ونزل من المنبر، وأقيمت الصلاة، فهل يجوز أن يرجع؟ وما الحكم لو صلى ولم يؤد الخطبة الثانية؟
a سئل بعض العلماء عن هذه المسألة فقال: من أغرب ما رأيت أن تكون الأمة كلها نائمة، ولا أحد ينبه الخطيب، حتى أثناء إقامة الصلاة، فهي أشبه بقولهم: (إذا لم تغرب الشمس).
ولذلك لا يرون أن هذه المسألة لها حقيقة ووجود.وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: فبعض العلماء يرى أن الخطبتين قائمتان مقام الركعتين الأوليين من الظهر، وبناء على ذلك لا يصح أن يخطب خطبة واحدة وينزل ويصلي، ويلزمه حينئذ أن يعيد الجمعة إذا صلى.وبعضهم يقول: يرجع ويخطب الخطبة الثانية، ثم يقيم للصلاة ويصلي، فحينئذ يصح بناؤه.وهذا أقوى في الاعتداد بصلاته، وسقوط الشبهة في الاعتداد بها.والله تعالى أعلم.
[حكم الصلاة على النبي أثناء الخطبة والجهر بها]
q هل يحوز للمأمومين أن يؤمنوا إذا دعا الإمام، أو يجهروا بالصلاة إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون ذلك في أنفسهم بقاء على الصمت وعدم الكلام؟
a أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال بعض العلماء: إذا صلى يصلي جهرا، ولا حرج عليه؛ لحديث: (رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقل: آمين، فقلت: آمين)، فقالوا: يصلي عليه لأنه مأمور بالصلاة عليه عليه الصلاة والسلام عند ذكره، فقالوا: هذا واجب، فيجب عليه، ولا حرج أن يفعل هذا.وقال جمهور العلماء: يصلي في نفسه.وهو أقوى، وحينئذ يكون أمره عليه الصلاة والسلام دليلا على سقوط الصلاة عنه، وهو قوله: (إذا قلت لصاحبك -والإمام يخطب- أنصت فقد لغوت)، فتأمل هذا الحديث، فإنه يخاطب صاحبه ويقول: أنصت.وهذا أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وهو واجب، ومع ذلك قال: (فقد لغوت)، فدل على أنه لا يتكلم ولو كانت الصلاة واجبة، وهذا يدل على عظم شأن الخطبة، وأنه ينبغي الإنصات لها والتأثر بها، وكذلك أيضا عقد العزم على العمل بما فيها من الخير.والله تعالى أعلم.
[حكم رفع اليدين بين الخطبتين والدعاء]
q هل يجوز رفع اليدين بين الخطبتين والدعاء؟
a رفع اليدين بالدعاء بين الخطبتين قول طائفة من العلماء، وأنه مما يتحرى لإجابة الدعوة، أي أنه مما يظن أن فيه الساعة التي هي ساعة الجمعة، ولذلك يدعو فيها، ولكن رفع اليدين بقصد القربة يعتبر من الحدث، أما لو أنه دعا دعوة مطلقة فلا حرج عليه في ذلك، أو لم يتخذ ذلك ديمة ولم يعتقد فيه فضلا فلا حرج عليه؛ لمطلق الأحاديث في جواز رفع اليدين في الدعاء، والوقت الذي بين الخطبة الأولى والخطبة الثانية يشرع فيه الكلام، ويشرع فيه الفعل، وهذا دل عليه الحديث في صحيح البخاري أن الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عمر رضي الله عنه وأرضاه.والله تعالى أعلم.
[مواضيع يستحب الحديث عنها في خطبة الجمعة والتذكير بها]
q ما المواضيع التي ينبغي أن يعتني الأئمة بها في خطبة الجمعة؟ وهل كان من هدي السلف تفقيه الناس ما يجهلونه من الأحكام في خطبة الجمعة، أم يقتصر على الوعظ والإرشاد؟
a أما ظاهر القرآن فخطبة الجمعة دعوة إلى ذكر الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9]، ومعنى هذه الآية الكريمة: أن الناس أحوج ما يكونون في خطبة الجمعة إلى من يذكرهم بالله عز وجل، ويذكرهم بوعده ووعيده، وتخويفه وتهديده، وجنته وناره، وبشارته ونذارته، وما عنده من الخير، وما عنده من الشر، وأن الخير لمن أطاعه والشر لمن عصاه، فتذكير الناس بذلك هو المقصود، وإذا وفق الخطيب لأن يمس شغاف قلوب الناس بتذكيرهم بوعد الله عز وجل، وما أعد للأخيار من جنته ودار كرامته، وكذلك تخويفهم وتهديدهم من وعيده، وما أعده للأشرار من ناره وعقوبته، فخرج الناس من الخطبة وقد بلغتهم الموعظة، وهم على الرجاء والخوف في قلوبهم، فإن ذلك أدعى لصلاح أمورهم كلها.فلو أن خطيبا تكلم بموعظة عن الآخرة، فإنه سيتأثر بها صغير الناس وكبيرهم، وعالمهم وجاهلهم، وسفيههم ورشيدهم، وسيصبح التأثر على جميع طبقات من حضر من أفاضل المجتمع، فإذا خرجوا لسلوكهم وتصرفاتهم، وخرجت هذه الموعظة معهم؛ لأنها لا تتقيد بزمان، ولا تتقيد بمكان، ولا تتقيد بحدث، ولا تتقيد بشيء معين، فلو خرج الواحد منهم من المسجد فرأى عورة من عورات المسلمين قال: أستغفر الله.فغض بصره، ولو سمع أمرا محرما.قال: أستغفر الله.لأن الجنة والنار جعلت أمام عينيه، ولذلك ينبغي التركيز على تبشير الناس بما عند الله تعالى، وتخويفهم مما عند الله، فإن هذا يدعوهم إلى صلاح جميع أمورهم، وقد قالت أم المؤمنين: (كان أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة والنار).فالناس إذا خافت ورجت ما عند الله تركت زمام أمورها لمن خوفها بالله عز وجل وبشرها بما عنده؛ لأن الخوف والرجاء مظنة السلامة، كما قال الله تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه} [الزمر:9]، وقال عن عباده الأخيار: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا} [السجدة:16]، فجمع لهم بين الخوف والطمع، وبناء على ذلك فإن المقصود من الخطبة أن يمس الإنسان شغاف قلوب الناس حتى يكونوا مطيعين لله سبحانه وتعالى، فيفعلون أوامره ويجتنبون نواهيه، ويخرج كل إنسان إن كان أخطأ في أمور دنيوية لكي يصحح هذه الأمور الدنيوية على وفق شرع الله، وإن كان في أمور دينية اتقى الله عز وجل فيها فلزم السنة وترك البدعة والتزم الجماعة، وسار على نهج الكتاب والسنة.فهذا بالنسبة لأفضل ما يكون من ذكر الله عز وجل، فإذا ذكر بهذا التذكير، وكانت الخطبة قائمة على الإيمان بالله وقواعد الإيمان به المدعمة بالأدلة الصحيحة الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم انتفع الناس على اختلاف طبقاتهم.أما بالنسبة لما يلي ذلك من الأحكام والأمور التي لها مساس بالفقه والمعاملات فهذا بقدر حاجة الناس، فإذا رأى الناس يحتاجون إلى تفقيههم في العبادات فعل، كمواسم الحج، فإنه يذكرهم ببعض الأمور المهمة في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يذكرهم بالمعاملات المحرمة، وكيف يتبايعون، وما الذي يحرم عليهم، خاصة إذا عمت البلوى في بعض المعاملات المحرمة، فإنه يخطب فيها خطبة يبين للناس حرمة هذا النوع من التعامل؛ لأن هذا من التذكير بالله عز وجل.وكذلك يذكرهم بأمور المسلمين وما يتربص به أعداؤهم من الكيد والأذية لهم، من تشتيت كلمتهم وتفريق صفوفهم، والنيل من ديانتهم وقربهم من الله عز وجل، فهذا أمر مهم ومطلوب.فلابد للخطيب أن يكون عنده تنويع في مثل هذه الأمور، أما المبالغة في الأشياء، بمعنى أن الإنسان يبالغ في جانب معين، فيأتي الناس إليه خطبته في أشياء معينة يدور فيها، ويحيا ويموت عليها، وكأن الإسلام حصر فيها، فهذا من الغلو، فكونه ينحصر في هذه الجوانب، أو يرى العناية بواقع المسلمين ومشاكلهم فيحقر من يذكر الناس بالجنة والنار، فهذا ليس من السنة في شيء، فهو أقرب إلى البدعة منه إلى السنة؛ لأنه غلا في دين الله عز وجل، وعد أن العناية بواقع المسلمين ومشاكلهم هو الإسلام كله، وهذا ليس بصحيح، بل إن الناس يحتاجون إلى عناية؛ لأن صلاح الناس يبتدئ من الناس أنفسهم، فإذا صلح الفرد صلح المجتمع، وهذا الذي أمامك إن أصلحه الله بموعظتك وتذكيرك فإنه أدعى إلى أن يخرج إلى بيته وإلى زوجه وإلى إخوانه وأخواته فيؤثر فيهم.فكون الإنسان يعتني بالإسلام عموما، ولا ينحصر في جانب معين، هو أقرب إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجمعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (140)
صـــــ(1) إلى صــ(22)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجمعة [3]
من الأحكام المتعلقة بصلاة الجمعة: أن صلاتها تكون ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، ويسن أن يقرأ في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقون، ومنها: حكم إقامة أكثر من جمعة في البلد الواحد، ومقدار السنة التي تصلى قبل الجمعة وبعدها.
وللجمعة سنن ينبغي مراعاتها والمحافظة عليها، ومنها: الاغتسال، والتطيب، وليس أحسن الثياب، والتبكير، والدنو من الإمام، وقراءة سورة الكهف، والإكثار من الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
أحكام صلاة الجمعة
[عدد ركعاتها، والسنة فيما يقرأ فيها]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: الجمعة ركعتان].أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن الجمعة ركعتان، وهي هدي النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الأحاديث الصحيحة، ركعتان يجهر فيهما بالقراءة.
قال رحمه الله تعالى: [يسن أن يقرأ جهرا في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقين].
قوله: (يسن) أي: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله أنه قرأ في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقون، أما اختيار الجمعة فالمناسبة في ذلك أنه يوم الجمعة، ولذلك إذا قرأها ختمها بأمرهم بما يدل على أهمية شهود صلاة الجمعة؛ لأن الله ختمها بالأمر بحضور صلاة الجمعة وشهودها والنهي عن التخلف عنها، وأما سورة المنافقون؛ فلأنها تشتمل على صفاتهم المذمومة التي حذر الله منها عباده المؤمنين، فيكون ذلك أدعى إلى دعوة الناس إلى الإخلاص وترك الرياء وصفات المنافقين التي لا يحبها الله عز وجل، فذكر صفات أهل النفاق فيه قرع للقلوب، وتذكير لها وتحذير لها من سلوك هذا السبيل الذي سمى الله أهله، ونفر العباد من اتباعه.
[التفصيل في حكم إقامة الجمعة في أكثر من موضع من البلد]
قال رحمه الله تعالى: [وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة].والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده لم يجمعوا أكثر من جمعة واحدة، وكان أهل قباء على أميال من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجدهم له الفضل والمكانة، ومع ذلك لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمعوا، وهذا يدل على أنه لا تشرع أكثر من جمعة في المدينة الواحدة، فإن وجدت الحاجة كاتساع العمران كما هو موجود الآن، وأصبح الناس في مشقة أن يشهدوا الجمعة في مسجد واحد فيجوز التعدد بقدر الحاجة.وأول تعدد للجمعة وقع في بغداد في عهد بني العباس، وذلك في عصر هارون الرشيد رحمه الله، فإنه ازدحم الناس على جسر دجلة، وشهد أهل جانب بغداد الشرقي الجمعة فكانوا يزدحمون على الجسر، فربما سقطوا بدوابهم في النهر وغرقوا وماتوا، ولربما مات الضعفاء من النساء والأطفال ونحوهم، فاسترخص الناس في أن يقيموا الجمعة في الشط الثاني من بغداد، فأذن لهم ورخص لهم القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، وهي أول مسألة حصل فيها تعدد الجمعة كما يذكر العلماء رحمة الله عليهم، ولما أفتاهم أن يجمعوا أمرهم أن يعيدوها ظهرا احتياطا.
قال رحمه الله تعالى: [فإن فعلوا، فالصحيحة ما باشرها الإمام أو أذن فيها].
قوله: [فإن فعلوا] أي: عددوا من دون حاجة فهم آثمون، كأن تكون هناك جمعة في حي وهناك حي قريب منه،
فيقول أهل الحي القريب: لو أننا أحدثنا جمعة في حينا، ولا حاجة أن نذهب إلى الحي الثاني.فإحداثهم للجمعة محرم إذا لم توجد حاجة وضرورة، فحينئذ إذا أحدثوها أثموا.فإن صلوا فهل العبرة بالجمعة القديمة، أم العبرة بالجمعة الحديثة، أم العبرة بالجمعتين وكلتاهما صحيحة؟
هذا فيه تفصيل بين العلماء: فبعض العلماء يقول: العبرة عندي بأول الجمعتين، فأول الجمعتين وقعت هي المجزئة، فلو أن المسجد الحديث بكر وصلى الجمعة قبل فجمعته هي المعتد بها وهي المعتبرة، ولا ينظر إلى قديم ولا إلى جديد وهذا يقول به بعض أصحاب الشافعي رحمه الله.
القول الثاني: العبرة بالمسجد القديم، وهو قول الجمهور، كما ينص عليه أصحاب الإمام مالك رحمه الله، وأصحاب الإمام أحمد، وكذلك جمع من أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله على الجميع، وهذا هو ظاهر القرآن،
قال تعالى: {لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} [التوبة:108]، فدل على أن المسجد الذي هو أقدم جمعته هي المعتبرة، وعلى هذا فالجمعة في المسجد الثاني لاغية، سواء أوقعت قبل جمعة المسجد القديم أم وقعت بعده، فالعبرة بالمسجد القديم، سواء أتقدم أم تأخر، ولا حاجة إلى تفصيل العلماء رحمة الله عليهم.
وهناك وجه آخر -كما درج عليه المصنف- أن العبرة بالجمعة التي أذن فيها الإمام وهذا مشكل؛ لأنه ربما أذن الإمام لأصحاب الجمعة الثانية، والجمعة الأولى في الأصل كانت موجودة قبل إذن الإمام، فحينئذ لازم هذا أن يحكم ببطلان الجمعة بالمسجد العتيق وصحتها في المسجد الحديث، وظاهر القرآن يدل على خلاف هذا، فيستصحب نص القرآن على أن العبرة بالمسجد القديم؛ لأنه أحق، والمسجد الجديد داخل عليه، وأهله ظلموا المسجد القديم بدخولهم عليه، ولذلك يعتد بالجمعة التي تقع في المسجد القديم، ولو كانت متأخرة، أما لو كانت وجدت حاجة لإحداث الجمعة الثانية فلا إشكال، فكلتا الجمعتين صحيحة.
قال رحمه الله تعالى: [فإن استويا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة].
لو أذن الإمام بكلتا الجمعتين فقد قيل: العبرة بالأسبق وقوعا، وهي التي وقعت ولو كانت في الجمعة القديمة، فإنها هي الصحيحة، ولو أن الجمعة التي وقعت في المسجد الحديث وقعت قبل فإنها هي الصحيحة، والصحيح ما ذكرناه أن العبرة بالمسجد القديم سواء أستويا في الإذن أم استويا في الوقت، أم شك في الوقت، فالعبرة بالمسجد القديم على ظاهر آية التوبة، وهي نص قوي في الاعتداد بالمسجد القديم وعدم الاعتداد بالمسجد الحديث الطارئ عليه.
قال رحمه الله تعالى: [وإن وقعتا معا أو جهلت الأولى بطلتا].إذا كانت العبرة بالوقت فيردq لو وقعتا معا فما الحكم؟و a تبطل الجمعتان؛ لأنه لا بد من تصحيح إحدى الجمعتين وإلغاء الأخرى، والضابط في التصحيح مستو فيهما، فلا وجه لتصحيح إحداهما دون الأخرى،
قال: [بطلتا]، فيصلونها ظهرا.والصحيح أن العبرة بالجمعة القديمة -كما ذكرنا- حتى ولو استويتا في الوقت.
[بيان مقدار السنة بعد الجمعة]
شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من السنن التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة، فمنها ما يتعلق بالصلاة كالسنن الراتبة، ومنها ما يتعلق بالمكلف من ناحية تهيؤه لصلاة الجمعة ومضيه إليها،
فقال رحمه الله في بيان السنة الراتبة التي تكون بعد الجمعة: [إن أقلها ركعتان]،
وهذا على ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنه صلى بعد الجمعة ركعتين)، وهاتان الركعتان كان عليه الصلاة والسلام يصليهما في بيته، ولذلك حفظ بعضها من أحاديث أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن.
وكذلك ثبت عنه في حديث ابن عمر: (أنه عليه الصلاة والسلام صلى بعد الجمعة ست ركعات)،
وللعلماء رحمهم الله في هذا أقوال: فهناك أحاديث أنه صلى ركعتين، وهناك أحاديث أنه صلى أربعا، وأنه صلى ست ركعات، وأنه بين أن السنة يوم الجمعة ست ركعات.
فبعض العلماء يقول: إذا صلى في المسجد يصلي أربعا، وإذا تسنن في بيته يصلي ركعتين جمعا بين النصوص، فما جاء عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن من صلاته عليه الصلاة والسلام بالركعتين يكون في بيته، فنعمل الحديث على ظاهره، وما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من صلاته في المسجد أربعا بعد الجمعة يكون في المسجد فهذا وجه للجمع.
ومنهم من خير فقال: يصلي تارة ركعتين، ويصلي تارة أربع ركعات، والاختلاف ليس اختلاف تضاد، إنما هو اختلاف تنوع، فإن شاء صلى ركعتين وإن شاء صلى أربعا، كأنه يرى أن أقصى ما يصلى هو الأربع ركعات.
ومن العلماء من قال: إن السنة هي ست ركعات، كما ثبت في حديث ابن عمر، فكان عليه الصلاة والسلام يصلي أربع ركعات في مسجده وركعتين في بيته، وهذا هو أقوى الأقوال، وهو أن السنة أقصى ما يكون فيها ست ركعات، وأقل ما يكون فيها الركعتان، ولذلك من أراد أن يصيب السنة على أكمل وجوهها وأتمها، فليصل ركعتين في بيته إذا رجع، ويصلي قبلها أربعا في المسجد.ولكن إذا لم يتيسر له أن يصلي الأربع في المسجد فإنه يصلي الست في بيته، وإذا لم يكن له بيت، كأن يكون صلى ويريد أن يرجع إلى ضيافة، أو إلى دعوة ولا يتيسر له الرجوع إلى بيته يصلي في المسجد ستا، وهذا هو المحفوظ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه كان يصلي ست ركعات في مسجده، كما أثر عنه حينما قدم إلى مكة رضي الله عنه وأرضاه.
والخلاصة من هذا أن للجمعة راتبة، وتختص راتبتها بالبعدية، وليس للجمعة راتبة قبلية، وذهب بعض السلف إلى أن للجمعة راتبة قبلية، وأنه يصلي قبل الجمعة ركعتين، وهذا مأثور عن بعض السلف من الأئمة رحمة الله عليهم، وقال به بعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.والأقوى الذي دلت عليه السنة أنه لا يصلى قبل الجمعة راتبة، ولكن الأفضل والسنة للإنسان إذا قدم إلى المسجد قبل صلاة الجمعة أن يكثر من النوافل؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيان بعض الأعمال والفضائل يوم الجمعة: (ثم دخل المسجد فصلى، ثم جلس فأنصت)، ولذلك استحب العلماء أن يكثر من الصلاة، خاصة وأنه قبل الجمعة بعد الزوال،
وهناك قول يقول: إنها ساعة إجابة، ولذلك يستكثر من الصلاة ويصلي؛ لأن أفضل الأعمال هي الصلاة، فيستكثر من الصلاة، ولكن لا يتقيد بالسنة الراتبة،
أي: ليس لها سنة راتبة.
واختلف العلماء في الصلاة بين الأذان الأول والثاني: فمذهب طائفة من أصحاب الشافعي رحمهم الله أنه يصلي بين الأذان الأول والثاني؛
لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة)،
فقالوا: لا حرج أن يصلي بين الأذان الأول والثاني، وكان الإمام أحمد رحمة الله عليه إذا أذن المؤذن الأول قام فصلى حتى يشرع الخطيب في خطبته، فيصلي بين الأذان الأول والثاني.
وذهب الجمهور إلى أن حديث: (بين كل أذانين صلاة) يختص بالأذان والإقامة، وأنه لا يشمل الجمعة ولكن مع هذا لا ينكر على من يصلي بين الأذان الأول والثاني، وليس هناك نص صحيح في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على تحريم الصلاة بين الأذان الأول والثاني، فلو أن إنسانا صلى لا ينكر عليه،
خاصة وأن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) يحتمله، وقد قال به أئمة، والأصل في المسائل الخلافية أنه إذا تمسك أحدهم بظاهر السنة المحتملة فإنه لا ينكر على من فعلها،
ولكن إذا اعتقد الفضل بأن قال: أقصد الصلاة بين الأذان الأول والثاني، فإذا اعتقد مزية الفضل في هذا الوقت يكون قد أحدث، أما لو أنه صلى صلاة مجردة، فإن الصلاة في هذا الوقت النصوص دالة على مشروعيتها وجوازها، ولا ينكر على من فعلها، وليس هناك وجه لتحريم الصلاة إلا بنص من الكتاب أو السنة.ولذلك يبين في هذه المسألة، فإذا صلى بين الأذان الأول والثاني،
وأخذ بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة)، والأذان الأول أذان شرعي، وقد أجمعت الأمة وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعد عهد عثمان رضي الله عنه على هذا الأذان،
وقال: إنني أتأول ظاهر هذا الحديث: (بين كل أذانين صلاة)، فهذا وجه تحتمله السنة، ولذلك لا ينكر على من فعله، إنما ينكر لو اعتقد مزية الفضل، فإذا اعتقد مزية الفضل فقد أحدث في دين الله ما ليس منه باعتقاد فضل لوقت لم يرد النص به عينا، أما لو صلى مطلق الصلاة،
أو صلى لتأول ظاهر الحديث: (بين كل أذانين صلاة)، فإنه لا ينكر عليه،
خاصة أن من أهل العلم رحمة الله عليهم من يقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة) السبب فيه أنه إذا أذن المؤذن فتحت أبواب السماء، فشرع أن يصلى بين الأذان والإقامة، ولذلك يستجاب الدعاء بين الأذان والإقامة، وذلك نظرا إلى كونه إذا أذن المؤذن فتحت أبواب السماء لاشتمال الأذان على أفضل ما يقال وأعظم الكلمات وأجلها عند الله، وهي شهادة التوحيد، فتفتح أبواب السماء، وهذا المعنى ينطبق على الأذان الأول؛ لأنه أذان شرعي أجمعت الأمة على اعتباره والاعتداد به.
قال رحمه الله تعالى: [وأكثره ست].
أي: أكثر هذه السنة الراتبة البعدية ست ركعات، والصحيح -كما قلنا- أنه ليس هناك راتبة قبلية وإنما راتبة بعدية فقط، وهذا مما تختص به الجمعة، بخلاف صلاة الظهر في كل يوم فلها راتبة قبلية وبعدية، وقد تقدم الكلام على هذه الراتبة، وبيان ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أعدادها عند كلامنا على صلاة السنن الراتبة.
فقوله: [أكثرها ست] أي: أكثر ما يتنفل به كراتبة بعدية،
ولكن لو أن إنسانا أراد أن يصلي بعد الجمعة نافلة مطلقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمرو بن عبسة: (فإذا زالت فأمسك عن الصلاة، فإذا انتصفت في كبد السماء فأمسك عن الصلاة، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم، فإذا زالت فصل فإن الصلاة حاضرة مشهودة)، ولذلك لم يفرق بين الجمعة وغيرها، فلا حرج أن يتنفل النفل المطلق، لكن النفل الذي يقصد منه راتبة الجمعة البعدية لا يكون إلا على أقصى درجة، وهي ست ركعات، وهذا هو أقصى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة وأن حديث الست فيه جمع بين الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأربع والذي ورد عنه بالركعتين.
سنن الجمعة
[الاغتسال]
قال رحمه الله: [ويسن أن يغتسل لها].
أي: يسن للإنسان أن يغتسل لصلاة الجمعة، والسبب في هذا أن بعض الصحابة كانوا يقدمون على الجمعة من العوالي ومن قباء، ومن نحوها من الأماكن التي هي من ضواحي المدينة، وكانت الأرض أرض زراعة، فإذا مشوا في الطريق يغشاهم الغبار والتراب،
قالت أم المؤمنين: فعلت المسجد منهم زهومة بمعنى أنه مع عرقهم وما يكون في الثياب من عرق فاحت هذه الرائحة في المسجد، وتضرر الناس، وكان مسجده عليه الصلاة والسلام صغيرا، فتضرر الناس بذلك، فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يغتسلوا للجمعة، وهذا يدل على أن السنة أن يغتسل،
وهذا الاغتسال فيه حكم عظيمة: أولها: أنه يقوي نفس الإنسان على ذكر الله عز وجل، وذلك أن الاغتسال يقوي الإنسان وينشطه،
ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا دخل إلى مكة اغتسل بذي طوى)، وذي طوى مثلث الطاء، ويسمى الآن الزاهد، اغتسل فيه عليه الصلاة والسلام ونزل وطاف، وهذه سنة يضيعها كثير من المعتمرين إلا من رحم الله، فمن السنة أن يغتسل الإنسان قبل الطواف؛ لأنه إذا اغتسل قويت نفسه، خاصة وأنه قد جاء من السفر في عناء وتعب، فإذا طاف وهو قوي النفس نشيطا مرتاح البال، مع وجود الاستجمام بإصابة الماء للبدن، قويت نفسه على ذكر الله واستجمت، وأصبح في جلد على الطواف والسعي، فالاغتسال يقوي النفس.
ثانيا: أن الناس يحضرون ويدخلون يوم الجمعة، فإذا اجتمعوا في المسجد ولم يغتسلوا علت منهم الزهومة، وأضر بعضهم ببعض، وهذا جعل بعض العلماء رحمة الله عليهم ينبه على أن الإنسان إذا دعي إلى حلق الذكر ومجالس العلماء التي يكثر فيها الناس أنه يفضل أن يغتسل لها، لا بقصد العبادة، وإنما بقصد المعنى الذي قصده الشرع من الاجتماع، وفرق بين أن يغتسل بقصد القربة والعبادة، وبين أن يغتسل من أجل دفع ضرر النتن الذي قد يكون في ثيابه، أو يكون بسبب الازدحام مع غيره،
فقالوا: إن الغسل يوم الجمعة يدفع عن الناس ضرر الرائحة الكريهة.
ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الجمعة والذهاب إليها: (من غسل واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب) إلى آخر الحديث،
وقد اختلف العلماء في قوله: (غسل واغتسل): فمنهم من يقول: (غسل واغتسل) معناهما واحد، والمراد به تأكيد الغسل.
ومنهم من يقول: (غسل) أي: تسبب في غسل زوجته، بناء على أنه يصيب أهله قبل أن يذهب إلى الجمعة، فإنه إذا أصاب الأهل قبل ذهابه إلى الجمعة انطفأت الشهوة، فكان أغض لبصره، وأحصن لفرجه، وأبعد له عن الفتنة، فإذا أقبل على الذكر أقبل بنفس مطمئنة، ويكون منشرح الصدر، بعيدا عن الوساوس والخطرات، خاصة وأنه في يوم الجمعة لا يأمن من وجود الاختلاط الذي قد تصاحبه فتنة النظر.
وقال بعض العلماء: (غسل واغتسل) أي: غسل رأسه واغتسل لسائر جسده.
وقال بعضهم: قوله (غسل) أي: أنه توضأ، (واغتسل) أي: غسل جميع بدنه.وهذه كلها أوجه لها ما يبررها ويدل على اعتبارها، وقال بها جمع من أهل العلم رحمة الله عليهم.
وقول المصنف: [يسن] السنة: ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها،
فلو قلنا: دعاء الاستفتاح سنة فإن من كبر وقرأ الفاتحة مباشرة لا يأثم،
وهكذا الدعاء المأثور: (ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) بعد التسميع والتحميد،
وكذلك: (حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه)، فإن هذه الأدعية سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.
فقوله: [يسن أن يغتسل] أي أنه إذا اغتسل فأفضل، وإذا لم يغتسل فلا إثم عليه، وهذا مذهب طائفة من العلماء.
والصحيح: مذهب الظاهرية ومن وافقهم من أهل الحديث أن غسل الجمعة واجب،
وذلك للأمور الآتية: أولا قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)، والأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه، ولا صارف صحيح.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجمعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (141)
صـــــ(1) إلى صــ(22)
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم).
ثالثا: أننا وجدنا الصحابة قد فهموا اللزوم للغسل، وذلك أن عثمان رضي الله عنه دخل وعمر يخطب في الناس يوم الجمعة،
فقال له عمر: (أي ساعة هذه؟) أي: ما بك وما شأنك قد تأخرت عن الجمعة؟
فقال: (يا أمير المؤمنين! ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت وقدمت فقال: والوضوء أيضا) كأنه ينكر عليه، فدل على أن الغسل كان معروفا أنه لازم لصلاة الجمعة، وعلى هذا فإنه يقوى القول بالوجوب.
ثم إن دليل النظر يقوي هذا القول، وهو أنه إذا لم يغتسل أضر بالناس، وذلك بحصول النتن، وإن كان النتن منه يسيرا فاليسير مع اليسير من غيره كثير، والجبال من دقائق الحصى، ومعنى هذا أن دفع هذا الضرر مطلوب شرعا، وبناء عليه فإنه يعتبر أشبه ما يكون بالوجوب واللزوم منه إلى السنة.أما الغسل للجمعة فإنه أفضل ما يكون عند إرادة الخروج، فهذا أفضل ما يكون،
فمثلا: لو كان يخرج الساعة التاسعة أو العاشرة، فإنه يؤخر غسل يوم الجمعة إلى هذه الساعة؛ لأنه إذا أخر غسله إلى هذه الساعة حقق مقصود الشرع من حصول النظافة والنقاء،
ومن ثم قال العلماء: الأفضل في غسل الجمعة أن يقع قريبا جدا من الخروج، ولكن إذا كان غسله عند الخروج فيه ضرر عليه كأن يكون في شدة برد، فإنه لا حرج أن يقدمه بوقت على قدر ما يدفع به الضرر عن نفسه.لكن لو أن إنسانا صلى الفجر واغتسل، أو طلعت عليه الشمس واغتسل، فهل يصدق عليه أنه حقق الواجب من غسل الجمعة؟ الذي يقوى ويظهر أن هذا الغسل ينبغي أن يكون قريبا من الخروج،
وذلك للرواية في الصحيح: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)،
فيكون مطلق قوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) مقيدا بقوله: (إذا أتى أحدكم الجمعة)، خاصة وأنه يفهم من النص أو الأمر بهذا الغسل أن يكون نقيا لصلاة الجمعة، فلو أنه اغتسل قبل الجمعة بوقت ربما زال هذا المعنى، فيعتريه ما يعتري الإنسان من العرق ونحو ذلك، فيذهب المقصود من غسله ليوم الجمعة.
قال رحمه الله تعالى: [وتقدم]: أي: تقدمت صفة الغسل، وهذه العبارة تعقب فيها صاحب المتن بأن فيها نظرا، وليس المراد أنها فاسدة من كل وجه،
فإذا كان الكلام مستقيما والحجة مستقيمة وقال الخصم: (فيه نظر)، فإن قوله هذا يكون مكابرة وعنادا، وقد يكون الكلام فيه احتمال الخطأ،
فقولهم: (فيه نظر) يعنى أنه يحتمل الخطأ، أو فيه خلل في ضابط من ضوابطه أو أصل من أصوله الذي اعتمدها.فقول المصنف: [وتقدم] لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قوله: [وتقدم] أي: تقدم أنه مسنون، وهذا احتمال، وحينئذ على هذا الوجه يكون الذي تقدم حكم غسل الجمعة.
وإما أن يكون معناه: تقدمت صفة الغسل، أو تقدم بيان الغسل، أو بيان ما يتحقق به الغسل الذي يسن.فإن كان معنى قوله: [وتقدم] أي: تقدم أنه مسنون،
فهذا هو الذي جعلهم يقولون: (فيه نظر)؛ لأنه في باب غسل الجنابة لم يذكر أن غسل الجمعة سنة،
فيكون قول الشارح: (فيه نظر)، أي: إن تقدم حكم غسل الجمعة بأنه سنة ففيه نظر.
والواقع أن المصنف رحمه الله قصد بقوله: [وتقدم] بأنه تقدم ضمنا ولم يتقدم صراحة، وتوضيح ذلك أنه لما تكلم في باب الغسل ذكر من موجباته خروج المني دفقا، وتغييب الحشفة، وإسلام الكافر، والحيض إلى آخره، ولم يذكر يوم الجمعة، فلما لم يذكر الجمعة مع الموجبات فهمنا أن غسل الجمعة مسنون وليس بواجب، وهذه إشارة خفية، ومن هنا لم يتبين لمن تعقب المصنف رحمه الله وجه كونه قدم الحكم، والواقع أنه قدم الحكم، ولكن قدمه بدقة.
وإن كان مراده بقوله: [وتقدم] أي: تقدم بيان ما يتحقق به الغسل المعتبر، فقد تقدم، فإنه في الغسل بين ما يتحقق به الغسل في باب غسل الجنابة، وبناء على ذلك فلا وجه لتعقب صاحب المتن،
وكلامه صحيح ومعتبر على الوجهين: إن قلنا: أراد الحكم، فلا إشكال.
وإن قلنا: أراد الصفة، فلا إشكال.
[التنظف والتطيب]
قال رحمه الله تعالى: [ويتنظف ويتطيب].هذا الأمر بالنظافة يفهم منه الأمر بالغسل، وذلك أنه لما أمر الشرع بالغسل فإن معنى ذلك أن يتنظف الإنسان، وهذا صحيح، فإننا نأخذ الأحكام إما من منطوق الشرع، أو مما نفهمه من الشرع، وهذا من الفقه، فإنه إذا جاء النص يأمرنا بغسل الجمعة فإننا نفهم أن المراد أن يكون الإنسان على نظافة ونقاء، إضافة إلى أن الأصل في شهود المساجد ودخولها أن يكون الإنسان على نقاء،
يقول تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف:31]،
فقوله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف:31] مما يتضمن الزينة المطلقة، سواء أكانت زينة البدن التي يصحبها نقاؤه ونظافته، أم الزينة التي يراد بها ستر العورة، وقد استدل العلماء رحمهم الله بهذه الآية على اشتراط ستر العورة، وقد تقدم معنا.قوله: [يتنظف].الغسل قد يكون فيه نظافة وقد لا يكون فيه نظافة، فالإنسان قد يبل جسده بأن يدخل في بركة ويغتسل ولكن لا يتنظف، بمعنى أنه لا يدلك جسده، ولا يبالغ في إزالة الشعث عنه، فالنظافة فوق الغسل، وبناء على ذلك فإن السنة والأفضل للإنسان أن يبالغ في نظافة جسده حتى يكون محققا لمقصود الشرع من زوال الأذى الذي يتضرر به الناس، وهو وجود الرائحة الكريهة.
وقوله: [ويتطيب].الطيب هو الرائحة، ويشمل الطيب الذي يكون سائلا، أو يكون له رائحة كالبخور والند والعود، ونحو ذلك، فهذا كله من الطيب، والطيب من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (ومس من طيب أهله)، وهذا يدل على أن السنة أن يتطيب الإنسان،
وقد جاء في حديث فضل المضي إلى الجمعة: (ومس طيبا) أي: يمس من طيبه طيب بيته أو طيب أهله،
وقالوا: التعبير بطيب الأهل لأن الإنسان إذا أراد أن يتجمل على أبلغ ما يتجمل فإنه يتجمل لزوجه، ولذلك اختار هذا النوع من الطيب الذي يكون به أبلغ ما يكون في زينته، وأحسن ما يكون في رائحته،
وكأنه لما قال: (طيب أهله) لأن الإنسان لا يحب أن يضر أهله عند نومه معهم ونحو ذلك، كذلك أيضا في مخالطته لإخوانه، فإنه يتطيب بأحسن ما يجد من الطيب وأفضله.
[لبس أحسن الثياب]
قال رحمه الله تعالى: [ويلبس أحسن ثيابه].
لأنه يوم عيد، والجمعة عيد الأسبوع، ولذلك يلبس أحسن ما يجد، وهي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الإنسان إذا أراد شهود صلاة الجمعة، أو الصلاة عموما فالأفضل له أن يلبس أحسن ما يجد.ومن الأخطاء الشائعة عند الناس اليوم -وينبغي أن ينبهوا لها- شهود بعض الناس المساجد بملابس نومهم، فهذا أمر لا ينبغي، وهو يخالف أمر الله عز وجل بأخذ الزينة عند دخول المساجد، وإذا رأيت إنسانا يدخل المساجد بهذه الثياب تنبهه، ولا مانع أن تبالغ في بيان أن هذا الأمر لا ينبغي للإنسان الذي يقف بين يدي الله عز وجل، فإنه لو مضى إلى مقابلة إنسان عظيم فإنه يتجمل ويلبس أحسن ما يجد، ولوجد في نفسه المنقصة أن يخرج بمثل هذه الثياب، والأصل عند العلماء وضوابط العلماء التي قرروها أنه لو خرج الإنسان بالثياب الداخلية أمام الناس والملأ عامة فضلا عن المسجد فإنه تسقط عدالته، ويعد هذا من خوارم المروءة، فالذي يخرج بثياب نومه أمام الناس في الشارع، فضلا عن أن يدخل بيت الله عز وجل والمساجد التي يشهدها الناس على اختلاف طبقاتهم فإنه قد حرم مروءته.ومن الحياء والخجل أن يخرج الإنسان بثياب نومه إلى بيوت الله عز وجل، فينبغي إجلال هذه البيوت،
قال تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع} [النور:36]، ولذلك ينبغي للإنسان أن يشهدها وهو على أحسن وأفضل ما يكون،
قال عليه الصلاة والسلام: (ما على أحدكم أن يتخذ ليوم جمعته ثوبين سوى ثوبي مهنته) أي: ما عليه من ضرر لو أنه جعل ثوبا لمهنته، وثوبا لجمعته، مع أن ثياب المهنة يقابل بها الناس، فكيف إذا كان بثياب بيته التي لا يقابل بها الناس؟ ولو أنه دعي لمقابلة إنسان يكرمه ويجله ويعظمه لما خرج بثياب نومه، ولأحس هذا الإنسان أنه يزدريه وينتقصه، فكيف بالله جل جلاله؟! ولذلك ينبغي للإنسان أن يظهر نعمة الله عز وجل عليه.كما أن خروج الناس بمثل هذه الثياب فيه أثر نفسي على الأبناء والأطفال، فإن الأبناء والأطفال إذا رأوا آباءهم، أو رأوا كبار السن يخرجون بمثل هذه الثياب إلى المساجد احتقروا أمر الصلاة، وتقالوا أمر المساجد، ولكنهم إذا رأوهم يأخذون زينة المساجد تأسوا بهم واقتدوا بهم، فكان شعورا نفسيا يعين على إجلال بيوت الله عز وجل ومساجده، وإجلال شعائره التي من أعظمها الصلاة،
قال صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فعلى الأئمة والخطباء أن ينبهوا الناس، وإذا رأيت إنسانا يصلي بجوارك وعليه هذه الثياب تنبهه،
وإذا كان الإنسان له مكانة لا مانع أن تقرعه وتقول: إن هذا لا ينبغي،
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فالحياء يدعو الإنسان ألا يخرج بمثل هذه الثياب؛ لأن هذه ثياب البيت.
التبكير في الذهاب إلى الصلاة مشيا
قال رحمه الله تعالى: [ويبكر إليها ماشيا].هذه هي السنة،
لقوله عليه الصلاة والسلام: (من بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا وأنصت)، فقوله: (من بكر وابتكر) قالوا: بكر على وزن (فعل)، وهذه الصيغة تدل على زيادة المبنى، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى،
قالوا: إن هذا يدل على تكلف البكور، والبكور في أول النهار، واختلف العلماء رحمة الله في التبكير للجمعة متى يكون؟ فمنهم من يرى أن التبكير للجمعة يكون من بعد الزوال، كما هو قول طائفة من فقهاء المدينة من السلف رحمة الله عليهم، وبه يقول إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمة الله على الجميع.والقول الثاني أن التبكير يكون من أول النهار، وهو مذهب الجمهور، فيمشي من بعد طلوع الشمس.
بل قال بعضهم: لو صلى الفجر وجلس كان أبلغ في التبكير،
أي: لو أنه بعد صلاة الصبح، وبعد رجوعه إلى بيته وإصابته لطعامه خرج إلى مسجده، فهذا أبلغ ما يكون من البكور.وإن كان الأقوى أنه بعد طلوع الشمس؛ لأن فيه الساعات الأول التي فيها الفضل،
والتي سبق بيانها وأنه: (من خرج في الساعة الأولى كان كأنما قرب بدنة ... ) الحديث، فهذا الفضل لا يكون إلا للمبكر، وهو الذي يخرج في أول الساعات.فالفضل يكون في البكور، ولأن البكور فيه مسارعة للخير ومسابقة إليه، والله سبحانه وتعالى ندب عباده إلى المسارعة والمسابقة إلى الخير،
فقال سبحانه: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة:148]،
وقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} [آل عمران:133]، فالذي يسارع إلى الجمعة يسارع إلى مغفرة من ربه، والذي يسابق إلى الجمعة يسابق إلى مغفرة من ربه، وإلى جنة عرضها السماوات والأرض؛ لأن دافعه إلى ذلك رجاء رحمة الله، ورجاء عفوه ومغفرته ورضوانه، فالفضل في التبكير للجمعة، وأعظم الناس أجرا في الجمعة أبعدهم إليها ممشى، وأسبقهم إليها تبكيرا.
[الدنو من الإمام]
قال رحمه الله تعالى: [ويدنو من الإمام].
لأنه في القديم كانت المساجد لا يوجد فيها الأجهزة التي يبلغ فيها الصوت، فكلما دنوت من الإمام كلما كان ذلك أدعى لسماعك، والمقصود من الجمعة أن تسمع الموعظة، ولذلك من أفضل ما يكون للعبد يوم الجمعة أن يكون تأثره بالخطيب بليغا، حتى ولو كانت خطبته لا يجد فيها تلك الفصاحة وتلك البلاغة، لكن ينبغي أن يتفاعل مع ما يقوله الخطيب وما يأمر به من أوامر الله وما ينهى عنه من زواجر الله، فإنه إذا فعل ذلك، وتأثر بما يقوله الخطيب فإنه من أفضل الناس وأعظمهم أجرا، وكان العلماء رحمهم الله يستبشرون للعبد بذلك، ويعدونه من دلائل الإيمان.وما جعلت هذه المنابر، وما أمر الأئمة بإلقاء الخطب عليها إلا للعمل وللتأثر بما يقولون، فإذا رزق الله العبد أذنا صاغية وقلبا واعيا، فإن هذا من نعم الله عليه،
وقد كانوا يقولون: من أعظم الناس أجرا يوم الجمعة أفضلهم تأثرا بقول الخطيب.
وكان بعضهم يقول: إن من دلائل القبول أنه إذا وجد نفسه في الخطبة تتأثر وينكسر قلبه ويخشع، وربما يبكي، ويحس أن هذه الزواجر تقرعه وتذكره وتعظه، وأنها تنصحه، ويجد لها وقعا بليغا على قلبه، فليحمد الله، عز وجل على عظيم نعمة الله عليه، فهذا من نعم الله، ومما يخص الله به من شاء من عباده.
وقد اختلف العلماء في مسألة وهي: لو أن الإنسان يوم الجمعة كان في بادية، أو في مكان ليست فيه أجهزة مكبر الصوت، فلو أنه جاء مبكرا فأدرك الصف الأول في طرفه بحيث لا يسمع الخطبة، ويمكنه أن يأتي في الصف الثاني فيسمع الخطبة، فهل الأفضل أن يكون في الصف الأول مع بعده عن سماع الإمام، أم يكون في الصف الثاني مع سماعه وتأثره؟
ومثل هذه المسألة أيضا: صلاة الفجر،
فقد اختلفوا فيها: هل الصف الثاني أفضل إذا كان الصف الأول أبعد عن الإمام بحيث لا يسمع قراءته، أم الفضيلة للصف الأول وإن لم يسمع قراءة الإمام؟
فبعض العلماء يقول: إن قربه من الإمام ولو كان في الصف الثاني أو الثالث أو الرابع أفضل من الصفوف الأول، ويرجح ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء:78]،
فقالوا: إن هذا يدل على فضل هذه القراءة،
خاصة وقد قيل: إن الفجر تشهده الملائكة وقيل: إنه يشهده الله عز وجل، أي أن النزول إلى السماء الدنيا يستمر إلى قراءة الفجر إعظاما لهذه الصلاة.والصحيح: أن قوله: {كان مشهودا} [الإسراء:78]،
معناه: تشهده الملائكة؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار يجتمعون في صلاة الصبح والعشي) التي هي صلاة العصر،
فقوله: {كان مشهودا} [الإسراء:78] معناه: تشهده الملائكة.
وفائدة الخلاف أن من يقول: الأفضل أن يكون في الصف الثاني والثالث مع السماع والتأثر،
يقول: السماع والتأثر مقصود من الشرع، فكأن صلاة الجمعة قصد منها أن يسعى الإنسان ويتأثر، فيحقق بذلك مقصود الشرع والنفع بها متعدد، خاصة وأنها من جنس العلم، والصف الأول من جنس العبادة، والعلم مقدم على العبادة، ففضل العلم مقدم على العبادة.
ومن يقول: الصف الأول أفضل، فذلك لعموم النصوص.
وثانيا: أن الصف الأول فضيلته متصلة،
أي: أنه يتصل بنفس فعل الصلاة، والسماع لا يعتبر في كل الصلاة وإنما في بعضها، فإذا صلى الصلاة كلها في الصف الأول فالفضيلة كاملة له، لكن السماع لا يكون إلا في حال الخطبة، ولا يكون إلا في حال القراءة، كما في صلاة العشاء يكون في الركعتين الأوليين، وفي صلاة المغرب في ثلثي الصلاة وهما الركعتان الأوليان.
فقالوا: الأفضل أن يصلي في الصف الأول.والحقيقة أن الصف الأول أفضل من جهة النص ومن جهة المعنى، ومقصود الشرع من ناحية الفائدة، فإن القرب من الإمام أفضل، لكن والحمد لله مع وجود الوسائل الموجودة الآن لا شك أنه يرتفع الخلاف، ويكون الصف الأول أفضل مطلقا؛ لأنه يسمع الإمام ويصيب فضيلة الصف الأول.
[قراءة سورة الكهف يوم الجمعة]
قال رحمه الله تعالى: [ويقرأ سورة الكهف في يومها].
أي: السورة التي ذكرت فيها قصة أهل الكهف، وتسمى سور القرآن بما يذكر فيها،
وقد اختلف السلف في ذلك: فبعضهم يقول: لا يقال: سورة الكهف، ولا يقال سورة البقرة، وإنما يقال السورة التي تذكر فيها البقرة، أو السورة التي يذكر فيها الكهف.
والصحيح أنه يجوز أن يقال: سورة الكهف، وسورة البقرة؛
لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر شفاعة القرآن قال: (تقدمهم سورة البقرة وآل عمران)،
وقال: (من قرأ الآيتين من آخر البقرة في ليلته كفتاه)،
فهذ يدل على مشروعية تسمية السورة مباشرة بقوله: سورة البقرة، وسورة آل عمران، ونحو ذلك.وذكره قراءة سورة الكهف لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث -وحسنه غير واحد من الأئمة- قوله: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أعطي نورا كما بين السماء والأرض)، وهذا يدل على فضل قراءة هذه السورة يوم الجمعة.
وللعلماء وجهان في قراءتها: فمنهم من يقول: تقرأ في ليلة الجمعة، ولا حرج أن يقرأها في الليل أو النهار فهو بالخيار.
ومنهم من يقول: لا تكون قراءتها في الليل، وإنما بين طلوع الشمس إلى غروبها.ويفضل بعض العلماء أن تكون قبل الصلاة، بمعنى أن تكون ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الجمعة، وهذا أقوى وذلك لأنه يكون في أول النهار، فلما يقرأ القرآن تكون عبادته معينة له على صلاة الجمعة وحضور القلب، فكلما شهد الإنسان الجمعة وهو أكثر خيرا وأكثر برا كلما كان أكثر تأثرا وأكثر انتفاعا وأرجى للقبول من الله عز وجل، ولكن لا حرج لو قرأها بعد صلاة الجمعة، أو بعد العصر.وينبغي أن ينبه على أنه لا يعتقد الفضل لوقت معين بعينه لقراءة هذه السورة، فلو قال إنسان: لا تقرأ هذه السورة إلا في الساعة الأولى من الجمعة، فإن تحديده لهذه الساعة بدعة، وذلك لأنه أحدث؛ لأن الشرع أطلق وهو قيد، ولا يجوز تقييد المطلقات من الشرع إلا بدليل يدل على هذا التقييد.
قال العلماء: سبب تخصيص سورة الكهف بالقراءة يوم الجمعة لما فيها من ذكر ابتداء الخلق، وكذلك لما فيها من ذكر مآل الناس من مشاهد يوم القيامة وعرصات يوم القيامة، ولما فيها من التزهيد في الدنيا وضرب الأمثال على حقارة الدنيا، خاصة قصة صاحب البستان، وما كان منه من كفر نعمة الله عز وجل عليه، وكيف أن الله انتقم منه لما كفر نعمة الله سبحانه وتعالى،
وبيان حقيقة الدنيا بقوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك} [الكهف:46]، فكون الإنسان يقرأ مثل هذه الآيات، ويتأثر بها ويحس أنها تخاطبه لا شك أن هذا يدل على فضل هذه السورة، وكذلك ما اشتملت عليه من الدعوة إلى طلب العلم وفضل طلب العلم -كما في قصة الخضر وموسى- كل هذا يدل على فضل هذه السورة لما تشتمل عليه من معان جليلة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر الجمعة بسورتي السجدة والإنسان،
قالوا: لما فيهما من ذكر الآخرة، والتذكير بمآل الناس يوم القيامة من نعيم وجحيم.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجمعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (142)
صـــــ(1) إلى صــ(22)
[الإكثار من الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم]
قال رحمه الله تعالى: [ويكثر الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم].
قوله: [ويكثر الدعاء] أي: يوم الجمعة،
والسبب في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم -أو قال: مؤمن- يسأل الله شيئا إلا أعطاه) أيا كان هذا الشيء من خيري الدنيا والآخرة.ومعنى ذلك أنه يشرع الإكثار من الدعاء يوم الجمعة، ويسن الإكثار منه، ولذلك لما كان قيام ليلة القدر له فضله شرع في العشر الأواخر أن يحيا ليلها بالقيام، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شد المئزر وأحيا ليله،
فلما نبه الشرع على أن: (في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد يسأل الله شيئا من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه) دل على أنه يشرع ويسن الإكثار من الدعاء حتى يصيب الإنسان هذه الساعة،
يقول العلماء: التنبيه على الساعة دعوة إلى الإكثار من الدعاء؛
لأنه لما نبه على أن هناك ساعة فكأنه يقول: ادعوا وأكثروا من الدعاء علكم أن توافقوا هذه الساعة.والعكس بالعكس، فإذا منع الشرع، أو كان هناك رجاء إجابة وخيف من دعوة ظالمة يمنع من الدعاء،
كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تدعوا على أولادكم لا توافقوا بابا في السماء مفتوحا فيستجاب لكم)، فحذر ومنع؛ لأن هناك ساعة يستجاب فيها الدعاء، فمنع من الدعوة التي فيها ضرر.والساعة التي حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم قليلة؛
لأن الرواية الصحيحة تقول: (أشار بيده يقللها) حتى قال بعض العلماء: إنها برهة من الوقت وجاء في بعض الأحاديث أنها ساعة كاملة تشمل جزء النهار، والنهار اثنتا عشرة ساعة كما في الصحيح، فهي ساعة بكاملها، وهي ستون دقيقة، وإن كان الأقوى في رواية الصحيح أنها ساعة يقللها عليه الصلاة والسلام.
وقد اختلف العلماء في وقت هذه الساعة: فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إنها بعد ارتفاع الشمس بقدر ذراع أي: بعد الارتفاع بقليل، وهذا قول ضعيف؛ لأن هذا الوقت منهي فيه عن الصلاة،
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية الصحيحة: (لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي)، فدل على كونها في وقت صلاة، وإن كان اعتبر بعض العلماء هذا بأنه إذا جلس بعد صلاة الفجر ينتظر الإشراق وينتظر الصلاة يكون في حكم المصلي ولكن هذا محل نظر؛
لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال في صلاة ما انتظر الصلاة) أي: الصلاة المفروضة، وهذا يجعله لا يوافق هذا الفضل إلا إذا كان جالسا في مصلاه بعد الفجر إلى أن يصلي الجمعة، وهذا من المشقة بمكان.
وقال بعض العلماء: تكون بعد صلاة الفجر من يوم الجمعة إلى طلوع الشمس، وهذا أيضا مروي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول مشكل؛ لأن هذا الوقت أيضا ليس بوقت صلاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النافلة فيه، ولذلك يضعف أن يكون هذا الوقت وقت إجابة؛ لأن تلك الساعة يكون فيها العبد مصاحبا للصلاة،
لقوله صلى الله عليه وسلم: (وهو قائم يصلي)، كما في رواية مسلم.
وقال بعض العلماء: إنها من بعد الزوال مباشرة.
أي: من حين أن يبدأ الزوال تكون هذه الساعة، وهذا القول فيه قوة،
وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى قبل صلاة الظهر أربعا قال: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح)، ولما التقى شيخ الإسلام -رحمه بالله- بالتتار كان يقول للقائد: انتظر -أي: لا تبادر المعركة- حتى تزول الشمس وتهب الرياح، ويكون الوقت أرجى لقبول الدعاء ساعتها، ويدعوا المسلمون على المنابر.فهذا الوقت من أرجى الأوقات، وهو من بعد زوال الشمس، أو من بداية زوال الشمس.
وبعض أصحاب هذا القول: من بعد الزوال ولو لحظة أي: بعد أن تزول الشمس يقوم الإنسان ويصلي بعد زوالها مباشرة.
القول الرابع: أنها من بعد الزوال إلى أن تنتهي الصلاة.
القول الخامس: أنها من حين يشرع الإمام في الخطبة إلى أن تنتهي الصلاة.
القول السادس: أنها من حين يشرع في الخطبة إلى أن تقام الصلاة.
القول السابع: أنها عند إقامة الصلاة.
القول الثامن: أنها أثناء إقامة صلاة الجمعة، أي: من حين تقام الصلاة ويكبر تكبيرة الإحرام إلى أن يسلم.
القول التاسع: أنها من بعد العصر إلى غروب الشمس.
القول العاشر: أنها قبل غروب الشمس بساعة.
القول الحادي عشر: أنها في الثلاث الساعات التي قبل غروب الشمس.
والأفضل والأولى وهدي السنة أن يسكت عن هذه الساعة؛ لأن الشرع سكت، وما ورد من الأحاديث فهو متعارض، مثل حديث أبي سعيد مع حديث أبي ذر، فالأحاديث فيها معارضة، مع أن الصحابة كانوا يفهمون هذا.
لكن الأقوى من ناحية النص والدليل أنها تكون في وقت تشرع فيه الصلاة، وهو من طلوع الشمس قيد رمح، إلى أن تصلى صلاة العصر، ويستثنى أثناء الزوال، وبعض العلماء لا يستثني وقت الزوال؛ لأنه يرى أن ساعة الزوال في يوم الجمعة مرتفعة،
أي: ساعة انتصاف الشمس في كبد السماء،
فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا انتصفت فأمسك عن الصلاة، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم)، فمن بعد طلوع الشمس قيد رمح إلى صلاة العصر هذا هو الوقت المشتمل،
وأما ما عدا هذا من الأقوال فإنه يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: (وهو قائم يصلي).وأما القول بأنها بعد العصر فبناء على أنه إذا جلس ينتظر صلاة المغرب أنه في صلاة، وأما ما أثر عن أبي سعيد الخدري وغيره من الصحابة فمشكل؛
لأنه قال: (وهو قائم)،
ولم يقل: وهو يصلي.
مع أنه جاء في بعض الروايات: (وهو يصلي)،
لكن رواية: (وهو قائم يصلي) تؤكد على أنها صلاة ذات ركوع وسجود،
وكونه يقال: إنه إذا انتظر الصلاة فهو في صلاة فهذا حكم الصلاة، وفرق بين الحكم والوصف،
فلو قال عليه الصلاة والسلام: (وهو يصلي) لاستقام القول،
لكن لما قال: (وهو قائم يصلي) فالقيام يدل على وجود الفعل للصلاة بذاتها.والذي تطمئن له النفس أنها ساعة من بعد ارتفاع الشمس قيد رمح إلى صلاة العصر، ما خلا ساعة الزوال، على أصح أقوال العلماء من أن ساعة الزوال في يوم الجمعة وفي غيرها على حد سواء يمسك فيها عن الصلاة، خلافا للإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقد استدل بحديث رواه في مسنده وهو حديث ضعيف، وفيه استثناء يوم الجمعة،
والصحيح: أن ساعة الزوال أو ساعة انتصاف الشمس في كبد السماء لا يصلى فيها للإطلاق في النصوص، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده من الأدلة الصحيحة.كما أن الذي تطمئن إليه النفس أنه يمسك عن تحديد هذه الساعة؛ لأنه منهج الشرع، ولذلك جاء في ليلة القدر أن الأفضل أن يمسك عنها؛ لأنه أدعى إلى اجتهاد الناس وإقبالهم على العبادة، وبعض العلماء رحمة الله عليهم كان يستغرب من إهمال أول النهار،
فيقول: إن الأقوال كلها انصبت على آخر النهار، وانصبت من بعد الزوال، مع أن ساعة الضحى تعتبر من ساعات الغفلة، ويوم الجمعة الناس فيه أكثر بيعا وشراء ولهوا في الدنيا، ولا يقبل على العبادة في مثل هذا الوقت إلا من كان حاضرا فقط، مع أنها ساعات فضل بالتبكير إلى الجمعة، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يطمئن إلى الساعات في أول النهار، ولكن الأفضل والأولى أنه شيء سكت عنه الشرع، فإذا لم يرد الدليل الصحيح الصريح فإنه يبقى على الإطلاق الذي أطلق الشرع فيه هذه الساعة،
خاصة وأنهم لما قالوا: بعد صلاة العصر فإن ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وقت طويل،
وقد جاء في الحديث: (أشار بيده يقللها)، وكذلك من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فقد يصل إلى أكثر من ساعة، ولذلك يضعف هذا القول،
ويقوى القول الذي يقول: إنها في ساعة تباح فيها الصلاة، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس.
قوله: [ويكثر الدعاء]، هذا أمر يضيعه كثير إلا من رحم الله، فالناس عندما كانت قلوبهم مملوءة بالخير وبإعظام الله جل جلاله، وكان الدين قويا كانوا في مثل هذه الأيام المباركة يكثرون من ذكر الله عز وجل، ومن سؤال الله من خيري الدنيا والآخرة، ولكن قل أن تجد اليوم من يعمر أوقاته في يوم الجمعة بذكر الله عز وجل، وهذا من الغفلة، وقد كان السلف يكثرون من تلاوة القرآن، وكذلك من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم،
فإنك لو تأملت قوله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي،
قالوا: كيف تعرض عليك وقد أرمت؟
قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء) وسألت نفسك: كم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة لوجدتها صلوات معدودة، بل إنك قد تجد من الناس من لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا في صلاته، أو حين يأمر الخطيب بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من غفلة الناس.فهذا اليوم مأمور بالإكثار فيه من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ويستحي العالم وطالب العلم والعامي أن يعرض اسمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه إلا النزر القليل، ولذلك على الإنسان أن يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم، ويأمر أبناءه وأهله بهذه السنة التي أضاعها الكثير،
فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا)، وهذا فضل عظيم، وفيه أجر كثير للإنسان، فعلى الإنسان أن يكثر من الصلاة والسلام على سيد الأنام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام،
وكانوا يقولون: من نعم الله التي أنعم بها على أهل الحديث ورواة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يكثرون الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من أفضل القربات وأجلها وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.
واختلف العلماء في الأفضلية في يوم الجمعة: هل هي أن يكثر من تلاوة القرآن، أو من ا
الأسئلة
[التنفل يوم الجمعة في وقت النهي]
qكيف يكثر المصلي من النوافل يوم الجمعة، مع كون بعض أوقاتها منهيا عن الصلاة فيه؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن معنى السؤال أن يوم الجمعة لو أن إنسانا أكثر فيه من النوافل فإنه ربما صلى أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء، وبناء على ذلك يقولون: كيف يكثر من النوافل مع أنه ربما يوافق وقت النهي؟! والجواب أن وقت النهي في يوم الجمعة للعلماء فيه قولان: فمذهب طائفة من العلماء -كالشافعية ومن وافقهم- أن يوم الجمعة يجوز للإنسان أن يصلي فيه النافلة ولو كان أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء، وفيه حديث رواه الشافعي في مسنده، ولكنه ضعيف.والذي يظهر أن يوم الجمعة وغيره على حد سواء، وأنه لا يتنفل إذا انتصف النهار؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصلاة في هذه الساعة، وهي ساعة انتصاف الشمس في كبد السماء، وقال عليه الصلاة والسلام: (فإذا انتصفت فأمسك عن الصلاة فإنها ساعة تسجر فيها جهنم) نسأل الله السلامة والعافية.قالوا: هذا عام، والأصل في العام أن يبقى على عمومه، فإنه لم يقل: إلا يوم الجمعة.وهذا القول هو أقوى الأقوال، وهو أن يوم الجمعة وغيره على حد سواء، ولا يصلي الإنسان أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء.وتعرف هذا الوقت المنهي عن الصلاة فهي بأن تنظر إلى الوقت الذي يكون فيه إشراق الشمس، والوقت الذي يكون فيه غروب الشمس، وتحسب ما بينهما من الزمان، ثم تقسمه على اثنين، فذلك هو وقت انتصاف النهار.فإذا كان طلوع الشمس الساعة السادسة، وغروبها الساعة السادسة، فإن المجموع سيكون اثنتي عشرة ساعة، فحينئذ تقسمها على اثنين فتكون ست ساعات، فعند بلوغ الساعة الثانية عشرة والنصف حينئذ تمسك عن الصلاة، ويبقى هذا القدر الذي يقارب عشر دقائق إلى سبع دقائق لا تصلي فيه، فتحسب ما يبن الإشراق -أي: الإشراق المحض، وليست صلاة الإشراق الموجودة في التقاويم- ووقت غروب الشمس؛ لأن صلاة الإشراق قد يحتاط فيها بارتفاع الشمس قيد رمح، فلا بد وأن يكون الوقت دقيقا في الإشراق ودقيقا في الغروب، فتحسب ما بينهما وتقسمه على اثنين، فيكون الناتج هو وقت انتصاف الشمس في كبد السماء، ففي هذه اللحظة تقف عن الصلاة، وإنما تصلي قبلها أو بعدها، والسبب في ذلك نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في مثل هذا الوقت، والنصوص عامة، ويوم الجمعة وغيره على حد سواء، والله تعالى أعلم.
[الجمع بين القول بوجوب الغسل وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت)]
q إذا قلنا بوجوب غسل الجمعة فكيف نجيب عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، وهل يقتضي كونه واجبا إثم من لم يغتسل؟
a اختلف العلماء في ثبوت هذا الحديث، فمن أهل العلم من ضعفه، وإن كان تحسينه قويا عند طائفة من المحدثين، لكن القول بثبوته وكونه حسنا لا يعارض ما ثبت في الصحيح، فيجاب من وجهين: الوجه الأول: ما اختاره العلماء بأنه يحتمل أن يكون قبل أمر العزيمة، وهذا من أقوى الأجوبة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان موسعا على الناس، فقال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) قالت أم المؤمنين عائشة: (فلما علت المسجد منهم زهومة)، وهذا يدل على أنه أمر متأخر لازدحام الناس، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على الجذع، فلما كان في آخر حياته خطب على المنبر -كما في الصحيحين من حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه- لأجل كثرة الناس وامتلاء المسجد، وهذا يؤكد أنه كان في أواخر العصر المدني.وعلى هذا يكون الجمع بين الحديثين أنه كان رخصة في أول الأمر.الوجه الثاني: إذا قيل بالمعارضة فإن هذا الحديث لا يقوى على معارضة النص الذي معنا، وذلك أن النص الذي معنا مما اتفق عليه الشيخان، والقاعدة في الأصول أنه إذا تعارض الصحيح والحسن يقدم الصحيح على الحسن، كما قال صاحب الطلعة في الحديث الحسن: وهو في الحجة كالصحيح ودونه إن صير للترجيح أي: الحديث الحسن نحتج به كما نحتج بالحديث الصحيح، ولكن إذا عارض الصحيح فإننا نسقطه في مقابل ما هو أصح منه وأثبت، وبناء على ذلك فلا إشكال باعتماد القول الذي يقول برجحان وجوب غسل الجمعة، خاصة وأن هناك عدة أحاديث: منها: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)، وحديث عائشة: (فأمر الناس أن يغتسلوا) وقوله صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، فهذه الأحاديث قوية جدا في التأكيد واللزوم، وعلى هذا فإنه يقدم القول الذي يقول بوجوبه، مع أن بعض العلماء يقول: إن متن حديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) لا يخلو من نظر من ناحية دقة تركيبه اللغوي، وبعده عن الجزالة ودقة البلاغة في التعبير، ولذلك يقولون: إنه لا يبلغ ما بلغه ما هو أصح منه من الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.ثم إن مما يقوي هذا الترجيح أننا وجدنا الصحابة يرجحون جانب الغسل، ووجه ذلك: أن عمر رضي الله عنه لما تأخر عثمان قال: أي ساعة هذه؟! قال: يا أمير المؤمنين: كنت في السوق، فما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت ثم غدوت.قال: والوضوء أيضا! والإنكار لا يكون إلا في ترك واجب أو محرم، فقوله: [والوضوء أيضا!] دل على أنه كان معروفا أنه لا جمعة حتى يغتسل من أراد أن يجمع، وهذا قاله أمير المؤمنين -رضي الله عنه- على حضور ملأ من الصحابة، وكان ذلك الزمن غضا طريا قريبا من عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقول قائل: إن هذا يدل على السنية لأنه جاء بأسلوب الإنكار.وبناء على ذلك يقوى القول الذي يقول بأنه إذا تعارض النصان وعمل الخلفاء الراشدون أو أحد منهم بأحد النصين كان مرجحا له على غيره، فهذا يقوي ترجيح الأمر على حديث السعة والرخصة، والله تعالى أعلم.
[الواجب على من شرع في الطواف يوم الجمعة ثم بدأت الخطبة]
q ما حكم من شرع في الطواف يوم الجمعة، وقبل أن يكمل شرع الإمام في الخطبة، هل يتم طوافه، أو ينتظر حتى ينتهي الإمام من الخطبة والصلاة؟
a هذه المسألة فيها تفصيل: فالأطوفة تختلف، فما كان من الأطوفة واجبا وفرضا لازما فالمختار أنه لا يقطعه، ويستمر فيه حتى ينتهي؛ لأنه يمكنه أن يستمع الخطبة، مع أنه في الغالب إذا كان الطواف عليه واجبا أن يكون من المسافرين الذين لا تلزمهم الجمعة.ولذلك يقولون في مثل هذا: يستمر حتى ينتهي من طوافه، ثم بعد ذلك إذا أقيمت الصلاة دخل مع الإمام وصلى.أما إذا كان الطواف سنة أو مستحبا، فحينئذ يقولون: إنه يقطعه، وينصت للإمام ويستمع، ولا حرج عليه في ذلك واختار بعض العلماء أنه يتم الطواف، سواء أكان نفلا أم فريضة؛ لأن الله يقول: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33]، ولأنه يمكنه أن يجمع بين الإنصات بالسكوت عن أذكار الطواف، ويكون مشتغلا بالسماع للخطيب أثناء طوافه، ولا حرج عليه في إتمام الطواف على هذه الصورة.والله تعالى أعلم.
كيفية صلاة السنة البعدية يوم الجمعة لمن صلاها ستا
qمن صلى السنة الراتبة بعد الجمعة أربعا أو ستا، فهل يصليها ركعتين ركعتين، أم يجعلها متصلة بسلام واحد؟
aمن صلى هذه الست التي وردت في حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه وغيره، فإنه يجوز له أن يصلي الأربع الأول بتسليمة واحدة، ثم يصلي ركعتين، ويجوز له أن يصليها ركعتين ركعتين، فهذان وجهان يخير بينهما، والله تعالى أعلم.
[أفضلية ترديد الأذان الأول لمن دخل المسجد وأراد أن يصلي التحية]
q رجل دخل المسجد في وقت أذان الجمعة، فهل يصلي تحية المسجد، أم يستمع ويردد الأذان؟
a يردد الأذان لإمكانه بعد الأذان الأول أن يصلي تحية المسجد دون أن يفوته فضل المصاحبة والموافقة للمؤذن في ذكره، وأما إذا دخل أثناء الأذان الثاني فإننا إذا قلنا: إنه ينتظر فإنه يكون منشغلا بالفضيلة التي يردد فيها وراء المؤذن، ويفوته ما هو أفضل من استماعه وإنصاته لخطبة الجمعة، وعلى هذا فإنه يصلي ولو كان ذلك أثناء الأذان لكي يدرك الإنصات للجمعة بكمالها، وهذا عند بعض العلماء آكد وألزم، والله تعالى أعلم.
[صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم]
q هل للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صفة معينة، وذلك للإكثار منها يوم الجمعة؟
a الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ما تكون إذا كانت بالصيغة الإبراهيمية التي دل عليه الصلاة والسلام أمته وأصحابه عليها، فإذا صلى الصلاة الإبراهيمية فذلك أفضل وأكمل ما يكون؛ لأن القاعدة في الشرع: (الوارد أفضل من غير الوارد)، فالصلاة بهذه الصيغة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل وأكمل.وأما بالنسبة للصيغة في الصلاة، فالأفضل أن يجمع بين الصلاة والسلام؛ لأن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} [الأحزاب:56]، فأمرنا أن نجمع بين الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
[حكم الصلاة على النبي أثناء الصلاة]
qإذا قرأ الإمام قول الله تبارك وتعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} [الأحزاب:56]، فهل يجوز للمأموم أن يتلفظ بالصلاة، أم يجعلها في نفسه، أم لا يقول شيئا على الإطلاق؟
a من فقه الإمامة التي ينبه عليها بعض العلماء أن لا يوقع الإمام المصلين وراءه في الحرج، ومن هنا قالوا: إنه لا يقرأ بسورة {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق:1] لأنه إذا كبر للركوع ذهبوا إلى السجود وسجدوا.وكذلك أيضا قالوا: إنه لا يتعاطى الأمور التي توجب اختلاج صلاة الناس.ومثل هذه المسألة الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: إنه سيعرض المأمومين إلى التكلم في الصلاة، ولذلك يقولون: إن الأفضل أن لا يتعاطى مثل هذه الأمور التي قد توقع الجاهل في الأمور المحظورة، فإن الإنسان إذا صلى وراء إمام وقرأ آية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه في نفسه، ولا يتلفظ بالصلاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام (إن في الصلاة لشغلا).وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (وإذا قرأ فأنصتوا).وأما بالنسبة للنافلة فقد قال بعض العلماء: يشرع له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر بآية عذاب استعاذ)، ففرقوا بين الفرض والنفل.قالوا: في الفريضة لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقف عند آية العذاب أو آية الرحمة ويتكلم، إنما كان يسرد قراءته، مع أنه ثبتت عنه الأحاديث الصحيحة الكثيرة في قراءته في الفرض من السور التي ذكرت في يوم الجمعة والصلوات، ومع ذلك لم يحفظ عنه حديث واحد أنه توقف لآية عذاب، أو آية رحمة، وأما في قيام الليل فثبت عنه أنه توقف لآية الرحمة وسأل الله من فضله، وتوقف عند آية العذاب واستعاذ بالله عز وجل، فدل على الفرق بين الفرض والنفل، وقد يجوز الشيء في النفل ولا يجوز في الفرض، فلذلك يجوز للإنسان أن يصلي النافلة في السفر على الدابة، ولا يجوز له أن يصلي الفريضة، فالفرض أعلى مرتبة من النفل.ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس المداومة على قراءة هذه الآية ليلة الجمعة، وهذا من البدع فينصح الإمام بعدم تكرار هذا والمداومة عليه، وإذا سمع الناس يتلفظون وراءه ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت عال فإن عليه أن يكون أشد محافظة على صلاة الناس كي لا تبطل، خاصة وأن بعض العلماء يرى عدم جواز التلفظ في مثل هذه الحالة كما ذكرنا، والله تعالى أعلم.
[اختلاف العلماء في أخذ المصلى حكم المسجد]
q هل يأخذ المصلى حكم المسجد في صلاة ركعتين قبل الجلوس؟
a بعض العلماء يقول: إن المصلى لا يأخذ حكم المسجد وهذا قوي من ناحية أن المصلى لا يأخذ حكم المسجد من كل وجه، ولكن هناك أدلة تشير إلى أن المصلى قد يلتحق بالمسجد، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أما الحيض فيعتزلن المصلى)، وفي رواية (الصلاة)، فهذا يدل على أنه يأخذ حكم المسجد، ويقوي قول من قال: إن الحائض لا تدخل المصلى.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجمعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (143)
صـــــ(1) إلى صــ(8)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة الجمعة [4]
دلت الأدلة الصحيحة من السنة على أن هناك مكروهات ومحذورات يجب على المسلم أن يجتنبها في يوم الجمعة حتى لا تخدش في صلاته ولا في أجره،
ومن تلك المحذورات: تخطي رقاب الناس، وإقامة أحد الجالسين من مكانه، والكلام أثناء الخطبة أو اللهو والعبث، والبيع والشراء بعد الأذان الثاني، ونحوها.
محذورات خطبة الجمعة وما قبلها
[تخطي رقاب الناس]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ولا يتخطى رقاب الناس إلا أن يكون إماما أو إلى فرجة].
أي: إذا دخل يوم الجمعة لا يتخطى رقاب الناس.
وقوله: (إلا إذا كان إماما)؛ لأن الإمام لا يستطيع أن يبلغ المنبر إلا عن طريق التخطي، وخاصة أن الإمام لا يدخل إلا وقت الصلاة؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يدخل إلى السلالم مباشرة، ولم يكن يصلي تحية المسجد، ولذلك مذهب المحققين من العلماء، أن السنة للإمام أن يدخل مباشرة إلى المنبر، وألا يصلي تحية المسجد، لكن لو كان هناك وقت وأراد أن يصلي تحية المسجد وأن يجلس فلا حرج، لكن لو دخل في وقت الصلاة فالسنة له أن يدخل إلى المنبر مباشرة، وأن يبتدئ بالسلام على الناس، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، ويعتبر مستثنى من العموم بالأمر بتحية المسجد.بعض العلماء يجيب في هذه المسألة بجواب لطيف،
فيقول: إن جلوسه عليه الصلاة والسلام كان في آخر الزوال.
أي: جلس في وقت منهي عنه،
وهذا يقوي مذهب من يقول: إنه من دخل في وقت منهي عنه يجلس ولا يصلي.
وتوضيح ذلك أن حديث ابن سيدان حمله العلماء على أنه عند الزوال، بمعنى أن جلوس النبي صلى الله عليه وسلم كان في وقت منهي عنه.ضبط الزوال ضبطا دقيقا يحتاج إلى شيء من الموازين الدقيقة جدا، ولذلك حدده الصحابة بالتقريب،
فقال جابر: حين تزول الشمس،
وكان حديث أنس كذلك: (حين يصلي ويخطب) أي: حين تزول الشمس، وهذا -كما يقول العلماء- يرخص فيه، لكن على هذا الوجه الأخير أنه (كان دخوله أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء).
فمن دخل أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء، وكان يرى هذا القول لا يصلي ويجلس.ومن دخل قبل أو بعد فإنه يتسنن إعمالا للأصل الذي يأمر بتحية المسجد.
وقوله: (ولا يتخطى رقاب الناس) لأن فيه وعيدا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعده بعض العلماء أنه من كبائر الذنوب؛ لما فيه من أذية المصلين والتشويش عليهم، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يؤذي المصلين، ويستثنى الإمام، أو من له فرجة، بمعنى أنه لو خرج لقضاء حاجة -كإنسان أصابه الحصر فخرج للوضوء ثم رجع إلى مجلسه- فهو أحق به، كما في الصحيح: (إذا قام الرجل من مجلسه ثم عاد إليه فهو أحق به)، فهذا نص، فكونه يخرج لقضاء حاجته ثم يعود فهو أحق بمجلسه، فلما أذن له الشرع بهذا المجلس جاز له أن يتخطى؛ لأن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فلما كان من لازمه أن يتخطى فلا حرج عليه أن يتخطى، ولا إثم عليه في ذلك.
وقالوا: لو رأى فرجة في الصف الأول، أو في الصف الثاني فإنه يمضي إليها ويتخطى؛ لأن من وراء هذه الفرجة من الصفوف مقصر في سد هذه الفرجة، فيجوز له أن يتخطى وهذا محل إشكال.والذي يظهر أن من الأولى والأحرى أن يحتاط الإنسان وأن لا يتخطى، حتى ولو رأى فرجة؛ لأن المعنى الذي من أجله منع موجود في التخطي للفرجة، وتقصير غيره لا يوجب الاعتداء عليه بالتخطي.واختلف العلماء في كون النهي عن التخطي مخصوصا بيوم الجمعة، أو يشمل.
فقالوا: لو كان هناك حلقة ذكر وجاء إنسان يتخطى؟ يشرع منعه؛ لأن المعنى موجود، فلو جاء إنسان في حلقة كبيرة ورأى الناس مجتمعين، وجعل يتخطى رقابهم حتى يصل إلى المقدمة، فهذا فيه ظلم لهم؛ لأنه تأخر، والمتأخر يجلس حيث انتهى به المجلس -كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم- أما كونه يتخطى رقاب الناس ويؤذيهم ويشوش عليهم فإنه يذهب الخشوع، فربما سمعت الإمام وهو يقرأ القرآن، أو يذكر الموعظة فتأثرت بالموعظة والقرآن، ثم تفاجأ بمن يأتيك فجأة فيضع رجله على عاتقك، أو يضع رجله بجوار كتفك، فإن هذا يزعج، والنفس البشرية ضعيفة، فإن الناس إذا تخطيت رقابهم انشغلوا عن الخطيب وتأثروا بذلك،
وقال العلماء: المعنى موجود حال الخطبة وغير الخطبة، ولكنه حال الخطبة أشد.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام للرجل لما جاء متأخرا وتخطى وهو يخطب: (اجلس فقد آنيت وآذيت)،
ومعنى: (آنيت) جئت متأخرا، وليس هذا وقتك التي تبحث فيه عن الصفوف الأول، (وآذيت) أي: بتخطيك لرقاب الناس.فالصحيح أن يوم الجمعة وغيره على حد سواء، وأن التشويش على المصلين بتخطي رقابهم وأذيتهم لا يجوز.واستثنى العلماء لو أنه أراد أن يمر واستأذن وأذنوا له، أو رأى فرجة بينهم قليلة يستطيع أن يمر منها؛
فقالوا: لا حرج، فهذا ليس من التخطي؛ لأن التخطي المراد به المجاوزة حيث لا توجد الفرجة، أما لو وجددت الفرجة وانخرط فيها، أو سلك فيها فلا حرج.
[حرمة إقامة من سبق إلى مكان والجلوس مكانه]
قال رحمه الله تعالى: [وحرم أن يقيم غيره فيجلس مكانه إلا من قدم صاحبا له فجلس في موضع يحفظه له].
قوله: (وحرم أن يقيم غيره فيجلس مكانه) أراد بـ (غيره) أي: من المصلين؛ لأن هذا نهى عنه عليه الصلاة والسلام لما فيه من الظلم، فمن سبق إلى شيء فهو أحق به، ومن آداب المجالس التي أدب الله بها عباده المؤمنين أن الإنسان إذا سبق إلى مجلسه وجلس فيه فهو أحق به، ولذلك لا يجوز لأحد أن يقيمه، ولا أن يضايقه حتى يقوم.والتشويش على من يصلي على وجه الأذية والإضرار حتى يفسح له، أو يأتي ويبرك عليه حتى يفسح وكل ذلك لا يجوز، سواء أأقامه أم ضايقه حتى يقوم، فكل ذلك من الأذية،
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار).واختلف العلماء في الأب والابن، فلو أراد الأب أن يقيم ابنه ويجلس مكانه، فهل من البر أن يتنازل الابن عن الصف الأول ويتركه لأبيه؟
قال بعض العلماء: الأفضل له أن يتأخر ويقدم أباه، وذلك لأنه إذا تأخر وقدم أباه أصاب البر الذي هو أفضل من الصف الأول، ووجه ذلك أن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله بعد التوحيد بر الوالدين،
فقد قال أحد الصحابة: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها -أي: أول الوقت- قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين) قالوا: فمن أفضل الأعمال وأحبها أن يتأخر الابن لأجل أن يجلس الأب.
وقال بعض العلماء: لا إيثار في القرب ولو للقريب حتى ولو كان الأب، ويدل على ذلك أن صحابيا أراد الجهاد في غزوة فطلب من ابنه أن يبقى ليخرج هو للجهاد،
فقال: كل شيء لك إلا هذا.إني أرجو الجنة.وخرج رضي الله عنه حتى قتل قبل أبيه رضي الله عنه وأرضاه، فكانوا لا يؤثرون في القرب،
والقاعدة: (لا إيثار في القرب)،
فقالوا: لا يقدم الأب من هذا الوجه؛ لأنه إذا قدمه فكأنه زاهد في الخير.والصحيح أن له أن يقدمه،
وأنه إذا قدم أباه أصاب الفضيلتين: فضيلة الصف الأول بوجود البر، وفضيلة البر التي هي من الفضل بمكان،
وقولهم: لا إيثار في القرب؛ لأن فيه زهدا.فإن تقديم الأب ليس على سبيل الزهد، وإنما لرجاء فضيلة ولرجاء طاعة، فلا حرج عليه في مثل هذا.كما اختلف في غير الوالد، مثل كبير السن، أو العالم، أو من له حق كالوالي الذي له فضل، ونحو ذلك،
فقال بعض العلماء: لا حرج أن يقدمه، وهو في حكم الوالدين.وبعض العلماء يخص الوالدين لورود النص، ودلالة النصوص بتفضيلهما على غيرهما.
قوله: [إلا من قدم صاحبا له فجلس في موضعه يحفظه له].هذه المسألة تعرف عن السلف الصالح رحمة الله عليهم من التابعين، فقد كان الواحد منهم كـ محمد بن سيرين وغيرهم ربما يبعث مولاه، فيجلس في مكان، والمولى لا تجب عليه الجمعة، فإذا حضر محمد قام المولى فجلس مكانه وصلى، وقد جاء هذا عن بعض السلف رحمة الله عليهم، وهذا كان أيام الموالي، لأنهم لا تجب عليهم الجمعة، وكذلك يحكى عن أبي هريرة رضي الله عنه مثل هذا.وإن كان الأقوى والأشبه أنه لا يفعل هذا، وأنه لا يجلس إلا في موضع يريد أن يصلي فيه، فإما أن يبكر ويكون له حق السبق، وإما أن يترك المكان لغيره، حتى ولو كان عالما، كما يقع في بعض الأحيان في المحاضرات والندوات حينما يأتي الإنسان متأخرا -خاصة إذا كان على سفر، وكان قدومه في وقت الإقامة- فإنه يريد أن يدخل إلى الصفوف الأولى وربما يزعج المصلين، ولو كان هو المحاضر أو صاحب الندوة فعليه أن يترك الناس على أماكنهم ومصافهم، وإنما له حق التقدم في درسه وفي موعظته، فإذا جلس مكان كرسيه بعد درسه فلا حرج؛ لأنه بعد محاضرته في حكم الجالس في مكانه، فإذا جاء متأخرا وعاق أصحاب الصفوف الأولى، وربما خرج منهم من لا يستطيع الركوع ولا السجود، ولربما ازدحم الناس إلى درجة لا يستطيعون معها الصلاة أو الركوع، فالأفضل أنه يتأخر إلى ما بعد الصلاة، أو يصلي في ناحية المسجد إذا أمكنه، إلا إذا خشي تشويش الناس بالسلام عليه وإعاقته، فإذا دخل يدخل بعد الصلاة مباشرة، حتى يكون أسلم له، وصلاته بجوار الإمام إذا لم يجد مكانا في الصف الأول أفضل من أن يزعج أهل الصف الأول، خاصة وفيهم المبكر، وفيهم من لا يستطيع السجود لو دخل معه، فكونه يحتاط ويتورع، خاصة أهل العلم فهذا أفضل وأولى؛ لأنهم القدوة.فلا يجوز لأحد أن يحتكر مكانا في مصلاه ولو كان مؤذنا أو إماما، فلا يجوز له أن يحتكر هذا المكان إلا في الحدود الشرعية، كخطيب يوم الجمعة، فله أن يحتكر مكانه على منبره، ونحو ذلك، أما أن يأتي متأخرا ويؤذي الناس ويضرهم فلا، والمؤذن كذلك، فإذا أذن المؤذن وكان الناس في مصافهم، ثم خرج من المسجد، وعند الإقامة يأتي ويزاحم أهل الصفوف الأولى، فهذا ليس من حقه؛ لأن هذا المكان استحقاق شرعي لمن سبق، ولا يجوز أذية أحد فيه، وهذه الأمور يغفل عنها كثير من الناس إلا من رحم الله.فالذي ينبغي أن يحتاط في مثل هذه الأمور ويتناصح الناس؛ لأن هذه المساجد أمرها عظيم، فلا يجوز لأحد أن يؤذي فيها مسلما،
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه المصلون) فالذين يأتون إلى الصفوف الأولى -خاصة الذين هم من وراء الإمام- هم أسبق الناس.وقد يكون فيهم كبار السن، وقد يكون فيهم الضعفة والحطمة، فأمثال هؤلاء لا يجوز التضييق عليهم وإزعاجهم.
ومن الأخطاء أيضا: حجز الأماكن في مجالس العلماء، أو مجالس الذكر، كأن يأتي مبكرا فيرمي بكتابه، أو يضع شيئا ثم ينصرف ويجلس في مكان غير المكان الذي هو فيه، فالذي يظهر عدم جواز هذا، وأن الذي ينبغي للناس أن يصلوا ثم ينطلقوا إلى حلق الذكر الأسبق فالأسبق، حتى يكون الناس في هذه الأمور على حد سواء، لا فضل لغنيهم على فقيرهم، ولا لرفيعهم على سوقتهم، إلا بتقوى الله عز وجل والمبادرة للخير، فمن سبق فهو أحق، ومن تأخر نال حظه على قدر ما وصل إليه من الخير، وبناء على ذلك ينبغي للإنسان أن يعمل الأصل، وهو أن السابق أحق، سواء في الصفوف، أم في مجالس العلماء، ولا يجوز لأحد أن يتخطى على أحد، ولا أن يضيق على أحد من المصلين، ما دام أن الأصل يقتضي أنه أحق بهذا المجلس وأولى به.ولا يجوز له أن يحجز المكان لغيره، وهذا من الأمور المحرمة، خاصة إذا كان ذلك عن عوض،
كأن يقول لرجل: احجز لي مكانا بجوارك.وربما يتواطأ الرجلان على أنهما إذا جلسا كان مجلسهما على توسع حتى يأتي الثالث فيجلس ويصلي بينهما.ومن الأمور المحرمة أنه قد تكون هناك فرجة بين الرجلين، فيمتنعان من إدخال أي شخص فيها، إلا من يعرفان، أو من يحبان، فهذا من الظلم،
فقد قال تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} [البقرة:114]، فهذه البقعة خير لهذا الرجل أن يصلي فيها، وأن يذكر الله عز وجل، وأن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بذكره سبحانه في هذه البقع، فكونه يحجزها، أو يتوسع في مجلسه، أو يمنع أحدا من الجلوس بجواره فهذا كله من الظلم الذي لا يجوز للمسلم أن يفعله.وعلى الناس أن يستشعروا عظمة هذه المساجد، وأنه ينبغي ألا يضار أحد فيها، فإن أذية المسلم لا خير فيها،
وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقولون: من الأمور التي تمنع قبول الصلاة: كثرة مظالمهم، وأذية بعضهم لبعض، فلربما يدخلون في المساجد فيقع منهم من الأذية والظلم ما يجعل الإنسان محروما من قبول الصلاة -نسأل الله السلامة والعافية- فلذلك ينبغي التورع في مثل هذه الأمور، فلا يجوز أذية الناس، كأن يأتي الإنسان متأخرا، فيحاول أن يدخل بين الناس وهم في ضيق، ويحاول أن يشعر الناس بأنه صاحب حق لكونه عالما، أو شيخا، أو مؤذنا، أو غير ذلك، فليس هناك حق إلا بالتقوى، وهي المبادرة والمسابقة، وإذا كان الإنسان يريد أن يؤذن أو يؤم الناس فيبكر وليبادر إلى المسجد، فإن هذا أبلغ في البعد عن ظلمهم وأذيتهم.
قال رحمه الله تعالى: [وحرم رفع مصلى مفروش ما لم تحضر الصلاة].
أي: لا يجوز لأحد أن يرفع المصلى المفروش لأحد مالم تحضر الصلاة؛ لأنه يحتمل أن يكون صاحبه معذورا، كأن يذهب لقضاء حاجة أو نحو ذلك، فلا يجوز أن يرفع مصلاه؛ لأن مصلاه فرش لحفظ حقه، وهذا الحق مستحق شرعا فيترك، لكن لو كان هذا المصلى لإنسان غير مستحق، كمن يفعل هذا لإنسان يعطيه مالا أو نحو ذلك، فإنه يشرع لك أن ترفعه وتصلي في مكانه، وهذا نص عليه الأئمة رحمة الله عليهم وأفتوا به، ولـ شيخ الإسلام رحمة الله عليه كلام نفيس في مجموع الفتاوى، وهو أنه لا يجوز مثل هذا إلا عند وجود الضرورة والحاجة.
[حكم القيام من مكان لعارض والعودة إليه]
قال رحمه الله تعالى: [ومن قام من مكانه لعارض لحقه ثم عاد إليه قريبا فهو أحق به].هذا لوجود النص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، فإن عاد إلى مكانه فهو أحق به، خاصة عند الضرورة، وكأن يخرج لقضاء حاجته، أو أصابه حصر، أو خرج منه ريح فخرج يتوضأ، لكن لو أنه انتقل من دون حاجة، كأن ينتقل ليجلس مع صاحبه فلا، فإما أن يجلس بالمكان ويعمره بذكر الله عز وجل، وإما أن يتركه لغيره من المسلمين، خاصة في الصفوف الأولى.
ومن هنا كان على من يريد الاعتكاف في الصفوف الأولى في المساجد في رمضان إذا كان يريد أن ينام في ذلك المكان أنه يتركه إذا كان هناك من يريد أن يصلي فيه، خاصة إذا كانت بقعة لها فضل الصلاة، كأن تكون قرب المقام، أو تكون في روضة المسجد النبوي أو نحو ذلك، فلا ينام فيها؛ لأنه إذا نام عطلها عن ذكر الله عز وجل.فالمساجد إنما بنيت من أجل ذكر الله، وإذا أراد أن ينام فله أن ينام في آخر المسجد، أما أن يأتي إلى الصفوف الأولى وينام فيها عند حاجة الناس فلا، بخلاف ما لو كان الناس ليسوا بحاجة إلى ذلك المكان، مثل أوقات الضحى، فليس هناك من يريد الصف الأول، وليس هناك من يطمع في الصف الأول، فإذا نام في مكانه يريد أن يحرص على هذا الخير وهذا الفضل فلا حرج عليه، أما أن يأتي في الأماكن التي يحتاجها الناس فينام فيها، ويتخذها مكانا لراحته واستجمامه فيعطلها عن ذكر الله فلا، ولذلك لا يكون له حق إلا إذا عمرها بذكر الله عز وجل.ولكن لو أنه خرج لتشييع جنازة، فهل له أن يحجز المكان؟ الصحيح أنه لا يحجز،
ومن أراد أن يشيع الجنازة فهو مخير بين فضيلتين: إما أن يبقى في هذا المكان عامرا له بالذكر والطاعة والصلاة والقربة، وإما أن يمضي لتشييع الجنازة، فإن اختار الخروج لتشييع الجنازة ترك المحل لعامة الناس، فهم فيه سواء، وإن اختار الجلوس فلا إشكال، فحينئذ يكون مستحقا لمكانه بشغله له.
[حكم تحية المسجد حال الخطبة]
قال رحمه الله: [ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما].ذهب المصنف إلى هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، وهذا أصح أقوال العلماء، وهو قول الشافعية والحنابلة، خلافا للحنفية والمالكية، فإنهم يحتجون بأمره عليه الصلاة والسلام، حيث أمر المتخطي للرقاب بقوله: (اجلس)،
وقالوا: إن هذا يدل على عدم لزوم ركعتي تحية المسجد أثناء الخطبة، ولأن الإنصات واجب والتحية عندهم سنة، ولا يشتغل بالسنة عن الواجب.
والصحيح: أنه يصلي ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذلك فقال: (من دخل والإمام يخطب فليصل ركعتين)، وفي رواية: (وليتجوز فيهما)، أي: يقرأ قصار السور، أو قصار الآيات حتى يجلس للاستماع والإنصات.
[حكم الكلام أثناء خطبة الجمعة]
قال المصنف رحمه الله: [ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا له أو لمن يكلمه].هذا إشارة إلى عظيم شأن خطبة الجمعة وصلاتها، فقد عظمها الله تعالى حيث أمر سبحانه وتعالى بالسعي إليها، فقال: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9]، ووصفها بكونها ذكرا له سبحانه وتعالى، وهذا يتضمن التعظيم والإجلال لهذه الموعظة والخطبة.
كما عظم شأنها حينما عد المتكلم أثناء خطبة الخطيب لاغيا، ومن لغا فلا جمعة كاملة له، ولذلك ينقص أجره بكلامه إذا لم يكن معذورا في ذلك الكلام كما سيأتي إن شاء الله تعالى.والسبب في هذا واضح، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل للإنسان في جوفه قلبين، فإذا انشغل وتكلم بأي شيء خارج عن الخطبة، ولم يكن متصلا بالخطيب فإن هذا مظنة لأن يشغل عن الكلام والموعظة، ومظنة لأن يشغل غيره، ولذلك منع أن يكلم غيره، أو ينشغل بشيء كمس الحصى، ونحو ذلك مما يصرف قلبه عن التأثر والإقبال على الخطيب، وهذا كله يؤكد أن مقصود الشرع الانتباه لهذا الخطيب.وفي هذا دلالة على فضل العلم،
فقد قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: من فضائل العلم أن ترى الخطيب يوم الجمعة وقد رقى على أكتاف الناس، وما رفعه إلا فضل الله سبحانه وتعالى، ثم العلم الذي تعلم، ولذلك يؤمر الناس بالإنصات له والسماع له، وأعظمهم أجرا في الجمعة من تأثر بكلامه وأتبعه بالعمل.فلذلك ينهى عن الكلام، فلا يتكلم مع أحد حتى ولو كان الكلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)،
فقولك لصاحبك والإمام يخطب: (أنصت) أمر بمعروف، والأمر بالمعروف واجب، ومع أنك إذا أمرته بالإنصات حصلت المصلحة للجماعة، فإذا كنت مع كونك آمرا بهذا الواجب تعتبر لاغيا، فمن باب أولى إذا انصرفت إلى شيء آخر.ومن هنا أخذ العلماء دليلا على أنه لا يشمت العاطس،
فلو عطس العاطس وقال: (الحمد لله) لا تشمته؛ لأنه إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع كون مصلحته تنفع الناس في سماع الخطبة يعد من اللغو، فمن باب أولى وأحرى ما انفك عن ذات الجمعة وذات الخطبة،
وبناء على ذلك قالوا: لا يشمت العاطس، ولا يرد السلام، كما لو كان في فريضة.
وأكدوا ذلك فقالوا: لمسنا من الشرع أن الخطبتين كأنهما قائمتان مقام الركعتين الأوليين من الظهر، ولذلك أمر بالسعي للجمعة بعد النداء الثاني، وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإنصات والإقبال على الخطيب،
قالوا: هذا يؤكد أنه في حكم المصلي، ولذلك لا يرد السلام، ولا يشمت العاطس.
فقوله رحمه الله: [ولا يجوز الكلام] أي: للمأموم إذا جلس أثناء خطبة الخطيب، ويبتدئ هذا الحظر من ابتداء الخطيب في الخطبة، أما لو سلم أثناء سلامه، أو أثناء الأذان الثاني، أو أثناء جلوسه بين الخطبتين فلا حرج.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يتكلمون وعمر جالس على المنبر، بعد سلامه أثناء أذان المؤذن، وكذلك كانوا يتكلمون بين الخطبتين.إلا أن الكلام بين الخطبتين ضيق فيه بعض العلماء،
فقالوا: والأولى والأحرى أن يشتغل بما هو فيه من ذكر الله عز وجل، خاصة وأن بعض العلماء يرى أن بين الخطبتين مظنة أن تكون ساعة إجابة.
فقوله: [لا يجوز الكلام] أي: لا يتكلم مع غيره، ولا يجيب غيره ولو كان بذكر الله.واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الخطيب، أو أمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم،
واختلفوا كذلك إذا ذكر المأموم الله عز وجل أثناء الخطبة: فقال بعض العلماء: إنه يجوز للمأموم أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يؤمن ولا حرج عليه في ذلك.والسبب في هذا أنهم يرون أن المأموم إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حكم الذاكر، وكأنه متصل بالخطبة؛ لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وردت أثناء الخطبة.
ولذلك يقولون: هذا في حكم المتصل بالخطبة كما لو كلمه الخطيب، وهكذا إذا أمرهم الخطيب، وأكدوا بتأكد الصلاة عليه أثناء ذكره،
فقالوا: يشرع له أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره.والأقوى والأرجح ما ذهب إليه جمع من العلماء رحمة الله عليهم أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، والسبب في هذا واضح،
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت) فإذا كان هذا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن باب أولى في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وما اعتذروا به محل نظر،
لكن غاية ما يقال: إنه لو صلى أحد على النبي صلى الله عليه وسلم فلا حرج، ومن صلى عليه جهرة فلا حرج، ومن أنصت فلا حرج، لكن الأفضل أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، وهكذا التأمين، فإنه يؤمن في نفسه، فكلما دعا الخطيب أمن المأموم في نفسه على دعائه، وسأل الله أن يستجيب هذا الدعاء من قلبه، ويكون هذا في حكم التأمين، ويكون إنصاته لمكان الاشتغال بما هو أولى وأهم من الإنصات.
والذين يقولون: يؤمن ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الحديث يدل على هذا،
وذلك أنه قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب)، وإذا دعا وشرع في الدعاء فليس بخطيب، إنما هو داع وسائل.ولكن رد هذا القول؛
إذ كيف يقال: إن من الأمور اللازمة للخطبة أن يدعو،
ثم يقال: إن هذا ليس من الخطبة.فهذا تعارض، فإنهم يعتبرون الدعاء من الأمور التي ينبغي للخطيب أن يحافظ عليها تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم لورود حديث الاستسقاء، وذلك أن الصحابي سأله أن يستسقي فدعا، فدل على أنه كان من عادته أن يدعو آخر خطبته،
قالوا: فإذا كان هذا فإنه من السنة والهدي.فالذي يترجح ويقوى أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، وكذلك يؤمن على الدعاء في نفسه دون حدوث صوت أو كلام مسموع.
قوله: (إلا له) أي إذا خاطب الخطيب، أو كلمه الخطيب فأجاب فلا حرج، كأن يسأله الخطيب عن أمر فيرد عليه، أو يسأل الخطيب أن يستسقي وأن يسأل الله عز وجل الغيث والرحمة بالناس،
ودليله ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه أعرابي وهو يخطب فقال: ادع الله أن يغيثنا.
قال بعض العلماء: هو عباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه وأرضاه، والرواية مبهمة في الصحيحين.ووجه الدلالة أنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.وكذلك إذا خاطبه الخطيب،
كأن يقول له: أصليت؟ -أي: التحية- فيقول: نعم، صليت، إذا كان قد صلى،
أو يقول: لم أصل، إذا لم يكن صلى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابي: (قم فاركع ركعتين).فهذا يدل على مشروعية مخاطبة المأموم للإمام.أيضا: حديث أنس في الصحيحين أنه لما أمطر الناس سبتا -أي أسبوعا- جاء الأعرابي من الجمعة القادمة وقال: (يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل، فاسأل الله أن يصرف الغيث، قال: فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر)، فما أشار إلى ناحية إلا تفرقت.
فأخذ من هذين الحديثين حكمان: الحكم الأول: أنه لا حرج على المأموم أن يخاطب الإمام.
الحكم الثاني: لا حرج على المأموم أن يرد إذا سأله الإمام.ومن هنا أخذ بعض العلماء مشروعية الفتح على الإمام إذا أخطأ في الخطبة،
قالوا: لأنه في حكم المتكلم مع الإمام، فلو أن الخطيب قرأ الآية وأخطأ فيها شرع لك أن تنبهه على الخطأ وأن تفتح عليه، أو نسي تمام الآية، فتفتح عليه بما يتمها.
[جواز الكلام قبل الخطبة وبعدها]
قال رحمه الله تعالى: [ويجوز قبل الخطبة وبعدها] قوله: [ويجوز قبل الخطبة] أي: يجوز له أن يتكلم قبل أن يخطب الخطيب، وذلك في حالة جلوس الخطيب بعد السلام وقبل ابتداء الخطبة.
وقوله: [وبعدها] أي: بعد الخطبة، وذلك حين ينتهي من خطبته وقبل دخوله في الصلاة،
فلا حرج إذا قام الناس أن تشير لرجل وتقول له: تقدم.
أو تشير لرجل وتقول له: تأخر، لأجل تسوية الصفوف، فإن هذا الكلام لا حرج فيه.فإذا كان الأصل أنه لا يتكلم الإنسان في حال خطبة الخطيب،
فهنا مسائل: المسألة الأولى: لو كان الإنسان أصم لا يسمع، فإن عموم النص يقتضي أنه لا يتكلم؛ لأن الأمر فيه معنى وفيه عبادة، فإن انتفى المعنى فالتعبد موجود فيه، ولذلك يلزم الأصم بالسماع للخطبة والإنصات ولو لم يكن يسمع.
المسألة الثانية: لو قلنا: إن الخطيب يجوز له أن يخطب بغير اللسان العربي، فخطب بغير اللسان العربي، وكان المستمع عربيا، فإنه ينصت ويسمع؛ لمقام التعبد، كما لو صلى أعجمي وسمع الإمام يقرأ القرآن فإنه ينصت، مع أنه لا يفقه شيئا من كتاب الله عز وجل.
المسألة الثالثة: اختلف العلماء في هذا الحكم: هي يختص بمن سمع الخطيب دون من كان بعيدا لا يسمع، أم هو عام؟ ومثال ذلك: لو كان المسجد صغيرا كما هو الحال في الأيام القديمة، وامتلأ بالناس حتى صلى المأموم خارج المسجد، بحيث لا يسمع صوت الخطيب، أو صلى داخله ولم يسمع صوت الخطيب.
فقال بعض العلماء: إذا كان لا يسمع الخطيب فيجوز له أن يتكلم، ولا حرج عليه في ذلك.وهذا اجتهاد مبني على المعنى، وذلك أنهم رأوا أن المقصود أن يستفيد من الخطبة وينتفع، وأنه إذا لم يسمع الإمام ولم يسمع الخطبة، فإن إنصاته لا معنى له.والصحيح أن فيه معنى التعبد، ولذلك يلزم بالإنصات والسكوت، سواء أسمع الخطيب أم لم يسمع، على المختار من أقوال العلماء رحمة الله عليهم.
المسألة الرابعة: لو كان بجوارك من يتكلم والإمام يخطب، وأردت أن تسكته، فإذا قلت له أنصت فقد لغوت، وإن سكت شوش عليك بحيث لا تسمع.
ففي هذه الحالة اختار جمع من السلف أن تشير إليه بإصبعك أن: اصمت.وذلك بأن ترفع السبابة وتضعها على الفم، إشارة إلى السكوت والإنصات، قالوا: فإذا أشار إليه بهذا فقد كفاه.وهذا يختاره بعض العلماء، وممن اختاره الإمام أحمد رحمة الله عليه، وبعض السلف ينصون على هذا، وأنه لا حرج أن يخاطب بالإشارة.
وقال بعض العلماء: الإشارة منزلة منزلة العبارة.والصحيح أن الإشارة لا تأخذ هذا الحكم؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)، والقول لا يكون إلا باللفظ المسموع، وبناء على ذلك فإنه لا يؤثر أن يشير إليه بالإنصات، ولأن الإشارة بالإنصات ليس فيها انصراف، خاصة وأنه يسمع للخطيب.وإذا نظر إلى المعنى ومقصود الشرع فإنه صحيح، فإنك لو تركته يتكلم ويشوش عليك فكأنك لم تنصت إلى الإمام أصلا، فإنه بكلامه سيضيع عليك، ويجوز ارتكاب المفسدة الدنيا لمصلحة أعلى منها.
ولذلك نقول: إن إقباله على هذا وإشارته له بالإنصات أخف من كونه يسكت عنه، حتى يضيع عليه الذكر والإنصات.
المسألة الخامسة: لو سأل سائل مالا أثناء الخطبة فقد اختلف العلماء في جواز إعطائه وعدمه: فبعض العلماء يمنع من السؤال في المسجد، ولا يرى جواز أن يسأل السائل داخل المسجد، وهذا القول من القوة بمكان،
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا) فقد لا يجد ظهرا، وينشد ضالته في هذه الحالة مع وجود هذا الاضطرار والحاجة،
ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (فليقل: لا ردها الله عليك)، ويعزر بالتوبيخ والتقريع والدعاء عليه، فضياع الدابة بمثابة فقد المال، وطلبه للدابة كطلب المال، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن المساجد لم تبن لهذا)، والأصوليون يقولون: إن جملة: (فإن المساجد)، كأنها تعليل لنهيه عن نشد الضالة في المسجد،
قالوا: فلما قال: (فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا)، فمعناه: أن المساجد لم تبن للسؤال،
وبعبارة أجمع: المساجد لم تبن إلا لذكر الله ولم تبن للدنيا، وهذا سائل دنيا.ورخص بعض العلماء في سؤال السائل في المسجد، وفيه حديث علي المشهور أنه أعطى سائلا يسأل في المسجد وهو راكع،
فأنزل الله الآية: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} [المائدة:55]، فأثني عليه مع أنه أعطاه في المسجد.والذي تطمئن له النفس التضييق على هؤلاء، وينبغي أن يكون بأسلوب مؤدب إذا أمكن، لكن الإنسان لو تورع عن منعهم، فإنه قد يكون أفضل له من ناحية الورع، والسبب في منعه -خاصة في هذه الأزمنة التي يقوم فيها الرجل ويتكلم كلاما كثيرا- أنه يشغل الناس عن الأذكار بعد الصلاة، وقد يزعجهم ويقلقهم بأمور الله أعلم هل هو صادق فيها أو كاذب، مع أن الأمر توسع أكثر من اللازم، وقد يكون فيه شيء من الكذب والاحتيال على الناس، ولو أن هذا الأمر نظم ورتب عن طريق أئمة المساجد، بحيث لا يسأل إلا من كانت له بطاقة معينة لكان هذا أولى، حتى لا يكون فتحا لباب أذية الناس في صلاتهم، فإنه إذا قام أمام الناس وذكر فجائعه ونكباته، وما نزل به ضيق على الناس وشوش عليهم، وأذهب الخشوع عنهم، وأشغلهم عن ذكر الله، خاصة أن القلوب طرية ندية قريبة من ذكر الله ومن الصلاة والعبادة، ومن الإقبال على الله عز وجل، وقد يصيح صياحا يزعج الناس ويقلقهم، وقد يشوش على المصلين، وعلى من يقضي صلاته، فلأجل هذه المفاسد كلها يقوى القول أن يصرف،
فيقال له: إن شئت أن تسأل فاذهب إلى الباب، ولا تتكلم، فهذا الذي تطمئن إليه النفس،
وإن امتنع الإنسان عن منعهم لقوله تعالى: {وأما السائل فلا تنهر} [الضحى:10] فهذا تورع، لكن الحكم شيء والورع شيء آخر، فالذي تطمئن إليه النفس أنه لا يسأل.وعلى القول بأنه يجوز له أن يسأل، فلو سأل أثناء الجمعة، وكان الإنسان يستمع للجمعة، وأراد أن يعطيه فإنه ورد في هذه المسألة أن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا رأى السائل يسأل أثناء الجمعة في المسجد حصبه.واستشكل هذا،
خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من مس الحصى فقد لغا)، واعتذر لهذا بأنه مس لمقصود شرعي، ولا يخلو هذا الاعتذار من نظر، لكن الذي يظهر صرفهم وعدم إعطائهم، والأقوى أنه لا يعطى أثناء الخطبة؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت).وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة العيدين)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (144)
صـــــ(1) إلى صــ(12)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة العيدين [1]
شرع الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عيد الفطر وعيد الأضحى لكي يتوسعوا فيهما بالمباحات ويتقربوا إلى ربهم بالطاعات، ويشكروا الله تعالى على ما أنعم عليهم به من تسهيل صيام رمضان في عيد الفطر وسؤال قبوله، وعلى ما يسر لهم في أداء المناسك في عيد الأضحى.وقد شرع لهم الاجتماع للصلاة في هذين العيدين ليتعارفوا ويتواصلوا ويهنئ بعضهم بعضا.وهناك شروط ومستحبات في صلاة العيد ينبغي الإلمام بها ومعرفتها.
[صلاة العيدين وأحكامها]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة العيدين].هذا الباب يقصد المصنف منه أن يبين لنا أحكام صلاة العيدين، أي: في هذا الباب سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصلاة العيدين.
والمناسبة في ذكره بعد باب صلاة الجمعة أن الجمعة عيد الأسبوع، والعيدان يعتبر كل واحد منهما عيد للمسلمين يشرع في كل عام مرة.والعيد مأخوذ من العود، سمي بذلك لأنه يعود ويتكرر كل عام، وبهذا قال بعض العلماء.
وقيل: لأنه يعود بالفرح والسرور على الناس.
وقال بعض أئمة اللغة: الأصل أن العرب تصف الشيء الذي فيه اجتماع بكونه عيدا، ولذلك يقولون: إنه سمي عيدا لاجتماع الناس فيه.وعبر المصنف بقوله: [باب صلاة العيدين] لأن للمسلمين عيدين لا ثالث لهما، فلم يقل: باب صلاة الأعياد، وإنما شرع الله عيدين، وصلاتين لهذين العيدين، ولم يشرع عيدا ثالثا إلا عيد الأسبوع المعروف الذي هو يوم الجمعة، فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى الجمعة عيدا.
قال بعض العلماء في قوله تعالى: {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى:14 - 15]، إن قوله تعالى: (قد أفلح من تزكى) المراد به زكاة الفطر، وقوله تعالى: (وذكر اسم ربه) أي: كبر ليلة عيد الفطر، وقوله تعالى: (فصلى) أي: صلاة عيد الفطر، وقال بعض العلماء في قوله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر:2] أي: صل صلاة عيد الأضحى وانحر الأضحية.فالآية الأولى في سورة (الأعلى) تدل على مشروعية عيد الفطر، والآية الثانية في سورة الكوثر تدل على مشروعية صلاة عيد الأضحى.[باب صلاة العيدين] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصلاة العيدين.ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان للأنصار يومان في الجاهلية يلعبون فيهما بمثابة العيد لهم، ثم إن الله أبدلهما بهذين اليومين يومي عيد الفطر والأضحى، عوضا عما كان الأنصار عليه في الجاهلية.
وقال بعض العلماء: إن أول صلاة للعيد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم كانت في السنة الثانية من الهجرة، وذلك أن افتراض الصيام كان فيها.
[حكم صلاة العيدين]
قال رحمه الله تعالى: قوله: [وهي فرض كفاية] أي: صلاة العيدين فرض كفاية، والفرض إما عيني وإما كفائي، والعيني: هو الذي يجب على كل مكلف بعينه كالصلاة، فإنه يقوم بها المكلف بعينه ويخاطب بها بعينه إن توفرت فيه الشروط التي تدل على لزوم الصلاة عليه، وأما فرض الكفاية فإنه يعتبر وجوبه متعلقا ببعض المكلفين، بحيث لو قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين.
فقال المصنف: [وهي فرض كفاية] أي: صلاة العيدين، وهذه المسالة فيها ثلاثة أقوال للعلماء أصحها وأقواها -كما هو مذهب الحنفية وبعض المالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله- أنها فرض عيني، أي: من الفروض اللازمة على المكلف عينا.والدليل على لزومها آية الكوثر، فإن المراد بها عيد الأضحى بلا إشكال؛ لأن قوله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر:2] أمر، والأمر يدل على الوجوب واللزوم، ومن أقوى الأدلة على ذلك حديث: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق وذوات الخدور والحيض، وقال: أما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين -وفي رواية:- ودعوة الناس).
قالوا: فكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر العواتق وذوات الخدور والحيض أن يخرجن يؤكد لزومها وفرضيتها وهذا القول من القوة بمكان، أي أنها واجبة ولازمة، ولا يجوز للإنسان أن يتخلف عنها إلا بعذر.
وقوله: [فرض كفاية] أي: إذا صلى بعض المكلفين سقط الإثم عن الباقين، بحيث لو صلت جماعة سقط الإثم عن أهل المدينة كلهم، ولو امتنع أهل المدينة ولم يصل أحد منهم صار الإثم على الجميع.
وقوله: [إذا تركها أهل بلد قاتلهم الإمام] أي: إذا ترك أهل بلد صلاة العيد قاتلهم الإمام، وذلك لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وشعائر الإسلام الظاهرة يقاتل عليها الإنسان، ولا يدل ذلك على كفره، أي: كوننا نقاتلهم لا يدل على كفرهم، ولذلك أمر الله عز وجل بقتال الفئة الباغية من المسلمين، ومع هذا لا يحكم بكونها كافرة، فالأمر بمقاتلتهم لا يستلزم كونهم كافرين؛ لأنهم تركوا هذه الشعيرة الظاهرة من شعائر الإسلام، ويقاتلهم ولي الأمر ولا يكون قتالهم من الأفراد.
ومن أمثلة ذلك: الأذان، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغزوا قوما انتظر حتى تحضر الصلاة، فإذا سمع أذانا كف عن قتالهم، وإن لم يسمع ركب القوم وقاتلهم، فهذه من شعائر الإسلام الظاهرة، فلو أن أهل بلد قالوا: لا نصلي العيد شرع لولي الأمر أن يقاتلهم حتى يحيوا هذه الشعيرة التي تعتبر شعارا ظاهرا للمسلمين.
[وقت صلاة العيدين]
قال رحمه الله تعالى: [ووقتها كصلاة الضحى] أي: وقت صلاة العيدين كصلاة الضحى، وصلاة الضحى يبتدئ وقتها -كما تقدم معنا- من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الضحى، والضحى يمتد إلى ما قبل الزوال، فهنا التشبيه بصلاة الضحى ابتداء، أي: يبتدئ وقت صلاة العيدين بابتداء وقت صلاة الضحى.
والحقيقة أن الأصل في الضحى أن وقتها إنما هو مبني على صلاة العيدين، فحينما قيل: يبتدئ وقتها من ارتفاع الشمس قيد رمح إنما هو مبني على صلاة العيدين، وهنا كأنه تشبيه عكسي، فألحق الأصل بالفرع، وإلا ففي الواقع أن صلاة العيدين هي الأصل في أن تبدأ بعد ارتفاع الشمس قيد رمح.وتوضيح ذلك أنه إذا صلى المكلف الفجر، فإنه يمسك عن صلاة النافلة حتى تطلع الشمس، كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمرو بن عبسة رضي الله عنه: (فإذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت فإنها تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت فالصلاة مكتوبة مشهودة)، فظاهره أنه بمجرد طلوعها تجوز الصلاة، فكونه عليه الصلاة والسلام تأخر وامتنع أن يصلي العيد ويوقعه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح فهمنا منه أن هذا أقل ما يكون، وتوضيح ذلك أنها أثناء الطلوع بالإجماع لا تجوز الصلاة، وأثناء الغروب كذلك لا تجوز الصلاة؛ لأنه ورد في الحديث الثابت في الصحيح: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا.
وذكر منها: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع)، فلما جاء النص (حين تطلع الشمس) أصبح ردء للنص الذي يقول: (حتى تطلع الشمس)، فيصبح الحديث الأول ناهيا عن النافلة إلى حين الطلوع، والحديث الثاني في قوله: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع) ناهيا عن النافلة أثناء الطلوع، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأنها تطلع بين قرني الشيطان، فيسجد الكفار لها، وفي الحقيقة هم ساجدون للشيطان -والعياذ بالله-، فنهي المسلم عن إيقاع الصلاة في هذا الوقت.
فإذا ثبت هذا فإنه قد يقال: إذا كان الوقت المصاحب للطلوع الأصل فيه عدم جواز الصلاة، فيرد فمتى يجوز به أن يصلي، أي: متى ينتهي الحظر؟و a أن السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يوقع نافلة قبل أن ترتفع الشمس قيد رمح، ففهمنا من هذا أن قيد الرمح هو ابتداء الإذن بالصلاة بعد طلوع الشمس.وقيد الرمح.مقداره عند بعض العلماء ما يقارب سبع دقائق من ابتداء الإشراق، فهذا هو ابتداء وقت صلاة العيد إذا ارتفعت قيد رمح، ثم يستمر الوقت بعدها.وصلاة الضحى سميت بذلك من باب تسمية الشيء بزمانه، ومنه سميت الأضحية أضحية؛ لأنها تقع في ضحى يوم النحر.
قال رحمه الله تعالى: [وآخره الزوال].
أي: وآخر وقت صلاة العيد الزوال، والزوال: زوال الشمس.وظاهر العبارة أنه يجوز أن يصلي إلى أن تزول الشمس، والواقع أنه أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء ينتهي وقت صلاة العيدين، وإذا عبر بالزوال فكأنه ينبه على ما قبله؛ لأنه قد تقدم معنا أن وقت انتصاف الشمس في كبد السماء لا تجوز الصلاة فيه، فلو قال: (إلى انتصاف النهار) كان أبلغ وأدق؛ لأنه هو المراد، فإنه عند انتصاف النهار ينتهي وقت صلاة العيدين.
قال رحمه الله تعالى: [فإن لم يعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغد] بعد أن بين رحمه الله أن الوقت يبتدئ من وقت صلاة الضحى، أي: من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال، أو إلى منتصف النهار -كما قلنا- فإنه قد يقال: لو أنهم علموا أن اليوم يوم عيد في وقت متأخره فما الحكم؟ أي: لو أن الناس أصبحوا صائمين، ولم يعلموا إلا بعد طلوع الشمس.
والجواب: في هذا تفصيل: فإن علموا بعد طلوع الشمس وقبل انتصاف النهار بحيث يسعهم أن يصلوا أفطروا وتهيأوا وصلوا، وأما إذا لم يعلموا إلا قبيل الزوال، أو قبيل انتصاف الشمس في كبد السماء، بحيث لا يتيسر للناس أن يصلوا العيد، فإنهم حينئذ يفطرون؛ لأنه لا يجوز صيام يوم العيد، ويغدو بهم الإمام من الغد؛ لما ثبت في الحديث الحسن: (أن الهلال غم على الصحابة فلم يروه، ثم أصبحوا صائمين، ثم جاء ركب في آخر النهار.
فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد رأوا الهلال الليلة الماضية، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يفطروا، وأن يغدوا من الغد إلى المصلى)، وهذا يدل على وجوب صلاة العيد، وبناء على ذلك يكون الحكم أنه إذا بلغهم الخبر بحيث لا يتمكنون من إيقاع صلاة العيد في وقتها، فإنه يأمرهم بالفطر يومها، ثم يغدو بهم إلى الصلاة في الغد.
[مكان صلاة العيدين]
قال رحمه الله: [وتسن في صحراء] أي: وتسن صلاة العيد في صحراء، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان له مصلى، وهو في الموضع الذي يسمى الآن بجامع الغمامة، وهو في غرب المسجد منحرفا إلى الجنوب، فهذا هو مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي صلى فيه العيدين، وصلى فيه الاستسقاء، فكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يخرج للعيد ولا يصليه في داخل المدينة؛ لما في الخروج من إظهار الفرح بهذا اليوم، وإظهار فضل الله عز وجل على العباد بخروج رجالهم ونسائهم وأطفالهم وكبارهم وصغارهم وأغنيائهم وفقرائهم، فهو أبلغ في شعور الناس بالعيد، بخلاف ما لو دخلوا المسجد الذي ألفوه في الجمعة وألفوه في صلواتهم الخمس، لكنهم عندما يخرجون إلى العراء وإلى الفضاء، فهذا أبلغ في شعورهم بهذا اليوم، فيصحبهم الشعور النفسي الذي يكون معه الشعور بفضل الله عز وجل واجتماع المسلمين، وإظهار عزة الإسلام باجتماعهم في هذا الموضع، مع ما فيه من بالغ القربة بتكلف الخروج إلى المصلى.فكان هديه عليه الصلاة والسلام الخروج إلى المصلى، وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فكانوا يخرجون إلى المصلى رضي الله عنهم وأرضاهم، فهذه هي السنة، وهذا هو الأفضل.واستثنى بعض العلماء أهل مكة،
فقالوا: أهل مكة الأفضل لهم أن يصلوا في الحرم لفضل المضاعفة فيه، وللشرف العظيم الذي اختص الله عز وجل به أهل مكة في هذا المسجد وهذا القول من القوة بمكان، حيث لم يحفظ أن أهل مكة على زمان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كان لهم مصلى خارج مكة، أي: لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يصلون العيدين خارج مكة، لكن المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم.
ولو قلنا: إن السنة أن يخرجوا إلى المصلى فهنا مسائل: المسألة الأولى: لو صلوا داخل المدينة أو داخل المسجد، فهل تبطل صلاتهم؟a بالإجماع صلاتهم صحيحة، أي: إذا صلوا داخل المساجد مع عدم وجود العذر، فبالإجماع صلاتهم صحيحة، لكن فاتهم الأفضل.
المسألة الثانية: يشرع لهم أن يتركوا المصلى إذا وجد العذر، ولذلك ثبت عن أهل المدينة في عهد عثمان رضي الله عنه أنهم تركوا المصلى في يوم عيد كان فيه مطر، وصلوا بالمسجد؛ لأن المطر يجحف بالناس ويشق عليهم في الخروج، ولما فيه من التضرر، خاصة أن الإنسان يخرج بثياب عيده، فيكون فيه مشقة وحرج على الناس، مع ما في الطريق من الوحل، وقد جعل الله عز وجل وجود المطر رخصة في ترك الجماعة، ولذلك يقولون: إنهم يصلون داخل المساجد لما فيه من الرفق بهم.والشافعية رحمة الله عليهم -ويوافقهم بعض أهل العلم- عندهم تفصيل،
فيقولون: لا يوضع ضابط معين، والأفضل الصلاة في الخلاء.بمعنى: أن يكون هناك مصلى خارج المدينة، ولكن ينظر الإمام فإن وجد أن المصلى لو خرجوا إليه لحصل الضرر والمشقة الضيق على الناس صلى بهم في المسجد؛ لأنه أرفق بهم، ويكون هذا أشبه بالعذر.ومثل هذا لو كان خروجهم إلى البراز فيه فتن وفيه أذية وضرر، خاصة إذا كثر السفهاء وحصلت الفتن، فلو احتيط بالمساجد لصيانة النساء وحفظهن فلا حرج في مثل هذا.وعلى هذا يتخرج ما لو رأى الإمام فتنا دينية، أو وجد أن المصلحة أن يصلي في المسجد، فلا حرج عليه في عدم الخروج في هذه الحالة على هذا القول.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة العيدين)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (145)
صـــــ(1) إلى صــ(12)
أحكام أخرى متعلقة بصلاة العيدين
[استحباب تقديم صلاة لأضحى وتأخير صلاة الفطر]
قال رحمه الله: [وتقديم صلاة الأضحى] السنة تقديم صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عجل الأضحى، فكان يصلي الأضحى والشمس على قيد رمح، ويصلي الفطر والشمس على قيد رمحين، وهذا لحكمة أشار إليها بعض العلماء، وهي أنه في الأضحى يحتاج الناس إلى ذبح الأضاحي، والسنة في الأضحية والأفضل والأكمل أن يذبح الإنسان أضحيته في أول الضحى؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقولون: يصيب الناس السنة بالتعجيل بحصول هذه الشعيرة التي شرعت في يوم عيد النحر، وأما في الفطر فالناس يحتاجون إلى وقت كاف قبل الصلاة لكي يتمكنوا من إخراج صدقة الفطر، فتؤخر الصلاة إلى قيد رمحين حتى يتسنى للإنسان أن يجد الفقراء، وأن يحسن إليهم، وأن يؤدي زكاة الفطر قبل أن ينتهي وقت زكاة الفطر.
وبناء على ذلك قالوا: السنة في الأضحى أن يعجل وفي الفطر أن يؤخر، ولكن لا يؤخر تأخير مضرا بالناس.ولذلك أنكر عبد الله بن بسر رضي الله عنه وأرضاه على الإمام لما تأخر على الناس يوم العيد، وقال: (إنا كنا في هذه الساعة قد فرغنا من الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: ما شأنه يتأخر عن الناس، وقد كنا في مثل هذا الوقت ننتهي من هذه الصلاة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إنكارا عليه لمخالفته هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
قال رحمه الله تعالى: [وعكسه الفطر].ذلك لأن الناس يحتاجون إلى وقت كاف لكي يخرجوا صدقة الفطر، فإنها تنتهي بالصلاة، فإذا تأخر إلى طلوع الشمس قيد رمحين فإنه أبلغ في حصول التوسعة عليهم.
[استحباب الأكل قبل صلاة الفطر دون الأضحى]قال رحمه الله تعالى: [وأكله قبلها وعكسه في الأضحى إن ضحى] أي: السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل قبل صلاة عيد الفطر، وأن يؤخر أكله في الأضحى، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عجل فطره لكي يكون أبلغ في الخروج عن عبادة الصوم، فإنه قد ألف الناس الصوم، فكان عليه الصلاة والسلام يفطر على تمرات، فإن تيسر له أصاب التمرة والتمرتين والثلاث، فإنه فطر؛ لأن المراد به أن يفطر فيغدوا إلى المصلى، خاصة إذا كان إماما، وكذلك المأمومون يشرع لهم أن يفطروا على تمر ونحوه، ويكون شهودهم الصلاة وهم مفطرون، حتى يكون أبلغ في الامتثال والطاعة لله سبحانه وتعالى، فسبحان من أمرهم بالصيام قبل وهم اليوم مفطرون.ولكن السنة في الأضحى أن يؤخر فطره إلى أن يصيب أضحيته، كما هو هديه عليه الصلاة والسلام، فلا يأكل حتى ينحر أو يذبح أضحيته، ثم يأكل من هذه الأضحية.
[كراهية صلاة العيدين في الجامع بلا عذر]
قال رحمه الله تعالى: [وتكره في الجامع بلا عذر] أي: يكره أن يصليها في الجامع وفي المدينة بلا عذر، ومفهوم ذلك أنه إذا وجد العذر فلا كراهة، كما فعل السلف الصالح ذلك حينما كان في يوم العيد مطر، فصلوا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
[استحباب تبكير المأموم لصلاة العيد وتأخر الإمام]
قال رحمه الله تعالى: [ويسن تبكير مأموم إليها ماشيا بعد الصبح، وتأخر إمام إلى وقت الصلاة على أحسن هيئة] قوله: [ويسن تبكير مأموم إليها ماشيا بعد الصبح].
أي: يسن أن يبكر المأموم إلى صلاة العيد ماشيا بعد الصبح؛ لأن ابن عمر فعل ذلك، وغدا إلى الصلاة وبكر، وهذا أفضل لما فيه من إدراك فضيلة الصف الأول، ولما فيه من إدراك فضيلة انتظار الصلاة، وذلك أنه سيجلس في المصلى ينتظر الصلاة، وهذه زيادة قربة، ولما فيه من عمارة الوقت بطاعة الله سبحانه وتعالى، والإقبال عليه جل وعلا، فالأفضل له أن يبكر؛ لأنه مسابقة ومسارعة إلى الخير، وذلك مندوب إليه.فيغدوا إلى الصلاة مبكرا مكبرا لله عز وجل معظما، ويكثر من التكبير وذكر الله سبحانه وتعالى، ويرفع صوته بذلك أحياء لهذه الشعيرة في هذا اليوم، ويسن له أن يخرج على خشوع وسكينة ووقار، وألا يأخذه الكبر، خاصة أن يوم العيد يصحبه التجمل والتزين، فيتواضع لله عز وجل، ويحمد الله سبحانه وتعالى الذي كساه من عري، فلا يبطر نعمة الله بالتباهي، ولا يغدو على سبيل الكبر والخيلاء،
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما رجل يتبختر يمشي في برديه قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة).وهذا الحديث يدل على أن التبختر والتباهي إذا لبس الإنسان أحسن ما يجد، أو تجمل أنه من الفتنة له، ولذلك عد العلماء الاختيال في المشية والتكبر فيها أنه من كبائر الذنوب، لورود هذا الوعيد -والعياذ بالله- الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.فلذلك ينبغي للإنسان أن يتنبه لهذا، وأن يكون بعيدا في خروجه إلى المصلى عن الكبر والاختيال والتعالي على الناس، وإنما يخرج خاشعا متذللا لله سبحانه وتعالى، حامدا ذاكرا شاكرا لنعمة الله عز وجل وإحسانه عليه.وكذلك المرأة تخرج إلى صلاة العيد بعيدة عن الفتنة، فلا تتطيب طيبا يشم منها، لا تتزين زينة تفتن الناس، فإنه إن رجعت من الصلاة رجعت بوزر قد يكون أكثر من أجرها، وخير لمثل هذه التي تفتن وتفتن أن تلزم بيتها، فقرارها في بيتها خير لها من الخروج.ولذلك ينبه العلماء على أنه ينبغي الاحتياط واتقاء الفتنة، فليس أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشهود الصلاة مطلقا، ولكنه مقيد بالضوابط الشرعية، فينبغي المحافظة على ذلك في الملبس وفي الهيئة، وفي صفة الخروج، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [وتأخر إمام إلى وقت الصلاة على أحسن هيئة].أي: ويتأخر الإمام فلا يخرج إلى المصلى إلا متأخرا؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا في الجمعة، فالأفضل له أن يأتي وقت الخطبة أو قريبا منه، إلا إذا كان بعيدا عن المسجد ويخشى من العوارض أو ما يطرأ عليه فيبكر بقدر، فهذا يقيد بقدر الحاجة، وإلا فالأصل من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يبكر قبل الجمعة، وكذلك أيضا قبل الصلاة، وإنما كان عليه الصلاة والسلام يمضي وقت الجمعة أو الصلاة.والسبب في هذا أن تكبيرهم -على أحد القولين- ينقطع عند رؤية الإمام، وهذا فعله بعض الصحابة، فكانوا إذا رأوا الإمام قطعوا التكبير،
ولذلك قالوا: الخروج سنة، وفيه شعيرة ويتصل به حكم.ولذلك ينبغي أن يتأخر خروجه إلى وقت الصلاة، ولا يسن في حقه أن يبكر وأن يمضي مع الناس وأن يجلس معهم في الصحراء؛ لأن ذلك أبلغ في الهيبة والإجلال للإمامة وتعظيمها، فيخرج عند دنو وقت الصلاة، ولا يقرب من المصلى إلا وقد أزف الوقت، بحيث يقيم للناس صلاتهم وشعيرة العيد.
ويخرج الإمام بأحسن ما يجد من الثياب؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى حلة حمراء وجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله: ابتع هذه تجمل بها للعيد والوفود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة)، فلم ينكر عليه قوله: (تجمل بها للعيد والوفود).فهذا يدل على أنه كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يتجمل للعيد، وإنما أنكر كونها حمراء، على تفصيل سيأتي إن شاء الله في حكم اللباس الأحمر.فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه قصد التجمل لصلاة العيد،
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاغتسال يوم الجمعة ولبس أحسن الثياب وقال: (إنه عيد)، فدل على أنه يسن التنظف وإبداء الهيئة الحسنة في الملبس، حتى يكون ذلك أبلغ في شهوده للعيد على أكمل وأحسن حال.وكان صلى الله عليه وسلم يتجمل للعيد ويلبس أحسن ما يجد من الثياب، ولذلك ينص العلماء على هذه السنة، وهي أن الإمام يتجمل لصلاة العيد، فيلبس أحسن ما يجد، دون أن يبالغ في زينته، خاصة وأن الأئمة وأهل العلم قدوة لغيرهم.
وكان بعض العلماء رحمة الله عليهم يقولون: يستحب للأئمة والخطباء والوعاظ ومن يلي توجيه الناس أن يكون ملبسه وسطا بين الابتذال وبين الشهرة، أي: المبالغة، والسبب في ذلك أنه لو لبس لباس الأغنياء لم يستطع أن يقرب منه الفقراء، وإذا لبس لباس الفقراء امتهنه الأغنياء والعظماء، فلذلك يلبس الوسط؛ ولأنه إن كان متواضعا ولبس الغالي والنفيس فإن الفقير إذا جاء بجواره تضرر وشعر بالنقص بقربه منه لضيق حاله وضيق يده، ولذلك كان العلماء والأخيار يوصون بأنه ينبغي ألا يبالغ أهل الفضل وأهل العلم في زيهم، حتى لا يكون في ذلك كسر لقلوب الفقراء مما يوجب نفرتهم وبعدهم عنهم.
قال رحمه الله تعالى: [إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه].أي: إلا المعتكف فيشهد العيد بثياب اعتكافه، وليس ثم نص يدل على هذا، وقد كان بعض العلماء يمنع من هذا ويقول: إنه إذا شهد العيد بثياب اعتكافه فربما كانت نتنة فآذى الناس، وربما أضرهم، ثم إنه يتميز عن الناس بذلك، والذي يظهر أنه يشرع له أن يغتسل وأن يلبس أحسن ما يجد كغيره سواء بسواء، وليس ثم دليل يخص المعتكف بهذا الحكم، والأصل أن السنة للجميع -رجالا ونساء- أن يتطيبوا ويتجملوا ويكونوا على أحسن هيئة، دون فرق بين معتكف وغيره.
[شروط صحة صلاة العيدين]
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الشروط التي ينبغي أن تتوفر لكي يحكم باعتبار صلاة العيدين، فقال رحمه الله: [من شرطها الاستيطان]، وقد تقدم أن الاستيطان يعتبر من شروط صحة الجمعة، وبينا حقيقة الاستيطان هناك، وعلى هذا فلا تصح صلاة العيد من مسافر؛ لأنه غير مستوطن، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أدركه عيد النحر وهو على سفر، وذلك في حجته للوداع صلوات الله وسلامه عليه ولم يعيد، وكذلك أيضا لما فتح مكة صلوات الله وسلامه عليه لم يعيد، فدل هذا على أنه من شروط صحة صلاة العيد أن يكون الإنسان مستوطنا.
قال رحمه الله تعالى: [وعدد الجمعة]: وذلك أنهم ألحقوا العيدين بالجمعة، وقد تقدم الكلام على اشتراط العدد لصلاة الجمعة، وعلى هذا فإنه إذا تقرر أن الجمعة تصح بثلاثة فكذلك صلاة العيدين فإنها تصح بهذا العدد؛ لأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تعين الأربعين، أو تعين اثني عشر رجلا، فحينئذ لو صلى ثلاثة وتوفرت فيهم باقي الشروط فإن عيدهم معتبر.
قال رحمه الله تعالى: [ليس منها إذن الإمام]: أي: لا يشترط لصلاة العيدين إذن الإمام، وهذا قول الجماهير رحمة الله عليهم، والعيدان أخص من الجمعة، وإن كان العيد يلتحق بالجمعة في مسائل وأحكام لكنه لا يأخذ الشبه من كل وجه، وعلى هذا قالوا: إنه لا يلتحق بالجمعة من هذا الوجه، أي: لا يشترط في صحة العيد أن يأذن الإمام به، فلو أن جماعة اجتمعوا في ضاحية المدينة، وكانوا مستوطنين وصلوا العيد، فإنه يجزيهم ذلك ويصح منهم، وتعتبر صلاتهم صلاة صحيحة.
[استحباب مخالفة الطريق]
قال رحمه الله تعالى: [ويسن أن يرجع من طريق آخر]: ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يذهب من طريق ويرجع من آخر).واختلف العلماء في سبب ذلك، فقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب من طريق ويخالف في الرجوع فيرجع من طريق آخر، لكي يمر على أكثر عدد من المساكين والضعفاء، فيحسن إليهم -صلوات الله وسلامه عليه-، ويكرمهم، ويدخل السرور عليهم، خاصة أن يوم العيد يندب فيه إدخال السرور على ضعفة المسلمين من المساكين والفقراء ونحوهم،
فقال أصحاب هذا القول: إن ذهابه عليه الصلاة والسلام -كما في حديث جابر - من طريق ورجوعه من طريق آخر يعتبر من هذا الوجه سنة يقتدى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتدى بهديه، وليست من السنن الخاصة به عليه الصلاة والسلام، وبناء على ذلك فإنه يسن للإنسان إذا مضى للعيد أن يمضي من طريق وأن يرجع من طريق آخر، حتى يمر على عدد كبير من الضعفة والفقراء، فيحسن إليهم ويواسيهم، فهذا استحبه جمع من العلماء رحمة الله عليهم.لكن على هذا التخريج لو كان الإنسان راكبا دابته، أو على السيارة كما هو موجود في عصرنا اليوم، أو ما في حكمها، فإنه قد يتعذر عليه صلة المساكين والإحسان إليهم، فيكون أمر السنة فيه من هذا الوجه أضعف.
الوجه الثاني: قالوا: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ورجع من طريق آخر حتى تكون شهادة الخير له من الأرض أكثر، وذلك أن الأرض تشهد بما عليها من الخير، وتحب أن يوطأ عليها إذا كانت تلك الخطوة أو ذلك المشي في طاعة الله، كما قال سبحانه وتعالى: {فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} [الدخان:29]،
قالوا: إن العبد الصالح تبكيه الأرض من كثرة ما كان يعمل عليها من خير، وتبكيه السماء لما كان يصعد من عمله الصالح إلى الله جل وعلا، ويكون فقده على هذا الوجه موجب لبكاء السماء والأرض عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما مضى للعيد من طريق ورجع من طريق آخر، قصد من هذا أن تكثر الخطا على الأرض، فبدل أن تكون من طريق واحد وتكون الشهادة لطريق واحد، تكون الشهادة لأكثر من طريق، وإلى هذا المعنى أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: (يا بني سلمة: دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا دياركم البعيدة عن المسجد، فإن الله عز وجل يكتب لكم هذه الآثار إلى طاعتكم.وأفضل الطاعات الصلاة،
فكأنهم يقولون: كون الإنسان يمضي لصلاة العيد من طريق ويرجع من طريق آخر يكون شهود الأرض له بأرض غير التي شهدت بذهابه، فهذا أفضل في الخير وأكثر، وعلى هذا الوجه تكون الفضيلة والسنة آكد لمن يمشي على قدميه لشهود الخير، ومن ركب على دابته فإنه دون ذلك.
الوجه الثالث: قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى العيد من طريق ورجع من طريق آخر من أجل أنه أرفق به عليه الصلاة والسلام، أي: أخف عليه، فكأنه ذهب من طريق لأنه أضيق، ورجع من طريق آخر لأنه أيسر في الرجوع، وبعض الطرق أخف في الذهاب ولكنه أثقل في الرجوع، وبعضها أخف في الرجوع ولكنه أثقل في الذهاب.والصحيح من هذه الأقوال الأول، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا أكثر من مرة، فلما دخل مكة دخلها عليه الصلاة والسلام من ثنية كداء من جهة القبور والمعلاة، وخرج من أسفلها، وإن كان بعض العلماء يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من ثنية القبور التي تسمى الآن الحجون.
قالوا: والسبب في هذا أنه فعله من أجل إعزاز الإسلام، أي أنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى الهجرة متخفيا في ظلام الليل وسواده، ودخل في وضح النهار من أعلى مكة حتى يكون أبلغ في عزة الإسلام وإظهاره.
كذلك قال بعض العلماء: إنه ذهب للعيد من طريق ورجع من طريق آخر لإغاظة المنافقين، وذلك أن شعائر الإسلام تغيظهم، وكان المنافقون في المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، وتنطوي قلوبهم على ما لا خير فيه للإسلام والمسلمين، فقصد إغارة صدورهم.والصحيح أنه لكثرة شهود الخير، ولكثرة الإحسان إلى الناس، ويدل على هذا أنه عليه الصلاة والسلام ذهب إلى عرفات من طريق ضب، ورجع إلى المزدلفة من طريق المأزمين، وهذا سنة للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره، وقد تكرر هذا في حجه صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك أيضا في ذهابه للعيدين.
وبعض العلماء يقول: هذه سنة جبلية محضة، خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتأسى به، والصحيح أنها من السنن التي يقتدى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ذهبت إلى عرفات من طريق ضب، ورجعت من طريق المأزمين فإنك تكون مصيبا للسنة ومتأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشرع الاقتداء والتأسي بمثل هذا.والسبب في هذا وأن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يشرع التأسي به بالإجماع، ومنها ما يكون جبليا خاصا به، ومنها ما يحتمل أن يكون جبليا ويحتمل أن يكون هديا،
فهذا الفعل وهو ذهابه إلى العيد من طريق ورجوعه من طريق آخر اختلف العلماء فيه: فبعضهم يقول: هذا سنة جبلية لا يتأسى ولا يقتدى به فيه؛ لأنه أرفق به، فغيره لا يشاركه في هذا، وهذا قول ضعيف.والصحيح مذهب الجمهور أنه سنة يتأسى ويقتدى فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيشرع لك أن تذهب من طريق، وأن ترجع من طريق آخر لعمارة الطرق بذكر الله، ولكي تشهد لك الأرض بما يكون عليها من الخير.وقد أخذ العلماء من هذا سنة عامة،
فقالوا: إذا ذهبت إلى أي عمل خير كصلة رحم، وبر والدين، وطلب علم، ونحو ذلك من الخير فلتذهب من طريق ولترجع من طريق آخر؛ لأنك لا تزال في خير حتى ترجع إلى بيتك، فمن خرج إلى طاعة الله عز وجل فهو في طاعة، ويكون في رحمة الله حتى يرجع إلى مكانه، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تكفل لمن خرج في سبيله -أي: للجهاد- لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسولي أن أدخله الجنة أو أرده إلى بيته بما نال من أجر أو غنيمة)، فهذا كله من ضمان الله عز وجل للعبد، فيشرع للإنسان إذا ذهب إلى طاعة أن يذهب من طريق وأن يرجع من طريق آخر.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة العيدين)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (146)
صـــــ(1) إلى صــ(27)
شرح زاد المستقنع - باب صلاة العيدين [2]
لصلاة العيدين صفة مخصوصة جاءت في السنة النبوية، وهي أنه يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وهي ركعتان يكبر في الأولى سبعا وفي الثانية خمسا، يقرأ فيهما بالأعلى والغاشية، ثم يخطب بعدهما خطبتين كخطبتي الجمعة، وهناك مستحبات في الخطبة وفي يوم العيد ينبغي المحافظة عليها، ومنها: التكبير في يوم العيد وليلته، وله صفة مخصوصة ووقت معلوم.
صفة صلاة العيدين وخطبتهما
[تقديم الصلاة على الخطبة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويصليها ركعتين قبل الخطبة يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح، وقبل التعوذ والقراءة سننا، وفي الثانية قبيل القراءة خمسا].
قوله: [ويصليها ركعتين قبل الخطبة].السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبتدئ بالصلاة قبل الخطبة، وهذا هو فعله عليه الصلاة والسلام وفعل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فهو فعله وفعل الخلفاء الراشدين المهديين من بعده رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وأول من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم عفا الله عنا وعنه، فإنه كان إذا خطب مروان ففي آخر الخطبة كان يشتم عليا كما كان يفعله بنو أمية حتى عهد عمر بن عبد العزيز، فكانوا يشتمون عليا على المنابر في خطب الجمعة والعيدين،
وقد قيل: إن معاوية كان منه ذلك لأنه بلغه أن عليا سبه، فكان من باب رد الأذى بالأذى، وعلى العموم فهذه السنة السيئة بقيت في أعيادهم وفي جمعهم، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومون عن مروان إذا ذكر عليا رضي الله عنه ونال منه، فكأنه أخذ في نفسه، فصار يقدم الخطبة على الصلاة، فلما مضى إلى صلاته ذات يوم، وكان معه أبو سعيد رضي الله عنه، فلما أراد أن يصعد المنبر جذبه أبو سعيد، فقال له: غيرتم! -أي: غيرتم السنة- فقال: إن الناس ليسوا كما تعهد.
أي: ليس الناس كما تعهد يصبرون على الخطبة، فكأنه اجتهد في تقديم الخطبة على الصلاة حتى يسمع الناس خطبته وما يكون فيها، ولا شك أن هذا من البدع المحدثات، نسأل الله أن يعفو عنا وعنهم.فمن قدم الخطبة على الصلاة فإن هذه الخطبة لا يعتد بها ولا تصح؛ لأنه خلاف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله واقع في غير موقعه، ووجوده وعدمه على حد سواء، وإنما تصح الخطبة إذا وقعت بعد صلاة العيدين تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه.
[تكبيراتها وحكم الرفع فيها]
فيقول المصنف رحمه الله: [يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستا، وفي الثانية قبل القراءة خمسا]: هذا هو الثابت من هديه صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا، وقد كان يكبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة، سبعا في الأولى وخمسا في الثانية، فقد كان هذا هديه صلوات الله وسلامه عليه في صلاة العيدين: عيد الأضحى وعيد الفطر.
قال رحمه الله تعالى: [يرفع يديه مع كل تكبيرة].رفع اليدين مع كل تكبيرة فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم في مواضع، منها: صلاة العيدين وصلاة الجنازة.
فالمأثور عن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يرفع يديه، وكذلك ابن عمر، وكانوا يقولون: إنه لا يضم.فـ ابن عمر -خاصة مع شدة تحريه للسنة- لن يرفع يديه إلا وله أصل من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح ابن خزيمة ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في تكبيرات الجنائز، والصحيح أنه من رفع فلا حرج عليه ومن ترك فلا حرج عليه، وكل على خير، فمن رفع فله أصل وله سنة، خاصة وأن الأثرم روى بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في هذه التكبيرات، ولكني لم أطلع على سنده، بحيث فلم أجد من جزم بصحة هذه الرواية، فإن صحت فلا إشكال أنها السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها الأفضل.
قال رحمه الله تعالى: [ويقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا].هذا القول المأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كـ ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فقد روي عنه أنه كان يقوله بين التكبيرات، فاستحب بعض العلماء أن يقول هذا؛ لأنه أثر عنه رضي الله عنه، والذي اختاره بعض العلماء أنه يتوقف في الذكر، لكن لو كبر هذا التكبير فإنه يثاب؛ لأن له أصلا من حديث أبي هريرة أن رجلا في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: الله أكبر، ثم قال: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
فلما سلم عليه الصلاة والسلام قال: (من الذي قال كذا وكذا آنفا؟ فقال: أنا يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها إلى السماء أيهم يصعد بها)، وهذا يدل على فضل هذه المعقبات العظيمة.وهذا من أعظم ما يكون من الثناء على الله عز وجل وإجلاله سبحانه وتعظيمه، فلذلك قالوا: يقوله بين التكبيرات أفضل من أن يسكت، ولكن لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء مرفوع، فمن سكت فهو على سنة، ومن قال هذا تأسيا بما أثر عن ابن مسعود -والظن به أن يكون له شبهة التأسي، أو يكون له أصل- فإنه لا حرج عليه، ولا ينكر عليه؛ لأن له سلفا، خاصة أنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومذهب طائفة الاحتجاج بفعل الصحابي وقوله.قال رحمه الله تعالى: [وإن أحب قال غير ذلك]: هذا بناء على أن قول الصحابي حجة، فإذا كان قول الصحابي حجة فكأنهم يرون مشروعية الذكر بين التكبيرات، وأن المحفوظ أن يذكر بينهما، وألا تخلو من وجود ذكر، فإذا كان الأصل الذكر والثناء على الله فلو قال غيرها من الأذكار التي فيها ثناء على الله فلا حرج.
ولكن الأقوى والأولى والأقرب -إن شاء الله- إلى السنة أن يسكت.
[السنة في القراءة فيها]
قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ جهرا بعد الفاتحة بسبح في الأولى، وبالغاشية في الثانية]: كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يصلي صلاة العيدين جهرية، وهذا مما توافق فيه صلاة النهار صلاة الليل، وإلا فالأصل في الصلاة السرية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها في النهار ما عدا الفجر، وكذلك صلاة العيدين فقد أثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ بـ {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1]، و {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية:1]، وكذلك أيضا ثبت عنه أنه قرأ بـ: {ق والقرآن المجيد} [ق:1]، و {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر:1]، وللإمام ابن القيم رحمة الله عليه كلام نفيس في هذه المسألة، فقد بين أن اختيار هاتين السورتين للدلالة على عظمة الله سبحانه وتعالى، خاصة أن فيهما ذكر البعث والنشور ونهاية الدنيا وصيرورة الإنسان إلى الآخرة، وما يعين على رقة قلبه وخشوعه وخضوعه، وخاصة في يوم العيد حيث الناس قد لبسوا أحسن ما يجدون من الثياب، فلربما دخل في الإنسان الغرور ولهو الدنيا والركون إلى شيء مما يصرفه عن ذكر الله عز وجل، فعندما يقرأ الإمام هاتين السورتين فكأنه يوحي إلى القلوب أن تكون على قرب وخوف من الله سبحانه وتعالى، فمع أنه يوم عيد يشرع تذكيرهم بالله عز وجل، ولذلك اختار هذه السورة لما فيها من بالغ العظة والذكرى، خاصة وأن سورة {ق والقرآن المجيد} [ق:1] تشتمل على نهاية الإنسان وحال السعداء والأشقياء، وما ينتهي إليه حال الناس من الخروج من قبورهم إلى لقاء الله جل جلاله، فتذكير الناس في مثل هذا اليوم الذي يغلب فيه الفرح والسرور أدعى إلى الموازنة والبعد عن الغلو في الفرح، والإسلام دين الوسط، فإنه في الأعياد لا يفتح الباب على مصراعيه حتى يسترسل الناس في غيهم وفي فجورهم،
ويقعون في أمور حرمها الله، وكذلك لا يضيق على الناس، فبأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام لما كان يوم العيد، ودخل الحبشة يلعبون بالسلاح في المسجد سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تنظر إليهم، فقام على قدميه الشريفتين صلوات الله وسلامه عليه، وهي تنظر إليهم من وراء ظهره، وهو صلوات الله وسلامه عليه سيد الأمة وأفضل الخلق، فمع فضله وعلو مكانته يقف لها من أجل أن تنظر إليهم وهم يلعبون؛ لأنه يوم عيد، ويوم فرحة ويوم سرور، ولم يعتب عليها، ذلك لأن الحال يقتضي التوسعة،
تقول أم المؤمنين عائشة: وهو يقول لي: (هل فرغت؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل فرغت؟ وأقول: لا بعد).صلوات الله وسلامه عليه، ولما دخل أبو بكر رضي الله عنه وجاريتان تضربان بالدف لـ عائشة رضي الله عنها تغنيان لها، فأراد أن يضربهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يوم عيد) أي: لا تؤذهما فإنه يوم عيد.ولما دخل عمر على الحبشة وهم يلعبون بالسلاح، فأراد أن يحصبهم، قال: (يا عمر! إنه يوم عيدنا)، فهذا يدل على التوسعة، لكن إذا زاد الأمر فإنه يخشى أن الناس يفرطون في اللهو المباح، وفي الأمور التي توجب الوقوع في سخط الله وغضبه وكفران نعمه وبطر عيشه، فقرأ عليه الصلاة والسلام بـ {ق والقرآن المجيد} [ق:1]، وكذلك {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر:1]، فإن هاتين السورتين -خاصة {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر:1]- فيهما تذكير بحال الأمم الماضية، وكيف كانت في عزة ومنعة ثم آلت إلى ما آلت إليه من سوء الخاتمة -والعياذ بالله- بعصيان الله جل وعلا، فهذا شيء عجيب من الموازنة والانضباط لكي يكون المسلم بين الإفراط والتفريط، فهو الوسط الذي يحمد صاحبه، وتكون به عواقب الخير في دينه ودنياه وآخرته.
[صفة الخطبة ومحلها وما يقول فيها]
قال رحمه الله تعالى: [فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة].هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه وغيره فخطبه عليه الصلاة والسلام يوم الفطر والأضحى كانت تشتمل على تعليم الناس، كما سيأتي.فالخطبة في هذا اليوم يقصد منها بيان الأحكام الشرعية، وكذلك أيضا تذكير الناس ووعظهم والأخذ بمجامع قلوبهم إلى الله عز وجل، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب أتى النساء ووعظهن، وقال: (يا معشر النساء: تصدقن ولو من حليكن، فإني أريتكن أكثر حطب جهنم.قلن: يا رسول الله! ولم؟ قال: بكفركن.
قلن: نكفر بالله؟ قال: لا.إنما تكفرن العشير) إلى آخر الحديث.فهذا يدل على أنه ينبغي وعظ الناس في خطبة العيد، سواء أكان عيد الأضحى أم عيد الفطر.قال رحمه الله تعالى: [يستفتح الأولى بتسع تكبيرات، والثانية بسبع].هذا فيه حديث ضعيف في السنن عنه عليه الصلاة والسلام متكلم على سنده، إلا أن جمعا من العلماء تسامحوا فيه، وإن كان بعضهم يقول: السنة والأولى أن يستفتح بالحمد، فإن خشي نفرة القلوب وحصول بعض المفاسد من استفتاحه بالحمد، فإنه لا بأس له أن يستفتح بالتكبير تأليفا للقلوب كما يختاره بعض المحققين، كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مسائل السنن حين يخشى معها حصول الفتنة وما لا يحمد عقباه.قال رحمه الله تعالى: [يحثهم في الفطر على الصدقة، ويبين لهم ما يخرجون].
قوله: [يحثهم في الفطر على الصدقة] هذا قياس على خطبة الأضحى إذا قصد بهذه الصدقة صدقة الفطر كما هو ظاهر من قوله: [ويبين لهم ما يخرجون].ووجه القياس أن حديث البراء بن عازب في خطبته عليه الصلاة والسلام يوم النحر أنه خطب وبين لهم كيف الأضحية، وأي السن يجزي، وبين وقتها عليه الصلاة والسلام،
فقالوا: كما أنه في يوم النحر بين للناس أحكام الأضحية، كذلك يوم الفطر يبين للناس أحكام صدقة الفطر.ولكن هذا محل نظر؛ لأن صدقة الفطر تنتهي بالصلاة، والنحر يبتدأ بانتهاء الصلاة كما سيأتي إن شاء الله بيانه، وبناء على ذلك اختلف الحالان، فكان القياس قياسا مع الفارق، ولذلك يقوى أن تكون موعظة، وهذا هو الأشبه؛ لأن الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في يوم العيد مضى إلى النساء ووعظهن، فدل على أن خطبة العيد الأفضل فيها أن تكون موعظة، ولا يبالغ في الموعظة حتى يخرج الناس عن فرحهم، ولكن تكون موعظة فيها نوع من القصد والاعتدال، حتى يبعد الناس من الغرور، ولا ينفرهم من الفرحة ويخرجهم مما هم فيه من يوم عز في ذلك اليوم الذي هو عز للإسلام والمسلمين.
قال رحمه الله تعالى: [ويرغبهم في الأضحى في الأضحية، ويبين لهم حكمها]: أما في الأضحى فالثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، وفي رواية: (من ذبح قبل الصلاة فلا تجزيه وليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فدل هذا الحديث أن من السنة أن يبين للناس أحكام الذبح والنحر في يوم النحر؛ لأن الناس فيهم العوام، وفيهم الجاهل، وفيهم من قد يكون لأول مرة يضحي عن نفسه وعن أهله، خاصة إذا كان قد توفي أبوه، أو تلبس بهذا الأمر لسفر أبيه إلى حجه ونحو ذلك، فبيانه للأحكام الشرعية يعين الناس على تحقيق مقصود الشرع من ذبح الهدي المعتبر في هذا اليوم، وبناء على ذلك يسن أن يبين للناس هذه الأحكام.
وهذا مأخوذ من حديث البراء في الصحيحين من خطبته عليه الصلاة والسلام يوم النحر الذي ذكرناه وتقدمت الإشارة إليه، فقال العلماء: يسن في خطبة عيد النحر أن تشتمل على بيان أحكام الأضحية.والأفضل أن يجمع بين بيان الأمور التي يحتاج الناس إليها، خاصة إذا كانت هناك أمور عامة، أو تعم بها البلوى، أو يحتاج الناس إليها، فلا حرج أن ينبه عليها، وينبه أيضا على أحكام الأضحية، كما هو هديه عليه الصلاة والسلام.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة العيدين)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (147)
صـــــ(1) إلى صــ(27)
[حكم تكبيرات صلاة العيدين وحكم الخطبتين]
قال رحمه الله تعالى: [والتكبيرات الزوائد والوقف بينهما والخطبتان سنة].أي: أنها ليست بواجبة ولازمة، وعلى هذا فلو نسي التكبير في صلاته فلا يلزمه سجود السهو، فلو أن الإمام قال: الله أكبر، ودخل ثم قال: (الحمد لله رب العالمين) فسها عن التكبير، فإنه لا يلزمه أن يسجد سجود السهو؛ لأن هذه التكبيرات الزوائد من السنة، وكذلك إذا قام من سجوده، فالتكبيرة الأولى تكبيرة انتقال، والخمس بعدها تعتبر من التكبيرات المسنونة، فإن فعلها أصاب، وإن تركها فإنه لا يلزم بتركها بسجود السهو؛ لأنها ليست بواجبة.
قوله: [والخطبتان سنة].أي: كذلك الخطبتان سنة عنه صلى الله عليه وسلم لا تشترطان لصحة الصلاة، فلو أنه صلى ولم يخطب فإنه لا يحكم ببطلان الصلاة، ولكن العلماء رحمة الله عليهم ينصون على أنه أساء بمخالفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن المصنف رحمه الله ومن وافقه قالوا: إنه يتسامح في الخطبة، ولا تعتبر واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير الصحابة حينما قام يخطب -كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة - فقال: (من شاء أن يقعد فليقعد، ومن شاء أن ينصرف فلينصرف)، فخيرهم بين أن يقعدوا وبين أن ينصرفوا، فدل على أن الخطبة ليست بلازمة، ولكن هذا محل نظر عند العلماء رحمة الله عليهم؛ لأنه قد يكون الشيء لازما في حق الإمام، ولكنه ليس بلازم في حق المأمومين.
[حكم التنفل قبل صلاة العيد وبعدها]
قال رحمه الله تعالى: [ويكره التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها]: يكره للإنسان إذا مضى إلى المصلى في يوم العيد أن يتنفل قبل صلاة العيد، حتى ولو طلعت الشمس، ففي عيد الفطر يؤخر إلى ارتفاع الشمس قدر رمحين، فيخرج وقت الكراهة بارتفاع الشمس بقدر رمح، فلو أنه أراد أن يتنفل فيما بين قيد الرمح وقيد الرمحين فإنه يكره له ذلك، بل نص بعض السلف على أنه بدعة محدثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يكن من هدي الصحابة رضوان الله عليهم، وهديه عليه الصلاة والسلام أنه لم يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها، فبعد العيد ينصرف الإنسان مباشرة،
حتى قالوا: إن صلاة العيد تغني عن ركعتي الضحى في يوم العيد، وهذا اختيار بعض العلماء؛ لأن ركعتي الضحى تعتبر تحتها، أو كأنها مندرجة تحتها، ولكن إذا رجع إلى بيته وأراد أن يصلي الضحى فلا حرج، أما في المصلى فلا، فالتأسي برسول الله والاقتداء به أفضل وأكمل، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد من هذا اليوم التوسعة على الناس، فهو يوم عيد ويوم فرحة، يشرع للناس فيه أن يتفرغوا للفرحة بنعمة الله عز وجل عليهم، حتى أنه في الخطبة خيرهم بين أن يجلسوا وبين أن ينصرفوا، ولما وافق يوم العيد يوم الجمعة خيرهم بين أن يأتوا الجمعة وبين أن يصلوها ظهرا، وهذا يدل على التوسعة، وأن مقصود الشرع فرح الناس بهذا اليوم الذي هو يوم عز للإسلام والمسلمين.
[من فاتته صلاة العيدين أو بعضها]
قال رحمه الله تعالى: [ويسن لمن فاتته أو بعضها قضاؤها على صفتها]: قوله: [ويسن لمن فاتته] أي: الصلاة كلها أو بعضها، كأن تأتي والإمام في الركعة الثانية، فإنه يسن بعد سلام الإمام أن تقوم وتقضي، وللعلماء قولان: فقال بعض العلماء: إذا قمت إلى الركعة الثانية فإنك تحتسبها الركعة الأولى لأنك قاض، فتكبر السبع التكبيرات، أي: تكون أشبه بالقضاء،
وهذا مذهب من يقول: ما فات يقضى، أي: الذي فات المسبوق يقضى.والقول الثاني: أن يقوم ويتم، فيكبر كتكبيرات الركعة الثانية ست تكبيرات مع تكبيرة الانتقال، أو خمسا بتكبيرة الانتقال، وجهان للصحابة رضوان الله عليهم في هذا.فعلى هذا الوجه إذا قمت إلى الركعة الثانية تقضي فإنك تحتسبها الركعة الثانية، وهذا هو الأصح؛ لأن الخلاف بين العلماء في المسبوق هل يقضي أو يبني، فإن قلنا: إنك تقضي فكأنك تعيد الركعة الأولى بصورتها، وكانت صورتها مع الإمام سبع تكبيرات، فتعيد السبع، وإن قلنا: تبني، فهو الأقوى من جهة السند والمتن؛ لأن روايات أبي هريرة من طريق الزهري وأصحاب الزهري أقوى، وهي رواية: في رواية: (فأتموا)، ونص الحديث: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، وفي رواية: (فاقضوا)، فعلى رواية: (فاقضوا) تكبر سبعا، وعلى رواية: (فأتموا) تكبير خمسا أو ستا على الوجهين الذين ذكرناهما.
والصحيح أن رواية: (فأتموا) أقوى من وجوه: أولا: من جهة السند، فإن رواتها أوثق وأقوى.
ثانيا: من جهة المتن، فإن الإتمام يستعمل القضاء بمعناه، فإن رواية: (وما فاتكم فاقضوا) محمولة على معنى: (فأتموا)؛ لأن العرب تسمي تمام الشيء قضاء، كقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} [الجمعة:10] أي: أتممتموها، وقوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم} [البقرة:200]، أي أتممتموها، فأصبح متن رواية: (فاقضوا) لا يقوى على معارضة رواية: (فأتموا)؛ لأنه متردد بين معنى التمام وبين معنى القضاء.والقاعدة: إذا تعارض النصان المحتمل والصريح فإنه يقدم الصريح على المحتمل.وعلى هذا فإن الأقوى أن يتم، وعليه فإنك لا تكبر سبعا، وإنما تكبر ستا أو خمسا على الوجهين الذين ذكرناهما عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
[التكبير المطلق والمقيد في العيدين وأحكامه]
قال رحمه الله تعالى: [ويسن التكبير المطلق في ليلتي العيدين]: أي: يسن أن يكبر تكبيرا مطلقا في ليلتي العيدين، أما ليلة عيد الفطر فالتكبير فيها آكد؛ لأن الله عز وجل قال: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} [البقرة:185]، فأمر سبحانه وتعالى بالتكبير بعد تمام العدة، أي: بعد تمام شهر رمضان، ولذلك إذا غابت شمس آخر يوم من رمضان فإنك تكبر، حتى قال بعض العلماء بوجوبه، لقوله تعالى: {ولتكبروا الله} [البقرة:185]، لكن لو كانت الليلة ليلة شك، كليلة الثلاثين التي يحتمل أن تكون من رمضان ويحتمل أن تكون ليلة عيد الفطر فإنه يبتدأ التكبير عند العلم بأنها ليلة عيد الفطر حتى يكون ذلك أبلغ في تحقيق هذا الأمر، أو امتثال هذا الأمر الذي أمر الله عز وجل به عند تمام العدة، وكذلك الحال بالنسبة لعيد النحر، فإن العشر من حيث هي يشرع فيها التكبير، قال تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة:203]،
قال بعض السلف: إن المراد بها عشر ذي الحجة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة.قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه فلم يرجع من ذلك بشيء)، فهذا يدل على فضل ذكر الله في هذه الأيام المعدودات، وكان ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاهما في هذه العشر يدخل إلى السوق وليس له حاجة في السوق أن يبيع ويشتري، ولكن يدخل ويكبر ويرفع صوته، حتى يتذكر الناس التكبير فيكبر الناس بتكبيره.وهذا يدل على تأكد التكبير في هذه العشر، وذكر الله عز وجل فيها، وهذا هو التكبير المطلق،
والمطلق: أصله من الإطلاق، يقال أطلقت الدابة: إذا حللت وثاقها، وضده المقيد، والتكبير المطلق: هو الذي لا يتقيد بالصلوات،
والتكبير المقيد: هو الذي يتقيد بالصلوات، وسيأتي.
قال رحمه الله تعالى: [وفي فطر آكد، وفي كل عشر ذي الحجة]: قوله: [وفي فطر آكد] أي: تكبيرك ليلة عيد الفطر آكد من تكبيرك ليلة عيد النحر؛ لأن في ليلة عيد الفطر أمرا هو قوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة:185].وقوله: [وفي كل عشر ذي الحجة] لقوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة:203]، فيشرع أن يستكثر من ذكر الله سبحانه وتعالى بالتكبير، وهذا هو فعل السلف، كما ذكرنا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وكذلك أثر عن علي رضي الله عنه وأرضاه.قال رحمه الله تعالى: [والمقيد عقب كل فريضة في جماعة].سمي مقيدا لتقيده بالفرائض،
وللعلماء فيه وجهان: الوجه الأول: يتقيد بالفريضة بشرط أن تكون في جماعة، فإذا صلى في جماعة كبر، أما لو صلى وحده فلا يكبر، وهذا يقول به بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ويحكى عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
الوجه الثاني: يشرع أن يكبر أدبار الصلوات، سواء كان في جماعة أم لم يكن في جماعة، وعلى هذا الوجه فلو صلى لوحده فإنه بعد الانتهاء من الصلاة يكبر الله عز وجل.
قال رحمه الله تعالى: [من صلاة الفجر يوم عرفة، وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق]: قوله: [من صلاة الفجر يوم عرفة] هذا يعتبر تكبيرا مقيدا، وهذا عند جمع من العلماء،
وقال بعضهم: من ظهر يوم عرفة، كما يقول به فقهاء المدينة السبعة، إذ يقولون: إنه يبتدأ التكبير المقيد من ظهر يوم عرفة.وقد قوى جمع من العلماء ابتداءه من فجر يوم عرفة، وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أنهم غدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات منهم المكبر ومنهم الملبي ومنهم المهلل، فلم يعب أحدهم على الآخر، وقد قوى بعض المحققين أنه يبتدأ بالتكبير المقيد من فجر يوم عرفة، ويكون بعد الصلوات بعد أن ينتهي الإمام ويسلم، ويلتفت إلى الناس ويكبر، وعلى هذا جرى العمل في عهد السلف الصالح، ولم ينكره أحد، بل جرى على ذلك العمل، وأقره العلماء رحمة الله عليهم، وهي سنة باقية؛ أي: أنه يكبر أدبار الصلوات.
قوله: [وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق]: أي: بعد أن يصلي صلاة الظهر يوم النحر يبتدئ الإمام فيكبر ويكبر الناس بتكبيره، ولكن السنة أن يكبر كل إنسان على حده، وأما إذا اشتركت الأصوات فعلى حالتين: الحالة الأولى: أن يكون الاشتراك قصدا ويطلب ذلك الاشتراك، وأشد ما يكون أن يبتدئ الرجل فيقول اللفظ فيقولون وراءه، فهذا من أشد الأنواع، وأقرب إلى الحدث، وشدد فيه العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، لا في تلبية ولا في تكبير، فلو أن جماعة قام رجل فيهم وصار هو الذي يكبر وهم يكبرون وراءه فإنه إلى الحدث أقرب منه إلى السنة.أما لو أنك كبرت وصار الناس معك يكبرون فاتفقت الأصوات، ولم يكن ذلك بسبيل القطع، ولم يكن ذلك متابعة لواحد منهم، فلا حرج، فإنه يجوز الشيء بدون قصد ولكنه لا يجوز عند القصد، ويستدل بعض من يجيز أن يكبر الرجل ويكبر وراءه، ويلبي ويلبى معه بما أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما، من أنه كان يدخل السوق فيكبر فيكبر الناس بتكبيره، أي: كان يكبر فيكبرون وراءه،
وهذا ضعيف فإن الباء في قوله: (بتكبيره) سببية، أي: يكبرون بسبب تكبيره، كأن تكبيره ذكرهم التكبير، وليس المراد به المصاحبة، أي: مع تكبيره، وإنما المراد أنهم يكبرون إذا سمعوا تكبيره، فهو أشبه ما يكون أنه قصد إعلامهم وتنبيههم، وهذا هو الأشبه بالأثر؛ لأن ابن عمر أصلا لم يكن يدخل السوق لحاجة، وإنما دخله لأن الناس في غفلة الدنيا، فأراد أن يذكرهم بهذه السنة.
قال رحمه الله تعالى: [وإن نسيه قضاه، ما لم يحدث أو يخرج من المسجد].
أي: إن نسيه فصلى وذكر الأذكار ونسي التكبير قضاه، فبمجرد أن يتذكر يقضي ما دام في مصلاه، فإن خرج من مصلاه فإنه حينئذ يفوت القضاء ولا وجه لأن يقضيه؛ لأنه مقيد بالصلاة، فما دام في مصلاه كأنه لم يبرح المصلى، فهو في حكم من انفتل من صلاته، وهذه المسألة تعتبر اجتهادية، كأنهم يرون أنه لما انفتل من صلاته ولم يكبر مباشرة لوجود العذر، فإذا زال العذر رجع إلى الأصل من التكبير ومطالبته بهذه الشعيرة.
قال رحمه الله تعالى: [ولا يسن عقب صلاة عيد].
أي: ولا يسن التكبير عقب صلاة عيد، وقال بعضهم: لا حرج أن يكبر ما لم يستفتح الإمام الخطبة ولكن الأقوى والأشبه عند الجماهير أن التكبير يكون إلى وقت دخول الإمام في الصلاة.ففي يوم النحر يكبر الإنسان عند غدوه إلى المصلى، ويكثر من التكبير ويرفع صوته، وإذا جلس في المصلى أظهر التكبير ورفع صوته، وهذه السنة قد تغافل الناس عنها وإلى الله المشتكى، وقد كان الناس في القديم إذا كان يوم العيد ارتجت مساجدهم بالتكبير وذكر الله عز وجل والتسبيح على أحسن وأجمل وأكمل ما أنت راء، حتى إنك تشعر بعزة الإسلام، وهذا إلى عهد قريب قد لا يقل عن خمس عشرة سنة إلى عشرين سنة، ولكن الناس اليوم قل أن يكبروا إلا إذا أخذت (المسمع) أو (المذياع) فذكرتهم، وإلا إذا تركوا فهم في غفلة إلا من رحم الله، وهذا يدل على ضعف هذه السنة وذهابها عن الكثير، وينبغي على الأئمة والخطباء أن ينبهوا الناس على أنه ينبغي في يوم العيد إظهار هذه السنة، ورفع الأصوات بها حمدا وثناء وذكرا وإجلالا وإعظاما وإكبارا لله سبحانه وتعالى، فهو يوم شكر لنعم الله عز وجل.
فإذا أظهر الناس هذه الشعائر وحمدوا الله عز وجل على نعمه أغدق الله عليهم من فضله؛ لأن من أجل الله أجله الله، وإذا كان الإنسان في غفلة عن ذكر الله عز وجل لم يبال الله عز وجل به؛ لأن الله يذكر من ذكره، ولذلك قل أن تجد إنسانا يحافظ على السنة، ويحرص على أدائها إلا أحيا الله ذكره في الناس، وأحيا محبته وتوقيره وإجلاله، وانظر إلى أهل العلم فإنهم لما أثنوا على الله سبحانه وتعالى، وكانت منهم المواعظ والخطب والتذكير ألقى الله في قلوب العباد حبهم، ونشر بين الناس ذكرهم، وكانوا في حمد وثناء بين الناس لما كان لهم من ذكر الله عز وجل،
والفضل والمن لله عز وجل على كل حال.
فكذلك الحال في الناس عامة، فينبغي أن يحيا فيهم الإكثار من ذكر الله ورفع الأصوات بذلك، حتى يكون في ذلك إظهار لعزة الإسلام، خاصة إذا كان هناك أعداء للإسلام، أو كانت البلاد فيها كفار ومسلمون، فإذا كان يوم العيد وخرج المسلمون يكبرون ويثنون على الله، حتى ترتج الشوارع وهم يثنون ويكبرون، فإن هذا يدخل الهيبة في قلوب الأعداء، ويشعرهم بعزة هذا الإسلام وتلاحم المسلمين وتراحمهم وتعاطفهم وتكاتفهم، وهذا خير كثير، فينبغي إحياء مثل هذه السنن، وندب الناس إلى رفع الأصوات بها، سواء في المصلى أم في الطريق، فكل ذلك كان من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم أجمعين.
قال رحمه الله تعالى: [وصفته شفعا: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد]: قوله: [صفته شفعا] لأن لفظ التكبير تكرر أربع مرات، والأربع شفع، وإن كان وترا يكون قوله: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد)؛ لأن التكبير يكون فيه وتر، والشفع اختيار طائفة من العلماء رحمة الله عليهم، ويحكى فيه بعض الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر فيه واسع، فإن أوتر فلا حرج، وكان بعض العلماء يستحبه؛ لأن الوتر محبوب، وإن شفع فلا حرج، وكل على خير وبركه.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة العيدين)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (148)
صـــــ(1) إلى صــ(27)
الأسئلة
[فرضية صلاة العيدين]
q بماذا يجيب القائلون بأن صلاة العيدين فرض عين عن حديث الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل علي شيء غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع)؟
a حديث أبي طلحة في الصحيحين في قصة الأعرابي: (هل علي غيرها؟ قال: لا.إلا أن تطوع) المراد به الفرض المصاحب لليوم، بمعنى أنه هل علي غيرها من الصلوات تكون في كل يوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (لا.إلا أن تطوع)، وصلاة العيد ليست متكررة كل يوم، وإنما هي في العام مرة، ولذلك يقولون بوجوب ركعتي الطواف مع أنها من غير الصلوات الخمس، ولذلك لا تعارض بين قولنا بوجوب هذه الصلاة، وكذلك بوجوب غيرها من الصلوات التي ورد النص والأمر بها مع هذا الحديث الذي يقصد به ما كان في اليوم بعينه، والله تعالى أعلم.
[وقت دعاء الاستفتاح في صلاة العيد]
q هل يقرأ دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام، أم بعد السبع التكبيرات؟
a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فللعلماء قولان في هذه المسألة: فبعضهم يرى أن دعاء الاستفتاح يكون بين تكبيرة الإحرام وبين بقية التكبيرات.
وبعضهم يرى -وهو الأقوى والأقرب إلى السنة- أنه يكون استفتاحه بعد انتهاء جميع التكبيرات وقبل الابتداء بالقراءة، وأما بعد التكبيرة الأولى فإما أن يذكر الذكر الذي ذكرناه، وإما أن يسكت، وهذا هو الأولى والأصح، والله تعالى أعلم.
[وقت التكبير المقيد]
qهل يكون التكبير المقيد قبل أذكار الصلاة أم بعدها؟
aالتكبير المقيد يكون بعد الصلاة مباشرة، ولذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم التكبير بعد الصلاة مباشرة، وفي الحديث التكبير ثلاثا بعد انفتاله من الصلاة، ولذلك يكبر بعد سلامه مباشرة، وإذا أخره إلى بعد قوله: (استغفر الله) فإن هذا يفعله بعض العلماء، ولكن قالوا: إن هذا مقيد وتقيده بالصلاة، والأفضل أن يوقعه بعد الصلاة مباشرة وقبل استغفاره، وبعد ذلك يشرع في الأذكار التي من عادتها أن يقولها بعد السلام، والله تعالى أعلم.
[حكم من قدم القراءة على التكبيرات]
q ما حكم من قدم القراءة على التكبيرات في العيدين، وهل هذا من السنة في شيء؟
a من قدم القراءة على التكبيرات فإن التكبيرات تسقط بشروعه في القراءة، وقد أساء بمخالفته لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي له أن يفعل ذلك قصدا، أما لو سها وكبر تكبيرة الإحرام ثم استفتح وقرأ الفاتحة فإنه تسقط عنه التكبيرات ولا يعتبر آثما، ولا تكون مخالفته للسنة على سبيل القصد بهذا الوجه، والله تعالى أعلم.
[حكم شهود الكفار صلاة العيد وغيرها مع المسلمين]
q إذا أراد أهل الكتاب حضور صلاة العيد -أو غيرهم من الكفار-، فهل يسمح لهم؟
a إذا كانت الصلاة في مصلى وأرادوا أن ينظروا إلى حال المسلمين في صلاتهم فلا حرج، فإن المنافقين شهدوا الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على الكفر، ولذلك فلا حرج في شهودهم، وأما إذا كانت الصلاة في مسجد فإنهم لا يدخلون المساجد؛ لأنهم ممنوعون منها.وأما بالنسبة للاستسقاء فللعلماء فيه قولان؛ لأن العيد أمره أخف، وأما الاستسقاء فهو أشد، قالوا: في الاستسقاء إذا شهدوا مع المسلمين عزلوا؛ لأنهم إذا سقوا امتنوا على المسلمين، وظنوا أن لهم يد فضل في هذا، فيكون الشعار الأغلب للمسلمين، وتكون الصلاة للمسلمين منفردة، ويؤمرون أن يعتزلوا المسلمين.لكن لا حرج أن يصلوا صلاتهم، أو يذكروا أذكارهم، أو يظهروا الفاقة لله سبحانه وتعالى؛ لأن المقصود تضرع الجميع، فلا حرج في هذا ولا يعترض عليهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قريش في صلح الحديبية: (والذي نفسي بيده، لا يسومونني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها).أي: إذا كانوا في تعظيم لله عز وجل يجيبهم إليه، فهم إذا خرجوا إلى الاستسقاء فإن إظهار الفاقة والحاجة والفقر لله سبحانه وتعالى يشرع من البر والفاجر، ومن المؤمن والكافر، فلا حرج، لكنهم يتميزون عن المسلمين، أي: يؤمرون بأن يتنحوا عن المسلمين ولا يكونوا معهم في صلاتهم وشعيرتهم، والله تعالى أعلم.
[تعارض قضاء صلاة العيد مع فرضيتها]
qكيف نجمع بين القول بأن صلاة العيد فرض عين، وبين قولهم: لا تقضى إذا فاتت؟
a قد يكون الشيء لازما على الصورة التي وردت في الشرع، وهي صورة الجماعة ويسقط في غير الجماعة، وكأن صلاة العيد إنما شرعت على هذا الوجه، وهي بالجماعة، فإذا فاتت جماعتها فإنه في هذه الحال لا يطالب بالقضاء عند من يقول بعدم قضائها، وكان بعض السلف يقول: من فاتته صلاة العيدين يشرع له أن يصلي مع غيره كالصلاة المعروفة، وكان بعض الصحابة كـ ابن مسعود رضي الله عنه يأمر بعض مواليه أن يجمع بعض أهله ويصلي بهم إذا فاتته صلاة العيد، ويصلي بهم كصلاة الإمام، لكنه لا يخطب.وقال بعضهم: على هذا الوجه فلو حضرت والإمام في التشهد تقوم وتأتي بركعتين، أو حضرت بعد سلام الإمام تقوم وتأتي بركعتين على صفة ركعتي الإمام، وهذا الوجه لا يشترط الجماعة.الوجه الثاني: من فاتته صلاة العيد فإنه يصلي أربع ركعات، وهو محكي عن بعض السلف رحمة الله عليهم.وبعضهم يرى أنه يصلي ركعتين نافلة مطلقة.وكل هذه الأقوال لها وجه، ومن فعل بأي واحد منها فله سلف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينكر عليه، والله تعالى أعلم.
[حكم الكلام أثناء خطبة العيد]
q هل الكلام أثناء خطبة العيد، محرم كالكلام في خطبة الجمعة؟
a إذا كان الإنسان في المصلى يتكلم فإنه يشوش على المستمعين، ولذلك يكون المنع من الكلام لأذية الغير، وأما إذا كان لا أذية فيه ولا ضرر فإنه لا حرج؛ لأنه مخير بين أن يجلس وبين أن يمضي، وبناء على ذلك فلو تكلم فلا حرج، ومن هنا قال بعض العلماء: لا حرج أن يجهر بالتأمين عند دعاء الإمام في خطبة العيدين، ولكنه لا يجهر به في خطبة الجمعة، كما سبق بيانه في أحكام صلاة الجمعة وخطبتها، والله تعالى أعلم.
[حكم الاكتفاء في العيد بخطبة واحدة]
qهل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب للعيد خطبة واحدة، فإن بعض الخطباء يفعل هذا، ويقول: إنها سنة؟
a حكي عن بعض السلف رحمة الله عليهم أنه يقول بهذا القول، لكن الصحيح أنها كصلاة الجمعة يخطب لها خطبتان، ويفصل بينهما بالجلوس، كالحال في الجمعة سواء بسواء، وهذا هو الهدي الذي ينبغي للإنسان أن يلتزمه لما فيه من تأليف القلوب، وإذا كانت السنة الظاهرة المشهورة أنه يخطب كخطبة الجمعة، والناس عرفوا ذلك وألفوه، فإن تأليف قلوب العامة أولى من أن يأتي بالأمر الغريب عليهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم -ويروى موقوفا على علي علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله) أي: لا تتسببوا في اعتداء الناس على السنة إذا كانت السنة غريبة عليهم، أنها لو وقعت عليهم من السنن التي يرغب فيها سنن الأنواع، وليس المراد بها السنن التي تقصد وتطلب في سنن الأنواع، إذا قلنا: إنه يشرع للإنسان أن يخطب خطبة واحدة، على الروايات في خطبته عليه الصلاة والسلام، يصبح هذا الحال من التنويع، ويحمل الحديث المشهور من الخطبة كخطبة الجمعة على الأصل، بمعنى أننا نقول: إن الإنسان يحافظ عليه؛ لأن الناس ألفوه وعرفوه، فلو جاء يخطب خطبة واحدة فإن الناس تنفر، ولربما عدت أن صلاته خاطئة، فيتهجمون على السنة بسببه، فهو وإن أحيا سنة من وجه فإنه يضيع عليهم أجورا كثيرة ويوقعهم في غيبته، ويجعلهم في نفرة منه، ولربما نسبوه إلى الشذوذ، فإن جاءهم بحق بعد ذلك لم يقبلوه.لكن لو أنه خطب أو بين السنة المعمولة المعروفة بالفعل، ثم بين بالقول بعض السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يعلم الناس بوجود شيء من الشذوذ، وكذلك أيضا الإيغال في ترك السنن، وذم أصحابها، والله تعالى أعلم.
حكم من ترك التكبيرات في صلاة العيد عمدا
q ما الحكم إذا ترك الإمام تكبيرات العيد في الصلاة عمدا، وذلك ليعلم الناس أن التكبيرات سنة؟
a لا يفعل هذا.بل عليه أن يصلي كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجتهد من عنده، مع أن بعض العلماء يقول: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) يقتضي اللزوم.فعليه أن يكبر بهذه التكبيرات، وإذا أراد أن يعلم الناس أنها سنة وليست بواجبة فليعلمهم بالكلام؛ لأن القاعدة أنه إذا كان هناك طريقان إلى تحقيق المصلحة أحدهما فيه مفسدة -وهو هنا ترك السنة- والثاني لا مفسدة فيه وجب فعل الذي لا مفسدة فيه، فإذا أمكن تعليم الناس بالقول فلماذا يذهب إلى الفعل، ويهجر سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل توقف إعلام الناس أنها سنة على ترك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فيمكنه أن يعلمهم أنها سنة بالقول، فقبل العيد في عصر آخر يوم من أيام رمضان يحدثهم عن أحكام العيدين، ويبين لهم، أما أن يأتي ويفعل ذلك على خلاف ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا، ولا أرخص له في هذا، والله تعالى أعلم.
[سجود التلاوة على الدابة في السفر]
q هل يجوز الانحناء في سجود التلاوة على الراحلة في السفر كما يجوز ذلك في صلاة التطوع عند الركوع والسجود؟
a من كان على الدابة في سفر وأراد أن يسجد سجود التلاوة أو سجود الشكر فإنه ينحني على أقصى ما يستطيع من الانحناء ويجعله لسجوده.وأما إذا صلى فإنه يجعل ركوعه أرفع من سجوده، أي: يجعل انحناءه للركوع أرفع من سجوده؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فإنه يشرع للإنسان إذا سجد للتلاوة أو سجد للشكر وهو على دابته أن ينحني، ويكون انحناؤه دليلا على سجوده، والله تعالى أعلم.
[حكم من أحرم بالعمرة من غير ميقاته]
qنويت العمرة من جدة، لكني لم ألبس الإحرام منها، وكنت مشغولا ببعض الاحتياجات، وجئت إلى مكة وقضيت كل حاجاتي ومكثت في مكة يومين، وأحرمت من التنعيم، علما بأني جاهل، فما الحكم؟
a هذه المسألة فيها تفصيل، فإن كنت في جدة ونويت العمرة ولبيت وأنت في ثيابك فإنه حينئذ ننظر، فإن كان بقاء الثياب عليك لعذر عدم وجود ما تلبسه من إزار ورداء فإنه حينئذ تسقط عنك الفدية، حتى تجد الإزار والرداء فتتجرد من مخيطك.أما إذا بقيت بملابسك وخرجت من جدة وأنت تلبي بالعمرة، ومضيت إلى مكة وقضيت حاجياتك في ثيابك العادية مع إمكانك أن تزيلها وتلبس الإحرام فعليك الفدية فقط، وهي فدية اللبس، وذلك أن النية قد وقعت في جدة، وإحرامك من جدة إحرام صحيح، وشروعك في التلبية والذكر وغير ذلك مما يستصحب دليل على أن الشروع في هذه العبادة معتبر، فعلى هذا يكون المحظور الذي ارتكبته هو بقاؤك في الثياب، وأما الإحرام فأنت محرم، فلا يشترط في صحة انعقاد العمرة والحج أن تكون متجردا من المخيط، بل لو أنك قلت: (لبيك) وأنت في ثيابك فقد انعقدت عمرتك، وعلى هذا يكون إخلالك في لبسك الثياب فحسب، ويلزمك حينئذ أن تفتدي فدية لبس المخيط، وكذلك يلزمك غيرها إن كنت قد ارتكبت من المحظورات، غير لبس المخيط، ويكون قدومك إلى التنعيم بالنية لاغيا؛ لأنك أدخلت نية على نية، ولا عبرة بالثانية؛ لأن العبرة بالأولى، ولا يصح إيقاع الثانية حتى تتم الأولى، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196].فعلى هذا -في هذه الصورة- يشترط أن تكون قد لبيت بالعمرة أو نويتها.أما إذ لم تنو أصلا، وكان في قلبك أن تعتمر، ولعل هذا هو مقصود قولك: (نويت العمرة من جدة)، بمعنى: أحببت أن أعتمر، وكان في نيتي أن أعتمر.فإن مضيت ولم تلب، ولم تنشئ عمرة حتى جئت مكة وقضيت حوائجك وأحرمت من التنعيم، فإنه حينئذ يلزمك دم، وذلك لتأخر إحرامك ونيتك عن جدة، فميقاتك جدة لقوله عليه الصلاة والسلام: (فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ)، فأنت دون المواقيت، فكان يلزمك أن تلبي من جدة، فلما أخرت إحرامك إلى التنعيم لزمك الدم الذي هو دم الجبران، ويكون بمكة لكي تجبر هذا الفوات، ولو كنت جاهلا فجهلك ليس بعذر، فالعلماء موجودون، وتقحمك للأحكام دون سؤال أهل العلم يلزمك بعاقبة تقصيرك، وليس الجهل عذرا في مثل هذا، والله تعالى أعلم.
[صلاة راكب القطار والطائرة ونحوهما مع إسقاط بعض أركانها]
qالرجل يسافر بالقطار أو بالطائرة يوما وليلة، ولا يمكن له أن يصلي إلا بعد أن ينزل، ولا يستطيع أن يصلي إلا جالسا، فما هو الحكم في الصلوات المكتوبة؟
a من سافر في القطار واستمر سفره على هذه الصورة فإنه يصلي على الحالة التي يستطيع، لقوله سبحانه وتعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن:16]، فالذي في استطاعته ووسعه هو الذي يكلف به، وعلى هذا فلو أنه غلب على ظنه أنه لو وقف أو ركع سيسقط ويتضرر فإنه حينئذ يجوز له أن يصلي وهو قاعد، ويستقبل جهة القبلة إن أمكنه، فإن تعذر عليه ذلك صلى إلى أقرب الجهات إليها، أو إلى أي موضع توجه إليه بوجهه، وهذا قرره العلماء رحمهم الله في مسألة الصلاة على السفينة، فإنهم قالوا: إذا خشي السقوط فإنه يصلي وهو قاعد.والله تعالى أعلم.
حكم استخدام ماء زمزم لتنظيف الجهاز التناسلي تداوياq امرأة مصابة بمرض في جهازها التناسلي، فهل يجوز لها استخدام ماء زمزم في تنظيفه وتطهيره لما علمت من بركة ماء زمزم؟a إذا شربته فإنه يكفيها، أما أن تغسل به ذلك الموضع فلا، فماء زمزم كما قال صلى الله عليه وسلم: (طعام طعم، وشفاء سقم)، ولذلك قالوا: هو في حكم الطعام، فإذا كان في حكم الطعام فلا يقصد به إزالة الأذى في الموضع، أما لو اغتسلت به عموما ووقعت إصابة الموضع تبعا فلا حرج، فالشيء يجوز تبعا ولا يجوز قصدا، ولذلك يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها تبعا للنخيل، ولا يجوز أن تقصدها بعينها، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر، ففيه إثبات الجواز تبعا وتحريمه قصدا، فهذا يدل على أنه يجوز للإنسان أن يفعل الشيء تبعا ولا يفعله قصدا.فإذا أرادت أن تستشفي فإنها تشرب زمزم، وماء زمزم لما شرب له، فإن شربته بنية التداوي فإن الله يشفيها، وعلى هذا يكون تداويها بشربه، أما أن تغسل الأذى وتغسل تلك المواضع فهذا أمر فيه شدة، وقد كرهه طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وظاهر قوله لـ أبي ذر في الحديث الثابت: (طعام طعم، وشفاء سقم) يدل على ذلك، فالأطعمة لا تجوز إزالة القذر والنجس بها، وقد شدد العلماء في ذلك، وقالوا: من قصد إهانة الطعام كفر -والعياذ بالله-، فلو أخذ الطعام وقصد به الامتهان لنعمة الله عز وجل والكفر بها -نسأل الله العافية- فإنه يكفر، لكن لا يعني هذا تكفير من غسل الفرج بماء زمزم، خاصة إذا قصد التداوي، ولكن نقول: إن هذا القول -خاصة على اعتبارنا زمزم في حكم الطعام لظاهر السنة في قوله: (طعام طعم) - يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يضعه على هذه المواضع لقصد غسلها أو إزالة الأذى، أما لو أراد التداوي فإنه يسعه أن يشرب، فإنه لو شرب جرى في مسالكها، وكان من الخير ما يرجى بإذن الله، والله تعالى أعلم.
[المسبوق ومتابعة الإمام]
qإذا فاتتني ركعة من صلاة الجماعة، وكان الإمام في التشهد الأخير، فقرأت التشهد والصلوات الإبراهيمية، فهل يجوز لي أن أقول الدعوات التي تكون بعد التشهد وقبل السلام، علما بأنه بقي لي ركعة؟
a يختار جمع من العلماء رحمهم الله أن المسبوق إذا كان وراء الإمام أنه يفعل كفعله، وبناء على ذلك يتفرع على هذا الأصل أنك لو فاتتك -مثلا- ركعة من صلاة المغرب، ثم قام الإمام بعد التشهد الأول وقمت معه إلى الركعة الثانية بالنسبة له فإنك ترفع يديك حذوا أذنيك أو منكبيك؛ لأن العبرة به لا بك، لأجل شعار الجماعة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فقصد المتابعة في الصورة والحال، وهذا يختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، فإذا انفصلت عنه فإنك في هذه الحال تكون في حكم المنفرد، فكأنهم يرون أنه في حكم المنفرد عند الانفصال، وعلى هذا فإنك إذا جلست للتشهد الأخير بالنسبة للإمام وليس بالنسبة لك فإنه يشرع أن تصاحبه، وهذا أقوى، بدليل أنك تقرأ التشهد والتشهد ليس بلازم عليك في الأصل، فدل هذا على أنك قرأت التشهد لموافقة الإمام، فمن هنا تتم التشهد إلى تمامه وكماله، والله تعالى أعلم.
[محرمية الجد من جهة الأم لزوجة حفيده]q هل يجوز لجدي من جهة أمي أن ينظر إلى زوجتي؟a الجد من جهة الأم يعتبر محرما لزوجتك، وذلك أن جدك لأمك تعتبر أنت من أبنائه، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحسن: (إن ابني هذا سيد)، وهو جده من جهة أمه صلوات الله وسلامه عليه، والله تعالى يقول في المحرمات: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء:23]، فتحرم الزوجة على الجد، ويستوي في ذلك الجد من جهة الأب أو من جهة الأم، والذي تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث، أو جمع بين الذكور والإناث، فأبو أم الأب وأبو أبو الأب، وأبو أم الأم، كل هؤلاء يعتبرون في الحكم سواء، وكذلك أبو الأب وأبو الأم، فكل هؤلاء يعتبرون من المحارم، ولا حرج أن يرى الزوجة، وتسافر معه؛ لأنها حليلة ابنه، وحليلة الابن محرمة على الجد مطلقا، والله تعالى أعلم.
[استقبال القبلة في صلاة التطوع على الراحلة في السفر]
q هل يجب على المسافر في صلاة التطوع أن يستقبل القبلة ثم ينصرف؟
a الصحيح أنه يستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام لرواية أبي داود في سننه -وقد حسنها غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم- من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يكبر تكبيرة الإحرام استقبل القبلة وكبر، ثم صرف دابته)، وعلى هذا لو كنت في السيارة اليوم، فإنك تستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام، ثم تصرف السيارة إلى أي وجهة تريد، كما كانوا في القديم يستقبلون القبلة عند تكبيرة الإحرام، ثم يصرف المصلى دابته إلى الجهة التي يذهب إليها.لكن لو كنت راكبا، وأردت أن تكبر تكبيرة الإحرام، وكانت السيارة إلى غير القبلة، بحيث كانت القبلة عن يمينك، فانفتلت عن يمينك وكبرت ثم رجعت إلى وضعك فقد اختار بعض العلماء رحمة الله عليهم أنك إذا انحرفت من مجلسك وكبرت ثم انحرفت اختيارا بطلت صلاتك.والسبب في هذا أنك إذا أردت أن تكبر تكبيرة الإحرام على وجهتك فإنه حينئذ يغتفر انحرافك عن القبلة؛ لأن الانحراف كان من الدابة، أما لو انفتلت بنفسك فكأن الانحراف بفعل نفسك، كما لو انحرفت عن القبلة بقصد، فيفرق بين من يكبر تكبيرة الإحرام ثابتا إلى آخر الصلاة وانحرفت به السيارة في طرقاتها، وبين من كبر ثم انحرف إلى جهته، فإنه كبر وانحرف باختياره، فبطلت صلاته كما لو انحرف عن قبلته.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الكسوف)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (149)
صـــــ(1) إلى صــ(32)
باب صلاة الكسوف
شرع الله سبحانه وتعالى صلاة الكسوف التجاء إليه سبحانه عند حدوث الكسوف للشمس أو للقمر، وقد حث على الدعاء والصدقة فيها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الصلاة فيها من الأحكام ما ينبغي على المسلم معرفتها إذا أداها، ولتكون على هدي النبي صلى الله عليه وسلم،
ومن أهم المسائل والأحكام المتعلقة بها: حكم صلاة الكسوف وصفتها، والأحوال التي لا تشرع فيها صلاة الكسوف، وغيرها من الأحكام.
[أحكام صلاة الكسوف]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الكسوف].المراد بالكسوف كسوف الشمس والقمر.وللعلماء رحمهم الله في إطلاق الكسوف عليهما خلاف معروف،
فمن أهل العلم من يقول: إن الكسوف والخسوف يطلقان على الشمس والقمر،
وقد جاء بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان ولا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته) قال العلماء رحمهم الله: فعبر بالكسوف عنهما، وكذلك بالخسوف وهذا هو أحد الأوجه عند أهل العلم رحمة الله عليهم.
ومن أهل العلم من يقول: إن الكسوف للشمس والخسوف للقمر.وعلى هذا مصطلح أكثر الفقهاء رحمة الله عليهم، فيعبرون بالكسوف للشمس وبالخسوف للقمر،
كما قال تعالى: {فإذا برق البصر} [القيامة:7] {وخسف القمر} [القيامة:8]، فعبر بالخسوف للقمر، ففهم من هذا أن الكسوف للشمس،
وقد جاء في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (كسفت الشمس فصلى)، فعبر بالكسوف للشمس،
قالوا: وعبر القرآن بالخسوف في القمر، فدل على أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر.وصحح غير واحد من أئمة اللغة هذا المذهب، وقال الجوهري،
وكذلك ثعلب: إن الأفصح أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر.
وقال بعض أهل العلم: الكسوف للقمر والخسوف للشمس وقد ضعف هذا المذهب القاضي عياض رحمه الله؛ لأنه خلاف التنزيل،
فإن الله عز وجل قال: {وخسف القمر} [القيامة:8]، فعبر بالخسوف في القمر، فدل على أنه يطلق الخسوف على القمر، وعدم إطلاقه على القمر على هذا القول يخالف نص الآية، وهذا من أضعف المذاهب.وهناك مذهب آخر يرى أن الكسوف المراد به ذهاب بعض الضوء،
فتقول: كسفت الشمس وكسف القمر: إذا ذهب بعض الضوء،
وتقول: خسفت الشمس إذا ذهب الضوء كله، وكذلك خسف القمر إذا ذهب الضوء كله.وفي هذا القول جمع بين الأقوال التي سبق ذكرها، ويختاره بعض الأئمة رحمهم الله من الفقهاء واللغويين.
وقد ترجم الإمام البخاري رحمة الله عليه في الصحيح بباب: (هل يقول كسفت الشمس أو خسفت؟) فقدم الكسوف وعبر به للشمس، وأخر الخسوف،
فقال بعض العلماء: إن الإمام البخاري متردد في هذه المسألة، حيث أورد هذه الترجمة بصيغة الاستفهام التي لا جزم فيها، فكأنه متردد بين هذه الأقوال.
ومن أهل العلم من يقول: إن الإمام البخاري قصد أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر؛
لأنه بوب بقوله: (هل يقول كسفت الشمس أو خسفت؟)،
ثم قال: وقال الله تعالى: {وخسف القمر} [القيامة:8]،
ففهم من هذا أنه يميل إلى مذهب من يقول: إن الكسوف للشمس والخسوف للقمر.
والمصنف حين قال: (باب صلاة الكسوف)، فإنه إن كان يرى أن الكسوف خاص بالشمس فإنه قدمه لأن الأدلة وردت في كسوف الشمس، فيكون خسوف القمر تبعا من هذا الوجه، وإن كان يرى القول الذي يطلق الكسوف عليهما، فحينئذ لا إشكال في تعبيره بالكسوف.
[صلاة الكسوف من صلوات الرهبة]
وهذا النوع من الصلوات -أعني صلاة الكسوف- يعتبر من صلوات الرهبة، وذلك أن الله عز وجل يرسل بالآيات تخويفا لعباده، وزجرا لهم، وتنبيها لهم من غفلتهم وما هم فيه من الإعراض عنه سبحانه وتعالى، فيرسل الآيات تخويفا لعباده،
وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في خطبته حيث قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، لا ينخسفان ولا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)، فنص على أنها آيات يخوف الله عز وجل بها عباده، وذلك بما يعتريهما من الكسوف والخسوف.فهذه الصلاة المخصوصة التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حال كسوف الشمس إنما هي صلاة رهبة، والمراد بذلك أن الناس تفزع إلى الله عز وجل وتفر إليه بذكره، وتقف بين يديه بأشرف المقامات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى وهي الصلاة التي قال عليه الصلاة والسلام فيها: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة).وهناك نوع ثان من الصلوات يسمى بصلاة الرغبة، وهي صلاة الاستسقاء، فكما أن صلاة الكسوف للرهبة كذلك صلاة الاستسقاء للرغبة، ولذلك ابتدأ المصنف بصلاة الكسوف ثم أتبعها بصلاة الاستسقاء.
[مناسبة تأخر باب صلاة الكسوف إلى نهاية كتاب الصلاة]
وأما مناسبة باب صلاة الكسوف لما تقدم من صلاة العيدين فهي أن المصنف رحمه الله ابتدأ بالصلاة مع الجماعة وبيان صلاة الجماعة وأحكامها، ثم ثنى بما تشرع له الجماعة كل يوم، ثم شرع في بيان ما تشرع له الجماعة كل أسبوع وهي الجمعة، ثم أتبع ذلك بباب صلاة العيدين وهي الصلاة التي تشرع جماعة مرتين في العام،
ولما كان الكسوف قد يقع وقد لا يقع أتبع الغالب بالنادر فقال: (باب صلاة الكسوف)، ولما كانت صلاة الاستسقاء تبعا لصلاة الكسوف من جهة المقابلة في كونها صلاة رغبة وسؤال وحاجة لله عز وجل ختم بها باب الصلوات ثم أتبع ذلك بباب صلاة الجنائز.
[الدلائل والبراهين الجلية لكسوف الشمس والقمر]
في الكسوف آيات لله عز وجل أعظمها وأجلها أنه يدل على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وذلك أن اختلال الأشياء المنتظمة يدل على وجود مؤثر وهو الله عز وجل الذي جعلها تنتظم بقدرته وتختل بقدرته،
وفي هذا رد على الطبيعيين الذين يقولون: إن الحياة طبيعية، وليس هناك إله -تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- فحينما تختل الأمور يدل اختلالها على وجود مؤثر وهو الله سبحانه وتعالى، ولذلك خلق الله الأشياء بالأضداد حتى لا ينسب الأمر إلى الطبيعة، فجعل الألوان مختلفة والأشكال مختلفة، وجعل الصفات متباينة،
كما قال تعالى: {ومن كل شيء خلقنا زوجين} [الذاريات:49]، فجعل الأشياء أزواجا حتى تدل على وحدانيته سبحانه وتعالى؛ لأنه لو حدثت الأشياء بنفسها لحدثت على وتيرة واحدة، فلما جعلها الله متباينة الأشكال مختلفة الصور والصفات كان هذا من دلائل وحدانيته، ومن هنا نهي المكلف عن تغيير الخلقة، فنهيت المرأة عن وصل شعرها؛ لأنك إذا رأيت المرأة بشعرها ثم رأيت امرأة بدون شعر علمت أن هناك إلها يخلق هذا وهذا، فنهي عن تغيير الخلقة والتعرض لها حتى يبقى عند الناس شعور بوجود من يخلق هذه الأشياء ويدبرها سبحانه وتعالى.وأدلة القرآن تنصب على هذا، فتجد أن الله عز وجل يذكر ألوان الجبال، واختلاف الأشياء وتضادها، كالليل والنهار، والشمس والقمر، فكل شيء جعل له ضد، وهذه الضدية تشعرك بوحدانية الله عز وجل.
فإن جاء إنسان يقول: الحياة طبيعية وليس هناك إله، فإنك تفحمه وتلقمه الحجر بوجود التباين، فلو كانت الأشياء حدثت بنفسها لحدثت بوتيرة واحدة، إما على الكمال المطلق وإما على النقص المطلق، أما كون هذا يكون على النقص وهذا يكون على الكمال، وهذا يكون كماله في الحس ونقصه في المعنى، وهذا كماله في المعنى ونقصه في الحس، فكل ذلك يدل على وحدانية الله سبحانه وتعالى ووجود الخالق لوجود هذا التباين.والكسوف من آيات الله التي فيها رد على عبدة الشمس والكواكب، وذلك أنهم لما عظموا الشمس واعتقدوا أنها الإله غيبها الله سبحانه وتعالى عنهم في كل يوم؛ حتى يعلموا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يسيرها، وهو الذي يأمرها فتأتمر،
كما في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن يقال لها: ارجعي من حيث أتيت، فتصبح طالعة من مغربها، أتدري متى ذلك يا أبا ذر؟! حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا).
فالمقصود: أن الله يغيبها حتى يكون في ذلك رد على من يعبد الشمس، فلو كانت الشمس هي الإله لبقيت، ولكنها تزول وتذهب، فإذا كانت باقية كما في بعض المناطق التي قد لا تغيب عنها الشمس إلا لحظات يسيرة فإنها تغيب بالكسوف ويذهب ضوءها بالكلية، ويظهر حينئذ أنها أفقر ما تكون لله عز وجل، فالقمر يكون بينها وبين الأرض فيكون الكسوف إما كليا أو جزئيا، فيظهر حينئذ أنه لا إله إلا الله سبحانه وتعالى.كما أن في الكسوف تنبيها للغافلين وإيقاظا للنائمين الذين هم في بعد عن صراط الله المبين؛ لأن الإنسان إذا أصابته النعمة كفر بها إلا أن يرحمه الله برحمته، فكونه يعيش في حياة يألفها ويفاجأ في يوم من الأيام بالشمس قد ذهب ضوءها، وأصبحت لا ضوء لها فإنه قد ينتبه ويعود إلى الله عز وجل، حتى إنه في بعض الأحيان يذهب ضوءها إلى درجة يرى الناس فيها النجوم في وضح النهار، وكأنهم في ليلة من ليالي السرار، وهذا من عظمة الله سبحانه وتعالى.فمن أبلغ ما يكون عظة في الكسوف أن يذهب ضوءها بالكلية فيكون كسوفا كليا، حتى إن الناس يرون النجوم، ويكون في ذلك عظة عظيمة للناس، خاصة المذنبين منهم، وفيه تثبيت لأهل الطاعة؛ لأنه يزيد من خوفهم من الله جل جلاله، ولذلك كان أكمل الموحدين وإمام المطيعين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين إذا رأى الريح أقبل وأدبر، وتغير وجهه صلوات الله وسلامه عليه من شدة خوفه من الله سبحانه وتعالى.فالكسوف يزيد من خوف الخائفين، ويزيد من يقين الموقنين، ففيه نوع من السلوى لأهل الإيمان والثبات لهم على طاعة الله جل جلاله، وكذلك فيه التنبيه والعظة لمن كان بعيدا عن الله غافلا عن طاعته جل ذكره،
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده)، فهذا التخويف المقصود به دعوتهم إلى القرب من الله عز وجل، ولذلك شرع الله عز وجل هذه الصلاة التي فيها دليل على خوف العبد من الله سبحانه وتعالى، واستشعاره لعظمته وقدرته على أخذ العباد كما أخذ ضوء هذه الشمس وأذهب ضياء القمر، فإنه قادر سبحانه وتعالى على أن يذهب من دون ذلك وهم البشر.نسأل الله العظيم أن يرحمنا برحمته.
[حكم صلاة الكسوف]
قال المصنف رحمه الله: [تسن جماعة وفرادى إذا كسف أحد النيرين].قوله: (تسن) أي: صلاة الكسوف، وقد دل على هذه السنة الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال الحافظ المنذري: روى حديث الكسوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة عشر شخصا من أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، فممن روى حديث الكسوف عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عباس، وأم المؤمنين عائشة وأسماء وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة وأبي بن كعب وسمرة بن جندب وقبيصة الهلالي رضي الله عنهم، وأحاديثهم في الصحيحين وكذلك في السنن، وكلها وصفت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف.
وقد وقع الكسوف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واختلف فيه: فبعض العلماء يقول: كسفت الشمس أكثر من مرة.وقالوا: الأحاديث التي وردت اتفقت على مرة، وهي في يوم موت إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم.وورد عند الزبير بن بكار بسند تكلم بعض العلماء فيه أنه كان موته في السنة العاشرة من الهجرة، ووقع ذلك في اليوم العاشر من ربيع الثاني وقام بعض الفلكيين المتأخرين بحسابه وضبطه بالعاشر من شوال من السنة العاشرة، وهذا أمر يحتاج إلى نظر؛ لأنه من الصعوبة بمكان التوصل إلى مثل هذه الأمور، إلا أن حساب الكسوف أمر ممكن، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، والإمام ابن القيم وبسطا في ذلك بسطا يحبب الرجوع إليه في (مجموع الفتاوى) و (مفتاح دار السعادة) بينا فيه أنه يقع الحساب، ويمكن للإنسان أن يعرف متى يقع الكسوف وعدد مراته إذا كان ضابطا لحسابه، وليس هذا من علم النجوم،
ولا يعد هذا من العلم المذموم؛ لأنه تابع لمنازل القمر، ويكون الاهتداء إلى وقت الكسوف راجع إلى الخبرة والمعرفة، فهو من الاهتداء بالعلامات والأمارات، وليس من باب التنجيم الذي ذم شرعا، وإن كان اطلاع الناس على الكسوف والخسوف لا ينبغي؛ لأنه يحدث عندهم إلفا لهذا الأمر، ويورث ضعفا في خشية الله تعالى والخوف منه، بخلاف ما إذا فوجئوا، والعجب أنه قد يفعل هذا بعض الناس بقصد أن يذهب الخوف عن الناس، والله عز وجل أراد أن يخوف عباده وهذا يريد أن يطمئنهم،
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن كسوفهما: (يخوف الله بهما عباده)، ولذلك لا يجوز لأحد أن يخفف عن الناس، أو يقصد التخفيف عن الناس، أما إذا كان من باب الصنعة، أو من باب العلم والدراية بمواقيت الكسوف والإخبار عنها فهذا لا حرج فيه، والأفضل والأكمل أن لا يخبر الناس، حتى يكون أبلغ في زجرهم وعظتهم.وقد اتفق على وقوع الكسوف في يوم موت إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ذكرناه،
وهناك رواية في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف بمكة)، وتكلم عليها وهي ضعيفة، والمحفوظ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الكسوف بالناس في مكة.
وقوله: [تسن].من العلماء من قال: سنة واجبة، كما يقول بعض أئمة الحنفية، وبعض أهل الحديث، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (فصلوا وادعوا)، وظاهر الأمر الوجوب، ولأن الخروج من الخوف يكون بما يقابله مما هو أشبه في اللزوم، لا بما هو مندوب إليه.
وذهب جماهير أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة: إلى أنها سنة، وإذا قام بها البعض فإنه لا إثم على الباقين.وقوله رحمه الله: [تسن فرادى وجماعة]،
أي: من السنة صلاة الكسوف، ولا بأس أن يصليها الإنسان لوحده ويصليها مع الجماعة.ويستوي في ذلك أن يصليها في الحضر أو يصليها في السفر، فلو كنت مسافرا ورأيت خسوف القمر أو كسوف الشمس شرع لك أن تصلي، وعلى القول بأنها نافلة تصليها ولو على الدابة، بناء على أن صلاة النافلة يجوز فعلها على الدابة،
كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على دابته إلا المكتوبة)، فيصلي الإنسان ولو كان في السفر،
ولو صلى مع الجماعة فهو أفضل وأكمل لندائه عليه الصلاة والسلام: (الصلاة جامعة)، وكذلك يصلي بأهله، فلو أنه جمع أهله وصلى بهم شرع له ذلك، فلا حرج أن يصليها منفردا ولا حرج أن يصليها في جماعة، سواء أوقعت جماعته مع الناس أم وقعت مع خاصته كأهله، أو كانوا رفقة في السفر فنزلوا وصلى بهم أحدهم فلا حرج في ذلك، ولكن إذا صلى لوحده لا يخطب عند من يقول بالخطبة، وسيأتي إن شاء الله بيان حكم الخطبة، وأن الصحيح أنها ليست بواجبة، وسنبين دليل عدم وجوبها إن شاء الله تعالى.
وقوله: [إذا كسف أحد النيرين] أي: يستوي في ذلك الشمس والقمر.وهذا يدل على أن المصنف يميل إلى أن الكسوف يطلق على الشمس والقمر، وأنه لا حرج،
ولذلك قال: (إذا كسف أحد النيرين) أي: إذا ذهب بعض أو كل ضوئه فإنه يسن أن تصلي، والسنة أن يكون ذلك عند بداية الكسوف، ولا ينتظر إلى تمامه وكماله، فإن الآية تكون من بداية الكسوف،
فإذا رأى بداية الكسوف أو شعر ببداية الكسوف فإنه ينادي بقوله: الصلاة جامعة.وإذا اجتمع الناس صلى بهم، ولا ينتظر تمام الكسوف أو اشتداده.
يتبع
-
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الكسوف)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (150)
صـــــ(1) إلى صــ(32)
[صفة صلاة الكسوف]
قال المصنف رحمه الله: [ركعتين].مذهب جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم أن صلاة الكسوف ركعتان،
ولكن الخلاف بينهم فيما يكون داخل الركعتين من الركوع: فمذهب الجمهور أنه يركع ركوعين في كل ركعة.وذهب طائفة من أصحاب الإمام الشافعي،
واختاره الإمام ابن حزم: إلى جواز أن يصلي في كل ركعة ثلاثة ركوعات.
وهناك قول ثالث: بأنه يصلي أربعة ركوعات.
وهناك قول رابع: بأنه يصلي خمسة ركوعات في الركعة الواحدة.
وهناك قول خامس: بأنه يصلي ركعتين، ولكن إذا طال وقت الكسوف زاد في عدد الركوعات، فيجعل الأصل أن يركع في كل ركعة ركوعين، وإذا رأى أن الكسوف مستمر وأنه لا زال يزيد ركوعا ثالثا.فهذه هي أوجه أهل العلم رحمة الله عليهم.
وأصحها وأقواها سندا ورواية الثابت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان، فهذا هو الصحيح، والذي عليه جمهور العلماء والأئمة رحمة الله على الجميع.
والسنة أن ينادى لها بقول: (الصلاة جامعة)، وينادى لها عند ابتداء الكسوف، ولا يكون لها أذان، ولا يكون لها إقامة بإجماع العلماء،
أي: لا يؤذن لها أذان المكتوبة ولا يقام لها إقامة المكتوبة، وإنما ينادى لها بهذا النداء، فيجتمع الناس عند وجود هذا النداء، فإذا اجتمعوا قام الإمام وكبر، كما ذكر المصنف رحمه الله.
[صفة القراءة في الركوع الأول من الركعة الأولى]
قال المصنف رحمه الله: [يقرأ في الأولى جهرا بعد الفاتحة سورة طويلة].أي: يبتدئ ويكبر، ثم يقرأ دعاء الاستفتاح، ثم يستعيذ، ثم يقرأ الفاتحة، ويطيل في القراءة بعد الفاتحة، والثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه حزرت قراءته نحوا من سورة البقرة في الركعة الأولى، وهذا عند العلماء على وجهين: فمن أهل العلم من يقول: يقرأ بقدر سورة البقرة في الركعة الأولى.
ويرى ذلك من السنن المطردة، وأن من صلى ينبغي أن يراعي هذا القدر، وهذا يقوله بعض أصحاب الشافعي رحمة الله عليهم، وبعض أهل الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد الإطالة، حتى ولو كان الكسوف جزئيا، لأنك لو أطلت هذه الإطالة ربما انجلت الشمس قبل أن تتم، أو قبل أن تصلي بقية الصلاة، فعلى هذا الوجه تراعي التطويل على هذه الصورة، سواء أكان الكسوف مما يخشى أن يطول أم كان دون ذلك، وهذا القول أشبه بالمتابعة للسنة.
القول الثاني: أن هذا تقديري، فيقرأ نحوا من مائة آية من البقرة في الركعة الأولى.ومنهم من يقول: الأمر راجع إلى الإمام، فإن كان الكسوف مما يكون فيه القدر طويلا، ويغلب على الظن الإطالة أطال إلى البقرة، وإن كان دون ذلك قصر، وهذا يرجع إلى فقه الإمام وعلمه، وكذلك فطنته في الإطالة والتقصير على حسب من وراءه من المصلين.
والقراءة في خسوف القمر جهرية وجها واحدا عند العلماء رحمة الله عليهم، والخلاف في كسوف الشمس هل يجهر فيه بالقراءة، أو يسر؟ فظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة، ونصت على ذلك رضي الله عنها وأرضاها.
وهذه المسألة من مشكلات المسائل عند العلماء رحمة الله عليهم، فأحاديث أثبتت أنه جهر، وأحاديث نفت الجهر وأثبتت أنها كانت سرا،
فـ ابن عباس يقول: (نحوا من سورة البقرة)، وهذا يدل على أنه ما سمع قراءته،
وأم المؤمنين عائشة تقول: جهر، ونصت على الجهرية،
وكذلك اختلف العلماء: فمن العلماء من يقول: هي سرية، إعمالا للأصل في أن تكون صلاة النهار سرية وصلاة الليل جهرية، إلا ما استثني.
وقال بعض العلماء: بل هي جهرية.وهذا القول من ناحية النصوص أقوى، ومن ناحية أصولية أقوى، فإن المثبت مقدم على النافي، مع أن ابن عباس رضي الله عنهما يحتمل أن يكون بعيدا في آخر الصفوف؛ لأن أم المؤمنين عائشة كانت أقرب الناس، وهي التي حكت قيامه لصلاة الكسوف، ولذلك يكون قربها بمكان، وعلمها بالقراءة أولى، ويظهر لها شأنه عليه الصلاة والسلام أكثر من غيرها، ولذلك يقوى قول من قال بأنه يجهر.ولكن إن أسر إعمالا للأحاديث كحديث ابن عباس وحديث سمرة بن جندب رضي الله عن الجميع فإنه لا حرج عليه، لكن الأقوى من ناحية النصوص أنه يجهر.
وهناك جمع ثان للعلماء يقول: إن الكسوف تعدد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فتارة جهر وتارة أسر، فيكون من خلاف التنوع لا من خلاف التضاد.والذي عليه المحققون أن الكسوف وقع مرة واحدة في عهد النبي صلى عليه وسلم، وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام رحمة الله عليه، فالكسوف لم يتعدد.
وهناك وجه ثان للجمع يقول: إنه يحتمل أن عائشة رضي الله عنها قصدت بالجهر الإسماع، مثل ما فعل في صلاة الظهر، فإنه ربما كان يسمع بالآيات، فيظن أنه جهر، والواقع أنه لم يجهر عليه الصلاة والسلام.ولكن الذي يظهر والله أعلم أن الحديث نص صريح واضح في إثبات جهريته صلوات الله وسلامه عليه بالصلاة.
[صفة الركوع الأول من الركعة الأولى]
قال المصنف رحمه الله: [ثم يركع طويلا].أي: بعد انتهاء قراءته يركع طويلا، وهذا أصح الوجهين عند العلماء رحمة الله عليهم، ويقول بعض العلماء: إنه يقارب القراءة، للسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ركوعه قريبا من قيامه، فيطيل في ركوعه حتى يقارب القيام، أو يكون دون ذلك.
قوله: [ثم يرفع].أي: ثم يرفع من الركوع، وهذا الركوع هو الذي تدرك به الركعة الأولى، فمن أدرك هذا الركوع فإن صلاته تامة، ولو جاء بعد رفع الإمام من هذا الركوع وأدرك الركوع الثاني فإنه يلزمه قضاء ركعة كاملة بركوعين، فهذا الركوع الأول هو الذي تدرك به الركعة الأولى؛ لأنها ركعتان، وبناء على ذلك فإن العبرة بالركعة الأولى وركوع الركعة الأولى، فإن أدرك الإمام قبل أن يرفع من ركوعه الأول من الركعة الأولى فإنه يعتبر مدركا للصلاة كاملة، أما لو رفع الإمام وأدركه في الرفع، أو أدركه في الركوع الثاني من الركعة الأولى، فإنه يلزمه قضاء ركعة كاملة، وتكون بركوعين على نفس الصفة التي فاتته.
[صفة القراءة والركوع في الركوع الثاني من الركعة الأولى]
قال المصنف رحمه الله: [ثم يرفع ويسمع ويحمد، ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى].أي: ثم يرفع بعد الركوع ويقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.ثم بعد ذلك يقرأ ثانية، واختلف العلماء: فقال بعضهم: يستفتح بالتعوذ، ثم بعد ذلك يشرع في القراءة.
وقال بعضهم: يشرع في القراءة مباشرة لأنه اتصال، والفصل في الركوع لا يضر، وهذا مفرع على مسألة الفصل بالركوع والسجود هل هو فصل فتشرع الاستعاذة، أو ليس بفصل فلا تشرع الاستعاذة؟ والصحيح أنه تشرع الاستعاذة، فيستعيذ لظاهر قوله سبحانه وتعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [النحل:98]، فيشرع له أن يستعيذ عند ابتداء قراءته بعد رفعه من الركوع الأول من الركعة الأولى.
قوله: (ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون السورة الأولى)، هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، فقد كان يخفف ما يلي عما قبله، ولذلك تجد النفوس أقوى في الأولى، وتقوى على الركوع الأول وعلى القيام الأول أكثر من قدرتها على ما بعده، وهذا من كمال هديه عليه الصلاة والسلام، وكذلك حسن فقهه وإمامته بالناس صلوات الله وسلامه عليه، فإن النفوس تضعف وتدركها سآمة العبادة، ولذلك جعل صدرها وأولها أشق وأطول، حتى يكون ما بعدها أخف، فترتاح النفوس، وتقوى على هذه الإطالة ولا تملها.
فبناء على هذا يشرع للإمام أن يحزر السور، وأن يحزر الآيات التي يريد قراءتها، فليست العبرة بعدد الآيات وقصر الفصل، ولكن العبرة بسلاسة القراءة؛ فإنه ربما تكون الآيات طويلة ولكنها سهلة سلسلة في قراءته، بحيث يمكنه أن يقرأها في أقصر وقت أكثر من غيرها؛ لأن هذا يرجع إلى الحروف وإلى الكلمات ومخارجها وصعوبة قراءتها، فلذلك يختار من المقاطع ويرتبها حتى يكون ذلك أدعى لإصابته للسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون قيامه الثاني دون قيامه الأول.
قال المصنف رحمه الله: [ثم يركع فيطيل وهو دون الأول].هذا هو الركوع الثاني من الركعة الأولى، ولكنه دون الركوع الأول، والصحيح أن هذين الركوعين يشرع فيهما الإطالة،
خلافا لمن قال من أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله على الجميع: إنه لا يشرع أن يطيل.والسنة تدل على الإطالة فيه، ففي الحديث: (فأطال)،
وفي رواية: (ركع فلم يكد يرفع) من طول ركوعه عليه الصلاة والسلام، وهذا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.فعلى العموم فإن السنة أن يطيل في ركوعه الثاني، ولكن يكون دون الركوع الأول.
قال رحمه الله تعالى: [ثم يرفع].يرفع من ركوعه الثاني في الركعة الأولى، ثم إذا رفع لا يطول، فإذا رفع من الركوع الثاني من الركعة الأولى يكون قيامه كالمعتاد، فيقول مثلا: (ربنا ولك الحمد)، وإن شاء أن يصيب السنة قال: (ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد ... ) إلى آخر هذا الدعاء،
أو يقول: (حمدا كثيرا طيبا، مباركا فيه)، ثم يسجد.
[صفة السجود في الركعة الأولى]
قال المصنف رحمه الله: [ثم يسجد سجدتين طويلتين].
هاتان السجدتان تابعتان للركعة الأولى، وهاتان السجدتان يشرع فيهما الإطالة كالركوع، وذهب بعض العلماء رحمة الله عليهم إلى أنه يخفف السجدتين.
والصحيح أنه يطول السجدتين، وتكون على الصفة التي تقدمت، فيطيل السجود الأول ويخفف السجود الثاني للهدي الذي ذكرناه عن النبي صلى الله عليه وسلم في تقصيره فيما يكون مرتبا على الولاء؛ حتى يكون ذلك أدعى لدفع السآمة عن الناس والملل من طول العبادة.
وأما مشروعية التطويل بين السجدتين ففيه وجهان للعلماء: فمن أهل العلم من قال: لا يطول، بل يقتصر على المعتاد، فيقول الأذكار: (اللهم اهدني وارحمني وعافني وارفعني وانفعني واجبرني ... ) إلى آخر الدعاء المعروف.ومنهم من يقول: بل يطول ويكثر من ذكر الله عز وجل، وقد جاء حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وأرضاهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أطال بين السجدتين)، ولكن هذه الرواية في السنن فيها عطاء بن السائب، وفيه كلام،
ولذلك يقول بعض العلماء: إنه لا يطيل فيهما.وإن كان الذي صححه غير واحد من الأئمة أنه يشرع له أن يطول ويثني على الله عز وجل بما هو أهله.
[صفة الركعة الثانية مع التشهد والتسليم من صلاة الكسوف]
قال المصنف رحمه الله: [ثم يصلي الثانية كالأولى لكن دونها في كل ما يفعل ثم يتشهد ويسلم].
قوله: (ثم يصلي الثانية كالأولى) أي: كصفة الأولى، وقوله: (ولكن دونها في كل) في الطول، فيكون قيامه الأول من الركعة الثانية دون قيامه الأول من الركعة الأولى، ويكون قيامه الثاني من الركعة الثانية دون قيامه الثاني من الركعة الأولى، فهذا هو الهدي الوارد عنه عليه الصلاة والسلام في صفة صلاته في الكسوف، وهو ثابت في حديث أم المؤمنين عائشة، وحديث عبد الله بن عباس وغيرهما رضي الله عن الجميع.
قوله: [ثم يتشهد ويسلم].في صفة التشهد عند زوال الكسوف خلاف بين العلماء: فقال بعض العلماء: إن كانت الشمس قد تجلت وانكشفت فإنه يخفف التشهد؛ لأنه زال السبب والموجب فيخففه.وقال بعض العلماء: يتشهد على ما هو معتاد له ولا يتجوز.
[تأثر طول الصلاة وقصرها بانجلاء الكسوف]
قال المصنف رحمه الله: [فإن تجلى الكسوف فيها أتمها خفيفة].إذا تجلت أثناء الركعة الثانية، أو بعد قيامه من الركوع الأول من الركعة الثانية فللعلماء في تتمة صلاته حينئذ وجهان: فمنهم من يقول: إن العبرة بالابتداء، ويتم الصلاة على الصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخفف.
ومنهم من يقول: بل يخفف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم)، فلما قال: (حتى ينكشف ما بكم) دل على أن الصلاة ينبغي أن تتأقت بالانكشاف، وعلى هذا فالوجه الثاني هو الأقوى، فيخفف إذا تجلت الشمس وتبين أن الكسوف أو الخسوف قد زال، فإنه حينئذ يخفف ما بقي من الركعات والسجدات ويصلي كصلاته المعتادة، وهذا هو اختيار جمع من العلماء -كما ذكرنا- لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم).
[اشتراك الشمس والقمر في صفة الصلاة]
ذكرنا صفة صلاة الكسوف، وهذه الصفة هي مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث رحمة الله على الجميع، فصلاة الكسوف تصلى على هذه الصفة الواردة في الأحاديث الصحيحة، وهي أحاديث من سمينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.
وذهب الإمام أبو حنيفة وبعض المالكية إلى أنه يصلي ركعتين كالصلاة المعتادة، ولا تكون لها جماعة، بمعنى أنه يصلي ركعتين دون أن يجمع، وهذا في صلاة خسوف القمر، فكل إنسان يصلي على حدة، ولا يلزم أن يجتمع الناس، فهذا هو مذهبهم.والصحيح مذهب من ذكرنا، فيشرع أن يصليها مع الجماعة، وتصلى بهذه الصفة الواردة، ويشمل ذلك صلاة الكسوف وصلاة الخسوف لثبوت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
أما صلاة الخسوف فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان ولا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم هذا فصلوا وادعوا)، فشرك بين الكسوف والخسوف، فجعل كسوف الشمس وكسوف القمر كلاهما يشتركان في قوله: (فصلوا)، فدل على أن حكمهما واحد، وأنه كما يصلى الكسوف بالصفة التي ذكرناها جماعة يشرع له أن يصلي الخسوف بالصفة التي ذكرناها جماعة، ولذلك يعتبر مذهب الحنفية وبعض المالكية رحمة الله عليهم مرجوحا من هذا الوجه.
[الأحوال التي لا تشرع فيها صلاة الكسوف]
قال رحمه الله تعالى: [وإن غابت الشمس كاسفة، أو طلعت والقمر خاسف، أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل].
في مثل هذه الحالات قال الإمام النووي وغيره من الأئمة رحمة الله عليهم: لا يصلي؛ لأنها إذا غابت يكون قد ذهب سلطانها.
والسنة تقوي هذا القول؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (صلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم)، وإذا غابت فقد ذهب سلطانها، وكذلك أيضا إذا طلعت الشمس والقمر قد خسف فلا تصلى صلاة الخسوف، والعبرة بالشمس لا بالقمر.
قال رحمه الله تعالى: [أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل].
قوله: (أو كانت) أي: وقعت وحصلت، وقوله: (آية غير الزلزلة) الآيات مثل الصواعق والرياح الشديدة والزلازل، فإنها تنتاب الناس فجأة، فتارة تهب عليهم الرياح وهم لا يشعرون، أو تأتيهم الصواعق في أثناء نزول المطر فيباغتون بها، فإذا وقعت بشكل يزعج منه ويخاف منه يفر إلى الصلاة،
وللعلماء رحمة الله عليهم في الصلاة عند الآيات غير الكسوف وجهان: فمن أهل العلم من يقول: يشرع أن يصلي صلاة الكسوف في كل آية فيها خوف؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا)، فجعل الصلاة مرتبة على الخوف،
قالوا: فكل شيء فيه خوف يشرع أن يصلى له صلاة الكسوف، كما لو كثرت الصواعق، أو أصبحت الرعود قوية جدا بحيث تزعج وتحدث الرهبة والخوف عند الناس، أو كانت في منتصف الليل والناس على ضجعة فجاءتهم على شكل مفزع، فحينئذ يشرع أن يصلوا صلاة الكسوف.ويختار هذا القول بعض الأئمة، ويميل إليه الإمام ابن حزم الظاهري رحمة الله على الجميع.
ومن أهل العلم من قال: لا يشرع أن تصلى صلاة الكسوف إلا فيما ورد فيه النص من كسوف الشمس وخسوف القمر، أما كسوف الشمس فلفعله عليه الصلاة والسلام،
وأما خسوف القمر فلقوله: (فإذا رأيتم هذا فصلوا وادعوا)، فشرك بينهما.والصحيح أن هذه الصلاة لا تشرع إلا في الكسوف والخسوف، والزلزلة لا يصلى فيها؛ لأن الأثر عن علي رضي الله عنه ضعيف، فالقول بجواز الصلاة للزلزلة ضعيف، إلا أنه يجوز أن يصلي الناس صلاة عامة؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة أنه: (كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة)، فلو أن الرعود أو الصواعق أصابت الناس أو حدثت الزلزلة فكل إنسان يصلي ويفزع إلى الله عز وجل بالصلاة.