رد: قياس الأولى في العقيدة
للفائدة
يقول الشيخ يوسف الغفيص في شرحه على الواسطية
(ولا يقاس بخلقه)
وجه نفي المصنف للقياس
قد يقول قائل: إن المصنف هنا نفى القياس، مع أنه لم يذكر في الكتاب أو السنة نفي القياس.
فيقال كجواب مجمل: إن المصنف إنما نفى القياس المقيد، ولا شك أن هذا النفي على هذا التقييد نفي صحيح.
وأما الجواب المفصل فنقول: إن متأخري أهل السنة يقولون: إن القياس ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قياس الشمول.
الثاني: قياس التمثيل.
الثالث: قياس الأولى.
فقياس التمثيل: هو ما يعطى فيه الفرع حكم الأصل.
فيقال عندهم: إن قياس التمثيل والشمول مما ينزه الباري عنه، فلا يستعمل في حق الله تعالى قياس الشمول ولا قياس التمثيل.
وقياس الشمول: هو ما يستوي فيه جميع أفراده بمعنى العموم.
وقياس التمثيل: هو ما يعطى حكم الأصل للفرع، وهو المستعمل في الجملة عند الفقهاء.
قالوا: ولكن يستعمل في حق الله قياس الأولى، وهو المذكور في مثل قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى}
وقبل أن نبين مراد أهل السنة بقياس الأولى، ونذكر القاعدة المشهورة التي ذكرها ابن تيمية وجماعة تحت مسألة قياس الأولى المضاف إلى الله، نقول: التحقيق أن استعمال لفظ القياس، مضافاً إلى الله غلط من جهة الأصل؛ لأن هذا اللفظ في اللغة يعني اشتراكاً إضافياً بين المقيس والمقيس عليه، فإنه فرع عن الإضافات والتخصيصات والتقييدات، أي: فرع عن الجمل؛ ومن هنا يقال: إنه ليس مناسباً في حق الباري سبحانه وتعالى، فإنه باعتبار أصل اللغة يفيد قدراً من التشبيه الذي لا يليق بالله سبحانه وتعالى.
فإن قال قائل: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} قيل: نعم، ولكن الله سبحانه وتعالى لم يذكر لفظ القياس في مثل هذا المورد، و المثل الأعلى هو غير القياس وإن وافق جملةً مما يسميه أهل المنطق والاصطلاح بقياس الأولى، فإننا نسميه المثل الأعلى، ولا يصح أن نسميه من باب القياس، ولا سيما إذا أضيف إلى الله سبحانه وتعالى.
فمحصل هذا: أن لفظ القياس لا يجوز إضافته إلى الله سبحانه وتعالى ولا تقريره في مورد الأسماء والصفات ابتداءً، لكن إذا تُكلِّم مع المخالفين، فإنه لا بأس هنا أن يُتكلَّم مع أهل الاصطلاح من باب البيان باصطلاحهم، فيقال: إن ما ذكرتموه مسمى بقياس الأولى نثبته على أنه المثل الأعلى.
وأما من فسر (المثل الأعلى) في الآية القرآنية بأنه: القياس الأعلى، فهذا ليس بصحيح، وإنما المثل بمعنى الوصف، وليس بمعنى القياس الأعلى أو القياس الأولى.
ومن هنا لا ينبغي أن يذكر في تقرير معتقد أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون في حق الباري قياس الأولى؛ لأن هذا اللفظ فيه غلط من أصل اللغة، وإنما يقال: إن أهل السنة والجماعة يقولون: إن الرب لا يقاس بخلقه.
وأما ما يسميه هؤلاء بقياس الأولى فإن المناسب منه هو ما سماه القرآن بالمثل الأعلى.
ولك أن تقول: إن المثل الأعلى المذكور في القرآن أخص مما يسميه أهل المنطق والاصطلاح بقياس الأولى، فلما لم يكن بينهما تطابق امتنع أن يطلق هذا الاسم الشرعي على هذا الاسم الاصطلاحي، باعتبار أن الاسم الاصطلاحي أوسع في المراد من الاسم الشرعي.
ولكن إذا ذكر القول مع المخالفين، قيل: ما يسمى بقياس الأولى هو من حيث معناه المناسب ثابت، ولكن اللفظ يُتردد فيه.
وهنا قاعدة ينبغي لطالب العلم السلفي والسني -وللمسلم عموماً- أن يفقهها: وهي أن ما يصح في مورد الرد -سواء كان الرد على مخالف من المسلمين أو كان الرد على أحد من ملل الكفر- لا يستلزم أن يكون صحيحاً في مورد التقرير، فإن ذكر العقيدة إما أن يكون تقريراً ابتداءً للمسلمين، وإما أن يكون من باب الرد، فما صح في مقام الرد على المخالف لا يلزم بالضرورة أن يكون صحيحاً -أو على أقل تقدير مناسباً- لمقام التقرير.
وهذا يبين: أن مقام التقرير أضيق من مقام الرد، فما يقع فيه كثيرون من نقل ما استعمله بعض أهل السنة في مقام الرد إلى مقام التقرير ليس مناسباً.
ولهذا ما ذكرت مسألة القياس -قياس الأولى وما يتعلق بها- إلا في مقام الرد على المخالفين في مسألة القياس، أما في أصل تقرير السلف والمتقدمين فليس لهذا الاسم مورد من جهة التقرير، فينبغي دائماً أن تبنى العقيدة عند المسلمين على مقام التقرير القرآني أو النبوي، وأما مقام الرد فإنه يتوسع في شأنه عند الأئمة.
انتهى المقصود
و بارك الله فيكم و في جهودكم اخي الكريم
رد: قياس الأولى في العقيدة
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الطيبوني
للفائدة يقول الشيخ يوسف الغفيص في شرحه على الواسطية (ولا يقاس بخلقه) التحقيق أن استعمال لفظ القياس، مضافاً إلى الله غلط من جهة الأصل؛ لأن هذا اللفظ في اللغة يعني اشتراكاً إضافياً بين المقيس والمقيس عليه، .............................. ..... إنه ليس مناسباً في حق الباري سبحانه وتعالى، فإنه باعتبار أصل اللغة يفيد قدراً من التشبيه الذي لا يليق بالله سبحانه وتعالى.؟؟؟؟؟ ....................لم يذكر لفظ القياس في مثل هذا المورد، و المثل الأعلى هو غير القياس .............................. ..... ولا يصح أن نسميه من باب القياس، ولا سيما إذا أضيف إلى الله سبحانه وتعالى. فمحصل هذا: أن لفظ القياس لا يجوز إضافته إلى الله سبحانه وتعالى ولا تقريره في مورد الأسماء والصفات ابتداءً،........................ وأما من فسر (المثل الأعلى) في الآية القرآنية بأنه: القياس الأعلى، فهذا ليس بصحيح، وإنما المثل بمعنى الوصف، وليس بمعنى القياس الأعلى أو القياس الأولى. .............................. ..........لا ينبغي أن يذكر في تقرير معتقد أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون في حق الباري قياس الأولى؛ لأن هذا اللفظ فيه غلط من أصل اللغة، .............................. وإنما يقال: إن أهل السنة والجماعة يقولون: إن الرب لا يقاس بخلقه. .............................. ..........امتنع أن يطلق هذا الاسم الشرعي على هذا الاسم الاصطلاحي، باعتبار أن الاسم الاصطلاحي أوسع في المراد من الاسم الشرعي............................... .ما يصح في مورد الرد -سواء كان الرد على مخالف من المسلمين أو كان الرد على أحد من ملل الكفر- لا يستلزم أن يكون صحيحاً في مورد التقرير،...................... أن مقام التقرير أضيق من مقام الرد، فما يقع فيه كثيرون من نقل ما استعمله بعض أهل السنة في مقام الرد إلى مقام التقرير ليس مناسباً. ولهذا ما ذكرت مسألة القياس -قياس الأولى وما يتعلق بها- إلا في مقام الرد على المخالفين في مسألة القياس،..................... أما في أصل تقرير السلف والمتقدمين فليس لهذا الاسم مورد من جهة التقرير،............... فينبغي دائماً أن تبنى العقيدة عند المسلمين على مقام التقرير القرآني أو النبوي، وأما مقام الرد فإنه يتوسع في شأنه عند الأئمة. انتهى المقصود
كلام الشيخ يوسف الغفيص فيه نظر مخالف لكلام العلماء الراسخين فى معنى قياس الاولى وصحة الاستدلال به فى مقام التقرير ومقام االرد---واكبر شاهد على صحة الاستدلال فى مقام التقرير الموضوع الذى نقله الاخ الفاضل ابو وليد البحيرى[قياس الاولى فى العقيدة] فالموضوع فيه الجواب الشافى والكافى فى صحة الاستدلال بقياس الاولى فى مقام االتقرير خلافا لما يدعيه الشيخ الفاضل يوسف الغفيص وهذا ليس تقليلا من شأن الشرح ولا الكلام فى شرحه لكلام شيخ الاسلام فقد اجاد الشيخ وافاد فى شرح كلام شيخ الاسلام بما لا مزيد عليه- ولكن الشيخ لم يحالفه الصواب فى هذه المسألةفقوله
اقتباس:
التحقيق أن استعمال لفظ القياس، مضافاً إلى الله غلط من جهة الأصل؛ لأن هذا اللفظ في اللغة يعني اشتراكاً إضافياً بين المقيس والمقيس عليه،
هذا الكلام خطأ ظاهر--بل يلزم من ذلك ان كل ما استدل به الشيخ تميم بن عبد العزيز القاضى صاحب المقال من الاستدلال من الكتاب والسنة بقياس الاولى- يلزم منه كما يدعى الشيخ يوسف الغفيص اشتراكاً إضافياً بين المقيس والمقيس عليه---وعلى قوله ان ادلة الكتاب والسنة فيها اشتراكا اضافيا- لان القران نزل بلغة العرب فيلزم على قوله ابطال الاقيسة التى وردت فى القران فى مقام التقرير -- وفى المشاركة القادمة سنبين ان شاء الله معنى قياس الاولى وانه لا يلزم منه ااشتراكا اضافيا كما يدعى الشيخ يوسف الغفيص
رد: قياس الأولى في العقيدة
قال الشيخ صالح اال الشيخ فى شرح الواسطية - ، ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهَ وَتَعَالَى)
هذا تعليل لما سبق، لِمَ لمْ ينفِ أهل السنة والجماعة عن الله ما وصف به نفسه؟
قال (لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ).
فإذن الصفات والأسماء وإن كان ظاهر المعنى قد يقتضي المشابهة ، فإن إثبات الأسماء لله جل وعلا وإثبات الصفات لله جل وعلا إثبات لها بإثبات اللفظ وإثبات المعنى الذي دل عليه اللفظ على ما يليق بالله جل وعلا ، وأما الاشتراك في بعض المعنى فإن هذا لا ينفيه أهل السنة والجماعة لأن الله جل وعلا هو الذي وصف نفسه بذلك كما سيأتي من قوله (فَإنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ) .
فهو جل وعلا الذي سمى نفسه السميع وسمى المخلوق بالسميع .
وبين السميع والسميع قدر مشترك من المعنى ، وهذا المعنى هو أصل السمع .
والسمع الذي في المخلوق يناسب ذاته والسمع الذي لله جل وعلا يناسب ذاته .
وهذا على أصل القاعدة المقررة وهي أن القول في الصفات كالقول في الذات يُحتذى فيه حذوه ويُنهج فيه منهاجه ، لأن الصفة ،كل صفة تناسب الموصوف فسمع المخلوق يناسب ذاته وسمع الله جل وعلا يناسب ذاته .
ما بين الصفتين من القدر المشترك هذا هو ما يجمعهما في أصل اللغة في المعنى العام أما المناسبة للذات فهذه لخارج الأصل العام .
ولهذا فإن لله جل وعلا من الصفات أكملها وله من كل صفة كمال أكمل تلك الصفة وأعظمها وأشملها أثرا وأعمها متعلقا .
وهذا لا يعني بحال المماثلة ، وإنما القدر المشترك في أصل المعنى هذا لا ينفيه أهل السنة لأن الله جل وعلا أنزل القرآن بلسان عربي مبين ومعنى ذلك أن الكلمات التي فيها ذكر الأسماء والصفات أنها تفهم باللغة [شرح الواسطية ]
رد: قياس الأولى في العقيدة
اقتباس:
فإنه فرع عن الإضافات والتخصيصات والتقييدات، أي: فرع عن الجمل؛ ومن هنا يقال: إنه ليس مناسباً في حق الباري سبحانه وتعالى، فإنه باعتبار أصل اللغة يفيد قدراً من التشبيه الذي لا يليق بالله سبحانه وتعالى.
من المعلوم أن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى عباده بأسماء مختصة بهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، كما وصف نفسه بصفات، ووصف عباده بصفات مختصة بهم، توافق تلك الصفات إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، وليست صفات الله كصفات الخلق, ولا أسماؤه كأسمائهم.
ومن الأمثلة على ذلك أن الله سمى نفسه حيًّا فقال: اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255]، وسمى بعض عباده حيًّا فقال: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [الروم: 19]، ليس هذا الحي مثل هذا الحي، وسمى نفسه سميعاً بصيراً فقال: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: 58]، وسمى بعض خلقه سميعاً بصيراً فقال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان: 2] وليس السميع كالسميع, ولا البصير كالبصير، وسمَّى نفسه بالملك فقال: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [الحشر: 23] وسمَّى بعض عباده بالملك فقال: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي [يوسف: 50].
وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى صفات عباده بنظير ذلك, فقال في صفة العلم: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة: 255] وقال عن المخلوق: فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ [غافر: 83] وليس العلم كالعلم، وكذلك وصف نفسه بالمشيئة, ووصف عبده بالمشيئة فقال: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 28-29] وكذلك وصف نفسه بالمحبة, ووصف عبده بالمحبة فقال: فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54]، ووصف نفسه بالمناداة فقال: وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم: 52], ووصف عبده بالمناداة فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4]، ووصف نفسه بالتكليم في قوله: وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164], ووصف عبده بالتكليم في مثل قوله: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ [يوسف: 54]، وغيرها كثير (1) .
فهل إطلاق هذه الأسماء والصفات على الله وعلى المخلوق هو من باب المشترك اللفظي، أو باب المتواطئ أو المشكك؟.
والفرق بين المشترك اللفظي, والمتواطئ, أو المشكك كبيراً جدًّا، لأن معنى المشترك اللفظي أن اللفظ واحد, ولكنَّ المعاني والمدلولات التي يصدق عليها هذا اللفظ متباينة لا يجمع بينها معنى مشترك، فالعين تطلق على الباصرة, وعلى الذهب, وعلى الجارية, وليس بين هذه الأمور أي معنى يجمعها سوى لفظ "عين" الذي يطلق على كل منها، وكذا المشتري يطلق على مشتري السلعة، ويطلق على الكوكب المسمى بالمشتري، وليس بينهما أي معنى مشترك سوى أن لفظ "المشتري" جمع بينهما لفظاً. فإذا قيل: الله سميع، والمخلوق سميع، فهل السميع هنا من باب المشترك اللفظي؟ ونحن إذا فهمنا معنى السميع بالنسبة للمخلوق فهل يقول قائل: إن السميع بالنسبة لله قد يكون له معنى آخر بعيد جدًّا، كالبعد الذي بين معنى الكوكب والمبتاع للسلعة.؟، لاشك أن هذا القول يؤدي على تعطيل أسماء الله وصفاته عن معانيها اللائقة به تعالى.
أم المتواطئ فهو معنى كلي على أعيان متعددة، كالإنسان، فهو معنى كلي يدل على جميع بني الإنسان بالسوية، فيصدق على زيد, وعمرو, ومحمد, وأحمد من الناس، لكن هذا المعنى الكلي الذي يجمعهم لا يعني أن حقيقة زيد هو حقيقة عمرو، بل كل له حقيقته الخاصة, وإن كان يجمعهم معنى "الإنسان". والمشكك جزء من المتواطئ العام، لأنه يدل على أشياء متعددة لأمر عام مشترك بين أفرادها، لكنه في بعضها أقوى أو أشدُّ.
وقد بين شيخ الإسلام أن هذا التوافق بين أسماء الله وصفاته, وأسماء المخلوقين وصفاتهم لا يجوز أن يكون من باب المشترك اللفظي، بل هو من باب المتواطئ أو المشكك؛ لأن هناك معنى كليًّا يفهم من مطلق صفة السمع, أو البصر, أو الحياة أو الوجود، وإن كان سمع الله, وبصره, وحياته, ووجوده، يخصه لا يشاركه فيه أحد من الخلق، كما أن سمع المخلوق, وبصره, وحياته, ووجوده يخصه.
ومع تجويز شيخ الإسلام أن تكون من باب المتواطئ أو المشكك، إلا أنه يتعمق في ذكر الفرق بينهما، ولذلك فهو يرى أن القول بأنه من المتواطئ واضح في هذا الباب، وأن القول بأن المعنى الذي هو مدلول اللفظ العام ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، لا مانع منه ما دامت حقيقة كل قسم تخصه لا يشركه فيه غيره، وأما الذي ظنه بعض الناس من أنه يخلص من هذا الاشتراك بجعل لفظ "الوجود" أو غيره من باب التشكيك، لكون واجب الوجود أكمل، كما يقال في لفظ السواد المقول على سواد القار وسواد الحدقة، ولفظ البياض المقول على بياض الثلج وبياض العاج فإن شيخ الإسلام يجيب عن هذا بقوله: "ولا ريب أن المعاني الكلية قد تكون متفاضلة في مواردها، بل أكثرها كذلك: وتخصيص هذا القسم بلفظ المشكك أمر اصطلاحي، ولهذا كان من الناس من قال: هو نوع من المتواطئ؛ لأن واضع اللغة لم يضع اللفظ العام بإزاء التفاوت الحاصل لأحدهما، بل بإزاء القدر المشترك"، ثم يقول شيخ الإسلام: "وبالجملة، فالنزاع في هذا لفظي، فالمتواطئة العامة تتناول المشككة، وأما المتواطئة التي تتساوى معانيها فهي قسيم المشككة، وإذا جعلت المتواطئة نوعين: متواطئاً عاماً وخاصاً، كما جعل الإمكان نوعين عاماً وخاصاً زال اللبس" (2) .
رد: قياس الأولى في العقيدة
اقتباس:
إنه ليس مناسباً في حق الباري سبحانه وتعالى، فإنه باعتبار أصل اللغة يفيد قدراً من التشبيه الذي لا يليق بالله سبحانه وتعالى
والقول بأن هذا التوافق ليس من قبيل المشترك اللفظي هو قول جماهير المسلمين، يقول شيخ الإسلام: "إن مذهب عامة الناس، بل عامة الخلائق من الصفاتية كالأشعرية, والكرامية, وغيرهم، أن الوجود (ليس) مقولاً بالاشتراك اللفظي فقط، وكذلك سائر أسماء الله التي سُمِّي بها، وقد يكون لخلقه اسم كذلك، مثل الحي, والعليم, والقدير؛ فإن هذه ليست مقولة بالاشتراك اللفظي فقط، بل بالتواطؤ، وهي أيضا مشككة؛ فإن معانيها في حق الله تعالى أولى، وهي حقيقة فيهما، ومع ذلك فلا يقولون: إن ما يستحقه الله تعالى من هذه الأسماء إذا سُمِّي بها مثل ما يستحقه غيره، ولا أنه في وجوده, وحياته, وعلمه, وقدرته, مماثلاً لخلقه، ولا يقولون أيضاً إن له أو لغيره في الخارج وجوداً غير حقيقتهم الموجودة في الخارج؛ بل اللفظ يدل على قدر مشترك (إذا) أطلق وجرد عن الخصائص التي تميز أحدهما" (3) ، ثم بين أن هذا لا يستعمل في أسماء الله فقط, ولا في اللغة أيضاً، وإنما يذكر في مواضع تجرد عن الخصائص لأجل المناظرة فيقدر الأمر تقديراً (4) .
ومع أنَّ هذا هو قول جماهير الصفاتية وغيرهم, إلا أن بعض من خاض في الفلسفة, والمنطق كالرازي, والآمدى, والشهرستاني ظَنُّوا – في بعض أقوالهم – أنه يجب أن يكون ما بين أسماء الله وأسماء المخلوقين من توافق مقولاً بالاشتراك اللفظي، وقد بين شيخ الإسلام أن الذي دفعهم إلى هذا القول شبهتان:
إحداهما: شبهة الوقوع في التشبيه والتركيب.
والثانية: ظن ثبوت الكليات المشتركة في الخارج.
أما الشبهة الأولى: فيقول شيخ الإسلام: إن كثيراً من الناس "تنازعوا في الأسماء التي تسمى الله بها, وتسمى بها عباده: كالموجود, والحي, والعليم, والقدير، فقال بعضهم: هي مقولة بالاشتراك اللفظي حذراً من إثبات قدر مشترك بينهما، لأنهما إذا اشتركا في مسمى الوجود لزم أن يمتاز الواجب عن الممكن بشيء آخر فيكون مركباً، وهذا قول بعض المتأخرين: كالشهرستاني, والرازي في أحد قوليهما، وكالآمدي مع توقفه أحياناً" (5) ، ثم ردَّ على الرازي والآمدي حين ظنَّا أنَّ الأشعري وغيره ممن ينفي الأحوال, ويقول إنَّ وجود كل شيء عين حقيقته – يقولون بهذا القول وأنها مقولة بالاشتراك اللفظي، وزعما أن هذا لازم لهم، لأنهم لو قالوا هو متواطئ لكان بينهما قدر مشترك، فيمتاز أحدهما عن الآخر بخصوص حقيقته، والمشترك ليس هو المميز، فلا يكون الوجود المشترك هو الحقيقة المميزة. وبين أنَّ هذا غلط عليهم (6) .
هذه شبهة التركيب، أما شبهة التشبيه فإنهم قالوا: إذا قلنا موجود وموجود، وحيٌّ وحيُّ، لزم التشبيه (7) .
وأما الشبهة الثانية: فبسببها غلط الرازيُّ وغيره "فإنه ظنَّ أنه إذا كان هذا موجوداً وهذا موجوداً، والوجود شامل لهما، كان بينهما وجود مشترك كل في الخارج، فلابد من مميز يميز هذا عن هذا، والمميز إنما هو الحقيقة, فيجب أن يكون هناك وجود مشترك, وحقيقة مميزة" (8) .
وهذه مبنية على مسألة طالما غلط فيها أهل المنطق والفلسفة وأتباعهم، وهي مسألة الكليات المطلقة التي تكون في الأذهان، وتوهمهم أنها قد تكون موجودة في الأعيان فبهاتين الشبهتين: شبهة التشبيه، وشبهة الكليات الذهنية قال بعض هؤلاء الأشاعرة: إنَّ الوجود وغيره إذا أطلق على الخالق والمخلوق كان من قبيل المشترك اللفظي. وقد ردَّ عليهم شيخ الإسلام من وجوه أهمها:
1- أن القول الذي يقول به جماهير الناس: جمهور المعتزلة، والمتكلمة الصفاتية من الأشعرية, والكرامية, والسالمية، وأتباع الأئمة الأربعة من الحنفية, والمالكية, والشافعية, والحنبلية، وأهل الحديث، والصوفية، أن هذه الأسماء حقيقة للخالق تعالى، وإن كانت تطلق على خلقه حقيقة.
وأما الأقوال الأخرى فهي باطلة:
مثل قول من يقول: إنها حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق، وهو قول أبي العباس الناشىء.
ومثل قول من يقول بالعكس، أي أنها حقيقة في المخلوق مجاز في الخالق، كما هو قول غلاة الجهمية, والقرامطة, والباطنية الذين ينفون عن الله الأسماء الحسنى بل ويقولون: إنَّ الله ليس بحيٍّ, ولا عالم, ولا جاهل (9) ...
والصواب أنها حقيقة فيهما، ولا معنى لهذا القول إلا بإثبات المعنى المشترك في كل اسم أو صفة، ثم إن وجود الخالق يخصه, ووجود المخلوق يخصه، وهكذا بقية الصفات، وكل من قال بالمشترك اللفظي فقد جانب قول أهل الحق، ولزمه أن يقول بواحد من تلك الأقوال الفاسدة.
2- أن كل موجودين فلابد بينهما من قدر مشترك, وقدر مميز، وهذه مسألة التشبيه والتمثيل، وقد سبق تفصيل القول فيها، مع بيان اعتراف الأشاعرة، بل وتقريرهم أن إثبات الصفات لله كالوجود, والسمع, والبصر, والحياة, وغيرها، لا يقتضي أن يكون الله مشابهاً لخلقه (10) .
رد: قياس الأولى في العقيدة
- أن هؤلاء الذين يقولون بالمشترك اللفظي متناقضون، لأنهم مع قولهم إن الوجود مقول بالاشتراك اللفظي إلا أنهم يجعلونه "ينقسم إلى واجب وممكن، أو قديم ومحدث، كما تنقسم سائر الأسماء العامة الكلية لا كما تنقسم الألفاظ المشتركة, كلفظ سهيل المقول على "سهيل" الكوكب، وعلى سهيل بن عمرو، فإن تلك لا يقال فيها: إن هذا ينقسم إلى كذا وكذا، ولكن يقال: إن هذا اللفظ يطلق على هذا المعنى، وعلى هذا المعنى، وهذا أمر لُغويٌّ لا تقسيم عقليٌّ، وهناك (أي في المتواطئ) تقسيم عقليٌّ: تقسيم المعنى الذي هو مدلول اللفظ العام، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام" (11) . وتناقضهم في هذا واضح جدًّا, لأنَّ التقسيم لا يكون في الألفاظ المشتركة إن لم يكن المعنى مشتركاً (12) .
4- أنه لو لم تكن هذه الأسماء متواطئة لأدى ذلك إلى عدم فهم المعاني المرادة في كل سياق، لأنه إذا قيل: إنها من باب المشترك اللفظي، كان ورود هذا الاسم في موضع له معنى. فإذا ورد في موضع آخر وأراد به المعنى الآخر – الذي يختلف عن الأول تماماً – فإنه لا يفهم ذلك المعنى إلا بدليل يدل عليه (13) ، فإذا قيل المخلوق موجود، ثم قيل والله تعالى موجود، فالقول أن الوجود مقول بالاشتراك اللفظي يقتضي أن معنى الوجود في العبارة الثانية له معنى آخر بعيد عن مدلول اللفظ الأول، ولابد من دليل يدل على المعنى المقصود منه، وهذا لو طبق يؤدي إلى تخبط عجيب في فهم مدلول الألفاظ والعبارات.
5- أن القول بالاشتراك اللفظي يؤدي إلى موافقة الملاحدة والقرامطة، "فإنهم إذا جعلوا أسماء الله تعالى – كالحي, والعليم, والقدير, والموجود, ونحو ذلك - مشتركة اشتراكاً لفظياً، لم يفهم منها شيء إذا سُمِّيَ بها الله، إلا أن يعرف ما هو ذلك المعنى الذي يدل عليه إذا سُمِّيَ بها الله، لا سيما إذا كان المعنى المفهوم منها عند الإطلاق ليس هو المراد إذا سُمِّيَ بها الله.
ومعلوم أن اللفظ المفرد إذا سمي به مسمى لم يعرف معناه حتى يتصور المعنى أولاً، ثم يعلم أنَّ اللفظ دال عليه، فإذا كان اللفظ مشتركاً فالمعنى الذي وضع له في حق الله لم نعرفه بوجه من الوجوه، فلا يفهم من أسماء الله الحسنى معنى أصلاً، ولا يكون فرق بين قولنا: حيٌّ، وبين قولنا: عليم، وبين قولنا: جهول، أو "ديز" أو "كجز"، بل يكون بمنزلة ألفاظ أعجمية سمعناها ولا نعلم مسمَّاها، أو ألفاظ مهملة لا تدل على معنى، كديز وكجز ونحو ذلك.
وهذا هو لب المسألة، لأن القول بالمشترك اللفظي يؤدي إلى اعتقاد أن هذه الأسماء أو الصفات بالنسبة لله تعالى لها معان أخرى بعيدة عن المعاني التي دلت عليها هذه النصوص التي وردت بها، "وإذا لم تكن أسماؤه متواطئة لم يفهم العباد من أسمائه شيئاً أصلاً، إلا أن يعرفوا ما يخص ذاته، وهم لم يعرفوا ما يخص ذاته، فلم يعرفوا شيئاً" (14) ، وهذا هو الإلحاد في أسمائه, وآياته.
رد: قياس الأولى في العقيدة
- والذين قالوا بالمشترك اللفظيِّ طبقوه أو التزموه في لفظ الوجود بالنسبة لله, وبالنسبة للمخلوق، فقالوا: يشتركان في الوجود، ويمتاز أحدهما عن الآخر بحقيقته.
وهنا يجيبهم شيخ الإسلام بأنَّ القول في الحقيقة كالقول في الوجود، "فإنَّ هذا له حقيقة، وهذا له حقيقة، كما أن لهذا وجوداً ولهذا وجوداً، وأحدهما يمتاز عن الآخر بوجود المختص به، كما هو ممتاز عنه بحقيقته التي تختص به. فقول القائل: إنهما يشتركان في مسمى الوجود، ويمتاز كل واحد منهما بحقيقته التي تخصه كما لو قيل: هما مشتركان في مسمى الحقيقة, ويمتاز كل منهما بوجوده الذي يخصه. وإنما وقع الغلط لأنه أخذ الوجود مطلقاً لا مختصاً، وأخذت الحقيقة مختصة لا مطلقة، ومن المعلوم أن كلًّا منهما يمكن أن يوجد مطلقاً، ويمكن أن يوجد مختصاً، فإذا أخذا مطلقين تساويا في العموم، وإذا أخذا مختصين تساويا في الخصوص، وأما أخذ أحدهما عامًّا والآخر مختصًّا فليس هذا بأولى من العكس" (15) .
وهذا المنهج الإلزامي الدقيق كثيراً ما يستخدمه شيخ الإسلام، ومن ذلك قوله في مسألة الصفات التي أولها الأشاعرة، مثل صفة المحبة التي أولوها بإرادة الإنعام، لأنهم قالوا: إن المحبة ميل القلب إلى المحبوب وهذه صفة المخلوق، ولا يجوز أن تكون صفة لله، فهنا يقال لهم: يلزمكم في تأويلكم نظير ما لزمكم في المعنى الذي فررتم منه، فإنه يقال لكم في قولكم: إن المحبة إرادة الإنعام: ونحن لا نعلم من الإرادة إلا ميل النفس إلى المراد. فافعلوا في الإرادة ما فعلتم في المحبة فأولوها، أو فافعلوا في المحبة ما فعلتم في الإرادة فأثبتوها، وهكذا بقية الصفات.
7- أما مسألة الكليات المشتركة التي تكون في الأذهان – وتوهم بعض الفلاسفة وأتباعهم أنها قد تكون موجودة في الأعيان – فإن شيخ الإسلام ناقشها طويلاً (16) ، وبين أثناء ذلك أن حجج هؤلاء مدارها على أن المطلق المشترك الكلي موجود في الخارج، قال: "وهذا هو الموضع الذي ضلت فيه عقول هؤلاء، حيث اعتقدوا أن الأمور الموجودة المعينة اشتركت في الخارج في شيء، وامتاز كل منها عن الآخر بشيء، وهذا عين الغلط" (17) . وفي (منهاج السنة) قال مجيباً عن هذا الاشتباه والغلط الذي وقع فيه الرازي والآمدي وغيرها: "وأما حل الشبهة فهو أنهم توهموا أنه إذا قيل: إنهما مشتركان في مسمَّى الوجود، يكون في الخارج وجود مشترك هو نفسه في هذا، وهو نفسه في هذا، فيكون نفس المشترك فيهما، والمشترك لا يميز، فلابد له من مميز.
وهذا غلط؛ فإن قول القائل: يشتركان في مسمى الوجود، أي: يشتبهان في ذلك ويتفقان فيه، فهذا موجود، وهذا موجود، ولم يشرك أحدهما الآخر في نفس وجوده البتة. وإذا قيل: يشتركان في الوجود المطلق الكليِّ، فذاك المطلق الكليُّ لا يكون مطلقاً كليًّا إلا في الذهن، فليس في الخارج مطلق كليٌّ يشتركان فيه، بل هذا له حصة منه، وهذا له حصة منه، وكلٌّ من الحصتين ممتازة عن الأخرى (18) "، ثم قال بعد مناقشة أهل المنطق: "فمسألة الكليات, والأحوال, وعروض العموم لغير الألفاظ، من جنس واحد، ومن فهم الأمر على ما هو عليه، تبين له أن ليس في الخارج شيء هو بعينه موجود في هذا وهذا. وإذا قال: نوعه موجود، أو الكليُّ الطبيعيُّ موجود، أو الحقيقة موجودة، أو الإنسانية من حيث هي موجودة، ونحو هذه العبارات، فالمراد به أنه وجد في هذا نظير ما وجد في هذا, أو شبهه, أو مثله، ونحو ذلك.
والمتماثلات يجمعها نوع واحد، وذلك النوع هو الذي بعينه يعمُّ هذا ويعمُّ هذا، لا يكون عامًّا مطلقاً إلا في الذهن، وأنت إذا قلت: الإنسانية موجودة في الخارج، والكليُّ الطبيعي موجود في الخارج، كان صحيحاً: بمعنى أن ما تصوره الذهن كليًّا يكون في الخارج، لكنه إذا كان في الخارج لا يكون كليًّا كما أنك إذا قلت: زيد في الخارج، فليس المراد هذا اللفظ، ولا المعنى القائم في الذهن، بل المراد المقصود بهذا اللفظ موجود في الخارج" (19) .
ثم طبَّقَ شيخ الإسلام كلامه في مسألة الكليات على شبهة التشبيه التي أوقعت هؤلاء بقولهم بالمشترك اللفظي في مسألة الله وصفاته وما وافقها من أسماء المخلوقين وصفاتهم فقال: "وبهذا يتبين غلط النفاة في لفظ التشبيه؛ فإنه يقال: الذي يجب نفيه عن الرب تعالى اتصافه بشيء من خصائص المخلوقين، كما أن المخلوق لا يتصف بشيء من خصائص الخالق، أو أنَّ يثبت للعبد شيء يماثل فيه الرب، وأما إذا قيل: حيٌّ وحيٌّ, وعالم وعالم، وقادر وقادر، أو قيل: لهذا قدرة, ولهذا قدرة، ولهذا علم، ولهذا علم، كان نفس علم الربِّ لم يشركه في العبد، ونفس علم العبد لا يتصف به الربُّ، تعالى عن ذلك، وكذلك في سائر الصفات، بل ولا يماثل هذا هذا، وإذا اتفق العلماء في مسمَّى العلم، والعالمان في مسمى العالم، فمثل هذا التشبيه ليس هو المنفيُّ، لا بشرع ولا بعقل، ولا يمكن نفي ذلك إلا بنفي وجود الصانع" (20) .
وليس هذا خاصًّا بالصفات التي أثبتها الأشاعرة، بل يشمل غيرها من الصفات: كالنزول, والاستواء, والمجيء، فإثباتها لله، مع أن المخلوق قد يوصف بالنزول, والاستواء, والمجيء- لا يقتضي المشابهة، والقول بأن ذلك من قبيل المشترك اللفظي يعطلُّ هذه الصفات عن معانيها (21) .
وقد بين شيخ الإسلام أنَّ الآمدي – في مسألة الكليات المشتركة ووجودها في الأذهان – قد بين في كتابه (أحكام الأحكام) ما يناقضها، يقول: "والآمدي قد بين فساد هذا (أي المشترك الكلي, وكونه قد يوجد في الأعيان) في غير موضع من كتبه، مثل كلامه في الفرق بين المطلق والمقيد, والكلي والجزئي، وغير ذلك، وزيف ظن من يظن أن الكلي يكون جزءاً من المعين، وبين خطأ من يقول ذلك كالرازي وغيره، فلو رجع إلى أصله الصحيح الذي ذكره في الكلي, والجزئي, والمطلق, والمعين، لعلم فساد هذه الحجة، ولكن لفرط التباس أقوالهم وما دخلها من الباطل الذي اشتبه عليهم وعلى غيرهم، تزلق أذهان كثير من الأذكياء في حججهم، ويدخلون في ضلالهم من غير تفطن لبيان فسادها، كالرازي والآمدي ونحوهما: تارة يمنعون وجود الصور الذهنية، حتى يمنعوا ثبوت الكلي في الذهن، وتارة يجعلون ذلك ثابتاً في الخارج" (22) .
ثم ذكر شيخ الإسلام أن الآمدي في دقائق الحقائق أثبت المشترك الكلي في الخارج (23) ، وفي أحكام الأحكام نفاها, وردَّ على الرازي (24) ، كما ذكر بأن الرازي نفاها أيضاً في الملخص (25) ، وبيان هذا التناقض الذي وقع فيه هؤلاء هو جزء من منهج شيخ الإسلام في ردوده عليهم (26) .
8- وإضافة إلى ما سبق من ردود فإن شيخ الإسلام يبين هذه المسألة ويوضحها من خلال بيان منهج السلف في الصفات، القائم على إثبات هذه الصفات لله تعالى كما وردت من غير تمثيل, ولا تكييف، ولا تحريف, ولا تعطيل، ونظراً لأن هؤلاء إنما أوقعهم بالقول بالمشترك اللفظي الخوف من التشبيه، فقد أوضح شيخ الإسلام المسألة, وبينها وضرب لذلك بعض الأمثلة المهمة:
( أ ) فقد بين أن الأسماء والصفات نوعان:
نوع يختص به الربُّ، مثل: الإله، ورب العالمين، ونحو ذلك، فهذا لا يثبت للعبد بحال، ومن هنا ضلَّ المشركون الذين جعلوا لله أنداداً.
والثاني: ما يوصف به العبد في الجملة: كالحي, والعالم, والقادر، فهذا لا يجوز أن يثبت للعبد مثل ما يثبت للرب أصلاً، فإنه لو ثبت له مثل ما يثبت له للزم أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، وذلك يستلزم اجتماع النقيضين (27) . وقد سبق تفصيل هذا في مبحث الألوهية والربوبية.
(ب) وبالنسبة للنوع الثاني مما يتفقان فيه، فهل يلزم منه التماثل؟ يوضح شيخ الإسلام ذلك ببيان أن هذه الأمور لها ثلاث اعتبارات:
أحدها: ما يختصُّ به الربُّ، فهذا ما يجب له, ويجوز ويمتنع عليه, ليس للعبد فيه نصيب.
والثاني: ما يختصُّ بالعبد، كعلم العبد, وقدرته, وحياته، فهذا إذا جاز عليه الحدوث والعدم لم يتعلق بذلك بعلم الرب وقدرته وحياته، فإنه لا اشتراك فيه.
والثالث: المطلق الكلي، وهو مطلق الحياة, والعلم, والقدرة، فهذا المطلق ما كان واجباً له كان واجباً فيهما، ما كان جائزاً عليه كان جائزاً عليهما، وما كان ممتنعاً عليه كان ممتنعاً عليهما، فالواجب أن يقال: هذه صفة كمال حيث كانت، فالحياة, والعلم, والقدرة صفة كمال لكل موصوف, والجائز عليهما اقترانهما بصفة أخرى كالسمع والبصر والكلام، فهذه الصفات يجوز أن تقارن هذه في كلِّ محل – اللهم إلا إذا كان هناك مانع من جهة المحل لا من جهة الصفة -. وأما الممتنع عليهما، فيمتنع أن تقوم بهذه الصفات إلا بموصوف قائم بنفسه، هذا ممتنع عليهما في كل موضع, فلا يجوز أن تقوم صفات الله بأنفسها، بل بموصوف، وكذلك صفات العباد لا يجوز أن تقوم بأنفسها، بل بموصوف" (28) .
وهذا المطلق الكلي الذي هو النوع الثالث، هو الذي من خلاله نفهم ما خوطبنا به، ولذلك فنحن نعلم مثلاً أنه إذا وصف أحد بصفة، فإن هذه الصفة لابد أن تقوم بالموصوف، كما أننا نفرق بين صفة الحياة، والعلم والكلام، من غير أن يرتبط ذلك بتخصيص الموصوف بها، هل هو الخالق أو العبد، ولولا ذلك لكانت معرفتنا بأسماء الله, وصفاته, وآياته ألغازاً وألفاظاً أعجمية لا تفهم، ومن أراد أن يلتزم نفي التشبيه بنفي أي نوع من أنواع التشابه الذي يرد في المطلق الكلي فلابد أن يؤدي به الأمر إلى نفي وجود الخالق، ومتى أقر بوجود الخالق وأنه غير هذه المخلوقات لزمه شيء من هذا..
يقول شيخ الإسلام مستدلاً لهذه المسألة: "بل أبلغ من ذلك أن الله أخبر أن في الجنَّة من المطاعمِ, والمشاربِ, والملابسِ, والمناكحِ ما ذكره في كتابه، كما أخبر أن فيها لبناً، وعسلاً، وخمراً، ولحماً، وحريراً، وذهباً، وفضةً، وحوراً، وقصوراً، ونحو ذلك، وقد قال ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء)، فتلك الحقائق التي في الآخرة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا، وإن كانت مشابهة المخلوق، فكيف يجوز أن يظنَّ أن فيما أثبته الله تعالى من أسمائه وصفاته مماثلاً لمخلوقاته وأن يقال: ليس ذلك بحقيقة، وهل يكون أحق بهذه الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض؟ مع أن مباينة المخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق" (30) .
وفي موضع آخر شرح ذلك فقال: "إنه يعلم الإنسان أنه حيٌّ, عليمٌ, قديرٌ, سميعٌ, بصيرٌ, متكلمٌ، فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حيٌّ, عليمٌ, قديرٌ, سميعٌ, بصيرٌ, متكلمٌ، فإنَّه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليه لم يمكن أن يفهم ما غاب عنه، كما أنه لولا تصوره لما في الدنيا من العسل, واللبن, والماء, والخمر, والحرير, والذهب, والفضة، لما أمكنه أن يتصور ما أخبر به من ذلك من الغيب، لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة, فقد قال ابن عباس... "وذكر قوله السابق، وشرح الفرق بين نعيم الجنة والدنيا, وأن نعيم الجنة لا يفسد ولا يتغير، ثم قال: "فإذا كان ذلك المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم، وبينهما قدر مشترك وتشابه، علم به معنى ما خوطبنا به، مع أنَّ الحقيقة ليست مثل الحقيقة، فالخالق جلَّ جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته، مما في الجنة لما في الدنيا.
فإذا وصف نفسه بأنه حيٌّ, عليم, سميع, بصير, قدير، لم يلزم أن يكون مماثلاً لخلقه، إذ كان بُعدُها عن مماثلة خلقه أعظم من بُعدِ مماثلة كل مخلوق لكل مخلوق..." (31) .
وهذا المثل واضح جدًّا، مبينٌ للمسألة، وقد وفق شيخ الإسلام في عرضه وشرحه، وهو مما يسلم به مؤولة الصفات، لأنهم يثبتون البعث, والجنة, والنَّار، وقد سبق في موضوع تسلط الفلاسفة, والقرامطة على المتكلمين بيان أنَّ هؤلاء الملاحدة وصموهم بالتناقض؛ لكونهم أولوا نصوص الصفات, ولم يؤولوا نصوص المعاد, والجنة, والنَّار، ومعلوم أن الملاحدة طردوا الأمرين نفياً، وأهل السنة طردوهما إثباتاً، وهؤلاء تناقضوا، وشيخ الإسلام بينما يضرب هذا المثل – مثل نعيم الجنَّة – كأنه يريد أن يقرن بين مسألة دلالة النصوص, وأنَّها واحدة في الصفات والمعاد، - وقد شرحها في عرضه لتسلط الملاحدة – ومسألة ما يفهم من النصوص، وأنَّ نصوص النَّعيم إذا كانت تفهم لأنها تشبه نعيم الدنيا مع ما بينهما من الاختلاف في الحقيقة والكيفية، فكذلك نصوص الصفات تفهم وتعلم, ولا تقتضي موافقتها في الاسم لصفات العباد أن تكون مثلها, أو مشابهة لها (32) .
وكذلك مثل الروح، فإنها "إذا كانت موجودة، حية، عالمة، قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها؛ لأنهم لم يشاهدوا لها نظيراً، والشيء إنما تدرك حقيقته: إما بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته، مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول أعجز عن أن يحدوه, أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها..."
رد: قياس الأولى في العقيدة
يستعمل في حقه سبحانه، قياس الأولى الدال عليه قول الله تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل: 60] أي الأكمل والأحسن والأطيب كما قال شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله. فقياس الأولى راجع إلى الأمثال المضروبة في الكتاب والسنة.
ويستعمل قياس الأولى في الإثبات وفي التنزيه.
أما في الإثبات: فإنه يكون في أمرين كليين (2) :
الأول: إن الاتصاف بالصفات الوجودية في حق المخلوق أكمل فيه من اتصافه بالأمور العدمية، فالخالق أحق بالأمور الوجودية من كل مخلوق.
الثاني: إن كل كمال ثبت فالخالق أولى به منه، ويشترط في هذا الكمال:
1- أن لا يكون فيه نقص بوجه من الوجوه، كالقدرة على إنجاب الولد، فهذا كمال في حق المخلوق، ولكن ليس كمالاً مطلقاً، إذ فيه نقص من وجوه وهو أن الوالد محتاج إلى ولده ولا يستغني عنه ولذلك قال الله تعالى: قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ [يونس: 68].
2- أن لا يكون مستلزماً للعدم، وهذا الشرط ذكر لأن بعض المخالفين يصفونه بصفات السلوب التي لا تتضمن أمراً وجودياً، ويزعمون أنها كمال في حق الخالق مع أنها مستلزمة للعدم. فيجب إذاً أن يوصف الله بصفات كاملة وجودية لا صفات مستلزمة للعدم (3) .
ويمكن الاستدلال لقاعدة استعمال قياس الأولى في الإثبات بذكر ثلاث صفات؛ الأولى: الرحمة، والثانية: القدرة، والثالثة: الفرح.
أما الأولى فيدل لها قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا لا والله، وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) (4) اهـ.
والثانية في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود رضي الله عنه لما ضرب مملوكه فقال له: ((اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)) (5) .
والثالثة: في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة)) (6) .
والاستعمال الثاني لقياس الأولى يكون في التنزيه: وهو أن كل نقص وعيب في نفسه ينزه المخلوق عنه، فتنزيه الخالق عنه أولى. والمقصود بالعيب في نفسه ما تضمن سلب كمال ما أثبت (7) .
ومثال هذا القياس ما ذكره الله من مثل في شأن تنزهه عن أن يكون له شريك في صفة الإلهية، قال الله تعالى: ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28].
ومعنى المثل على سبيل الإجمال: أن الله عز وجل ذكره يوبخ المشركين على اتخاذهم شركاء مع الله فضرب لهم مثلاً من أنفسهم وهو أنكم إذا كنتم لا ترضون لأنفسكم أن يكون مماليككم شركاء في الذي رزقكم الله من أموال، بل تمتنعون أن يكونوا لكم نظراء فكيف ترضون أن تجعلوا مخلوقي ومملوكي الذين زعمتم أنهم شركاء يدعون ويعبدون كما أدعى وأعبد؟ فإذا كنتم تنزهون وتنفون ذلك عن أنفسكم فالخالق أولى بأن تنزهوه وتنفوا عنه الشريك في العبادة (8) .
وقد نسب شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الطريقة من الاستدلال إلى جمع من أهل العلم منهم الإمام أحمد رحمه الله (9) .
فمن ذلك: قال الإمام أحمد: (ووجدنا كل شيء أسفل منه مذموماً، يقول الله جل ثناؤه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 146] وقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت: 26]) اهـ (10) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على كلام الإمام أحمد: (وهذه الحجة من باب (قياس الأولى) وهو أن السفل مذموم في المخلوق حيث جعل الله أعداءه في أسفل سافلين، وذلك مستقر في فطر العباد، حتى إن أتباع المضلين طلبوا أن يجعلوهم تحت أقدامهم ليكونوا من الأسفلين، وإذا كان هذا مما ينزه ويقدس عنه المخلوق ويوصف به المذموم المعيب من المخلوق فالرب تعالى أحق أن ينزه ويقدس عن أن يكون في السفل أو يكون موصوفاً بالسفل هو أو شيء منه أو يدخل ذلك في صفاته بوجه من الوجوه، بل هو العلي الأعلى بكل وجه) اهـ (11) .
وقال الإمام أحمد: (ومن الاعتبار في ذلك: لو أن رجلاً كان في يديه قدح من قوارير صاف وفيه شراب صاف، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح فالله: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم: 27] قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه) (12) .
قال شيخ الإسلام معلقاً على كلام الإمام: (ثم ذكر الإمام أحمد حجة اعتبارية عقلية قياسية لإمكان ذلك هي من باب الأولى... فضرب أحمد رحمه الله مثلاً وذكر قياساً وهو أن العبد إذا أمكنه أن يحيط بصره بما في يده وقبضته من غير أن يكون داخلاً فيه ولا محايثاً له فالله سبحانه أولى باستحقاق ذلك واتصافه به وأحق بأن لا يكون ذلك ممتنعاً في حقه، وذكر أحمد في ضمن هذا القياس قول الله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم: 27] مطابق لما ذكرناه من أن الله له قياس الأولى والأحرى.. وأما المثل المساوي أو الناقص فليس لله بحال)
رد: قياس الأولى في العقيدة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول (2/ 32 - 33): "وتمام الكلام في هذا الباب: أنك تعلم أنا لا نعلم ما غاب عنا إلا بمعرفة ما شهدناه، فنحن نعرف أشياء بحسِّنا الظاهر أو الباطن، وتلك معرفة معينة مخصوصة، ثم إنا بعقولنا نعتبر الغائب بالشاهد، فيبقى في أذهاننا قضايا عامة كلية، ثم إذا خوطبنا بوصف ما غاب عنا لم نفهم ما قيل لنا إلا بمعرفة المشهود لنا. فلولا أنا نشهد من أنفسنا جوعًا وعطشًا، وشبعًا ورِيّا وحبًا وبغضًا، ولذة وألمًا ورِضًا وسخطًا، لم نعرف حقيقة ما نخاطب به إذا وصف لنا ذلك، وأخبرنا به عن غيرنا. وكذلك لو لم نعلم ما في الشاهد حياة وقدرة، وعلمًا وكلامًا، لم نفهم ما نخاطب به إذا وصف الغائب عنا بذلك. وكذلك لو لم نشهد موجودًا، لم نعرف وجود الغائب عنا، فلابد فيما شهدناه وما غاب عنا من قدر مشترك هو مسمى اللفظ المتواطئ، فبهذه الموافقة والمشاركة والمشابهة والمواطأة نفهم الغائب ونثبته، وهذا خاصة العقل. ولولا ذلك لم نعلم إلا ما نحسه، ولم نعلم أمورًا عامة ولا أمورًا غائبة عن أحاسيسنا الظاهرة والباطنة، ولهذا من لم يحس الشيء ولا نظيره لم يعرف حقيقته. ثم إن اللّه تعالى أخبرنا بما وعدنا به في الدار الآخرة من النعيم والعذاب، وأخبرنا بما يؤكل ويشرب وينكح ويفرش وغير ذلك، فلولا معرفتنا بما يشبه ذلك في الدنيا، لم نفهم ما وعدنا به، ونحن نعلم مع ذلك أن تلك الحقائق ليست مثل هذه، حتى قال ابن عباس ـ رضي اللّه عنه: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، وهذا تفسير قوله: ﴿ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ [البقرة: 25] على أحد الأقوال. فبين هذه الموجودات في الدنيا وتلك الموجودات في الآخرة مشابهة وموافقة واشتراك من بعض الوجوه، وبه فهمنا المراد، وأحببناه ورغبنا فيه، أو أبغضناه ونفرنا عنه، وبينهما مباينة ومفاضلة لا يقدر قدرها في الدنيا. وهذا من التأويل الذي لا نعلمه نحن، بل يعلمه اللّه تعالى". وقال في مجموع الفتاوى (9/ 295-296): "فإنه يعلم الإنسان أنه [أي: الإنسان نفسه] حي عليم قدير سميع بصير متكلم، فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير، فإنه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليه لم يمكن أن يفهم ما غاب عنه، كما أنه لولا تصوره لما في الدنيا من العسل واللبن والماء والخمر والحرير والذهب والفضة لما أمكنه أن يتصور ما أخبر به من ذلك من الغيب، لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة فقد قال ابن عباس رضي الله عنه: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء"، فإن هذه الحقائق التي أخبر بها أنها في الجنة ليست مماثلة لهذه الموجودات في الدنيا بحيث يجوز على هذه ما يجوز على تلك ويجب لها ما يجب لها ويمتنع عليها ما يمتنع عليها وتكون مادتها مادتها وتستحيل استحالتها، فإنا نعلم أن ماء الجنة لا يفسد ويأسن، ولبنها لا يتغير طعمه، وخمرها لا يصدع شاربها ولا ينزف عقله فإن ماءها ليس نابعا من تراب ولا نازلا من سحاب مثل ما في الدنيا، ولبنها ليس مخلوقا من أنعام كما في الدنيا وأمثال ذلك، فإذا كان ذلك المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم وبينهما قدر مشترك وتشابه، عُلم به معنى ما خوطبنا به، مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة، فالخالق جل جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته مما في الجنة لما في الدنيا. فإذا وصف نفسه بأنه حي عليم سميع بصير قدير لم يلزم أن يكون مماثلا لخلقه؛ إذ كان بُعدها عن مماثلة خلقه أعظم من بُعد مماثلة كل مخلوق لكل مخلوق، وكل واحد من صغار الحيوان لها حياة وقوة وعمل، وليست مماثلة للملائكة المخلوقين، فكيف يماثل رب العالمين شيئا من المخلوقين".
رد: قياس الأولى في العقيدة
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمدعبداللطيف
والفرق بين المشترك اللفظي, والمتواطئ, أو المشكك كبيراً جدًّا،
لأن معنى المشترك اللفظي أن اللفظ واحد, ولكنَّ المعاني والمدلولات التي يصدق عليها هذا اللفظ متباينة لا يجمع بينها معنى مشترك، فالعين تطلق على الباصرة, وعلى الذهب, وعلى الجارية, وليس بين هذه الأمور أي معنى يجمعها سوى لفظ "عين" الذي يطلق على كل منها، وكذا المشتري يطلق على مشتري السلعة، ويطلق على الكوكب المسمى بالمشتري، وليس بينهما أي معنى مشترك سوى أن لفظ "المشتري" جمع بينهما لفظاً. فإذا قيل: الله سميع، والمخلوق سميع، فهل السميع هنا من باب المشترك اللفظي؟ ونحن إذا فهمنا معنى السميع بالنسبة للمخلوق
فهل يقول قائل: إن السميع بالنسبة لله قد يكون له معنى آخر بعيد جدًّا، كالبعد الذي بين معنى الكوكب والمبتاع للسلعة.؟، لاشك أن هذا القول يؤدي على تعطيل أسماء الله وصفاته عن معانيها اللائقة به تعالى.
أم المتواطئ فهو معنى كلي على أعيان متعددة، كالإنسان، فهو معنى كلي يدل على جميع بني الإنسان بالسوية، فيصدق على زيد, وعمرو, ومحمد, وأحمد من الناس،
لكن هذا المعنى الكلي الذي يجمعهم لا يعني أن حقيقة زيد هو حقيقة عمرو، بل كل له حقيقته الخاصة, وإن كان يجمعهم معنى "الإنسان".
والمشكك جزء من المتواطئ العام، لأنه يدل على أشياء متعددة لأمر عام مشترك بين أفرادها، لكنه في بعضها أقوى أو أشدُّ.
وقد بين شيخ الإسلام أن هذا التوافق بين أسماء الله وصفاته, وأسماء المخلوقين وصفاتهم لا يجوز أن يكون من باب المشترك اللفظي،
بل هو من باب المتواطئ أو المشكك؛ لأن هناك معنى كليًّا يفهم من مطلق صفة السمع, أو البصر, أو الحياة أو الوجود، وإن كان سمع الله, وبصره, وحياته, ووجوده، يخصه لا يشاركه فيه أحد من الخلق، كما أن سمع المخلوق, وبصره, وحياته, ووجوده يخصه.
ومع تجويز شيخ الإسلام أن تكون من باب المتواطئ أو المشكك، إلا أنه يتعمق في ذكر الفرق بينهما، ولذلك فهو يرى أن القول بأنه من المتواطئ واضح في هذا الباب، وأن القول بأن المعنى الذي هو مدلول اللفظ العام ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، لا مانع منه ما دامت حقيقة كل قسم تخصه لا يشركه فيه غيره،
وأما الذي ظنه بعض الناس من أنه يخلص من هذا الاشتراك بجعل لفظ "الوجود" أو غيره من باب التشكيك، لكون واجب الوجود أكمل، كما يقال في لفظ السواد المقول على سواد القار وسواد الحدقة، ولفظ البياض المقول على بياض الثلج وبياض العاج
فإن شيخ الإسلام يجيب عن هذا بقوله: "ولا ريب أن المعاني الكلية قد تكون متفاضلة في مواردها، بل أكثرها كذلك: وتخصيص هذا القسم بلفظ المشكك أمر اصطلاحي، ولهذا كان من الناس من قال: هو نوع من المتواطئ؛ لأن واضع اللغة لم يضع اللفظ العام بإزاء التفاوت الحاصل لأحدهما، بل بإزاء القدر المشترك"،
ثم يقول شيخ الإسلام: "وبالجملة، فالنزاع في هذا لفظي، فالمتواطئة العامة تتناول المشككة، وأما المتواطئة التي تتساوى معانيها فهي قسيم المشككة، وإذا جعلت المتواطئة نوعين: متواطئاً عاماً وخاصاً، كما جعل الإمكان نوعين عاماً وخاصاً زال اللبس" (2) .
بارك الله فيكم، ما ذكر أعلاه قد اتضح ولله الحمد،
لعله سبب لي إشكال في فهم مراد الشيخ الغفيص،
أعتذر لسؤالي ما الإشكال من استخدام اصطلاح قياس الأولى في مقام التقرير بما أن المثل الأعلى أخص منه؟!
رد: قياس الأولى في العقيدة
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم علي طويلبة علم
ما الإشكال من استخدام اصطلاح قياس الأولى في مقام التقرير بما أن المثل الأعلى أخص منه؟!
بارك الله فيك - انا مثلك تماما اقول ما الاشكال ان يستخدم قياس الاولى فى مقام التقرير- ما الاشكال فى موضوع الاخ ابو وليد البحيرى - الجواب لا اشكال على الاطلاق وسبقت محاولتى ان ادفع - شبة الشيخ يوسف الغفيص بأن قياس الاولى يفيد قدراً من التشبيه الذي لا يليق بالله سبحانه وتعالى - وقد فنَّدنا الرد على ذلك بما سبق من كلام شيخ الاسلام - وأظن ان ذلك فيه تأثر بمذهب ا-لاشاعرة فى هذه المسألة --ويلزم من هذا القول ان اقيسة الاولى فى القرآن والسنة - تفيد قدرا من التشبيه لا يليق بحق البارى-- وعلى هذا يلزم من هذا القول عند الاشاعرة وكثير من المتكلمين - ان الاخذ بظواهر الكتاب والسنة من اصول الكفر والعياذ بالله - وقد رد على هذا الائمة -يقول أبو منصور معمر بن أحمد الأصبهاني : ” فـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ينفي كل تشبيه وتمثيل، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ينفي كل تعطيل وتأويل، فهذا مذهب أهل السنة والجماعة والأثر، فمن فارق مذهبهم فارق السنة، ومن اقتدى بهم وافق السنة---- يقول ابن عبد البر رحمه الله : “ومحال أن يكون من قال عن الله ما هو في كتابه منصوص مشبهًا؛ إذ لم يكيف شيئًا، وأقر أنه ليس كمثله شيء---يقول إسحاق بن راهويه (238 ه): ” إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى: يد، وسمع، وبصر، ولا يقول: كيف، ولا يقول: مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهًا، وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}”ويق ول أبو عاصم خُشَيش بن أصْرَم – بعد ذكره لجملة من صفات الله تعالى كالسمع والبصر أنكرها الجهمية -: “فقد وصف الله من نفسه أشياء جعلها في خلقه والذي يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وإنما أوجب الله على المؤمنين اتباع كتابه وسنة رسوله” ---قال الشيخ الشنقيطي “اتضح بما ذكرنا أن الذين يقولون: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. لا يعلمون ما هي الظواهر، وأنهم يعتقدون شيئًا ظاهر النص، والواقع أن النص لا يدل عليه بحال من الأحوال، فضلًا عن أن يكون ظاهره، فبنوا باطلًا على باطل، ولا شك أن الباطل لا يبنى عليه إلا الباطل، ولو تصوروا معاني ظواهر الكتاب والسنة على حقيقتها لمنعهم ذلك من أن يقولوا ما قالوا----يقول أبو نصر السجزي الحنفي ): “والأصل الذي يجب أن يعلم: أن اتفاق التسميات لا يوجب اتفاق المسمَّين بها، فنحن إذا قلنا: إن الله موجود، رؤوف، واحد، حيٌّ، عليمٌ، بصيرٌ، متكلمٌ، وقلنا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان موجودًا، حيًّا، عالـمًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا، لم يكن ذلك تشبيهًا، ولا خالفنا به أحدًا من السلف والأئمة، بل الله موجود لم يزل، واحد حيٌّ قديمٌ قيومٌ عالمٌ سميعٌ بصيرٌ متكلمٌ فيما لم يزل، ولا يجوز أن يوصف بأضداد هذه الصفات، والموجود منا إنما وجد عن عدم، وحتى ينقضي أجله، ثم يصير ميتًا بزوال ذلك المعنى، وعلم بعد أن لم يعلم، وقد ينسى ما علم، وسمع وأبصر وتكلم بجوارح قد تلحقها الآفات، فلم يكن فيما أطلق للخلق تشبيه بما أطلق للخالق سبحانه وتعالى، وإن اتفقت مسميات هذه الصفات“ فالسعيد من استنار قلبه بالوحي، ومنع عقله من اتباع الهوى، فسلك سبيل المؤمنين، والشقي من فهم نصوص صفات الله تعالى: كالعلو والنزول والضحك والعجب ونحوها في إطار ما يشاهده ويبصره في المخلوق، لا في إطار قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]؛ وهو مسلك مبتدع قد حذر منه العلماء؛ يقول أبو سليمان الخطابي الشافعي “وإنما ينكر هذا وما أشبهه من الحديث من يقيس الأمور في ذلك بما يشاهده من النزول الذي هو نزلة من أعلى إلى أسفل، وانتقال من فوق إلى تحت، وهذا صفة الأجسام والأشباح، وأما نزول الله الذى ليس كمثله شئ فإن هذه المعاني غير متوهمة فيه
رد: قياس الأولى في العقيدة
استعمال قياس الأولى في العقائد هل هو صحيح؟ الشيخ صالح الفوزان حفظه الله
https://safeYouTube.net/w/DG2m
رد: قياس الأولى في العقيدة
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم علي طويلبة علم
بارك الله فيك - الرابط لا يعمل عندى هل يوجد رابط آخر