-
مشهد التوحيد
قال بن القيم رحمه الله فى مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين -[مشهد التوحيد] وهو أن يشهد انفراد الرب تبارك وتعالى بالخلق والحكم ، وأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ، وأن الخلق مقهورون تحت قبضته ، وأنه ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابعه ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه ، فالقلوب بيده ، وهو مقلبها ومصرفها كيف شاء وكيف أراد ، وأنه هو الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها ، وهو الذي هداها وزكاها ، وألهم نفوس الفجار فجورها وأشقاها ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له ، يهدي من يشاء بفضله ورحمته ، ويضل من يشاء بعدله وحكمته ، هذا فضله وعطاؤه ، وما فضل الكريم بممنون ، وهذا عدله وقضاؤه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون قال ابن عباس رضي الله عنه : الإيمان بالقدر نظام التوحيد ، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده ، ومن آمن بالقدر صدق إيمانه توحيده . وفي هذا المشهد يتحقق للعبد مقام ( إياك نعبد وإياك نستعين ) علما وحالا ، فيثبت قدم العبد في توحيد الربوبية ، ثم يرقى منه صاعدا إلى توحيد الإلهية ، فإنه إذا تيقن أن الضر والنفع ، والعطاء والمنع ، والهدى والضلال ، والسعادة والشقاء كل ذلك بيد الله لا بيد غيره ، وأنه الذي يقلب القلوب ، ويصرفها كيف يشاء ، وأنه لا موفق إلا من وفقه وأعانه ، ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه ، وأن أصح القلوب وأسلمها وأقومها ، وأرقها وأصفاها ، وأشدها وألينها من اتخذه وحده إلها ومعبودا ، فكان أحب إليه من كل ما سواه ، وأخوف عنده من كل ما سواه ، وأرجى له من كل ما سواه ، فتتقدم محبته في قلبه جميع المحاب ، فتنساق المحاب تبعا لها كما ينساق الجيش تبعا للسلطان ، ويتقدم خوفه في قلبه جميع المخوفات ، فتنساق المخاوف كلها تبعا لخوفه ، ويتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء ، فينساق كل رجاء تبعا لرجائه . فهذا علامة توحيد الإلهية في هذا القلب ، والباب الذي دخل إليه منه توحيد الربوبية ، أي باب توحيد الإلهية هو توحيد الربوبية .فإن أول ما يتعلق القلب يتعلق بتوحيد الربوبية ، ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية ، كما يدعو الله سبحانه عباده في كتابه بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر ، ويحتج عليهم به ، ويقررهم به ، ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الإلهية . وفي هذا المشهد يتحقق له مقام ( إياك نعبد ) قال الله تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون أي فأين يصرفون عن شهادة أن لا إله إلا الله ، وعن عبادته وحده ، وهم يشهدون أنه لا رب غيره ، ولا خالق سواه ، وكذلك قوله تعالى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون فتعلمون أنه إذا كان هو وحده مالك الأرض ومن فيها ، وخالقهم وربهم ومليكهم ، فهو وحده إلههم ومعبودهم ، فكما لا رب لهم غيره ، فهكذا لا إله لهم سواه قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه الآيات ، وهكذا قوله في سورة النمل قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون إلى آخر الآيات . يحتج عليهم بأن من فعل لهم هذا وحده فهو الإله لهم وحده ، فإن كان معه رب فعل هذا فينبغي أن تعبدوه ، وإن لم يكن معه رب فعل هذا فكيف تجعلون معه إلها آخر ؟[مدارج السالكين]