استلحاق مجهولي النسب
د.سعد بن تركي الخثلان
المبحث الثالث:استلحاق ولد الزنى, إذا كانت أمه فراشا لزوج, أوسيد.
إذا استلحق الزاني ولده من الزنى, فلا يخلو من أن تكون المزني بها فراشا لزوج, أو سيد, أو لاتكون، أما إذا لم تكن فراشا لزوج أو سيد, فقد وقع النزاع بين العلماء, في هذه المسألة... ، وسيأتي بحثها بالتفصيل, في المبحث الرابع ـــ إن شاء الله تعالى ـــ وأما إذا كانت المزني بها فراشا لزوج, أو سيد, ولم ينفه صاحب الفراش, فقد أجمع العلماء على أن استلحاق الزاني لولد المزني بها, لا يجوز، فلا يلحق به, ولو استلحقه، ولا ينسب إليه، وإنما ينسب لصاحب الفراش.
قال ابن عبد البر ـــ رحمه الله ـــ : "وأجمعت الأمة نقلاً عن نبيها – صلى الله عليه وسلم - على أن كل ولد يولد على فراش لرجل, لاحق به على كل حال، إلا أن ينفيه بلعان... وأجمعت الجماعة من العلماء على أن الحرة فراش بالعقد عليها, مع إمكان الوطء, وإمكان الحمل، فإذا كان عقد النكاح يمكن معه الوطء,
والحمل, فالولد لصاحب الفراش، لا ينتفي عنه أبدًا بدعوى غيره، ولا بوجه من الوجوه, إلا باللعان" [58].
وقال موفق الدين بن قدامة ــ رحمه الله ــ : "وأجمعوا على أنه إذا ولد على فراش رجل فادعاه آخر, أنه لا يلحقه، وإنما الخلاف فيما إذا ولد على غير فراش" [59].
وقد دل لهذا الحكم المجمع عليه أدلة كثيرة .
1. منها: حديث عائشة – صلى الله عليه وسلم - قالت: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِى غُلاَمٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: هَذَا ـــ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـــ ابْنُ أَخِى عُتْبَةَ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَىَّ أَنَّهُ ابْنُهُ. انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ!، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِى ـــ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـــ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِى مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم - إِلَى شَبَهِهِ, فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بعتبة, فَقَالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاَشِ, وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِى مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ », قَالَتْ: فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ, حتى لقي الله[60].
2. ما رواه عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده, قال: قام رجل, فقال: يا رسول الله, إن فلانًا ابني، عَاهَرْتُ بأمه في الجاهلية، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش، وللعاهر الحجر" [61].
ومحل الشاهد من هذين الحديثين قوله – صلى الله عليه وسلم -: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فقوله: الولد أي: ماتلده المرأة التي لها زوج, أو سيد, من ذكر أو أنثى، للفراش أي: ينسب لصاحب الفراش, وهو الزوج, أو مالك الأمة، وسمي بذلك؛ لأنه يفترشها بالحق [62].
قال النووي ـــ رحمه الله ـــ : " قوله – صلى الله عليه وسلم - : الولد للفراش معناه أنه إذا كان للرجل زوجة, أو مملوكة, صارت فراشاً له, فأتت بولد, لمدة الإمكان منه, لحقه الولد, وصار ولداً له, يجرى بينهما التوارث وغيره من أحكام الولادة, سواء كان موافقاً له في الشبه, أم مخالفاً [63].
قوله: وللعاهر أي : الزاني، يقال: عهر إليها يعهر: إذا أتاها للفجور، والعهر: الزنى, وقوله: الحجر قيل: أراد بالحجر الرجم بالحجارة, وقيل : ليس كذلك؛ لأنه ليس كل زان يرجم، وإنما يرجم بعض الزناة، وهو المحصن ، وإنما معنى الحجر هنا: الخيبة والحرمان، أي: لا حظ له في النسب، كقول الرجل لمن خيبه وآيسه من الشيء: ليس لك غير التراب، وما في يدك إلا الحجر, وقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن جاء يطلب ثمن الكلب, فاملأ كفه ترابا[64]. وأراد به الحرمان والخيبة [65].
قال أبو العباس القرطبي : " هذا هو الأشبه بمساق الحديث، وبسببه، وهي حاصلة ـــ أي: الخيبة ـــ لكل الزناة, فيكون اللفظ محمولاً على عمومه، وهو الأصل، ويؤخذ دليل الرَّجم من موضع آخر، وحمله على الزاني المحصن تخصيص اللفظ من غير حاجة ولا دليل"[66].
وقال الحافظ ابن عبد البرـ رحمه الله ــ : " كانوا في جاهليتهم يسافحون, ويناكحون, وأكثر نكاحاتهم على حكم الإسلام غير جائزة، وقد أمضاها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فلما جاء الإسلام أبطل به رسول الله – صلى الله عليه وسلم - حكم الزنى؛ [لتحريم الله إياه ] وقال: للعاهر الحجر, فنفى أن يلحق في الإسلام ولد الزنى، وأجمعت الأمة على ذلك, نقلا عن نبيها – صلى الله عليه وسلم -, وجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كل ولد يولد على فراش لرجل, لاحقاً به, على كل حال, إلا أن ينفيه بلعان[67].
و نقل النووي ـــ رحمه الله ـــ :" قال القاضي عياض: كانت عادة الجاهلية إلحاق النسب بالزنى، وكانوا يستأجرون الإماء للزنى, فمن اعترفت الأم بأنه له, ألحقوه به، فجاء الإسلام بإبطال ذلك, وبإلحاق الولد بالفراش الشرعي، فلما تخاصم عبد بن زمعة, وسعد بن أبي وقاص, وقام سعد بما عهد إليه أخوه عتبة, من سيرة الجاهلية, ولم يعلم سعد بطلان ذلك في الإسلام, ولم يكن حصل إلحاقه في الجاهلية, إما لعدم الدعوى, وإما لكون الأم لم تعترف به لعتبة، واحتج عبد بن زمعة بأنه ولد على فراش أبيه، فحكم النبي – صلى الله عليه وسلم - به, لعبد بن زمعة, مع شبهه بعتبة, وفي هذا دليل على أن الشبه, وحكم القافة, إنما يعتمد إذا لم يكن هناك أقوى منه, كالفراش, كما لم يحكم – صلى الله عليه وسلم - بالشبه في قصة المتلاعنين, مع أنه جاء على الشبه المكروه"[68].
المبحث الرابع: استلحاق ولد الزنا إذا لم تكن أمه فراشا لزوج, أوسيد
سبق الكلام في المبحث الثالث, عن حكم استلحاق الزاني لولد المزني بها, إذا كانت المزني بها فراشاً لزوج أو سيد, وأنه لايلحق به بإجماع العلماء, ولو استلحقه، ولا ينسب إليه، وإنما ينسب لصاحب الفراش، وننتقل بعد ذلك للحديث عن مسألة ما إذا لم تكن المزني بها فراشا لزوج أوسيد, واستلحق الزاني ولد المزني بها, فهل يلحق به؟.
هذه مسألة جليلة ـ كما يصفها ابن القيم ــ رحمه الله ـــ [69]، وقد اختلف فيها العلماء على قولين مشهورين، وفيما يأتي عرض لأقوال العلماء, في المسألة, وأدلتهم مع المناقشة, وبيان الراجح فيها.
أقوال العلماء في المسألة:
القول الأول: أن ولد الزنى, لايلحق بالزاني, إذا استلحقه، وإنما ينسب إلى أمه, وإليه ذهب جماهير الفقهاء من الحنفية[70] والمالكية [71]والشافعية [72] والحنابلة [73] والظاهرية[74].
القول الثاني: أن ولد الزنى يلحق بالزاني, إذا استلحقه في هذه الحال ـ أي: إذا لم تكن أمه فراشا لزوج أو سيد, وإليه ذهب الحسن البصري, وابن سيرين ، وعروة بن الزبير, وسليمان بن يسار, وإبراهيم النخعي, وإسحاق بن
راهويه [75]، وروي عن أبي حنيفة أنه قال: لاأرى بأسا إذا زنى الرجل بالمرأة, فحملت منه, أن يتزوجها مع حملها ويستر عليها، والولد ولد له [76]، وهو قول عند الحنابلة اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية [77]وتلميذه ابن القيم [78]رحم الله الجميع.
أدلة القول الأول: استدل أصحاب هذا القول لقولهم: ولد الزنى لايلحق بالزاني, إذا استلحقه، وإنما ينسب إلى أمه، ولو لم تكن أمه فراشا لزوج أو سيد بما يأتي:
1. حديث عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: الولد للفراش, وللعاهر الحجر[79]. ووجه الدلالة : أن النبي – صلى الله عليه وسلم - جعل الولد لصاحب الفراش، ولم يلحقه بالزاني، فدل ذلك على أن الزاني إذا استلحق ولده من الزنى لم يلحق به [80].
قال الحافظ ابن عبد البر ـــ رحمه الله ــ: " فكانت دعوى سعد سبب البيان من الله ـــ عز وجل ــ على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم - في أن العاهر لا يلحق به في الإسلام ولد يدعيه من الزنى, وأن الولد للفراش على كل حال، والفراش النكاح, أو ملك اليمين لا غير" [81].
واعترض على هذا الاستدلال بأنه خارج محل الخلاف؛ فإن محل الخلاف إنما هو في استلحاق الزاني لولد من زنى بها, إذا لم تكن فراشا لزوج
أو سيد، وهذا الحديث إنما هو خاص بما إذا كانت المرأة فراشا لزوج أو سيد, وقد سبق نقل إجماع العلماء على أن الولد لايلحق بالزاني في هذه الحال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمة ـــ رحمه الله ـــ : "فجعل النبي – صلى الله عليه وسلم - الولد للفراش دون العاهر، فإذا لم تكن المرأة فراشًا, لم يتناوله الحديث ..." [82].
وقال ابن القيم ـــ رحمه الله ـــ: " ... وليس مع الجمهور أكثر من الولد للفراش وصاحب هذا المذهب ـــ أي القائلون بأن ولد الزنى يلحق بالزاني, إذا استلحقه, و لم تكن أمه فراشا لزوج أو سيد ـــ أول قائل به" [83]. أي: أنهم لاينازعون في أن الولد للفراش, ولا يلحق بالزاني في هذه الحال.
وأجيب عن هذا الاعتراض : بأن حاصل هذا الاعتراض بأن مفهوم الحديث أن المرأة إذا لم تكن فراشا...لم يتناوله الحديث، وهذا استدلال بالمفهوم، وهو هنا ضعيف ؛ لأنه يخالف منطوق الحديث الولد للفراش والمراد به المرأة الموطوءة [84].
ويمكن أن يناقش هذا الجواب بعدم التسليم بأن المراد بالفراش المرأة الموطوءة، بل المراد به ـــ كما سبق ـــ صاحب الفراش, وهو الزوج, أو مالك الأمة.
وبناء على ذلك يكون النبي – صلى الله عليه وسلم - قد بين أن المرأة إذا كانت فراشا فولدها منسوب لصاحب الفراش, من زوج, أو سيد, على كل حال, إلا أن ينفيه بلعان، ولم يتناول الحديث ما إذا لم تكن المرأة فراشا، وحينئذ لايؤخذ حكمه من هذا الحديث, وإنما ينظر للأدلة الأخرى.
2. عن ابن عباس – صلى الله عليه وسلم - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: لا مساعاة في الإسلام من ساعى في الجاهلية, فقد لحق بعصبته، ومن ادعى ولداً من غير رشدة, فلا يرث ولا يورث [85].
ووجه الاستدلال: أن النبي – صلى الله عليه وسلم - أبطل المساعاة في الإسلام ـــ وهي الزنا ـــ ، ولم يلحق النسب بها ، وعفا عما كان منها في الجاهلية ممن ألحق بها, فدل هذا على أن ولد الزنى لايلحق بالزاني, إذا استلحقه, سواء أكانت أمه فراشا لزوج أو سيد, أو لم تكن.
قال الخطابي ـــ رحمه الله ـــ: " المساعاة الزنا, وكان الأصمعي يجعل المساعاة في الإماء دون الحرائر؛ وذلك لأنهن يسعين لمواليهن, فيكتسبن لهم بضرائب كانت عليهن, فأبطل النبي – صلى الله عليه وسلم - المساعاة في الإسلام, ولم يلحق النسب لها، وعفا عما كان منها في الجاهلية, وألحق النسب به " [86].
واعترض على الاستدلال بهذا الحديث بأنه ضعيف لاتقوم به حجة، ففي سنده راو مجهول[87].
؛ ولهذا قال ابن القيم ـــ رحمه الله ـــ: " في إسناد هذا الحديث رجل مجهول, فلا تقوم به حجة"[88].
3. عن عبداللَّه بن عمرو بن العاص ـــ رضي اللَّه عنهما ـــ" أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قضى أن كل مستحلق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته، فقضى أن كل من كان من أمة, يملكها يوم أصابها, فقد لحق بمن استلحقه، وليس له مما قسم قبله من الميراث شيء, وما أدرك من ميراث لم يقسم, فله نصيبه، ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره، وإن كان من أمة, لم يملكها, أو من حرة, عاهر بها, فإنه لا يلحق, ولا يرث، وإن كان الذي يدعي له هو ادعاه ، فهو ولد زنية, من حرة كان أو أمة ".وفي رواية : " وهو ولد زنا لأهل أمه من كانوا, حرة أو أمة, وذلك فيما استلحق في أول الإسلام, فما اقتسم من مال قبل الإسلام, فقد مضى "[89].
وحاصل معنى الحديث : أن المستلحق إن كان من أمة للميت, يملكها يوم جامعها, فقد لحق بالوارث الذي ادعاه, فصار وارثا في حقه, مشاركا معه
في الإرث, لكن فيما يقسم من الميراث بعد الاستلحاق، ولا نصيب له فيما قبل الاستلحاق، وأما الوارث الذي لم يدع, فلا يشاركه ولا يرث منه، وهذا إذا لم يكن الرجل الذي يدعى له, قد أنكره في حياته, فإن أنكره, فلا يصح الاستلحاق، وأما إن كان من أمة لم يملكها يوم جامعها, بأن زنى من أمة غيره، أو من حرة زنى بها، فلا يصح لحوقه أصلاً, وإن ادعاه أبوه الذي يدعى له في حياته؛ لأنه ولد زنا، ولا يثبت النسب بالزنا.
هذه الأحكام وقعت في أول الإسلام, وكان حدوثها ما بين الجاهلية, وبين قيام الإسلام؛ ولذلك جعل حكم الميراث السابق على الاستلحاق حكم ما مضى في الجاهلية, فعفا عنه, ولم يرد إلى حكم الإسلام[90].
ووجه الاستشهاد بهذا الحديث: أنه صريح في أن الزاني إذا استلحق ولد التي قد زنى بها, من حرة, أو أمة, فإنه لا يلحق به, ولا يرثه, وإنما ينسب لأمه[91].
واعترض على الاستدلال بهذا الحديث من وجهين:
الوجه الأول: أنه ضعيف لاتقوم به حجة؛ فإن في سنده محمد بن راشد المكحولي، وهو ضعيف .[92]، وسليمان بن موسى الدمشقي, وهو ضعيف كذلك[93].
وأجيب عن هذا الاعتراض: بعدم التسليم بضعف محمد بن راشد المكحولي, فقد وثقه بعض الأئمة[94].
وكذا سليمان بن موسى الدمشقي فهو فقيه صدوق, وثقه بعض الأئمة[95].
الوجه الثاني: أن هذا الحديث ـــ على تقدير ثبوته ـــ إنما ورد في إبطال ما كان أهل الجاهلية يفعلونه، فقد كان أهل الجاهلية يطأ أحدهم أمته ويطؤها غيره بالزنا, فربما أولدها السيد, أو ورثته بعد موته, وربما يدعيه الزاني, فشرع لهم هذه الأحكام, ومنها إبطال استلحاق الزاني لولد المزني بها ؛ لكون المزني بها فراشا للسيد, قال ابن القيم ـــ رحمه الله ـــ: " كَانَ قَوْمٌ فِي الْجَاهِلِيّةِ, لَهُمْ إمَاءٌ بَغَايَا, فَإِذَا وَلَدَتْ أَمَةُ أَحَدِهِمْ, وَقَدْ وَطِئَهَا غَيْرُهُ بِالزّنَى فَرُبّمَا ادّعَاهُ سَيّدُهَا, وَرُبّمَا ادّعَاهُ الزّانِي, وَاخْتَصَمَا فِي ذَلِكَ, حَتّى قَامَ الإسلام فَحَكَمَ النّبِيّ – صلى الله عليه وسلم - بِالْوَلَدِ لِلسّيّدِ؛ لِأَنّهُ صَاحِبُ الْفِرَاشِ, وَنَفَاهُ عَلَى الزّانِي " [96] فيكون هذا الاستدلال خارجا عن محل النزاع .
4. وعلل أصحاب هذاالقول فقالوا: ولد الزنى لايلحق, إذا لم يستلحقه, فدل على أنه لايعتبر ابنه شرعاً, فلا يلحق به بحال[97]
واعترض على هذا التعليل بالفرق الكبير بين ما إذا استلحقه الزاني, وما إذا لم يستلحقه؛ فإنه إذا لم يستلحقه, لم يقر بأنه ولده المخلوق من مائه, فلا يلحق به, بخلاف ما إذا استلحقه, فقد أقر بأنه نتج من مائه، و مع هذا الفارق لايصح هذا القياس[98].
5. وعلل أصحاب هذا القول كذلك, فقالوا: إثبات النسب بالزنى فيه تسهيل لأمر الزنى, فإن قطع النسب عن الزاني شرع لمعنى الزجر عن الزنى, فإنه إذا علم أن ماءه يضيع بالزنا يردعه ذلك عن الوقوع في الزنى وإشاعة للفاحشة بين المؤمنين .
واعترض على هذا التعليل: بأنه يلزم منه منع قبول التوبة؛ لكونها تسهل أمر الزنى, وتجعل الزاني يتهاون بفعله, إذا علم أن توبته منه تكفر ذنبه
بل وتبدل بها سيئاته إلى حسنات, وهذا لا يقول به أحد، ثم إن عدم إثبات النسب بالزنى في حال كون المزني بها ليست فراشا, إنما يتضرر منه في الأصل ولد الزنى, حيث يبقى لا أب له ينتسب إليه, ويعنى به ويقوم عليه[99].
6. وعللوا كذلك فقالوا: إن المرأة المزني بها قد تجرأت على الفجور والزنى، ويحتمل أن يكون زنى بها أكثر من رجل، وليس بعض الزناة أولى به لحاقه به من بعض؛ ولهذا فإن الزنى يقطع النسب من الزاني مطلقا [100].
ويمكن أن يعترض على هذا التعليل بأنه إنما يصح فيما إذا لم يستلحق الزاني ولد المزني بها ، وأما إذا إذا استلحقه فهو أولى بإلحاقه به.
خاصة وأن الانتفاع بهذا الاستلحاق أكثر مايكون لولد الزنى، والقول بأن الزنى يقطع النسب من الزاني يسلم به إذا كانت المزني بها فراشا، أما إذا لم تكن فراشا, فهذا هو محل النزاع، فكيف يجعل محل النزاع دليلا لأحد الفريقين المتنازعين ؟!
7. وعللوا كذلك فقالوا: إن ولد الزنا لو لحق بادعاء الزاني إياه, للحق به إذا أقر بالزنى, وإن لم يدعه, وهذا خلاف الإجماع [101].
وقد اعترض على هذا التعليل بعدم التسليم باللازم المذكور ؛ لأن اعترافه بالزنا معها, لا يلزم منه إقراره بأن هذا الولد نتيجة زناه, وأنه مخلوق من مائه, فقد يكون من زان غيره, ولهذا لم يقل بهذا اللازم أحد[102].
8. وعللوا كذلك فقالوا: إن نعمة النسب إنما تكون من جهة الطاعة لا من جهة المعصية, فلا تنال بالزنا[103].
ويمكن الاعتراض على هذا التعليل: بأن هذا إنما يصح لو كانت نعمة النسب للزاني، والواقع أن النسب لولد الزنى، فلا يرد هذا التعليل من أساسه.
ومن القواعد العظيمة في الشريعة الإسلامية أن الإنسان لايحمل وزر غيره، قال الله ـــ تعالى ـــ: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [104] فكيف يعاقب ولد الزنى بحرمانه من النسب بجريرة والديه ؟!
أدلة القول الثاني :
استدل أصحاب هذا القول لقولهم بأن ولد الزنى يلحق بالزاني إذا استلحقه ولم تكن أمه فراشا لزوج أو سيد بما يأتي :
1. قول الله ـــ تعالى ـــ: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [105].
ووجه الدلالة من الآية : أن في إلحاق ولد الزنى بالزاني, إذا لم يكن ثم فراش مصلحة عظيمة لولد الزنى في حفظ نسبه من الضياع، و القول بعدم حفظ نسبه يلحقه الضرر, ويصيبه بالعار بسبب جريمة لم يرتكبها، وهذا لايتفق مع الآية الكريمة التي دلت على أنه لاتحمل نفس وزر أخرى[106].
واعترض على هذا الاستدلال: بأن النسب محفوظ شرعا بموجب طرق وأدلة حددها الشارع الحكيم ، وليس منها الزنى المحرم [107].
ويمكن الجوب عن هذا الاعتراض: بأنه لايصح الاعتراض بمحل الخلاف ؛ فإن كون الزنى المحرم محلا, أو ليس بمحل لإلحاق النسب بالزاني إذا استلحقه, ولم تكن المزني بها فراشا, هو محل الخلاف في المسألة؛ ولهذا فلا يستقيم هذا الاعتراض.
2. خبر جريج المخرج في الصحيحين[108]من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - في القصة المشهورة وفيه : كان جريج يصلي ، فجاءته أمه فدعته، فقال : أجيبها أو أصلي، فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فتعرضت له امرأة, وكلمته, فأبى, فأتت راعيا, فأمكنته من نفسها, فولدت غلاما، فقالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته، وأنزلوه، وسبوه ، فتوضأ وصلى, ثم أتى الغلام, فقال: من أبوك يا غلام ؟ قال: فلان الراعي، قالوا نبني صومعتك من ذهب ؟ قال: لا, أعيدوها من طين كما كانت .
ووجه الدلالة : أن النبي – صلى الله عليه وسلم - حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني بسؤاله للغلام: يا غلام : من أبوك؟ ، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك فقال ـــ مجيبا عن سؤال جريج ــــ : فلان الراعي ، قال ابن القيم ـــ رحمه الله ــــ: وهذا إنطاق من الله لا يمكن فيه الكذب[109]ويستنبط من هذا أنه يصح أن يطلق على الزاني أنه أب ولد الزنى، وبناء على هذا, فإذا استلحق الزاني ولده من الزنى, ولم تكن أمه فراشا, لحق به.
واعترض على هذا الاستدلال : بأن المقصود من سؤال جريج, هو السؤال عن المتسبب في وجود الغلام، لا الأب الشرعي الذي ينسب له شرعاً, ويرث منه ، فالمقام لا يقتضيه، فهو مثل قول عبداللَّه بن عمرو بن العاص راوي الحديث: قضى أن كل مستحلق استحلق بعد أبيه الذي يدعي له ادعاه
ورثته فقضى أن كل من كان .. الحديث[110]، فالمقصود بالأب, هو من يُدعى له الابن عند الناس, ولا يلزم أن ينسب إليه شرعاً .
ثم إن الحديث في شرع من قبلنا, فلا يكون حجة إلا عند عدم وجود ما يعارضه في شرعنا, وقد وجد.
ويمكن الإجابة عن هذا الاعتراض : بأن المأخذ في الاستدلال, ليس مجرد السؤال والجواب، ولكن المأخذ هو نطق غلام في المهد, بإنطاق الله له لايمكن أن يكون إلا حقا، ولا يمكن فيه الكذب، وأما حديث عبداللَّه بن عمرو بن العاص: قضى أن كل مستحلق استحلق بعد أبيه الذي يدعي له ادعاه
ورثته فقضى أن كل من كان .. فقد سبق مناقشة الاستدلال به بما يغني عن إعادته هنا [111].
وأما القول بأن الحديث في شرع من قبلنا, فلا يكون حجة إلا عند عدم وجود ما يعارضه في شرعنا, وقد وجد، فلا يسلم بأنه قد وجد، وجميع أدلة من قال بعدم الاستلحاق أصحاب القول الأول نوقشت جميعها[112].
3. حديث ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ـــ في قصة ملاعنة بين هلال بن أمية وامرأته, وفيها أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: أبصروها, فإن جاءت به على صفة كذا وكذا, فهو للذي رميت به, أو على صفة كذا وكذا, فهو لهلال بن أمية, فجاءت به على الوصف المكروه, فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: لولا الأيمان لكان لي ولها شأن 2.
وجه الدلالة: أن قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: فهو للذي رميت به يدل على أنها إن جاءت به على الصفة المكروهة, فهو ابن للزاني, ولكن وجد مانع من إلحاقه به
وهو أيمان اللعان التي صدرت من أمه بإنكار الزنا, فدل ذلك على أن الرجل إذا استلحق ولده من الزنا ـــ وليست أمه فراشا لغيره ـــ فإنه يلحق به.
ويمكن الاعتراض على هذا الاستدلال : بأن هذا الحديث خارج عن محل النزاع، فإن محل الخلاف فيما إذا استلحق الزاني ولد المزني بها, ولم تكن فراشا لزوج، وامرأة هلال بن أمية كانت فراشا لهلال، وقد سبق نقل الإجماع على أن الزاني إذا استلحق ولد المزني بها, وكانت فراشا لزوج, فإنه لايلحق به، وبناء على هذا, فلا يستقيم الاستدلال بهذه القصة.
4. أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - كان يُليط1 أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام 2.
ووجه الدلالة : ظاهر وهو أن عمر – رضي الله عنه - كان يلحق أولاد الجاهلية بآبائهم من الزنى، وفي هذا دليل على أن عمر – رضي الله عنه - ـــ وهو أحد الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بالتمسك بسنتهم, مع سنة النبي – صلى الله عليه وسلم - ـــ يرى أن الزاني إذا استلحق ولده من الزنى, فإنه يلحق به.
وقد اعترض على هذا الاستدلال: من وجهين :
الوجه الأول: ما ذكره الحافظ ابن عبد البر ــــ رحمه الله ـــــ من أن عمر – رضي الله عنه - إنما كان يليط أولاد الجاهلية بمن استلاطهم, ويلحقهم بمن استلحقهم, إذا لم يكن هناك فراش ؛ لأن أكثر أهل الجاهلية, كانوا كذلك، وأما اليوم في الإسلام, بعد أن أحكم الله شريعته, وأكمل دينه, فلا
يلحق ولد من زنا بمدعيه أبدا, عند أحد من العلماء, سواء أكان هناك فراش أولم يكن [113].
وقد أجيب عن هذا الاعتراض: بأن عمر – رضي الله عنه - إنما ألحقهم بآبائهم من الزنا في الإسلام بعد أن أحكم الله شريعته, وحرم الزنا، ولو كان إلحاق ولد الزنا بأبيه لا يصح لما فعله عمر – رضي الله عنه - وما ذكره الحافظ ابن عبد البر من أنه لا يلحق ولد من زنا بمدعيه أبدا عند أحد من العلماء, سواء أكان هناك فراش أولم يكنف يسلم بذلك إذا كانت المزني بها فراشا لزوج أو سيد ، أما إذا لم تكن فراشا, فالخلاف بين العلماء قائم، وقد سبق القول بأ ن إلحاق ولد الزنى بالزاني إذا اسلحقه ولم تكن أمه فراشا قول لجهابذة من العلماء قديما وحديثا، وبناء على ذلك, فلا تصح حكاية الإجماع في هذه المسألة.
الوجه الثاني: أن عِهارِ البغايا فِي الجَاهِلِيةِ دون عِهارِ الإسلام، وَالعِهَار فِي الجَاهِلِيَّةِ أَخَف حكمًا مِن العِهَارِ فِي الإسلام، فَصَارَتِ الشُّبهَة لاحقةً بِهِ ومع الشُّبهةِ يَجوز لحوق الولد، وخالف حكمه عِند انتفاءِ الشُّبهةِ عنه فِي الإسلام [114].
وأجيب عن هذا الاعتراض: بأن ما ذكر قد يفيد أن أهل الجاهلية لا يأثمون بما فعلوا من الزنا؛ لأنهم كانوا من أهل الفترة، ولم تقم عليهم الحجة، فيعذرون لجهلهم بحرمة الزنا، بخلاف من فعل الزنا بعد الإسلام وقيام الحجة عليه، ولكن هذا خارج عن محل النزاع في هذه المسألة، فإن الكلام عن إلحاق ولد الزنا بأبيه إذا استلحقه، وهذا حكم لا يختلف في جاهلية ولا إسلام، ولا فرق فيه بين معذور وغيره[115].
5. وعلل أصحاب هذا القول فقالوا : إذا كان ولد الزنى ينسب لأمه ــ أحد الزانيين ـــ عند جميع العلماء ، فهو كذلك ينسب للزاني الآخر, وهو أبوه ـــ من الزنى ـــ الذي قد استلحقه, وأقر بأنه خلق من مائه، قال ابن القيم ـــ رحمه الله ـــ: "وهذا المذهب كما تراه قوةً ووضوحًا... والقياس الصحيح يقتضيه، فإن الأب أحد الزانيين، وهو إذا كان يلحق بأمه، وينسب إليها، وترثه ويرثها، ويثبت النسب بينه, وبين أقارب أمه مع كونها زنت به، وقد وجد الولد من ماء الزانيين، وقد اشتركا فيه، واتفقا على أنه ابنهما، فما المانع من لحوقه بالأب, إذا لم يدعه غيره؟ فهذا محض القياس"[116].
وقال رحمه الله: " وخلقه ـــ أي ولد الزنى ــــ من مائها وماء الزاني خلق واحد ، وإثمهما فيه سواء، وكونه بعضا له مثل كونه بعضا لها.. [117].
ويمكن الاعتراض على هذا القياس بأنه لا يكفي كون الولد تخلق من ماء الواطئ سبباً للنسب، بل السبب المعتبر شرعاً, هو أن يولد على فراش شرعي للواطئ, بدليل عدم اعتبار مجرد التخلق من الماء في حالة الفراش بخلاف الأم, فإن الولد ينسب إليها بسبب الولادة مطلقاً بالإجماع, فهذا قياس مع الفارق.
ويمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بالتسليم بأن السبب المعتبر شرعاً هو أن يولد على فراش شرعي للواطئ، ولكن هذا إذا كان المزني بها فراشا، والمسألة ــــ محل الخلاف ـــ إنما هي في حال كون المزني بها, ليست فراشا، ولا يوجد مايمنع من اعتبار ماء الواطيء سببا للنسب في هذه الحال؛ فإن ولد الزنى قد خلق من ماء أبيه, وماء أمه، وهو ينسب لأمه من الزنى، ولا يمتنع شرعا وعقلا من أن ينسب لأبيه من الزنى .
6. وعلل أصحاب هذا القول كذلك فقالوا : إذا كان انتفاء الولد عن الواطئ باللعان لا يمنع من لحوقه به بعد الاعتراف ، فكذلك ولد الزنا لايمنع من لحوقه بالزاني, إذا استلحقه[118].
وقد اعترض على هذا التعليل بالفرق الكبير بين ولد الملاعنة وولد الزنى ؛ فإن ولد الملاعنة كان لاحقا بالواطئ قبل اللعان, فيجوز أن يصير لاحقا به بعد الاعتراف؛ لأن الأصل فيه اللحوق، والبغاء طارئ، أما ولد الزنى, فإنه لم يكن لاحقا بالزاني مطلقا، والأصل فيه عدم اللحوق، ثم إن الملاعنة كانت فراشا للملاعن, فإذا استلحقه, صح استلحاقه, بخلاف هذه المسألة, فإن المزني بها ليست فراشا، ومع هذا الفارق, لايصح القياس [119].
7. ويمكن أن يعلل لهذا القول كذلك: بأن الشريعة الإسلامية, جاءت بتحصيل المصالح, وتكميلها, وتعطيل المفاسد, وتقليلها [120].
قال ابن القيم ـــ رحمه الله ـــ : " إذا تأملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده, وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة, أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت قدم أهمها وأجلها, وإن فاتت أدناهما، وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عطل أعظمها فسادا باحتمال أدناهما، وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع دينه دالة عليه، شاهدة له بكمال علمه, وحكمته, ولطفه بعباده, وإحسانه إليهم، وهذه الجملة لا يستريب فيها من له ذوق من الشريعة، وارتضاع من ثديها، و ورود من صفو حوضها، وكلما كان تضلعه منها أعظم كان شهوده لمحاسنها ومصالحها أكمل..."[121]، ولا شك أن في إلحاق ولد الزنى بالزاني, إذا استلحقه في هذه الحال مصالح عظيمة من حفظ نسبه، ومن حفظ
كرامته من الامتهان, والتعيير بأنه لانسب له، ومن حسن رعايته، والقيام بشؤونه، وحمايته من التشرد والضياع .. ، كما أن فيه درءاً لمفسدة ماقد يترتب على نشأته بدون أب ينسب إليه, من الانحراف والإجرام والحقد على المجتمع، أو على الأقل العقدة النفسية التي تلقي بظلالها عليه, طيلة حياته، كما هو الواقع في حال كثير من اللقطاء, إن لم يكن أكثرهم، وهذه العقدة النفسية تحول بينه وبين الاختلاط بالمجتمع في الغالب، فيعيش طيلة عمره منزويا خاملا .. ، ثم إنه ليس هناك مفسدة ظاهرة تترتب على إلحاق ولد الزنى بأبيه من الزنى ـــ الذي خلق من مائه ـــ إذا استلحقه, مادام أن أمه ليست فراشا لزوج، وليس هناك نص صحيح صريح يمنع من ذلك ، ولا إجماع، بل لولم يرد في المسألة نص واضح في الإلحاق أو عدمه, لكانت أصول وقواعد الشريعة تقتضي الإلحاق باعتبار القاعدة المتفق عليها بين أهل العلم, وهي أن الشريعة مبنية على تحصيل المصالح ودرء المفاسد عن المكلفين .
الترجيح :
بعد عرض قولي العلماء في هذه المسألة وأدلتهم، وما أورد عليها من اعتراضات, ومناقشات يظهرـــ والله أعلم ـــ أن القول الراجح في هذه المسألة, هو القول الثاني, وهو أن ولد الزنى يلحق بالزاني, إذا استلحقه, ولم تكن أمه فراشا لزوج أو سيد؛ وذلك لقوة ما استدل به أصحاب هذا القول في الجملة، ولضعف أدلة أصحاب القول الأول, كما يتضح ذلك من مناقشتها.
وما استدلوا به, إما أدلة صحيحة خارجة عن محل النزاع، أو أدلة غير صحيحة، ولهذا قال ابن القيم: " وليس مع الجمهور أكثر من الولد للفراش وصاحب هذاالمذهب ـــ أي: القائلون بالاستلحاق ـــ أول قائل به..[122].
وصدق ـــ رحمه الله ـــ فإن أبرز أدلة الجمهور ـــ أصحاب القول الأول ـــ حديث: الولد للفراش ، ولا إشكال في صحته, ولا في دلالته، لكنه خارج محل النزاع ، ولهذا فإن القائلين بالاستلحاق ـــ أصحاب القول الثاني ـــ أول قائل بأن المزني بها, إذا كانت فراشا, فإن الولد لاينسب للزاني, ولو استلحقه, وإنما ينسب لصاحب الفراش, وقد سبق نقل حكاية الإجماع على ذلك.
وأما بقية أدلة الجمهور فدلالتها ضعيفة كما يتضح ذلك من مناقشتها ، وأدلة أصحاب القول الثاني القائلين بالاستلحاق وإن كان بعضها قد أجيب عنه, إلا أنها بمجموعها قوية؛ ولهذا قال ابن القيم ــ رحمه الله ــ: " .. وهذا المذهب كما تراه قوة ووضوحا..." ، ثم إنه يتفق مع مقاصد وأصول الشريعة القاضية بتحصيل المصالح, ودرء المفاسد قدر الإمكان، مع ما علم من تشوف الشريعة لحفظ النسب، والستر، كما أن في هذا القول حلا لمشكلة الأولاد الناتجين عن الزنى، وبخاصة بين المسلمين الجدد؛ فإن كثيرا منهم يسلم, وله خليلة قد تسلم معه, وهي حامل, أو قد ولدت منه, من الزنا، ويرغب في نكاحها, وفي استلحاق ولده منها, من الزنى, ففي هذا القول حل لهذه المشكلة، بل وفيه ترغيب لهما باعتناق الإسلام، وتكوين أسرة مسلمة.
يتبع