حكم مصليات الأعياد
الشيخ خالد بن علي العرفج
حكم مصليات الأعياد وهل تأخذ حكم المساجد؟[*]
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا بحث في حكم مصليات الأعياد وهل تأخذ أحكام المساجد، وهل يجوز استبدال أو بيع تلك المصليات عند الاستغناء عن الصلاة فيها. وقد جعلنا بحثنا هذا في خمسة مباحث هي:
المبحث الأول: تعريف المساجد وبيان بعض أحكامها.
المبحث الثاني: مصليات الأعياد وهل تأخذ أحكام المساجد.
المبحث الثالث: استبدال الوقف أو بيعه إذا تعطلت منافعه.
المبحث الرابع: استبدال أو بيع مصليات الأعياد عند الاستغناء عن الصلاة فيها.
المبحث الخامس: أهم نتائج البحث.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
المبحث الأول: تعريف المساجد وبيان بعض أحكامها
فالمسجد لغة: الموضع الذي يسجد فيه، ثم اتسع المعنى إلى البيت المتخذ لاجتماع المسلمين لأداء الصلاة فيه، قال الزركشي رحمه الله: (ولما كان السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه اشتق اسم المكان منه فقيل مسجد، ولم يقولوا مركع، ثم إن العرف خصص المسجد بالمكان المهيأ للصلوات الخمس حتى يخرج المصلى المجتمع فيه للأعياد ونحوها فلا يعطى حكمه (إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي ص 27 - 28).
والمسجد في الاصطلاح الشرعي: هو المكان الذي أعد للصلاة فيه على الدوام، وأصل المسجد شرعاً: كل موضع من الأرض يسجد لله فيه لحديث جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (... «وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل» (متفق عليه. البخاري حديث 335، ومسلم حديث 521).
والمساجد لها مكانتها وفضلها عند الله تعالى، فقد أضافها إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم وذكرها عز وجل في كتابه في ثمانية عشر موضعاً، ومن أهم أحكام المساجد ما يلي:
1 - أنها أفضل البلاد.
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها» (رواه مسلم، كتاب المساجد حديث 671).
وقال الإمام القرطبي رحمه الله: «أحب البلاد إلى الله مساجدها» (صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (671)) أي أحب بيوت البلاد أو بقاعها، وإنما كان ذلك لما خصت به من العبادات والأذكار واجتماع المؤمنين وظهور شعائر الدين وحضور الملائكة (المفهم لما أشكل في تلخيص مسلم للقرطبي 2 \ 295).
2 - المشي إلى المساجد ترفع به الدرجات، وتحط الخطايا، وتكتب الحسنات، لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط بها عنه سيئة» (مسلم حديث رقم 654).
3 - صيانة المساجد من الروائح الكريهة، لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته» (صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7359)، صحيح مسلم، المساجد ومواضع الصلاة (564)، سنن الترمذي الأطعمة (1806)، سنن النسائي المساجد (707)، سنن أبي داود الأطعمة (3822)، مسند أحمد (3/400) ).
وفي لفظ لمسلم: «فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس» (صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (564)، سنن النسائي المساجد (707) ).
وفي لفظ لمسلم: «من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» (متفق عليه. البخاري حديث رقم 855، ومسلم حديث رقم 564).
4 - صلاة تحية المسجد لمن دخلها، لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» (متفق عليه. البخاري حديث رقم 44، ومسلم حديث رقم 714).
5 - التزين والتجمل عند كل مسجد، لقول الله تعالى:
{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } (سورة الأعراف الآية 31).
6 - تقديم الرجل اليمنى عند الدخول للمسجد، وتقديم الرجل اليسرى عند الخروج من المسجد بعكس دخوله.
فيقول عند الدخول: «بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، وإذا خرج يقول: اللهم إني أسألك من فضلك» (رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها حديث رقم 113).
7 - عدم تشبيك الأصابع في الطريق إلى المسجد، لحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في صلاة» (الترمذي حديث 387، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1 \ 121).
8 - النظر في النعلين قبل دخول المسجد، فإن رأى فيهما أذى مسحه بالتراب، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه: «إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما» (أبو داود كتاب الصلاة حديث 650، وابن خزيمة حديث 1017، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1\128).
9 - تنظيف المساجد وتطييبها وصيانتها، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب» (أحمد في المسند 6 \ 279، أبو داود حديث 455، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1 \ 92).
10 - إقامة صلاة الجماعة فيها، فالمساجد يجب أن تقام صلاة الجماعة فيها ولا يجوز للرجال فعلها إلا في المسجد، والأدلة على ذلك هي البراهين الدالة على وجوب صلاة الجماعة، وأنها فرض عين، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ( من تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة، فترك حضور المسجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر، وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار... فالذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر، والله أعلم بالصواب ) (كتاب الصلاة لابن القيم ص 89).
11 - تحريم اتخاذ القبور مساجد، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (متفق عليه. البخاري كتاب الصلاة حديث 436، ومسلم حديث، 530).
12 - تحريم السؤال عن الضالة في المسجد، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا» (مسلم كتاب المساجد حديث 568).
13 - تحريم البيع والشراء في المساجد، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا لا ردها الله عليك» (الترمذي كتاب البيوع حديث 1321، والنسائي حديث 176، وغيرهما).
14 - رفع الأصوات في المساجد ممنوع، لأنه يشوش على المصلين ولو بقراءة القرآن، لحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: «اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فسمعهم يجهرون بالقرآن فكشف الستر وقال: «ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة» (سنن أبي داود الصلاة (1332)، مسند أحمد (3/94) أو قال: ( في الصلاة ) (أبو داود حديث 1332، وأحمد 2 \ 67).
15 - النهي عن التحلق قبل صلاة الجمعة، جاء فيه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة وعن الشراء والبيع في المسجد» (سنن الترمذي الصلاة (322)، سنن النسائي المساجد (714)، سنن أبي داود الصلاة (1079)) ولفظ الترمذي: «نهى عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس فيه يوم الجمعة قبل الصلاة» (سنن الترمذي الصلاة (322)، سنن النسائي المساجد (715)، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (749)) (النسائي كتاب المساجد حديث 714، وأبو داود كتاب الجمعة حديث 1039، الترمذي كتاب الصلاة حديث 322).
16 - لا يجلس الجنب والحائض في المسجد، لقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } (سورة النساء الآية 43).
والمعنى: لا تقربوا المصلى للصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوه جنباً إلا عابري سبيل، يعني: إلا مجتازين فيه للخروج منه، فقد أقيمت الصلاة هنا مقام المصلى والمسجد إذ كانت صلاة المسلمين في مساجدهم، ورجح هذا التفسير الإمام ابن جرير رحمه الله (انظر جامع البيان للطبري 8 \ 384)، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: " ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضا في معناه " (تفسير القرآن العظيم 2 \ 327)، ولكن على الحائض والنفساء أن تتحفظ حتى لا تلوث المسجد، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «ناوليني الخمرة من المسجد، فقالت إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك» (صحيح مسلم الحيض (298)، سنن الترمذي، الطهارة (134)، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (384)، سنن أبي داود الطهارة (261)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (632)، مسند أحمد (6/245)، سنن الدارمي، الطهارة (1071)) (مسلم، كتاب الحيض حديث 298).
المبحث الثاني: مصليات الأعياد وأحكام المساجد
وبعد أن عرضنا أهم أحكام المساجد نأتي الآن إلى أقوال بعض أئمة المذاهب في حكم مصليات الأعياد وهل تنطبق عليها الأحكام التي ذكرناها آنفا أم لا؟ وهي على النحو التالي:
1 - قال ابن نجيم (البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن النجيم 5 \ 417) في البحر الرائق ما يلي: ( وفي الخانية مسجد اتخذ لصلاة الجنازة أو لصلاة العيد، هل يكون له حكم المسجد اختلف المشايخ فيه، فقال بعضهم: يكون مسجداً حتى لو مات لا يورث عنه، وقال بعضهم: ما اتخذ لصلاة الجنازة فهو مسجد لا يورث عنه، وما اتخذ لصلاة العيد لا يكون مسجداً مطلقاً وإنما يعطى له حكم المسجد في صحة الاقتداء بالإمام وإن كان منفصلاً عن الصفوف، وأما فيما سوى ذلك فليس له حكم المسجد، وقال بعضهم: له حكم المسجد حال أداء الصلاة لا غير، وهو والجبانة سواء، ويجنب هذا المكان كما يجنب المسجد احتياطا ). ا هـ.
2 - وقال ابن الهمام الحنفي (شرح فتح القدير 1 - 421):
( واختلفوا في مصلى العيد والجنازة والأصح أنه إنما له حكم المسجد في جواز الاقتداء لكونه مكاناً واحداً ).
3 - وفي النوادر والزيادات (النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني 1\504) لابن أبي زيد القيرواني ما يلي:
(ومن كتاب ابن حبيب: إذا صلوا (المراد بالصلاة هنا صلاة العيد) في المسجد لمطر، فروى أشهب وابن وهب عن مالك أنه لا بأس بالتنفل فيه بعدها، ولا يتنفل قبلها، وقال: وبه أقول، وروى عنه ابن القاسم أن له أن يتنفل في المسجد قبلها وبعدها، وقال: وله أن يتنفل في بيته قبلها وبعدها، وقال قوم: سبحة ذلك اليوم فليقتصر عليها إلى الزوال، قال ابن حبيب: وهو أحب إليَّ، واستحب في موضع آخر نحو رواية ابن وهب عن مالك.
4 - وفي بداية المجتهد لابن رشد (بداية المجتهد ونهاية المقتصد ص 512، 513) ما يلي: ( وفرق قوم بين أن تكون الصلاة في المصلى أو في المسجد، وهو مشهور مذهب مالك، وسبب اختلافهم أنه ثبت «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم فطر أو يوم أضحى فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما، وقال - صلى الله عليه وسلم: ( إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين)» (صحيح مسلم صلاة العيدين (884)، سنن النسائي صلاة العيدين (1587)، سنن أبي داود الصلاة (1159)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1291)، مسند أحمد (1/368)) وترددها أيضا من حيث هي مشروعة، بين أن يكون حكمها في استحباب التنفل قبلها وبعدها حكم المكتوبة أو لا يكون ذلك حكمها، فمن رأى أن تركه الصلاة قبلها وبعدها هو من باب ترك الصلاة قبل السنن وبعدها ولم يطلق اسم المسجد عنده على المصلى لم يستحب تنفلاً قبلها ولا بعدها، ولذلك تردد المذهب في الصلاة قبلها إذا صليت في المسجد لكون دليل الفعل معارضاً في ذلك القول، أعني: أنه من حيث هو داخل في مسجد يستحب له الركوع، ومن حيث هو مصلى صلاة العيد يستحب له ألا يركع تشبهاً بفعله صلى الله عليه وسلم، ومن رأى أن ذلك من باب الرخصة ورأى أن اسم المسجد يطلق على المصلى ندب إلى التنفل قبلها، ومن شبهها بالصلاة المفروضة استحب التنفل قبلها وبعدها كما قلنا، ورأى قوم أن التنفل قبلها وبعدها من باب المباح الجائز لا من باب المندوب ولا من باب المكروه، وهو أقل اشتباهاً إن لم يتناول اسم المسجد المصلى).
يتبع