مقدِّمة في العلاقة بين اللُّغة والشرع
مقدِّمة في العلاقة بين اللُّغة والشرع 1/2
صلاح عباس فقير
أمّا بعد،
فإنّ طالب العلم الشّرعيّ، لا غنى له عن دراسة علوم اللغة العربية، من نحو وصرف وبلاغة، ولا غنى له عن قراءة النصوص العربية البليغة، وهذه النّافذة مخصّصةٌ للوقوف بطالب العلم عند محطات مهمّة، تؤكّد وتؤصّل للعلاقة القويّة بين العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية.
وفي محطّتنا الأولى هذه، نقف وقفةً تأصيليّةً مهمّةً، نوضح فيها حقيقة الارتباط الوثيق بين اللّغة العربيّة والشريعة الإسلامية، وذلك عبر حلقتين، هذه أُولاهما:
أهمية اللُّغة:
انتبهت كثير من الدراسات اللغويّة الحديثة، إلى أنَّ اللغة ليست مجرد وسيط للاتصال بين الأفراد في المجتمع، بل "هي الإطار العلمي الوحيد الذي يحدد خصائص أمة من الأمم"، تلك الخصائص التي نتجت عن "نمط الاتصال والتفاعل الإنساني مع الوسط البيئي الطبيعي والاجتماعي، وذلك لأن التراكيب اللغوية المختلفة في كل لغة تعبر عن طريقة معينة في التفكير"([1])، إذن فلغةُ القوم تتضمَّن رؤيتهم للحياة، وأسلوبَ فهمهم لها ونمط تفاعلهم معها.
ولم يكن هذا الوعي بأهمية اللغة غائباً عن دائرة الفكر الإسلاميِّ، ومن أبلغِ ما يدلُّ على ذلك توكيد كثير من العلماء على حقيقة مهمَّة تتعلَّق بالقرآن الكريم: أنَّه ينبغي فهمه في إطار معاني اللغة العربية وأساليبها، وذلك بناءً على أنه قد نزل بلسان هذه اللغة، يقول مؤسس علم الأصول الإمام الشافعي: "إنَّما خاطب الله بكتابه العرب، على ما تعرف من معانيها"([2])، وهي الحقيقة التي انتبه لها مجدِّدُ علم الأصول الإمامُ الشَّاطبيُّ فقرَّرها بقوله: "إنَّ هذه الشريعة المباركة عربية... المقصودُ هنا: أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلبُ فهمه إنَّما يكونُ من هذا الطريق خاصَّةً؛ لأنَّ الله تعالى يقول: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً}... فمن أراد تفهُّمه فمن جهة لسان العرب يُفهم"([3]).
وهذه القاعدة الأصوليّة المنهجيّة، إذ تجعل فهم الوحي معتمداً على فهم اللّسان العربيّ، إنّما تُراهن على وجود نظامٍ للوعيِ والفكر كامنٍ في بنية الكلام العربيّ، وهي بذلك تتجاوبُ مع كثيرٍ من آيات الذّكر الحكيم الّتي تقرّر أنّ الله عزّ وجلّ قد أنزله بلسانٍ عربيٍّ مبين، وجعله حُكماً عربيّاً.
جوهر العلاقة بين اللغة والشرع:
ويبدو أن هذه الحقيقة الهامة التي قرَّرها كلٌّ من الإمامين الشافعيّ ثم الشاطبي في شأن العلاقة بين اللغة والشرع، والتي جعلا بمقتضاها الشريعة الإسلامية قائمة على أساس اللغة العربية، يبدو أنه لم ينتبه لها الكثيرون بعد الإمام الشافعي، كما لحظ الإمام الشاطبي نفسه قائلاً: "والَّذي نبَّه على هذا المأخذ في المسألة، هو الشَّافعيُّ الإمام، في رسالته الموضوعة في أصول الفقه، وكثيرٌ ممَّن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ، فيجب التنبُّه لذلك"([4]).
وإن كنا نجد لدى كثيرٍ من الأصوليّين تقريراً لهذه الفكرة، فعلى سبيل المثال قرّرها فخر الدين الرازي في كتابه "المحصول في علم أصول الفقه"، بقوله: "لما كان المرجع في معرفة شرعنا إلي القرآن والأخبار، وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم ؛ كان العلم بشرعنا موقوفاً على العلم بهذه الأمور، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب"([5]) ولكن لا يبدو أنها قد شكَّلت عندهم ذلك البعد المنهجيَّ الذي يقرره بها الإمام الشاطبي.
ونعثر لدى الإمام الشاطبي كذلك على مزيد من التعميق لهذه الفكرة، حيث قام بتوظيف مفهومي الظاهر والباطن من أجل فهم العلاقة بين الشرع واللغة، فذكر "أنَّ المراد بالظاهر هو المفهوم العربيُّ، والباطن هو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه... فكل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها فهو داخلٌ تحت الظاهر... وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية والإقرار لله بالربوبية فذلك هو الباطن المراد"([6])،
ويمكننا أن نفهم من هذا السياق أن العلاقة بين الشرع واللغة هي في جوهرها علاقة كمون([7])، فمعاني الشرع ودلالاته كامنة في نصوص اللغة القرآنية والنبوية، كمون الدهن في العود أو كمون النار في الفحم، وعندئذ فلإدراكها نحتاج إلي عملية استنباط أو استخراج.
وفي هذا الصدد حذَّر الإمامُ الشاطبي من بعض الاتجاهات المنحرفة التي تقوم بتوظيف زوجي الظاهر والباطن في إطار تأويلات خاطئة لا يدلُّ عليها سياق النص الظاهر، بقوله: "كلُّ معنىً مستنبط من القرآن غير جارٍ على اللسان العربي؛ فليس من علوم القرآن في شيء، لا مما يستفاد منه ولا مما يستفاد به"([8]).
تابع الحلقة القادمة من هذا الموضوع!
بقلم : صلاح عبّاس فقير
[1]- قاسم العتمة، "اللغة العربية كأداة توحيد"، مجلة الوحدة، ص 8.
[2]- الرسالة، صـ52.
[3]- الموافقات، جـ 2، ص 42-43.
[4]- الموافقات، جـ2، ص44.
[5]- المحصول، جـ1، ص 203.
[6]- الموافقات، جـ 3، ص 228- 231.
[7]- سيجيء مزيد من البيان لفحوى هذه الإشارة.
[8]- الموافقات، جـ 3، ص 233.