من الحكمة والعقل الاستعانة على الحق بالشيء اليسير من الباطل ؟
قال ابن القيم رحمه الله
( الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فهي تُحصِّلُ أعظمَ المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، فإذا وُصِف العمل بما فيه من الفساد مثل كونه من عمل الشيطان، لم يمنع ذلك أن يُدفَع به مفسدة شرٌّ منه وأكبر وأحب إلى الشيطان منه، فيُدفَع بما يحبه الشيطان ما هو أحب إليه منه، ويُحتَمل ما يبغضه الرحمن لدفع ما هو أبغض إليه منه، ويُفوَّت ما يحبه لتحصيل ما هو أحبُّ إليه منه.
وهذه أصولٌ مَنْ رُزِقَ فهمَها والعملَ بها فهو من العالمين بالله وبأمره.
ولا ريب أن الشيطان موكَّلٌ ببني آدم، يجري منهم مجرى الدم، وقد أُعِين بما رُكِّب في نفوسهم وجُبِلَتْ عليه طباعُهم وامتُحِنوا به من أسباب الشهوة والغضب، فلا يمكن حفظُ مَن هذا شأنه مع عدوه، من كل ما للشيطان فيه نصيبٌ، وهو له حظ في كل أعمال العبد، حتى في صلاته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"لا يجعل أحدكم للشيطان حظًّا من صلاته، يرى أن حقّا عليه ألا ينصرف إلا عن يمينه" .
فإذا كان هذا القدر من حظ الشيطان في صلاة العبد، فما الظن بما هو أعظم من ذلك وأكبر.
وسُئِل - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة فقال: "هو اختلاس يَختلِسُه الشيطان من صلاة العبد"
وإذا لم يمكن حِفظُ العبد نفسَه من جميع حظوظ الشيطان منه، كان من معرفته وفقهه وتمام توفيقه أن يدفع حظَّه الكبير بإعطائه حظَّه الحقير، إذا لم يمكن حرمانُه الحظَّين كليهما، فإذا أُعطِيَتِ النفوسُ الضعيفة حظًّا يسيرًا من حظِّها يُستَجلبُ به من استجابتها وانقيادها خير كبير، ويُدفَع به عنها شر كبير أكبر من ذلك الحظ = كان هذا عينَ مصلحتِها، والنظر لها والشفقة عليها.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسرِّبُ الجواري إلى عند عائشة يلعبن معها ،
ويمكِّنها من اتخاذ اللُّعب التي هي في صور خيل بأجنحة وغيرها ،
ويُمكِّنها من النظر إلى لعب الحبشة .
وكان مرة بين أصحابه في السفر، فأمرهم فتقدموا، ثم سابقها فسبقَتْه،
ثم فعل ذلك مرة أخرى، فسابقها فسبقها، فقال: "هذه بتلك" .
واحتمل - صلى الله عليه وسلم - ضرب المرأة التي نذرت إن نجَّاه الله أن تضرب على رأسه بالدف ، لما في إعطائها ذلك الحظّ من فرحها به وسرورها بمَقْدمِه وسلامته، الذي هو زيادة في إيمانها ومحبتها لله ورسوله، وانبساط نفسها وانقيادها لما يأمر به من الخير العظيم، الذي ضربُ الدف فيه كقطرةٍ سقطتْ في بحر.
وهل الاستعانة على الحق بالشيء اليسير من الباطل إلا خاصة الحكمة والعقل؟
بل يصير ذلك من الحق إذا كان مُعِينًا عليه.
ولهذا كان لَهْوُ الرجل بفرسه وقوسه وزوجته من الحق، لإعانته على الشجاعة والجهاد والعفة.
والنفوس لا تنقاد إلى الحق إلا ببِرْطيلٍ، فإذا بُرطِلَتْ بشيء من الباطل لتبذل به حقًّا، وُجُوْدُه أنفعُ لها وخير من فوات ذلك الباطل، كان هذا من تمام تربيتها وتكميلها. فليتأمل اللبيب هذا الموضع حق التأمل، فإنَّه نافعٌ جدًّا،
والله المستعان )
الكلام على مسالة السماع
رد: من الحكمة والعقل الاستعانة على الحق بالشيء اليسير من الباطل ؟
.............................. .......................
و قال رحمه الله في روضة المحبين
ولما كانت النفوس الضعيفة كنفوس النساء والصبيان لا تنقاد إلى أسباب اللذة العظمى إلا بإعطائها شيئا من لذة اللهو واللعب بحيث لو فطمت عنه كل الفطام طلبت ما هو شر لها منه رخص لها من ذلك فيما لم يرخص فيه لغيرها .
وهذا كما دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جوار يضربن بالدف فأسكتهن لدخوله وقال " هذا رجل لا يحب الباطل"فأخبر أن ذلك باطل ولم يمنعهن منه لما يترتب لهن عليه من المصلحة الراجحة ويتركن به مفسدة أرجح من مفسدته وأيضا فيحصل لهم من التألم بتركه مفسدة هي أعظم من مفسدته فتمكينهم من ذلك من باب الرحمة والشفقة والإحسان كما مكن النبي صلى الله عليه وسلم أبا عمير من اللعب بالعصفور بحضرته ومكن الجاريتين من الغناء بحضرته ومكن عائشة رضي الله عنها من النظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد ومكن تلك المرأة أن تضرب على رأسه بالدف ونظائر ذلك .
رد: من الحكمة والعقل الاستعانة على الحق بالشيء اليسير من الباطل ؟
وكذلك في السير والتراجم نحوا من ذلك
(من السياسة الشرعية في الدولة الزنكية تحييد بعض الكفار واستعمالهم ضد المحاربين من أعداء الإسلام)
وَمن جيد الرَّأْي مَا سلكه - نور الدين زنكي - مَعَ*مليح*بن*ليو *ملك الأرمن صَاحب الدروب فَإِنَّهُ مَا زَالَ يخدعه ويستميله حَتَّى جعله فِي خدمته سفرا وحضرا وَكَانَ يُقَاتل بِهِ الإفرنج.
وَكَانَ - نور الدين زنكي - يَقُول : " إِنَّمَا حَملَنِي على استمالته أَن بِلَاده حَصِينَة وعسرة المسلك وقلاعه منيعة وَلَيْسَ لنا إِلَيْهَا طَرِيق وَهُوَ يخرج مِنْهَا إِذا أَرَادَ فينال من بِلَاد الْإِسْلَام فَإِذا طلب انحجز فِيهَا فَلَا يقدر عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَيْت الْحَال هَكَذَا *بذلت لَهُ شَيْئا من الإقطاع على سَبِيل التَّالِف حَتَّى أجَاب إِلَى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الإفرنج* ".
ولما توفّي نور الدّين رَحمَه الله وسلك غَيره غير هَذَا الطَّرِيق ملك الْمُتَوَلِي الأرمن بعد*مليح*كثيرا من بِلَاد الْإِسْلَام وحصونهم وَصَارَ مِنْهُ ضَرَر عَظِيم وخرق وَاسع لَا يُمكن رقعه!
انظر (الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة ١/٤٤)
*
رد: من الحكمة والعقل الاستعانة على الحق بالشيء اليسير من الباطل ؟
.............................. ................
يقول شيخ الاسلام رحمه الله
كثير من الأحاديث الضعيفة في الترغيب والترهيب والفضائل والأحكام والقصص قد يسمعها أقوام فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه وإن كانت كذبًا وهذا كالرجل يسلم رغبةً في الدنيا ورهبةً من السيف ثم إذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الإيمان في قلبه فنفس ذل الكفر الذي كان عليه وانقهاره ودخوله في حكم المسلمين خير من أن يبقى كافرًا فانتقل إلى خير مما كان عليه وخف الشر الذي كان فيه. ثم إذا أراد الله هدايته أدخل الإيمان في قلبه.
والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الخلق بغاية الإمكان ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان {ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون} . الفتاوى
ليس المقصود من هذا الترغيب في نشر مثل هذه الاحاديث و القصص . بل التنبيه على ان المشتغل بالدعوة الى الله لا بد ان يراعي حال المدعو فقد يكون على شيء من الباطل و لما يتهيا لقبول بعض الحق او ان ينبه على شيء من الباطل الذي هو عليه .
رد: من الحكمة والعقل الاستعانة على الحق بالشيء اليسير من الباطل ؟
المقصود بالباطل في كلام ابن القيم هو المباح
رد: من الحكمة والعقل الاستعانة على الحق بالشيء اليسير من الباطل ؟
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو عبد البر طارق
المقصود بالباطل في كلام ابن القيم هو المباح
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الطيبوني
قال ابن القيم رحمه الله
تدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، فإذا وُصِف العمل بما فيه من الفساد مثل كونه من عمل الشيطان، لم يمنع ذلك أن يُدفَع به مفسدة شرٌّ منه وأكبر وأحب إلى الشيطان منه، فيُدفَع بما يحبه الشيطان ما هو أحب إليه منه، ويُحتَمل ما يبغضه الرحمن لدفع ما هو أبغض إليه منه، ويُفوَّت ما يحبه لتحصيل ما هو أحبُّ إليه منه.
وهذه أصولٌ مَنْ رُزِقَ فهمَها والعملَ بها فهو من العالمين بالله وبأمره.
و صف العمل بالفساد و بكونه من عمل الشيطان و ان الرحمن يبغضه يدفع ما ذكرت . و لعلك تنظر في حكمة الشارع في التدرج في تحريم الخمر في اول الاسلام