-
الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة ( 1 )
مقدمة في الدفاع عن السنة
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المربين وقائد الغر المحجلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقد وضع الله - عز وجل - سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالمقام الأسمى، والمحل الأرفع، إذ أوكل إليه - صلى الله عليه وسلم - مع مهمة البلاغ، وظيفة التبيين، فقال تعالى: ((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم...)) [النحل:44].
والبيان اسم جامع لمعانٍ مجتمعة الأصول، متشعبة الفروع:
أحدها: بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفيًا.
الثاني: بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك، كما بين أن الظلم المذكور في قوله تعالى: ((ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)) [الأنعام: 82]، هو الشرك (1).
الثالث: بيانه بالفعل كما بين أوقات الصلاة للسائل بفعله (2).
الرابع: بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن، فينزل القرآن ببيانها، كما سئل عن قذف الزوجة فجاء القرآن باللعان ونظائره (3).
الخامس: بيان ما سئل عنه بالوحي وإن لم يكن قرآنًا، كما سئل عن رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بالخلوق، فجاء الوحي بأن ينزع عنه الجبة ويزيل أثر الخلوق (4).
السادس: بيانه للأحكام بالسنة ابتداءً من غير سؤال كما حرم عليهم لحوم الحمر (5) والمتعة (6).
السابع: بيانه للأمة جواز الشيء بفعله هو له، وعدم نهيهم عن التأسي به.
الثامن: بيانه جواز الشيء بإقراره لهم على فعله وهو يشاهده، أو يعلمهم يفعلونه.
التاسع: بيانه إباحة الشيء عفوًا بالسكوت عن تحريمه وإن لم يأذن فيه نطقًا.
العاشر: أن يحكم القرآن بإيجاب شيء أو تحريمه أو إباحته، ويكون لذلك الحكم شروط وموانع وقيود وأوقات مخصوصة وأحوال وأوصاف، فيحيل الرب - سبحانه وتعالى- على رسوله في بيانها؛ كقوله تعالى: ((وأحل لكم ما وراء ذلك))[النساء:24]، فالحل موقوف على شروط النكاح، وانتفاء موانعه، وحضور وقته، وأهلية المحل، فجاءت السنة ببيان ذلك كله.
فكل ما شرعه - صلى الله عليه وسلم - للأمة فهو بيان منه عن الله أن هذا شرعه ودينه، ولا فرق بين ما يبلغ عنه من كلامه المتلو وبين وحيه الذي هو نظير كلامه في وجوب الاتباع، ومخالفة هذا كمخالفة هذا (7).
وإذا كانت تلك منزلة السنة وهذه أهميتها، فإن إنكارها، والاعتداء عليها، والعبث بها، والتشكيك في حجيتها، واختلاق الأكاذيب حولها، وهو ما سعت إليه الفرق المنحرفة قديمًا، ويسعى إليه المنحرفون حديثًا، كل ذلك يعد أمرًا بالغ الخطورة، إذ إن ذلك يترتب عليه فتح أبواب شر تقوض بنيان الإسلام، وذلك لما يلي:
أولاً: أن الأحكام الشرعية العلمية الأصولية "العقائد" يتوقف بيانها وتفاصيلها على السنة النبوية بعد القرآن الكريم ومعه ، فإنكار السنة النبوية يهدد العقائد بالبتر والإبهام، فيمس ما يتعلق بالإلهيات، والنبوات، والسمعيات، وما سوى ذلك من مسائل العقائد، فهل يقام دين على عقائد مبتورة مبهمة؟!
ثانيًا: القضاء على أصول الأحكام الشرعية العملية "أصول الفقه الإسلامي"؛ لأن هذا العلم يتصدى للأدلة التي تبنى عليها الأحكام، وقد أجمع الأصوليون على أن السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وعلى هذا فإنكار السنة النبوية يجعل الفقه الإسلامي في مهب الرياح؛ لعدم ارتكازه على أدلة، ولافتقاره إلى أسس.
ثالثًا: تحطيم فقه الفروع "المذهبي والمقارن" لأن جل المسائل الفقهية والوقائع تستند إلى السنة النبوية إما بالبيان والإيضاح؛ كمواقيت وأعداد وهيئات الصلوات المفروضة، وإما بالاستقلال مثل كفارة من أفسد صوم رمضان، وعقوبتي شارب المسكر والمرتد، والآداب والسلوكيات وفضائل الأعمال وغير ذلك.
رابعًا: تشويه علوم القرآن الكريم لاستنادها في كثير من قضاياها على السنة النبوية، وتهديد علم التفسير لارتكازه في جل ما يعرض له على السنة النبوية (8).
وهكذا فإن إنكار السنة يمهد السبل للتشكيك في القرآن نفسه، ويعطل الآيات التي تحث وتحض على اتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واتخاذه قدوة، وتحكيمه، والرضا بحكمه، وإيثار طاعته على ما سواه، حتى تمسي الأمة بغير تشريع واضح المعالم، قوي الدلالة؛ إذ قد تعرضت أصول التشريع وفروعه للافتراء والاجتراء.
إن الطعن في السنة النبوية هدم للإسلام في عقائده، وعباداته، ونظمه، وأخلاقه، وهدم لوحدته، وسبب في تخلف المسلمين عن ركب الحضارة.
يقول الأستاذ محمد أسد: " لقد كانت السنة مفتاحًا لفهم النهضة الإسلامية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، فلماذا لا تكون مفتاحًا لفهم انحلالنا الحاضر؟. إن العمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو عمل على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدمه، وإن ترك السنة هو انحلال الإسلام.
لقد كانت السنة الهيكل الحديدي الذي قام عليه صرح الإسلام، وإنك إذا أزلت هيكل بناء ما أفيدهشك أن يتقوض ذلك البناء كأنه بيت من ورق؟ (9).
وهذا ما يخطط له أعداء الإسلام، سواء الظاهرون العداوة له المتظاهرون عليه، أو اللابسون عباءته بهتانًا وزورًا، ولكن وإن سعوا ما أمكنهم، فلن يصلوا إلى هدفهم المنشود، وغايتهم المطلوبة، بل سيظلون يتخبطون تخبطًا عشوائيًا في متاهات مظلمة، كثيرة الالتواء، صعبة المخرج، إلى أن يموتوا غيظًا، وكمدًا، وحقدًا؛ لأن الله - عز وجل - تكفل بحفظ دينه من كل من يريده بسوء، وحفظ أهله من كل من يريدهم بشر، كما يدل على ذلك قوله تعالى: ((يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)) [التوبة:32-33].
وما شأن شراذم البغي - قديمًا وحديثًا - ومحاولاتهم للنيل من السنة المطهرة إلا كشأن من قال عنه الأعشى:
كناطح صخرة يومًا ليوهنها فلم يضرها، وأوهى قرنَه الوَعِلُ
وهم ببغيهم وافترائهم واعتدائهم وتزييفهم وقالتهم الكاذبة، إنما يظلمون أنفسهم ودينهم: ((وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)) [الشعراء:227].
وفي هذه الزاوية سنقف مع اختلاقهم وأكاذيبهم، وسنعرض لشبهاتهم وافتراءاتهم، داحضين لها، مفندين إياها، ليتضح الحق، ويفتضح الباطل، والله نستمد منه العون، ونسأله التوفيق. ((وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)).
الهوامش:
(1) صحيح البخاري:(32)، وصحيح مسلم: (327).
(2) صحيح مسلم: (613).
(3) صحيح البخاري: (4745).
(4) صحيح البخاري: (1789)، وصحيح مسلم: (1180).
(5) أبو داود: (4604)، والترمذي: (2663)، وابن حبان:(12)، وصححه الحاكم: (1/ 109)، وأقره الذهبي.
(6) صحيح البخاري: (4216)، وصحيح مسلم: (1407).
(7) إعلام الموقعين: (4/ 97- 104).
(8) السنة النبوية- دكتور أحمد كريمة، ص: 27، 28.
(9) الإسلام على مفترق الطرق، ص: 87.
-
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 2 )
كلمة في الاصطلاح والدلالة (1-2)
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة في الاصطلاح والدلالة
أهمية إدراك الفوارق بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية.
إن الخلط في الدلالات وعدم معرفة الفوارق بين المعاني في اللغة وبينها في الاصطلاح أمر في غاية الخطورة؛ لأنه يؤدي بأصحابه إلى أسوأ الأحكام، وأتعس النتائج، وهذا ما سنلاحظ بعضه في الصفحات التالية، ومن ثم يلزم بين يدي تعريفنا بالسنة معرفة الفوارق بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية، وعليه فأقول:
قال أبو هلال العسكري:" الفرق بين الاسم العرفي والاسم الشرعي أن الاسم الشرعي ما نقل عن أصله في اللغة فسمي به فعل، أو حكم حدث في الشرع، نحو الصلاة، والزكاة، والصوم، والكفر، والإيمان، والإسلام، وما يقرب من ذلك، وكانت هذه أسماء تجري قبل الشرع على أشياء، ثم جرت في الشرع على أشياء أخر، وكثر استعمالها حتى صارت حقيقة فيها، وصار استعمالها على الأصل مجازاً، ألا ترى أن استعمال " الصلاة " اليوم في الدعاء مجاز، وكان هو الأصل.
والاسم العرفي ما نقل عن بابه بعرف الاستعمال نحو قولنا: " دابة "، وذلك أنه قد صار في العرف اسما لبعض ما يدب، وكان في الأصل اسما لجميعه.
وعند الفقهاء أنه إذا ورد عن الله خطاب قد وقع في اللغة لشيء، واستعمل في العرف لغيره، ووضع في الشرع لآخر، فالواجب حمله على ما وضع في الشرع؛ لأن ما وضع له في اللغة قد انتقل عنه، وهو الأصل، فما استعمل فيه بالعرف أولى بذلك، وإذا كان الخطاب في العرف لشيء، وفي اللغة بخلافه، وجب حمله على العرف؛ لأنه أولى، كما أن اللفظ الشرعي يحمله على ما عدل عنه، وإذا حصل الكلام مستعملاً في الشريعة أولى على ما ذكر قبل، وجميع أسماء الشرع تحتاج إلى بيان، نحو قوله تعالى ((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)) [البقرة:43]
إذ قد عرف بدليل أنه أريد بها غير ما وضعت له في اللغة، وذلك على ضربين:
أحدهما: يراد به ما لم يوضع له ألبته نحو: الصلاة، والزكاة.
و الثاني: يراد به ما وضع له في اللغة لكنه قد جعل اسما في الشرع لما يقع منه على وجه مخصوص، أو يبلغ حداً مخصوصاً، فصار كأنه مستعمل في غير ما وضع له، وذلك نحو: الصيام، والوضوء، وما شاكله.
وهذا كلام مهم، ولإيضاحه أكثر أقول:
الأسماء ثلاثة أنواع:
الأول: يعرف حده بالشرع مثل: الإيمان، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج.
الثاني: يعرف حده باللغة مثل: الشمس، القمر، الليل، النهار.
الثالث: يعرف حده بالعرف مثل: القبض.
والألفاظ الشرعية - وإن كانت عربية في الأصل - إلا أنه لا بد من معرفة المراد بها في الشرع؛ لأن الشرع قد نقل تلك الألفاظ عن مدلولاتها الأصلية إلى معان بينها وبين المعنى الأصلي نوع اشتراك.
فالصلاة في أصل اللغة الدعاء، فجاء الشرع مخصصا الصلاة بأقوال، وأفعال، وهيئات معينة.
و الزكاة في أصل اللغة هي النماء والزيادة، فجاء الشرع مخصصاً معناها بما يدفع من حق معلوم لمستحقيه باعتبار ذلك الدفع طريقاً للنماء والزيادة.
والصوم في أصل اللغة مطلق الإمساك، فجاء الشرع مخصصاً معناه بالامتناع عن أشياء معينة في أوقات معينة.
و الحج في أصل اللغة القصد، فخص الشرع ذلك القصد بأنه القصد لبيت الله الحرام لأداء أعمال معينة.
فالشرع إذاً لم ينقل تلك الألفاظ – وغيرها – عن معانيها اللغوية بالكلية، ولم يبق عليها كما هي في أصل اللغة، بل خصت تخصيصاً شرعياً ببعض مواردها، كما أن عرف الناس يخصص بعض الألفاظ ببعض مواردها.
وإذا أعرض المرء عن هذا المنهج في تعامله مع المصطلحات الشرعية، ولم يع هذه الفروق فإنه يضل ضلالاً كبيراً، لذا لزم علينا أن نبين وجه الخلاف بين معنى " السنة " في اللغة وبين معناها في الاصطلاح، وهذا ما سنعرض له في الآتي.
السنة في اللغة
السنة في اللغة: مشتقة من الفعل " سن " بفتح السين المهملة وتشديد النون، أو من " سنن " وهذه المادة تفيد جريان الشيء واطراده في سهولة، فهي تفيد أن الشيء تكرر حتى أصبح قاعدة.
ولها عدة معان:
1- السيرة المستمرة، والطريقة المتبعة المعتادة، سواء أكانت حسنة أو سيئة. وهذا المعنى للسنة هو الأصل والغالب، قال ابن الأثير: " قد تكرر في الحديث ذكر: " السنة " وما تصرف منها، والأصل فيها الطريقة والسيرة.. "، وحسن الطريقة والسيرة أو سوؤها إنما يأتي على طريق الوصف والإضافة.
فمن الوصف قوله- صلى الله عليه وسلم -: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم من شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ".
ومن الإضافة تأخذ كلمة " سنة " المدح أو الذم حسب المضاف إليه. ففي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ".... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ " تكون السنة حسنة ومحمودة.
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية..... "
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا، وذراعا ذراعا، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن " تكون السنة هنا سيئة ومذمومة.
وأصلها اللغوي مأخوذ من قولك: سننت الماء إذا واليت صبه، وفي لسان العرب: سن عليه الماء: صبه، وقيل أرسله إرسالاً ليناً....
وسن الماء على وجهه: أي: صبه عليه صبا سهلاً، قال الجوهري: سننت الماء على وجهي، أي أرسلته إرسالاً من غير تفريق... وفي حديث بول الأعرابي في المسجد: " فدعا بدلو من ماء فسنه عليه " أي: صبه، والسنن: الصب في سهولة... وفي حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عند موته: " فسنوا علىّ التراب سنا " أي: ضعوه وضعاً سهلاً.
فشبهت العرب الطريقة المتبعة، والسيرة المستمرة بالشيء المصبوب، لتوالي أجزائه على نهج واحد، ومن هذا المعنى قول خالد بن عتبة الهذلي:
فلا تجزعن من سيرة أنت سِرتَهَا * * * فأول راضٍ سنه من يسيرها
وبهذا الإطلاق اللغوي جاءت كلمة السنة في القرآن الكريم، قال الله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين " [الكهف /55]
وقال تعالى: " سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا " [الإسراء:77]
2- السنة بمعنى المثال المتبع، والإمام المؤتم به , قال في اللسان: سنَّ فلان طريقاً من الخير يسُنّه: إذا ابتدأ أمراً من البر لم يعرفه قومه، فاستنوا به وسلكوه.
وقال الطبري: والسنة هي المثال المتبع، والإمام المؤتم به، يقال منه: سَنّ فلان فينا سنة حسنة، وسن سنه سيئة: إذا عمل عملاً اتبع عليه من خير وشر، ومنه قول لبيد بن ربيعة:
من معشر سنَّت لهم آباؤهم * * * ولكل قومٍ سُنَّةٌ وإمَامُها
وقول سليمان بن قَتَّة :
وإن الأُلى بالطفِّ من آل هاشم * * * تأسوا فسنوا للكرام تآسوا
وبهذا الإطلاق اللغوي جاءت في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم كفل من دمها ذلك أنه أول من سن القتل "، يعني أن على قابيل قاتل هابيل نصيب من كل دم يراق؛ لأنه أول من ابتدأ القتل، فقوله: " أول من سن القتل " فيه أن من سن شيئاًَ كتب له أو عليه، وهو أصل في أن المعونة على ما لا يحل حرام.
وهكذا فإن العرب تطلق على كل من ابتدأ أمراً عمل به قوم من بعده، بأنه هو الذي سنه، ومن هذا المعنى قول نصيب:
كأني سننت الحب أول عاشق * * * من الناس إذا أحببت من بينهم وحدي
3- والسنة بمعنى الصقل والتزيين، يقال: سنَّ الشيء يَسُنُّهُ سناً، وسنَّنَه أي: صقله وزينه.
قال في اللسان: والسنة: الوجه، لصقالته وملاسته، وقيل هو حُرُّ الوجه، وقيل دائرته، وقيل: الصورة، وقيل الجبهة والجبينان، وكله من الصقالة والأسالة.
وبهذا المعنى وردت في أشعار العرب، قال الأعشى:
كريماً شمائله من بني *** معاوية الأكرمين السُّنن
حيث أراد بقوله: " الأكرمين السُّنن " الأكرمين الوجوه، فـ (السنن) الوجوه، و" السنن " جمع سنة.
وقال ذو الرمة:
تُريك سنة وجه غير مُقرفةٍ *** ملساء ليس بها خالٌ ولا ندبُ
حيث أراد بقوله " تريك سنة وجه " تريك دائرة وجهها.
وقال ثعلب:
بيضاء في المرآة سُنَّتها *** في البيت تحت مواضع اللمس
حيث أراد بقوله: " في المرآة سنتها ": في المرآة صورتها.
كما وردت في الحديث الشريف بهذا المعنى، ومنه حديث: " أنه - صلى الله عليه وسلم- حض على الصدقة، فقام رجل قبيح السنة ". أي: الصورة.
4- والسنة بمعنى العناية بالشيء ورعايته. يقال: سن الإبل إذا أحسن رعايتها والعناية بها، والفعل الذي داوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- سمي سنة بمعنى: أنه - صلى الله عليه وسلم - أحسن رعايته وإدامته.
5- والسنة بمعنى البيان، يقال: سن الأمر، أي: بينه، وسن الله أحكامه للناس: بينها، فسنة الله: أحكامه، وأمره، ونهيه، وسنها الله للناس: بينها، وفي الحديث: " إني لأَنسى أو أُنسَّى لأسُنَّ ". أي: إنما أدفع إلى النسيان لأسوق الناس بالهداية إلى طريق مستقيم، وأبين لهم ما يحتاجون أن يفعلوا إذا عرض لهم النسيان.
الهوامش:
(1)الفروق ص 56
(2)انظر: " فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (7/298-302)، ومختصر الصواعق المرسلة (2/347).
(3)انظر: مقاييس اللغة (3/60)
(4)النهاية في غريب الحديث ص 449
(5) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، رقم (1017)
(6) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة (4607) و الترمذي كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة النبوية و اجتناب البدع رقم (2678) وقال: حديث حسن صحيح.
(7) أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب من طلب دم امرئ بغير حق، (6882)
(8) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -" لتتبعن سنن من كان قبلكم " رقم (7320)
(9) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب ترك النبي - صلى الله عليه و سلم - والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد، رقم (58،57)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد رقم (284).
(10)أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله رقم (121).
(11)لسان العرب 13/227، و انظر: القاموس المحيط 4/239، و المعجم الوسيط 1/455، 456
(12)لسان العرب 12/225.
(13)لسان العرب (13/225).
(14)يعنى أنك من جماعة " سنت لهم آباؤهم " علمتهم طريق كسب المعالي.
(15)الطف: موضع قرب الكوفة.
(16)تآسوا: من المواساة بمعنى المشاركة.
(17) تفسير الطبري 4/100.
(18) أخرجه البخاري كتاب الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، رقم (3335)، ومسلم كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل رقم (1677).
(19) تكملة فتح الملهم (2/213).
(20) اللسان 13/224
(21) يقال سنن الطريق – بفتح السين و ضمها – فالأول مفرد والثاني جمع " سنة " وهي جادة الطريق والواضح فيها.
(22) انظر: لسان العرب 13/224، القاموس المحيط 4/239، المعجم الوسيط 1/456،455.
(23) أخرجه أحمد في المسند (4/288-296).
(24) انظر: لسان العرب (3/2121) تاج العروس (9/244،243).
(25) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب السهو، باب العمل في السهو، رقم(2). قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنداً ولا مقطوعاً من غير هذا الوجه، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي في الموطأ التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، ومعناه صحيح في الأصول.
(26) انظر: لسان العرب (13/225)، القاموس المحيط (4/238).
-
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 3 )
كلمة في الاصطلاح والدلالة (2-2)
بسم الله الرحمن الرحيم
1- و السنة بمعنى دين الله تعالى، الذي هو أمره ونهيه وسائر أحكامه (1)، قال الراغب: وسنة الله قد تقال لطريقة حكمته، وطريقة طاعته (2).
2-و السنة بمعنى الأمة. نقله القرطبي عن المفضل، و أنشد:
ما عاين الناس من فضل كفضلهم * ولا رأوا مثلهم في سالف السنن (3)
3- و السنة بمعنى الطبيعة (4). قال في اللسان، و السنة: الطبيعة، وبه فسر بعضهم قول الأعشى:
كريم شمائله من بني * معاوية الأكرمين السُّنن (5)
4- و السنة بمعنى الدوام. نقله الشوكاني عن الكسائي (6).
5- و السنة بمعنى العادة. قال العضد وكثير من علماء الأصول: "السنة لغة: الطريقة والعادة" وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: ((فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلاً)) (فاطر:43). ((سنة الأولين)): إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم. جعل استقبالهم لذلك انتظاراً له منهم، وبين أن عادته - التي هي: الانتقام من مكذبي الرسل - عادة لا يبدلها و لا يحولها " (7) فقد فسر السنة بالعادة كما ترى.
وقال الفنري: " المفهوم من سياق الأصفهاني في شرح البدائع: أن عطف " العادة " على " الطريقة " ليس تفسيرياً حيث قال: وهي في اللغة: الطريقة. يقال: سنة زيد كذا، أي طريقته وسيرته. و العادة. يقال: من سنته كذا، أي: من عادته، قال الله تعالى: ((ولن تجد لسنة الله تبديلاً)) (الأحزاب:62) أي لعادته" (8).
قال الدكتور/ عبد الغني عبد الخالق معقباً على هذا القول: " ولم أجد في قواميس اللغة تصريحاً: بأن السنة هي العادة، و لا بأن العادة هي الطريقة أو السيرة أو الطبيعة. و الذي ذكر في القاموس وشرحه هو: " أن العادة: الديدن يعاد إليه، معروفة. سميت بذلك: لأن صاحبها يعاودها. أي يرجع إليها مرة بعد أخرى.
وقال جماعة: العادة: تكرير الشيء دائماً أو غالباً على نهج واحد بلا علاقة عقلية. وقيل: ما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة، ونقل شيخنا: أن العادة والعرف بمعنى، وقال قوم: قد تختص العادة بالأفعال، والعرف بالأقوال. وقال في المخصص نقلاً عن صاحب العين: " العادة: الديدن، والدربة، والتمادي في شيء حتى يصير سجية له " (9)
فإذا نظرنا إلى جميع معاني العادة: وجدنا أنها تفيد معنى الاستمرار والدوام، فكأن من فسر السنة بالعادة أخذ هذا التفسير من قول الكسائي - المنقول فيما تقدم - " إن السنة: الدوام ".
وإذا نظرنا إلى تفسير العادة - في شرح القاموس -: بما يستقر في النفوس الخ.. و إلى قول صاحب العين: والتمادي في شيء... الخ، وإلى ما نقل عن الراغب في تفسير الطبيعة فيما تقدم: علمنا أن العادة قد تستعمل بمعنى الطبيعة.
وإذا نظرنا إلى تفسيرها: بتكرير الشيء دائماً أو غالباً... الخ، وإلى تفسيرها بالعرف: علمنا أنها بمعنى الطريقة، فإنها تفيد معنى الاستمرار والتكرار.
هذا: وقد وجدت أبا هلال العسكري في كتابه " الفروق اللغوية " يفرق بين السنة والعادة: بأن العادة: ما يديم الإنسان فعله من قبل نفسه، والسنة تكون على مثال سبق. (10)
وبالجملة: فمعاني " العادة والطبيعة والطريقة والدوام " متقاربة إن لم تكن متحدة " (11)
وجماع القول في معنى هذه الكلمة - السنة - اللغوية: أنها تدل على الطريقة المسلوكة راجعة إلى أصلها، إذ هي من قولهم: سننت الشيء بالمسن، إذا واليت تكراره عليه و إمراره به حتى صنع له سناً " أي: طريقاً.
وقريب منه أن نقول:إن هذا اللفظ إنما يفيد الاستمرار، والدوام، والأمر بهما، وهو ظاهر في قولك: سننت الماء، أي واليت صبه بأسلوب منتظم ودائم.
وإذا ما جمعنا المعنيين معاً يتضح لنا: أن السنة إنما تفيد الأمر باتباع طريقة معينة، والتزامها، والسير عليها، حتى تكون هي الطريق والمسار الذي لا يجوز خلافه في مراد من أمر بالتزامه (12)
وهكذا نجد أن الاصطلاح الشرعي للسنة المفهوم من هذه المعاني اللغوية هو: السيرة والطريقة التي نهجها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أقواله، وأفعاله، وتقريراته على وجه العموم.
وإذ قد اتضح من خلال العرض معنى " السنة " في اللغة فلا بد من التنبه لأمور هي:
1. أن السنة بمعنى الطريقة والسيرة حسنة كانت أو سيئة قد استعملت في لغة العرب قبل الإسلام، ووردت في أشعار الجاهلية كما سبق إيراده.
2. أن القرآن الكريم والحديث الشريف قد وردت فيهما كلمة " السنة " بمعناها اللغوي السابق.
3. أن السنة وإن خصصها الإسلام بالطريقة التي نهجها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أقواله، وأفعاله، وتقريراته، فإن ذلك لا يعني أن معناها اللغوي قد بطل أو انعدم، بل بقي استعمالها ولكن في نطاق ضيق.
السنة في القرآن الكريم
السنة في القرآن الكريم يمكن الحديث عنها من خلال محورين:
الأول: كلمة "سنة" في القرآن الكريم.
الثاني: السنة النبوية في القرآن الكريم.
أولاً: كلمة " سنة " في القرآن الكريم
لقد وردت كلمة " سنة " في القرآن الكريم ست عشرة مرة، مفردة ومجموعة، منكرة ومضافة، تضاف إلى الله أحياناً، وإلى المخلوقين - صالحين أو طالحين - أحياناً أخرى، ولها معانٍ متعددة، لكن الغالب فيها: أنها القوانين الثابتة التي أقام الله عليها نظام الخلق، باعتبار أنها الطريقة المعتادة التي يجري عليها القدر الإلهي في سياسة الخلق عامة، وفي عقاب الطغاة والمكذبين خاصة. وإيضاح ذلك في الآتي:
ورد لفظ " السنة " في القرآن الكريم، بمعنى: الطريقة، والسيرة، و النهج التي كان عليها الأسلاف، وقد تكون محمودة، وهي سنن الحق والهدى، ومن ذلك قوله تعالى: ((يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم)) [النساء:26]. أي يهديكم طرق الذين من قبلكم، وهي طرائقهم الحميدة. (13)
وقد تكون سنة الله في جزاء أمر مذموم، وهي سنته في إهلاك الأمم التي عصت رسله، وتمادت في الغي والباطل. ومن ذلك قوله تعالى: ((وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين)) [الأنفال:38]. أي إهلاك الله لهم حين تنكبوا الصراط المستقيم.
وقوله تعالى: ((لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين)) [الحجر:13] أي الطريقة التي سنها الله في إهلاكهم لما كذبوا.
وورد أيضاً لفظ " السنن " بمعنى: الوقائع والحوادث المتكررة، التي حصلت للأمم السالفة. من ذلك قوله تعالى: ((قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)) [آل عمران:137] أي قد خلت من قبلكم وقائع سنها الله تعالى في الأمم المكذبة.
كما ورد أيضاً لفظ " سنة الله " بمعنى حكمه وقضائه الثابت الذي لا يتخلف، ومن ذلك قوله تعالى: ((سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً)) [الأحزاب:62].
و قوله تعالى: ((سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً)) [الفتح:23].
و قوله تعالى: ((فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلاً)) [فاطر:43].
و قوله تعالى: ((سنة الله التي قد خلت في عباده)) [غافر:85].
وقوله تعالى: ((سنة من أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلاً)) [الإسراء:77]
فالسنة هنا تعني: العادة الثابتة، التي حكم الله بها وقضاها (14)، و المعنيان الآخران متقاربان (15).
وإنما أضيفت السنة إلى الله، وأضيفت إلى الخلق لتعلقها بالله - سبحانه وتعالى - وبخلقه، فالله - سبحانه وتعالى - هو الذي قررها وينزلها، والخلق هم الذين يستقيمون على أوامر الله سبحانه وهم الصالحون، أو ينزل بهم عقاب الله تعالى وهم الجاحدون.
قال القرطبي: " وأضافها - أي السنة - إلى الله - عز وجل - وقال في موضع آخر: "سنة من أرسلنا قبلك من رسلنا " فأضاف إلى القوم لتعلق الأمر بالجانبين، وهو كالأجل، تارة يضاف إلى الله، وتارة إلى القوم، قال الله تعالى: " فإن أجل الله لآت " وقال: " فإذا جاء أجلهم".
وعليه فإذا أضيفت السنة إلى الله - سبحانه و تعالى - فإن كانت في الجاحدين فالمراد طريقته - سبحانه وتعالى - في ردعهم وغضبه عليهم وتعذيبهم، وإن كانت في الصالحين فالمراد طريقته - في إكرامهم ورحمته واللطف بهم.
وإذا أضيفت السنة إلى المعاندين فالمراد ما نزل من العقوبة بهم.
وإذا أضيفت إلى الصالحين فالمراد طرقهم المستقيمة، ومناهجهم السليمة.
الهوامش:
(1) القاموس المحيط (4/239)، المعجم الوسيط (1/256).
(2) المفردات ص 245.
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن (4/216).
(4) الطبيعة: السجية، مأخوذة من " الطبع " وهو: أن يصور الشيء بصورة ما. كطبع السكة والدراهم، فإن ذلك نقش النفس بصورة ما، إما من حيث الخلقة أو من حيث العادة، وهو فيما تنقش به من جهة الخلقة أغلب. المفردات للراغب ص 303 بتصرف.
(5) اللسان 13/2125
(6) إرشاد الفحول ص 33
(7) الكشاف 2/246.
(8) حاشية الفنري على التلويح (242)
(9) المخصص 12/75.
(10) الفروق ص 187.
(11) سجية السنة ص 51،50.
(12) السنة في مواجهة أعدائها ص 38.
(13) انظر: تفسير ابن كثير (1/411)، فتح القدير (1/452).
(14) انظر: تفسير ابن كثير (3/49).
(15) انظر: مفهوم السنة و الجماعة ص 17،16.
-
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 4 )
بسم الله الرحمن الرحيم
ثانياً: السنة النبوية في القرآن الكريم
لقد ذكرت السنة في القرآن الكريم كثيراً.
1. فذكرت بلفظ الحكمة كما في:
قوله تعالى على لسان إبراهيم - عليه السلام - في دعائه لهذه الأمة: ((ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم..)) [البقرة:129] وقوله تعالى:((كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة..)) [البقرة:151] وقوله تعالى: ((لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)) [آل عمران:164]
وقوله تعالى: ((وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة)) [النساء:113]
وقوله تعالى: ((واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)) [الأحزاب:34]
وقوله تعالى: ((هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)) [الجمعة:2]
قال الحسن وقتادة: الكتاب: هو القرآن، والحكمة هي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وقال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -: " ذكر الله الكتاب، وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول الله، وهذا يشبه ما قال، والله أعلم، لأن القرآن ذُكِرَ واتبعته الحكمة، وذكر الله مَنّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز - والله أعلم - أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول فرض إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله، لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به، وسنة رسول الله مبينة عن الله معنى ما أراد: دليلاً على خاصّه وعامّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله " (2)
وقال الطبري - رحمه الله -: ((ويعلمهم الكتاب والحكمة)) يعني: ويعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه، ويبين لهم تأويله ومعانيه " الحكمة " ويعني بالحكمة: السنة التي سنها الله - جل ثناؤه- للمؤمنين على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيانه لهم. (3)
وقال الطبري - أيضاً - بعد أن ذكر آراء الأئمة في تفسير الحكمة -:" والصواب من القول عندنا في الحكمة أنها العلم بأحكام الله تعالى لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمعرفة بها، وما دل عليه ذلك من نظائره". (4)
وإذا سلمنا بهذه الحقيقة، وهي أن بيان القرآن الكريم هو الحكمة التي أوتيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقرنت بالكتاب، وأن هذه الحكمة ليست شيئاً سوى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذا التسليم يطرح تساؤلات:
من بينها: أن القرآن لم يستخدم لفظ " السنة " تعبيراً عن " بيان القرآن "؛ وإنما استخدم لفظ " الحكمة " فما سبب هذا العدول؟
ثم: إذا كان لفظ " الحكمة " هو ما آثره القرآن، فلَِمَ عدل عنه النبي، وصحابته، وعلماء الأمة من بعده، واستبدلوا به لفظ " السنة "؟
يقول الدكتور/ الخولي: " وفي تقديرنا: أن بداية هذا التفسير كامنة في الفرق بين طبيعة كلٍ من " الكتاب " و" السنة " رغم وحدة مصدرهما، وهو " الوحي " كلاهما وحي من الله - تعالى - بشهادة القرآن نفسه.. والسنة من بعده.
أما شهادة القرآن فتطالعنا بينة قاطعة في قوله تعالى: ((وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)) [النجم:4، 3]
فما ينطقه رسول الله شامل لما يتلوه على الناس، من قرآن، وما يقوله لهم من حديث. كلاهما وحي إذا.
وبناءً على ما قررنا: من أن الحكمة هي " سنة " رسول الله.. وأنها ليست سواها، فقد أصبحت الآية الكريمة: ((وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً)) [النساء:113]. دليلاً ثانياً قاطعاً، على أن السنة وحي، أنزلها الله على رسوله - كما أنزل الكتاب.
ودليل ثالث: ((ثم إن علينا بيانه)) [القيامة:19] إنه وعد قاطع بأن بيان القرآن، سوف يتولاه الله، كما تولى ((جمعه وقرآنه)) على حد سواء، ولا معنى لهذا سوى: أن يوحي إليه هذا البيان، بصورة من صور الإيحاء.
السنة إذًا وحي بشهادة القرآن البينة، وهي وحي بشهادتها كذلك: " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " (5)
وهو لم يؤت شيئاً غير القرآن - سوى السنة، - والسنة ليست مثل القرآن في شيء إلا في كونها وحياً مثله.
ومهما حاولنا أن نجد معنى لكونها مثل القرآن غير كونها وحياً مثله، فقد حاولنا محالاً. فمن البين أنها ليست مثل القرآن كماً، وليست مثل القرآن كيفاً.. ولا يتحدى بها كما يتحدى بالقرآن...
إن بين القرآن والسنة شبهاً محدداً، ينحصر في أن كليهما وحي من عند الله تعالى، وبينهما فرق: أن القرآن " وحي " بلفظه ومعناه، أما السنة فهي " وحي " بمعناها دون لفظها.
ونحن نجد هذا الفرق على نحو قاطع، حين نتأمل ما أحيطت به رواية " السنة " بالقياس إلى ما أحيط به تبليغ " القرآن ".
لقد تكفل ربنا بحفظ القرآن، وحماه أن يناله تغيير أو تحريف..((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) [الحجر:9]
ولكنه وكل إلينا حفظ " السنة "..فتطرق إليها شيء من مما لا سبيل للبشر إلى توقيه، وأبسطه هذا الاختلاف في رواية الحديث الواحد، بطرق شتى، كلها موثوق صحيح، إذ هذا قاطع بأن تصرفا حدث في الرواية، وهو سبب هذا الاختلاف، وإذا كان هناك خلاف حول جواز رواية الحديث بالمعنى، فهناك إجماع على عدم جواز قراءة القرآن بالمعنى البتة.
ذلك أن لفظ القرآن متعبد به، و لفظ الحديث النبوي ليس كذلك، والقرآن هو المعجزة وبه التحدي، و السنة ليست كذلك.
هذه الفروق وراء المفارقة البادية، في إيثار القرآن لفظ " الحكمة " وعدول النبي - صلى الله عليه وسلم -عنه إلى لفظ " السنة ".
وإذا سلم لنا هذا الفرق الجوهري: أن " القرآن " وحي: لفظه ومعناه، وأن " السنة " وحي بمعناها دون لفظها، فقد انفتح لنا الباب لإسقاط الإشكال من أساسه.
وهنا نجتهد آملين في الله أن نكون على صواب: أن " الحكمة " هي: المعاني التي تضمنتها أحاديث رسول الله، أوحاها الله إليه، وكساها - صلوات الله عليه - ألفاظا من عنده.
أما " السنة ": فهي هذه المعاني الموحى بها، بعد أن اكتست العبارة التي تحملها، وإذا فمفهوم " السنة " غير مفهوم " الحكمة ".
" الحكمة " هي " المعاني " وحدها.. و" السنة " هي المعاني بألفاظها، وبالتالي لا عدول من جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نهج القرآن، أو تسميته، ولا مفارقة هناك؟!
مفهوم " الحكمة " مختلف عن مفهوم " السنة ".....
" السنة " معنى: هي الحكمة.. وهي بهذا المفهوم وحي من عند الله. و" السنة " معنى ولفظاً: هي حديث رسول الله، وما في معناه، من فعل أو تقرير.
والدليل على أن معنى " السنة " وحي من عند الله، أن لفظها المعبر عن المعنى هو لرسول الله *- صلى الله عليه وسلم - الدليل على هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أن الروح الأمين قد ألقى في رُوعي: أنه لن تموت نفس، حتى تستوفي رزقها، فأجملوا في الطلب " وفي رواية: " إن روح القدس نفث في روعي... " (6).
"نفث في روعي" لا معنى لها هنا إلا الإلهام، والإلقاء في النفس، وما يلقى في الروع لا يكون إلا من باب المعاني.
لأن ما يلقى بلفظه ومعناه يلقى في الروع وفي السمع في آن واحد، كالحديث القدسي، والقرآن العظيم.
إذًا فما نسمعه ونقرؤه من هذا الحديث، ليس ما ألقي في " روع " رسول الله وقلبه.
لقد ألقي إليه المعنى، فعبر عنه، وإذا فهذه المعاني الإلهية الموحى بها، قد وصلتنا من خلال عبارة رسول الله.
وعبارة رسول الله صاغها على طريقته، وبأسلوبه الخاص، وهي طريقة في البيان تختلف لا محالة، عن طريق البيان الإلهي في القرآن.
والسنة لغة: الطريقة، فهل نبعد إذا قلنا: سنة رسول الله: هي طريقته في تبليغ ما أوحي إليه من بيان القرآن - المعاني التي ألهمها - بلفظه وأسلوبه: " حديثاً " أو بفعله: " عملاً " أو بتقريره: " إجازة " وهما في دلالتهما كاللفظ؟!
ترى: هل يمكن الآن اقتراح وضع لفظ " الحكمة " بدل لفظ " السنة " أو العكس؟!
لقد استقر كل لفظ في موضعه، لا ينازعه الآخر فيه.. لأن أياً منهما لا يصلح بديلاً من صاحبه (7)؟!
2. وذكرت السنة في القرآن الكريم بأساليب أخرى، منها:
الأمر بطاعته - صلى الله عليه وسلم -، كقوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم)) [النساء:59]
ومنها: قبول أمره ونهيه - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله تعالى: ((و ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))[الحشر:7]
ومنها: القبول والتسليم لقضائه - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله تعالى: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)) [النساء:65]
ومنها: التحذير من مخالفته - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله تعالى: ((فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم))[النور:63]
ومنها: وجوب اتباعه - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم))[آل عمران:31]. وقوله – سبحانه -: ((و اتبعوه لعلكم تهتدون)). [الأعراف:158]
فهذه النصوص وما في موضوعها تلزم الأمة بهديه - صلى الله عليه وسلم -، وتبين أن ما جاء به فعلى الأمة أن تقبله وأن تعمل به، وهذا هو الذي نسميه " سنته " - صلى الله عليه وسلم - (8).
الهوامش:
(1) انظر: الفقيه والمتفقه 1/88 بتصرف.
(2) الرسالة ص 79، 78
(3) تفسير الطبري 4/163
(4) تفسير الطبري 1/557
(5) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة، رقم (4604)، والترمذي، كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -رقم (2663)، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه. وأخرجه غيرهما وصححه ابن حبان وغيره.
(6) أخرجه الشافعي في الرسالة ص 53 رقم (306) عن المطلب، والحاكم في المستدرك، كتاب البيوع (2/4) عن ابن مسعود، أخرجه شاهداً (لحديث جابر الذي ساقه أصلاً ثم شاهدا لهذا الأصل، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (10/27، 26) عن أبي أمامة، وأخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه ص 92، 93، وضعفه السيوطي في الجامع الصغير (2273).
(7) السنة بياناً للقرآن ص 41-46 بتصرف.
(8) المدخل إلى السنة النبوية ص 21.
-
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 5 )
بسم الله الرحمن الرحيم
السنة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -
ومفهوم السلف الصالح
إن المستقرئ لكتب السنة النبوية وسائر ما يتعلق بها يجد أن كلمة (السنة) قد وردت كثيراً على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك على ألسنة الصحابة والتابعين، وهي بحقيقتها الطريقة المشروعة المتبعة في الدين، والمنهج النبوي الحنيف، وذلك فيما جاء منه في سياق الاستحسان، والثناء، والطلب، والاقتداء، والشواهد على هذا كثيرة جداً، منها:
1- عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا كأنهم تَقَالُّوها فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) (1).
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - استعمل لفظ السنة للدلالة على جملة أحكام الشريعة، فكان المعرض عنها خارجاً عن الإسلام، إن كان إعراضه نتيجة لجحوده.
قال القسطلاني - في بيان المراد من السنة هنا: ((والسنة مفرد مضاف يعم على الأرجح فيشمل الشهادتين وسائر أركان الإسلام، فيكون المعرض عن ذلك مرتداً))(2).
وقال ابن حجر: ((المراد بالسنة: الطريقة، لا التي تقابل الفرض... والمراد: من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري، فليس مني)) (3).
2- عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإنْ عبدا حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) (4).
قال ابن علان: ((فعليكم بسنتي: أي طريقتي وسيرتي القويمة التي أنا عليها، مما فصلته لكم من الأحكام الاعتقادية والعملية، الواجبة والمندوبة وغيرها.
وتخصيص الأصوليين لها بـ: المطلوب طلبًا غير جازم: اصطلاح طارئ، قصدوا به التمييز بينها وبين الفرض)) (5).
وقال العلامة عبد الغني النابلسي في " الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية ": ((قوله - صلى الله عليه وسلم - " فعليكم بسنتي.... الحديث ": أي الزموا، يقال: عليك زيداً، أي الزمه، وسنته اسم لأقواله، وأفعاله، واعتقاداته، وأخلاقه، وسكوته عند قول الغير أو فعله.
والخلفاء جمع خليفة، والمراد من الخلفاء: الأربعة أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي الله تعالى عنهم-، وأفرد الضمير في قوله: ((عضوا عليها)) إشارة إلى أن سنة الخلفاء بعده هي سنته أيضاً، لأنهم سنوها من شريعته، إرشاداً وهداية للقاصدين إلى طريقته - صلى الله عليه وسلم -، لا من قبل نفوسهم لتمشية أغراضها (6).
وقال السيد الشريف علي الجرجاني: (قوله: وسنة الخلفاء، أي الخلفاء الأربعة، وليس المراد نفي الخلافة عن غيرهم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يكون في أمتي اثنا عشر خليفة)) (7). وإنما المراد تفخيم أمرهم، وتصويب رأيهم، والسيادة لهم بالتفوق على غيرهم، وإنما ذكر سنتهم في مقابلة سنته لأنه علم أنهم لا يخطئون فيما يستخرجونه من السنة بالاجتهاد، ولأنه علم أن بعض سنته لا يشتهر إلا في زمانهم، فأضاف إليهم دفعًا لتوهم من ذهب إلى رد تلك السنة) (8).
وقال المنذري: قوله ((عضوا عليها بالنواجذ)) أي اجتهدوا على السنة والزموها واحرصوا عليها، كما يلزم العاض على الشيء بنواجذه خوفاً من ذهابه وتفلته، والنواجذ- بالنون والجيم والذال المعجمة - هي الأنياب، وقيل: الأضراس (9).
3- عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا بني، إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال لي: يا بني، وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة) (10).
فقوله ((وذلك من سنتي)) أي من طريقتي، ومن أحيا سنتي، أي أظهرها وأشاعها بالقول أو العمل (فقد أحبني) أي حبا كاملاً؛ لأن محبة الآثار علامة على محبة مصدرها (ومن أحبني كان معي في الجنة)؛ لأن المرء مع من أحب، وقال الله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين...) [ النساء/69].
4- عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال بن الحارث: ((اعلم، قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء... الحديث)) (11).
فقوله (من سنتي) قال الأشرف: ظاهر النظم يقتضي أن يقال (من سنني) لكن الرواية بصيغة الإفراد، فيكون المراد بها الجنس، أي طريقة من الطرق المنسوبة إلي: واجبة أو مندوبة أخذت عني بنص أو استنباط، كما أفاده إضافة سنة إلى الضمير المقتضية للعموم(12).
5- عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:......إن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي (13).
6- عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لكل عمل شِرَّة - فترة حرص ونشاط - ولكل ِشرَّة فترة -فتور، أي ضعف- فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) (14).
7- عن حذيفة قال: "حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة...." (15).
قال ابن حجر: قوله (ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة): فيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن، والمراد بالسنن ما يتلقونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واجباً كان أو مندوباً (16).
الهوامش:
(1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم (5063)، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه... رقم (3403).
(2) إرشاد الساري (8/4).
(3) فتح الباري (9/105).
(4) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، رقم (4607)، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، رقم (2676) وقال: حديث حسن صحيح.
(5) دليل الفالحين (1/415).
(6) نقلا عن تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار ص 51.
(7) أخرجه البخاري بلفظ (أميرًا)، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف رقم (7222).
(8) نقلاً عن تحفة الأخيار ص 49.
(9) الترغيب والترهيب ص 79.
(10) أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، رقم (2678)، وقال: هذا حديث حسن غريب.
(11) أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، رقم (2817). وقال: هذا حديث حسن، والحديث ضعيف لضعف كثير بن عبد الله، ولكن له شواهد.
(12) شرح مشكاة المصابيح للقاري (1/202).
(13) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، رقم (2775) وقال: حديث حسن. قلت: بل ضعيف لضعف كثير بن عبد الله، لكن الحديث قد صح غالبه من وجوه أخرى.
(14) أخرجه ابن حبان في صحيحه - الإحسان - رقم (394) وقال المنذري في الترغيب (1/87): رواه ابن أبي عاصم وابن حبان في صحيحه.
(15) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة، رقم (6497).
(16) فتح الباري (13/39).
-
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 6 )
بسم الله الرحمن الرحيم
السنة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم (2-4)
1- عن أبي مسعود الأنصاري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة .... ) ([1]) .
قال العلامة شبير العثماني : ( إذا كان في القوم رجال متقاربون في العلم والديانة، ومتساهمون في وجوه الأفضلية, بحيث تصير الإمامة مظنة للتجاذب والتنازع، ويحتاج إلى تجشم المرجحات؛ فيعمل على شاكلة حديث الباب، فيقدم الأقرأ لكتاب الله، والمراد بالقراءة قراءته بفهم معانيه، وأحكامه، كما كان دأب الصحابة وغيرهم من السلف - رضي الله عنهم -، فكان قُرَّاؤُهم علماءهم ، وهم المرادون بلفظ ( القراء) في قصة بئر معونة، وغزوة اليمامة، وقراءة الكتاب بمعانيه وأحكامه لا تكاد تحصل إلا بعلم ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ومعرفة سننه، فإنه - صلى الله عليه وسلم- هو المبين لما أنزل عليه من الكتاب، كما أن علم السنة لا يتم إلا بمعرفة مآخذه من القرآن، فكان علم الكتاب وعلم السنة متساوقين، إلا أن السالكين سبل العلم : منهم من يغلب عليه القرآن ، فيشتغل به اشتغالاً متميزاً كعبد الله بن عباس، وأبي بن كعب من الصحابة - رضي الله عنهم -، ومنهم من يغلب عليه لون الحديث، فيكون أكبر همه اشتغاله واعتناءه بمعرفة السنن، وتحقيق الآثار، وفقهها، بحيث يصير الحديث فنه ، كأبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهما -، فإذا كان في القوة مثل هذين الرجلين فيقدم من غلب عليه علم الكتاب، فإن تقدم الكتاب على سائر الأدلة يقتضي تقديم المشتغل به على من هو مشتغل بغيره، تنويهًا بشأن كتاب الله، وترغيبًا في تحصيل علومه، فإن الله يرفع به أقواماً ويضع به آخرين، وإن كانوا في علم الكتاب سواء فمن غلب عليه علم السنة، فإن كانوا فيه سواء فأقدمهم هجرة .... )) ([1]2).
9- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في حجة الوداع فقال : (( إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروا، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا : كتاب الله وسنة نبيه )) ([1]3).
10- عن عروة قال : سألت عائشة - رضي الله عنها - فقلت لها : أرأيت قول الله تعالى : (( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما )) [ البقرة /158 ] . فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت : بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليها كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار .... وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما )) ([1]4).
قال ابن حجر تعليقًا على قول عائشة : (( سن رسول الله الطواف بين الصفا والمروة )) : (( تنبيه : قول عائشة : سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الطواف بين الصفا والمروة : أي فرض بالسنة، وليس مرادها نفي فرضيتها- أي نفي فرضية هذه العبادة المشروعة – ويؤيده قولها في صحيح مسلم : ولعمري ما أتم الله حج أحدكم ولا عمرته ما لم يطف بينهما )) ([1]5) .
11- عن أبي سعيد الخدري قال : خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيداً طيبا، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد : (( أصبت السنة وأجزأتك صلاتك ))، وقال للذي توضأ وأعاد ( لك الأجر مرتين ) ([1]6).
قال صاحب المرقاة: (أصبت السنة، أي الطريقة الشرعية الثابتة بالسنة، يعني وافقت الحكم المشروع، وهذا تصويب لاجتهاده، وتخطئة لاجتهاد الآخر) ([1]7).
12- عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سن الجزور والبقرة عن سبعة ([1]8).
13-عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا إلا قد علمته، غير ثلاث:
1- لا أدري كان يقرأ في الظهر والعصر أم لا ؟ .
2- ولا أدري كيف كان يقرأ – قوله تعالى : (( وقد بلغت من الكبر عتيا ) أو( عسيا ) ؟ .
3- قال حصين بن عبد الرحمن الراوي عن ابن عباس : ونسيت الثالثة([1]9) .
14- عن أبي هريرة -رضي الله عنه – في قصة قتل المشركين للصحابي الجليل خبيب بن عدي الأنصاري صبرًا – وفيه قول أبي هريرة : ( فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرًا ) ([1]10).
وفي رواية ثانية ( وكان خبيب هو سن لكل مسلم قتل صبرًا : الصلاة )([1]11).
وفي رواية ثالثة ( فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو ) ([1]12).
قال العلامة القسطلاني عند الرواية الأولى : ( وإنما صار فعل خبيب سنة لأنه فعل ذلك في حياة الشارع - صلى الله عليه وسلم - واستحسنه ) ([1]13).
وقال عند الرواية الثانية: ( وإنما صار ذلك سنة، لأنه فعل في حياته - صلى الله عليه وسلم - فاستحسنه وأقره ) ([1]14).
وقال أيضاً عند الرواية الثالثة: ( واستشكل قوله: أول من سن، إذ السنة إنما هي أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله، وأحواله، وأجيب بأنه فعلهما في حياته - صلى الله عليه وسلم- واستحسنهما ) ([1]15) .
وواضح من حديث أبي هريرة السابق، وقصة قتل خبيب فيه : أن لفظ (( السنة))، ولفظ ( سنَّ ) معناه : الفعل المشروع المتبوع في الدين، وعلى هذا فلا يصح لمتفقه أن يستدل على سنية صلاة الركعتين عند القتل، بأن الحديث جاء فيه لفظ ( سنَّ ) فتكون صلاتهما سنة مستحبة، لأن حكم السنية لصلاة ركعتين هنا استفيد من دليل آخر خارج لفظ ( سنَّ ) بلا ريب ، وهو إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم- لفعله .
وكذلك يقال في تفسير حديث جابر - رضي الله عنه - ذي الرقم (12) .
أما حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ذو الرقم ( 13) فناطق صريح بأن معنى ( سنَّ ) – أو السنة – فيه :المشروعات على اختلاف أحكامها، من فرض، أو واجب، أو سنة، أو مندوب، أو مباح ، بل يدخل في أسلوبه الحصري علم ابن عباس - رضي الله عنه - بالممنوعات أيضاً، والتي نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على اختلاف أحكامها ([1]16).
وقد أصبح هذا المعنى للسنة واضحاً ومعلوماً لكل من دخل في الإسلام في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم- نفسه.
[1] - أخرجه مسلم، كتاب الصلاة ، باب من أحق بالإمامة، رقم ( 1532) .
[2] - فتح الملهم ( 4/20 ) ط : دار القلم.
[3] - أخرجه الحاكم في المستدرك ( 1/93) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
[4] - أخرجه البخاري ، كتاب الحج ، باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله ، رقم ( 1643 ) ،ومسلم ، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به ، رقم ( 3079) .
[5] - فتح الباري 3/501.
[6] -أخرجه أبو داود ، كتاب الطهارة، باب المتيمم يجد الماء بعد ما يصلي في الوقت، رقم ( 338) .
[7] -مراعاة المفاتيح ( 1/350) .
[8] - أخرجه أحمد في المسند ( 3/335) بسند حسن .
[9] - أخرجه أحمد في المسند ( 1/257) بسند صحيح .
[10] - أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، باب هل يستأسر الرجل " ومن لم يستأسر ،ومن صلى ركعتين عند القتل ، رقم ( 3045)
[11] -صحيح البخاري ، كتاب المغازي، باب (تابع لباب فضل من شهد بدراً) رقم ( 3989) .
[12] -صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة الرجيع، ورعل، وذكوان ...رقم ( 4086) .
[13] -إرشاد الساري ( 5/165) .
[14] - إرشاد الساري ( 5/261) .
[15] -إرشاد الساري ( 6/314) .
[16] - السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي ص 17.
-
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 7 )
بسم الله الرحمن الرحيم
السنة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم (3-4)
ومما يدل على أن السنة قد عرفت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبارها قرينة للقرآن وتالية له ما يلي:
1- ما رواه مسلم عن أنس بن مالك قال: (جاء ناس إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أن ابعث معنا رجالاً يعلمون القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار، يقال لهم القراء ........)(1) .
2- عن أنس ، أن أهل اليمن قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا : ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام، قال : فأخذ بيد أبي عبيدة فقال : ( هذا أمين هذه الأمة)(2).
3- عن أبي موسى الأشعري قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: (إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا ...)(3).
4- عن معاذ بن جبل لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قال: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في كتاب الله ؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو .فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) (4).
5- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : (إنما سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في هذه الخمسة : في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب والذرة) (5).
6- عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تغلبونا على ثلاث: أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن)(6).
وقد ظل هذا المعنى للسنة النبوية – أنها الطريقة المتبعة في الدين التالية للقرآن العظيم، الشاملة للأحكام الاعتقادية والعملية، واجبة كانت، أو مندوبة، أو مباحة– واضحا في أذهان الصحابة ومن بعدهم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والشواهد على ذلك كثيرة ، منها :
1-عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال : (جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - تسأله ميراثها، فقال : لم أجد لك في كتاب الله تعالى من شيء، وما علمت لك في سنة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة : حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس....) (7).
2- قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حديث فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها -: (لا نترك كتاب الله وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت ....)(8) .
3-عن شقيق بن سلمة قال : سمعت الصبي بن معبد يقول : كنت رجلاً نصرانياً فأسلمت، فأهللت بالحج والعمرة ، فسمعني سلمان بن ربيعة، وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما جميعا بالقادسية، فقالا : لهذا أضل من بعيره، فكأنما حملا عليَّ جبلاً بكلمتهما، فقدمت على عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له ، فأقبل عليهما، فلامهما، ثم أقبل عليّ فقال : هديت لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، هديت لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - (9).
4-وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضا: (سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله) (10).
5-وقال عمر بن الخطاب أيضا في كتابه لشريح القاضي : (إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به، ولا يلتفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به.....) (11).
6-وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (ما سألتمونا عن شيء من كتاب الله تعالى نعلمه أخبرناكم به، أو سنة من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرناكم به، ولا طاقة لنا بما أحدثتم)(12).
7-وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - أيضاً: (فإذا سئلتم عن شيء فانظروا في كتاب الله، فإن لم تجدوه في كتاب الله ففي سنة رسول الله، فإن لم تجدوه في سنة رسول الله فما أجمع عليه المسلمون...)(13) .
8-وقال سالم: (كان عبد الله بن عمر يفتي بالذي أنزل الله - عز وجل - من الرخصة بالتمتع وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه: فيقول ناس لابن عمر: كيف تخالف أباك؟ وقد نهى عن ذلك، فيقول لهم عبد الله: ويلكم ألا تتقون الله ! إن كان عمر نهى عن ذلك فيبتغي فيه الخير، يلتمس به تمام العمرة، فلم تحرمون ذلك ؟وقد أحله الله وعمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أفرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر ؟ )(14).
9-وعن جابر بن زيد أن ابن عمر لقيه في الطواف، فقال له: (يا أبا الشعثاء، إنك من فقهاء البصرة ، فلا تفت إلا بقرآن ناطق، أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت)(15).
10- وعن سالم بن عبد الله بن عمر، أن الحجاج بن يوسف عام نزل بابن الزبير - رضي الله عنهما - سأل عبد الله : كيف تصنع في الموقف يوم عرفة ؟ فقال سالم : إن كنت تريد السنة فَهجِّر بالصلاة يوم عرفة، فقال عبد الله بن عمر : صدق ، إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة، فقلت – القائل ابن شهاب الراوي عن سالم – لسالم : أفعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال سالم: وهل تتبعون في ذلك إلا سنته(16).
يقول السيوطي : (فنقل سالم وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وأحد الحفاظ من التابعين عن الصحابة أنهم إذا أطلقوا (السنة) لا يريدون بذلك إلا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -)(17) .
11- وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - حين قال له رجل: أرأيت أرأيت، فقال: (اجعل أرأيت باليمن، إنما هي السنن)(18). أي الدين المأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
12- وعن عكرمة قال : كان ابن عباس يضع في رجلي الكبل – القيد – ويعلمني القرآن والسنن(19).
13- وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : (ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة ، حتى تحيا البدع وتموت السنن)(20).
14- وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (الهوى عند من خالف السنة حق وإن ضربت فيه عنقه)(21).
15- وقال أبي بن كعب - رضي الله عنه-: (عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة وذكر الرحمن، ففاضت عيناه من خشية الله - عز وجل - فيعذبه)(22).
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، رقم ( 4917).
(2) أخرجه مسلم ، كتاب الفضائل ، باب من فضائل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ، رقم ( 6253) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، رقم ( 904).
(4) أخرجه أبو داود ، كتاب الأقضية ، باب اجتهاد الرأي في القضاء ، رقم ( 3592) ، والترمذي ، كتاب الأحكام ، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي ، رقم ( 1327) ، وأحمد في المسند ( 5/230) ، والدارمي في سننه ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيها من الشدة ، رقم (170) والبيهقي في الكبرى، كتاب أدب القضاء، باب ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي 10/114، وصححه ابن القيم في " إعلام الموقعين " ( 1/243-244) ، وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/3) ، وهذا الحديث في المسند والسنن بسند جيد، وضعفه البخاري وابن الجوزي وابن حزم وغيرهم .
(5) أخرجه ابن ماجه ، كتاب الزكاة ، باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال ، رقم ( 1815) .
(6) أخرجه أحمد في المسند ( 5/165) ، والدارمي ، المقدمة ، باب البلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعليم السنن ، رقم ( 549) .
(7) أخرجه أبو داود ، كتاب الفرائض ، باب في الجدة، رقم ( 2894) ، والترمذي، كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة، رقم ( 2100) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
(8) أخرجه مسلم ، كتاب الطلاق ، باب المطلقة البائن لا نفقة لها، رقم ( 3710) .
(9) أخرجه ابن ماجه ، كتاب المناسك ، باب من قرن الحج والعمرة ، رقم ( 2970) .
(10) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة ، رقم ( 119) .
(11) أخرجه الدرامي، المقدمة، باب الفتيا وما فيه من الشدة، رقم ( 167).
(12) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة ، رقم ( 101) .
(13) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة ، رقم ( 169) .
(14) أخرجه أحمد في مسنده ( 2/95) .
(15) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة ، رقم ( 164) .
(16) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الجمع بين الصلاتين بعرفة، رقم ( 1662).
(17) تدريب الراوي 1/189.
(18) الشرح والإبانة ص 126.
(19) أخرجه الدارمي، المقدمة، باب البلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعليم الناس السنن ، رقم ( 559) .
(20) البدع لابن وضاح ص 38.
(21) الشرح والإبانة ص 122.
(22) أخرجه أبو نعيم في الحلية ( 1/352-353 ) اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد ( 1/54رقم 10 ) .
-
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 8 )
السنة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - (4-4)
1- وقال عبد الله بن عون البصري - رحمه الله - (ت 151هـ): (ثلاث أرضاها لنفسي ولإخواني: أن ينظر هذا الرجل المسلم القرآن فيتعلمه، ويقرأه، ويتدبره، وينظر فيه، والثانية: أن ينظر ذاك الأثر والسنة فيسأل عنه، ويتبعه جهده، والثالثة: أن يدع هؤلاء الناس إلا من خير)(1).
2- وقال الأوزاعي - رحمه الله - (ت 157هـ): (خمس كان عليها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: لزوم الجماعة، واتِّباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، وجهاد في سبيل الله...)(2).
3- وقال سفيان الثوري - رحمه الله - (ت 161هـ): (اتبع السنة ودع البدعة)(3).
4- وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله - (ت 187هـ): (أدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة ينهون عن أصحاب البدع)(4).
5- وقال أبو الخلال - رحمه الله -: (إنه سيأتي على الناس زمان يقوم الرجل يسأل عن سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا يجد أحداً يخبره بها)(5).
والنصوص في هذا المعنى كثيرة، وظاهر منها جميعا أن السنة في الحديث النبوي وكلام الصحابة والتابعين معناها: الطريقة المشروعة المتبعة في الدين، لا ما يقابل الفرض أو الواجب، وفي ذلك يقول ابن حجر: (تقرر أن لفظ السنة إذا ورد في الحديث، لا يراد به التي تقابل الواجب)(6).
ويقول ابن رجب: (والسنة: هي الطريق والسلوك، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو – يعني الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدين – من الاعتقادات، والأعمال، والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة، ولهذا كان السلف قديما لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله، روي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفضيل بن عياض)(7).
وقال السيوطي عن الصحابة والتابعين: (إنهم إذا أطلقوا " السنة " لا يريدون بذلك إلا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -)(8).
فهذه نصوص صريحة واضحة على المراد بالسنة إذا وردت في الحديث، أو في كلام الصحابة والتابعين.
(1) السنة للمروزي، رقم (106)، شرح أصول الاعتقاد (1/ 68 رقم 36).
(2) شرح أصول الاعتقاد (1/71 رقم 48)، شرح السنة للبغوي (1/209).
(3) شرح السنة للبغوي (1/217).
(4) الشرح والإبانة لابن بطه ص 153.
(5) السنة للمروزي، رقم (111).
(6) فتح الباري (10/340).
(7) جامع العلوم والحكم ص 230.
(8) تدريب الراوي (1/189).
-
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 9 )
تساؤل والجواب عليه
قد يتساءل البعض عن هذه الإطالة في إيراد كل تلك النصوص، وعذرنا في ذلك: أن عدم الوقوف عليها ومعرفة مدلولها الصحيح أوقع كثيراً من المثقفين وطلاب العلم في أخطاء منهجية خطيرة، إذا قصروا السنة على مفهوم الفقهاء لها، وهي ما يقابل الفرض أو الواجب، أي ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، وهذا اصطلاح متأخر لا ينبغي حمل كلمة (السنة) عليه؛ لأنه يخص طائفة جُلُّ عملها معرفة أحكام الشرع على أفعال المكلفين، ومن ثم تساوق التعريف مع بحثهم.
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: (مما هو معلوم أن لفظ السنة من الألفاظ الاصطلاحية الفقهية الدائرة في كلام الفقهاء وكتب الفقه باستمرار، وهي عندهم بمعنى ما يقابل الواجب أو الفرض، وقد ظهر هذا الاصطلاح الفقهي وانتشر في القرن الثاني وما بعده، بعد عهد التابعين).
ووقع من بعض فقهاء المذاهب خلط بين المعنيين، فأقاموا لفظ (السنة) الوارد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو كلام الصحابة والتابعين، دليلاً على (سُنِّية) العمل المرغب فيه بالمعنى الاصطلاحي المتأخر، وذلك خطأ يجب التنبه له، فإن لفظ (السنة) الوارد في الأحاديث النبوية، أو كلام الصحابة والتابعين، يعتمد المعنى الشرعي العام، فيشمل الاعتقادات، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، والآداب، وغيره.
وهذه فيها الفرض والواجب، وكل مرغب فيه، ومستحب مشروع من الأقوال، والأفعال، قال العلامة الشيخ عبد الغني النابلسي – رحمه الله تعالى – في: الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية: (وسنته - صلى الله عليه وسلم - اسم لأقواله، وأفعاله، واعتقاداته، وأخلاقه، وسكوته عند قول الغير أو فعله) انتهى.
ولفظ (السنة) الدائر في كلام الفقهاء وكتب الفقه يعتمد المعنى الاصطلاحي الخاص، الذي حددوه بما يقابل الواجب أو الفرض، فالفرق بين المعنيين والاستعمالين ظاهر، والاستدلال على (سُنِّية) العمل بكونه ورد في لسان النبوة أو كلام الصحابة والتابعين بلفظ (السنة) خطأ واضح.
....ثم قال: " ولما روى البخاري في صحيحه في كتاب اللباس في (باب قص الشارب) حديث أبي هريرة المرفوع (الفطرة خمس – أو: خمس من الفطرة – الختان والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب) قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)(1) شارحًا أحكام الختان: (ذهب الشافعي وجمهور أصحابه إلى وجوب الختان – أي للذكور والإناث على السواء – دون باقي الخصال الخمسة المذكورة، وفي وجه للشافعية: لا يجب في حق النساء.
وذهب أكثر العلماء وبعض الشافعية إلى أنه ليس بواجب – أي هو سنة – ومن حجتهم حديث شداد بن أوس رفعه: (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء)(2).
وهذا لا حجة فيه، لما تقرر أن لفظ (السنة) إذا ورد في الحديث لا يراد به التي تقابل الواجب(3)، لكن لما وقعت التفرقة بين الرجال والنساء في ذلك، دلَّ على أن المراد افتراق الحكم.وحديث شداد ضعيف...
والتعبير في بعض روايات حديث أبي هريرة: (خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب) بلفظ: (خمس من السنة) بدل لفظ (الفطرة) يراد بالسنة هنا: الطريقة، لا التي تقابل الواجب، وقد جزم بهذا الشيخ أبو حامد – الغزالي – والماوردي وغيرهما، وقالوا: هو كالحديث الآخر: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين). انتهى كلام الحافظ ابن حجر.
فقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: (تقرر أن لفظ "السنة" إذا ورد في الحديث، لا يراد به التي تقابل الواجب) نص صريح بل قاعدة ناطقة في الموضوع، فينبغي أن يكون طالب العلم على ذكر دائم لهذا، حتى لا يتورط بالاستدلال على سنية الشيء عند الفقهاء بورود لفظ السنة في الحديث، مثلما تقدم ذكره في شرح حديث (الختان سنة للرجال)...
فلفظ (السنة) في الحديث النبوي وكلام الصحابة والتابعين معناه: الطريقة المشروعة المتبعة في الدين، لا ما يقابل الفرض أو الواجب، وهو (السنة) بالمعنى الاصطلاحي عند الفقهاء (4).
هذا هو السبب الأول لإيراد كل تلك النصوص، والتي سبق عرضها، وبيان فهم العلماء لها.
والسبب الثاني الذي دفعنا لتلك الإطالة هو كشف زيف المستشرقين وأذنابهم، الذين تغاضوا عن هذه النصوص، بل وبتروها من سياقها لتحقيق أغراض دنيئة من وراء ذلك، وهو الطعن في السنة وعدم اعتمادها كمصدر إسلامي يعول عليه في أحكام هذا الدين، وسوف نعرض لشبهاتهم حول هذا المصطلح (السنة) لكن بعد تعريف السنة اصطلاحًا، وشرح التعريف، وتبيان علاقة السنة بالحديث، والخبر، والأثر، فإلى ذلك بتوفيق الله تعالى.
(1) فتح الباري (10/340).
(2) أخرجه أحمد (5/75) والبيهقي في السنن الكبرى (8/325)، وهو ضعيف. انظر: نيل الأوطار (1/183-184).
(3) وقال الشوكاني في النيل (1/184): (ومع كون الحديث لا يصلح للاحتجاج، لا حجة فيه على المطلوب؛ لأن لفظ (السنة) في لسان الشارع أعم من (السنة) في اصطلاح الأصوليين).أقول: لعله يعني الفقهاء لأنهم هم الذين يبحثون عن أحكام الشرع على أفعال المكلفين.
(4) السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي ص 9، 10، 18، 19.
-
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 9 )
تساؤل والجواب عليه
قد يتساءل البعض عن هذه الإطالة في إيراد كل تلك النصوص، وعذرنا في ذلك: أن عدم الوقوف عليها ومعرفة مدلولها الصحيح أوقع كثيراً من المثقفين وطلاب العلم في أخطاء منهجية خطيرة، إذا قصروا السنة على مفهوم الفقهاء لها، وهي ما يقابل الفرض أو الواجب، أي ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، وهذا اصطلاح متأخر لا ينبغي حمل كلمة (السنة) عليه؛ لأنه يخص طائفة جُلُّ عملها معرفة أحكام الشرع على أفعال المكلفين، ومن ثم تساوق التعريف مع بحثهم.
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: (مما هو معلوم أن لفظ السنة من الألفاظ الاصطلاحية الفقهية الدائرة في كلام الفقهاء وكتب الفقه باستمرار، وهي عندهم بمعنى ما يقابل الواجب أو الفرض، وقد ظهر هذا الاصطلاح الفقهي وانتشر في القرن الثاني وما بعده، بعد عهد التابعين).
ووقع من بعض فقهاء المذاهب خلط بين المعنيين، فأقاموا لفظ (السنة) الوارد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو كلام الصحابة والتابعين، دليلاً على (سُنِّية) العمل المرغب فيه بالمعنى الاصطلاحي المتأخر، وذلك خطأ يجب التنبه له، فإن لفظ (السنة) الوارد في الأحاديث النبوية، أو كلام الصحابة والتابعين، يعتمد المعنى الشرعي العام، فيشمل الاعتقادات، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، والآداب، وغيره.
وهذه فيها الفرض والواجب، وكل مرغب فيه، ومستحب مشروع من الأقوال، والأفعال، قال العلامة الشيخ عبد الغني النابلسي – رحمه الله تعالى – في: الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية: (وسنته - صلى الله عليه وسلم - اسم لأقواله، وأفعاله، واعتقاداته، وأخلاقه، وسكوته عند قول الغير أو فعله) انتهى.
ولفظ (السنة) الدائر في كلام الفقهاء وكتب الفقه يعتمد المعنى الاصطلاحي الخاص، الذي حددوه بما يقابل الواجب أو الفرض، فالفرق بين المعنيين والاستعمالين ظاهر، والاستدلال على (سُنِّية) العمل بكونه ورد في لسان النبوة أو كلام الصحابة والتابعين بلفظ (السنة) خطأ واضح.
....ثم قال: " ولما روى البخاري في صحيحه في كتاب اللباس في (باب قص الشارب) حديث أبي هريرة المرفوع (الفطرة خمس – أو: خمس من الفطرة – الختان والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب) قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)(1) شارحًا أحكام الختان: (ذهب الشافعي وجمهور أصحابه إلى وجوب الختان – أي للذكور والإناث على السواء – دون باقي الخصال الخمسة المذكورة، وفي وجه للشافعية: لا يجب في حق النساء.
وذهب أكثر العلماء وبعض الشافعية إلى أنه ليس بواجب – أي هو سنة – ومن حجتهم حديث شداد بن أوس رفعه: (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء)(2).
وهذا لا حجة فيه، لما تقرر أن لفظ (السنة) إذا ورد في الحديث لا يراد به التي تقابل الواجب(3)، لكن لما وقعت التفرقة بين الرجال والنساء في ذلك، دلَّ على أن المراد افتراق الحكم.وحديث شداد ضعيف...
والتعبير في بعض روايات حديث أبي هريرة: (خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب) بلفظ: (خمس من السنة) بدل لفظ (الفطرة) يراد بالسنة هنا: الطريقة، لا التي تقابل الواجب، وقد جزم بهذا الشيخ أبو حامد – الغزالي – والماوردي وغيرهما، وقالوا: هو كالحديث الآخر: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين). انتهى كلام الحافظ ابن حجر.
فقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: (تقرر أن لفظ "السنة" إذا ورد في الحديث، لا يراد به التي تقابل الواجب) نص صريح بل قاعدة ناطقة في الموضوع، فينبغي أن يكون طالب العلم على ذكر دائم لهذا، حتى لا يتورط بالاستدلال على سنية الشيء عند الفقهاء بورود لفظ السنة في الحديث، مثلما تقدم ذكره في شرح حديث (الختان سنة للرجال)...
فلفظ (السنة) في الحديث النبوي وكلام الصحابة والتابعين معناه: الطريقة المشروعة المتبعة في الدين، لا ما يقابل الفرض أو الواجب، وهو (السنة) بالمعنى الاصطلاحي عند الفقهاء (4).
هذا هو السبب الأول لإيراد كل تلك النصوص، والتي سبق عرضها، وبيان فهم العلماء لها.
والسبب الثاني الذي دفعنا لتلك الإطالة هو كشف زيف المستشرقين وأذنابهم، الذين تغاضوا عن هذه النصوص، بل وبتروها من سياقها لتحقيق أغراض دنيئة من وراء ذلك، وهو الطعن في السنة وعدم اعتمادها كمصدر إسلامي يعول عليه في أحكام هذا الدين، وسوف نعرض لشبهاتهم حول هذا المصطلح (السنة) لكن بعد تعريف السنة اصطلاحًا، وشرح التعريف، وتبيان علاقة السنة بالحديث، والخبر، والأثر، فإلى ذلك بتوفيق الله تعالى.
(1) فتح الباري (10/340).
(2) أخرجه أحمد (5/75) والبيهقي في السنن الكبرى (8/325)، وهو ضعيف. انظر: نيل الأوطار (1/183-184).
(3) وقال الشوكاني في النيل (1/184): (ومع كون الحديث لا يصلح للاحتجاج، لا حجة فيه على المطلوب؛ لأن لفظ (السنة) في لسان الشارع أعم من (السنة) في اصطلاح الأصوليين).أقول: لعله يعني الفقهاء لأنهم هم الذين يبحثون عن أحكام الشرع على أفعال المكلفين.
(4) السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي ص 9، 10، 18، 19.
-
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 10 )
السنة في اصطلاح الأصوليين( 1- 5 )
عرف الأصوليون السنة بأنها: أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن، وأفعاله، وتقريراته التي يمكن أن تكون دليلاً لحكم شرعي(1).
كأن ما صدر عنه من الأقوال، والأفعال، والتقريرات ،التي تعد من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ليست داخلة في تعريف السنة عند الأصوليين، وكذلك صفاته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها لا تفيد حكماً شرعياً يتعبد الناس به.
لذلك نرى الأصوليين غالباً ما يغفلون الكلام عن الأمور التي هي من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، ومن تكلم منهم عنها فمن باب بيان أنها ليست ملزمة للناس.
السنة في اصطلاح الفقهاء:
1- هي كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن مفروضاً ولا واجباً، مثل تثليث الوضوء، ومثل المضمضة، والاستنشاق عند بعضهم، ومثل تقديم اليمنى على اليسرى، ومثل الركعتين قبل فرض الصبح، ونحو ذلك.
2- وقد يطلقها الفقهاء ويعنون بها، ما يقابل البدعة، كقولهم فيمن طلق زوجته في غير حيض وفي غير طهر التقيا فيه – هذا طلاق سني- في مقابلة الطلاق البدعي، وهو الذي يحدث في طهر التقيا فيه، أو يحدث في حيض، حيث يأبى الإسلام بنظامه العام أن يشق على المطلقات بإطالة العدة(2).
ومرد هذا الاختلاف في الاصطلاح إلى اختلاف الأغراض التي تعنى بها كل فئة من أهل العلم.
فعلماء الحديث:إنما بحثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإمام الهادي الذي أخبر الله عنه أنه أسوة لنا وقدوة، فنقلوا كل ما يتصل به من سيرة، وخلق، وشمائل، وأخبار، وأقوال، وأفعال، سواء أثبت ذلك حكماً شرعياً أم لا.
وعلماء الأصول: إنما بحثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشرع الذي يضع القواعد للمجتهدين من بعده، ويبين للناس دستور الحياة، فعنوا بأقواله، وأفعاله، وتقريراته، التي تثبت الأحكام وتقررها.
وعلماء الفقه: إنما بحثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا تخرج أفعاله عن الدلالة على حكم شرعي، وهم يبحثون عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوباً، أو حرمة، أو إباحة، أو غير ذلك(3).
والذي نعنيه بالسنة هنا: هو اصطلاح المحدثين؛ لأنه يشمل تعريف الأصوليين، ويبحث في السنة النبوية من كل جوانبها.
شرح التعريف:
انتهينا فيما سبق إلى أن السنة عند المحدثين: (هي أقوال النبي – صلى الله عليه وسلم – وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية والخلقية، وسائر أخباره، سواءً كان ذلك قبل البعثة أم بعدها). وإليك شرح هذا التعريف.
يقصد بأقواله – صلى الله عليه وسلم -: كل ما تلفظ به في مختلف الظروف والمناسبات، ويسميه العلماء أيضاً بالسنة القولية، ويجمع فيقال: سنن الأقوال، ومثاله:
1- قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)(4).
2- وقوله – صلى الله عليه وسلم –: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه، قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة ؟ قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحاكم)(5).
3- وقوله – صلى الله عليه وسلم -: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)(6)وغير ذلك.
ويقصد بأفعاله - صلى الله عليه وسلم -: سلوكه وتطبيقه العملي لوحي الله تعالى المنزل عليه، ومثاله:
1- ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: (سمع الله لمن حمده) حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: (ربنا ولك الحمد) ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد،ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس)(7).
2- ما رواه أبو جحيفة قال: (خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة فأتى بوضوء، فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، وبين يديه عنزة)(8).
3- ما رواه ابن عمر - رضي عنهما -: (كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يخب ثلاثة أطواف، ويمشي أربعة، وأنه كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة)(9)وغير ذلك.
ويقصد بتقريراته – صلى الله عليه وسلم -: كل ما صدر عن بعض أصحابه من قول، أو فعل، وأقره - صلى الله عليه وسلم - إما بسكوت منه وعدم إنكار، وإما بموافقة وإظهار استحسان.
وقد يسأل سائل: كيف يكون الإقرار من السنة وهي واجبة الاتباع مع أنه ليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعله ؟.
والجواب: أن الإقرار صار من السنة الشريفة بموافقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو - عليه السلام - لا يقر باطلاً، ولا يسكت على منكر، فما أقره دل على أنه لا حرج فيه، - وذلك كما قال ابن حزم -: لأن الله – عز وجل – افترض عليه التبليغ،، وأخبره أنه يعصمه من الناس، وأوجب عليه أن يبين للناس ما نزل إليهم؛ فمن ادعى أنه - عليه السلام - علم منكراً فلم ينكره فقد كفر؛ لأنه جحد أن يكون - عليه السلام - بلغ كما أمر، ووصفه بغير ما وصفه ربه تعالى، وكذبه في قوله - عليه السلام -: (اللهم هل بلغت؟) فقال الناس: نعم. فقال: (اللهم اشهد) قال ذلك في حجة الوداع(10).
ومن أمثلة الإقرار:
1- إقراره - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه على اجتهادهم في شأن صلاة العصر في غزوة بني قريظة:
حين قال لهم: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)(11).
فقد فهم بعضهم من هذا النهي أنه على حقيقته، وأنه تحرم صلاة العصر إلا في بني قريظة، فأخرها إلى هناك حتى خرج وقتها، وفهم البعض الآخر من هذا النهي: أنه ليس على حقيقته، وأن المقصود منه الحث على الإسراع، فصلاها في وقتها، ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما صنع الفريقان لم يعنف واحداً منهما، ولم ينكره عليه، فكان ذلك منه - صلى الله عليه وسلم- إقراراً بصواب صنيعهما، وصار ذلك سنة تقريرية عنه - صلى الله عليه وسلم-.
2- ما روه عمرو بن العاص – رضي الله عنه – قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال:(يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً)(12).
3- ما رواه عروة بن الزبير أن عائشة قالت: (لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم)(13).
وقد علق الأستاذ الدكتور/ أديب صالح على ذلك قائلاً: (فهذا إقرار منه لا يجوز لأحد بعده أن يعتبر اللعب في المسجد بالسلاح – تمريناً على الحرب واستعداداً للقتال إن احتيج إلى ذلك – أمراً مخالفاً للسنة)(14).
(1) ينظر: فواتح الرحمات بشرح مسلم الثبوت ( 2/96 )، بهامش المستصفى للغزالي، الأحكام في أصول الأحكام للآمدي
( 1/127 )، التحرير في أصول الفقه لابن الهمام ( 3/19/20 )، إرشاد الفحول للشوكاني، ص: 33.
(2) إرشاد الفحول للشوكاني، ص: 33.
(3) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص: 47-49.
(4) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي (1)، ومسلم في الصحيح، كتاب الإمارة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الأعمال بالنية " ( 4890) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
(5) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الأدب، باب من وصل وصله الله، رقم: ( 5987 )، ومسلم في الصحيح، كتاب البر، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها ( 6518) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(6) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الوصايا، باب الوصايا، ( 2738) ومسلم في الصحيح كتاب الوصية
( 4207).
(7) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الأذان، باب التكبير إذا قام من السجود( 789) ومسلم في الصحيح، كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة، ( 868)
(8) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الوضوء، باب استعمال فضل وضوء الناس، رقم ( 187).
(9) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الحج، باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته ( 1617) ومسلم في الصحيح، كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة وفي الطواف الأول في الحج ( 3048) ومعنى: خب: أي يرمل، والرمل: الهرولة، يسعى: يسرع، بطن المسيل: أي الوادي الذي بين الصفا والمروة، وهو قبل الوصول إلى الميل الأخضر المعلق بركن المسجد إلى أن يحاذي الميلين الأخضرين المتقابلين اللذين أحدهما بفناء المسجد، والآخر بدار العباس.
(10) الإحكام في أصول الأحكام 1/146.
(11) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماءً ( 4119).
(12) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح تعليقاً، كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت 1/95، وأبو داود في السنن، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم ؟ ( 334).
(13) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الصلاة، باب أصحاب الحراب في المسجد ( 454) ومسلم في الصحيح، كتاب العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه أيام العيد ( 2064).
(14) لمحات في أصول الحديث، ص: 29، 30.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 11 )
السنة في اصطلاح الأصوليين( 2- 5 )
.ويقصد بصفاته – صلى الله عليه وسلم – الخَلقية: ما يتعلق بذاته وتكوينه، ومن أمثلة ذلك:
1- حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير)(1).
2- حديث البراء أيضاً، قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مربوعاً، بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئاً قط أحسن منه)(2).
3- حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: (ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا شممت ريحاً قط أو عرفاً قط أطيب من ريح أو عرف النبي - صلى الله عليه وسلم-)(3).
ويطرح أستاذنا الدكتور/ مروان شاهين سؤالاً له وجاهته، ويجيب عنه فيقول –حفظه الله-: " يسأل سائل: كيف نعتبر الصفات الخلقية له - صلى الله عليه وسلم - من السنة مع أنه لا يمكن الاقتداء بها؛ لأنها من قدر الله تعالى، ونحن لا نتعلم السنة إلا لكي نقتدي برسولنا - صلى الله عليه وسلم - ونتبعه في هديه كله ؟.
والجواب من عدة وجوه:
أولاً: لكي نعلم الصفات الخلقية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يعقل أن يكون هو رسولنا الذي هدانا الله تعالى به، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور ثم لا نعلم ما هي الهيئة الخلقية التي أوجده الله تعالى عليها.
ثانيا: حتى يتأكد لنا أن الله تعالى قد خلقه على أحسن هيئة، وأكمل صورة بشرية – كما خلقه أيضاً بريئاً من العيوب الخلقية – حتى تجتمع القلوب حوله، وهذا يعتبر من الأدلة على صدق رسالته - صلى الله عليه وسلم -، لأن الله تعالى قد برأ الأنبياء جميعاً من أي عيب خلقي.
ثالثا: لكي يتأكد لنا أن الله تعالى قد أوجده على نفس الهيئة، وبنفس الصفات التي ذكرت في الكتب السابقة، وفي هذا دليل واضح على صدق رسالته - صلى الله عليه وسلم -، ولعل ما ورد في كتب السيرة من قصة بحيرا الراهب الذي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صباه في الثانية عشرة من عمره أثناء رحلته إلى الشام مع عمه أبي طالب، وعرف بحيرا الراهب أنه النبي المنتظر بجملة من العلامات ذكرت له في الكتب السابقة، من بينها خاتم النبوة بين كتفيه - صلى الله عليه وسلم -، والخاتم هذا أمر خلقي عرف به بحيرا أنه - صلى الله عليه وسلم - هو النبي المنتظر.
وقد ذكر القرآن الكريم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مكتوباً في التوراة والإنجيل، فقال عز من قائل: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة الأعراف: 157.
وقد نعى الله تعالى على أهل الكتاب عدم اتباعهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - مع تأكدهم من صدق رسالته، بل ومعرفتهم به كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك كتموا الحق الواضح الصريح وهم يعلمون، قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) سورة البقرة: 46.
يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: (يخبر تعالى أن أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يعرف أحدهم أولاده، ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقيق والإتقان العلمي (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ)، أي: ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - (وَهُمْ يَعْلَمُونَ))(4).
رابعاً: ومن الأسباب التي تجعلنا نعتبر الصفات الخلقية له - صلى الله عليه وسلم - من السنة أيضاً، ما حاوله بعض أعداء الإسلام من إلصاق بعض الصفات غير الحقيقية به - صلى الله عليه وسلم -. ومعرفتنا بصفاته الخلقية تجعلنا ندافع عنه ونحن في موقف القوة والثبات؛ لأنه ثبت بكل الأدلة كمال خلقته - صلى الله عليه وسلم -.
خامساً: نتعلم صفاته الخلقية ونعتبرها من السنة حتى نقتدي بكل ما يمكن الاقتداء به منها، مثل صفة لحيته - صلى الله عليه وسلم - " (5).
ويقصد بصفاته الخُلقية: ما يتعلق بأخلاقه الشريفة - صلى الله عليه وسلم -، ومن أمثلة ذلك:
1- قول السيدة عائشة - رضي الله عنها - حين سئلت عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالت للسائل: (ألست تقرأ القرآن؟ فقال: بلى، قالت: فإن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن)(6).
2- ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها)(7).
3- ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: قال: (لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)(8).
هذه بعض أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -، ولقد وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى درجة الكمال البشري فاتصف بكل صفات هذا الكمال البشري، ووجدت فيه كل صفة على أعلى درجاتها، وكمال هيئتها.
وامتدحه رب العزة قائلاً: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم: 4.
ولله در القائل:
يا مصطفى من قبل نشـأة آدم والكون لم تفتح له أغـلاق
أيروم مخلوق ثناءك بعـدمــا أثنى على أخلاقك الخـلاق
ويقصد بسائر أخباره: ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - في كل أحواله، حركة وسكوناً، ويقظة ومناماً، سواءً كان ذلك قبل البعثة أم بعدها.
أما حركاته: فهي وسائل تربوية: يقصد من ورائها شد انتباه المتلقي، ولفت نظره إلى أهمية ما يلقى عليه، ومن الأمثلة على ذلك:
1- قوله – صلى الله عليه وسلم – (التقوى ها هنا، وأشار إلى صدره ثلاثاً)(9). فهذه الحركة المتمثلة في الإشارة أفادتنا أن محل التقوى هو القلب.
2- قوله – صلى الله عليه وسلم – (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، قال الراوي: وكان متكئاً فجلس، ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور ثلاثاً، حتى قلنا: ليته سكت)(10).
فتغيير النبي - صلى الله عليه وسلم - من وضعه وحركته أفاد خطورة ما جاء بعدها حتى يحذره القوم، ويقدرونه قدره.
3- قول عبد الله بن مسعود: خط رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطا مستقيمًا، ثم قال: (هذا سبيل الله مستقيماً، وخط عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه السبل ليس منها إلا عليه شيطان يدعو إليه) ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(11)سورة الأنعام: 153.
4- وعن ابن مسعود أيضاً قال: خط النبي – صلى الله عليه وسلم – خطاً مربعاً، وخطَّ خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خطوطاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: (هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به – أو قد أحاط به -، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)(12).
ففي هذين الحديثين استخدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الرسم كوسيلة إيضاح لإيصال ما يريده إلى ذهن أصحابه، وهذا ما يأخذ به علماء التربية اليوم في التعليم والتلقي، وقد سبقهم إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منذ خمسة عشر قرناً من الزمان.
(1) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ( 3549) ومسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان أحسن الناس وجهاً ( 6066).
(2) المرجع السابق.
(3) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ( 3561) ومسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب طيب رائحة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولين مسه والتبرك بمسحه ( 6053).
(4) تفسير ابن كثير 1/194.
(5) تيسير اللطيف الخبير في علوم حديث البشير النذير 1/21، 22.
(6) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، وهو جزء من حديث طويل،
( 1739).
(7) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ( 6102) ومسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه - صلى الله عليه وسلم - ( 6032).
(8) المرجع السابق.
(9) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الآداب والصلة، باب تحريم ظلم المسلم من حديث طويل 2/424.
(10) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، ( 2654) ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها ( 259).
(11) الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/465، والحاكم في مستدركه، كتاب التفسير ( 2/318) وقال: صحيح ولم يخرجاه.
(12) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله ( 6417).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
وإياكم اخى الفاضل
بارك الله فيكم
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 12 )
السنة في اصطلاح الأصوليين( 3- 5 )
وأما سكوته: فإننا نستفيد منه أحكاماً شرعية، ومثال ذلك:
ما رواه البراء بن عازب – رضي الله عنه – قال: (خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في جنازة فانتهينا إلى القبر، فجلس وجلسنا كأن على رؤوسنا الطير)(1).
ففي هذا الحديث مشروعية السكون والسكوت عند دفن الموتى من أجل العظة والاعتبار.
وأما ما كان في يقظته فلا إشكال فيه – كما يقول أستاذنا الدكتور/ مروان شاهين – لأن أمر النبوة واضح أثناء اليقظة.
لكن الذي يستشكل على البعض فهو ما يراه – صلى الله عليه وسلم – في نومه، وكيف هو من الوحي؟ بل كيف هو من السنة الواجبة الاتباع؟ خصوصاً وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد علمنا أن النائم غير مكلف في ما ورد من قوله – صلى الله عليه وسلم -: (رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يصح، وعن الصبي حتى يحتلم)(2).
وإليك الجواب:
قامت الأدلة من القرآن والسنة – على أن ما يراه الأنبياء في نومهم هو من وحي الله تعالى إليهم، ففي القرآن الكريم نجد غلاماً حليماً في أوائل العقد الثاني من عمره، قد فقه بالبداهة والفطرة: أن الرسول رسول حتى في نومه، فالنوم لا يمكن أن يخرج الرسول عن رسالته، ولو قال الرسول: إني أرى مناماً، فقل له: هذا أمر من الله واجب التنفيذ والطاعة والتسليم، كما قال الغلام الحليم إسماعيل لأبيه الخليل إبراهيم - عليهما السلام - وعلى جميع المرسلين الصلوات والتسليم حين قال له كما حكى القرآن: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) سورة الصافات: 102.
ومما يختص برسولنا – صلى الله عليه وسلم – مما جاء في القرآن الكريم، قول الله تعالى في سورة الأنفال: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً....) الآية. سورة الأنفال، 43.
فالآية واضحة الدلالة في أن ما يراه النبي – صلى الله عليه وسلم – في نومه من رؤيا إنما هو من عند الله تعالى وليس من أي جهة أخرى، (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ).
ومن الأدلة على ذلك أيضاً قول الله تعالى في سورة الفتح:
(لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً)، سورة الفتح، 27.
فإذا انتقلنا إلى السنة المطهرة فسنجد أدلة كثيرة على ذلك.
من بينها ما جاء في صحيح البخاري - رحمه الله تعالى - بسنده إلى أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: (أول ما بُدِئ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)(3).
فالحديث ينص صراحة على أن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوحي، وأنه كان لا يرى شيئاً إلا جاء واضحاً جلياً مثل ضوء النهار.
ولقد لفت نظري وأنا أتتبع ما أراه الله تعالى للنبي – صلى الله عليه وسلم – في نومه، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يبدأ حديثه غالباً عن الرؤيا في نومه بقوله: (أُرِيتُ كذا) أو (أريتكم...) فالفعل في أول الحديث يأتي بالبناء للمجهول ليدلنا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرى من قبل نفسه، وإنما هناك من يريه وهو الله تعالى.
فمن أمثلة ذلك ما روته السيدة عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – مخاطباً السيدة عائشة: (أريتك في المنام مرتين: إذ رجل يحملك في سرقة من حرير. فيقول: هذه امرأتك فاكشفها، فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه)(4).
ولقد كانت هذه الرؤيا – وغيرها – من عند الله تعالى فأمضاها – سبحانه -، وكانت السيدة عائشة من أزواجه أمهات المؤمنين.
ومن أمثلة ذلك أيضاً ما خاطب به النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه قائلاً فيما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر: (أريتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد " وزاد مسلم من حديث جابر " أن ذلك كان قبل موته – صلى الله عليه وسلم – بشهر)(5).
فالحديث كما نلاحظ قد بدأ بقوله: (أريتكم) بالبناء للمجهول، ولأن علماء الحديث – وكل علماء الإسلام – يعلمون أن ما يراه الرسول – صلى الله عليه وسلم – في نومه هو من وحي الله تعالى، فقد أخذوا من الحديث المذكور درساً عظيماً، وهو أن من بين الأدلة على إثبات الصحبة أن يكون الصحابي قد عاش قبل عشرة ومائة للهجرة، فمن جاء بعدها وزعم أنه صحابي فإننا نرد قوله أخذًا من هذا الحديث الشريف.
على أنه - صلى الله عليه وسلم - قد يبدأ حديثه عما يراه في نومه بقوله: (رأيت) وذلك في القليل النادر.
ومن ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – في رؤيته عن هجرته إلى المدينة (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب)(6). ووهلي أي: ظني.
ورغم التعبير بقوله: (رأيت) إلا أن ذلك أيضاً من الله تعالى ؛ بدليل أنه – صلى الله عليه وسلم – ما كان له أن يحيد عن المدينة (كدار) للهجرة ويهاجر إلى غيرها؛ لأن المدينة هي المكان الذي اختاره الله تعالى له، فلا يتركه أبداً إلى غيره.
وقد وردت هذه الرواية عند البيهقي مبتدئة بقوله – صلى الله عليه وسلم -: (أريت دار هجرتكم) وهي بذلك تلتقي مع الأمثلة التي ذكرناها سابقاً.
إن كل ما سبق يعطينا الدليل الأكيد على أن ما يراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء جميعاً أثناء النوم هو من الوحي الذي نلتزم به.
ومن الأدلة العقلية على ذلك: أن ما يراه الناس في نومهم إما أن يكون من الله تعالى أو من الشيطان؛ كما ورد بذلك الحديث الصحيح الذي رواه أبو قتادة الأنصاري - رضي الله عنه -: (الرؤيا الحسنة من الله، والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئاً يكرهه، فلينفث عن شماله ثلاثاً، وليتعوذ من الشيطان، فإنها لا تضره)(7).
والشيطان – كما نعلم – ليس له سلطان على الأنبياء؛ لأن الله تعالى قد عصمهم من كيده فلن يأتيهم في نومهم، ولقد نزع الله تعالى حظ الشيطان من نبينا – صلى الله عليه وسلم – في مرحلة مبكرة من عمره – وهو طفل رضيع في بادية بني سعد، فحفظه بذلك من وسوسة الشيطان.
فقد روى مسلم بسنده إلى أنس بن مالك: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أتاه جبريل - عليه السلام - وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره - فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره(8).
فنحن نرى أن الله تعالى قد طهر قلب نبيه – صلى الله عليه وسلم – منذ صغره، فلم يكن للشيطان عليه سبيل، وما دام الأمر كذلك فإن ما يراه في نومه ليس من قبيل الشيطان أبداً، وإنما هو وحي من الله تعالى(9).
(1) الحديث أخرجه النسائي في سننه، كتاب الجنائز، باب الوقوف للجنائز ( 2003) وابن ماجه في سننه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الجلوس في المقابر ( 1548).
(2) الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الحدود 4/389، وقال: صحيح الإسناد.
(3) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي ( 3) ومسلم في الصحيح، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (403).
(4) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة ( 3895).
(5) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب فضائل الصحابة، باب بيان معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " على رأس مائة سنة لا يبقى نفس منفوسة... " ( 6479، 6481).
(6) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح تعليقا، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - 2/331، ومسلم في الصحيح، كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم –
( 5934).
(7) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده ( 3292)، ومسلم في الصحيح، كتاب الرؤيا باب في كون الرؤيا من الله وأنها جزء من النبوة، (5897).
(8) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفرض الصلوات ( 413).
(9) تيسير اللطيف الخبير، ص: 25-27.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 13 )
السنة في اصطلاح الأصوليين( 4- 5 )
* بقي من جزئيات التعريف قولنا: (سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها).
أي: أن ما صدر عنه – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة أو بعدها داخل في إطار السنة، وقد لا يستشكل الأمر بالنسبة لما كان بعد البعثة؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – صار بعدها رسولاً، وصرنا مأمورين بالاقتداء به امتثالاً لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) سورة الأحزاب: 21. أما قبل البعثة، فلم يكن الوحي ينزل عليه، ولم نكن مأمورين بالاقتداء به، فكيف تعد أحواله قبل البعثة من السنة؟.
والجواب:
إن أحواله، وصفاته، وأخلاقه قبل البعثة دليل أكيد على نبوته، وأمارة صدقٍ على رسالته، فهي داخلة في مفهوم السنة، فقد كان يتحنث (يتعبد) في الجاهلية في غار حراء، وكانت الأحجار والأشجار تسلم عليه، واشتهر بالصدق والأمانة.
وهذه الصفات، وتلك الأخلاق، كانت الركائز الأساسية التي اعتمد عليها وهو يدعو قومه.
فمثلاً شهرته بالصدق والأمانة قبل بعثته كان دليلاً قوياً على صدق رسالته، وجعل الكفار يعجزون عن اتهامه بضد هذه الصفات، ولقد قالوا عنه: إنه ساحر، أو كاهن، ولكنهم لم يجرؤوا أبداً على اتهامه بعكس الصدق والأمانة، وهذا ما اعتمد عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه في إثبات صدق نبوته حينما نزل عليه الأمر الإلهي: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأََقْرَبِينَ) سورة الشعراء: 214.
فقد صعد على الصفا ونادى قبائل قريش جميعاً – حتى إذا اجتمعوا – بدأ حديثه معهم قائلاً: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد... )(1).
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبدأ حديثه معهم بالإنذار مباشرة، وإنما أخذ منهم إقراراً بصدقه – صلى الله عليه وسلم – قبل بعثته، إذن فهو صادق اليوم في رسالته.
وهذا – أيضاً – هو الذي اعتمد عليه هرقل ملك الروم في إثباته لصدق نبوة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في قصة طويلة ذكرها البخاري وغيره – أثناء حديث هرقل مع أبي سفيان – حينما سأل أبا سفيان الذي كان لا يزال حتى وقت سؤال هرقل له مشركاً(2).
لقد جاء كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام – فأراد أن يعرف بعض أحوال هذا النبي الجديد – فجاءوا له بأبي سفيان فسأله هرقل عن كثير من أحوال النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة،وأيضاً سأل عما يدعو إليه بعد البعثة، وفي نهاية اللقاء قال هرقل لأبي سفيان: (فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه)(3).
ولقد صدقت توقعات هرقل، فبعد مضي ما لا يزيد على سبع سنوات فتح الله بلاد الشام للمسلمين بعد أن كان يحكمها الروم، وخرج هرقل من حمص التي كان يقيم بها.
المهم في ذلك كله أن كثيراً من أحواله – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة تعطي الأدلة الواضحة على صدق رسالته بعد البعثة، وهذا ما جعل العلماء يعتبرونها جزءاً من السنة.
وإذ قد انتهينا من تعريف السنة وشرح متعلقاتها، فإننا – بعون الله وتوفيقه – ننتقل إلى التعريف ببقية المصطلحات الأخرى التي تشترك معها لنكشف عن معناها، ونوضح علاقتها بالسنة، اتفاقاً واختلافاً، وتلك المصطلحات هي: الحديث – الخبر – الأثر.
أ – معنى الحديث(4):
الحديث في اللغة له معان ثلاثة:
الأول: الحديث بمعنى الجديد الذي هو ضد القديم، يقال لبست ثوباً حديثاً، أي: جديداً، وركبت سيارة حديثة، تعني: سيارة جديدة.
الثاني: الحديث بمعنى الكلام، ومنه قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباًً) سورة الزمر: 23، أي: نزل أحسن الكلام، وقوله تعالى: [فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ] سورة المرسلات: 50، أي: إن لم يؤمنوا بالقرآن الكريم، فبأي كلام بعده يؤمنون.
الثالث: الحديث بمعنى الخبر والنبأ، ومنه قوله تعالى: [ هل أتاك حديث موسى] سورة النازعات: 15، وقوله تعالى: [ هل أتاك حديث الغاشية] سورة الغاشية: 1.
الحديث اصطلاحاً: للعلماء في تعريفه أقوال:
1- قال جمهور المحدثين: هو: أقوال – النبي – صلى الله عليه وسلم – سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية والخلقية، وسائر أخباره سواءً كان ذلك قبل البعثة أم بعدها، وكذلك أقوال الصحابة والتابعين، وأفعالهم(5).
وعليه يكون الحديث شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، ويكون مرادفاً للسنة على القول الثالث، لكن جرى اصطلاح المحدثين على أن الحديث إذا أطلق ينصرف إلى ما جاء عنه – صلى الله عليه وسلم – ولا يستعمل في غيره إلا مقيداً.
2- وقيل هو: أقواله – صلى الله عليه وسلم – سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته خاصة(6).
وعليه يكون مقصوراً على المرفوع فقط، ويكون مرادفاً للسنة على القول الأول.
3- وقيل هو: أقواله - صلى الله عليه وسلم - خاصة(7).
فيكون مقابلاً لتعريف السنة على رأي من يعرفها بأنها: الطريقة العملية المتواترة التي بين بها النبي – صلى الله عليه وسلم – القرآن. وكأن صاحب هذا التعريف استند في تقريره إلى المعنى اللغوي الثاني. وهو أن الحديث يطلق على الكلام قل أم كثر.
وفي ضوء هذا التعريف نستطيع فهم كلمة الإمام عبد الرحمن بن مهدي حينما سئل عن الأئمة: مالك بن أنس والأوزاعي وسفيان بن عيينة فقال: "الأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، وسفيان إمام في الحديث وليس بإمام في السنة، ومالك إمام فيهما ".
وإجابة عبد الرحمن بن مهدي واضحة الدلالة على أن السنة – في مثل هذا الاستعمال – إنما يراد بها الجانب العملي في الإسلام، أما الحديث فهو الاشتغال بما نقل لنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقواله، وأفعاله، وتقريراته(8).
على أن هذا التفريق لم يعش طويلاً فيما بعد، وأضحت الكلمتان مترادفتين، ولا يذكر هذا التفريق إلا من أجل فهم مثل العبارة الواردة عن ابن مهدي والتي ذكرناها آنفاً(9).
وفي هذا يقول الدكتور/ صبحي الصالح: (ولئن أطلقت السنة في كثير من المواطن على غير ما أطلق الحديث، فإن الشعور بتساويهما في الدلالة أو تقاربهما على – الأقل – كان دائماً يساور نقاد الحديث، فهل السنة العملية إلا الطريقة النبوية التي كان الرسول – صلوات الله عليه – يؤيدها بأقواله الحكيمة، وأحاديثه الرشيدة الموجهة؟ وهل موضوع الحديث يغاير موضوع السنة؟ ألا يدوران كلاهما حول محور واحد؟ ألا ينتهيان أخيراً إلى النبي الكريم في أقواله المؤيدة لأعماله، وفي أعماله المؤيدة لأقواله؟.
حين جالت هذه الأسئلة في أذهان النقاد لم يجدوا بأسا في أن يصرحوا بحقيقة لا ترد: إذا تناسينا موردي التسميتين كان الحديث والسنة شيئا واحداً، فليقل أكثر المحدثين: إنهما مترادفان "(10).
(1) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب التفسير، تفسير سورة الشعراء (4770) ومسلم، في الصحيح، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: [ وأنذر عشيرتك الأقربين ] (508).
(2) كان سؤال هرقل في السنة السابعة للهجرة، وأسلم أبو سفيان بعد ذلك في السنة الثامنة عند فتح مكة.
(3) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، رقم (7).
(4) ينظر: الصحاح للجوهري، مادة (حدث) 1/278، ولسان العرب، نفس المادة 2/796، والقاموس المحيط، نفس المادة 1/170.
(5) ينظر: الخلاصة للطيي، ص: 30، وشرح شرح النخبة لملا على القاري، ص: 16، وتدريب الراوي 1/42، وقواعد في علوم الحديث للتهانوي، ص: 24، وظفر الأماني، ص: 32.
(6) ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، تدريب الراوي، 1/42، ظفر الأماني، ص: 32.
(7) ينظر: تحقيق معنى السنة وبيان وجه الحاجة إليها، ص: 12-23بتصرف كثير.
(8) ينظر: تنوير الحوالك شرح موطأ مالك (1/3).
(9) الحديث النبوي للدكتور الصباغ صـ 146.
(10) علوم الحديث ومصطلحه صـ 9، 10.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 14 )
السنة في اصطلاح الأصوليين( 5- 5 )
إذن فمعنى السنة والحديث عند علماء الشرع واحد من حيث إطلاق أحدهما مكان الآخر، ففي كل منهما إضافة قول،، أو فعل، أو تقرير، أو صفة، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن هنا يظهر فساد قول جولد تسيهر: في كتابه (دراسات محمدية) يجب أن يكون مصطلح (الحديث) ومصطلح (السنة) متميزين عن بعضهما(1)، فهما ليسا بمعنى واحد، وإنما السنة دليل الحديث(2).
وجولد تسيهر بزعمه هذا لم يفرق بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية للفظتين: " الحديث " و " السنة "، لذلك تراه يخلط في الموضوع بعدم التزامه باصطلاحات علماء الشرع، مما جعله يظن أن الخلاف في معاني لفظ " حديث " و " سنة " هو نوع من الاضطراب في التفكير عند المسلمين ، وهذه الاصطلاحات قد استوفيناها قبل قليل، فظهر أنه لم يعتبر اصطلاحات القوم ، بل لم يقترب منها أدنى الاقتراب.
وقوله: (إنما السنة دليل الحديث) هذه الدعوى جره إليها تفريقه بين الحديث والسنة، وكان الأشبه العكس، فالحديث دليل السنة، فهما بمعنى واحد في اصطلاح الأصوليين.
ومن هنا جاء قولهم: سنة ثابتة عن الرسول ، وسنة غير ثابتة عنه.
فالأولى: لأنه ثبت عن الرسول الكريم أنه قال ذلك الشيء، أو فعله، أو أقره، وطريقة ثبوت ذلك عن الرسول هو وجود الحديث الشريف الذي يتضمن ذلك ويشهد عليه.
الثانية: لأنه لم نجد حديثا عن النبي قولاً، أو فعلاً، أو تقريراً، يؤكدها، فهي بذلك سنة غير ملزمة، وكذلك إذا قيل: السنة كذا، ومن السنة كذا، وهكذا السنة كلها دليل شرعي ملزم، لأن ذلك ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه(3).
ب- معنى الخبر:
الخبر لغة: مأخوذ من الفعل " خبر " بفتح الخاء المعجمة والباء المنقوطة بواحدة من تحت، ومعناه: علم الشيء على حقيقته.
وقيل: هو مشتق من " الخبار " ، وهي الأرض الرخوة، لأن الخبر يثير الفائدة كما أن الأرض الخبار تثير الغبار إذا قرعها الحافر ونحوه ، وهو عند أهل اللغة: اسم لما ينقل ويتحدث به ، والجمع أخبار، مثل: سبب وأسباب(4).
الخبر اصطلاحاً: للعلماء في تعريفه أقوال:
1- قال جمهور المحدثين: هو: أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم – سوى القرآن – وأفعاله، وتقريراته، وصفاته ، وأقوال الصحابة والتابعين، وأفعالهم(5).
وعليه يكون شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، ويكون مرادفاً للسنة على القول الثالث، وللحديث على القول الأول.
2- وقيل هو: أقواله – صلى الله عليه وسلم – سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته خاصة(6).
وعليه يكون مقصوراً على المرفوع، ويكون مرادفاً للسنة على القول الأول، وللحديث على القول الثالث.
3- وقيل هو: ما جاء عن غير النبي – صلى الله عليه وسلم – والصحابة والتابعين من هذه الأمة أو غيرها من الأمم السابقة، كأن الخبر في هذا الحال خاص بالتاريخ، وليس من الألفاظ المستعملة في اصطلاح المحدثين.
ومن هنا شاع إطلاق " الإخباري " على المشتغل بالتواريخ، بينما شاع إطلاق اسم " المحدث " على المشتغل بالسنة النبوية(7).
وعلى هذا المعنى الأخير تكون العلاقة بين الخبر، والسنة، والحديث هي التباين والتضاد.
4- وقيل هو: ما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وعن غيره من الصحابة والتابعين فمن بعدهم(8).
وعليه يكون شاملاً للمرفوع ، والموقوف، والمقطوع، وسائر أنواع الحديث الأخرى، ويكون أعم من السنة والحديث.
ج – معنى الأثر:
الأثر لغة: مأخوذ من أثرت الشيء – بفتح الهمزة والثاء المثلثة – أي: نقلته أو تتبعته، ومعناه عند أهل اللغة: ما بقي من رسم الشيء وضربة السيف، ويجمع على آثار، مثل: سبب وأسباب(9).
الأثر: اصطلاحاً: للعلماء في تعريفه أقوال:
1-قال جمهور المحدثين: هو أقوال النبي – صلى الله عليه وسلم – سوى القرآن ، وأفعاله ، وتقريراته، وصفاته، وأقوال الصحابة، والتابعين، وأفعالهم(10).
وعليه يكون شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، ويكون مرادفاً للسنة على القول الثالث، وللحديث وللخبر على القول الأول.
وبهذا المعنى سمى الحافظ الطحاوي كتابه: " شرح معاني الآثار المختلفة المأثورة".
2-وقال فقهاء خراسان: يطلق الأثر على أقوال الصحابة، والتابعين، وأفعالهم فقط(11).
وعليه يكون مقصوراً على الموقوف والمقطوع فقط، ويكون أخص من السنة على القول الثالث، ومن الحديث، والخبر، على القول الأول.
وبهذا المعنى سمى الإمام محمد بن حسن الشيباني كتابه الذي ذكر فيه الآثار الموقوفة بكتاب: " الآثار ".
3-وقيل هو: أقواله – صلى الله عليه وسلم – سوى القرآن ، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته خاصة(12).
وعليه يكون مقصوراً على المرفوع، ويكون مساوياً للسنة والحديث والخبر على بعض الأقوال.
والخلاصة:
أن المحدثين تارةً يستعملون الألفاظ الأربعة ويريدون منها: المرفوع فقط.
وتارةً يستعملونها ويريدون منها: المرفوع، والموقوف، والمقطوع.
وتارة يخصصون السنة: بطريقته – صلى الله عليه وسلم – العملية المتواترة التي بين بها القرآن الكريم.
والحديث: بأقواله - صلى الله عليه وسلم - فقط.
والخبر: بالحوادث أو بالوقائع التاريخية.
والأثر: بأقوال الصحابة والتابعين، وفتاواهم، وأفعالهم.
والقرينة: هي التي تحدد المراد في كل هذه الاستعمالات.
(1) نقلاً عن " ضوابط الرواية عند المحدثين " صـ 314.
(2) العقيدة والشريعة في الإسلام ص: 49، وممن فرق بينهما أيضاً الأستاذ محمد رشيد رضا. انظر: مجلة المنار (10/852، 853).
(3) ضوابط الرواية عند المحدثين ص 314، 322 بتصرف، السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام1/48، 49.
(4) ينظر: لسان العرب ، مادة: خبر ، المصباح المنير 1/251، وعنها نقل الشوكاني في إرشاد الفحول ، ص: 42.
(5) ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، وشرح النخبة، ص: 16، وتدريب الراوي 1/42.
(6) ينظر: شرح شرخ نخبة الفكر، ص: 16، وشرح النخبة، ص: 16، وتدريب الراوي 1/42، وظفر الأماني ، ص: 32.
(7) ينظر: المصادر السابقة.
(8) ينظر: المصادر السابقة.
(9) ينظر: لسان العرب، مادة " أثر " 1/25، الصحاح للجوهري 2/574، المعجم الوسيط 1/5.
(10) ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، تدريب الراوي 1/42، ظفر الأماني، ص: 33، قواعد في علوم الحديث، ص: 25.
(11) ينظر: نفس المصادر السابقة.
(12) ينظر: نفس المصادر السابقة.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 15 )
وقفة مع تخرصات المستشرقين وأوهام المستغربين ( 1- 2)
عرضنا فيما سبق لتعريف السنة في اللغة والاصطلاح، وذكرنا استعمالها في القرآن الكريم، ومفهومها في السنة ولدى سلف الأمة، ونبهنا قبل ذلك على ضرورة إدراك الفوارق بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية؛ لأن عدم إدراك ذلك والجهل به يوقع صاحبه في خلط كثير، ولغط كبير، وهذا ما حدث لمصطلح السنة، فنرى أعداء الإسلام والسنة المطهرة قد استغلوا هذه الفوارق استغلالاً بشعا ينبئ عن حقدهم الدفين على الإسلام وأهله، فهم في هجومهم على السنة المطهرة يركزون على بعض معانيها اللغوية أو الاصطلاحية مهملين _عن جهل تارة، وعن علم تارة أخرى_ باقي معانيها الاصطلاحية؛ بغية الوصول إلى هدفهم وغايتهم من التشكيك في حجيتها، وعدم العمل بها، ومن ذلك تركيزهم على معنى السنة في اصطلاح الفقهاء، وهي ما ليس بواجب مما يمدح فاعلها ولا يذم تاركها(1).
وهذا التعميم في تعريف السنة محض الضلال(2)؛ إذ فيه صرف لهذه الكلمة عن معناها الاصطلاحي عند المحدثين وعلماء الأصول، وعلى أنها مصدر تشريعي مستقل ملازم للقرآن الكريم في الاحتجاج، وأن الأحكام التكليفية الخمسة تدور فيها، كما تدور في القرآن الكريم بالتمام(3).
ومن المعاني اللغوية التي يركز عليها أعداء الإسلام في تعريفهم بالسنة؛ معناها الوارد بمعنى الطريقة والسيرة، حسنة كانت أو سيئة، ويعبرون عن ذلك المعنى بالعادة والعرف كما قال المستشرق (جولد تسيهر)(4): (السنة هي جماع العادات والتقاليد الوراثية في المجتمع العربي الجاهلي ؛ فنقلت إلى الإسلام، فأصابها تعديل جوهري عند انتقالها، ثم أنشأ المسلمون من المأثور من المذاهب، والأقوال، والأفعال، والعادات، لأقدم جيل من أجيال المسلمين سنة جديدة)(5). وتابعه على ذلك سائر من جاء بعده من المستشرقين(6).
وردد هذا الكلام الدكتور/ علي حسن عبد القادر في كتابه(7) (نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي) فقال: (وكان معنى السنة موجوداً في الأوساط العربية قديماً، ويراد به الطريق الصحيح في الحياة للفرد وللجماعة، ولم يخترع المسلمون هذا المعنى، بل كان معروفاً في الجاهلية، وكان يسمى عندهم سنة هذه التقاليد العربية وما وافق عادة الأسلاف. وقد بقي هذا المعنى في الإسلام في المدارس القديمة في الحجاز، وفي العراق أيضاً، بهذا المعنى العام يعني العمل القائم، والأمر المجتمع عليه في الأوساط الإسلامية، والمثل الأعلى للسلوك الصحيح من غير أن يختص ذلك بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخيراً حدد هذا المعنى، وجعلت السنة مقصورة على سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويرجع هذا التحديد إلى أواخر القرن الثاني الهجري، بسبب طريقة الإمام الشافعي التي خالف بها الاصطلاح القديم)(8).
وأقول: نعم، لفظ السنة ومعناها كانا معروفين في لغة العرب قبل الإسلام، ولم يخترع المسلمون هذه الكلمة، ولا معناها، ولكن ليس الأمر كما زعم المستشرقون والدكتور/ علي حسن عبد القادر من أن معنى السنة في صدر الإسلام العادة والعرف(9) الجاهلي، أو أنها الطريق الصحيح فقط، وإنما تشمل الطريق الصحيح وغير الصحيح على رأي جمهور علماء اللغة، ويؤيدهم في الإطلاق القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والأشعار الجاهلية، وقد سبق بيان ذلك.
كما أن استعمال القرآن الكريم والسنة المطهرة لكلمة السنة بالمعنى اللغوي لا يعني ذلك أن هذا المعنى اللغوي (الطريقة)، أو (السيرة)، أو (العادة) هو المراد شرعاً بالسنة، فهذه الكلمة انتقلت من معناها اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي (سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشاملة لأقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية والخلقية....)، وهي بهذا المعنى مصدر تشريعي ملازم للقرآن الكريم، لا ينفك أحدهما عن الآخر.
وهذا المعنى الاصطلاحي لكلمة السنة كان محدداً ومعلوماً في صدر الإسلام والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين ظهراني أصحابه - رضي الله عنهم -،وليس الأمر كما زعم الدكتور/ علي حسن عبد القادر تبعاً للمستشرقين أن هذا المعنى الاصطلاحي للسنة تحدد في أواخر القرن الثاني الهجري.
ومن المعاني اللغوية التي يركز عليها أعداء الإسلام في تعريفهم بالسنة معناها الوارد بمعنى الطريقة، ثم يعرفون السنة النبوية بأنها: الطريقة العملية، أو السنة العملية، أما أقواله وتقريراته وصفاته - صلى الله عليه وسلم - فليست من السنة، وإطلاق لفظ حديث أو سنة على ذلك إنما هو في نظرهم اصطلاح مستحدث من المحدثين، ولا تعرفه اللغة، ولا يستعمل في أدبها، هكذا زعم محمود أبوريه(10) في كتابه (أضواء على السنة المحمدية)(11) تبعاً للدكتور/ توفيق صدقي(12).
وفي ذلك أيضا ًيقول الدكتور/ المهندس محمد شحرور(13) في كتابه (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة): (إن ما اصطلح على تسميته بالسنة النبوية إنما هو حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كنبي وكائن إنساني عاش حياته في الواقع، بل في الصميم منه، وليس في عالم الوهم).
وفي موضع آخر يقول: (من هنا يأتي التعريف الخاطئ برأينا للسنة النبوية بأنها كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو أمر، أو نهي، أو إقرار. علماً بأن هذا التعريف للسنة ليس تعريف النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه، وبالتالي فهو قابل للنقاش والأخذ والرد، وهذا التعريف كان سبباً في تحنيط الإسلام، علماً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته لم يعرفوا السنة بهذا الشكل، وتصرفات عمر بن الخطاب تؤكد ذلك)(14).
(1) البحر المحيط للزركشي 1/284، وإرشاد الفحول للشوكاني 1/155، وأصول الفقه للشيخ محمد الخضري ص 54، وأصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص 111.
(2) انظر: تعميم محمود أبو ريه لذلك في أضواء على السنة ص 38.
(3) انظر: ضوابط الرواية عند المحدثين ص 25، 26بتصرف.
(4) جولد تسيهر: مستشرق مجري يهودي، رحل إلى سورية، وفلسطين، ومصر، ولازم بعض علماء الأزهر. له تصانيف باللغات الألمانية، والإنكليزية، والفرنسية. ترجم بعضها إلى العربية، قال الدكتور/ السباعي: " عرف بعدائه للإسلام وبخطورة كتاباته عنه، ومن محرري دائرة المعارف الإسلامية " كتب عن القرآن والحديث، ومن كتبه: تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي"، و" العقيدة والشريعة في الإسلام "، و " فضائح الباطنية "، وغير ذلك مات سنة 1921م له ترجمة في: الأعلام للزركلي 1/284، والاستشراق للدكتور / السباعي ص 31-32، وآراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره للدكتور/ عمر إبراهيم 1/161-162.
(5) العقيدة والشريعة في الإسلام ص 49، 251.
(6) دائرة المعارف الإسلامية 7/330، وانظر: دراسات في الحديث للدكتور/ الأعظمي 1/5-11، ومنهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة/ عزية علي طه ص 62، 122، 123.
(7) علي حسن عبد القادر: أستاذ تاريخ التشريع الإسلامي، حاصل على العالمية في الفلسفة من ألمانيا، ومجاز من كلية أصول الدين في قسم التاريخ، وعميد كلية الشريعة بالأزهر الشريف سابقاً، من مؤلفاته: نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي.
(8) نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ص 122، 123.
(9) يصح تعريف السنة بالعادة والعرف، ولكن المراد بالعادة في هذه الحالة عادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أي ما عمله، أو أقره، أو رأه فلم ينكره، وهي في هذه الحالة من الدين. كما تطلق على السيرة العملية لحياة الصحابة - رضي الله عنهم - ولا تعني العادة والعرف السائد في الجاهلية، كما يوهمه كلام جولد تسيهر ومن قال بقوله. انظر: حجية السنة للدكتور/ عبد الغني عبد الخالق ص 49-51، والمدخل إلى السنة النبوية لأستاذنا الفاضل الدكتور/ عبد المهدي عبد القادر ص 25-26.
(10) محمود أبو ريه: كاتب مصري كان منتسباً إلى الأزهر في صدر شبابه، فلما انتقل إلى مرحلة الثانوية الأزهرية أعياه أن ينجح أكثر من مرة، فعمل مصححاً للأخطاء المطبعية بجريدة في بلده، ثم موظفاً في دائرة البلدية حتى أحيل إلى التقاعد، من مصنفاته التي طعن فيها في السنة والصحابة، أضواء على السنة، وقصة الحديث المحمدي، شيخ المضيرة (أبو هريرة) انظر: السنة ومكانتها في التشريع للدكتور/ السباعي ص 466.
(11) أضواء على السنة ص 39.
(12) الدكتور/ توفيق صدقي: هو الدكتور/ محمد توفيق صدقي طبيب بمصلحة السجون بالقاهرة، كتب مقالات في مجلة المنار بعنوان " الإسلام هو القرآن وحده " مات سنة 1920م، ترجم له الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار المجلد 483/21 وما بعدها، وانظر: مجلة المنار المجلد 11/774.
(13) محمد شحرور: كاتب سوري معاصر، حاصل على الدكتوراه في الهندسة من الجامعة القومية الإيرلندية في دبلن. من مؤلفاته: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، والإسلام والإيمان منظومة القيم، والدولة والمجتمع.
(14) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص 546-548.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 16 )
وقفة مع تخرصات المستشرقين وأوهام المستغربين ( 2- 2)
ويقول نيازي عز الدين(1): (رجال الدين في القرن الثالث الهجري عرفوا السنة وأضافوا إليها أموراً هي من اجتهادهم، فقد قالوا في تعريفها: ( هي كل ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية أو خلقية، أو سيرة، سواء كان ذلك قبل البعثة - كتحنثه في غار حراء - أم بعدها). وهذا التعريف الموسع الذي أتى في عصر متأخر عن عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته قد جر البلاء على الإسلام، وفي موضع آخر يقول: (وإن أغلب الذين أدخلوا أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم – وأفعاله، وتصرفاته الخاصة في الدين، فعلوها وهم يعلمون أنهم يفعلون الممنوع، ويقعون في المعصية، لكن الهوى والشيطان كانا أقوى من الإيمان في تلك الفترة، ففعل الشيطان ما يريد))(2).
ومن المعاني اللغوية التي يركزون عليها في تشكيكهم في السنة المطهرة معناها الوارد في القرآن الكريم بمعنى أمر الله - عز وجل -، ونهيه، وسائر أحكامه، وطريقته، ويقولون: لا سنة سوى سنة الله - عز وجل - الواردة في كتابه العزيز، وأنه مستحيل أن يكون لرسول الله سنة، ويكون لله - عز وجل - سنة فيشرك الرسول نفسه مع الله - عز وجل-.
وفي ذلك يقول محمد نجيب (3) في كتابه (الصلاة): القرآن وما فيه من آيات هو سنة الله التي سنها وفرضها نظاماً للوجود، وأتبعها الله نفسه؛ فهي سنة الله...
وليس من المعقول أن يكون للرسول سنة، ويكون لله سنة، فيشرك الرسول نفسه مع الله، ويكون لكلاهما سنة خاصة، وهو أمر مستحيل أن يحصل من مؤمن ومن رسول على الأخص، فما كان لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يترك حكم الله وسنته، ويطلب من الناس أن تتبع ما يسنه هو من أحكام، وليس ذلك إن حصل إلا استكباراً في الأرض، وتعالياً على الله. يقول الله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران /79)، (فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (فاطر / 42، 43). وهذا يؤكد وجوب الرجوع لكتاب الله وحده جماع سنة الله(4).
وفي ذلك أيضاً يقول أحمد صبحي منصور(5) في كتابه (حد الردة) معرفاً بالسنة الحقيقية قائلاً: (سنة الله تعالى هي سنة رسوله - عليه السلام -...)، الله تعالى ينزل الشرع وحياً، والرسول يبلغه وينفذه، ويكون النبي أول الناس طاعة واتباعا لأوامر الله تعالى. والله تعالى أمر النبي بأن يقول (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (الأحقاف /9). والإيمان بالرسول معناه الإيمان بكل ما نزل عليه من القرآن، والإيمان بأنه اتبع ذلك الوحي وطبقه، وكان أول الناس إيماناً به وتنفيذا له(6).
ويقول قاسم أحمد(7) في كتابه (إعادة تقييم الحديث): إنه بالنظر إلى استخدام كلمتي السنة والحديث في القرآن والذي يعطينا معلومات شيقة، نجد أن كلمة (سنة) تشير في القرآن إلى النظام، أو الناموس الإلهي، وإلى مثال الأمم السابقة التي لقيت مصيرها.فلم يشر القرآن إلى أن السنة هي سلوك النبي، وهذان الاستخدامان تشير إليهما الآيتان التاليتان:
قوله تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (الفتح /23). وقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ) (الأنفال /38).
فكلمة " حديث " استخدمت في القرآن بمعنى " الأخبار "، و" القصص "،
و" الرسالة"، و" الشيء " وقد ذكرت ستاً وثلاثين مرة في مواضع لغوية مختلفة، ولا يشير أي منها إلى ما يعرف بالحديث النبوي. فعلى العكس وردت في عشرة مواضع من الآيات البينات تشير إلى القرآن وتستبعد بشدة أي حديث إلى جانب القرآن، منها هذه الآيات (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا) (الزمر / 23) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (لقمان /6)(8).
هذا والذي زعمه أعداء السنة المطهرة في تعريفهم بالسنة النبوية من أنها الطريقة العملية، أو السنة العملية، أو هي سنة الله - عز وجل -. وأن تعريف السنة النبوية بأنها: (كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة....) اصطلاح مستحدث من المحدثين ولم يعرفه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه - رضي الله عنهم - بل كان هذا التعريف سبباً في تحنيط الإسلام. هذا الزعم الكاذب إنما يدل على ما سبق وأن ذكرته من أن هؤلاء الأعداء يخلطون بين المعاني في اللغة، وبينها في الاصطلاح، ولا يهتمون بمعرفتها، ولا ببيانها، إما عن جهل، وإما عن علم بقصد خداع القارئ، وتضليله، وتشكيكه في حجية السنة، وفي علمائها الذين قيدهم رب العزة لحفظها من التغيير والتبديل، تماماً بتمام، كما قيض لكتابه العزيز من يحفظه من العلماء الأفذاذ.
ولعل القارئ الكريم قد اتضح لديه – فيما سبق – أن السنة النبوية بتعريفها المعلوم عند المحدثين والأصوليين والفقهاء، كان مقصوداً من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعلوماً للصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – وأن هذا التعريف للسنة المطهرة كان سبباً في عزة الإسلام وأهله، وليس في تحنيطه كما يزعم أعداء الإسلام. كما اتضح أيضاً أن مصطلح السنة ومصطلح الحديث كانا مترادفين زمن النبوة المباركة وزمن الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم - رضي الله عنهم - وعلى ذلك علماء الشرع الحنيف، خلافاً لأعداء الإسلام الزاعمين: أن مصطلح السنة غير مصطلح الحديث، وأنهما يجب أن يكونا متميزين عن بعضهما(9).
(1) نيازي عز الدين: كاتب سوري معاصر، هاجر إلى أمريكا، من مؤلفاته: إنذار من السماء، ودين السلطان، الذي زعم فيه أن السنة المطهرة وضعها أئمة المسلمين من الفقهاء والمحدثين لتثبيت ملك السلطان معاوية - رضي الله عنه - وصار على دربهم علماء المسلمين إلى يومنا هذا.
(2) إنذار من السماء ص 40، 111.
(3) محمد نجيب كاتب معاصر. من مؤلفاته (الصلاة) أنكر فيه السنة المطهرة، وزعم أن تفاصيل الصلاة واردة في القرآن الكريم، والكتاب صادر عن ندوة أنصار القرآن، نشر دائرة المعارف العلمية الإسلامية.
(4) الصلاة ص 276، 277.
(5) أحمد صبحي منصور تخرج في الأزهر وحصل على العالمية في التاريخ من الجامعة، وتبرأ من السنة فتبرأت منه الجامعة، سافر إلى أمريكا وعمل مع المتنبئ رشاد خليفة، يحاضر بالجامعة الأمريكية بمصر، ومدير رواق ابن خلدون بالمقطم، من مصنفاته: الأنبياء في القرآن، والمسلم العاصي، وعذاب القبر والثعبان الأقرع، ولماذا القرآن، باسم مستعار وهو عبد الله الخليفة. انظر قصته هو ورشاد خليفة في كتابي مسيلمة في مسجد توسان، والدفاع عن السنة الجزء الأول من سلسلة " الإسلام واستمرار المؤامرة كلاهما لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشي.
(6) حد الردة ص 40.
(7) قاسم أحمد كاتب ماليزي معاصر، ورئيس الحزب الاشتراكي الماليزي – سابقا – من مؤلفاته: إعادة تقييم الحديث، أنكر فيه حجية السنة المطهرة.
(8) انظر: إعادة تقييم الحديث ص 77، 78، واستشهاده بهذه الآية على أن لفظ الحديث هو القرآن استشهاد باطل فـ (لهو الحديث) هنا الأقاصيص والأساطير، انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 441.
(9) انظر: السنة في كتابات أعداء الإسلام (1/24-30) بتصرف.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 17 )
شبهة حول التسمية والرد عليها( 1- 2 )
من نافلة القول أن نقرر: أن كلمتي (السنة) و (الحديث) عربيتين ، حيث أنكر هذه البديهية من أعداء الإسلام جولد تسيهر حين زعم تارة بأن كلمة (السنة) مأخوذة من العبرية (مشناة) فقال: (حتى في الإسلام ، أخذت هذه الفكرة مكاناً أيضاً، أعنى اتخاذ قانون مقدس وراء القرآن أو مسموعاً كما هو الحال عند اليهود)(1).
وقال تارة ثانية: إنها مصطلح وثنى في أصله وإنما تبناه واقتبسه الإسلام، وتابعه على ذلك من جلدته شاخت ومارغوليوث ، كما نقله عنهم الدكتور/ محمد الأعظمي في كتابه (دراسات في الحديث النبوي)(2).
وتابع المستشرقين على ذلك قاسم أحمد حيث قال: (وما ينبغي أن يفطن إليه المسلمون هو التشابه الكبير جداً بين هذا الرأي ورأي اليهود القديم عن الوحي المكتوب والشفوي، فالتلمود اليهودي الذي يشمل المشناة والجمارة، وهما يشبهان الحديث والسنة الإسلامية. وهما عبارة عن مجموعة تعاليم شفوية لحاخامات وكبار علماء اليهود، أساسها تفسيرهم لكتابهم المقدس وشرحهم له على مدى طويل على لسان العالم اليهودي يهوذا جولدن(3).
كما زعم المستشرق الفريد غيوم في كتابه (الحديث في الإسلام): أن كلمة (حديث) مشتقة من الكلمة العبرية عند اليهود (هداش) والتي تعني الجديد، أو تعني الأخبار، أو القصص(4).
ومرد هذه الشبهة يهدف إلى نفي أن تكون الكلمتان عربيتين.
وقد رد هذه الشبهة الباطلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت في كتابه (الإسلام عقيدة وشريعة) ونفي أن تكون كلمة السنة مأخوذة من العبرية(5).
كما رد الدكتور/ محمد الأعظمي في كتابه (دراسات في الحديث النبوي) الزعم الباطل لجولد تسهير ؛ أنها مصطلح وثني في أصله، وإنما تبناه واقتبسه الإسلام(6).
وذكر هذه الشبهة وردها الدكتور/ رءوف شلبي في كتابه (السنة النبوية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين) فقال: بحكم طبيعة الحياة فإن الخير لا يسلم من الشر، وإن العدل لا يسلم من الجور، ولقد قيض الشيطان عناصر تفتري على الإسلام وعلى مصادره، فقد زعم بعض الباحثين أن التعبير بكلمة سنة أخذه المسلمون من الكلمة العبرية (مشناة)، والتي تطلق في الاصطلاح اليهودي على مجموعة الروايات الإسرائيلية التي تعتبر في نظرهم مرجعاً أساسياً في التعرف على أحكام التوراة، كما تعتبر شرحاً وتفسيراً لها، ثم عربها المسلمون إلى كلمة (سنة)، ويدعى اليهود أن المسلمين أطلقوها – بعد التعريب – علماً على مجموعة الروايات النبوية في مقابل استعمالهم لكلمة (مشناة) علماً على مجموعة الروايات الإسرائيلية.
والجواب:
يقول فضيلة الأستاذ الدكتور/ رءوف شلبي: اعتراض اليهود ومن تابعهم على كلمة (سنة) و(حديث) ملخص في نقطتين:
1- أن المسلمين عربوهما من كلمة (منشاة) و (هداش).
2- أن المسلمين أطلقوهما علماً على مجموعة الروايات النبوية في مقابل ما صنعه اليهود من إطلاقهم كلمة (مشناة) على مجموعة الروايات الإسرائيلية التي تشرح لهم التوراة ، وتعتبر المصدر الأساسي في التعرف على الأحكام.
ورداً على النقطة الأولى: فإن العقل الباحث الأمين لا يتقبل ادعاء اليهود ومن صار على دربهم، أن العرب الأوائل المسلمين قد عربوا (مشنأة) إلى (سنة)، أو عربوا (هداش) إلى (حديث).
أولاً: لعدم المشابهة في الحروف والبنية.
ثانيا: لأن الكلمتين ورد استعمالهما في الشعر الجاهلي قبل الإسلام، كما استعملهما ربنا - عز وجل - في كتابه العزيز ، واستعملهما نبينا - صلى الله عليه وسلم - في حديثه الشريف، على نحو ما ذكرناه سالفاً في تعريف السنة والحديث لغة. وذلك مما لا يترك مجالاً لفرضية بحث تعريب كلمة (سنة)من (مشناة)ن أو (حديث) من (هداش).
إذًا فالكلمتان لم يعربهما المسلمون من كلمتي (مشناة وهداش) ، وإنما أخذوهما من صميم لغتهم ، وصريح كتابهم الكريم ، وصريح حديث نبيهم- صلى الله عليه وسلم-(7).
ويقول الدكتور/ الأعظمى رداً على ادعاء وثنية المصطلح: " ولذا فإن ما قاله جولد تسيهر بأن السنة مصطلح وثني استخدمه الإسلام، ادعاء لا يستند إلى دليل ، ومعارض للأدلة الملموسة ، ثم إن استعمال الجاهليين أو الوثنيين من العرب (لكلمة ما) في مفهومها اللغوي لا يلبسها ثوباً معيناً، ولا يحيلها إلى مصطلح وثني وخصوصًا ًإذا لاحظنا استعمالاتهم المختلفة لهذه الكلمة، وإلا أصبحت اللغة العربية بكاملها مصطلحاً وثنياً، وهذا لا يقول به عاقل" (8).
ونفس هذا الكلام يقال رداً على ما زعمه الفريد غيوم من أن كلمة (حديث) مشتقة من الكلمة العبرية (هداش).
ورداً على النقطة الثانية: يقول ابن قيم الجوزية(9) في إغاثة اللهفان: " إن كلمة مشناة إنما تعني الكتاب الذي ألفه علماء اليهود في زمن دولة البابليين والفرس، ودولة اليونان والروم ، وهو الكتاب الأصغر ، ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة ".
أما التلمود: فهو الكتاب الأكبر الذي ألفه علماء اليهود مع مشناة ، ومبلغ حجمه نحو نصف حمل بغل لكبره، ولم يكن الفقهاء الذين ألفوه في عصر واحد، وإنما ألفوه جيلاً بعد جيل، فلما نظر المتأخرون منهم إلى هذا التأليف، وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه، وأن في الزيادات المتأخرة ما يناقض أوائل هذا التأليف، علموا أنهم إن لم يقطعوا ذلك ويمنعوا من الزيادة فيه ، أدى إلى الخلل الذي لا يمكن سده ، قطعوا الزيادة فيه ، ومنعوا منها ، وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه ، وإضافة شيء آخر إليه ، وحرموا من أن يضاف إليه شيء آخر فوقف على ذلك المقدار(10).
إذًا فالمشناة والتلمود من تأليف فقهاء اليهود إرضاء لأهوائهم ، وقد نسبوها إلى التوراة، وإلى سيدنا موسى – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام – وليس الأمر كذلك في الحديث النبوي والسنة المطهرة؛ فهي مرويات نبوية موحى بها من قبل رب العزة ، ولا مدخل لأحد من علماء الإسلام في شيء منها إلا بحفظها، ورعايتها، وتنفيذها، وصاحب السنة المطهرة - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أطلق وسمى كل ما ورد عنه من قول، أو فعل، أو تقرير، أو... الخ. بأنه من حديثه الشريف وسنته المطهرة.
فهو القائل - صلى الله عليه وسلم -: (قد يئس الشيطان بأن يعبد بأرضكم ، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروا يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم)(11).
وبهذا كله يتضح لنا أن الكلمتين (سنة) و(حديث):
1- عربيتان أصيلتان.
2- وأن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد استعملاهما.
3- وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي سمى الحديث والسنة، ووضعهما علماً على كل ما ورد عنه من قول، أو فعل، أو تقرير... إلخ ، كما سبق وأن ذكرت.
وبذلك ينمحي من الإمكان فرض أن المسلمين عربوا كلمة (سنة) من كلمة (مشناة)، أو (من هداش)، أو فرض أنها مصطلح وثني ، وأنه فرق كبير بين ثريا المحجة البيضاء في الإسلام ، وبين ثرى المحرفين الذين لعنوا على لسان أنبيائهم داود، وعيسى بن مريم؛ جزاءاً بما كانوا يصنعون(12).أ. هـ.
______________________________ __
(1) العقيدة والشريعة في الإسلام ص 49.
(2) دراسات في الحديث النبوي 1/ 5،6.
(3) إعادة تقييم الحديث ص 78، 79.
(4) نقلا عن منهجية جمع السنة للدكتورة عزية على طه ص 62.
(5) الإسلام عقيدة وشريعة ص 492، 493.
(6) دراسات في الحديث النبوي 1/5 -11.
(7) السنة النبوية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين ص 32 وما بعدها بتصرف.
(8) دراسات في الحديث النبوي 1/7.
(9) ابن قيم الجوزية: هو محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي ، أبو عبد الله ، الفقيه الحنبلي الأصولي المحدث النحوي الأديب الواعظ الخطيب ، له مصنفات عديدة أشهرها: أعلام الموقعين عن رب العالمين ، وزاد المعاد في هدي خير العباد ،وغير ذلك ، مات سنة 751هـ. له ترجمة في: البداية والنهاية لابن كثير 14/ 234، والدرر الكامنة لابن حجر 3/400-403 رقم 1067، وشذرات الذهب 6/168، وطبقات المفسرين للداودي 2/93 -97 ، رقم 456، والوافي بالوفيات 2/270.
(10) إغاثة اللهفان 2/323، 324.
(11) أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب العلم ، باب خطبته - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع 1/ 171، 172رقم 318من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – وقال في إسناده عكرمة واحتج به البخاري ، وابن أبي أويس واحتج به مسلم ، وسائر رواته متفق عليهم، ثم قال وله شاهد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه – وأخرجه في الموضع السابق، ووافقه الذهبي وقال وله أصل في الصحيح أهـ.
(12) السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للدكتور/ رءوف شلبي ص 32: 36 بتصرف ، والسنة في كتابات أعداء الإسلام (1/ 50-53).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 18 )
شبهة حول التسمية والرد عليها( 2- 2 )
الوجه الثاني:
زعم جولد تسيهر أن العرب لم يبتدعوا هذا المفهوم ولا تطبيقاته العملية؛ لأنه وجد سلفا لدى العرب الجاهلين... ومن هنا كان تعلق المسلمين بالسنة كتعلق العرب بسنن أسلافهم... إلى آخر ما قال.
إن جولد تسيهر بكلامه هذا يرمي كعادته إلى رد ما هو إسلامي إلى العوامل الداخلية والخارجية، بحيث ينفي عنه كل أصالة، أو تجديد، أو ابتكار.
(نحن لا ننكر أن العرب الجاهليين كانوا يطيعون أسلافهم، ويعبدون آلهتهم، ويهتدون بسنن أجدادهم، ويتمسكون بمعتقداتهم وأصنامهم؛ لأنهم وجدوا آباءهم لها عاكفين، وبتلك السنن فاعلين، وعلى آثارهم مهتدين، ولكن شتان بين مفهوم السنة في ذلك العصر ومفهومها في العصر الإسلامي، فهي ليست آراءً عربية قديمة معدلة كما قال جولد تسيهر، ولكنها اتخذت مفهومها مغايرا لسنن العرب الوثنيين؛ لأنها أصبحت مصدراً تشريعيا لها حجيتها في تقرير الأحكام، وأصبح مصدرها إلهيًا حالة كونها صادرة من الله، ولكنها مروية بألفاظ الرسول، ولأنها تناولت من الموضوعات والقضايا التي عالجت مشاكل ومفاهيم الدين الجديد، ولأنها صدرت كأوامر إلهية لا يجوز التنكب عنها، كما يستطيع العرب الجاهليون التنكب عن سنن أسلافهم، وإن طاعة الرسول في ما يقوله، أو يفعله، أو يقرره، واجب ديني لا مناص للمسلم من الالتفات عنه، ومن هنا فإن مفهوم السنة في العهدين مختلف ومتباين تمام الاختلاف، فالجاهليون يتمسكون بسنن أسلافهم تعصبا، والمسلمون يتبعون سنة نبيهم تعبدا).
أما استشهاد (جولد تسيهر) بحديث الرسول الذي يدعو المسلمين إلى تتبع سنن من كان قبلهم... الخ، فهو قد شكك في هذا الحديث أولا؛ لأنه قال عنه: (أسند إلى الرسول)، ولم يقل (قال الرسول)، ثم إنه أساء شرحه ثانيا، لأن مراد الرسول ليس دعوة المسلمين إلى التمسك بسنن أسلافهم الجاهليين، ولكنها دعوة إلى التمسك بسنة الرسول، وآثار الصحابة الكرام، وعدم الاختلاف والتفرقة مستقبلاً، وعدم الخروج على الجماعة، وتفادي الفتنة بقدر الإمكان، وقد أخبر النبي عن هذه الأمور جميعا في أحاديث أخرى(1)، ودعا المسلمين إلى التمسك بالسنة الصحيحة، والدخول في رأي الجماعة، وتجنب الفرقة والخلاف، مهما كان الأمر، وإطاعة ولي الأمر حتى لا يتفرق رأي الجماعة، وتذهب قوة المسلمين أشتاتا.
وكان تأكيده ذلك إخباراً منه لما سيحدث في أمته من تفرق واختلاف، وحثهم على تجنبها، كما يفهم من هذا الحديث أيضا دعوة المسلمين إلى التمسك بسنة النبي، وسنة أصحابه، حتى لا يتشبهوا باليهود، والنصارى، والروم، والفرس، وغيرهم من الأقوام، ومن هنا كان فساد استدلال (جولد تسيهر) بهذا الحديث في هذا السياق(2).
(1) منها ما أخرجه أبو داود في سننه (4597): (إلا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة).
(2) نقد الخطاب الاستشراقي (1/412-413).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 19 )
دحض الافتراء الذي قرره جولد تسيهر ومن تبعه (1-3)
هذا الافتراء الذي قرره جولد تسيهر ومن تبعه باطل من وجوه:
الوجه الأول: لقد زعم (جولد تسيهر) وتلامذته أن المفهوم الإسلامي للسنة عبارة معدلة من الآراء العربية القديمة، وموروث جاهلي، يريد أن الإسلام قد أبقى بعض الأمور التي تعارف عليها العرب قبله بعد أن نظمها لهم، وهو ما يذكره المستشرقون دائما، فهذا (جوستاف لوبون) يقول في كتابه (حضارة العرب): (ومثل ذلك شأن محمد الذي عرف كيف يختار من نظم العرب القديمة ما كان يبدو أقومها، فدعمها بنفوذه الديني، ولكن شريعة محمد لم تنسخ جميع العادات التي قامت مقامها)(1).
وجولد تسيهر يضرب دائما على هذا الوتر في كافة دراساته الإسلامية، فهو يرجع كل شيء إسلامي: إما إلى عوامل داخلية كفقه الجاهليين وأعرافهم، وإما إلى عوامل خارجية كاليهودية، والنصرانية، واليونانية.
إن تلك الأعراف أو العادات التي أبقى عليها الإسلام محددة تماما، وهي لا تبلغ عشر معشار التشريعات الإسلامية، وهي مع ذلك لم يبق الإسلام عليها إلا بشرط، وهو ألا تخالف دليلا شرعيا، ولا قاعدة من قواعده الأساسية.
يقول الدكتور/ زكي الدين شعبان: (ولهذا وجدنا الشارع الحكيم يقر الكثير من الأمور التي تعارفها العرب قبل الإسلام، بعد أن نظمها لهم، كالبيع، والرهن، والإجارة، والسلم، والقسامة، والزواج، ومراعاة الكفاءة بين الزوجين، وفرض الدية على عاقلة القاتل، وبناء الإرث، والولاية في الزواج على العصبة، ولا يلغي منها إلا الفاسد والضار الذي لا يصلح كالربا، والميسر، ووأد البنات، وحرمان النساء من الميراث)(2).
وقد عرض الدكتور/ ساسي الحاج لبعض الأحكام التي كانت موجودة في العرب قديما وأبقاها الإسلام أو ألغاها، ثم قال: (هذه أمثلة تتعلق بالعبادات والمعاملات، وجدت في الجاهلية فأقر الإسلام بعضها وألغى الآخر، ومن هذا الإقرار استند المستشرقون إلى أن النبي قد استقى معلوماته، وأخباره، وأحكامه المتمثلة في أوامره، ونواهيه من هذه القوانين العرفية التي وجدها في بيئته، فتأثر بها، وضمها إلى كتابه الذي ألفه، وفي سننه، وأحاديثه التي أذاعها على أصحابه، وأصبحت جزءاً رئيسا من تشريعاته.
ونحن لا ننكر وجود مثل هذه الأحكام والقوانين الناتجة عن أعراف الجاهليين في التشريع الإسلامي، ولا يضير الرسول الإبقاء على القوانين الصالحة سواء تلك المنظمة للعبادات أو المعاملات، طالما كانت هذه الأحكام تتناسب وفلسفة التشريع الإسلامي لتحقيق مقاصده التي أنزل من أجلها، ولا يمكن أن نستنتج من الإبقاء عليها تأثر الرسول بها، باعتبارها أموراً استمدها من بيئته، ولم يوح بها الله إليه في محكم كتابه، ولو كان الأمر خلاف ذلك لأبقى على سائر القوانين والأعراف الجاهلية، ولما حرم بعضا منها، وأباح بعضها الآخر، ولكن التشريع يراعي دوما مصالح الناس والعباد التي شرعت الأحكام لمصلحتهم، فتبقى الأحكام الصالحة، وتبطل الأحكام الفاسدة لتعارضها ومصلحة الجماعة.
إن الإسلام احتفظ بالعديد من أعراف الجاهليين وتشريعاتهم؛ لأنها صالحة للتطبيق؛ ولأنها ليست محل انتقاد من الجماعة؛ ولأنها تحقق مصالح من شرعت هذه الأحكام لهم؛ ولأنه عندما ألغى الفاسد منها، فإنه قد راعى هذه التعاليم الإلهية التي جاءت بالرسالة المحمدية للقضاء على الاستغلال، والفساد، والظلم بأشكاله وألوانه المختلفة، فهو قد هذب مناسك الحج فألغى طواف العري، وأزال الأصنام، وهذب الزواج، فأبقى على النظام الصحيح الذي ينسجم والفطرة البشرية، وألغى الفاسد منه الذي يؤدي إلى اختلاط الأنساب، وزرع البغضاء والعداوة بين أفراد المجتمع، ونظم الطلاق، وسن تشريعات تحفظ حق المرأة في النفقة والحضانة.
وهذه التشريعات جميعها سواء أكانت عبادات أم معاملات شرعت لتنظيم المجتمع الإسلامي الذي يسعى إلى تحقيق المساواة والمحبة بين أفراد المجتمع البشري بكامله، ولا يمكننا التسليم من خلالها بشبهات المستشرقين من أن الإبقاء عليها وإقرارها يعني تشكيلها لمصادر القرآن الكريم، والأحكام الإسلامية المنبثقة من مصادر التشريع الأخرى)(3).
إن منهج الأثر والتأثر الذي سلكه المستشرقون في الدراسات الإسلامية لا يؤدي إلى نتائج علمية صحيحة، فالأثر والتأثر لا غبار عليه من الناحية الواقعية والمنهجية، ولكن استخدامه بصورة متعسفة يؤدي إلى تجريد الإسلام من مبادئه وأسسه السليمة، وهذا هو الذي يؤخذ عليه علميًا وموضوعيًا.
(1) حضارة العرب ص 382.
(2) أصول الفقه ص 193.
(3) نقد الخطاب الاستشراقي (1/ 275- 276).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 20 )
دحض الافتراء الذي قرره جولد تسيهر ومن تبعه (2-3)
الوجه الثاني: زعم جولد تسيهر أن العرب لم يبتدعوا هذا المفهوم ولا تطبيقاته العملية لأنه وجد سلفًا لدى العرب الجاهليين... ومن هنا كان تعلق المسلمين بالسنة كتعلق العرب بسنن أسلافهم... إلى آخر ما قال.
إن جولد تسيهر بكلامه هذا يرمي كعادته إلى رد ما هو إسلامي إلى العوامل الداخلية والخارجية، بحيث ينفي عنه كل أصالة، أو تجديد، أو ابتكار.
(نحن لا ننكر أن العرب الجاهليين كانوا يطيعون أسلافهم، ويعبدون آلهتهم، ويهتدون بسنن أجدادهم، ويتمسكون بمعتقداتهم وأصنامهم؛ لأنهم وجدوا آباءهم لها عاكفين، وبتلك السنن فاعلين، وعلى آثارهم مهتدين، ولكن شتان بين مفهوم السنة في ذلك العصر ومفهومها في العصر الإسلامي، فهي ليست آراء عربية قديمة معدلة كما قال جولد تسيهر، ولكنها اتخذت مفهومًا مغايرا لسنن العرب الوثنيين؛ لأنها أصبحت مصدراً تشريعيا لها حجيتها في تقرير الأحكام، وأصبح مصدرها إلهيا حالة كونها صادرة من الله، ولكنها مروية بألفاظ الرسول؛ ولأنها تناولت من الموضوعات والقضايا التي عالجت مشاكل الدين الجديد ومفاهيمه؛ ولأنها صدرت كأوامر إلهية لا يجوز التنكب عنها، كما يستطيع العرب الجاهليون التنكب عن سنن أسلافهم، وإن طاعة الرسول في ما يقوله، أو يفعله، أو يقرره، واجب ديني لا مناص للمسلم من الالتفات عنه، ومن هنا فإن مفهوم السنة في العهدين مختلف ومتباين تمام الاختلاف، فالجاهليون يتمسكون بسنن أسلافهم تعصبا، والمسلمون يتبعون سنة نبيهم تعبدا).
أما استشهاد (جولد تسيهر) بحديث الرسول الذي يدعو المسلمين إلى تتبع سنن من كان قبلهم... الخ، فهو قد شكك في هذا الحديث أولا؛ لأنه قال عنه: (أسند إلى الرسول)، ولم يقل (قال الرسول)، ثم إنه أساء شرحه ثانيا، لأن مراد الرسول ليس دعوة المسلمين إلى التمسك بسنن أسلافهم الجاهليين، ولكنها دعوة إلى التمسك بسنة الرسول، وآثار الصحابة الكرام، وعدم الاختلاف والتفرقة مستقبلا، وعدم الخروج على الجماعة، وتفادي الفتنة بقدر الإمكان، وقد أخبر النبي عن هذه الأمور جميعا في أحاديث أخرى(1)، ودعا المسلمين إلى التمسك بالسنة الصحيحة والدخول في رأي الجماعة، وتجنب الفرقة والخلاف مهما كان الأمر، وإطاعة ولي الأمر حتى لا يتفرق رأي الجماعة، وتذهب قوة المسلمين أشتاتا.
وكان تأكيده ذلك إخباراً منه لما سيحدث في أمته من تفرق واختلاف، وحثهم على تجنبها، كما يفهم من هذا الحديث أيضا دعوة المسلمين إلى التمسك بسنة النبي، وسنة أصحابه، حتى لا يتشبهوا باليهود، والنصارى، والروم، والفرس، وغيرهم من الأقوام، ومن هنا كان فساد استدلال (جولد تسيهر) بهذا الحديث في هذا السياق(2).
(1) منها ما أخرجه أبو داود في سننه (4597): (ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة).
(2) نقد الخطاب الاستشراقي (1/412-413).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 21 )
دحض الافتراء الذي قرره جولد تسيهر ومن تبعه (3-3)
الوجه الثالث:
زعم (جولد تسيهر) أن اتباع المسلمين للسنة كاتباع الجاهليين لسنن أسلافهم هو تخريج مبتسر؛ لأنه أراد التشديد على أن الطبيعة العربية في اتباع سنن الأسلاف وطرقهم وعاداتهم لم تتغير في العصر الإسلامي الأول، ولكنه نوع من طبائع النفوس العربية جبلت عليها على مدى الدهر، وموصومة بالتعصب، ولا يجيزون الخروج عليها مهما كانت طبيعتها.
وهذا الكلام لا أساس له من الناحية الواقعية؛ لأن المسلمين عندما أطاعوا السنة النبوية فلأنهم مأمورون بذلك، باعتبارها وحيًا معبرًا عنه بألفاظ الرسول، وباعتبارها تسن القوانين والقواعد الشرعية الواجب عليهم اتباعها، وباعتبارها مؤكدة، ومفسرة، وشارحة للقرآن الكريم(1).
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [ النساء /59 ].
والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب الكريم، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد موته(2).
وقال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) [ النساء /80 ].
وقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [ الحشر /7 ].
فطاعة الرسول الكريم هي اتباع أوامره واجتناب نواهيه، وطاعة الرسول من طاعة الله، فهو الذي اصطفاه واختاره مبلغا عنه.
إذاً – وكما يقول الشيخ أحمد شاكر -: " فلم يكن اتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند المسلمين عن عادة اتباع الآباء، وقد نعاها الله على الكفار نعيا شديدا، وتوعد عليها وعيدا كثيرا، وأمر الناس باتباع الحق حيثما كان، واستعمال عقولهم في التدبر في الكون وآثاره، ونقد الصحيح من الزيف من الأدلة، وإنما كان حرص المسلمين على سنة رسول الله اتباعا لأمر الله في القرآن: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [ سورة الأحزاب / 21 ]، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [ سورة النور / 63 ].
(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [ النحل / 44 ].
إلى غير ذلك من أوامر الله في كتابه، مما لا يجهله مسلم، واتباعا لأمر رسول الله نفسه، في الأحاديث الصحيحة المتكاثرة، وفيما ثبت عمليا بالتواتر...
وهذا الموضوع أطال البحث فيه العلماء السابقون وأبدعوا، حتى لم يدعوا قولا لقائل - أو كادوا- وكتب السنة وكتب الأصول وغيرها مستفيضة في ذلك، والباحث المنصف يستطيع أن يتبين وجه الحق، ويكفي أن نشير إلى كتابين فيهما مقنع لمن أراد: كتاب " الرسالة " للإمام الشافعي، وكتاب " الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم" للعلامة محمد بن إبراهيم الوزير اليمني. فإني رأيت كاتب المقال لم يشر فيه من أوله إلى آخره إلى مصدر عربي أو إسلامي رجع إليه في بحثه، وهذا عجيب !(3).
(1) انظر: المصدر السابق ( 1/407).
(2) الموافقات: ( 4/14 ).
(3) دائرة المعارف الإسلامية ( 13/101- 402 ) بتصرف.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 22 )
دحض الافتراء الذي قرره جولد تسيهر ومن تبعه (4-4)
الوجه الرابع:
استنتاج (مارغليوث) بأنه كان معنى السنة في صدر الإسلام "ما كان عرفا مألوفا": هو استنتاج تابع للهوى مع مخالفته كافة النصوص التي أوردها ليبرهن على ما يراه من استنتاج.
وقد أورد الدكتور/ الأعظمي نصوصه التي استشهد بها وتعليقه عليها قائلا: (نرى كلمة (سنة النبي) – صلى الله عليه وسلم – أكثر وروداً في النصوص السابقة من أي تعبير آخر، وقد استعمل هذا التعبير في النصوص التي تتصل بالخليفة الثالث عثمان، وربما كان لسلوكه الخطير الذي يختلف فيه عن أسلافه أثر في ذلك. ولو أن الاتهامات الموجهة إليه دومًا مبهمة، ويبدو واضحًا أن المصدر الثاني للتشريع الإسلامي إلى ذلك الوقت لم يكن شيئا محدداً، بل هو ما كان عرفا مألوفا، وقد أيدته السلطة حتى صار عنصرا مندمجا في شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم -".
وتعقبه الدكتور/ الأعظمي فقال: " ومع أن النصوص السابقة منصبة كلها أو جلها على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنة نبيه، وكتاب الله وسنة نبيه، وعملا بالكتاب والسنة، نرى (مارغليوث) يحاول جاهدا أن يخفي الحقيقة ويصرفها إلى ما يملي عليه هواه، فيدعي أن المصدر الثاني للتشريع إلى ذلك الوقت لم يكن محددا، وأن مفهوم السنة هو ما كان عرفا معمولا به في البيئة، مع أنه ليس هناك ما يمكن أن يؤيد استنتاجه بشكل من الأشكال.
والذي يبحث عن الحقيقة ويدعي المنهج العلمي في بحثه لابد وأن يستعين بالنصوص مجموعة في سبيل تفسير بعضها ببعض، حتى لا يقع في مثل هذا الخلط والتناقض.
ولو سلمنا جدلاً أن كلمة السنة كانت تطلق في بداية الأمر على ما كان معروفًا ومألوفًا في المجتمع الإسلامي، وهذا لا يمكن إلا في حالات نادرة جدًا حيث تذكر الكلمة مضافة إلى المسلمين، أو ما شاكل ذلك، فهذا لا يعني أن هذه الأشياء نسبت فيما بعد ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو سميت فيما بعد ذلك بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثم هذا البحث كله يدور حول لفظ كلمة السنة، لا حول فكرة الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والاقتداء بهديه مفروض على المسلمين بالنص القرآني – كما رأينا من قبل – وهذه الطاعة هي الأصل ولا يؤثر في ذلك إذا كانت كلمة (السنة) كانت تطلق على هذا أم لا، لأن ما يهمنا هنا هو فرض طاعته - صلى الله عليه وسلم - بأي اسم كان.
ولذا فلا يمكن أن تقبل تلك الادعاءات ما لم تستند إلى حجج معقولة، سواء في ذلك ما ادعاه جولد تسيهر في تفسير (السنة) بأنها (مصطلح وثني) استعملها الإسلام، أو ما ذهب إليه مارغليوث من أن معناها في العهد الأول ما كان (عرفيا) أو ما توصل إليه شاخت في دراسته من أن معناها (تقاليد المجتمع)، أو (الأعراف السائدة)؛ لأن تلك الادعاءات تخالف مخالفة جذرية ما دلت عليه النصوص القطعية، والتي تفسر بعضها بعضا.
وقد روى أحمد بسند صحيح عن سالم قال: كان عبد الله بن عمر يفتي بالذي أنزل الله - عز وجل - من الرخصة بالتمتع، وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، فيقول ناس لابن عمر: كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك ؟ !.
فيقول لهم عبد الله: ويلكم ! ألا تتقون الله ؟ ! إن كان عمر قد نهى عن ذلك فيبتغي فيه الخير يلتمس به تمام العمرة، فلم تحرمون ذلك، وقد أحله الله، وعمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أفرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر ؟!.
إن عمر لم يقل لكم إن العمرة في أشهر الحج حرام، ولكنه قال: إن أتم العمرة أن تفردوها في أشهر الحج(1).
وهذا القول من عبد الله بن عمر: "أفرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر ؟! فصل في هذه القضية، حيث مايز بين قضيتين مختلفتين تماما، أثبت للأولى حق الاتباع، ونفاه عن الأخرى في حالة التعارض، ليبين بذلك أن السنة التي تتبع في هذه الحالة هي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولو كان العرف الشائع أو تقاليد المجتمع هما السنة، فكيف نفسر قول ابن عمر هذا ؟ (1)
(1) مسند أحمد، بتحقيق أحمد شاكر (8/ 61 رقم 5700).
(2) دراسات في الحديث النبوي (1/9-11).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 23 )
دحض الافتراء الذي قرره جولد تسيهر ومن تبعه (5-5)
الوجه الخامس:
الزعم بأن كلمة السنة لم تتخصص بأنها طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجال الأمور الشرعية إلا في نهاية القرن الثاني الهجري زعم باطل؛ لأن تخصصيها بذلك قد سبق واستقر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصحابة والتابعين من بعد – وقد أوردنا ذلك سلفا وتوسعنا في إيراد الأمثلة له – والذي استجد على كلمة السنة في نهاية القرن الثاني أن علماء الإسلام وضعوا لكلمة السنة مفاهيم تتفق مع نوع البحث العلمي الذي يريدونه في دراستهم حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تخرج تلك المفاهيم عن كونها مصطلحات علمية استعان بها أهل كل علم على توضيح غرضهم المنشود من دراسة حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فالفقهاء مثلاً لما كان غرضهم من دراسة حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معرفة أدلة الأحكام الشرعية ، ولما كانوا قد قسموا الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال المكلفين إلى: واجب، ومحرم، ومندوب، ومكروه، ومباح ، عرفوا كلمة السنة بما يتفق مع غرضهم فقالوا: (السنة ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير افتراض ولا وجوب).
ولما كان غرض علماء أصول الفقه من دراسة حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معرفة القواعد الشرعية التي يعتمد المجتهدون عليها في استنباط الأحكام الشرعية عرفوا كلمة السنة: (بأنها ما أثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير).
أما علماء الحديث فغرضهم من الدراسة والبحث في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلق التأسي والاقتداء به، حتى في حركاته وسكناته ، ومن ثم اعتنوا بجمع كل ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واستيعابه، وكل ما اتصل بحياته ، وعرفوا كلمة السنة في ضوء ذلك الغرض العام بأنها (ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقيه أو خلقية، قبل البعثة – كالتحنث في غار حراء – أو بعدها).
ومن ثم يتضح أن المستشرقين وتلامذتهم أهملوا هذه الحقيقة وتجاهلوها وادعوا مغالطة أن كلمة السنة لم تتخصص بأنها طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في نهاية القرن الثاني الهجري.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 24 )
المعاني اللغوية التي يركز عليها أعداء الإسلام( 1 – 2 )
ثانيا: ومن المعاني اللغوية التي يركز عليها أعداء الإسلام في تعريفهم بالسنة معناها الوارد بمعنى الطريقة، ثم يعرفون السنة النبوية؛ بأنها الطريقة العملية أو السنة العملية، أما أقواله، وتقريراته، وصفاته - صلى الله عليه وسلم - فليست من السنة، وإطلاق لفظ حديث أو سنة على ذلك إنما هو في نظرهم اصطلاح مستحدث من المحدثين، ولا تعرفه اللغة، ولا يستعمل في أدبها، هكذا زعم محمود أبوريه(1) في كتابه (أضواء على السنة المحمدية)(2) تبعاً للدكتور/ توفيق صدقي(3).
وفي ذلك أيضا ًيقول الدكتور المهندس/ محمد شحرور(4) في كتابه (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة): (إن ما اصطلح على تسميته بالسنة النبوية إنما هو حياة النبي - صلى الله عليه وسلم – كنبي وكائن إنساني عاش حياته في الواقع، بل في الصميم منه، وليس في عالم الوهم).
وفي موضع آخر يقول: (من هنا يأتي التعريف الخاطئ برأينا للسنة النبوية بأنها كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو أمر، أو نهي، أو إقرار. علماً بأن هذا التعريف للسنة ليس تعريف النبي - صلى الله عليه وسلم- نفسه، وبالتالي فهو قابل للنقاش والأخذ والرد، وهذا التعريف كان سبباً في تحنيط الإسلام، علماً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته لم يعرفوا السنة بهذا الشكل، وتصرفات عمر بن الخطاب تؤكد ذلك)(5).
ويقول نيازي عز الدين(6): (رجال الدين في القرن الثالث الهجري عرفوا السنة، وأضافوا إليها أموراً هي من اجتهادهم، فقد قالوا في تعريفها: "هي كل ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية أو خلقية، أو سيرة، سواء كان ذلك قبل البعثة -كتحنثه في غار حراء - أم بعدها ". وهذا التعريف الموسع الذي أتى في عصر متأخر عن عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته قد جر البلاء على الإسلام، وفي موضع آخر يقول: (وإن أغلب الذين أدخلوا أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم – وأفعاله، وتصرفاته الخاصة في الدين فعلوها وهم يعلمون أنهم يفعلون الممنوع، ويقعون في المعصية، لكن الهوى والشيطان كانا أقوى من الإيمان في تلك الفترة، ففعل الشيطان ما يريد)(7).
(1) محمود أبو ريه: كاتب مصري كان منتسباً إلى الأزهر في صدر شبابه، فلما انتقل إلى مرحلة الثانوية الأزهرية أعياه أن ينجح أكثر من مرة، فعمل مصححاً للأخطاء المطبعية بجريدة في بلده، ثم موظفاً في دائرة البلدية حتى أحيل إلى التقاعد، من مصنفاته التي طعن فيها في السنة والصحابة، أضواء على السنة، وقصة الحديث المحمدي، شيخ المضيرة (أبو هريرة) انظر: السنة ومكانتها في التشريع للدكتور السباعي ص 466.
(2) أضواء على السنة ص 39.
(3) الدكتور/ توفيق صدقي: هو الدكتور/ محمد توفيق صدقي طبيب بمصلحة السجون بالقاهرة، كتب مقالات في مجلة المنار بعنوان " الإسلام هو القرآن وحده " مات سنة 1920م، ترجم له الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار المجلد 483/21 وما بعدها، وانظر: مجلة المنار المجلد 11/774.
(4) محمد شحرور: كاتب سوري معاصر، حاصل على الدكتوراه في الهندسة من الجامعة القومية الإيرلندية في دبلن. من مؤلفاته: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، والإسلام والإيمان منظومة القيم، والدولة والمجتمع.
(5) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص 546-548.
(6) نيازي عز الدين: كاتب سوري معاصر، هاجر إلى أمريكا، من مؤلفاته: إنذار من السماء، ودين السلطان، الذي زعم فيه أن السنة المطهرة وضعها أئمة المسلمين من الفقهاء والمحدثين لتثبيت ملك السلطان ومعاوية - رضي الله عنه - وصار على دربه علماء المسلمين إلى يومنا هذا.
(7) إنذار من السماء ص 40، 111.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 25 )
المعاني اللغوية التي يركز عليها أعداء الإسلام( 2 – 2 )
ثالثا: ومن المعاني اللغوية التي يركزون عليها في تشكيكهم في السنة المطهرة معناها الوارد في القرآن الكريم بمعنى أمر الله -عزَّ وجلَّ- ونهيه، وسائر أحكامه، وطريقته، ويقولون: لا سنة سوى سنة الله - عزَّ وجلَّ - الواردة في كتابه العزيز، وأنه مستحيل أن يكون لرسول الله سنة، ويكون لله -عز وجل- سنة فيشرك الرسول نفسه مع الله - عزَّ وجلَّ -.
وفي ذلك يقول محمد نجيب(1) في كتابه (الصلاة): القرآن وما فيه من آيات هو سنة الله التي سنها وفرضها نظاماً للوجود، واتبعها الله نفسه؛ فهي سنة الله...
وليس من المعقول أن يكون للرسول سنة ويكون لله سنة، فيشرك الرسول نفسه مع الله، ويكون لكلاهما سنة خاصة، وهو أمر مستحيل أن يحصل من مؤمن، ومن رسول على الأخص، فما كان لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يترك حكم الله وسنته، ويطلب من الناس أن تتبع ما يسنه هو من أحكام، وليس ذلك إن حصل إلا استكباراً في الأرض، وتعالٍ على الله. يقول الله تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)(آل عمران /79)، (فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا. استكبارًا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً) (فاطر / 42، 43). وهذا يؤكد وجوب الرجوع لكتاب الله وحده جماع سنة الله(2).
وفي ذلك أيضاً يقول أحمد صبحي منصور(3) في كتابه (حد الردة) معرفاً بالسنة الحقيقية قائلاً: " سنة الله تعالى هي سنة رسوله -عليه السلام-...، الله تعالى ينزل الشرع وحياً، والرسول يبلغه وينفذه، ويكون النبي أول الناس طاعة واتباعًا لأوامر الله تعالى. والله تعالى أمر النبي بأن يقول (إن اتبع إلا ما يوحى إلي)(الأحقاف /9). والإيمان بالرسول معناه الإيمان بكل ما نزل عليه من القرآن، والإيمان بأنه اتبع ذلك الوحي وطبقه، وكان أول الناس إيماناً به وتنفيذا له " (4).
ويقول قاسم أحمد(5)في كتابه (إعادة تقييم الحديث): " إنه بالنظر إلى استخدام كلمتي السنة والحديث في القرآن، والذي يعطينا معلومات شيقة، نجد أن كلمة " سنة " تشير في القرآن إلى النظام أو الناموس الإلهي، وإلى مثال الأمم السابقة التي لقيت مصيرها، فلم يشر القرآن إلى أن السنة هي سلوك النبي، وهذان الاستخدامان تشير إليهما الآيتان التاليتان:
(سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا)(الفتح /23).
(قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين)(الأنفال /38).
وكلمة " حديث " استخدمت في القرآن بمعنى "الأخبار"و "القصص" و "الرسالة" و"الشيء" وقد ذكرت ستاً وثلاثين مرة في مواضع لغوية مختلفة، ولا يشير أي منها إلى ما يعرف بالحديث النبوي. فعلى العكس وردت في عشرة مواضع من الآيات البينات تشير إلى القرآن وتستبعد بشدة أي حديث إلى جانب القرآن منها هذه الآيات (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها) (الزمر / 23) (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا أولئك لهم عذاب مهين) (لقمان /6)(6).
- والجواب عن ذلك من وجوه:
الأول: زعم أعداء السنة في تعريفهم بالسنة النبوية من أنها الطريقة العملية، أو السنة العملية، أو هي سنة الله -عزَّ وجلَّ-، وأن تعريف السنة النبوية بأنها كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة.... اصطلاح مستحدث من المحدثين، ولم يعرفه النبي - صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه - رضي الله عنهم-، بل كان هذا التعريف سببًا في تحنيط الإسلام.
هذا الزعم الكاذب إنما يدل على ما سبق وأن ذكرته من أن هؤلاء الأعداء يخلطون بين المعاني في اللغة وبينهما في الاصطلاح، ولا يهتمون بمعرفتها، ولا ببيانها، إما عن جهل، وإما عن علم، بقصد خداع القارئ وتضليله، وتشكيكه في حجية السنة وفي علمائها.
(1) محمد نجيب كاتب معاصر. من مؤلفاته (الصلاة) أنكر فيه السنة المطهرة، وزعم أن تفاصيل الصلاة واردة في القرآن الكريم، والكتاب صادر عن ندوة أنصار القرآن، نشر دائرة المعارف العلمية الإسلامية.
(2) الصلاة ص 276، 277.
(3) أحمد صبحي منصور تخرج في الأزهر وحصل على العالمية في التاريخ من الجامعة، وتبرأ من السنة فتبرأت منه الجامعة، سافر إلى أمريكا، وعمل مع المتنبئ رشاد خليفة، يحاضر بالجامعة الأمريكية بمصر، ومدير رواق بن خلدون بالمقطم. من مصنفاته: الأنبياء في القرآن، والمسلم العاصي، وعذاب القبر والثعبان الأقرع، ولماذا القرآن، باسم مستعار وهو عبد الله الخليفة. انظر قصته هو ورشاد خليفة في كتابي مسيلمة في مسجد توسان، والدفاع عن السنة الجزء الأول من سلسلة " الإسلام واستمرار المؤامرة كلاهما لفضيلة الأستاذ الدكتور/ طه حبيشي.
(4) حد الردة ص 40.
(5) قاسم أحمد كاتب ماليزي معاصر، ورئيس الحزب الاشتراكي الماليزي – سابقا – من مؤلفاته: إعادة تقييم الحديث، أنكر فيه حجية السنة المطهرة.
(6) انظر: إعادة تقييم الحديث ص 77، 78، واستشهاده بهذه الآية على أن لفظ الحديث هو القرآن استشهاد باطل فـ (لهو الحديث) هنا الأقاصيص والأساطير، انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 441.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 26 )
الجواب عن تعريفات أعداء الإسلام (للسنة)
الثاني: أن كلمة السنة قد تخصصت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم- بأنها الطريقة – طريقته - صلى الله عليه وسلم- في تبليغ ما أوحي إليه من بيان القرآن بلفظه وأسلوبه (حديثًا) أو بفعله (عملاً) أو بتقريره (إجازةً) وهما في دلالتهما كاللفظ – التي يجب على المسلمين اتباعها، فإن عليهم أن يطيعوه ويستجيبوا له في كل ما يأمرهم به، وينهاهم عنه، ويندبهم إليه، كما قال عز وجل (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [ الحشر /7]، وكما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) [ النساء /59 ].
وآيات القرآن كثيرة في وجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم- فيما أمر به ونهى عنه، والشواهد كثيرة على أن كلمة السنة قد أضيفت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وتخصصت بأنها طريقته، ومن تلك الشواهد قوله في حديث الرهط الثلاثة: (... تلك سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني)(1)، وقوله: (عليكم بسنتي)(2).
وإذا جاوزنا عهد النبي - صلى الله عليه وسلم- إلى عهد الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان وجدنا الأمر قد استقر عندهم على أن كلمة السنة تعني طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم- دون سواه، وعلى أنها إذا ذكرت معرفة (بأل) ولم تقيد بشأن فلا تنصرف إلا إلى طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم-.
ومن الشواهد التي دلت على ذلك:
ما رواه ابن شهاب الزهري عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- في قصته مع الحجاج الثقفي بشأن وقت صلاة الجمعة، يقول عبد الله للحجاج: " إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة " أي أَدِّ الصلاة في وقت الهجير الذي يكون عند منتصف النهار"، قال ابن شهاب: " قلت لسالم هل فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قال سالم: وهل كانوا يعنون بذلك إلا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- "(3).
فنقل سالم وهو تابعي جليل ثقة وأحد فقهاء المدينة عن الصحابة أنهم إذا استعملوا كلمة السنة مطلقة لا يريدون بها إلا طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- دون سواه، وبهذه الشهادة الصحيحة الواضحة تندفع دعوى هؤلاء الأعداء القائلة بأن كلمة السنة لم تتخصص إلا في نهاية القرن الثالث الهجري.
الثالث: أن القول بأن السنة هي السنة العملية المتواترة فقط، قول لا صحة له، بل هو اصطلاح حادث لا يخفى بطلانه(4)، لأنا بينا سابقا أن السنة تشمل أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله، وتقريراته، وهذا الذي عليه أهل العلم قديمًا وحديثًا (5).
ولو قصرت السنة على السنة المتواترة العملية لفرط في كثير من الأحاديث القولية التي نقلت عنه - صلى الله عليه وسلم- في جميع جوانب الدين، في الأحكام، والأخلاق، والمواعظ.(6)
بل وفرط في السنن العملية التي لم يداوم على فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم-، أو لم يثبت استمراره عليها، كصوم يوم عاشوراء(7)، وصلاة القيام التي صلاها بالناس ثلاث ليال من رمضان فقط(8)، وكالصيغ المختلفة لدعاء الاستفتاح(9).
وإطلاق السنة على الأحاديث القولية ليس اصطلاحا حادثا كما يزعمون، وإنما هو أمر معهود في الصدر الأول(10).
الرابع: أن كلمة السنة كانت في جميع الاستعمالات – كما هو واضح من الأمثلة التي أوردناها – تتخصص بمن تضاف إليه أو بما توصف به، أو بالسياق الذي ترد فيه، فينبغي ملاحظة ذلك في كافة استعمالاتها، سواء في اللغة، أو في القرآن الكريم، أو في الأحاديث والآثار، وإهمال ذلك يؤدي – كما رأينا – إلى خلط كبير.
الخامس: أن مصطلح السنة ومصطلح الحديث كانا مترادفين زمن النبوة المباركة، وزمن الصحابة -رضي الله عنهم- وزمن التابعين وتابعيهم -رضي الله عن الجميع-، وعلى ذلك علماء الشرع الحنيف – وقد سبق بيان ذلك – خلافًا لأعداء الإسلام الزاعمين: أن مصطلح السنة غير مصطلح الحديث، وأنهما يجب أن يكونا متميزين عن بعضهما.
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الجمع بين الصلاتين، رقم (1662).
(4) انظر: الأنوار الكاشفة ص 57.
(5) انظر: موقف الجماعة الإسلامية من الحديث النبوي ص 68-70 فقد نقل فيه مؤلفه سبعة عشر قولاً من أقوال أهل العلم مما يدل على إطلاق السنة على أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته.
(6) انظر: دفاع عن السنة ص 291.
(7) الحديث أخرجه أحمد في مسنده (1/241) بلفظ: (صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود..)
(8) انظر الحديث في صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل، رقم (1129).
(9) انظر: موقف الجماعة الإسلامية من الحديث النبوي ص 57.
(10) انظر: دفاع عن السنة ص 291.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 27 )
السنة اصطلاحًا( 1- 2 )
يختلف تعريف السنة في الاصطلاح تبعاً لاختلاف أغراض العلماء من بحوثهم حسب تخصصاتهم المختلفة، وفيما يلي تعريفها
عند المحدثين، والأصوليين، والفقهاء.
السنة في اصطلاح المحدثين:
للمحدثين تعريفات متعددة للسنة، من هذه التعريفات:
1- هي أقواله - صلى الله عليه وسلم- وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخَلْقِيَّةِ، والخُلُقِيَّةِ، وسائر أخباره سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها.
هذا هو المشهور عند جمهور المحدثين، وكأن السنة عندهم خاصة بالحديث المرفوع فقط، أما الموقوف والمقطوع فلا.
ولعل سند هؤلاء فيما ذهبوا إليه هو: تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم- لكل ما جاء به في مقابلة القرآن بالسنة، مثل قوله في خطبته في حجة الوداع: (يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي)(1).
وعلى هذا القول يحمل تسمية كثير من المحدثين لكتبهم في الحديث باسم السنن مثل:سنن أبي عيسى الترمذي المتوفي سنة 279هـ، وسنن الإمام أبي داود السجستاني المتوفي سنة 275هـ، وسنن النسائي المتوفي سنة 303هـ، وسنن ابن ماجه القزويني المتوفي سنة 373هـ، أو سنة 275هـ.
2-وقيل: هي – أي السنة – أقواله - صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخَلقية والخُلقية، وسائر أخباره سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها،وكذلك أقوال الصحابة وأفعالهم.
وممن ذهب إلى هذا القول الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت -رضي الله عنه- المتوفي سنة 150هـ، فقد ورد عنه أنه قال:" ما جاءنا عن الصحابة اتبعناهم، وما جاءنا عن التابعين زاحمناهم ".
وقال: " إذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم "(1).
وكأن السنة عند أبي حنيفة مخصوصة بالمرفوع والموقوف فقط، أما ما عداهما من المقطوع فلا، ولعل سنده فيما ذهب إليه قول - صلى الله عليه وسلم-: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ)(1).
3- وقيل: هي – أي السنة – أقواله - صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية، والخلقية، وسائر أخباره، سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها، وكذلك أقوال الصحابة والتابعين، وأفعالهم.
وممن ذهب إلى هذا القول الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين المعروف البيهقي المتوفى سنة 458هـ، حيث أسمى كتابه – الذي جمع فيه ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وفتاوى الصحابة والتابعين وأفعالهم –بالسنن الكبرى، وكأن السنة عنده تشمل: المرفوع، والموقوف، والمقطوع.
ولعله استند فيما ذهب إليه إلى: أن الصحابة خالطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وشاهدوا الوحي والتنـزيل، وكذلك خالط التابعون الصحابة وجالسوهم، وسمعوا منهم، فكان قولهم وفعلهم أولى بالقبول من غيرهم، وأصبح داخلاً في مفهوم السنة.
(1) الحديث أخرجه مالك في الموطأ بلاغاً، كتاب القدر، ص: 561، ط: الشعب، قال الزرقاني في شرحه للموطأ ( 4/246): "إن بلاغة صحيح كما قال ابن عيينة "، وقد أسنده ابن عبد البر في التمهيد من حديث أبي هريرة، وحديث عمرو بن عوف،وقال: " هذا حديث مشهور عن النبي - صلى الله عليه وسلم-عند أهل العلم، شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد "، ينظر: ( فتح المالك بترتيب التمهيد لابن عبد البر على موطأ مالك (9/282-283 )، وأخرجه الحاكم في المستدرك ( رقم 931 ) وصححه، ووافقه الذهبي ".
(2) أصول السرخسي ( 1/313).
(3) الحديث أخرجه الترمذي في السنن،كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع رقم (2676)، وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود في السنن، كتاب السنة، باب لزوم السنة، رقم ( 4607 )، وابن ماجه في السنن، المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين رقم ( 42، 43 )، والإمام أحمد في المسند ( 4/126، 127) كلهم من حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 28 )
السنة اصطلاحًا( 2- 2 )
الراجح:
الراجح من هذه التعريفات هو التعريف الثاني، والذي يدرج أقوال الصحابة وأفعالهم في السنة، لكن مع الأخذ في الاعتبار أن السنة إذا أطلقت وعُرّفت تنصرف إلى سنته - صلى الله عليه وسلم-، أما إطلاقها على ما جاء عن الصحابة فإنما يأتي مقيدًا، فيقال: (سنة الخلفاء الراشدين)، أو (السنة الراشدة)، وسبب هذا الترجيح ما يأتي:
1- أن الله - عزَّ وجلَّ- زكى الصحابة والتابعين في كتابة الكريم، فقال تعالى: (وَالسَّابِقُون الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(1).
يقول الشاطبي: " سنة الصحابة - رضي الله عنهم- سنة يعمل عليها ويرجع إليها، ومن الدليل على ذلك: ثناء الله عليهم من غير مثنوية(2)، ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها، كقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(3) وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(4).
2- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حَضَّ على الأخذ عنهم، فقال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ.... )(5).
وقال أيضاً: (إن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).
وقد أدرك سلفنا قيمة هذا التوجيه النبوي، فقرروا سنية أقوال الصحابة وأفعالهم:
أخرج ابن عبد البر بسنده عن مالك بن أنس قال، قال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وولاة الأمر من بعده سننًا الأخذ بها تصديق بكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا"(6).
وروى الدارمي بسنده عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود - رضي الله عنه- أنه قال: " ما أحب أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم-لم يختلفوا، فإنهم لو اجتمعوا على شيء فتركه رجل ترك السنة، ولو اختلفوا فأخذ رجل بقول أحد أخذ بالسنة "(7).
وأخرج ابن عبد البر بسنده عن صالح بن كيسان قال: "اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم، فقلنا: نكتب السنن: فكتبنا ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ثم قال: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة، وقلت أنا: ليس بسنة فلا نكتبه، وكَتَبَ ولم أَكْتُبْ، فانجح وضيعت"(8).
وهذا ما حدا بالإمام البيهقي أن يجمع في كتابه "السنن الكبرى" ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وما جاء عن الصحابة والتابعين من أقوالهم وأفعالهم، وكأن السنة عنده تشمل: المرفوع، والموقوف، والمقطوع.
3- ما كونوا عليه من الفقه في الدين بحيث صاروا أقدر من غيرهم على الفتوى والاجتهاد، فكأن ما جاء عن هؤلاء من قول، أو فتوى، أو فعل، لا يخرج عن اقتداء بسنة، أو قياس على سنة، لذا كان من الأليق أن يكون داخلاً في مفهوم السنة.
قال الشاطبي: "جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل، فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة ودليلاً، وبعضهم عَدَّ قول الخلفاء الأربعة دليلاً، وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلاً، ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة... وحسبك من ذلك:ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم، وذم من أبغضهم، وأن من أحبهم فقد أحب النبي - صلى الله عليه وسلم-، ومن أبغضهم فقد أبغض النبي - صلى الله عليه وسلم-، وما ذاك من جهة كونهم رأوه، أو جاوروه، أو حاوروه فقط، إذ لا مزية في ذلك، وإنما هو لشدة متابعتهم له، وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته ونصرته، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتخذ قدوة، وتجعل سيرته قبلة"(9).
(1) سورة التوبة / 100.
(2) أي من غير استثناء.
(3) سورة آ ل عمران /110.
(4) سورة البقرة /143.
(5) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، رقم (4607)، والترمذي في سننه، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، رقم (2676)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في سننه، المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، رقم (42، 43).
(6) جامع بين العلم (2/1176 رقم 2326)، وأخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/435رقم 455).
(7) سنن الدارمي، المقدمة، باب اختلاف الفقهاء (1/151).
(8) جامع بين العلم (1/333 رقم (442) وإسناده صحيح، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11/258-259).
(9) الموافقات (4/ 456، 462، 463).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
جزاكم الله خيرا
واصل وصلك الله بفضله
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 29 )
الهجوم على السنة نشأته وتطوره( 1-3)
لقد كان العرب قبل مجيء الإسلام ونبيه الكريم قبائل متنازعين، وأعداء متقاتلين ، لا تجمعهم غاية ، ولا يوحدهم هدف ، فامتن الله عليهم بهذا الدين ، فألف به بين القلوب ، ووحد به بين الصفوف ، وجعلهم به إخوانا متحابين ، متعاونين متناصرين ، إن غاب أحدهم تفقدوه ، وإن افتقر واسوه ، وإن احتاج أعانوه ، وإن مرض عادوه ، وإن مات شيعوه ، دينهم النصيحة ، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يقول الله تعالى ممتنًا ومذكرًا بهذا الواقع وتلك الحقيقة : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون )(1)، ويقول تعالى ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون )(2)
قال ابن كثير : ( ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم ، وإحسانه إليهم ، حيث كانوا قليلين فكثرهم ، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم ، وفقـــراء عالة فرزقهم من الطيبات ، واستشكرهم فأطاعوه، وامتثلوا جميع ما أمرهم .....
قال قتادة : كان هذا الحي من العرب أذلَّ الناس ذلاً ، وأشقاه عيشا ، وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودًا ، وأبينه ضلالا ، من عاش منهم عاش شقيا ، ومن مات منهم ردي في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم ، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس ، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا الله على نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله )(3)
ولم يقبض الله تعالى نبيه إليه إلا بعد أن أكمل الله له ولأمته هذا الدين، فأنزل عليه قبل وفاته بأشهر فـي حجة الوداع: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )(4)
فكان كمال الدين من نعم الله العظيمة على هذه الأمة، ولذا كانت اليهود تغبط المسلمين على هذه الآية
روى الشيخان عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين ! آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : أي آية ؟ قال : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ).(5)
قال ابن عباس - رضي الله عنهما- في تفسير هذه الآية: ( أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه فلا يسخطه أبدًا )(6).
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه ترك هذه الأمة على طريقة واضحة، لا ينحرف عنها إلا هالك.
فعن أبي الدرداء - رضي الله تعالى عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (........ وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء )(7)، وفي حديث العرباض ( ... لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك )(8).
كما قرر لهم - صلى الله عليه وسلم- أنه قد بلغهم رسالة ربه كاملة ، وما من خير إلا وقد دلهم عليه، وما من شر إلا وقد حذرهم منه ، ففي حديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ( إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينذرهم شر ما يعلمه لهم ....)(9).
وكان رأس الخير الذي دل الأمة عليه ووصى به الاعتصام بالكتاب والسنة ففيهما الهداية والنجاة، قال - صلى الله عليه وسلم-: ( إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا: كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم- )(10).
وقد استجاب الصحابة الكرام لهذه الوصية ، فكانوا أعظـم الناس تمسكًا بالشرع، والوقوف عند النصوص ، لأنهم أدركوا هذه المعاني ، فعرفوا أن الدين قد كمل فلا يحتاج إلى زيادة ، وأن الشريعة استبانت ووضحت فلا تحتاج إلى بيان، وإنما الأمر في التسليم والانقياد، فكانوا كما وصفهم ابن مسعود - رضي الله عنه-: (خيـر هذه الأمة : أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا ) (11) .
وما زال الناس على هذا الأمر حتى عصفت بهم الأهواء، وتلاعبت بهم الآراء، وانحرفت بهم السبل، وكان الشر الذي حذر الله منه، قال تعالى: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء )(12)
قال ابن كثير : ( والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه ( وكانوا شيعا ) أي: فرقًا، كأهل الملل والنحل - وهي الأهواء والضلالات - فالله قد برأ رسوله مما هم فيه ، وهذه الآية كقوله تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) الآية ....
فهذا هو الصراط المستقيم ، وهو ما جاءت به الرسل: من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات، وآراء وأهواء ، والرسل برآء منها )(13).
(1) سورة آل عمران / 103.
(2) سورة الأنفال / 26.
(3) عمد التفسير ( 2 / 115 ، 116 ) .
(4) سورة المائدة / 3.
(5) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه ( 45 ) وصحيح مسلم، كتاب التفسير ( 3017 ).
(6) تفسير ابن كثير ( 2 / 12 ) .
(7) أخرجه ابن ماجه ، المقدمة ، باب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ( 5 ) .
(8) أخرجه أحمد ( 4 / 126 ) وصححه الألباني هو وسابقه بمجموع طرقه في ظلال الجنة . انظر : ظلال الجنة مع كتاب السنة لابن أبي عاصم ص26 ( 47 ، 48 ، 49 ) .
(9) أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة ، باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول ( 1844 ) .
(10) أخرجه الحاكم ، كتاب العلم ، باب خطبته - صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع ( 318 )، وقال : في إسناده عكرمة واحتج به البخاري ، وابن أبي أويس واحتج به مسلم ، وسائر رواته متفق عليهم ، ثم قال : وله شاهد من حديث أبي هريرة، وأخرجه في الموضع السابق ، ووافقه الذهبي وقال وله أصل في الصحيح .
(11) جزء من أثر رواه البغوي عن ابن مسعود في شرح السنة ( 1 / 214 ) .
(12) سورة الأنعام / 159.
(13) عمدة التفسير ( 1 / 845 ).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 30 )
الهجوم على السنة نشأته وتطوره( 2-3)
وفي حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة : ( يا عائشة، إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ، هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ، ليس لهم توبة ، أنا منهم برئ ، وهم مني براء )(1)
وكان الابتداع ، واتباع الأهواء ، وعدم التسليم والانقياد لحكم الله ورسوله هو الشر الذي عكر صفاء هذه الأمة، وأحدث بين أبنائها الفرقة، وكانت البداية بدعة الخوارج ، وأول من بدأها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم- : أعرابي جاهل مغرور وقف بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- معترضا على حكمه في قسمة مال جاء من اليمن، وقد وصف لنا الصحابة ذلك الرجل فقالوا :(رجل غائر العينين ،مشرف الوجنتين ، وناشز الجبهة ، كث اللحية ، محلوق الرأس ، مشمر الإزار ) ، وقد قال للرسول - صلى الله عليه وسلم- بلهجة الآمر المتعالم بعد قسم الرسول - صلى الله عليه وسلم- للمال : ( اتق الله ) ، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم- : (ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتق الله ؟ ) .
وعندما ولى نظر إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم- وقال : ( إنه يخرج من ضئضئي هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً ، لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية .. )(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( أول البدع ظهورا في الإسلام وأظهرها ذما في السنن والآثار بدعة الحرورية المارقة(3) ، فإن أولهم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم- في وجهه : اعدل يا محمد ، فإنك لم تعدل ، وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم- بقتلهم وقتالهم ، وقاتلهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- ). (4)
لكن بدعة الخوارج هذه ما لبثت أن خمدت، وعاش الناس طيلة حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وطيلة خلافة الشيخين ( أبي بكر وعمر ) متبعين كتاب ربهم ،ومقتفين سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم- ، لا تعرف البدع إليهم طريقا ، ولا التكلف والتعمق إلي نفوسهم سبيلا إلا ما كان من حالات فردية يقضي عليها في مهدها ، حتي كان آخر عصر عثمان - رضي الله عنه- ، عندما عم الفتح الإسلامي كثيرا من الأقطار ، فدخل في الإسلام بعض من لم يتمكن الإسلام من نفوسهم ، لقرب عهدهم به وقلة فقههم فيه ، كما اندس بين هؤلاء من لم يرد الإسلام أصلا؛ وإنما أسلم نفاقا؛ وكيدا للإسلام وأهله . فكان نتيجة ذلك خروج ثورة مسلحة ضد عثمان - رضي الله عنه- على يد شرذمة من غوغاء الناس وسفهائهم ، يقودها يهودي ماكر خبيث هو عبد الله بن سبأ الحميري ، انتهت بمقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه- مظلوما علي يد هؤلاء ، فكان هذا أول الوهن .
ثم جاء عهد علي - رضي الله عنه- فكان أن تمخضت فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وما تلاها من حروب عن بدعتين متقابلتين : بدعة الخوارج المكفرين لعلي - رضي الله عنه- وبعض الصحابة - رضي الله عنهم- ، وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته، أو نبوته، أو إلاهيته ، ثم تتابع خروج الفرق بعد ذلك :
ففي آخر عصر الصحابة -رضي الله عنهم - في خلافة عبد الملك بن مروان - حدثت بدعة المرجئة والقدرية .
وفي أول عصر التابعين - في أواخر الخلافة الأموية - حدثت بدعة الجهمية والمشبهة الممثلة(5)
قال ابن كثير : ( إن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج ، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي - صلى الله عليه وسلم- غنائم حنين ، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة ! ففاجؤوه بهذه المقولة ، فقال قائلهم - وهو ذو الخويصرة بقر الله خاصرته - : اعدل فإنك لم تعدل ! فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ( لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ، أيأمنني علي أهل الأرض ولا تأمنوني ؟! ) فلما قفل الرجل استأذن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- - وفي رواية : خالد بن الوليد - في قتله ، فقال - صلى الله عليه وسلم-: ( دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا - أي من جنسه - قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم )(6) . ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه-، وقتلهم بالنهروان ، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة ، ثم انبعثت القدرية ، ثم المعتزلة ، ثم الجهمية ، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- في قوله: ( وستفترق هذه الأمة علي ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ) قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال : ( من كان علي ما أنا عليه وأصحابي )(7)
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ( 5 / 449 ، 450 ) وأبو نعيم في الحلية ( 4 / 138 ) والطبراني في الصغير ( 1 / 303 ) من حديث أبي هريرة ، وقال الهيثمي في المجمع ( 7 / 22 ، 23 ) إسناد الطبراني في الصغير جيد
(2) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم ( 2452 ) .
(3) الحرورية : هم الخوارج ، سموا بذلك لانحيازهم إلي مكان يعرف باسم : حروراء .
(4) مجموع الفتاوي ( 19 / 72 ) .
(5) انظر:ك منهاج السنة ( 6 / 230 ـــ 233 ) والصواعق المرسلة ( 1 / 147 ــ 151 ) .
(6) انظر: أحاديث الخوارج وصفاتهم في صحيح مسلم ، كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم ( 2449 ــ 2456 ) والمسند ( 616 ) وابن حبان ( 24 ) .
(7) عمدة التفسير ( 1 / 353 ) والحديث أخرجه الترمذي ، كتاب الإيمان ، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة ( 2641 ) وقال : هذا حديث حسن غريب مفسر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 31 )
الهجوم على السنة نشأته وتطوره( 3-3)
وخطورة فرقة الخوارج -أول الفـــرق ظهورًا في الإسلام - أنها ترد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم- بقحة وجرأة ، وتخالف ما جاء به ، وهذا يتناقض مع ما يزعمونه من أنهم يؤمنون به رسولاً لرب العالمين ، فالإيمان به رسولا يلزم طاعته ، ولهذا لما قال أولهم للرسول - صلي الله عليه وسلم- : ( اعدل ، فإنك لم تعدل )، كان قوله هذا تجويزًا منه أن يخون ويظلم، فبما ائتمنه الله عليه من الأموال! فكيف يستقيم هذا مع ادعاء هذا القائل أنه يؤمن به رسولا لرب العالمين !! ولذلك قال الرسول - صلي الله عليه وسلم- لأمثال هذا الرجل : ( أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني ) . وقد كذب هؤلاء بالسنن الثابتة المتواترة، زاعمين أنها تخالف القرآن، فمن ذلك تكذيبهم بحكم الرجم، وتكذيبهم بالنصاب الذي يقطع فيه السارق، فيزعمون أن الزاني المحصن يجلد ولا يرجم، وأن السارق تقطع يده في القليل والكثير. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ( فهم لا يرون اتباع السنة التي يظنون أنها تخالف القرآن ، كالرجم ، ونصاب السرقة ، وغير ذلك فضلوا )(1)، وهذا الرد للسنة ليس بسبب تكذيبهم بصحة النقل عن الرسول - صلي الله عليه وسلم- ، ولكنه رد لقول الرسول - صلي الله عليه وسلم- . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك : ( والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته ، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته ، وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف - بزعمهم - ظاهر القرآن )(2). وقد كان من أتي بعدهم من نفاة السنة أشد دهاء منهم ، فلم يصرحوا كما صرح هؤلاء برد السنة ، ولكنهم أخذوا يحتالون لذلك بشتى الحيل . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وغالب أهل البدع غير الخوارج يتابعونهم على هذا ، فإنهم يرون : أن الرسول - صلي الله عليه وسلم- لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه ، كما يحكي عمرو بن عبيد في حديث الصادق المصدوق ، وإنما يدفعون عن أنفسهم التهمة غما : برد النقل ، وإما : بتأويل المنقول ، فيطعنون تارة في الإسناد ، وتارة في المتن ، وإلا فهم ليسوا متبعين ، ولا مؤتمين بحقيقة السنة التي جاء بها الرسول - صلي الله عليه وسلم-، بل ولا بحقيقة القرآن )(3). وقد ضل هؤلاء برفضهم السنة ، ووقعوا في أخطاء جسيمة ، ومن ذلك : أنهم كفروا المسلمين بالذنوب والسيئات ، واستحلوا دماءهم وأموالهم ، وجعلوا دار المسلمين دار حرب ، ودارهم دار الإيمان ، والسبب في ذلك كمــــا يقول شيخ الإسلام هو: ( خروجهم عن السنة ، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة ، وما ليس بحسنة حسنة ،.... وهذا تشترك فيه البدع المخالفة للسنة ، فقائلها لابد أن يثبت ما نفته السنة ، وينفي ما أثبتته السنة ، ويحسن ما قبحته ، أو يحسن ما قبحت ، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل ، لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المروية )(4) وقد واجه الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان هذه الفرقة وأمثالها من أهل البدع، فأنكروا عليهم بدعهم ، وحذروا الناس منهم . فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- قال : ( أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا : لا نعلم ، فعارضوا السنن برأيهم ، فإياكم وإياهم )(5) . وعن أبي قلابة قال : ( لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة ، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم )(6) . وعن الحسن البصري أنه قال: ( لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم )(7). ثم قيض الله -عز وجل- في كل عصر من العصور من يقف لهذه الفرق الضالة وأقوالها بالمرصاد ، ويواجه ظلماتها بنور الحق ، وهؤلاء هم حملة السنة ، وقد وعوا عن الله وعن رسوله ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ، واستناروا بمنهج رسول الله - صلي الله عليه وسلم-في كشفهم للضلال والشبهات ، وكلما زاد أهل الضلال في عنادهم وتعسفوا في رد الحق ، كلما توسع أهل الحق في الرد عليهم وبيان باطلهم . يقول ابن المديني - رحمه الله - في حديث رسول الله - صلي الله عليه وسلم-: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين علي الحق .... ) هم أهل الحديث ، والذين يتعاهدون مذهب رسول الله - صلي الله عليه وسلم-، ويذودون عن العلم ، لولاهم لأهلك الناس المعتزلة والرافضة والجهمية ، وأهل الإرجاء والرأي )(8) . مناظرة الإمام الشافعي ( 204 هـ ) للرافضين للسنة .
أول من عرف عنه أنه ناظر الرافضين للسنة ، وأطال في حجاجهم والرد عليهم ، هو الإمام الشافعي - رحمه الله - فقد ذكر في كتابه الأم في ( كتاب جماع العلم ، باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها )، وقد ذكر الشافعي هناك محاورة ، جرت بينه وبين واحد من هذه الفرقة ( ينسب إلي العلم بمذهب أصحابه ). وملخص حجة من يرد الأخبار كلها كما حكاه الشافعي عنهم : أن القرآن جاء تبيانا لكل شيء ، فإن جاءت الأحاديث بأحكام جديدة لم تكن في القرآن كان ذلك معارضة من ظني الثبوت : وهي الأحاديث ، لقطعي الثبوت : وهو القرآن ، والظني لا يقوي علي معارضة القطعي ، والسنة إن جاءت مؤكدة لحكم القرآن ، كان الاتباع للقرآن لا للسنة ، وإن جاءت لبيان ما أجمله القرآن ، كان ذلك تبيانا للقطعي الذي يكفر من أنكر حرفًا واحدًا منه بالظني الذي يكفر من أنكر ثبوته ، ويلزم علي هذا أن يقبلوا الأحاديث إذا كانت متواترة ، لأنها تفيد القطع بثبوتها ، إلا أنهم لا يسلمون بذلك ، بل هي عندهم أيضا ظنية الثبوت ، لأنها جاءت من طرق آحادية ظنية ، فاحتمال الكذب في روايته قائما ، ولو كانوا جمعا عظيما )(9). ويتلخص جواب الإمام الشافعي - رحمه الله - عن شبه هؤلاء بما يلي : 1 - أن الله أوجب علينا اتباع رسوله ، وهذا عام بمن كان في زمنه ، وكل ما يأتي بعده، ولا سبيل إلي ذلك لمن لم يشاهد الرسول - صلي الله عليه وسلم- إلا عن طريق الأحاديث ، فيكون الله قد أمرنا باتباعها وقبولها ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. 2 - أنه لابد من قبول الأحاديث لمعرفة أحكام القرآن نفسه، فإن الناسخ فيه والمنسوخ لا يعرفان إلا بالرجوع إلى السنة. 3 - أن هناك أحكاما متفقًا عليها بين جميع أهل العلم وطوائف المسلمين قاطبة ، حتى الذين ينكرون حجية السنة ، وذلك كعدد الصلوات المفروضة ، وعدد ركعاتها ، ونصاب الزكاة وغيرها ، ولم يكن من سبيل لمعرفتها وثبوتها إلا بالسنة . 4 - أن الشرع قد جاء بتخصيص القطعي بظني، كما في الشهادة علي القتل والمال، فإن حرمة النفس والمال مقطوع بهما، وقد قبلت فيهما شهادة الاثنين، وهي ظنية بلا جدال. 5 - أن الأخبار وإن كانت تحتمل الخطأ والوهم والكذب ، ولكن الاحتمال بعد التثبت، والتأكد من عدالة الراوي، ومقابلة الروايات بروايات أقرانه من المحدثين أصبح أقل من الاحتمال الوارد في الشهادات، خصوصًا إذا عضد الرواية نص من كتاب أو سنة ، فإن الاحتمال يكون معدوما . 6 - ولم يذكر الشافعي - رحمه الله تعالي - في هذا الموضع جواب قولهم : إن الله أنزل الكتاب تبيانا لكل شئ ، وذكره في مواضع كثيرة من كتابه الرسالة ، وجوابه : أن الله لم ينص في الكتاب علي كل جزئية من جزئيات الشريعة ، وإنما بين أصول الشريعة ومصادرها وقواعدها ومبادئها العامة ، ومن الأصول التي بينها : وجوب العمل بسنة الرسول - صلي الله عليه وسلم-، كما في قوله تعالي : (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(10) . ومن طالع كتاب ( الرسالة ) للإمام الشافعي، فإنه يجده قد رد ردودا مطولة علي من رفض الاحتجاج بالسنة، أو الاحتجاج بشيء منها، كالذين رفضوا الاحتجاج بخبر الآحاد.(11) (1) - مجموع الفتاوى ( 13 / 208 ). (2) - مجموع الفتاوى ( 19 / 73 ). (3) - مجموع الفتاوى ( 19 / 73 ). (4) - مجموع الفتاوى ( 19 / 72 ). (5) - أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم( 2001 )، والخطيب في الفقيه والمتفقه ( 479 ). (6) - أخرجه الدرامي ( 1 / 120 ) والآجري في الشريعة ص 56 . (7) - أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة ( 1 / 133 ) . (8) - مفتاح الجنة ص 48 . (9) - راحع كتاب الأم ( 7 / 250 ) وانظر : دفاع عن الحديث النبوي ص 101 ، والأضواء السنية علي مذاهب رافضي الاحتجاج بالسنة النبوية ص 24 ، 25 وما بعدهما . (10) - سورة الحشر / 7. (11) - انظر: الأضواء السنية ص 27.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 32 )
ابن قتيبة يتبع الشافعي في الرد على أعداء السنة
مر معنا حوار الإمام الشافعي لمن أنكر السنة، ثم جاء القرن الثالث الهجري الذي توفي الإمام الشافعي في العام الرابع من بدايته ليكون العصر الذهبي لجمع السنة، وتنقيتها، وتدوينها, حيث دون مسند الإمام أحمد , والصحيحان , وكتب السنن الأربعة , وغيرها من الكتب الأخرى .
غير أن ذلك القرن ضم أيضاً من حاول هدم السنة المطهرة, فلو نظرنا مثلاً إلى كتاب ( تأويل مختلف الحديث ) لابن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ , نراه قد جعل كتابه في الرد على أعداء أهل الحديث، والجمع بين الأخبار التي ادعوا عليها التناقض والاختلاف, والجواب عما أوردوه من الشبه على بعض الأخبار المتشابهة، أو المشكلة بادئ الرأي , ولا يكتفي ابن قتيبة بالرد على الشبه, وبيان سوء فهم من أثاروا تلك الشبه , وإنما يتحدث عن الأشخاص أنفسهم الذين أثاروها حتى يعرف القارئ سبب عدائهم لأهل الحديث.
فيذكر منهم النظّام ويقول: وجد النظّام شاطراً من الشطار, يغدوا على سكرٍ , ويروح على سكرٍ , ويبيت على جرائها , ويدخل في الأدناس و ويرتكب الفواحش والشائنات ....إلخ .
وذكر أن النظّام خرج على إجماع الأمة , وطعن في أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي هريرة , ثم عقب ابن قتيبة بعد هذا بقوله: هذا هو قوله – أي النظّام – في جلة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ورضي عنهم , كأنه لم يسمع بقول الله تعالى في كتابه الكريم:(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) ...إلخ السورة (1), ولم يسمع بقوله تعالى:(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ) ...إلخ الآية (2).
وبعد حديثه عن النظّام ورده عليه يقول: ثم نصير إلى قول أبي هذيل العلاف فنجده كذاباً أفاكاً ...إلخ(3), وهكذا استمر ابن قتيبة في كتابه.
(1) سورة الفتح/29.
(2) سورة الفتح/18.
(3) انظر: تأويل مختلف الحديث ص 17/42.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 33 )
والشاطبي يرد أيضاً على أعداء السنة
من الذين دافعوا عن السنة وردوا على أعدائها خاصة الذين يردون الأخبار مقتصرين على الكتاب الكريم الإمام الشاطبي، وذلك في كتابه القيم (الموافقات) , وقد قال فيهم: ((الاقتصار على كتاب رأي قوم لا خلاق لهم, خارجين على السنة , إذ عولوا على ما بنيت عليه من أن الكتاب فيه بيان كل شيء , فاطرحوا أحكام السنة , فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة, وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله)) (1).
والشاطبي –رحمه الله – أدرك الغاية التي يرمي إليها هؤلاء , فقد ساق الشاطبي عدة آثار عن السلف تحث على مواجهة الذين يجادلون في القرآن بالسنة، كقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-:( سيأتي قوم يجادلونك بشبهات القرآن , فخذوهم بالأحاديث, فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله).
وقول أبو الدرداء - رضي الله عنه-: (إن مما أخشى عليكم زلة العالم، وجدل المنافق بالقرآن), وقول ابن مسعود - رضي الله عنه-:(ستجدون أقوماً يدعونكم إلى كتاب الله, وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم, وإياكم والتبدع, وإياكم والتنطع, وعليكم بالعتيق) (2).
وقد ذكر الشاطبي أنَّ العلماء يسوقون هذه النصوص, ويحملونها على تأويل القرآن بالرأي، مع طرح السنن, ثم حدد الذي يرمي إليه النابذون للسنة فقال:(إن كثير من أهل البدع اطرحوا الأحاديث، وتأولوا كتاب الله على غير تأويله، فضلوا وأضلوا), فهدفهم ليس تعظيم كتاب الله, بل التلاعب بكتاب الله.
ولما كانت السنة سياجاً يحمي القرآن من التلاعب به, وجهوا جهودهم لنبذها, ليتم لهم حمل القرآن على آرائهم الفاسدة من غير نكير, والذين يكون مقصدهم حسناً ويظنون صادقين مع أنفسهم أنهم بنبذهم السنة يعظمون الكتاب مخطئون, فهذا الطريق يؤدي إلى الجهل بالكتاب وطرحه.
يقول الشاطبي - رحمه الله تعالى-:(السنة توضح المجمل, وتقيد المطلق, وتخصص العموم , فتخرج كثيراً من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة, فإذا طرحت واتبع ظاهر الصيغ بمجرد الهوى صار هذا النظر ضالاً في نظره، جاهلاً بالكتاب, خابطاً في عمياء , لا يهتدي إلى الصواب فيها, إذ ليس للعقول من إدراك المنافع والمضار في التصرفات الدنيوية إلا النزر اليسير, وهي في الأخروية أبعد على الجملة والتفصيل) (3).
(1) انظر: الموافقات/ 3/11.
(2) انظر: الموافقات 3/12.
(3) انظر: الموافقات 3/14.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (34 )
السيوطي يقتفي أثر من سبقه في الدفاع عن السنة
في عصر الإمام السيوطي ( 911 هـ ) ثارت هذه الفرقة التي تهاجم السنة، وترفض الاحتجاج بها ، فشمر - رحمه الله - عن ساعد الجد ، وألف كتاباً في الرد عليهم عنوانه: ( مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة )، وقد جاء في مقدمته : (( اعلموا - يرحمكم الله - أن من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء ، لا تذكر إلا عند داعية الضرورة ، وأن مما فاح ريحه في هذا الزمان وكان دارساً - بحمد الله تعالى- منذ أزمان ، وهو : أن قائلاً رافضياً زنديقاً أكثر في كلامه أن السنة النبوية ، والأحاديث المروية - زادها الله علواً وشرفاً - لا يُحْتَجُ بها ، وأن الحجة في القرآن خاصة ، وأورد على ذلك حديث : ( ما جاءكم عني فأعرضوه على القرآن ، فإن وجدتم له أصلاً فخذوا به ، وإلا فردوه )، هكذا سمعت هذا الكلام بجملته منه ، وسمعه منه خلائق غيري ، فمنهم من لا يلقي له بالاً، ومنهم من لا يعرف أصل هذا الكلام ، ولا من أين جاء ، فأردت أن أوضح للناس أصل ذلك ، وأبين بطلانه ، وأنه من أعظم المهالك ))(1).
وتحدث السيوطي عن أصل هذه المقالة الفاسدة فقال : ( وأصل هذا الرأي الفاسد أن الزنادقة وطائفة من الرافضة ذهبوا إلي إنكار الاحتجاج بالسنة، والاقتصار علي القرآن ، وهم في ذلك مختلفو المقاصد ، فمنهم من كان يعتقد أن النبوة لعلي، وأن جبريل - عليه السلام - أخطأ في نزوله إلى سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ومنهم من أقر للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالنبوة ، ولكن قال : إن الخلافة كانت حقاً لعليٍّ ، فلما عدل بها الصحابة عنه إلى أبي بكر - رضي الله عنهم أجمعين - قال هؤلاء المخذلون - لعنهم الله - كفروا حيث جاروا، وعدلوا بالحق عن مستحقه . وكَفَّروا - لعنهم الله - عليًا -رضي الله عنه- أيضا لعدم طلبه حقه، فبنوا على ذلك رد الأحاديث كلها، لأنها عندهم- بزعمهم - من رواية قوم كفار، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذه آراء ما كنت أستحل حكايتها، لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد الذي كان الناس في راحة منه من إعصار )(2).
وقد ذكر - رحمه الله تعالى - أن ( أهل هذا الرأي كانوا موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة فمن بعدهم، وتصدى الأئمة الأربعة وأصحابهم في دروسهم ومناظراتهم للرد عليهم )(3).
وقد نقل في كتابه كثيراً مما كتبه العلماء الأعلام من قبله في كتبهم، مستدلين به على الاحتجاج بالسنة، كما نقل عنهم ردودهم على الذين يذهبون هذا المذهب الفاسد.
(1) - مفتاح الجنة ص 11 .
(2) - مفتاح الجنة ص 12 .
(3) - المصدر السابق ص 12.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (35 )
المستشرقون وتلامذتهم يعيدونها جذعة في هذا العصر:
لم تهدأ فتنة الهجوم على السنة في عصرنا هذا؛ بل زاد الهجوم عليها وتولى كبر هذا الهجوم المستشرقون وتلامذتهم المستغربون .
ذكر الأستاذ العقاد في كتابه ( الإسلام في القرن العشرين ) ما خلاصته : أن أوربا في وضع الخطط لمحاربة الإسلام كلفت خبراءها ومفكريها أن يدرسوا الإسلام ويحددوا عناصر القوة فيه؛ ليحاربوه، وهم به عالمون .
وكانت تلك العناصر ــ كما أسفر البحث ــ هي: القرآن ، السنة ، شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- .
وهذه الخلاصة توضح : لماذا يشتد الهجوم علي السنة ؟
إن المراد بالسنة في تقرير الخبراء الأوربيين المشار إليه هو الجانب النظري من أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحاديثه المعتمدة عند المسلمين الآن .
أما شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- فالمراد بها ــ عندهم ــ الجانب السلوكي العملي الأخلاقي ، باعتباره القدوة الحسنة العليا لمن آمن وعمل صالحاً .
ثم إن أحاديث النبي ــ السنة ــ هي الحافظة لسلوكياته وعناصر شخصيته.
في هذا الإطار نفهم بوضوح اشتداد الهجوم علي السنة النبوية، لأنها تمثل ــ عندهم ــ عنصرين من عناصر القوة في الإسلام، وهما:
1/ الثروة الحديثية النبوية .
2/ شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم-.
وهذه أولويات وضعها خصوم الإسلام للقضاء عليه وهم يدركون أنهم إذا أسقطوا السنة من حياة المسلمين فقد أسقطوا معها القرآن الكريم دون أن يمسوه بقول، لأن المسلمين لا يستطيعون أن يقيموا القرآن إلا بإقامة السنة، فهي البيان الذي لابد منه لما جاء في القرآن الكريم.
تلامذة المستشرقين ينشرون سمومهم:
ومرت أوقات كان الغرب فيها يزاول هذه المهمات بنفسه، ثم اهتدوا إلى ( البديل ) وهم المتأثرون بهم من أبناء المسلمين: فريق مخدوع تتلمذ على أيدي المستشرقين، وأشربت نفسه أغراضهم وأمراضهم ، فلم يَعُدْ يرى إلا بعيونهم ، ولا يسمع إلا بآذانهم ، ولا يفهم ولا يعي إلا بعقولهم ، شُحِنَ بالشبهات ، ثم دُفِعَ به إلى دور العلم والإعلام ، ينشر سمومه ، ويثير في سماء السنة غيومه ، فلم يترك قاعدة من قواعد علوم الحديث إلا شكك في قيمتها وجدواها ، ولم يدع راويا من كبار الرواة من الصحابة والتابعين إلا نسج حوله الشبهات ، واتهمه بعظيم الاتهامات توطئة لرد كل ما نقل عنه من المرويات ، ولم يترك كتاباً من كتب السنة التي أجمعت الأمة علي تلقيها بالقبول، وسلمت لرجالها بالعلم والفهم والفضل إلا شكك في أصولها، وطعن في رواتها وأسانيدها ومتونها .
من أبرز هؤلاء التلاميذ: المدعو محمود أبو رية فقد ألف كتابه ( أضواء علي السنة المحمدية )، وما هو بأضواء؛ ولكنه ظلمات في ظلمات،حمل فيه علي السنة ونقلتها، وذهب يطعن في صحاح الأحاديث في أصح مصادرها ، وقد صرح بتكذيبه بأحاديث كثيرة وردت في البخاري ومسلم وغيرهما ، وزعم أن صحاح كتب السنة حوت كثيراً من الإسرائيليات والمسيحيات علي حد تعبيره ، وقد ضرب عرض الحائط بالقواعد والموازين التي وضعها علماء الحديث لتبين الصحيح من الباطل من الأحاديث .
انظر إلى منهجه في التصحيح والتضعيف حيث يقول : ( أصبحت على بينة من أمر ما نسب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أحاديث ، آخذ ما آخذ منه ونفسي راضية ، وأدع ما أدع وقلبي مطمئن ، ولا عليَّ في هذا أو ذاك أي حرج أو جناح )(4)، فقد جعل عقله المقياس في قبول الحديث أو رفضه ، وإذا رضينا منهجه هذا ، فإن السنة تصبح لعبة في أيدي الناس ، يكذب كل فريق بما صدق به غيره .
وقد أمعن أبو رية في التطاول على الصحابي الجليل أبي هريرة ، ومما قال فيه : ( وسجل التاريخ أنه كان أَكِلاً نَهِمَاً ، يُطْعَمُ كل يوم في بيت النبي ، أو في بيت أحد أصحابه ، حتى كان بعضهم ينفر منه )(5) ، وكذب بالأحاديث التي وردت من طريق هذا الصحابي الجليل .
وقد فتح أبو رية بكتابه هذا باب شر كبير ، وقد أخذ شبهاته التي سطرها كثير من المغرضين والحاقدين ، فما من كاتب رام الهجوم علي السنة إلا وكانت ظلمات أبي رية أحد مراجعه .
وحسبنا أن نعلم أن جذور أبي رية تمتد إلى ما كتبه أعداء الإسلام ، وليس هذا تقولاً عليه ، ولكننا من فمه ندينه ، فقد جاء في كتابه قوله : (من يشاء أن يستزيد من معرفة الإسرائيليات والمسيحيات وغيرها في الدين الإسلامي ، فليرجع إلى كتب الحديث والتاريخ ، وإلى كتب المستشرقين أمثال ( جولد تسيهر ، وفون كريمر )(6).
لكن هؤلاء وأولئك ومن لفَّ لفهم وسعي سعيهم ورام هدفهم في محاربة السنة ، لن يصلوا ــ بإذن الله تعالى ــ إلى هدفهم المنشود وغايتهم المطلوبة ، بل سيظلون يتخبطون خبط عشواء في متاهات مظلمة ، كثيرة الالتواء ، صعبة المخرج ، إلى أن يموتوا غيظاً وحقداً وكمداً، لأن الله تكفل بحفظ دينه وإظهاره وعلوه في دنيا العالمين ، قال تعالى :( إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنَّا له لحافظون )(7)، وقال تعالى : ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )(8).
وتصديقاً لهذا الوعد الإلهي فقد قيض الله للسنة ــ عبر القرون المختلفة ــ جنودا يذبون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ولهم مؤلفات ــ في القديم والحديث ــ محمودة مشكورة في هذا الباب، منها:
1 ــ كتاب ( الرسالة ) و ( اختلاف الحديث ) للإمام الشافعي .
2 ــ كتاب ( تأويل مختلف الحديث ) لابن قتيبة .
3 ــ كتاب ( شرح مشكل الآثار ) للإمام الطحاوي .
4 ــ كتاب ( السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ) للدكتور مصطفى السباعي .
5 ــ كتاب ( دفاع عن السنة ) للدكتور محمد أبو شهبة .
6 ــ كتاب ( حجية السنة ) للدكتور عبد الغني عبد الخالق .
7 ــ كتاب ( ظلمات أبي رية ) للشيخ محمد عبد الرازق حمزة .
8 ــ كتاب ( الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء علي السنة من الزلل والتضليل والمجازفة ) للعلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني .
9 ــ كتاب ( السنة قبل التدوين ) و( أبو هريرة راوية الإسلام ) للدكتور محمد عجاج الخطيب .
10 ــ دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للدكتور محمد مصطفى الأعظمي .
11 ــ كتاب ( الحديث والمحدثون ) للشيخ محمد أبو زهو .
12 ــ كتاب ( السنة في مواجهة الأباطيل ) للأستاذ محمد طاهر حكيم .
13 ــ كتاب ( السنة المفتري عليها ) و ( السنة بين الوحي والعقل ) للمستشار سالم البهنساوي .
14 ــ كتاب ( السنة النبوية ومطاعن المبتدعة فيها ) للدكتور مكي الشامي .
15 ــ كتاب ( المستشرقون والحديث النبوي ) للدكتور محمد بهاء الدين
16 ــ كتاب ( السنة النبوية بين دعاة الفتنة وأدعياء العلم ) للدكتور عبد الموجود عبد اللطيف .
17 ــ كتاب ( شبهات حول السنة ودحضها ) للدكتور خليل ملا خاطر.
18 ــ كتاب ( اهتمام المحدثين بنقد الحديث سنداً ومتناً ودحض مزاعم المستشرقين وأتباعهم ) للدكتور محمد لقمان السلفي .
19 ــ كتاب ( القرآنيون وشبهاتهم حول السنة ) للدكتور خادم حسين إلهي بخش .
20 ــ كتاب ( الدفاع عن السنة ) و ( السنة في مواجهة أعدائها ) و (ضلالات منكري السنة ) للدكتور طه الدسوقي حبيش .
21 ــ كتاب ( ضوابط الرواية عند المحدثين ) للأستاذ الصديق بشير نصر .
22 ــ كتاب ( دفع الشبهات عن السنة النبوية ) للدكتور عبد المهدي عبد الهادي.
23 ــ كتاب ( موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية ) للأستاذ أمين الصادق
24 ــ كتاب ( السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام . مناقشتها والرد عليها ) للدكتور عماد السيد الشربيني .
25 ــ كتاب ( السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء ) للأستاذ حمدي الصعيدي .
وهناك كتب ورسائل أخرى في هذا الباب ، إضافة إلى جهود المؤسسات العلمية المشهودة ومواقع الإنترنت وغيرها.
وهكذا نرى أن علماء الأمة على وعي بما يدبر ويحاك ضد ثوابت الأمة ومصادرها ، ولن يزيدهم ما يصوب إليهم من سهام التشكيك والتضليل إلا ثباتاً في الموقف ، وقوة في الرد، وعزيمة على التواصل والاستمرار في العطاء والبذل ( ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة )(9)،( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )(10) .
(1) - مفتاح الجنة ص 11 .
(2) - مفتاح الجنة ص 12 .
(3) - المصدر السابق ص 12.
(4) - أضواء علي السنة المحمدية ص 13 . ط أولي 1958م مطبعة دار التأليف .
(5) - أضواء علي السنة المحمدية ص 154 .
(6) - أضواء علي السنة المحمدية ص 148 .وانظر : الأضواء السنية علي مذاهب رافضي الاحتجاج بالسنة النبوية ص33 ــ 39 .
(7) - سورة الحجر / 9.
(8) - سورة التوبة / 32 ــ 33 .
(9) - سورة الأنفال / 42.
(10) - سورة الشعراء / 227.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (36 )
تلامذة المستشرقين ينشرون سمومهم
ومرت أوقات كان الغرب فيها يزاول هذه المهمات بنفسه، ثم اهتدوا إلى ( البديل ) وهم المتأثرون بهم من أبناء المسلمين: فريق مخدوع تتلمذ على أيدي المستشرقين، وأشربت نفسه أغراضهم وأمراضهم، فلم يَعُدْ يرى إلا بعيونهم، ولا يسمع إلا بآذانهم، ولا يفهم ولا يعي إلا بعقولهم، شُحِنَ بالشبهات، ثم دُفِعَ به إلى دور العلم والإعلام، ينشر سمومه، ويثير في سماء السنة غيومه، فلم يترك قاعدة من قواعد علوم الحديث إلا شكك في قيمتها وجدواها، ولم يدع راويا من كبار الرواة من الصحابة والتابعين إلا نسج حوله الشبهات، واتهمه بعظيم الاتهامات توطئة لرد كل ما نقل عنه من المرويات، ولم يترك كتاباً من كتب السنة التي أجمعت الأمة علي تلقيها بالقبول، وسلمت لرجالها بالعلم والفهم والفضل إلا شكك في أصولها، وطعن في رواتها وأسانيدها ومتونها .
من أبرز هؤلاء التلاميذ: المدعو محمود أبو رية فقد ألف كتابه ( أضواء على السنة المحمدية )، وما هو بأضواء؛ ولكنه ظلمات في ظلمات، حمل فيه علي السنة ونقلتها، وذهب يطعن في صحاح الأحاديث في أصح مصادرها، وقد صرح بتكذيبه بأحاديث كثيرة وردت في البخاري ومسلم وغيرهما، وزعم أن صحاح كتب السنة حوت كثيراً من الإسرائيليات والمسيحيات على حد تعبيره، وقد ضرب عرض الحائط بالقواعد والموازين التي وضعها علماء الحديث لتبين الصحيح من الباطل من الأحاديث .
انظر إلى منهجه في التصحيح والتضعيف حيث يقول : ( أصبحت على بينة من أمر ما نسب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أحاديث ، آخذ ما آخذ منه ونفسي راضية، وأدع ما أدع وقلبي مطمئن، ولا عليَّ في هذا أو ذاك أي حرج أو جناح )(1)، فقد جعل عقله المقياس في قبول الحديث أو رفضه، وإذا رضينا منهجه هذا، فإن السنة تصبح لعبة في أيدي الناس، يكذب كل فريق بما صدق به غيره .
وقد أمعن أبو رية في التطاول على الصحابي الجليل أبي هريرة، ومما قال فيه : ( وسجل التاريخ أنه كان أَكِلاً نَهِمَاً، يُطْعَمُ كل يوم في بيت النبي، أو في بيت أحد أصحابه، حتى كان بعضهم ينفر منه )(2)، وكذب بالأحاديث التي وردت من طريق هذا الصحابي الجليل.
وقد فتح أبو رية بكتابه هذا باب شر كبير، وقد أخذ شبهاته التي سطرها كثير من المغرضين والحاقدين، فما من كاتب رام الهجوم علي السنة إلا وكانت ظلمات أبي رية أحد مراجعه .
وحسبنا أن نعلم أن جذور أبي رية تمتد إلى ما كتبه أعداء الإسلام، وليس هذا تقولاً عليه، ولكننا من فمّه ندينه، فقد جاء في كتابه قوله : (من يشاء أن يستزيد من معرفة الإسرائيليات والمسيحيات وغيرها في الدين الإسلامي، فليرجع إلى كتب الحديث والتاريخ، وإلى كتب المستشرقين أمثال ( جولد تسيهر، وفون كريمر )(3).
لكن هؤلاء وأولئك ومن لفَّ لفهم وسعي سعيهم ورام هدفهم في محاربة السنة، لن يصلوا ــ بإذن الله تعالى ــ إلى هدفهم المنشود وغايتهم المطلوبة، بل سيظلون يتخبطون خبط عشواء في متاهات مظلمة، كثيرة الالتواء، صعبة المخرج، إلى أن يموتوا غيظاً وحقداً وكمداً، لأن الله تكفل بحفظ دينه وإظهاره وعلوه في دنيا العالمين ، قال تعالى :( إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنَّا له لحافظون )(4) وقال تعالى : ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )(5).
وتصديقاً لهذا الوعد الإلهي فقد قيض الله للسنة ــ عبر القرون المختلفة ــ جنودا يذبون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ولهم مؤلفات ــ في القديم والحديث ــ محمودة مشكورة في هذا الباب، منها:
1 ــ كتاب ( الرسالة ) و ( اختلاف الحديث ) للإمام الشافعي .
2 ــ كتاب ( تأويل مختلف الحديث ) لابن قتيبة .
3 ــ كتاب ( شرح مشكل الآثار ) للإمام الطحاوي .
4 ــ كتاب ( السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ) للدكتور مصطفى السباعي .
5 ــ كتاب ( دفاع عن السنة ) للدكتور محمد أبو شهبة .
6 ــ كتاب ( حجية السنة ) للدكتور عبد الغني عبد الخالق .
7 ــ كتاب ( ظلمات أبي رية ) للشيخ محمد عبد الرازق حمزة .
8 ــ كتاب ( الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة ) للعلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني .
9 ــ كتاب ( السنة قبل التدوين ) و( أبو هريرة راوية الإسلام ) للدكتور محمد عجاج الخطيب .
10 ــ دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للدكتور محمد مصطفى الأعظمي .
11 ــ كتاب ( الحديث والمحدثون ) للشيخ محمد أبو زهو .
12 ــ كتاب ( السنة في مواجهة الأباطيل ) للأستاذ محمد طاهر حكيم .
13 ــ كتاب ( السنة المفتري عليها ) و ( السنة بين الوحي والعقل ) للمستشار سالم البهنساوي .
14 ــ كتاب ( السنة النبوية ومطاعن المبتدعة فيها ) للدكتور مكي الشامي .
15 ــ كتاب ( المستشرقون والحديث النبوي ) للدكتور محمد بهاء الدين
16 ــ كتاب ( السنة النبوية بين دعاة الفتنة وأدعياء العلم ) للدكتور عبد الموجود عبد اللطيف .
17 ــ كتاب ( شبهات حول السنة ودحضها ) للدكتور خليل ملا خاطر.
18 ــ كتاب ( اهتمام المحدثين بنقد الحديث سنداً ومتناً ودحض مزاعم المستشرقين وأتباعهم ) للدكتور محمد لقمان السلفي .
19 ــ كتاب ( القرآنيون وشبهاتهم حول السنة ) للدكتور خادم حسين إلهي بخش .
20 ــ كتاب ( الدفاع عن السنة ) و ( السنة في مواجهة أعدائها ) و (ضلالات منكري السنة ) للدكتور طه الدسوقي حبيش .
21 ــ كتاب ( ضوابط الرواية عند المحدثين ) للأستاذ الصديق بشير نصر .
22 ــ كتاب ( دفع الشبهات عن السنة النبوية ) للدكتور عبد المهدي عبد الهادي.
23 ــ كتاب ( موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية ) للأستاذ أمين الصادق
24 ــ كتاب ( السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام . مناقشتها والرد عليها ) للدكتور عماد السيد الشربيني .
25 ــ كتاب ( السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء ) للأستاذ حمدي الصعيدي .
وهناك كتب ورسائل أخرى في هذا الباب ، إضافة إلى جهود المؤسسات العلمية المشهودة ومواقع الإنترنت وغيرها.
وهكذا نرى أن علماء الأمة على وعي بما يدبر ويحاك ضد ثوابت الأمة ومصادرها ، ولن يزيدهم ما يصوب إليهم من سهام التشكيك والتضليل إلا ثباتاً في الموقف ، وقوة في الرد، وعزيمة على التواصل والاستمرار في العطاء والبذل ( ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة )(6).
( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )(7).
(1) - أضواء على السنة المحمدية ص 13 . ط أولي 1958م مطبعة دار التأليف .
(2) - أضواء على السنة المحمدية ص 154 .
(3) - أضواء على السنة المحمدية ص 148 .وانظر : الأضواء السنية على مذاهب رافضي الاحتجاج بالسنة النبوية ص33 ــ 39 .
(4) - سورة الحجر / 9.
(5) - سورة التوبة / 32 ــ 33 .
(6) - سورة الأنفال / 42.
(7) - سورة الشعراء / 227.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (37 )
الطاعنون في السنة - قديما وحديثا - (1-2)
عرضنا فيما سبق لتاريخ الهجوم على السنة والمراحل التي مر بها عصرًا بعد عصرٍ ، وألمحنا في ثنايا ذلك إلى بعض الفرق التي طعنت في السنة وهاجمتها، وهنا نتناول بشيء من التفصيل الطاعنين في السنة ـ قديما وحديثا ـ والمهاجمين إياها، لكن في البداية أود التنبيه إلى أن الطاعنين في السنة فرق شتى، وجماعات مختلفة، وأفراد عديدون، لكن إنكارهم للسنة، وطعنهم فيها على درجات :
1ـ فمنهم المنكرون للسنة كلها : مثل بعض الفرق القديمة أو الرافضة ، ومثل غلام أحمد برويز، الذي أسس ( جمعية أهل القرآن ).
2ـ ومنهم من ينكر السنة لكن يستثني منها السنة العملية المتواترة، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج ، وهذا مذهب كثير من المعتزلة، وكثير من منكري السنة حديثًا .
3ـ ومنهم المقرون بالسنة، لكن لا يحتجون منها بأخبار الآحاد في العقيدة، مثل كثير من أهل الكلام.
4ـ ومنهم من ليس له قاعدة، ولا ضابط ، وإنما ينكر هذا الحديث أو ذاك؛ لمخالفته لمعقوله، أو لهواه، أو لغرض في نفسه، أو لسبب آخر.(1)
وقد يتساءل البعض: لماذا الحديث عن هذه الفرق ؟.
ونقول : إن الحديث عن هؤلاء إنما يأتي من باب قول الشاعر :
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه * ومن لا يعرف الشر يقع فيه
وهذه الفرق فضلا عن موقفها من السنة المطهرة، ومن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، كان لها الأثر الكبير في تفريق الأمة الإسلامية إلى أحزاب وشيع، من هذا المنطق تأتي أهمية دراسة تلك الفرق لما يأتي :
أولاً: لأن هذه الفرق وإن كانت قديمة فليست العبرة بأشخاص مؤسسي تلك الفرق، ولا بزمنهم؛ ولكن العبرة بوجود أفكار تلك الفرق في وقتنا الحاضر، فإننا إذا نظرنا إلى بعض تلك الفرق الماضية كالخوارج( القرآنيون )، نجد أن لها امتدادا يسري في الأمة سريان الوباء ، وكذلك المعتزلة لا زالت أفكارهم حية قوية، يتشدق بها بعض المغرضين من الذين استهوتهم الحضارة الغربية والشرقية ، فراحوا يمجدون العقل، ويحكمونه في نصوص الشرع، قرآنا وسنة ، فما وافق عقولهم قبلوه، وإلا ردوه ، أو تأولوه تأويلا يضر بعقيدة المسلم ، ويصفون من يعتمد على ما وراء ذلك بالتأخر والانزواء .
إنهم يريدون الخروج عن المنهج الإسلامي ، ولكنهم لم يجرؤا صراحة على ذلك ، فوجدوا أن التستر وراء تلك الآراء التي قال بها من ينتسب إلى الإسلام خير وسيلة لتحقيق ذلك ، فذهبوا إلى تمجيد تلك الأفكار؛ لتحقيق أهدافهم البعيدة .
من هنا تأتي أهمية دراسة تلك الفرق لبيان ما فيها من أفكار وآراء هدامة، مخالفة لحقيقة الإسلام ، وكيف يعمل على إحيائها وترويجها في العصر الحاضر من سار على دربهم، أو تأثر بهم ، ذلك أنه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجود اليوم في وضوح تام ، فلكل قوم وارث ، وصدق الله إذ يقول : ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم )(2).
وأيضا لكشف القناع عن تلك الحركات، والأفكار الهدامة، التي يقول بها في العصر الحاضر أولئك الخارجون عن الخط السوي، والصراط المستقيم ، وتعرية دورهم الخطير في الطعن والتشكيك في الإسلام ( قرآنا وسنة ) من ناحية ، وإشاعة الفرقة والاختلاف في صفوف الأمة من ناحية أخرى ، وذلك إنما يكون بتعريف الناس بفكرهم، وحقيقة أمرهم؛ ليحذروهم .
(1) - انظر : قضايا منهجية ودعوية ص62
(2) - سورة البقرة /118
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (38 )
الطاعنون في السنة - قديما وحديثا - (2-2)
انتهينا في الحلقة السابقة إلى ذكر الأمر الأول في أهمية دراسة الفرق التي طعنت في السنة، ونستكمل في هذه الحلقة بقية الأمور، فأقول:
ثانياً:
إن دراسة تلك الفرق يكشف لنا جذور البلاء الذي شتت قوى المسلمين، وفرقهم شيعا، وجعل بأسهم بينهم شديدًا، كما يكشف لنا جذور شبهات أعداء السنة في الوقت الحاضر.(1)
ثالثاً:
إن الفرق التي ظهرت قديما ما من فرقة منها إلا وقد قامت مبادئها علي بعض المنكرات ، وهي تدعي أنها المحقة وما عداها علي الضلال ، فألبسوا الحق بالباطل ، وأظهروا مروقهم وخروجهم عن منهج الكتاب والسنة في أثواب براقة؛ لترويج بدعهم، والدعوة لها .
فتأتي دراسة تلك الفرق لبيان أضرارها علي العقيدة الإسلامية، ووحدة الأمة ، وردًا على من يزعمون أن الخوارج كانوا من الصحابة ، وأن المعتزلة ــ وهم كانوا من الصحابة والتابعين ــ رفضوا السنة في العقائد، كما رفضها الخلفاء الراشدون والخوارج ، بل يزعمون - زيادة على ما سبق- أنهم هم الذين نقلوا القرآن ، ونقلوا شعائر الدين قبل إقرار مذهب السلف في ديار المسلمين .(2)
رابعاً:
إن عدم دراسة الفرق، والرد عليها، وإبطال الأفكار المخالفة للحق ، فيه إفساح المجال للفرق المبتدعة أن تفعل ما تريد ، وأن تدعوا إلى ما تريد، من بدع وخرافات، دون أن تجد من يتصدى لها بالدراسة والنقد، كما هو الواقع ، فإن كثيرا من طلاب العلم ـــ فضلا عن عوام المسلمين ــ يجهلون أفكار فرق يموج بها العالم ، وهي تعمل ليلا ونهارا علي نشر باطلها ، ولعل هذه الغفلة من المسلمين عن التوجه لكشف هذه الفرق المارقة من تخطيط أولئك المارقين، الذين يحلوا لهم حجب الأنظار عنهم، وعن مخططاتهم الإجرامية ، ولا أدل على ذلك من تلك الأفكار، وبعض العبارات التي يرددها كثير من المسلمين في كثير من المجتمعات الإسلامية، دون أن يعرفوا أن مصدرها، إما من الخوارج، مثل قولهم لا حجة في شيء من أحكام الشريعة إلا من القرآن، أما السنة فلا حجة فيها، ومثل استحلال دماء المسلمين لأقل شبهة، وتكفير الشخص، بل المجتمعات الإسلامية بأدنى ذنب، أو من المعتزلة، مثل تمجيد العقل، وتحكيمه في نصوص الشرع قرآنا وسنة، فما وافقه قُبِلَ، وإلا فيرد، أو من الشيعة،مثل تكفير الصحابة أو بعضهم، واتهامهم بالكذب، والخوض في فتنة عثمان، وعليٍّ، ومعاوية ــ رضوان الله على الجميع-، أو من البهائية، مثل تقديس العدد تسعة عشر، إلي غير ذلك.
ومن المعلوم أن ذلك إنما يعود إلي الجهل بأفكار وأهداف هذه الفرق التي أضلت كثيرًا من شباب هذه الأمة في كثير من المجتمعات الإسلامية، قديما وحديثا . من هنا تأتي أهمية دراسة الفرق، وكشف القناع عن أهوائها وبدعها ، ليكون ذلك الكشف نورًا يضئ لشباب الأمة طريقه وسط هذا الظلام الفكري المفتعل من قبل ذيول تلك الفرق، التي تعمل في الظلام؛ لنشر أفكارها ، وفرض مخططاتها المعادية للإسلام .(3)
(1) - انظر : السنة في كتابات أعداء الإسلام ( 1 / 73 ) .
(2) - انظر : كشف الشبهات عن الشيخ الغزالي ص 63 ، 77 ، 94 .
(3) - انظر : فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام، وموقف الإسلام منها ( 1 / 22 ــ 26 ) .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (39 )
الخوارج وموقفهم من السنة
التعريف بالخوارج :
الخوارج في اللغة: جمع خارج وخارجي، وقد أطلقت هذه الكلمة في كتب اللغة علي طائفة من أهل الآراء والأهواء؛ لخروجها على الدين، أو على الإمام علي - رضي الله عنه-.
قال الأزهري : " والخوارج : قوم من أهل الأهواء، لهم مقالة على حدة"(1)، وقال الزبيدي عنهم : " وهم الحرورية ، والخارجية طائفة منهم ، وهم سبع طوائف ، سموا بهم لخروجهم على الناس، أو عن الدين، أو عن الحق، أو عن علي - رضي الله عنه- بعد صفين "(2).
وفي الاصطلاح : قال الشهرستاني: " كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيًا ، سواء كان الخروج في زمن الصحابة على الأئمة الراشدين ، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان "(3).
وترجع بداية نشأة الخوارج كفرقة ذات اتجاه سياسي، وفكر خاص حين خرجوا على الإمام علي ــ رضي الله عنه ــ بعد أن رضي بالتحكيم في موقعة صفين ، والتحموا معه في معركة النهروان الشهيرة (4).
والخوارج وإن تفرقوا إلى فرق عديدة فإنه يجمعهم:
1ــ القول بالتبري من عثمان، وعلي ــ رضي الله عنهما ــ، ويقدمون ذلك على كل طاعة، ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك .
2 ــ ويكفرون أصحاب الكبائر.
3 ــ ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة حقاً واجبًا .
إلا أن لعبد القاهر البغدادي رأيًا آخر فيما يجمع الخوارج ، فهو يقول : (وإنما الصواب فيما يجمع الخوارج كلها ما حكاه شيخنا أبو الحسن الأشعري - رحمه الله-: من تكفيرهم علياً، وعثمان، وأصحاب الجمل، والحكمين، ومن صوبهما، أو صوب أحدهما، أو رضي بالتحكيم )(5).
ذلك أن أبا الحسن الأشعري يقول في مقالات الإسلاميين : ( أجمعت الخوارج على تكفير علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ أن حكم ، وهم مختلفون : هل كفره شرك أم لا ؟ وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر إلا النجدات فإنها لا تقول ذلك ، وأجمعوا على أن الله – سبحانه- يعذب أصحاب الكبائر عذابًا دائما إلا النجدات ).
(1) - تهذيب اللغة ( 7 / 50 )
(2) - تاج العروس ( 2 / 30 )
(3) - الملل والنحل ( 1 / 114 ).
(4) - انظر: الفصل في الملل والنحل ( 4 / 157 )، والملل والنحل ( 1 / 21 )، والبداية والنهاية ( 7 / 189 )، وفرق معاصرة ( 1 / 70 ، 71 ) .
(5) - الفرق بين الفرق ص 74 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (40)
موقف الخوارج من الحديث
مما لاشك فيه أن موقف الخوارج من الحديث ينبني على موقفهم من رواته وحملته من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. وتجمع كتب التاريخ والفرق على أن الخوارج - على اختلاف فرقهم- يعدلون الصحابة جميعا قبل الفتنة، ثم يكفرون عليا، وعثمان، وأصحاب الجمل، وجمهور الصحابة الموجودين بعد التحكيم، والحكمين، ومن رضي بالتحكيم وصوب الحكمين أو أحدهما، كفروهم بدعوى أنهم خالفوا أمر الله(1).
ونتيجة لهذا المروق، ردوا أحاديث جمهور الصحابة بعد الفتنة، وامتنعوا عن قبول رواياتهم، كما امتنعوا عن قبول مرويات ( فقهاء الأمة الذين ضبطوا آثار الصحابة، وقاسوا فروعهم على فتاوى الصحابة ) إذ كفروهم بدورهم(2)،
وبذلك وقعوا في ضلالات يندى لها الجبين، وتتنافى حتى مع الذوق السليم؛ لعزوفهم عن السنن والآثار .
يقول الدكتور/ السباعي: " وإنه لبلاء عظيم أن نسقط عدالة جمهور الصحابة الذين اشتركوا في النزاع مع علي أو معاوية ، أو نسقط أحاديثهم، ونحكم بكفرهم أو فسقهم ، وهم في هذا الرأي لا يقلون عن الشيعة خطرًا، وفساد رأي، وسوء نتيجة، وإذا كان مدار الاعتماد على الرواية هو صدق الصحابي وأمانته فيما نقل ــ وقد كان ذلك موفورًا عندهم ــ وكان الكذب أبعد شيء عن طبيعتهم، ودينهم، وتربيتهم ، فما دخل ذلك بآرائهم السياسية وأخطائهم ؟ ووصفهم بأوصاف لا تليق بعامة الناس، فكيف بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الذين كان لهم في خدمة الإسلام قدم صدق، لولاها لكنا نتيه في الظلمات، ولا نعرف كيف نهتدي سبيلا "(3).
(1) - انظر: الفرق بين الفرق ص 74، والسنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 149، وموقف الخوارج هذا معاكس لموقف أهل السنة الذين عدلوا كل الصحابة من شارك في الفتنة ومن لم يشارك.
(2) - انظر: الفرق بين الفرق ص 322.
(3) - السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 133 بتصرف.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (41)
مواطن انحراف الخوارج عن السنة (1-7)
إن أبرز سمات الخوارج التشدد والغلو والتطرف في جميع أحكامهم ، ولهذا خرجوا عن الإسلام الدين الوسط ، الذي يتميز بالاعتدال الذي هو الفضيلة ، ووسموا فرقتهم بالجمود والتحجر الذي يتوقف عند ظواهر النصوص القرآنية دون مراعاة لما يمكن أن ينسخ تلك النصوص القرآنية، أو يخصص عمومها، أو يقيد مطلقها ، أو يزيد عليها بعض الأحكام مما تكفلت السنة المطهرة بتشريعه وبيانه .
وقد سبق أن بينا موقفهم من مرويات جل الصحابة المتمثل في رد رواية الذين كفروهم منهم .
وقد نشأ عن موقفهم هذا جحد أغلب النصوص الحديثية، بل فإنهم ( لم يلتفتوا إلى إجماع الأمة ولم يقدروه ، عند فهمهم لنصوص القرآن، مع أن الإجماع في الحقيقة يستند إلى أصل من الكتاب والسنة ، وليس أمرًا مبتدعا في الدين، أو خارجا على قواعده وأصوله )(1).
كما كان لحدة مزاجهم، وتطرفهم، وميلهم الفاحش إلى تكفير من يخالفهم في جليل الأمور وحقيرها ، الدور الفعال في انقساماتهم على أنفسهم وتفرقهم إلى طرائق قددا. وكان لكل هذه المعاني مجتمعة الأثر الكبير فيما أحدثوه من الضلالات والبدع التي يربو العقلاء بأنفسهم عن اقترافها، فضلا عن المؤمنين الذين يستبرئون لدينهم .
وهذه جملة من ضلالاتهم المخالفة صراحة ما ثبت من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم-.
1ـ إن من أشهر ضلالاتهم وأوضحها، لا سيما التي اقترفتها المحكمة الأولى والأزارقة ( تكفيرعلي وعثمان وأصحاب الجمل ، ومعاوية وأصحابه والحكمين ومن رضي بالتحكيم )(2).
ـ أما علي فخطؤه في التحكيم إذ حكم الرجال، ولا حكم إلا لله . . .(3)، كما خطؤوه في محو اسمه من إمرة المسلمين . . . وانتهوا إلى تكفيره .
ـ أما عثمان فطعنوا فيه للأحداث التي عدوها عليه من محاباة بني قبيلته على حساب مصالح الأمة، إلى غير ذلك من التجاوزات التي ألمحنا إليها منذ حين.
أما أصحاب الجمل، وأصحاب صفين، ومعاوية ، فطعنوا فيهم لانغماسهم في الفتنة؛ ولأنهم أطراف في النزاع .
وقد طفق الأزارقة يتأولون الآيات، ويتعسفون في تفسيرها قصد تطويع معانيها لخدمة أغراضهم وأهوائهم، فتأولوا قوله تعالى : ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ) ] البقرة : 204[
وقالوا إنما نزلت هذه الآية في علي.
كما صوبوا عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي ، حتى إن عمران بن حطان ، وهو مفتي الخوارج وزاهدهم وشاعرهم الأكبر ، أشاد به في أبيات مشهورة منها :
يا ضربة من منيب ما أراد بها ** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا (4)
وإن هذا الموقف من صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم- ليخالف السنة مخالفة صريحة ، ذلك أن عددا من الذين كفروهم قد شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالجنة ، كعلي، وطلحة بن عبيد الله، والزبير، وعثمان(5) ، كما كانوا ضمن بيعة الرضوان الذين قال الله تعالى فيهم : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة )(6)، وإن كتب السنة الخلية عن الهوى لتمتلئ بمناقب أولئك الأصحاب وفضائلهم الباقية على الزمن(7).
أما محو علي لاسمه من إمرة المسلمين فليس إلا اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية ، حيث محا لفظ ( رسول الله ) بعد أن اعترض عليه المشركون المتصالحون معه على ذلك(8)، والخوارج لما خالفوا السنة ابتعدوا عن هديها ولم يعتبروا بأحداثها(9).
(1) - التفسير والمفسرون 2/313
(2) - الفرق بين الفرق 81 .[2]
(3) - ولما سمعها علي- رضي الله عنه- قال : (( كلمة حق أريد بها باطل )) أو (( كلمة عدل أريد بها جور، إنما يقولون لا إمارة، ولا بد من إمارة بر أو فاجر )) 1/116 ـ117 (ملل الشهرستاني )
(4) - الملل ـ الشهرستاني 1/120 . البداية والنهاية 7\ 359 وقد عارضه بكر بن حماد الزناتي التاهرتي ( 200هـ 296هـ ) هاجيا له : فقال في قصيد طويل :
بل ضربة من غوي أورثته لظى مخلدا قد أتى الرحمن غضبانا
(5) - انظر الحديث رقم ( 3574 ، 3575 ) من سنن الترمذي .
(6) - سورة الفتح / 18 .
(7) - انظر : صحيح البخاري ، كتاب فضائل الصحابة ، ومسلم ، كتاب الفضائل . وسنن الترمذي ،أبواب المناقب .
(8) - انظر : جامع بيان العلم وفضله 2 / 127 ، وصحيح البخاري ، كتاب الصلح ، باب كيف يكتب هذا ما صالح ...، وكتاب المغازي ، باب عمرة القضاء .
(9) - انظر : أصول علم الحديث بين النهج والمصطلح ص 162 ــ 164 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (42)
مواطن انحراف الخوارج عن السنة (2-7)
2ـ تكفيرهم أصحاب الكبائر ، وقد اجتمع على هذا المحكمة الأزارقة ( نسبة إلى نافع بن الأزرق ) وقالوا ( من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر ملة ، خرج به عن الإسلام جملة ويكون مخلدا في النار مع سائر الكفار ) أما الصفرية الزيادية ( أتباع زياد بن الأصفر ) فيكفرون من أتى من الكبائر ما ( ليس فيها حد لعظم قدره مثل ترك الصلاة والفرار من الزحف ) أما ( ما كان من الأعمال عليه حد واقع فلا يتعدى بأهله الاسم الذي لزمه به الحد كالزنا والسرقة والقذف فسمي زانيا ، سارقا ، قاذفا لا كافرا مشركا ) (1) في حين تعتبر بعض فرقهم أصحاب الحدود كفارا مشركين وتعد كل ذنب صغير أو كبير شركا (2) .
ويلتقي العجاردة ( نسبة إلى عبد الكريم بن عجرد ) مع الأزارقة في تكفير أصحاب الكبائر ، ويستدل الأزارقة ( نسبة إلى نافع بن الأزرق ) على صحة مذهبهم هذا ( بكفر إبليس ، فقالوا : ما ارتكب إلا كبيرة ، حيث أمر بالسجود لآدم عليه السلام فامتنع وإلا فهو عارف بوحدانية الله تعالى )(3) .
وهذا الاستشهاد كما هو واضح من الأقيسة الفاسدة ، ذلك أن موقفهم هذا يتنافى مع صريح النص كما سنبينه بعد حين .
ـ وإطلاق التكفير بهذا الشكل يتنافى مع النص الصريح لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ــ وحوله عصابة من أصحابه ـ : ( بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ، فمن وفي منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا ، ثم ستره الله ، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عاقبه ، فبايعناه على ذلك ) (4) .
فالحديث يرد على الخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة ويخلدونه في النار ، إذ لو أقيم عليه الحد فذلك الحد كفارة له ، ولو ستر فأمره إلى الله ، ولم يقل الرسول إنه كافر .
3ـ ومن انحرافاتهم إباحتهم قتل الأطفال مخالفيهم والنسوان معهم ، مع الإفساد في الأرض ، بالإبادة الجماعية وحرق الأشجار والزورع .
فالحرورية : حين مروا بعبد الله بن خباب قتلوه ، وبقروا بطن جاريته ، ثم عدوا على قوم من بني قطيعة فقتلوا الرجال ، وأخذوا الأموال ، وغلوا الأطفال في المراجل (5)، وتأولوا قول الله تعالى : " إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " نوح : 27 .
كما أن الأزارقة ( استباحوا قتل النساء مخالفيهم وقتل أطفالهم ، وزعموا أن الأطفال مشركون ، وقطعوا بأن أطفال مخالفيهم في النار ) (6) .
وكذلك العجاردة روعوا الناس وسفكوا الدماء البريئة ، فهذا حمزة بن أدرك زعيم الفرقة التي تنتسب إليه ( الحمزية ) والذي ظهر سنة 179هــ في عهد الرشيد ، تذكر أعماله بفظاعات هولاكو ( 614 ـ 664 هــ ) وجده جنكيز خان ( 550 ـ 625 هــ ) اللذين روعا الدنيا وأغرقاها في الدماء ؛ فكان ( إذا قاتل قوما وهزمهم أمر بإحراق أموالهم وعقر دوابهم )(7) وقد قصد هراه (مدينة في أفغانستان ) فمنعه أهلها من دخولها ، فاستعرض الناس خارج المدينة ، وقتل منهم الكثير (8).
وفي هذه الضلالات مخالفه لروح القرآن ونهيه عن الفساد ، وتتجافى مع تعاليم السنة المطهرة حيت جاء في صحيح مسلم في باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "فإن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام(9)"
(1) - ملل الشهرستاني 1/ 137 .
(2) - ذهب إلى هذا اليزيدية أصحاب يزيد بن أنيسة من الإباضية أما الحفصية وهم أصحاب حفص بن أبي المقدام ففرقوا بين الشرك والإيمان فمن عرف الله ( ثم كفر بما سواه من رسول أو كتاب أو قيامة أو جنة أو نار أو ارتكب الكبائر من الزنا ، والسرقة وشرب الخمر فهو كافر لكنه برئ من الشرك ) ملل الشهرستاني 1/ 146 .
(3) - ملل الشهرستاني 1/ 122 .
(4) - صحيح البخاري متن فتح الباري 1/ 70 ـ 75 ( كتاب الإيمان ـ باب بيعة العقبة بعد الفتح ) .
(5) - جامع بيان العلم وفضله 2/ 129 .
(6) - الفرق بين الفرق 83 ـ الملل الشهرستاني 1/ 121 ـ 122 .
(7) - الفرق بين الفرق 98.
(8) - المصدر السابق 99.
(9) - البخاري 1/ 168 ـ مسلم 3/ 1306 ـ الترمذي 3/ 461 ـ ابن ماجه 2 / 1015 ـ الدرامي 1 /393 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (43)
مواطن انحراف الخوارج عن السنة (3-7)
4- ومن الأمثلة على مخالفتهم لما صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ما جاء عن الأزارقة من أنهم أسقطوا الرجم عن الزاني (1) بدعوى أن القرآن لم يشر إلى الرجم . قالوا : ( رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ، ورجمت الأمة من بعده ، والله تعالى يقول في الإماء : (( فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب )) ] النساء : 25 [ والرجم إتلاف للنفس ، لا يتبعض ، فكيف يكون على الإماء نصفه ؟
وذهبوا إلى (أن المحصنات هن ذوات الأزواج وقالوا : وفي هذا دليل علي أن
المحصنة حدها الجلد ) (2) .
كما أسقطوا حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال مع وجوب الحد علي قاذف المحصنات من النساء (3) .
وإسقاط الأزارقة للرجم يتنافى مع سنة الرسول ، فقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال : ( رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجم أبو بكر ورجمت ، ولولا أني أكره أن أزيد في كتاب الله ، لكتبته في المصحف فإني قد خشيت أن أقوام فلا يجدونه في كتاب الله فيكفرون به ) ، ويقوم الإمام أبو عيسى الترمذي عن هذا الحديث : حديث عمر ، حسن صحيح (4).
كما أن قصة ماعز (5) والغامدية (6) ، وقصة العسيف (7) وغيرها ، تثبت أن الرسول رجم الزناة المحصنين .
أما إسقاطهم حد القذف فيعود إلى سوء فهمهم لظاهر النص فقد قال تعالى : (( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ، وأولئك هم الفاسقون )) ]النور: 4 [ .
فرأوا أن حد القذف مقصور على من يقذف المحصنات دون المحصنين . والفهم الصحيح للآية الشريفة يقتضي إدخال المحصنين ضمن الحكم قياسا (8).وهكذا نرى أنهم يحجمون عن استخدام القياس المحمود كما هو الحال بالنسبة لآية القذف ، في حين يتمسكون بالقياس المذموم والتأويل المتعسف كما رأينا عند الأزارقة في قياسهم تكفير صاحب الذنب على إثم إبليس الذي اقترف ذنبا واحدا ، فكفر وخلد في النار .
(1) مقالات الإسلاميين 1/ 173 .
(2)التفسير و المفسرون 2/ 313
(3) مقالات الإسلاميين 1/ 174
(4) سنن الترمذي 4 / 38 .
(5) قصة ماعز بن مالك الأسلمي ، انظرها في البخاري ـ الحدود ـ باب لا يرجم المجنون ـ حديث رقم 6815 ـ متن فتح الباري 12 / 120 ـ 121 .
(6) مسلم ـ الحدود ـ باب من اعترف على نفسه بالزنى 3 / 1321 ـ حديث رقم 1695 ، 1696 .
(7) البخاري ـ الحدود ـ باب الاعتراف بالزنى ـ عدد الحديث 6827 متن فتح الباري 12 / 136.
(8) جامع بيان العلم وفضله 2 / 82
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (44)
مواطن انحراف الخوارج عن السنة (4-7)
5ـ كما أنكروا أيضا قول الرسول في الوصية بدعوى أن القرآن يدفعها : ( قالوا: رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا وصية لوارث ) (1)، والله تعالى يقول : " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا ، الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين " ] البقرة : 180 [ والوالدان وارثان على كل حال ، لا يحجبهما أحد عن الميراث ، وهذه الرواية خلاف كتاب الله عز وجل (2)وهم يسقطون وظيفة السنة المطهرة التي تبين وتخصص ، وتقيد ، ما ورد في الكتاب من آيات عامة المعنى أو مطلقته أو هي في حاجة إلى بيان وشرح من أعلم الناس بالكتاب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمعلوم أن السنة قضت بأن لا وصية لوارث ، وهو معنى خرجه الستة بالإضافة إلى مالك في الموطإ وأحمد في مسنده .
6ـ وخالفوا السنة في الأمر بقطع يد السارق متى توفرت شروط إقامة الحد ، ذلك أن الأزارقة ذهبوا إلى قطع ( يد السارق في القليل والكثير ، ولم يعتبروا في السرقة نصابا ) (3) معولين في ذلك على فهمهم لظاهر الآية الكريمة التي تقول : " والسارق والسارقة ، فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ، والله عزيز حكيم " ]المائدة : 38 [ والحال أن السنة قد خصصت الآية المذكورة وقالت : إنه لا يجوز القطع إلا إذا بلغت السرقة نصابا حده الأدنى ربع دينار أو ثلاثة دراهم (4) ، وأن يكون المسروق حرزا ، فقد صح عن عائشة قولها : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا ) ، كما صح عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ( وهو الترس ، أو ما يستتر به ) ثمنه ثلاثة دراهم (5) .
(1) البخاري ـ الوصايا ـ باب لا وصية لوارث ـ فتح الباري 5 / 372 ـ أبو داود ـ وصايا ـ باب ما جاء في الوصية للوارث 3 / 114 عدد الحديث 2872 ـ الدارمي 2 / 301 .
(2) التفسير والمفسرون 2 / 313 .
(3) الفرق بين الفرق 84 .
(4) يروى لأبي العلاء قوله :
يد بخمس مئين عجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
فأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي :
صيانة العضو أغلاها وأرخصها صيانة المال فافهم حكمة الباري
(فتح الباري 15 / 104 ) .
(5) الموطإ 519 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (45)
مواطن انحراف الخوارج عن السنة (5-7)
7ـ وخالفوا السنة وإجماع الأمة في مسألة منع الجمع بين إمرة وخالتها أو عمتها كما يثبت ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها" كما لم يلتزموا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تقول بالتحريم بالرضاع ما يحرم بالنسب، وكان معولهم في هذه المخالفة ظاهر النص القرآني الذي يقول فيه الله تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُم ُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء23] فقالوا : ( لم يذكر الكتاب الكريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها ولم يحرم من الرضاع إلا الأم المرضعة والأخت بالرضاع ، ثم قال : " {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ }النساء24" ، فدخلت المرأة على عمتها وخالتها وكل رضاع سوى الأم والأخت فيما أحله الله ) (1).
بل ذهب العجاردة والميمونية إلى جواز ( نكاح بنات البنات وبنات البنين وبنات أولاد الأخوة والأخوات ، وقالوا : إن الله تعالى : حرم نكاح البنات وبنات الأخوة والأخوات ، ولم يحرم نكاح أولاد هؤلاء )(2).
وهم بهذا المسلك وهذا التفسير المتعسف للقرآن مع الإعراض عن السنة المبينة له يكونون قد خالفوا إجماع الأمة حول منع الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها ، وما يلحق بهما من بنات البنات وبنات البنين وغيرهن مما هو مفضل في كتب الفقه والحديث ، لما في ذلك من قطع للأرحام (3).
يقول القرطبي : ( اختار الخوارج الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها ، ولا يعتد بخلافهم ، لأنهم مرقوا من الدين ) . ويعلق ابن حجر العسقلاني على هذا المعنى بقوله : ( وفي نقله عنهم جواز الجمع بين الأختين غلط بين فإن عمدتهم التمسك بأدلة القرآن لا يخالفونها البتة ، وإنما يردون الأحاديث لاعتقادهم عدم الثقة بنقلتها ) (4) .
(1) التفسير والمفسرون 2 / 314 وحديث تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها رواه البخاري ـ النكاح ـ باب لا تنكح المرأة على عمتها عدد الحديث 5108 ؛ 5110 ـ متن فتح الباري 9 / 160 ـ ورواه مسلم ـ النكاح ـ باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح: 2 / 1028 ـ وجاء في البخاري قول عائشة موقوفا : حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب ـ النكاح متن فتح الباري 9 / 160 .
(2) الفرق بين الفرق 96 ـ والملل والنحل 1 / 129 .
(3) انظر ما يلحق بالعمة والخالة في فتح الباري 11 / 5 ـ 58 وقد جاء عن الرسول في تعليل النهي عن تزوج المرأة على العمة والخالة قوله : ( إنكم إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن ) .
(4)فتح الباري 11 / 65 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (46)
مواطن انحراف الخوارج عن السنة (6-7)
8ـ ومن مخالفتهم للسنة أيضا ما ذهبت إليه الرشيدية ، وهم أصحاب رشيد الطوسي إحدى فرق الثعالبة من القول بأداء نصف العشر فيما سقي بالعيون والأنهار الجارية وأنه يجب إخراج العشر كاملا فيما سقته السماء فحسب(1). وهو قول معارض صراحة للسنة ذلك أنه ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام قوله : " فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر ، وفيما يسقى بالنضج نصف العشر " (2).
9 ـ ومن غريب ضلالاتهم أن اليزيدية ( أصحاب يزيد بن أنيسة ) زعمت : ( أن الله تعالى سيبعث رسولا من العجم وينزل عليه كتابا ، قد كتب في السماء وينزل عليه جملة واحدة ، ويترك شريعة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ويكون على ملة الصابئة المذكورة في القرآن ، وليست هي الصابئة الموجودة بحران وواسط ) (3) ، وهذا الموقف يوضح عدم مبالاتهم بما ثبت في السنة المطهرة من أن النبي عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء . يقول الرسول عليه السلام : " سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأما خاتم النبيين لا نبي بعدي (4) ويقول أيضا : " كلما هلك نبي خلفه نبي وأنه لا نبي بعدي " (5).
(1) الفرق بين الفرق 102 ملل الشهرستاني 132 .
(2) الموطإ 182 . البخاري 4 / 90 مسلم 2 / 675 الترمذي 3 / 22 أبو داود 1 / 470 النسائي 1 /5 ابن ماجه 1 / 580 ـ 581 الدارمي1 / 231 .
(3) الفرق بين الفرق 104 ـ 105 ـ ملل الشهر ستاني 1 / 136 .
(4) أبو داود 2 / 414 ـ الفتن ـ باب ذكر الفتن .
(5) البخاري متن فتح الباري 7 / 407 ونحوه في مسلم 1 / 185 ـ 186 الترمذي 4 / 624 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (47)
مواطن انحراف الخوارج عن السنة (7-7)
ومن ضلالاتهم : ( أن الحرورية يوجبون على الحائض إذا طهرت قضاء الصلاة ) وهو قول معارض صراحة لحديث عائشة رضي الله عنها : ( أن معاذة بنت عبد الله البدوية سألتها : أتقضي إحدانا الصلاة أيام حيضها ؟ فقالت عائشة : أحرورية أنت ؟ فقد كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لا تؤمر بقضاء الصلاة )(1).
وضلالات فرق الخوارج أكثر من أن تحصى ، وهي فرق ولئن جمع بينها المروق والعقوق لكتاب الله وسنة الرسول ، فإنها فيما بينها متنافرة متناقضة فقد تؤمن الفرقة منهم بخلاف ما تؤمن به الأخرى فأصحاب السؤال من البيهسية (2) ( أصحاب أبي بيهس الهيصم بن جابر ) والمعلومية (3) والحمزية (4) ( أتباع حمزة بن أكرك ) من العجاردة والحارثية ( أتباع حارث بن يزيد الأباضي ) أجمعوا على القول بنفي القدر ، وقالوا : إن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى . وهو عين قول المعتزلة في القدر ، في حين ذهب الثعالبة على القول بالجبر على مذهب الجهمية القائلين بنفي القدرة الحادثة (5).
ومما يلفت النظر هنا هو قول البيهسية ـ التي تتفق مع المعتزلة في مسألة القدر ـ : إن الإيمان هو العلم بالقلب دون القول والعمل (6)، والحال أن العمل عند المعتزلة يعد شرط صحة الإيمان ، فالبيهسية في هذا المضمار تلتقي مع بعض فرق المرجئة . والمعلوم أن أهل السنة يرون أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، حتى أن الإمام البخاري عقد بابا في كتاب الإيمان بجامعه الصحيح ترجم له بقوله : ( باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال ) (7) أورد فيه عددا من الأحاديث الصحيحة التي تؤيد معنى الترجمة .
(1)ـ البخاري ـ الحيض ـ باب لا تقضي الحائض الصلاة ـ عدد الحديث 321 ـ متن فتح الباري 1 / 421ـ أبو داود ـ الطهارة ـ باب في الحائض لا تقضي الصلاة ـ عدد الحديث 262 ـ ( 1 / 68 ) .
(2) الملل الشهر ستاني 1 / 167 .
(3) الفرق بين الفرق 97 .
(4) المصدر السابق 105 .
(5)الملل الشهر ستاني 1 / 133 .
(6)المصدر السابق 1 / 126 .
(7)صحيح البخاري ـ متن فتح الباري 1 / 79 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (48)
الشيعة وموقفهم من السنة (1-4)
التعريف بالشيعة :
الشيعة لغة :
هم الأتباع والأنصار ، قال الفيروز آبادي : " شيعة الرجل أتباعه وأنصاره،ويقع على الواحد والاثنين والجمع،والمذكر والمؤنث ، وجمعه أشياع وشيع كعنب "(1).
وقال الزبيدي:"الشيعة كل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة،وكل من عاون إنسانا وتحزب له فهو شيعة له،وأصله من المشايعة،وهي المطاوعة والمتابعة(2).
الشيعة اصطلاحا :
اختلفت وجهات نظر العلماء في التعريف بحقيقة الشيعة ، وأرجح تلك الأقوال هي : أنهم الذين يزعمون أنهم أتباع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنصاره ، ويعتقدون أنه أفضل الخلفاء الراشدين -رضوان الله عليهم أجمعين- وأنه وأهل بيته أحق بالخلافة ، وإن خرجت منهم فبظلم يكون من غيرهم(3)
الشيعة فرقة منحرفة ومأوى كل مارق :
الشيعة كفرقة ذات أفكار وآراء غلب عليهم هذا الاسم ، ويشيع فيهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أئمتهم ، وذلك باعتراف علمائهم ، وهذا من أشد الخطر على الإسلام والمسلمين ، وذلك بسبب :
1 - استعمالهم التقية المرادفة للكذب .
2 - تظاهرهم بنصرة آل البيت ، حيث انخدع بهم كثير من العوام ، بل وخواص المسلمين .
3 - بغضهم وتكفيرهم ولعنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفر يسير ، وبغضهم وتكفريهم لأهل السنة بسبب تعاليم خاطئة ، وضعها بعض كبرائهم قديما وسار عليها بعض كبرائهم حديثا.
وقد قام التشيع في ظاهر الأمر على أساس الاعتقاد بأن عليا رضي الله عنه وذريته هم أحق الناس بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم،وأن عليا أحق بها من سائر الصحابة بوصية النبي صلى الله عليه وسلم كما زعموا في رواياتهم التي اخترعوها وملئوا بها كتبهم قديما وحديثا(4).
والحق أن التشيع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد ، ومن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية وزردشتية وهندية ، ومن كان يريد استقلال بلاده والخروج على مملكته ، كل هؤلاء كانوا يتخذون حب آل البيت ستارا يضعون وراءه كل ما شاءت أهواؤهم.
فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة ، وقال الرافضة السبئية : إن النار محرمة على الشيعي إلا قليلا ، كما قال اليهود ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) (5).
والنصرانية ظهرت في فرق الحلولية ، وهي فرق أكثرها يرجع إلى غلاة الروافض ، فقال بعضهم : إن نسبة الإمام إلى الله كنسبة المسيح إليه ، وقالوا : إن اللاهوت اتحد بالناسوت في الإمام ، وإن النبوة والرسالة لا تنقطع أبدا فمن اتحد به اللاهوت فهو نبي(6).
وتحت التشيع ظهر القول بتناسخ الأرواح وتجسيم الله والحلول ونحو ذلك من الأقوال التي كانت معروفة عند البراهمة ، والفلاسفة ، والمجوس من قبل الإسلام ، وقال بها الرواندية من الروافض الحلولية(7).
وتستر بعض الفرس بالتشيع ، وحاربوا الدولة الأموية والعباسية ، وقاموا بثورات عديدة ، سجلها علماء الفرق والتاريخ ، وما في نفوسهم إلا الكره للعرب ودولتهم والسعي لاستقلالهم وهيمنتهم(8)، وتاريخ الشيعة في القديم والحديث شاهد صدق على أن الحركات المارقة والهدامة إنما خرجت من تحت عباءتهم بعد أن رضعت لبنهم وهدهدت بين ذراعيهم(9) .
(1) - القاموس المحيط ( 3 / 46 ).
(2) - تاج العروس ( 5 / 405 ) .
(3) - انظر : الملل والنحل ( 1 / 146 )، وفرق معاصرة ( 1 / 132 ، 133 ) ، والشيعة الإثناعشرية ومنهجهم في التفسير للدكتور محمد العسال ص 19 -23 .
(4) - فرق معاصرة تنسب إلى الإسلام للدكتور غالب عواجي ( 1 / 128 ) بتصرف .
(5) - انظر : الفرق بين الفرق ص 215 ، والملل والنحل ( 1 / 186 ) ، ومنهاج السنة ( 1 / 7 ).ومختصر التحفة الإثناعشرية للألوسي ص 317 ، 318 .
(6) - الفرق بين الفرق ص 228 ــ 230 ، والملل والنحل ( 1 / 186 ) .
(7) - الفرق بين الفرق ص 242 ، والملل والنحل ( 1 / 186 ) .
(8) - فجر الإسلام للدكتور أحمد أمين ص 276 ، 277 بتصرف .
(9) - الدفاع عن السنة للدكتور طه الدسوقي حبيشي ( 1 / 31 ).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (49)
الشيعة وموقفهم من السنة (2-4)
انحراف الشيعة وأثره على السنة المطهرة :
لقد كان لانحراف الشيعة عن الأمة أثرا سيئا على السنة النبوية وحملتها من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ كفروا الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ إلا القليل منهم ، ولعنوا الأمة ، وأكثروا من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفصيل ذلك نسوقه في النقاط التالية :
أولا : موقف الشيعة من الصحابة .
يقول الدكتور محمد العسال : " يعتقد الشيعة أن الصحابة كلهم كانوا كفرة منافقين مخادعين لله ورسوله -ونعوذ بالله من ذلك- لا يستثنون إلا خمسة أو سبعة أو بضعة عشر ، على خلاف بينهم في هذا ، والمجمع على استثنائهم هم : سلمان الفارسي ، وعمار بن ياسر ، وأبو ذر الغفاري ، والمقداد ، وجابر بن عبد الله الأنصاري- رضي الله عنهم- .
ويرى بعض الشيعة أن الصحابة : إنما كفروا وارتدوا عن الإسلام بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لا في حياته ، وإنما قال ذلك أصحاب هذا الرأي لما وجدوا صريح القرآن يمدحهم ويثني عليهم ، فظنوا أن القول بكفرهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفادون به التعارض مع القرآن بخلاف القول بكفرهم والقرآن ينزل والوحي متواصل ، هكذا يزعمون .
كما زعموا أن كفر الصحابة إنما هو بسبب إنكارهم النص على ولاية على - رضي الله عنه- التي هي أساس الدين عند الشيعة ، وقد تواطأ الصحابة على جحده وإنكاره إلا الخمسة الذين مر ذكرهم ، أما كبار الصحابة مثل أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وبقية العشرة ، وعائشة ، وحفصة وغيرهم – رضي الله عنهم- ، فإنهم كانوا متظاهرين بالإسلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع إبطانهم الكفر ، خاصة فيما يتعلق بولاية علي -رضي الله عنه- حقدا عليه ، حيث كانوا يطمعون في هذه الولاية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
بل هؤلاء الصفوة من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم في عقيدة الشيعة رؤساء الكفر والنفاق ، فهم أصله ومعدنه وفرعه وثمرته ، ونعوذ بالله من ذلك
وهذه عقيدة لا ينفك عنها الشيعة من الإثنا عشرية ، وإن تظاهر بعضهم بإنكار ذلك فإنما يقولها ( تقية ) لأنها عقيدة لا تقبل المساومة عندهم ، إذ لو صحح الشيعي إمامة أبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم - لوجب عليه أن يعترف ببطلان الولاية والإمامة لعلي وبنيه ، وهذا كفر بإجماع الإثنا عشرية .
وللشيعة في تكفيرهم للصحابة شبهات سيأتي ذكرها بعد والرد عليها . هذا وقد امتلأت كتب الشيعة -تفسيرا وحديثا- على كثرتها وبطلانها بهذه العقيدة الفاسدة ، وسودوا هذه الكتب بما تضيق منه الصدور من عقيدتهم هذه "(1).
فمثلا في أصح الكتب عندهم بعد كتاب الله تعالى ، وهو الكافي الذي يعد عندهم كالبخاري عند أهل السنة ، أخرج الكليني بسنده عن أبي جعفر عليه السلام قال : كان الناس أهل ردة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة ، فقلت ومن الثلاثة ، فقال : المقداد بن الأسود ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، رحمة الله وبركاته عليهم(2).
وأخرج أيضا عن أبي بصير عن أحدهما عليه السلام قال : إن أهل مكة ليكفرون بالله جهرة ن وإن أهل المدينة اخبث من أهل مكة ، أخبث منهم سبعين ضعفا(3) إلى غير ذلك الكثير والكثير من إفكهم الذي امتلأت به كتبهم تفسيرا وحديثا ، والتي كانت منفذا للمستشرقين وأتباعهم نفذوا منها إلى الطعن في صحابة رسول الله حملة السنة .
(1) _ الشيعة الإثنى عشرية ومنهجهم في التفسير ص 461 . بتصرف ، وانظر : أصل الشيعة وأصولها لمحمد الحسين الكاشف ص 68 ــ 74 .
(2) _ الكافي ، كتاب الروضة ( 8 / 168 ، 314 ) .
(3) _ الكافي ، كتاب الإيمان والكفر ، باب صنوف أهل الكفر وذكر القدرية والخوارج ( 2 / 400 رقم 4 ).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (50)
الشيعة وموقفهم من السنة (3-4)
أثر موقف الشيعة من الصحابة علي السنة النبوية.
كان من آثار تكفير الشيعة للصحابة أن هوجمت السنة التي جمعها الجمهور وحققها أئمتهم ونقادهم، منذ عصر الصحابة حتى عصر الجمع والتدوين، من قبل الشيعة التي وصمت أحاديث الجمهور من أهل السنة بالكذب والوضع، وخاصة ما كان منها في فضائل الصحابة الذين يكفرهم الشيعة ويلعنونهم .
ولم يقبلوا من أحاديث أهل السنة إلا ما وافق أحاديثهم التي يروونها عن أئمتهم المعصومين في نظرهم، والتي إن لم يزيدوا فيها كذباً تأولوها بما يشهد لعقائدهم وأحكامهم الباطلة، أما ما عدا ذلك من السنة فلا يعتبرون به إلا إذا جاء من طريق آل البيت والتي لا يمكن إثبات صحتها لعدم اهتمامهم بصحة السند .
فالعدالة عندهم لا عبرة بها ما دام الراوي إمامياً يوالي الأئمة ولو لم يكن متهماً، بل ولو كان مطعوناً في دينه . وإذا تتبعت تراجم أعلام الشيعة الرافضة في زمن أئمتهم رأيتهم بين كذابين، وملاحدة، وشعوبيين، وفاسدي العقيدة، ومذمومين من أئمتهم، وكل ما يخطر ببالك من نقائص، ولذا تراهم يصححون أحاديث من دعا عليه المعصوم بقوله أخزاه الله وقاتله الله، أو لعنه أو حكم بفساد عقيدته أو أظهر البراءة منه، وحكموا أيضاً بصحة روايات المشبهة والمجسمة، ومن جوز البداء عليه تعالى(1)، مع أن هذه الأمور كلها مكفرة،ورواية الكافر غير مقبولة، فضلاً عن صحتها، فإذا كان هذا هو حال من يصححون حديثه وهو أقوى الأقسام عندهم، فما بالنا بحال الحسن والموثق والضعيف عندهم! (2) .
إذ لا عبرة عندهم بالعدالة وإنما العبرة بمن معهم؟ ومن عليهم؟ فمن كان معهم معتقداً بعقيدتهم كان مؤمناً تقياً، وإلا كان كافراً منافقاً إذا تبرأ منهم ومن عقيدتهم .
كما أنهم لا يشترطون اتصال السند في الحديث من الإمام إلى الرسول؛ لأن الإمام في حد ذاته كلامه في قوة كلام الرسول وقدسيته، ووجوب العمل به؛ لأنه معصوم ويوحي إليه، ومن تلك الأحاديث التي يصححونها
ولا عدالة لرواتها ولا اتصال لسندها حديث "غدير خم"(3) الذي يكاد يكون عمدة المذاهب الشيعية كلها ودعامتها الأولي، والأساس الذي أقاموا عليه نظريتهم إلي الصحابة من تكفيرهم وسبهم ولعنهم ليل نهار، وتابعهم علي ذلك دعاة اللادينية(4).
هذا الحديث هو عند أهل السنة حديث مكذوب لا أساس له باللفظ الذي يروونه عن طواغيتهم، الذين وضعوه ليبرروا به هجومهم وتجنيهم علي صفوة الخلق بعد الأنبياء والمرسلين - رضي الله عنهم أجمعين- .
وبالنظر في كتب الحديث النبوي عندهم؛ كالكافي، والاستبصار، والتهذيب، ومن لا يحضره الفقيه(5) وغيرها، نجد رواياتها ليست كلها متصلة من أصحابها إلي أئمتهم الذين وجدوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم . فالأحاديث المدونة بها قد خلا أكثرها من الإسناد فنجد الروايات تذكر عن عدة من أصحابنا، أو عن الإمام جعفر، ثم تعد هذه الأقوال أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم . مع وجود الفارق الزمني الكبير بين أصحاب هذه الروايات وبين النبي صلى الله عليه وسلم . وهو فارق زمني يصل إلي عدة قرون(6) .
وكان لهجومهم وتجنيهم علي الصحابة الأثر الكبير فيما أثير حول السنة من شبهات، ولم لا ومروياتهم رضي الله عنهم لا تزن عندهم مقدار جناح بعوضة .
يقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء : والشيعة لا يعتبرون من السنة إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت عن جدهم يعني ما رواه الصادق، عن أبيه الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن الحسين السبط، عن أبيه أمير المؤمنين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .، أما ما يرويه مثل : أبي هريرة، وسمرة بن جندب، ومروان بن الحكم، وعمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص، ونظائرهم، فليس لهم عند الأمامية من الاعتبار مقدار بعوضة، وأمرهم أشهر من أن يذكر(7) أ.هـ
(1)ــ الكافي ، كتاب الروضة ( 8 / 168 ، 314 )
(2) ــ الكافي ، كتاب الإيمان والكفر ، باب صنوف أهل الكفر وذكر القدرية والخوارج ( 2 / 400 رقم 4 ).
(3) ــ وخلاصة هذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم . في رجوعه من حجة الوداع جمع الصحابة في مكان يقال له "غدير خم" مكان بين مكة والمدينة، وأخذ بيد علي رضي الله عنه ووقف به علي الصحابة جميعاً وهم يشهدون وقال : "هذا وصيي وأخي والخليفة من بعدي فاسمعوا له واطيعوا" والحديث بهذه الرواية التي انفرد بها الرافضة مكذوب وأصل الحديث كما في صحيح مسلم من رواية زيد ابن أرقم رضي الله عنه قال : "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم . يوماً فينا خطيباً . بماء يدعي خما -بين مكة والمدينة- فحمد الله وأثني عليه، ووعظ وذكر . ثم قال : "أما بعد . ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدي والنور . فخذوا بكتاب الله . واستمسكوا به" فحث علي كتاب الله ورغب فيه . ثم قال : "وأهل بيتي . أذكركم الله في أهل بيتي . أذكركم الله في أهل بيتي . أذكركم الله في أهل بيتي ... الحديث" أخرجه مسلم (بشرح النووي) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه 8 /190 رقم 2408. هذا هو أصل الحديث كما في صحيح السنة، والحديث برواية الرافضة يشهد علي نفسه بالبطلان فالحديث يصرح بالخلافة للإمام علي -كرم الله وجهه- علي مشهد من الصحابة جميعاً، ومثل هذا تتوافر الدواعي علي نقله ويشتهر، في حين أن هذا النص بالخلافة للإمام علي لم يبلغه أحد بإسناد صحيح . قال الإمام بن تيمية في فصل (الطرق التي يعرف بها كذب المنقول) ما ينفرد به، ويتضمن أمراً تتوافر الدواعي علي نقله قال : "ومن هذا الباب نقل النص علي خلافة علي، فإنا نعلم أنه كذب من طرق كثيرة، فإن هذا النص لم يبلغه أحد بإسناد صحيح فضلاً عن أن يكون متواتراً كما تزعم الرافضة، ولا نقل أن أحداً ذكره علي جهة الخفاء، مع تنازع الناس في الخلافة وتشاورهم فيها يوم السقيفة، وحين موت عمر وحين جعل الأمر شوري بينهم في ستة، ثم لما قتل عثمان واختلف الناس علي علي، فمن المعلوم أن مثل هذا النص لو كان كما تقوله الرافضة من أنه نص على علي بن أبي طالب نصاً جلياً قاطعاً للعذر وعلمه المسلمون، لكان من المعلوم بالضرورة في مثل هذه المواطن التي تتوافر الهمم علي ذكره فيها غاية التوفر، فانتفاء ما يعلم أنه لازم يقتضي انتفاء ما يعلم أنه ملزوم" أ.هـ. من منهاج السنة لابن تيمية 4 /118، وانظر : للاستزادة في الرد علي استدلالات الرافضة بروايات الحديث فيما كتبه الدكتور علي السالوس في كتابيه مع الشيعة الإثني عشرية في الأصول والفروع 1 /96-162، وأثر الإمامة في الفقه الجعفري وأصوله ص 78-136، وانظر: مختصر التحفة الإثني عشرية لألوسي ص 123، 176، 208، 219، والعواصم من القواصم لابن العربي ص 183، والمؤتمر العالمي الرابع للسيرة والسنة بحث الدكتور علي السالوس حديث الثقلين وفقهه 2 /701 - 725 والشيعة والتصحيح للدكتور موسي الموسوي ص 8-50، ونظام الخلافة بين أهل السنة والشيعة للدكتور مصطفي حلمي ص 33-223 .
(4) ــ انظر : مجمع البيان في تفسير القرآن للفضل بن الحسن الطبرسي 6 /152، والميزان في تفسير القرآن محمد حسين الطباطبائي 6 /42، وأصل الشيعة وأصولها محمد الحسين آل كاشف ص48، ومصباح الهداية في إثبات الولاية علي الموسوي ص 190 وما بعدها التبيان في تفسير القرآن محمد بن الحسن الطوسي 3 /587، والمراجعات عبد الحسين شرف الدين ص 51، والغدير في الكتاب والسنة والأدب عبد الحسين الأميني 1 /21، 216، 223، 225، وكشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين الحسن بن المطهر الحلبي ص 254، 293، 471 = = وما بعدها، ومعالم المدرستين لمرتضي العسكري المجلد 1 /493، الشيعة في عقائدهم وأحكامهم لأمير محمد القزويني ص 71، والنص والاجتهاد لعبد الحسين شرف الدين ص 347، ونظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام لأحمد حسين يعقوب ص 247 - 256، ولماذا أنا شيعي محمد حسين الفقيه ص 36، لقد شيعني الحسين أدريس الحسيني ص 358 - 367، الإفصاح في إمامة علي بن أبي طالب لمحمد بن النعمان العكبري ص 15-18، والسنة ودورها في الفقه الجديد لجمال البنا ص 25، وإعادة تقييم الحديث لقاسم أحمد ص 97، والسلطة في الإسلام لعبد الجواد ياسين ص 258 وغيرهم .
(5) ــ انظر : في مكانة هذه الكتب وأصحابها، وما فيها من غلو كتابي الدكتور علي السالوس (مع الشيعة الإثني عشرية) 3 /135-240، وأثر الإمامة في الفقه الجعفري وأصوله ص 290-361
(6) ــ السنة المفتري عليها للمستشار البهنساوي ص 136 بتصرف، وانظر : أثر الإمامة في الفقه الجعفري وأصوله ص 276-282.
(7) ــ أصل الشيعة وأصولها ص 79، 80، وانظر : أصول الرواية عند الشيعة الإمامية الإثنا عشرية، للدكتور عمر الفرماوي ص 87
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (51)
الشيعة وموقفهم من السنة (4-4)
أساليب الشيعة في العبث بالسنة المطهرة :
تعد الشيعة الرافضة من أكثر الفرق كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم . بل وعلى آل البيت أيضاً .
وفي ذلك يقول الإمام ابن تيمية : [ومن تأمل كتب الجرح والتعديل رأي المعروف عند مصنفيها بالكذب في الشيعة أكثر منه في جميع الطوائف](1).
وسئل الإمام مالك عن الرافضة فقال : "لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون"(2) ويقول شريك بن عبد الله القاضي -وقد كان معروفاً بالتشيع مع الاعتدال فيه-(3) : "احمل عن كل من لقيت إلا الرافضة؛ فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه ديناً"(4) .
وقال حماد بن سلمة : حدثني شيخ لهم - يعني الرافضة - قال : "كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئاً جعلناه حديثا(5).
وقال الإمام الشافعي : "ما رأيت في أهل الأهواء قوماً أشهد بالزور من الرافضة"(6)
ولقد أخذ هؤلاء المتشيعون أعداء الإسلام يصنعون الأحاديث في أغراض شتي حسب أهوائهم ونحلهم، فمن ذلك أحاديث وضعوها في فضائل الإمام علي -كرم الله وجهه- وآله الكرام كحديث "من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه - وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسي في هيبته، وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي"(7) و"أنا ميزان العلم وعلي كفتاه، والحسن والحسين خيوطه، وفاطمة علاقته، والأئمة منا عموده توزن فيه أعمال المحبين لنا والمبغضين لنا"(8)إلي غير ذلك من روايات مكذوبة تثبت النبوة لعلي طوراً، والخلافة والوصية بها طوراً آخر علي حسب عقائد الوضاعين وآرائهم (9).
وكما وضعوا الأحاديث في فضل علي وآل البيت، وضعوا الأحاديث في ذم الصحابة؛ وخاصة الشيخين وكبار الصحابة، حتى قال ابن أبي الحديد وهو شيعي معتزلي : "فأما الأمور المستبشعة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلي بيت فاطمة، وأنه ضربها بالسوط، فصار في عضدها كالدملج، وأن عمر ضغطها بين الباب والجدار، فصاحت : يا ابتاه وجعل في عنق علي حبلاً يقاد به، وفاطمة خلفه تصرخ، وابناه الحسن والحسين يبكيان ... ثم أخذ ابن أبي الحديد في ذكر الكثير من المثالب، ثم قال: فكل ذلك لا أصل له عند أصحابنا، ولا يثبته أحد منهم، ولا رواه أهل الحديث ولا يعرفونه، وإنما هو شئ تنفرد الشيعة بنقله(10) وكذلك وضعوا الأحاديث في ذم معاوية رضي الله عنه إذا رأيتم معاوية علي منبري فاقتلوه(11) وفي ذم معاوية وعمرو بن العاص-رضي الله عنهما-"اللهم أركسهما في الفتنة ركساً ودعهما في النار دعا(12)"
وهكذا أسرف غلاة الشيعة الرافضة في وضع الأحاديث بما يتفق مع أهوائهم، والتي بلغت من الكثرة حداً مزعجاً . حتى قال الخليلي في الإرشاد : "وضعت الرافضة في فضائل علي وأهل بيته نحو ثلاثمائة ألف حديث"(13)ومع ما في قوله من المبالغة فإنه دليل على كثرة ما وضعوا من الأحاديث .
ويكاد المسلم يقف مذهولاً من هذه الجرأة البالغة علي رسول الله صلى الله عليه وسلم . لولا أن يعلم أن هؤلاء الرافضة أكثرهم من الفرس الذين تستروا بالتشيع لينقضوا عرى الإسلام، أو ممن أسلموا ولم يستطيعوا أن يتخلوا عن كل آثار ديانتهم القديمة، فانتقلوا إلي الإسلام بعقلية وثنية لا يهمها أن تكذب على صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم . لتؤيد حباً ثاوياً في أعماق أفئدتها، وهكذا يصنع الجهال والأطفال حين يحبون وحين يكرهون .
وقد ضارعهم الجهلة من أهل السنة، فقابلوا -مع الأسف- الكذب بكذب مثله وإن كان أقل منه دائرة وأضيق نطاقاً(14)ومن ذلك حديث "ما في الجنة شجرة إلا مكتوب على ورقة منها لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو النورين"(15).
كذلك قابلهم المتعصبون لمعاوية والأمويين، فوضعوا أحاديث مثل قولهم "الأمناء ثلاثة، أنا وجبريل ومعاوية"(16) و"لا افتقد في الجنة إلا معاوية فيأتي آنفاً بعد وقت طويل، فأقول : من أين يا معاوية، فيقول من عند ربي يناجيني وأناجيه، فيقول : هذا بمانيل من عرضك في الدنيا(17)
وكذلك فعل المؤيدون للعباسيين فوضعوا إزاء حديث وصاية علي المكذوب وصاية العباس ونسبوا إلى النبي قوله : "العباس وصيي ووارثي(18)، إلي غير ذلك من الأكاذيب والتي طفحت بها كتب الموضوعات .
ولولا رجال صدقوا في الإخلاص لله عزَّ وجلَّ، ونصبوا أنفسهم للدفاع عن دينهم، وتفرغوا للذب عن سنة رسول الله وأفنوا أعمارهم في التمييز بين الحديث الثابت وبين الحديث المكذوب، وهم أئمة السنة وأعلام الهدي - لولا هؤلاء لاختلط الأمر علي العلماء والدهماء، ولسقطت الثقة بالأحاديث(19) نتيجة حركة الوضع التي كثرت في أهل البدع والأهواء والجهلة من أهل السنة، إلا أنه تبدوا خطورة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . من أهل البدع بسبب أهدافهم الخبيثة للنيل من الإسلام وتشويه صورته بما يضعونه من خرافات .
فالجهلة من أهل السنة؛ وإن قابلوا مع الأسف كذب الشيعة بكذب مثله، إلا أنهم لم يحاولوا العبث والكيد للسنة المطهرة كما فعل الشيعة، وهذا لا ينفي عن الوضاعين من الفريقين إثم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن مكايد الشيعة للسنة ومحاولاتهم العبث بها يقول العلامة الألوسي
1- إن جماعة من علمائهم اشتغلوا بعلم الحديث أولاً، وسمعوا الأحاديث من ثقات المحدثين من أهل السنة فضلاً عن العوام. ولكن الله سبحانه وتعالي قد تفضل علي أهل السنة، فأقام لهم من يميز بين الطيب والخبيث، وصحيح الحديث وموضوعه، حتى أنهم لم يخف عليهم وضع كلمة واحدة من الحديث الطويل .
2- ومن مكايدهم أنهم ينظرون في أسماء الرجال المعتبرين عند أهل السنة، فمن وجدوه موافقاً لأحد منهم في الاسم واللقب أسندوا رواية حديث ذلك الشيعي إليه، فمن لا وقوف له من أهل السنة يعتقد أنه إمام من أئمتهم فيعتبر بقوله ويعتد بروايته؛ كالسدي فهما رجلان؛ أحدهما السدي الكبير،
والثاني السدي الصغير، فالكبير من ثقات أهل السنة، والصغير من الوضاعين الكذابين وهو رافضي غال.
3- ومن مكايدهم أنهم ينسبون بعض الكتب لكبار علماء السنة مشتملة على مطاعن في الصحابة، وبطلان مذهب أهل السنة، وذلك مثل كتاب (سر العالمين) فقد نسبوه إلى الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- وشحنوه بالهذيان، وذكروا في خطبته على لسان ذلك الإمام وصيته بكتمان هذا السر وحفظ هذه الأمانة وما ذكر في هذا الكتاب فهو عقيدتي، وما ذكر في غيره؛ فهو للمداهنة، فقد يلتبس ذلك على بعض القاصرين ... نسأل الله تعالى العصمة من الزلل .
4- ومن مكايدهم أنهم يذكرون أحد علماء المعتزلة، أو الزيدية أو نحو ذلك، ويقولون: إنه من متعصبي أهل السنة، ثم ينقلون عنه ما يدل علي بطلان مذهب أهل السنة، وتأييد مذهب الإمامية الإثنى عشرية ترويجاً لضلالهم؛ كالزمخشري صاحب الكشاف الذي كان معتزلياً تفضيلياً، والأخطب الخوارزمي؛ فإنه زيدي غال، وابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة الذي هو من غلاة الشيعة علي حد قول، ومن المعتزلة علي قول آخر، وهشام الكلبي، وكذلك المسعودي صاحب مروج الذهب، وأبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني وغيرهم، وقصدوا بذلك إلزام أهل السنة بما لهم من الأقوال، مع أن حالهم لا تخفي حتى على الأطفال (20)
(1) ـ المنتقي في منهاج الاعتدال ص 22.
(2) ــ المصدر السابق
(3) ــ قال فيه الحافظ ابن حجر : صدوق، يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلاً فاضلاً عابداً، شديداً علي أهل البدع . مات سنة 177هـ أو 178هـ. له ترجمة في : تقريب التهذيب 1 /417 رقم 2795، والكاشف 1 /485 رقم 2276، والثقات للعجلي ص217،رقم664، والثقات لابن حبان6 /444، ومشاهير علماء الأمصار ص201 رقم1353، والثقات لابن شاهين ص 169 رقم 528
(4)ــ منهاج السنة لابن تيمية 1 /13.
(5)ــ منهاج السنة لابن تيمية 1 /13.
(6)ــ منهاج السنة لابن تيمية 1 /14.
(7)ــ انظر : اللآلئ المصنوعة للسيوطي 1 /325، وتنزيه الشريعة لابن عراق 1 /385، والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني ص 367.
(8)ــ انظر : المقاصد الحسنة للسخاوي ص 97، رقم 189، وتنزيه الشريعة 1 /397.
(9)ــ الحديث والمحدثون للدكتور محمد أبو زهو ص 93.
(10)ــ شرح نهج البلاغة 1 /135.
(11) ــ انظر : اللآلئ المصنوعة 1 /388، وتنزيه الشريعة 2 /8، والفوائد المجموعة ص 407.
(12)ــ انظر : الموضوعات لابن الجوزي 2/28، واللآلئ المصنوعة 1 /390، وتنزيه الشريعة 2 /16، والفوائد المجموعة ص407.
(13) ــ الإرشاد في معرفة المحدثين ص 12.
(14) ــ السنة ومكانتها في التشريع ص 80،81 بتصرف .
(15)ــ انظر : اللآلئ المصنوعة 1 /292، وتنزيه الشريعة 1 /350، والفوائد المجموعة ص 342.
(16)ــ انظر : تنزيه الشريعة 2 /4، والفوائد المجموعة ص 404.
(17) ــ انظر:الموضوعات لابن الجوزي2 /23، واللآلئ المصنوعة1 /387، وتنزيه الشريعة 2 /7، الفوائد المجموعة ص 406.
(18) ــ انظر : الموضوعات 2 /31، واللآلئ المصنوعة 1/393، وتنزيه الشريعة 2 /10، والفوائد المجموعة ص 402.
(19)ــ الباعث الحثيث للأستاذ محمد شاكر ص 72
(20)ــ مختصر التحفة الإثني عشرية للعلامة الألوسي ص32،33 بتصرف، وانظر : منهاج السنة لابن تيمية 3 /246.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (52)
المعتزلة وموقفهم من السنة النبوية(1- 8)
التعريف بالمعتزلة:
المعتزلة : اسم يطلق على فرقة ظهرت في الإسلام في القرن الثاني الهجري ما بين سنة 105 وسنة 110هـ بزعامة رجل يسمى واصل بن عطاء الغزال، ونشأت هذه الفرقة متأثرة بشتى الاتجاهات الموجودة في ذلك العصر، وقد أصبحت المعتزلة فرقة كبيرة تفرعت عن الجهمية في معظم الآراء، ثم انتشرت في أكثر بلدان المسلمين انتشاراً واسعاً، وعن كثرتهم وانتشارهم يقول الشيخ جمال الدين القاسمي "هذه الفرقة من أعظم الفرق رجالاً وأكثرها تابعاً، فإن شيعة العراق على الإطلاق معتزلة، وكذلك شيعة الأقطار الهندية، والشامية، والبلاد الفارسية، ومثلهم الزيدية في اليمن . فإنهم على مذهب المعتزلة في الأصول كما قاله العلامة المقبلي في "العلم الشامخ" وهؤلاء يعدون في المسلمين بالملايين، بهذا يعلم أن الجهمية المعتزلة ليسوا في قلة فضلاً عن أن يظن أنهم انقرضوا وأن لا فائدة من المناظرة معهم، وقائل ذلك جاهل بعلم تقويم البلدان ومذاهب أهلها(1) .
والمعتزلة : قوم من المتكلمين فتنتهم؛ الفلسفة اليونانية، والمنطق اليوناني، وما نقل من الفلسفة الهندية، والأدب الفارسي، وقد كانوا كلهم أو جمهورهم ممن ينتمون إلى أصل فارسي فأولوا القرآن الكريم لينسجم مع الفلسفة اليونانية، وكذبوا الأحاديث التي لا تتفق مع هذه العقلية اليونانية الوثنية، واعتبروا فلاسفة اليونان أنبياء العقل الذي لا خطأ معه(2).
والمعتزلة حين حاولت في أول الأمر أن تواجه المتكلمين في الديانات السالفة للإسلام والمذاهب المنحرفة، استطاعت أن تحقق نتائج طيبة، ولكنها حين استقلت بنفسها وخرجت عن حدودها لتقيم لنفسها منهجاً عقلانياً خالصاً يستعلى على مفهوم الإسلام الجامع؛ فإنها قد انحرفت انحرافاً شديداً وأخطأت خطأ بالغاً، وكان نتيجة طبيعية لتأثرها بشتى الاتجاهات الموجودة في عصرها، ثم أثرت هي الأخرى بعد ذلك في تلك الاتجاهات الفكرية قديماً(3)، وتأثر بها حديثاً كثير من خصوم الإسلام، وأعداء السنة، حيث وجدوا في مذهبهم الفكري عشاً يفرخون فيه بمفاسدهم وآرائهم، ويطلقون من قنواته دسهم على الإسلام والسنة النبوية المطهرة أ.هـ.(4) .
نشأة المعتزلة:
وترجع بداية نشأة المعتزلة كفرقة ذات اتجاه سياسي ومنهج فكرى، إلى ما وقع بين الحسن البصري وواصل بن عطاء من خلاف في حكم مرتكب الكبيرة، حين سئل الحسن البصري عن ذلك، فبادر واصل بن عطاء إلى الجواب قبل أن يجيب الحسن البصري، ومن هنا تطور الأمر إلى اعتزال واصل ومن معه حلقة الحسن البصري، فسموا معتزلة، وإلى هذا ذهب أكثر العلماء(5).
وقد ضعف هذا الرأي الدكتور أحمد أمين، وأياً كانت بداية نشأتهم، فالذي يعنينا ويهمنا هنا في هذا المقام هو أصول مذهبهم الفكري، وأثرها على السنة المطهرة .
(1) - تاريخ الجهمية ص 56، وانظر : فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام للدكتور غالب عواجى 2/821، والخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية للدكتور محمد عمارة ص 273.
(2) - السنة ومكانتها في التشريع ص7، وانظر : الفرق بين الفرق ص 127، والملل والنحل 1/32، وموقف المعتزلة من السنة النبوية ومواطن انحرافهم عنها للدكتور أبولبابة حسين ص42-46.
(3)- انظر:تفصيل تأثر المعتزلة بغيرها من الفرق،وتأثيرها في غيرها سواء مما تأثرت به أو غيرها في: مقالات الإسلاميين 1 /187، ورسائل العدل والتوحيد للدكتور محمد عمارة 1 /79، وضحى الإسلام3 /207وفرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام2 /865، والشيعة الإثنا عشرية ومنهجهم في التفسير ص 562، والمعتزلة واتجاههم العقلى وأثره في تطور الفكر الإسلامى الحديث ص420، 421، 422 ، والاتجاه الاعتزالى في الفكر الإسلامى الحديث للدكتور أحمد محمد عبد العال .
(4)- انظر : المؤامرة على الإسلام للأستاذ أنور الجندى ص 21، وموقف المعتزلة من السنة للدكتور أبو لبابة ص 169-172، وتاريخ المذاهب الإسلامية ص 131.
(5) - انظر:الملل والنحل للشهرستانى1 /40، والفرق بين الفرق للبغدادى ص116، وفرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام 2 /822، والخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية للدكتور محمد عمارة ص179-198
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (53)
المعتزلة وموقفهم من السنة النبوية(2- 8)
أصول المعتزلة وأثرها على السنة المطهرة:
وإذا كانت المعتزلة قد تفرقت إلى فرق كثيرة تصل إلى اثنتين وعشرين فرقة واختلفوا في المبادئ والتعاليم إلى حد تكفير كل فرقة الأخرى، إلا أنه يجمعهم إطار عام، وهو الاعتقاد بالأصول الخمسة :
1- التوحيد على طريقة الجهمية .
2- العدل على طريقة القدرية .
3- الوعد، والوعيد.
4ـ المنزلة بين المنزلتين.
5ـ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على طريقة الخوارج (1) .
ولقد حددها على هذا النحو صاحب الانتصار عندما قال : "وليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة : التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإذا كملت في الإنسان هذه الخصال الخمس؛ فهو معتزلي(2) .
ومعنى هذه الأصول إجمالاً :
1ــ التوحيد : وهم يقصدون به البحث حول صفات الله تعالى، وما يجب له، وما يجوز، وما يستحيل، وفي هذا الأصل نفوا أن يكون لله تعالى صفات أزلية من علم، وقدرة، وحياة، وسمع، وبصر، بل، الله عالم، وقادر، وحى، وسميع، وبصير بذاته، وليست هناك صفات زائدة مع ذاته، وتأولوا الآيات التي تثبت هذه الصفات، والتي يفهم منها أن له صفات كصفات المخلوقين، ورفضوا الأحاديث التي تثبت هذه الصفات أيضاً، وحجتهم في إنكار صفات الله عزَّ وجلَّ أن إثباتها يستلزم تعدد القدماء وهو شرك على حد زعمهم ، ولأن إثبات الصفات يوحى بجعل كل صفة إلهاً، والمخرج من ذلك هو نفي الصفات وإرجاعها إلى ذات الباري تعالى، فيقال عالم بذاته، قادر بذاته إلخ، وبذلك يتحقق التوحيد في نظرهم، والمعتزلة في نفيهم الصفات وتعطيلها وتأويل ما لا يتوافق مع مذهبهم من نصوص الكتاب والسنة وافقوا بذلك الجهمية (المعطلة) ... فهم الذين أحيوا آرائهم، ونفخوا في رمادها، وصيروها جمراً من جديد، ومن هنا استحق المعتزلة أن يطلق عليهم جهمية أو معطلة(3)، وبناء على هذا الأصل أطلق المعتزلة على من عاداهم وخصوصاً أهل السنة أسماء جائرة مثل المشبهة، والحشوية ، وسموا أنفسهم أهل التوحيد، والمنزهون لله، حيث نفوا الصفات عنه(4) .
2 ــ العدل : وهم يقصدون به البحث في أفعال الله عزَّ وجلَّ التي يصفونها كلها بالحسن، ونفي القبح عنها، بما فيه نفي أعمال العباد القبيحة، وتحت ستار العدل؛ نفوا القدر، وأسندوا أفعال العباد إلى قدرتهم وأنهم الخالقون لها مع أنهم يؤمنون بأن الله تعالى عالم بكل ما يعمله العباد، وأنه تعالى هو الذي أعطاهم القدرة على الفعل أو الترك(5) .
والمعتزلة لنفيهم القدر يلقبون؛ بالقدرية لموافقتهم للقدرية في إنكار القدر، وهم يسمون أيضاً؛ بالثنوية، والمجوسية؛ لقولهم إن الخير من الله، والشر من العبد، فوافقوا بذلك الثنوية، والمجوسية الذين يقررون وجود إلهين أحدهما للخير، والآخر للشر، وهم لا يرضون بهذه الأسماء السابقة من القدرية، والثنوية، والمجوسية، ويرضون باسم أهل العدل لنفيهم القدر، ولأن أهل السنة يثبتون القدر لله عزَّ وجلَّ ويؤمنون به خيره وشره، حلوه ومره، فهم يطلقون عليهم القدرية المجبرة(6).
وبناء على هذا الأصل (العدل) الذي يعنى نفي القدر؛ تأولوا الآيات التي تفيد إثبات القدر لله عزَّ وجلَّ كقوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) [ سورة الرعد / 8 ] . وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [سورة الحجر /21 ] . وقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [ سورة القمر / 49 ] .
ووقفوا من أحاديث القدر موقف الإنكار؛ فردوا الأحاديث الصحيحة التي تثبت القدر
(1)- انظر : الفرق بين الفرق ص112 - 115، وفرق معاصرة 2 /822.
(2) - الانتصار ص 188، 189.
(3) - فرق معاصرة2/823،824،832، وانظر: فتح البارd 13 /357، وانظر: شرح الأصول ص197، وفضل الاعتزال ص140-141، وأدب المعتزلة ص135،136، ومقالات الإسلاميين 1 /235، والملل والنحل1/40، وموقف المعتزلة من السنة ومواطن انحرافهم عنها للدكتور أبو لبابة ص33
(4) -فرق معاصرة 2 /825.
(5) - فرق معاصرة 2 /834، وانظر : شرح الأصول ص 301، والملل والنحل 1 /41، والفصل في الملل والنحل لابن حزم 3 /164 والمغنى في أبواب التوحيد والعدل 3 /8.
(6) - فرق معاصرة 2 /824، 825، وانظر : موقف المعتزلة من السنة للدكتور أبو لبابة ص 31.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (54)
المعتزلة وموقفهم من السنة النبوية(3- 8)
3- الوعد والوعيد : وهم يقصدون به أن الله وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب فيجب على الله - تعالى الله عن ذلك - أن ينفذ وعده ووعيده؛ بأن يعطى العبد أجر ما كلفه به من طاعات استحقاقاً منه على الله مقابل وعد الله له إذا التزم العبد بجميع التكاليف التي اختارها الله وكلف بها عباده، وكذلك يجب على الله أن ينفذ وعيده فيمن عصاه، ويلزم على هذا الأصل أن الله عزَّ وجلَّ لا يعفو عمن يشاء، ولا يغفر لمن يريد؛ لأن ذلك يكون بخلف الوعيد والكذب، والله عزَّ وجلَّ لا يجوز عليه الخلف والكذب، وبمقتضى هذا الأصل فإن أصحاب الكبائر من عصاه المؤمنين إذا ماتوا من غير توبه؛ فإنهم يستحقون بمقتضى الوعيد من الله النار خالدين فيها إلا أن عقابهم يكون أخف من عقاب الكفار(1) .
وبناء على هذا الأصل تأولوا الآيات التي تفيد بأن الله عزَّ وجلَّ يعفو عمن يشاء ويعذب من يشاء؛ كقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [ سورة النساء / 48 ] . وقوله تعالى : (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [ سورة الزمر /53 ] .
واستدلوا بالآيات الواردة في نفي الشفاعة عن غير المؤمنين الفائزين؛ كقوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ) [ سورة البقرة /48 ] وكذا قوله تعالى (مَا للظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ) [ سورة غافر / 18 ] إلى غير ذلك من الآيات الواردة بهذا المعنى .
وبناءً على هذا الأصل أيضاً ردوا الأحاديث الواردة في شفاعة عصاة المؤمنين من أهل الكبائر، والأحاديث التي تفيد أنهم تحت المشيئة إن شاء الله عذبهم، وإن شاء غفر لهم .
4- المنزلة بين المنزلتين : وهم يقصدون بها أن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان،ولا يدخل في الكفر؛ فهو ليس بمؤمن ولا كافر، لكنه في منزلة بينهما فاسق، والفاسق يستحق النار، والمعتزلة بقولهم بهذا الأصل وافقوا الخوارج؛ لأن الخوارج لما رأوا لأهل الذنوب الخلود في النار سموهم كفرة، وحاربوهم، والمعتزلة رأت لهم الخلود في النار، ولم تجسر على تسميتهم كفرة ولا جسرت على قتال أهل فرقة منهم، فضلاً عن قتال جمهور مخالفيهم، ولهذا قيل للمعتزلة : إنهم مخانيث الخوارج(2) .
ويعد هذا الأصل الرابع هو نقطة البدء في تاريخ المعتزلة كما سبق في نشأتهم .
وكان لهذا الأصل أثره السيء في موقف المعتزلة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .، وخصوصاً أصحاب الجمل، وصفين من الفريقين؛ على، ومعاوية - رضي الله عن الجميع - كما سيأتي .
5- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر : هذا الأصل توافق فيه أهل السنة والمعتزلة، واتفقوا على أنه من الواجبات على الكفاية، وهو ما قرره المولى عزَّ وجلَّ في كتابه العزيز (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [ سورة آل عمران /104 ](3).
إلا أنه وقع خلاف بين أهل السنة والمعتزلة فيما يلي :
أ- حملهم الناس على المعروف والمنكر في مذهبهم وإلزامهم به، ويبدوا هذا واضحاً في محنة خلق القرآن .
ب- طريقة تغيير المنكر؛ ساروا فيها عكس الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم .، في بيان موقف المسلم من المنكر إذا رآه وهو قوله صلى الله عليه وسلم . : (من رأى منكم منكراً؛ فليغيره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)(4)بينما تغيير المنكر عندهم يبدأ بالحسنى، ثم باللسان، ثم باليد، ثم بالسيف على عكس ما يرشد إليه الحديث، ويذهب إليه أهل الحق .
ج- حمل السلاح في وجوه المخالفين لهم سواء كانوا من الكفار أو من أصحاب المعاصي من أهل القبلة .
د- أوجبوا الخروج على السلطان الجائر، وهم في كل ذلك متأثرون بتنطع الخوارج(5). وخلاصة هذا الأصل عندهم أنهم قالوا : "علينا أن نأمر غيرنا بما أمرنا به، وأن نلزمه بما يلزمنا(6) .
(1) - شرح الأصول ص 134، وانظر : الملل والنحل 1 /42، والمعتزلة زهدى جار الله ص 51، 52، وفضل الاعتزال ص 154.
(2)- الفرق بين الفرق للبغدادى ص116، وانظر : الملل والنحل 1 /42، وشرح الأصول ص137، 697، وفضل الاعتزال 17، 64.
(3) - انظر : شرح الأصول ص 141، 744.
(4) - أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهى عن المنكر من الإيمان ... إلخ رقم 49 من حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه .
(5) - فرق معاصرة 2 /849 - 851، وانظر : الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية ص 256، 261، والمعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها للأستاذ عواد عبد الله ص273، 276.
(6) - شرح العقيدة الطحاوية 2 /286.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (55)
المعتزلة وموقفهم من السنة النبوية(4- 8)
ومن فوارق الأصول عند المعتزلة :
ما ذهب إليه الإمام القاسم الرسي : "أن القرآن الكريم فصل محكم، وصراط مستقيم، ولا خلاف فيه ولا اختلاف، وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ما كان لها ذكر في القرآن ومعنى(1) .
وفى هذا الأصل الخامس بيان لموقفهم السيء من سنة المعصوم صلى الله عليه وسلم ، فهم لا يأخذون إلا بالسنة الموافقة للقرآن فقط، ولا يأخذون بالسنة المستقلة، وهذا الموقف له أثره السيء حيث اتخذوه منهجاً خاصاً بهم حكموا من خلاله على سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو عرض الحديث على القرآن الكريم، فما خالفه ولو مخالفة ظاهرية يمكن الجمع بينهما ردوه حتى ولو كان في أعلى درجات الصحة .
ومن فوارق الأصول عند المعتزلة أيضاً ما ذهب إليه أحمد بن يحيى المرتضى: تولى الصحابة، والاختلاف في سيدنا عثمان رضي الله عنه بعد الأحداث، والبراءة من معاوية وعمرو بن العاص - رضي الله عنهما-.
فاتفق المعتزلة على صحة خلافة أبى بكر، حتى من قال منهم بأفضلية علىِّ على أبى بكر - رضي الله عنهما - حيث إنهم رأوا علياً بايع أبا بكر غير مكره، فلابد أن تكون بيعته صحيحة، فإذا وصلنا إلى سيدنا عثمان رضي الله عنهم ، نرى الخياط المعتزلي يقول : إن واصل بن عطاء وقف في عثمان وفى خاذليه وقاتليه وترك البراءة من واحد منهم؛ لأنه أشكل عليه الأمر بين حالته المحمودة قبل أحداث السنين الست الأواخر وبعدها،
فتعارضت عنده الأدلة، فترك أمره لله(2) ومثل ذلك قول أبو الهذيل العلاف قال : "لا ندري أقتل عثمان ظالماً أو مظلوماً"(3).
فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الحروب التي كانت مع على ومعاوية -رضي الله عنهما، رأينا أن واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وجعفر بن مبشر، يؤيدون وجهة نظر علي بن أبى طالب ويتبرءون من معاوية وعمرو بن العاص ومن كان في شقهما"(4) .
بل إن البلخي وهو أحد شيوخ المعتزلة رمى عمرو بن العاص ومعاوية - رضي الله عنهما – بالإلحاد(5) ونعوذ بالله عزَّ وجلَّ من الخذلان .
وهكذا كان المعتزلة في أصولهم مخالفين لأهل السنة في مفهوم الإسلام الجامع، وكان لهذه الأصول الأثر السيء على الإسلام "قرآناً وسنة" وعلى المسلمين .
(1) - رسائل العدل والتوحيد 1 /76، وانظر : رسائل الجاحظ 1 /287، وفضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص 181، 182.
(2) - الانتصار ص 151.
(3) - مقالات الإسلاميين 2/145.
(4) - الانتصار للخياط ص 152.
(5) - شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد 1/137، وانظر : ضحى الإسلام 3/177-180.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (56)
المعتزلة وموقفهم من السنة النبوية(5- 8)
موقف المعتزلة من السنة المطهرة :
لما كان المعتزلة لا يؤمنون إلا بما يتفق مع عقولهم وأصولهم الخمسة، وكان هناك من الأحاديث النبوية ما يهدم مذهبهم ويناقض أدلتهم، كان موقفهم من السنة غاية في الخطورة، ولا نكاد نكون مبالغين إذا قلنا : بأنهم كادوا يهدمون المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، فهم تناقضوا في موقفهم من السنة ونشأ التناقض بتشبثهم بالعقل إلى ما يشبه تقديسه وتأليهه، ورفض ما يتعارض معه أو تأويله بما لا يخالف رأيهم، ولذلك وقعوا في كثير من الهنات والتناقضات دفعتهم إليها نزعتهم العقلية .
موقفهم من الخبر المتواتر :
درج المعتزلة على مخالفة إجماع الأمة على إفادة المتواتر القطع . فذهب بعضهم إلى إنكار حجية المتواتر وإفادته العلم، وتجويز وقوعه كذباً، وحكي الإمام أبو منصور البغدادي ذلك عن "النظامية"، وهم فرقة من المعتزلة فقال في الفضيحة السادسة عشرة من فضائح النَّظَّام :" قوله بأن الخبر المتواتر مع خروج ناقليه عند سماع الخبر عن الحصر، ومع اختلاف همم الناقلين واختلاف دواعيها يجوز أن يقع كذباً، هذا مع قوله بأن من أخبار الآحاد ما يوجب العلم الضروري . وقد كفره أصحابنا مع موافقيه في الاعتزال في هذا المذهب الذي صار إليه"(1) .
ثم قال في الفضيحة السابعة عشرة من فضائحه : "تجويزه إجماع الأمة في كل عصر، وفي جميع الأعصار على الخطأ من جهة الرأي والاستدلال، ويلزمه على هذا الأصل أن لا يقف بشيء مما اجتمعت الأمة عليه، لجواز خطئهم فيه عنده، وإذا كانت أحكام الشريعة منها ما أخذه المسلمون عن خبر متواتر، ومنها ما أخذوه عن أخبار الآحاد، ومنها ما أجمعوا عليه وأخذوه عن اجتهاد وقياس، وكان النظام دافعاً لحجة التواتر، ولحجة الإجماع، وقد أبطل القياس وخبر الواحد إذا لم يوجد العلم الضروري، فكأنه أراد إبطال أحكام فروع الشريعة لإبطاله طرقها أ.هـ.(2) .
والمعتزلة : هم أول الفرق التي اشترطت في قبول الأخبار العدد كما في الشهادة،وما أرادوا بذلك الشرط إلا تعطيل الأخبار والأحكام الواردة فيها .
وفي ذلك يقول الإمام الحازمي : "ولا أعلم أحداً من فرق الإسلام القائلين بقبول خبر الواحد اعتبر العدد سوى متأخري المعتزلة؛فإنهم قاسوا الرواية على الشهادة، واعتبروا في الرواية ما اعتبروا في الشهادة، وما مغزى هؤلاء إلا تعطيل الأحكام كما قال أبو حاتم ابن حبان(3) .
وها هم رؤساء المعتزلة يصرحون باشتراط العدد ويتناقضون في نسبته .
فيحكى الإمام أبو منصور البغدادي عن الهذيلية وهم فرقة من المعتزلة فقال في الفضيحة السادسة من فضائح أبى الهذيل قوله :" إن الحجة من طريق الأخبار فيما غاب عن الحواس من آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وفيما سواها، لا تثبت بأقل من عشرين نفساً فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر، ولم يوجب بأخبار الكفرة والفسقة حجة وإن بلغوا عدد التواتر الذين لا يمكن تواطؤهم على الكذب إذا لم يكن فيهم واحد من أهل الجنة، وزعم أن خبر ما دون الأربعة لا يوجب حكماً، ومن فوق الأربعة إلى العشرين قد يصح وقوع العلم بخبرهم، وقد لا يقع العلم بخبرهم، وخبر العشرين إذا كان فيهم واحد من أهل الجنة يجب وقوع العلم منه لا محالة، واستدل على أن العشرين حجة بقول الله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [سورة الأنفال /65 ] . وقال : لم يبح لهم قتالهم إلا وهم عليهم حجة، وهذا يوجب عليه أن يكون خبر الواحد حجة موجبة للعلم؛ لأن الواحد في ذلك الوقت كان له قتال العشرة من المشركين، فيكون جواز قتاله لهم دليلاً على كونه حجة عليهم .
قال الإمام عبد القادر البغدادي : ما أراد أبو الهذيل باعتبار عشرين في الحجة من جهة الخبر إذا كان فيهم واحد من أهل الجنة إلا تعطيل الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية عن فوائدها لأنه أراد بقوله : "ينبغي أن يكون فيهم واحد من أهل الجنة، واحداً يكون على بدعته في الاعتزال والقدر وفي فناء مقدورات الله عزَّ وجلَّ لأن من لم يقل بذلك لا يكون عنده مؤمناً ولا من أهل الجنة، ولم يقل قبل أبى الهذيل أحد ببدعة أبى الهذيل حتى تكون روايته في جملة العشرين على شرطه(4).
ونقل الإمام الآمدي في الإحكام : اتفاق الجمهور من الفقهاء، والمتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة على أن العلم الحاصل عن خبر التواتر ضروري .وقال الكعبي ، وأبو الحسين البصري، من المعتزلة، والدقاق من أصحاب الشافعي؛ أنه نظري(5) .
ثم اختلف هؤلاء في أقل عدد يحصل معه العلم(6) .
ويحكى الإمام ابن حزم مثل ما حكاه الحافظ الحازمي : من أن المعتزلة : هم أول من اشترطوا العدد في قبول الأخبار، فخالفوا بذلك جميع أهل الإسلام فقال : "إن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة على النبي صلى الله عليه وسلم . يجرى على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنة، والخوارج، والشيعة، والقدرية حتى حدث متكلموا المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع بذلك، ولقد كان عمرو بن عبيد يتدين بما يروى عن أبى الحسين البصري من المعتزلة ويفتى به، هذا أمر لا يجهله من له أقل علم(7).
وإذا كان الحازمي حكى في شروط الأئمة الخمسة عن بعض متأخري المعتزلة اشتراط العدد في الرواية كما في الشهادة، وحكى ذلك أيضاً عن بعض أصحاب الحديث كما حكاه السيوطي (8).
فقد أجاب شيخ الإسلام ابن حجر رضي الله عنه عن حكاية ذلك الشرط عن بعض أصحاب الحديث بقوله :"وقد فهم بعضهم ذلك من خلال كلام الحاكم في معرفة علوم الحديث، وفي المدخل إلى الأكليل عند كلامه في شرط البخاري ومسلم، وبذلك جزم ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول وغيره، ولا حجة لهم فيما فهموه، ومنقوض بما في الصحيحين من الغرائب الصحيحة التي تفرد بها بعض الرواة"(9) .
يقول الحافظ ابن حجر : وقد وهم بعضهم حيث نسب إلى الحاكم أنه ادعى أن شرط الشيخين رواية الاثنين، ولكنه غلط على الحاكم(10) .
(1) - الفرق بين الفرق ص 137، وانظر : الانتصار للخياط ص 230، وآراء المعتزلة الأصولية دراسة وتقويماً للدكتور على بن سعد بن صالح ص 347.
(2) - الفرق بين الفرق ص 137، 138، وانظر : الانتصار للخياط ص 232، والملل والنحل 1 /50، وتأويل مختلف الحديث ص 28.
(3) - شروط الأئمة الخمسة ص 47
(4) - الفرق بين الفرق ص 124، 125، وانظر : الملل والنحل 1 /47.
(5) - الإحكام للآمدي 2 /27، وانظر : المسودة في أصول الفقه آل تيمية ص 234.
(6) - الإحكام للآمدي 2 /39، والمسودة في أصول الفقه ص 236، والبرهان 1 /217.
(7) - الإحكام لابن حزم 1 /110، وانظر : الاعتصام للشاطبي 1 /187.
(8) - تدريب الراوي 1 /70.
(9) - تدريب الراوي 1 /71
(10) - فتح الباري 13 /246 أرقام 7250 - 7257، وانظر : سؤالات مسعود بن على السجزي للحاكم ص 209 رقم 267.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (57)
المعتزلة وموقفهم من السنة النبوية(6-8)
موقفهم من خبر الآحاد :
وتناقض المعتزلة في حجية خبر الآحاد، فحكى الآمدي عن أبي الحسين البصري جواز التعبد بخبر الواحد عقلاً(1)، وحكي الإمام الجويني عن قوم من المعتزلة، والرافضة قالوا : "لا يجوز العمل به شرعاً"(2) .
ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادي عن الخياط المعتزلي، أنه مع ضلالته في القدر، وفي المعدومات؛ منكر الحجة في أخبار الآحاد، قال الأستاذ أبو منصور، وما أراد بإنكاره إلا إنكار أكثر أحكام الشريعة، فإن أكثر فروض الفقه مبنية علي أخبار من أخبار الآحاد(3) .
تناقض المعتزلة في العدد المطلوب لقبول خبر الآحاد :
ومن قبل خبر الآحاد من المعتزلة تناقض في العدد المطلوب لقبوله، وذهب إلي عدم الاحتجاج به في الأعمال إلا بشروط .
فأما تناقضهم في العدد المطلوب لقبوله . فحكي عن أبي علي الجبائي "أنه لا يقبل الخبر إلا إذا رواه أربعة"(4) . وحكي عنه أيضاً قوله : "لا يقبل في الشرعيات أقل من اثنين"(5)، ونقل عنه أيضاً قوله : "يعتبر عدد يزيد عن شهود الزنا"(6).
واشترط رجلين عن رجلين "إسماعيل بن إبراهيم بن عليه" وهو من الفقهاء المحدثين، إلا إنه مهجور القول عند الأئمة لميله إلي الاعتزال، وقد كان الإمام الشافعي يرد عليه ويحذر منه .
ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادي : "أن بعضهم اشترط في قبول الخبر : أن يرويه ثلاثة عن ثلاثة إلي منتهاه، واشترط بعضهم أربعة عن أربعة إلي منتهاه، وبعضهم خمسة عن خمسة إلي منتهاه، وبعضهم سبعة عن سبعة"(7).
أما من ذهب إلى عدم الاحتجاج به في الأعمال إلا بشروط؛ فاشترط :
1- ألا يخالف ظاهر القرآن الكريم، وهو أحد أصولهم كما سبق، فإذا ورد الحديث مخالفاً لظاهر القرآن الكريم؛ كان دليلاً علي عدم صحته حتى مع إمكان الجمع بين هذا التعارض الظاهري، وهذا الشرط أصل من أصول أهل الزيغ والابتداع من الخوارج والجهمية والجبرية والمعتزلة كما حكاه عنهم الأئمة : ابن قيم الجوزية(8)، والشاطبي(9)، وابن قتيبة(10) وغيرهم .
2- كما اشترط بعضهم ألا يخالف خبر الآحاد العقل: قال أبو الحسين: لم يقبل ظاهر الخبر في مخالفة مقتضي العقل، لأنا قد علمنا بالعقل علي الإطلاق أن الله عزَّ وجلَّ لا يكلف إلا ما يطاق وأن ذلك قبيح، فلو قبلنا الخبر في خلافه، لم يخل، إما أن نعتقد صدق النبي صلي الله عليه وسلم . في ذلك فيجتمع لنا صدق النقيضين، أو لا نصدقه فنعدل عن مدلول المعجز وذلك محال(11).
3- كما ذهب فريق الاعتزال إلي أن خبر الآحاد لا يقبل فيما طريقه الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد إنما ينبني علي اليقين لا الظن، وخبر الآحاد إنما يفيد الظن(12)، وأما اليقين فإنما يؤخذ من حجج العقول؛ كما قال الجاحظ : " وما الحكم القاطع إلا للذهن، وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل"(13) .
وقال :" والاستنباط هو الذي يفضي بصاحبه إلي برد اليقين، وعز الثقة، والقضية الصحيحة، والحكم المحمود "(14).
وقال القاضي عبد الجبار : " وإن كان - أي خبر الآحاد - مما طريقه الاعتقادات ينظر، فإن كان موافقاً لحجج العقول قبل واعتقد بموجبه، لا لمكانه بل للحجة العقلية، وإن لم يكن موافقاً لها، فإن الواجب أن يرد ويحكم بأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يقله، وإن قاله فإنما قاله علي طريق الحكاية عن غيره، هذا إذا لم يحتمل التأويل إلا بتعسف، فأما إذا احتمله فالواجب أن يتأول"(15) .
بل زعموا أن من أخبار الآحاد ما يعلم أنه بروايته ارتكب عظيماً، مما روي في باب التشبيه والجبر وغيرها من ضروب الخطأ، ولولا الدلالة علي وجوب العمل به علي بعض الوجوه لم يكن في نقله فائدة(16).
وسيأتي الجواب عن هذه الشروط في الرد علي شبه منكري حجية خبر الآحاد .
(1)- الإحكام للآمدي 2 /68، 75، وانظر : المعتمد في أصول الفقه 2 /106.
(2) - البرهان في أصول الفقه 1 /228، 231، وانظر : المسودة في أصول الفقه لآل تيمية ص 238، والمعتمد في أصول الفقه 2 /106 وما بعدها . وفضل الاعتزال ص 195.
(3) - الفرق بين الفرق ص 168 ، وانظر : الملل والنحل 1 /66.
(4) - انظر : تدريب الراوي 1 /72.
(5) - البرهان للجويني 1 /231.
(6) - المسودة في أصول الفقه لآل تيمية ص 236، 238.
(7) - تدريب الراوي1 /75، وانظر: آراء المعتزلة الأصولية دراسةوتقويماً للدكتور عليبن سعد بن ص333
(8) - أعلام الموقعين 2 /275، 276.
(9)- انظر : الاعتصام باب في مأخذ أهل البدع بالاستدلال 1 /199.
(10)- تأويل مختلف الحديث ص84 وما بعدها، وانظر: الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية ص210-212
(11)- المعتمد في أصول الفقه 2 /549، وانظر : شرح الأصول الخمسة ص 565.
(12)- انظر : المعتمد في أصول الفقه 2 /102، وشرح الأصول ص 769
(13)- رسالة التربيع والتدوير، ضمن رسائل الجاحظ 3 /58.
(14)- كتاب المعلمين . ضمن رسائل الجاحظ 3 /58.
(15) - شرح الأصول ص 770، وانظر : فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص 182، والمعتمد في أصول الفقه 2/549.
(16)- الانتصار ص 152، 153.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (58)
المعتزلة وموقفهم من السنة النبوية(7-8)
موقف المعتزلة من الصحابة وأثر ذلك علي السنة النبوية :
موقف المعتزلة من الصحابة رضي الله عنهم ، لا يقل سوءً وخطراً من موقف الشيعة من الصحابة وأول ما يطالعنا من موقفهم من الصحابة أحد أصولهم الواردة علي لسان أحمد بن يحيي بن المرتضي، وهو تولي الصحابة، والاختلاف في عثمان بعد الأحداث، والبراءة من معاوية وعمرو بن العاص . وهذا الأصل كما سبق هو أحد الفوارق في الأصول عندهم فهم وإن صححوا خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حتى من قال منهم بأفضلية علي بن أبي طالب إلا أننا نجد النظام يتطاول عليه، وعلي كثير من أعلام الصحابة كالفاروق عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبي هريرة وغيرهم . فلا ندري ماذا يعنون بتولي الصحابة قبل اختلافهم في سيدنا عثمان رضي الله عنهم .
حتى إذا كانت فتنة سيدنا عثمان رضي الله عنه رأيناهم يشكون في عدالته، فيعلنون التوقف فيه وفي خاذليه وقاتليه وترك البراءة من واحد منهم، لأنهم أشكل عليهم الأمر في حاله رضي الله عنه قبل الفتنة وبعدها، فتركوا أمره لله عزَّ وجلَّ .
وهذا التوقف والشك في عدالة أمير المؤمنين، حكاه كما سبق الخياط عن واصل بن عطاء، وقال الخياط :" هذا قول لا تبرأ المعتزلة منه، ولا تعتذر من القول به"(1) .
حتى إذا كانت فتنة علي بن أبي طالب ومعاوية - رضي الله عنهما - رأيناهم ما بين موقن بفسق إحدى الطائفتين لا بعينها، وما بين موقن بفسقهما معاً، وأعلنوا البراءة من معاوية، وعمرو بن العاص ومن كان في شقهما(2) بل إن البلخي وهو أحد شيوخ المعتزلة تجرأ برميهما - رضي الله عنهما - بالإلحاد، كما سبق .
حكي الإمام عبد القادر البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) عن شيخ المعتزلة واصل ابن عطاء زعمه أن فرقة من الفرقتين (أصحاب الجمل وصفين) فسقه لا بأعيانهم، وأنه لا يعرف الفسقة منهما، وأجازا أن يكون الفسقة من الفرقتين علياً وأتباعه، كالحسن، والحسين، وابن عباس، وعمار بن ياسر، وأبي أيوب الأنصاري، وسائر من كان مع علي يوم الجمل، وأجازا كون الفسقة من الفرقتين عائشة، وطلحة، والزبير، وسائر أصحاب الجمل، ثم قال في تحقيق في الفرقتين : لو شهد علي، وطلحة، أو علي، والزبير، أو رجل من أصحاب الجمل عندي علي باقة بقل لم أحكم بشهادتهما، لعلمي بأن أحدهما فاسق لا بعينه، كما لا أحكم بشهادة المتلاعنين لعلمي بأن أحدهما فاسق لا بعينه، ولو شهد رجلان من إحدى الفرقتين أيهما كان قبلت شهادتهما .
يقول الإمام البغدادي : "ولقد سخنت عيون الرافضة القائلين بالاعتزال بشك شيخ المعتزلة في عدالة علي وأتباعه، ومقالة واصل في الجملة كما قلنا في بعض أشعارنا :
مقالة ما وصلت بواصل *** بل قطع الله به أوصالها(3)
وإذا كان واصل بن عطاء أيقن بفسق إحدي الفرقتين لا بعينها، فقد أيقن بفسقهما معاً وصرح بذلك عمرو بن عبيد كما حكاه عنه البغدادي(4).
وعن طعن المعتزلة في الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - قال الإمام البغدادي في الفضيحة الحادية والعشرون من فضائح النظام : "ثم إن النظام - مع ضلالاته التي حكيناها عنه - طعن في أخيار الصحابة والتابعين من أجل فتاويهم بالاجتهاد، فذكر الجاحظ عنه في كتاب (المعارف) وفي كتابه المعروف بـ (الفتيا) أنه عاب أصحاب الحديث ورواياتهم أحاديث أبي هريرة رضي الله عنهم ، وزعم أن أبا هريرة كان أكذب الناس، وطعن في الفاروق عمر رضي الله عنه، وزعم أنه شك يوم الحديبية في دينه، وشك يوم وفاة النبي صلي الله عليه وسلم ، وأنه كان فيمن نفر بالنبي صلي الله عليه وسلم ليلة العقبة، وأنه ضرب فاطمة، ومنع ميراث العترة، وأنكر تغريب نصر بن الحجاج من المدينة إلي البصرة، وزعم أنه ابتدع صلاة التراويح، ونهي عن متعة الحج، وحرم نكاح الموالي للعربيات ...إلخ .
... ثم إنه قال في كتابه : "إن الذين حكموا بالرأي من الصحابة، إما أن يكونوا قد ظنوا أن ذلك جائز لهم، وجهلوا تحريم الحكم بالرأي في الفتيا عليهم، وإما أنهم أرادوا أن يذكروا بالخلاف، وأن يكونوا رؤساء في المذاهب، فاختاروا لذلك القول بالرأي، فنسبهم إلي إيثار الهوى علي الدين، وما للصحابة رضي الله عنهم عند هذا الملحد المفتري ذنب غير أنهم كانوا موحدين لا يقولون بكفر القدرية الذين ادعوا مع الله تعالي خالقين كثيرين (5)
وقد ذكر الإمام البغدادي بعد ذلك: "أن نسبة النظام الصحابة إلي الجهل والنفاق يترتب عليه خلود أعلام الصحابة في النار علي رأي النظام، لأن الجاهل بأحكام الدين عنده كافر، والمتعمد للخلاف بلا حجة عنده منافق كافر أو فاسق فاجر، وكلاهما من أهل النار علي الخلود(6) .
وهذا الذي ذكره الإمام البغدادي وافقه علي أكثر ما فيه الإمام الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل). والإمام ابن قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث) وقد أغنانا في الرد علي النظام ومن ذهب مذهبه وعلي كل دعاويه واتهاماته الباطلة لصحابة سيدنا رسول الله رضي الله عنهم بما لا يدع مجالاً للشك في تهافت فكرهم وتفاهة رأيهم، وتحقيراً لشأنهم، الإمام ابن قتيبة (7) .
وهكذا يظهر واضحاً أن المعتزلة ما بين شاك في عدالة الصحابة، منذ عهد فتنة سيدنا عثمان رضي الله عنه وما بين موقن بفسق إحدى الطائفتين لا بعينها، وما بين موقن بفسقهما معاً، وما بين طاعن في أعلامهم، متهم لهم بالكذب والجهل والكفر والنفاق كالنظام . مع أن رؤساءهم وخاصة الذين طعنوا منهم في الصحابة - كانوا من الرقة في الدين بحيث يصف أحدهم وهو ثمامة بن أشرس - جمهور المسارعين إلي الصلاة بأنهم "حمير" : وكانوا من الشعوبية والكره للعرب بحيث يقول ثمامة نفسه : "انظر إلي هذا العربي يعني محمد صلي الله عليه وسلم ماذا فعل بالناس؟" فماذا ننتظر من هذا الشعوبي الماجن أن يقول عن صحابة رسول الله رضي الله عنهم ؟ وماذا ننتظر أن يكون رأيه في السنة التي حققها أئمة الحديث ومحققوهم(8)؟
ولا يقف قدح المعتزلة عند الصحابة فقط، بل يمتد إلي القدح في التابعين رضي الله عنهم وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين علي عدالتهم وإمامتهم . وربما ردوا فتاويهم وقبحوها في أسماع العامة لينفروا الأمة عن إتباع السنة وأهلها(9).
(1) - الانتصار ص 152، 153.
(2) - ومن عجيب الأمر أن الخياط يعيب علي المحدثين عدم أخذهم بأصل المعتزلة بالبراءة من معاوية، وعمرو بن العاص ومن في شقهما، فيقول [ولقد أفرطوا في ذلك حتي تولوا من قامت الحجة بعدواته والبراءة منه] انظر : الانتصار ص 213.
(3) - الفرق بين الفرق ص117، وانظر: الملل والنحل للشهرستاني 1 /43.
(4) - الفرق بين الفرق ص118، وانظر : الملل والنحل للشهرستاني 1 /43.
(5) - الفرق بين الفرق ص 140-142، وانظر : ضحي الإسلام 3 /86.
(6) - الفرق بين الفرق ص 143.
(7)- تأويل مختلف الحديث ص 33 - 44.
(8) - السنة ومكانتها في التشريع ص6، وانظر : تأويل مختلف الحديث ص 54، وانظر : ما قاله الأئمة عن فساد دين رؤوس المعتزلة في تأويل مختلف الحديث ص 28، والفرق بين الفرق ص 143.
(9) - الاعتصام 1 /186 وما بعدها .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (59)
المعتزلة وموقفهم من السنة النبوية(8-8)
والخلاصة:
أن أصول المعتزلة علي اختلافها كان لها أسوء الأثر علي الإسلام ورواته حيث وقف المعتزلة بأصولهم من الوحي قرأناً وسنة، ومن الصحابة موقف التحدي، فإذا بدا خلاف في ظاهر النصوص وبين أصولهم أو رأي لا يرونه أولوا النص بما يخرج عن معناه الحقيقي إلي ما يوافق رأيهم(1)
وعن خطورة تأويلهم آيات القرآن الكريم بما يوافق أصولهم يقول الإمام الأشعري:" إن كثيراً من الزائغين عن الحق من المعتزلة، وأهل القدر، مالت بهم أهواؤهم إلي تقليد رؤسائهم، ومن مضي من أسلافهم، فتأولوا القرآن علي آرائهم تأويلاً لم ينزل به الله سلطاناً، ولا يصح به برهاناً، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف المتقدمين"(2) .
ويقول فضيلة الدكتور أبو شهبة - رحمه الله - : "المعتزلة من أعظم الناس كلاماً وجدالاً، وقد صنفوا تفاسيرهم علي أصول مذهبهم، مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم، شيخ إسماعيل بن عليه، الذي كان يناظر الشافعي، ومثل كتاب أبي علي الجبائي، والتفسير الكبير للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني والكشاف لأبي القاسم الزمخشري . والمقصود : أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً، ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين في رأيهم، ولا في تفسيرهم، وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة، وذلك من جهتين : تارة من العلم بفساد قولهم، وتارةً من العلم بفساد ما فسروا به القرآن ...، ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحاً، ويدس السم في كلامه، وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى أنه يروج علي خلق كثير من أهل السلف، كثير من تفاسيرهم الباطلة"(3)أ.هـ. .
ولا يقف خطر أصولهم عند تأويلهم القرآن الكريم مما لم ينزل به الله سلطاناً، وإنما كان لهذه الأصول خطرها الأعظم علي السنة المطهرة، فما تعارض من الأحاديث الصحيحة مع هذه الأصول، إما يؤولونه تأويلاً يشبه الرد، وإما يصرحون بالرد بحجة أن الخبر آحاد، والآحاد لا يحتج بها في العقائد(4)، وهم في كل ذلك يتطاولون علي رواة السنة ويطعنون فيهم سواء من صحابة رسول الله رضي الله عنهم أو من التابعين، فمن بعدهم من أئمة المسلمين .
وفي مواقف المعتزلة من الكتاب والسنة والصحابة، وجد أعداء الإسلام وأعداء السنة المطهرة، ثغرات يلجون منها في الكيد لدين الله عزَّ وجلَّ - قرآناً وسنة - بما وجدوه من ثروة طائلة من السخافات والمثالب، فصوروا الإسلام في صورة الخرافات، وطعنوا بدورهم في أئمة المسلمين وتاريخهم وحضارتهم المجيدة، وقد اغتر بهم الجهلة في عصرنا الحاضر ونسجوا علي منوال أساتذتهم، ورموا علماء المسلمين في كل عصر بكل نقيصة وبهتان، والله يشهد إنهم لكاذبون(5).
فالمستشرقون، ودعاة التغريب، واللادينية، وهم يهاجمون السنة اليوم، ويثيرون حولها الشبهات اهتموا بالاعتزال والمعتزلة، لأنهم وجدوا فيهم منهجاً له أثره في إفساد الفكر الإسلامي علي العموم، وإبطال حجية السنة وتعطيلها علي الخصوص، ويبدوا هذا واضحاً في إحيائهم للفكر الاعتزالي والثناء عليه، ووصفهم للمعتزلة بأنهم أغارقة الإسلام الحقيقيون، أو وصفهم بالمعتزلة العظام، أو المفكرون الأحرار في الإسلام(6) .
يقول الدكتور أحمد أمين :" وفي رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة، وعلى أنفسهم جنوا"(7).
ومن هنا ندرك خطورة تأثر بعض علماء المسلمين الأجلاء من رواد المدرسة العقلية الحديثة بالفكر الاعتزالي ومنهجه في تعامله مع النصوص قرآناً وسنة(8).
واستغل ذلك التأثر بعض أعداء الإسلام، وأعداء السنة المطهرة، في دعوتهم الباطلة، وصبغها صبغة شرعية وذلك بالاستشهاد بأقوال رواد تلك المدرسة، والزعم بأن منهجهم العقلي المعتزلي، هو المنهج الحق، وربما ادعوا بأنه منهج سلفنا الصالح(9) .
(1) - انظر : موقف المعتزلة من السنة ومواطن انحرافهم عنها للدكتور أبو لبابة ص 43، 73، 97، والخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية للدكتور محمد عمارة ص 212-215
(2) - الإبانة للأشعري ص 14.
(3) - الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، ص 114، 115.
(4) - سيأتي بالبرهان الواضح أن القضية مع المعتزلة في العقائد ليست قضية متواتر وآحاد، وإنما قضية أصولهم فهي الأصل، والقرآن والسنة الفرع، بدليل تأويلهم لآيات القرآن المتواترة في أحاديث العقائد لتعارضها مع أصولهم، ولو صدقوا في دعواهم بأن الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد، فلماذا يؤولون تأويلاً أشبه بالرد، الآيات المتواترة في العقائد؟ انظر : موقف المعتزلة من السنة ومواطن انحرافهم عنها للدكتور أبو لبابة حسين ص 97، 98.
(5) - انظر:الحديث والمحدثون للدكتور محمد أبو زهو ص 332 بتصرف، والسنة ومكانتها في التشريع ص142، والضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين للدكتور أحمد محرم الشيخ1 /189-196.
(6) - انظر : العقيدة والشريعة لجولدتسيهر ص 100 - 102، 118 - 120، وانظر : تراث الإسلام لجوزيف شاخت ص 203، 218، ودراسات في حضارة الإسلام لهاملتون جب ص 268 - 269، 274، ودائرة المعارف الإسلامية ص 576، 580، 584.
(7) - ضحي الإسلام 3 /207.
(8) - انظر : المدرسة العقلية وموقفها من التفسير للدكتور / فهد الرومي ، والمدرسة العقلية وموقفها من السنة النبوية للصادق أمين.
(9) - انظر : أضواء علي السنة محمود أبو رية ص377 وما بعدها، والأضواء القرآنية السيد صالح أبو بكر 1 /16، 36، وتبصير الأمة بحقيقة السنة إسماعيل منصور ص 656، ومجلة روزاليوسف العدد 3586 ص 38 -40، والعدد 3559 ص 48-50، مقالات لأحمد صبحي منصور . وانظر هذا المبحث في السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام ( 1 / 103 ــ 124 ).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة (60)
المستشرقون والسنة النبوية(1-6)
أولا : التعريف بالاستشراق لغة واصطلاحاً
الاستشراق لغة : استشرق من الفعل "شرق" يقال : شرقت الشمس أي طلعت، واسم الموضع المشرق ، وكل ما طلع من المشرق فهو شرق(1)
واستشرق : أي طلب دراسة ما يتعلق بالشرق، فالألف والسين والتاء في أي فعل تدل على الطلب كاستغفر أي طلب المغفرة .
الاستشراق اصطلاحاً : هو علم الشرق أو علم العالم الشرقي ، وهو تعبير أطلقه الغربيون على الدراسات المتعلقة بالشرقيين شعوبهم، وتاريخهم، وأديانهم،ولغاته م، وأوضاعهم الاجتماعية،وبلا دهم، وأرضهم، وحضارتهم، وكل ما يتعلق بهم . وهذا معنى عام للاستشراق .
وهناك معنى خاص وهو : دراسة الإسلام والشعوب الإسلامية لخدمة أغراض التبشير من جهة، وخدمة أغراض الاستعمار الغربي لبلدان المسلمين من جهة أخرى، ولإعداد الدراسات اللازمة لمحاربة الإسلام وتحطيم الأمة الإسلامية(2).
وهذا المعنى الخاص لمفهوم الاستشراق هوالذي يعنينا،وهو الذي ينصرف إليه الذهن في عالمنا العربي الإسلامي عندما يطلق لفظ استشراق أو مستشرق ، وهو الشائع أيضاً في كتابات المستشرقين المعنيين(3) .
والمستشرقون : هم الذين يقومون بهذه الدارسات من غير الشرقيين، ويقدمون الدراسات اللازمة للمبشرين، بغية تحقيق أهداف التبشير، وللدوائر الاستعمارية بغية تحقيق أهداف الاستعمار .
ومع الدراسات الاستشراقية الموجهة لأغراض التبشير والاستعمار، قام بعض محبي العلم بدراسات استشراقية حيادية غير موجهة، وكان من بعض هؤلاء منصفون للحقيقة ، وبعض هؤلاء المنصفين تأثر بالإسلام وبالحضارة الإسلامية فأسلم (4) .
هذا ومما لا شك فيه أن الاستشراق كان له أكبر الأثر في صياغة التصورات الأوربية عن الإسلام وأمته، وفى تشكيل مواقف الغرب إزاء الإسلام على مدى قرون عديدة وحتى يومنا هذا(5) .
والاستشراق من تعريفه الخاص السابق، موقف عقائدي وفكري معاد للإسلام يقفه الكافرون بهذا الدين بوجه عام، وبعض أهل الكتاب من اليهود والنصارى بوجه خاص .
وهذا الموقف - في جوهره النابع من العداوة في العقيدة - ليس بجديد وإنما هو امتداد لموقف أسلافهم الكافرين بالإسلام من المشركين وأهل الكتاب - منذ ظهور الإسلام وحتى اليوم : وهو موقف الإنكار للرسالة، والتكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وإثارة الشبهات حول الإسلام بوجه عام ، وحول القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وسنته المطهرة بوجه خاص، بغية تشكيك المسلمين في دينهم، ومحاولة ردهم عنه .
وقد تختلف وسائل المشركين ووسائل أهل الكتاب، ولكنهم - في نهاية المطاف - يلتقون حول الهدف : وهو محاولة منع الخير - وهو الإسلام - عن المسلمين، ومحاولة ردهم عنه ، كما قال الله تعالى : ( مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم) [ سورة البقرة / 105 ] . وقال تعالى ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [ سورة البقرة /109 ] .
(1) ـــ القاموس المحيط 3/241، ومختار الصحاح ص 336.
(2) ــ أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها للأستاذ عبد الرحمن الميدانى ص 50 بتصرف، وانظر : الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضارى للأستاذ الدكتور محمود زقزوق ص 24.
(3)ــ الاستشراق للدكتور زقزوق ص 24،25، وانظر : المستشرقون والتاريخ الإسلامى للدكتور على الخربوطلى ص 26، ورؤية إسلامية للاستشراق للدكتور أحمد غراب ص 7.
(4) ــ أجنحة المكر الثلاثة ص 50، 51.
(5) ـــ الاستشراق للدكتور زقزوق ص20.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 61 )
المستشرقون والسنة النبوية(2-6)
ثانيا : منهج المستشرقين في دراسة الإسلام
قبل أن نتعرف على موقف المستشرقين من السنة النبوية المطهرة يجدر بنا أن نتعرف أولاً على منهجهم في دراستهم الاستشراقية للإسلام، فبمعرفة هذا المنهج سنقف على أثره في نظرتهم للإسلام، وللسنة النبوية المطهرة ونحن كثيراً ما نسمع المستشرقين يكثرون من القول: إن التحقيق والموضوعية والتحرر منهجهم في كل ما يبحثون لا فرق في ذلك عندهم بين عدو وصديق أو بين قريب وبعيد، ويكثرون من القول أيضاً: أنهم يدرسون العقائد الدينية على أسس من المبادئ المستمدة من العقل والمنطق ... هكذا يدعون!
والحق أنهم بعيدون كل البعد عن البحث العلمي النزيه ولا يمتون إليه بصلة، ويستوي في هذا سائر المدارس الاستشراقية(1) .
ولا أدرى كيف يكون منهج الاستشراق اللاهوتي الوليد من عصبية وحقد النصارى للإسلام ولأمتنا الإسلامية - لا أدرى كيف يكون نزيهاً ومحايداً في دراسته للإسلام ...؟!
وحتى بعد تطوره في العصر الحديث إلى استشراق علماني استعماري لم يتخل عن العصبية الدينية، وإن لم تطغ هذه العصبية طغيانها قديماً فهو استشراق استعماري طامع في خيرات هذه الأمة حاقد عليها ، ولا أمل له في السيطرة على هذه الأمة إلا بإضعاف عقيدتها بدينها وبتاريخها وحضارتها ، ولا يكون ذلك إلا بالاستشراق اللاهوتي التبشيري،
وكذلك حال الاستشراق اليهودي في منهجه، كانت تحركه نزعتين :
إحداهما دينية : تحمل أشد العداوة والحقد للإسلام والمسلمين .
وثانيهما سياسية : تحمل في داخلها حلم إعادة مملكة سيدنا داود عليه السلام فى فلسطين وحكم العالم أجمع .
والبحث العلمي النزيه لا صلة له إطلاقاً بما يكتبون عن الإسلام والمسلمين؛ لأنهم وهم يكتبون لا يتخلون أبداً عن أهوائهم وحقدهم الدفين ضد الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم وأمته التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس، وحتى لو فرضنا أن هذا لا يكون في نفوس بعضهم حين يكتبون عن الإسلام، فإنه مما لا شك فيه يكون في نفوسهم الطمع في خيرات هذه الأمة وهذا يحملهم أيضاً على التحامل على الإسلام، وصدق رب العزة في بيان نزعتهم الدينية في قوله تعالى: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [ سورة البقرة /109 ].
وصدق رب العزة في بيان نزعتهم الاستعمارية في قوله تعالى : ( مَا يوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [ سورة البقرة / 105 ].
والمستشرقون في كتاباتهم عن الإسلام لن يتخلوا أبداً عن هاتين النزعتين الدينية والاستعمارية، لأن التحول عنهما، إنما يعنى التحول إلى الإسلام، وهذا التحول إلى الإسلام يعنى في الوقت نفسه التحول عن الاستشراق وأهدافه الخبيثة، وهذا ما حدث بالفعل لبعض المستشرقين ممن أكرمهم رب العزة بالإسلام وهداهم إليه .
وصدق رب العزة في بيان سبب عدم تخليهم عن نزعتهم الدينية سواء يهودية أو نصرانية في قوله تعالى : ( وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) [ سورة الحج / 55 ]
فالسبب أنهم أبداً وإلى أن تقوم الساعة في شك من هذا الدين ومن نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم،وهم دائماً في موقف الحذر منه والتربص به ، ومهما حدث من أمور يظهرون من خلالها التودد والمجاملة، إلا أن ذلك يخفى حقيقة في قلوبهم لا يريدون إظهارها ففعلهم في واد، وقلوبهم في واد آخر .
وإذا كان هناك من رضاً متوقع، فلن يكون إلا في حين اتباع ملتهم، والسير خلفهم، وعدم مخالفتهم فيما يفعلون أو يكتبون من خرافات وأساطير عن الإسلام أما دون ذلك فلا، قال تعالى:( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) [ سورة البقرة / 120 ] ، وقال تعالى: ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [ سورة النساء / 89 ] .
فالولاء الوحيد في قلوب هؤلاء؛ إنما هو لدينهم ولمصلحتهم لا للإسلام ولا للمسلمين ، كما قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [ سورة الأنفال / 73 ] .
(1) ــ وهى المدرسة النصرانية، والمدرسة اليهودية، والمدرسة العلمانية، والمدرسة الإلحادية الشيوعية . انظر : أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها للأستاذ عبد الرحمن الميدانى ص 124، 125، والاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضارى للدكتور زقزوق ص 48، 49.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 62 )
المستشرقون والسنة النبوية(3-6)
ماذا تقتضي الموضوعية في البحث:
وإذا كان هؤلاء المستشرقون صادقين في ادعائهم الموضوعية والحيدة فيما يكتبون، فنحن نطلب منهم أن يلتزموا بأوليات بديهية يتطلبها المنهج العلمي السليم فعندما أرفض وجهة نظر معينة لابد أن أبين للقارئ أولاً وجهة النظر هذه من خلال فهم أصحابها لها ثم لي بعد ذلك أن أوافقها أو أخالفها .
وعلى هذا الأساس نقول عندما يكتب عن الإسلام ينبغي أن أقرر : أن الكيان الإسلامي كله يقوم على أساس الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي تلقى القرآن وحياً من عند الله .
ويجب على العالم النزيه والمؤرخ المحايد أن يقول ذلك لقرائه عندما يتعرض للحديث عن الإسلام حتى يستطيع القارئ أن يفهم سر قوة هذا الإيمان في تاريخ المسلمين(1) ، ثم له بعد ذلك أن يخالف المسلمين في معتقداتهم وتصوراتهم أو يوافقهم.
غير أن هذا المنهج المنطقي والطبيعي قلما يتبع مع الأسف، ويتبعون بدلاً منه منهجهم القائم على ما يلي :
1- تحليل الإسلام ودراسته بعقلية أوروبية، فهم حكموا على الإسلام معتمدين على القيم والمقاييس الغربية المستمدة من الفهم القاصر والمحدود
والمغلوط الذي يجهل حقيقة الإسلام(2) .
2- تبييت فكرة مسبقة ثم اللجوء إلى النصوص واصطيادها لإثبات تلك الفكرة واستبعاد ما يخالفها، وذلك منهج معكوس وليد الهوى .
3- اعتمادهم على الضعيف والشاذ من الأخبار،وغض الطرف عما هو صحيح وثابت منها(3) .
4- تحريف النصوص، ونقلها نقلاً مشوهاً، وعرضها عرضاً مبتوراً(4)، وإساءة فهم ما لا يجدون سبيلاً لتحريفه (5) .
5- غربتهم عن العربية والإسلام منحتهم عدم الدقة والفكر المستوعب في البحث الموضوعي، حتى ولو اختص أحدهم بأمر واحد من أمور الإسلام طيلة حياته(6) .
6- تحكمهم في المصادر التي ينقلون منها، فهم ينقلون مثلاً من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ الحديث، ومن كتب التاريخ ما يحكمون به في تاريخ الفقه ، ويصححون ما ينقله (الدميري) في كتاب "الحيوان" ويكذبون ما يرويه "مالك" في "الموطأ" كل ذلك انسياقاً مع الهوى، وانحرافاً عن الحق(7) .
7- إبراز الجوانب الضعيفة، والمعقدة، والمتضاربة، كالخلاف بين الفرق، وإحياء الشبه، وكل ما يفرق، وإخفاء الجوانب الإيجابية والصحيحة وتجاهلها(8) .
8- الاستنتاجات الخاطئة والوهمية وليدة التعصب، وجعلها أحكاماً ثابتة يؤكدها أحدهم المرة تلو المرة، ويجتمعون عليها حتى تكاد تكون يقيناً عندهم(9) .
9- النظرة العقلية المادية البحتة التي تعجز عن التعامل مع الحقائق الروحية(10).
10- تفسير سلوك المسلمين، أفراداً وجماعات بأنه مدفوع بأغراض شخصية، ونوازع نفسية دنيوية، وليس أثراً لدافع ابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة (11) .
وهذا المنهج في دراسة الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم وأمته وتاريخهم المجيد سيبدو واضحاً في وسائلهم للكيد للسنة النبوية المطهرة .
(1) ــ نقد كتاب فييت (مجد الإسلام) للدكتور حسين مؤنس ملحق بكتاب الفكر الإسلامى الحديث وصلته بالاستعمار ص 459 : 463، وانظر : الاستشراق للدكتور زقزوق ص 95.
(2) ــ السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 188، والاستشراق والمستشرقون للدكتور السباعى ص 49، ومناهج المستشرقين فى الدراسات العربية والإسلامية لجماعة من العلماء ص364، والإسلام والمستشرقون لنخبة من العلماء ص 191، والاستشراق والمستشرقون وجهة نظر للأستاذ عدنان محمد وزان ص 124.
(3) ــ انظر : السنة ومكانتها فى التشريع ص 188، والاستشراق والمستشرقون للدكتور السباعى ص43، والإسلام والمستشرقون لنخبة من العلماء ص 251.
(4) ــ انظر : الإسلام والمستشرقون ص 248.
(5) ــ السنة ومكانتها فى التشريع ص 188، والاستشراق والمستشرقون وجهة نظر ص 130.
(6) ــ انظر : الرسول صلى الله عليه وسلم . فى كتابات المستشرقين للأستاذ نذير حمدان ص 16.
(7) ــ انظر : السنة ومكانتها فى التشريع ص 188-189.
(8) ـــ الإسلام والمستشرقون لنخبة من العلماء ص 241.
(9) ـــ المصدر السابق ص 247.
(10) ـــ انظر : الرسول صلى الله عليه وسلم . فى كتابات المستشرقين ص 16.
(11) ــ انظر : أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها للأستاذ عبد الرحمن الميدانى ص147، 148.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 63 )
المستشرقون والسنة النبوية(4-6)
نتائج عدم الموضوعية في البحث:
ونتيجة لهذا المنهج نشروا صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين، وزعموا كذباً أن هذه الصورة الفاضحة هي صورة الإسلام والمسلمين التي يعتقدونها ويعيشونها قديماً وحديثاً، واقتنع بها أبناء جلدتهم، وبعض من أبناء جلدتنا ممن يجهلون دينهم، أو يرغبون في الشهرة، أو مخدوعين بما يدعيه أولئك الأعداء من المنهج العلمي المزعوم، مما جعلهم يصدقون كل ما يكتبه المستشرقون عن الإسلام، بل يعجبون به ويتعصبون له في كثير من الأحيان .يقول الدكتور السباعي :" ترى لو استعمل المسلمون معايير النقد العلمي التي يستعملها المستشرقون في نقد القرآن والسنة وتاريخنا، في نقد كتبهم المقدسة، وعلومهم الموروثة، ماذا يبقى لهذه الكتب المقدسة والعلوم التاريخية عندهم من قوة؟ وماذا يكون فيها من ثبوت؟ نعم سنخرج بنتيجة من الشك وسوء الظن أكبر بكثير مما يخرج به المستشرقون بالنسبة إلى مصادر ديننا وحضارتنا وعظمائنا ، فحضارتهم مهلهلة رثة الثياب، ورجال هذه الحضارة من علماء وسياسيين وأدباء يبدون في صورة باهتة اللون لا أثر فيها لكرامة ولا خلق ولا ضمير .نعم لو فعلنا ذلك كما يفعلون لرأوا كيف عاد هذا المنهج الذي زعموا أنهم يستخدمونه لمعرفة (الحقيقة) في ديننا وتاريخنا، وبالاً عليهم، لعلهم يخجلون - بعدئذ - من استمرارهم في التحريف والتضليل والهدم"(1) أ.هـ.ويقول الدكتور محمود زقزوق :1- إن الاستشراق - من بين شتى العلوم الأخرى - لم يطور كثيراً في أساليبه ومناهجه . وفى دراسته للإسلام لم يستطع أن يحرر نفسه تماماً من الخلفية الدينية للجدل اللاهوتي العقيم الذي انبثق منه الاستشراق أساساً .2- أن الاستشراق في دراسته للديانات الوضعية مثل البوذية والهندوسية وغيرها غالباً ما تكون دراسات موضوعية بعيدة عن أي تجريح ولكن الإسلام وحده من بين كل الأديان هو الذي يتعرض للنقد والتجريح والمحاربة على الرغم من أنه دين يؤمن بالله ويحترم اليهودية والمسيحية ويؤمن بموسى، وعيسى، ويرفعهما فوق النقد بوصفهما من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام . والمسلمون فقط من بين الشرقيين جميعاً هم الذين يصفون بشتى الأوصاف الدنيئة .3- إن الإسلام الذي يعرضه هؤلاء المستشرقون - المتحاملون على الإسلام - في كتبهم هو إسلام من اختراعهم، وهو بالطبع ليس الإسلام الذي ندين به، كما أن محمداً الذي يصورونه في مؤلفاتهم ليس هو محمد الذي نؤمن برسالته، وإنما هو شخص آخر من نسيج خيالهم(2).
(1) ــ السنة ومكانتها فى التشريع ص 24 وما بعدها بتصرف .
(2) ــ انظر : الفكر الإسلامى الحديث للدكتور محمد البهى ص 473، والاستشراق للدكتور محمود زقزوق ص 138 - 143 بتصرف .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 64 )
المستشرقون والسنة النبوية(5-6)
تقييم الدراسات الاستشراقية:
وهكذا يمكن القول بأن الاستشراق في دراسته للإسلام، ليس علماً بأي مقياس علمي، وإنما هو عبارة عن أيديولوجية خاصة يراد من خلالها ترويج تصورات معينة عن الإسلام، بصرف النظر عما إذا كانت هذه التصورات قائمة على حقائق أو مرتكزة على أوهام وافتراءات(1) .
ويقول : " الاستشراق كهانة جديدة تلبس مسوح العلم والرهبانية في البحث، وهى أبعد ما تكون عن بيئة العلم والتحرر، وجمهرة المستشرقين مستأجرون لإهانة الإسلام وتشويه محاسنه والافتراء عليه"(2).
وتقول الدكتورة عزية علي طه شاهدة على منهج المستشرقين بعد أن تتلمذت على بعضهم في الولايات المتحدة، أثناء حصولها على درجة الماجستير في مقارنة الأديان، قالت: " وما كنت أتخيل بأن هؤلاء الناس الذين برعوا في جميع أوجه الحياة، بما في ذلك إبداع كل العلوم والمعارف المعاصرة ...، لم أكن أتخيل أنهم بهذا القدر من التعصب الأعمى والتمسك بملة آبائهم وأجدادهم دون تدبر ولا وعى، ولا إدراك .
ليس هذا فحسب، بل إنهم اشتطوا في العدوان على عقائد من خالفهم الرأي ولم يتورعوا عن الكذب والدس والبهتان كي يبرروا معتقداتهم الباطلة ويسيئوا إلى العقائد الأخرى، وخاصة الدين الإسلامي الحنيف ورغم ما كنت ألاقيه من عنت ومشقة في الصبر على أذاهم باستماعي لطعنهم في دين الله عزَّ وجلَّ ، بجانب مضايقاتهم المتكررة لي باعتباري مسلمة يجب أن ترتد عن دينها، أو حتى تحاول أن تهدم بعض أركانه باسم التطور، إلا وكان هدفي من الصمود أمام تحدياتهم وكثير بلواهم طيلة هذه المدة، الإحاطة بكل ما يمكن معرفته من عقائدهم الفاسدة ووسائلهم المنكرة في نشرها بين الناس، من طرق تنصير وغيره، واستراتيجية تهجمهم على الديانات الأخرى وخاصة الإسلام"(3) .
وأخيراً أقول كما قال الدكتور مصطفى السباعي : "إذا كنا نشتد هذه الشدة في حق جمهور المستشرقين المحرفين والمضللين أمثال "جولد تسيهر"، فإننا لا نغمط غيرهم من المنصفين حقهم ممن درسوا الإسلام بموضوعية ونزاهة علمية وأنصفوه وأنصفوا أهله وأدى الأمر ببعضهم إلى اعتناق الإسلام" (4) .
وإن كنت أرى أن هؤلاء أيضاً سواء من أنصف الإسلام منهم ظاهراً أو حتى ممن كانوا مسلمين لا يجوز الاغترار بإنصافهم هذا ولا الاعتماد في فهم ديننا على ما يكتبون، فكثير منهم دس السم في الدسم، وبعضهم أسلم ثم ارتد بعدما أدى الدور الذي كان مطلوباً منه(5)
(1) ـــ الاستشراق للدكتور زقزوق ص144،وانظر: الإسلام فى تصورات الغرب للدكتور زقزوق ص14
(2) ــ دفاع عن العقيدة والشريعة ص 8، وقارن بالإسلام على مفترق الطرق للأستاذ محمد أسد ص53، وانظر : ص 61 كلامه عن استمرار الاستشراق فى تشويه صورة الإسلام والمسلمين إلى الآن بالرغم أن الشعور الدينى فيه ما هو إلا قضية من قضايا الماضى . وانظر : رؤية إسلامية للاستشراق للدكتور أحمد غراب، ص37 وما بعدها .
(3) ــ منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة عزية على طه ص 14،15، وللاستزادة فى بيان حقيقة منهجهم . انظر : رؤية إسلامية للاستشراق للدكتور أحمد غراب ص 79، والمستشرقون والتراث للدكتور عبد العظيم الديب ص 27 وما بعدها .
(4) ــ السنة ومكانتها فى التشريع ص 25، 26 بتصرف يسير .
(5) ــ انظر : السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام ( 1 / 131 ــ 139 ) .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 64 )
المستشرقون والسنة النبوية(6-6)
ثالثا : المستشرقون وموقفهم من السنة النبوية
أدرك المستشرقون أهمية السنة النبوية بالنسبة للإسلام عموماً والقرآن الكريم خصوصاً، وأن التشكيك والنيل منها نيل من القرآن الكريم بل من الإسلام نفسه .
يقول المبشر الأمريكي (جب) : "إن الإسلام مبنى على الأحاديث أكثر مما هو مبنى على القرآن الكريم، ولكننا إذا حذفنا الأحاديث الكاذبة لم يبق من الإسلام شيء، وصار شبه صبيرة طومسون، وطومسون هذا رجل أمريكي، جاء إلى لبنان فقدمت له صبيرة فحاول أن ينقيها من البذر، فلما نقى منها كل بذرها لم يبق في يده منها شيء"(1) .
وأول مستشرق قام بمحاولة واسعة شاملة للتشكيك في الحديث النبوي كان المستشرق اليهودي "جولد تسيهر" الذي يعده المستشرقون أعمق العارفين بالحديث النبوي، كما وصفه بذلك "بفانموللر" وقال :" وبالأحرى كان "جولد تسيهر" يعتبر القسم الأعظم من الحديث بمثابة نتيجة لتطور الإسلام الديني والتاريخي والاجتماعي في القرن الأول والثاني . فالحديث بالنسبة له لا يعد وثيقة لتاريخ الإسلام في عهده الأول : عد طفولته، وإنما هو أثر من آثار الجهود التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصور المراحل الناضجة لتطور الإسلام .
كما بارك جولد تسيهر موقف المعتزلة من السنة النبوية، ورأى أن وجهتهم في رد الأحاديث بالعقل هي الوجهة الصحيحة التي يجب أن تناصر وتؤيد ضد المتشددين الحرفيين الجامدين على النصوص(2) .
وعلى درب "جولد تسيهر" في موقفه من السنة صار المستشرقون ورددوا شبهاته واعتبروا أنفسهم مدينين له فيما كتبه من شبهات حول السنة .
وفى هذا يقول عنه كاتب مادة (الحديث) في دائرة المعارف الإسلامية : "إن العلم مدين ديناً كبيراً لما كتبه (جولد تسيهر) في موضوع الحديث، وقد كان تأثير "جولد تسيهر" على مسار الدراسات الإسلامية الاستشراقية أعظم مما كان لأي من معاصريه من المستشرقين فقد حدد تحديداً حاسماً اتجاه وتطور البحث فى هذه الدراسات"(3).
ومن هنا كان الرد على هذا الداهية الخبيث رداً على عصابة المستشرقين إجمالاً فيما أثاروه من شبهات وطعون حول السنة النبوية المطهرة . وهذا ما سنعرض له فيما بعد إن شاء الله تعالى .
(1) ـــ التبشير والاستعمار للدكتور مصطفى خالد والدكتور عمر فروخ ص 98.
(2) ــ انظر : العقيدة والشريعة فى الإسلام ص 109، 110.
(3) ــ دائرة المعارف الإسلامية ص231، وانظر : الاستشراق للدكتور محمود حمدى زقزوق ص122، 123.
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 65 )
شبهات حول السنة والرد عليها(1)
عرضنا فيما سبق للتعريف ببعض الاتجاهات المنحرفة ، وأبنا إجمالا عن موقفها من السنة النبوية المطهرة ، وبداية من هنا وما يأتي سنعرض بمشيئة الله تعالى لشبهاتهم حول السنة النبوية ــ وهي شبهات متعددة ، منها ما يتعلق بحجية السنة ، ومنها ما يتعلق برواتها ، ومنها ما يتعلق بأهم مصادرها ، ومنها ما يتعلق بمناهج الأئمة في وضع القواعد لحفظها ، ومنها ما يتعلق ببعض نصوصها ، إلى غير ذلك مما سنعرض له ، وسوف نقوم بتوفيق الله تعالى بدحض هذه الشبه والرد عليها ، وبيان خطأ وزلل مقترفيها .
أولا : شبة عدم حجية السنة اكتفاء بالقرآن الكريم:
زعم بعض خُصماء السنة عدم حجية السنة اكتفاء بالقرآن الكريم فيقولون : علينا بالاكتفاء بالقرآن الكريم فقط؛ فهو كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المصدر الأول للإسلام، وهو الذي سلم من التغيير والتبديل … إلى آخر ما يقولونه ، تظاهراً بحبهم للإسلام، ودفاعاً عنه، وغيرة على ما في كتاب الله عز وجل من شريعة وأحكام، غير أنهم لا يريدون - مع ذلك - أن يضبطوا أنفسهم وعقولهم بهذا الذي أمر القرآن الكريم بضبط أنفسنا وعقولنا به، من اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم مصطنعين لأنفسهم ما يشاءون من آيات القرآن الكريم، يستدلون بها على الاكتفاء بالقرآن وحده، وعدم حجية السنة والحاجة إليها .وتتلخص شبههم حول عدم حجية السنة اكتفاء بالقرآن الكريم ، في شبهتين
الأولى : شبهة الاكتفاء بالقرآن وعدم الحاجة إلى السنة النبوية.
والثانية : شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها.
أولا : شبهة الاكتفاء بالقرآن الكريم وعدم الحاجة إلى السنة النبوية
وقد استدلوا على ذلك من القرآن الكريم بآيات عديدة منها :
1- قوله تعالى: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ )[ سورة الأنعام / 38 ] .
2- وقوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ )[ سورة النحل / 89 ] .
3- وقوله تعالى : ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا )[ سورة الأنعام /114 ]
4 ــ وقوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [سورة الأعراف / 52 ]
5 ــ وقوله تعالى : (كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[ سورة فصلت / 3 ]
6- وقوله تعالى : ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا )[ سورة الأنعام /115 ] .
7- وقوله تعالى :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا )[ سورة المائدة / 3 ]
8- وقوله تعالى : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ )[ سورة الأنعام /19 ]
9- وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ )[ سورة الأعراف /170 ]
10- وقوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )[ سورة العنكبوت / 51 ]
هذه الآيات الكريمات وما في معناها؛ استدل بها دعاة الفتنة ــ قديما وحديثا ــ على عدم حجية السنة النبوية المطهرة، وشبهتهم فى هذه الآيات؛ أنها تبين أن القرآن تام قد حوى كل شيء، كما فى آية الأنعام (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صدقا وعدلا )، والله عز وجل ما فرط فى الكتاب من شيء، كما فى آية الأنعام (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) فأتى بالعام ثم فصله تفصيلاً، كما فى آية الأنعام ( وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) وغيرها، وأتى بالمجمل ثم بينه للناس تبياناً تاماً، كما فى أية النحل (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) فهو لا يحتاج بعد هذا البيان إلى شيء آخر، وإلا لو احتاج إلى شيء آخر لكان القرآن غير صادق فيما قال، وهذا أمر مستحيل على الله عز وجل، ومستحيل على كلامه .
هذه هى ناصية الشبهة الأولى وجماعها، وهم يذكرون لها حشداً عظيماً من الآيات التى تؤيدها سواء كان الدليل فى موضوعه كما فى الآيات التى استشهدوا بها سابقاً، أو فى غير موضوعه كما فى باقى الآيات ، كقوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ، ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ) ، ( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ ) ، ( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ )
فهؤلاء المدلسون ما عليهم إلا أن يفتحوا المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وينقلوا منه الآيات التي يشوشون بها على المسلمين، ويضعون أمام كل آية جملة تلائمها، ولا يهمهم بعد ذلك أبقيت وحدة الموضوع بين أيديهم أم لم تبق .
على أية حال فإن هذه هى الشبهة الأولى فى أصلها الأصيل وكلياتها التي لا تخرج عنها مهما علا الضجيج أو ارتفع الصياح(1) .
يقول الدكتور السباعى - رحمه الله تعالى ــ ، تتلخص حجة من يرد الأخبار كلها كما حكاه الشافعى فى قولهم :" إن القرآن جاء تبياناً لكل شيء، فإن جاءت الأخبار بأحكام جديدة لم ترد فى القرآن؛ كان ذلك معارضة من ظني الثبوت وهي الأخبار، لقطعية - وهو القرآن - والظني لا يقوى على معارضة القطعي، وإن جاءت مؤكدة لحكم القرآن؛ كان الاتباع للقرآن لا للسنة، وإن جاءت لبيان ما أجمله القرآن، كان ذلك تبيناً للقطعي الذي يكفر منكر حرف منه، بظني لا يكفر من أنكر ثبوته، وهذا غير جائز .
وربما يتبادر إلى الذهن أنهم على هذا يقبلون المتواتر من الأخبار؛ لأنها قطعية الثبوت، فكيف عمم الشافعي بقوله : "رد الأخبار كلها"؟ والذى يظهر أنهم لا يعتبرون المتواتر قطعياً أيضاً بل هو عندهم ظني؛ لأنه جاء من طرق آحادها ظنية، فاحتمال الكذب فى رواته لا يزال قائماً ولو كانوا جمعاً عظيماً"(2) أ.هـ.
(1) ــ السنة في مواجهة أعدائها ص 63 ، 64 ، والسنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام 1 / 192 ، 193 .
(2) ــ السنة ومكانتها في التشريع ص 151 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 66 )
شبهات حول السنة والرد عليها(1)
عرضنا فيما سبق للتعريف ببعض الاتجاهات المنحرفة ، وأبنا إجمالا عن موقفها من السنة النبوية المطهرة ، وبداية من هنا وما يأتي سنعرض بمشيئة الله تعالى لشبهاتهم حول السنة النبوية ــ وهي شبهات متعددة ، منها ما يتعلق بحجية السنة ، ومنها ما يتعلق برواتها ، ومنها ما يتعلق بأهم مصادرها ، ومنها ما يتعلق بمناهج الأئمة في وضع القواعد لحفظها ، ومنها ما يتعلق ببعض نصوصها ، إلى غير ذلك مما سنعرض له ، وسوف نقوم بتوفيق الله تعالى بدحض هذه الشبه والرد عليها ، وبيان خطأ وزلل مقترفيها .
أولا : شبة عدم حجية السنة اكتفاء بالقرآن الكريم:
زعم بعض خُصماء السنة عدم حجية السنة اكتفاء بالقرآن الكريم فيقولون : علينا بالاكتفاء بالقرآن الكريم فقط؛ فهو كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المصدر الأول للإسلام، وهو الذي سلم من التغيير والتبديل … إلى آخر ما يقولونه ، تظاهراً بحبهم للإسلام، ودفاعاً عنه، وغيرة على ما في كتاب الله عز وجل من شريعة وأحكام، غير أنهم لا يريدون - مع ذلك - أن يضبطوا أنفسهم وعقولهم بهذا الذي أمر القرآن الكريم بضبط أنفسنا وعقولنا به، من اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم مصطنعين لأنفسهم ما يشاءون من آيات القرآن الكريم، يستدلون بها على الاكتفاء بالقرآن وحده، وعدم حجية السنة والحاجة إليها .وتتلخص شبههم حول عدم حجية السنة اكتفاء بالقرآن الكريم ، في شبهتين
الأولى : شبهة الاكتفاء بالقرآن وعدم الحاجة إلى السنة النبوية.
والثانية : شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها.
أولا : شبهة الاكتفاء بالقرآن الكريم وعدم الحاجة إلى السنة النبوية
وقد استدلوا على ذلك من القرآن الكريم بآيات عديدة منها :
1- قوله تعالى: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ )[ سورة الأنعام / 38 ] .
2- وقوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ )[ سورة النحل / 89 ] .
3- وقوله تعالى : ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا )[ سورة الأنعام /114 ]
4 ــ وقوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [سورة الأعراف / 52 ]
5 ــ وقوله تعالى : (كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[ سورة فصلت / 3 ]
6- وقوله تعالى : ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا )[ سورة الأنعام /115 ] .
7- وقوله تعالى :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[ سورة المائدة / 3 ]
8- وقوله تعالى : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ )[ سورة الأنعام /19 ]
9- وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ )[ سورة الأعراف /170 ]
10- وقوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )[ سورة العنكبوت / 51 ]
هذه الآيات الكريمات وما في معناها؛ استدل بها دعاة الفتنة ــ قديما وحديثا ــ على عدم حجية السنة النبوية المطهرة، وشبهتهم فى هذه الآيات؛ أنها تبين أن القرآن تام قد حوى كل شيء، كما فى آية الأنعام (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صدقا وعدلا )، والله عز وجل ما فرط فى الكتاب من شيء، كما فى آية الأنعام (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) فأتى بالعام ثم فصله تفصيلاً، كما فى آية الأنعام ( وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) وغيرها، وأتى بالمجمل ثم بينه للناس تبياناً تاماً، كما فى أية النحل (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) فهو لا يحتاج بعد هذا البيان إلى شيء آخر، وإلا لو احتاج إلى شيء آخر لكان القرآن غير صادق فيما قال، وهذا أمر مستحيل على الله عز وجل، ومستحيل على كلامه .
هذه هى ناصية الشبهة الأولى وجماعها، وهم يذكرون لها حشداً عظيماً من الآيات التى تؤيدها سواء كان الدليل فى موضوعه كما فى الآيات التى استشهدوا بها سابقاً، أو فى غير موضوعه كما فى باقى الآيات ، كقوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ، ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ) ، ( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ ) ، ( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ )
فهؤلاء المدلسون ما عليهم إلا أن يفتحوا المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وينقلوا منه الآيات التي يشوشون بها على المسلمين، ويضعون أمام كل آية جملة تلائمها، ولا يهمهم بعد ذلك أبقيت وحدة الموضوع بين أيديهم أم لم تبق .
على أية حال فإن هذه هى الشبهة الأولى فى أصلها الأصيل وكلياتها التي لا تخرج عنها مهما علا الضجيج أو ارتفع الصياح(1) .
يقول الدكتور السباعى - رحمه الله تعالى ــ ، تتلخص حجة من يرد الأخبار كلها كما حكاه الشافعى فى قولهم :" إن القرآن جاء تبياناً لكل شيء، فإن جاءت الأخبار بأحكام جديدة لم ترد فى القرآن؛ كان ذلك معارضة من ظني الثبوت وهي الأخبار، لقطعية - وهو القرآن - والظني لا يقوى على معارضة القطعي، وإن جاءت مؤكدة لحكم القرآن؛ كان الاتباع للقرآن لا للسنة، وإن جاءت لبيان ما أجمله القرآن، كان ذلك تبيناً للقطعي الذي يكفر منكر حرف منه، بظني لا يكفر من أنكر ثبوته، وهذا غير جائز .
وربما يتبادر إلى الذهن أنهم على هذا يقبلون المتواتر من الأخبار؛ لأنها قطعية الثبوت، فكيف عمم الشافعي بقوله : "رد الأخبار كلها"؟ والذى يظهر أنهم لا يعتبرون المتواتر قطعياً أيضاً بل هو عندهم ظني؛ لأنه جاء من طرق آحادها ظنية، فاحتمال الكذب فى رواته لا يزال قائماً ولو كانوا جمعاً عظيماً"(2) أ.هـ.
(1) ــ السنة في مواجهة أعدائها ص 63 ، 64 ، والسنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام 1 / 192 ، 193 .
(2) ــ السنة ومكانتها في التشريع ص 151 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 67 )
شبهات حول السنة والرد عليها(2)
والجواب عن هذه الشبهة :
إن أعداء السنة المطهرة فهموا أن المراد من الكتاب فى قوله تعالى ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) القرآن، ولكن مجموع الآيات ابتداء ونهاية، يفيد أن المراد بالكتاب هنا هو اللوح المحفوظ الذى حوى كل شيء، واشتمل على جميع أحوال المخلوقات كبيرها وصغيرها، جليلها ودقيقها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، على التفصيل التام كما جاء فى الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" . قال : "وعرشه على الماء"(1).
وهذا هو المناسب لذكر هذه الجملة عقب قوله تعالى : ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ) . والمثلية فى الآية ترشح هذا المعنى؛ لأن القرآن الكريم لم ينظم للطير حياة كما نظمها للبشر، وإنما الذى حوى كل شيء للطير والبشر، وتضمن ابتداءً ونهاية للجميع هو اللوح المحفوظ .
يقول الحافظ ابن كثير : "أي الجميع علمهم عند الله عز وجل، لا ينسى واحداً من جميعها، من رزقه وتدبيره سواء كان برياً أو بحرياً؛ كقوله تعالى: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَه َا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [ سورة هود / 6 ] . أي مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها وحاصر لحركاتها وسكناتها"(2) . والآية نظير قوله تعالى : ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [ سورة الأنعام / 59 ].
وقوله تعالى : ( عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [ سورة سبأ/ 3 ].
وعلى هذا الأساس، ففهم أن المراد بالكتاب فى قوله تعالى :( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ). هو القرآن غير دقيق، ويأباه السياق العام للآية وربطها بما قبلها، وبغيرها من الآيات التي فى معناها وسبق ذكرها .
ومن المعلوم بداهة أن الكلمة فى اللغة العربية يكون لها أكثر من معنى، ويتحدد المعنى المراد منها من خلال سياق الكلام الذى وردت فيه.
وكلمة "الكتاب" تجيء فى القرآن بمعنى الفرض، والحكم، والقدر. فبمعنى القدر قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ) [ سورة آل عمران / 145 ] .
يقول الحافظ ابن كثير : أى لا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدة التى ضربها الله له، ولهذا قال تعالى : ( كتاباً مؤجلاً ) . وكقوله تعالى ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ) [ سورة فاطر / 11 ] . وكقوله تعالى : ( الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) [ سورة الأنعام / 2 ](3) .
وبمعنى الفرض قوله تعالى :( إن الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ) [ سورة النساء /103 ] قال ابن عباس أي مفروضاً(4). والكتاب يأتي فى القرآن الكريم تارة مراداً به اللوح المحفوظ كما سبق وأن بينا، وتارة أخرى يأتي مراداً به القرآن الكريم كما في قوله تعالى : ( الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) [ سورة إبراهيم / 1 ]. إلى غير ذلك من الآيات الكريمة .
(1) ــ أخرجه مسلم ، كتاب القدر ، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام ( 2653 ) .
(2) ــ تفسير ابن كثير 2 / 2 / 131 ، 132 .
(3) ــ انظر : تفسير ابن كثير 1 / 410 .
(4) ــ تفسير ابن كثير 1 / 550 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 68 )
شبهات حول السنة والرد عليها(3)
تكملة الرد على الشبهة :
ومع هذا فنحن نسلم لكم أن المراد من الكتاب "القرآن"، ولكننا نقول لكم : إن هذا العموم غير تام، بل هو مخصص بقول الله تعالى : ( وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [ سورة النحل / 64 ] .
والذى يجعلنا نذهب إلى تخصيص هذا العام أمران :
1- لتتفق آيات القرآن ولا تتعارض فى ظاهرها؛ فإن القرآن ملئ بالآيات التي فوض الله نبيه صلى الله عليه وسلم فى شرح أحكامها .
2- إن كثيراً من الأمور الجزئية فى حياة المجتمع تحتاج إلى حكم، وليس فى القرآن إلا قواعده الكلية العامة(1) .
وعلى هذا فلا بأس أن يكون الكتاب فى الآية الكريمة هو القرآن الكريم.
ونقول لكم : نعم لم يفرط ربنا عز وجل فى كتابه في شيء من أمور الدين على سبيل الإجمال، ومن بين ما لم يفرط فى بيانه وتفصيله إجمالاً بيان حجية السنة ووجوب اتباعها والرجوع والتحاكم إليها؛ فالقرآن جامع - دون تفريط - كل القواعد الكبرى للشريعة التي تنظم للناس شئون دينهم ودنياهم، والسنة النبوية هى المبينة لجزئياتها وتفاصيلها وهي المنيرة للناس طريق الحياة، وتنسجم هذه الآية مع الآيات الأخرى التي تؤكد بالنص أهمية السنة تجاه ما في الكتاب من القواعد التى تحتاج إلى تخصيص أو تقييد أو توضيح أو تبيين..إلخ(2)
وهنا نأتي للرد على الآيات الأخرى التي استدلوا بها على أن القرآن أنزل مفصلاً وتبياناً لكل شيء، فلا يحتاج بعد هذا البيان إلى السنة المطهرة .
أما قوله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ) . وقوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) .
فالمراد بالتفصيل والبيان هنا : تفصيل وبيان كل شيء من أحكام هذا الدين كقواعد كلية مجملة، أما تفاصيل تلك القواعد وما أشكل منها؛ فالبيان فيها راجع إلى السنة النبوية قال تعالى :( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) [ سورة النحل / 44 ] فقاعدة وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتحاكم إلى سنته المطهرة من القواعد الكلية المجملة لهذا الدين، وفصلها ربنا عز وجل فى كتابه العزيز كما فى الآية السابقة، وكما في قوله تعالى : ( وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ )[ سورة النحل /64 ]
يقول ابن كثير فى تفسير قوله تعالى ( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قد بين لنا فى هذا القرآن كل علم وكل شيء ، وقال مجاهد: كل حلال وحرام، وقول ابن مسعود أعم وأشمل؛ فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وكل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون فى أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم - وقال الأوزاعي : "تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ" أي بالسنة (3).
ولا تعارض بين القولين - ابن مسعود والأوزاعي - فابن مسعود يقصد العلم الإجمالي الشامل، والأوزاعي يقصد تفصيل وبيان السنة لهذا العلم الإجمالي .
ومن هنا؛ فالقول بأن القرآن الكريم تبيانٌ لكل شيء قول صحيح فى ذاته بالمعنى الإجمالي السابق ولكن الفساد فيما بنوه عليه من الاستغناء عن السنة والاكتفاء بالقرآن ليؤولوه حسب أهوائهم ، وإلا فرب العزة هو القائل فى نفس سورة النحل وقبل هذه الآية قال تعالى : ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ )[ سورة النحل /38 ، 39 ] .
وقال تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) [ سورة النحل/44 ]
وقال تعالى : (وما أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[ سورة النحل / 64 ]
فتلك ثلاث آيات كريمات فى نفس سورة النحل وسابقة لآية ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) والثلاث آيات تسند صراحة مهمة البيان والتفصيل إلى النبى صلى الله عليه وسلم صاحب السنة المطهرة، فهل يعقل بعد ذلك أن يسلب الله عز وجل هذه المهمة – البيان ــ التي هي من مهام الرسل جميعاً كما قال عز وجل ( وما أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ )[ سورة إبراهيم / 4 ] . وقال عز وجل : ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ )[ سورة آل عمران / 187 ] . ويوقع التناقض بآية ( ونزلنا عليك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ )
إن كل الرافضين لحجية السنة، لابد أن يلتزموا بهذه النتيجة التي تعود بالنقض على الإيمان بالكتاب، وبمن أنزل الكتاب جل جلاله، سواء أقروا بلسانهم بهذا النقض أم لا، وتنبهوا إلى ذلك أم لا؟!!(4)
(1) ــ انظر البحر المحيط للزركشي ( 1 / 441 ) .
(2) ــ انظر : حجية السنة ص 384 ، 385 ، والسنة بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين ص 18 ــ 24 .
(3) ــ تفسير ابن كثير ( 2 / 582).
(4) ــ انظر السنة في كتابات أعداء الإسلام ( 1 / 197 ).
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 69 )
شبهات حول السنة والرد عليها(4)
أقوال للعلماء مؤيدة لما قررناه
وحري بنا بعد هذا أن نشير إلى نصوص لبعض العلماء تؤكد الذى قلناه فى معنى البيان الوارد فى الآية التي استشهدوا بها
يقول الإمام الشاطبي: " تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلى لا جزئي، وحيث جاء جزئياً فمأخذه على الكلية، إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل، إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل على هذا المعنى - بعد الاستقراء المعتبر - أنه محتاج إلى كثير من البيان، فإن السنة على كثرتها وكثرة مسائلها إنما هى بيان للكتاب كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى .
وقد قال الله تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) وإذا كان الأمر كذلك فالقرآن على اختصاره جامع، ولا يكون جامعاً إلا والمجموع فيه أمور كليات لأن الشريعة تمت بتمام نزوله؛ لقوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) [ سورة المائدة / 3 ] وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها فى القرآن، إنما بينتها السنة، وكذا تفاصيل الشريعة من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود،وغير ذلك .
فعلى هذا لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه وهو السنة؛ لأنه إذا كان كلياً وفيه أمور كلية كما في شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها فلا محيص عن النظر فى بيانه، وبعد ذلك ينظر في تفسير السلف الصالح له إن أعوزته السنة، فإنهم أعرف به من غيرهم، وإلا فمطلق الفهم العربي لمن حصله يكفي فيما أعوز من ذلك،فبيان الرسول صلى الله عليه وسلم بيان صحيح لا إشكال في صحته؛لأنه لذلك بعث،قال تعالى: ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ولا خلاف في هذا البيان النبوي (1) .
ويقول الدكتور إبراهيم محمد الخولي : "التبيين" هنا غير "التبليغ" الذي هو الوظيفة الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) [ سورة المائدة /67 ] ، و"التبيين" و "التبليغ" وظيفتان موضوعهما واحد هو "القرآن العظيم" عبر عنه في آية "التبليغ" بهذا اللفظ : "ما أنزل إليك" وعبر عنه فى آية التبيين بلفظ مختلف : "ما نزل إليهم" وبينهما فروق لها دلالتها، مردها إلى الفروق بين الوظيفتين "فالتبليغ" تأدية النص؛ تأدية "ما أنزل" كما "أنزل"دون تغيير ما على الإطلاق، لا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير …
و "التبيين" إيضاح، وتفسير، وكشف لمراد الله من خطابه لعباده، كي يتسنى لهم إدراكه، وتطبيقه، والعمل به على وجه صحيح .
و "التبليغ" مسئولية "المبلغ" وهو المؤتمن عليها، وهذا سر التعبير : "وأنزلنا إليك" حيث عدى الفعل "أنزل" بـ "إلى" إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، المخاطب .
و "التبيين" : مهمة، فرضتها حاجة الناس لفهم ما خوطبوا به، وبُلَّغوه، وإدراك دلالته الصحيحة، ليطبقوه تطبيقاً صحيحاً .
ومن هنا كانت المخالفة فى العبارة … "ونزل إليهم" … حيث عدى الفعل "نزل" بـ (إلى) مضافاً إلى الضمير "هم" … أي الناس، وعُدِّى الفعل "لتبين" إلى الناس بـ "اللام" أن كانت حاجتهم إلى "التبيين" هي السبب والحكمة من ورائه، وهي توحي بقوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بحاجة إلى ما احتاج إليه الناس من هذا التبيين، ولعمري إنه لكذلك…، فقد أوحى إليه بيانه وألهمه، فالتقى في نفسه "البيان" و "المبين" معاً، وأصبح مؤهلاً لأن يقوم بالوظيفتين : وظيفة البلاغ، ووظيفة التبيين على سواء …، واختلاف الناس في فهم القرآن ما بين مصيب ومخطئ واختلافهم في فهم درجات الإصابة، ودركات الخطأ … برهان بين على حاجتهم إلى "تبيين" لكتاب ربهم، ينهض به إمام الموقعين عن رب العالمين (2) .
(1) ــ الموافقات 3 / 274 ــ 276 ، 300 ، 301 ، 330 ــ 338 بتصرف .
(2) ــ السنة بيانا للقرآن ص 4، 5 ، 13 ، 47 ــ 69 .
-
رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)
الدفاع عن السنة
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
الحلقة ( 70)
شبهات حول السنة والرد عليها(5)
بقية أقوال العلماء:
ويقول الإمام الشافعى : "والبيان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع : فجماع ما أبان الله عز وجل لخلقه فى كتابه، مما تعبدهم به، لما مضى من حكمه جل ثناؤه من وجوه :
1- منها ما أبانه لخلقه نصاً مثل إجمال فرائضه فى أن عليهم صلاة، وزكاة، وحجاً، وصوماً، وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونص على الزنا، والخمر، وأكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وبين لهم كيف فرض الوضوء،مع غير ذلك مما بين نصاً "إجمالياً".
2- ومنها ما أحكم فرضه بكتابه، وبين كيف هو على لسان نبيه مثل عدد الصلاة، والزكاة ووقتها، إلى غير ذلك من فرائضه التي أنزلها فى كتابه عز وجل .
3- ومنها ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نص محكم، وقد فرض الله فى كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى حكمه فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبل (1).
مما سبق من قول الإمامين الشاطبى والشافعى يتأكد ما ذكرناه فى أن المراد من معنى البيان والتفصيل الوارد فى الآيات التى استشهد بها أعداء السنة المطهرة؛ بيان وتفصيل القرآن لكل شيء من أحكام هذا الدين كقواعد كلية مجملة، ومن بين تلك القواعد التى فصلها وبينها ربنا عز وجل؛ وجوب اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، والتحاكم إلى سنته المطهرة (2)، ففى تلك السنة المطهرة إيضاح هذه القواعد وتفصيلها، فجاءت السنة موافقة ومؤكدة للقرآن، ومخصصة لعامه، ومقيدة لمطلقه، ومفصله لمجمله، وموضحة لمشكله، ومستقلة بتشريع أحكام دون سابق ذكر لها فى كتاب الله عز وجل.
يقول الإمام الشاطبى : "القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم؛ فالعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة ولا يعوزه منها شيء؛ فهو أساس التشريع، وإليه ترجع جميع أحكام الشريعة الإسلامية، والتي منها السنة النبوية، فهي حاصلة فيه فى الجملة، والدليل على ذلك أمور :
1- منها : النصوص القرآنية، كقوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) [ سورة المائدة / 3 ] وقوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) [ سورة النحل / 89 ] وقوله تعالى :( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) [ سورة الأنعام /38 ] وقوله تعالى: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) [ سورة الإسراء /9 ] وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما فى الصدور،ولا يكون شفاء لجميع ما في الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء (3) .
2- ومنها : ما جاء فى الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله" (4) .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب؛ فقال النبى صلى الله عليه وسلم : "هَلمَّ أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده". فقال عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن . حسبنا كتاب الله(5)، وأشباه هذا مما روي مرفوعاً وموقوفاً بالاقتصار على القرآن فقط .
يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - الاقتصار على الوصية بكتاب الله؛ لكونه أعظم وأهم؛ ولأن فيه تبيان كل شيء إما بطريق النص، وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتبع الناس ما في الكتاب عملوا بكل ما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم به لقوله تعالى :( وما ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) [ سورة الحشر / 7 ] (6)
وكلام الحافظ ابن حجر السابق نقله مبتوراً الأستاذ جمال البنا فقال : "التمسك بالقرآن والعمل بمقتضاه إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم : "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله". وترك جمال البنا، بيان أن العمل بالقرآن الكريم يقتضى العمل بالسنة المطهرة كما صرح ابن حجر(7) .
وهذا ما فعله أيضاً الدكتور أحمد صبحى منصور فى كتابه "حد الردة" نقل كلام الحافظ بن حجر الذى نقلناه، وبتر منه لفظة النبى صلى الله عليه وسلم فصارت العبارة : "فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به"(5) أ.هـ.
وفى هذا الجواب الأخير تعلم الجواب عن باقى الآيات التى استشهد بها أعداء السنة على الاكتفاء بالقرآن، وعدم حجية السنة، للاقتصار على ذكر القرآن فقط، والوصية به كقوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ، وقوله تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ) ، وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ ) ، وقوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) وقوله تعالى ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) ، وأشباه هذه الآيات الكريمة التى ورد الاقتصار فيها على الوصية بكتاب الله عز وجل، وما ذلك إلا كما علمنا، أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه فى الشرائع والأحكام واتباعه، والعمل بما فيه عمل بالسنة النبوية المستمدة حجيتها ومصدرتيها التشريعية منه . فهى من الوحى الغير متلو، والوحى ذكر، والذكر محفوظ بنص القرآن فى قوله تعالى : ( نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )
(1) ــ الرسالة ص 20 ، 22 .
(2) ــ انظر : البحر المحيط ( 1 / 441 ) .
(3) ــ الموافقات ( 3 /333، 334 ) بتصرف .
(4) ــ.أخرجه مسلم ، كتاب الحج ، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم ( 1218 )
(5) ــ أخرجه مسلم ، كتاب الوصية ، باب ترك الوصية لمن ليس له شئ( 1638 )
(6) ــ فتح الباري ( 5 / 425 ، 426 رقم 2740 )حديث عبد الله بن أبي أوفى .
(7) ــ السنة ودورها في الفقه الجديد ص 246 .
(8) ــ حد الردة ص 89 .