تأمل هذه الحكمة البالغة - في الحر والبرد وقيام الحيوان والنبات عليهما وفكر في دخول احدهما على الاخر بالتدريح والمهلة حتى يبلغ نهايته ولو دخل عليه مفاجاة لأضر ذلك بالابدان وأهلكها وبالنبات كما لو خرج الرجل من حمام مفرط الحرارة الى مكان مفرط في البرودة ولولا العناية والحكمةوالرحمة والاحسان لما كان ذلك فإن قلت هذا التدريج والمهلة إنما كان لابطاء سير الشمس في ارتفاعها وانخفاضها قيل لك فما السبب في ذلك الانخفاض والارتفاع فإن قلت السبب في ذلك بعدالمسافة من مشارقها ومغاربها قيل لك فما السبب في بعد المسافة ؟ إما مكابرة ظاهرة ودعوى ان ذلك اتفاق من غير مدبر ولا صانع وإما الاعتراف برب العالمين .-------------------------------تأمل الممسك للسموات والارض الحافظ لهما ان تزولا او تقعا او يتعطل بعض ما فيهما افترى من الممسك لذلك ومن القيم بأمره ومن المقيم له فلو تعطل بعض آلات هذا الدولاب العظيم والحديقة العظيمة من كان يصلحه وماذا كان عند الخلق كلهم من الحيلة في رده كما كان فلو امسك عنهم قيم السموات والارض الشمس فجعل عليهم الليل سرمدا من الذي كان يطلعها عليهم ويأتيهم بالنهار ولو حبسها في الافق ولم يسيرها فمن ذا الذي كان يسيرها وياتيهم بالليل ولو ان السماء والارض زالتا فمن ذا الذي كان يمسكها من بعده .--------------------------------------تأمل الحكمة في خلق النار على ما هي عليه من الكمون والظهور فانها لو كانت ظاهرة ابدا كالماء والهواء كانت تحرق العالم وتنتشر ويعظم الضرر بها والمفسدة ولو كانت كامنة لا تظهر ابدا لفاتت المصالح المترتبة على وجودها فاقتضت حكمة العزيز العليم ان جعلها مخزونة في الاجسام يخرجها ويبقيها الرجل عند حاجته اليها فيمسكها ويحبسها بمادة يجعلها فيها من الحطب ونحوه فلا يزال حابسها ما احتاج الى بقائها فإذا استغنى عنها وترك حبسها بالمادة خبت باذن ربها وفاطرها فسقطت المؤنة والمضرة ببقائها فسبحان من سخرها وانشأها على تقدير محكم عجيب اجتمع فيه الاستمتاع والانتفاع والسلامة من الضرر .-------------------------------تأمل حكمته تعالى في كونه خص النار للانسان دون غيره من الحيوانات فلا حاجة بالحيوان اليها بخلاف الانسان فإنه لو فقدها لعظم الداخل عليه في معاشه ومصالحه وغيره من الحيوانات لا يستعملها ولايتمتع بها وننبه من مصالح النار على خلة صغيرة القدر عظيمة النفع وهي هذا المصباح الذي يتخذه الناس فيقضون به من حوائجهم ما شاؤا من ليلهم ولو هذه الخلة لكان الناس نصف اعمارهم بمنزلة اصحاب القبور فمن كان يستطيع كتابة او خياطة او صناعة او تصرفا في ظلمة الليل الداجي وكيف كانت تكون حال من عرض له وجع في وقت من الليل فاحتاج الى ضياء او دواء او استخراج دم او غير ذلك .--------------------------------------تأمل ما اعطيته النار من الحركة الصاعدة بطبعها الى العلو فلولا المادة تمسكها لذهبت صاعدة كما ان الجسم الثقيل لولا الممسك يمسكه لذهب نازلا فمن اعطى هذا القوة التي يطلب بها الهبوط الى مستقره واعطى هذه القوة التي تطلب بها الصعود الى مستقرها وهل ذلك الا بتقدير العزيز العليم .--------------------------------تأمل هذا الهواء وما فيه من المصالح فإنه حياة هذه الابدان والممسك لها من داخل بما تستنشق منه ومن خارج بما تباشر به من روحه فتتغذى به ظاهرا وباطنا وفيه تطرد هذه الاصوات فتحملها وتؤديها للقريب والبعيد كالبريد والرسول الذي شأنه حمل الاخبار والرسائل وهو الحامل لهذه الروائح على اختلافها ينقلها من موضع الى موضع فتأتي العبد الرائحة من حيث تهب الريح وكذلك تأتيه الاصوات وهو ايضا الحامل للحر والبرد اللذين بهما صلاح الحيوان والنبات .---------------------------------------تأمل خلق الارض على ما هي عليه حين خلقها واقفة ساكنة لتكون مهادا ومستقرا للحيوان والنبات والامتعة ويتمكن الحيوان والناس من السعي عليها في مآربهم والجلوس لراحاتهم والنوم لهدوهم والتمكن من اعمالهم ولو كان رجراجة متكفئة لم يستطيعوا على ظهرها قرارا ولا هدوا ولا ثبت لهم عليها بناء ولا امكنهم عليها صناعة ولا تجارة ولا حراثة ولا مصلحة وكيف كانوا يتهنون بالعيش والارض ترتج من تحته واعتبر ذلك بما يصيبهم من الزلازل على قلة مكثها كيف تصيرهم الى ترك منازلهم والهرب عنها وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله " والقى في الارض رواسي ان تميد بكم "-------------------------------------تأمل الحكمة البالغة في ليونة الارض مع يبسها فانها لو افرطت في اللين كالطين لم يستقر عليها بناء ولا حيوان ولا تمكنا من الانتفاع بها ولو افرطت في اليبس كالحجر لم يمكن حرثها ولا زرعها ولا شقها وفلحها ولا حفر عيونها ولا البناء عليها فنقصت عن يبس الحجارة وزادت على ليونة الطين فجاءت بتقدير فاطرها على احسن ما جاء عليه مهاد للحيوان من الاعتدال بين اللين واليبوسة فتهيأ عليها جميع المصالح .---------------------------------تأمل الحكمة البالغة في ان جعل مهب الشمال عليها ارفع من مهب الجنوب وحكمة ذلك ان تتحدر المياه على وجه الارض فتسقيها وترويها ثم تفيض فتصب في البحر فكما ان الباني إذا رفع سطحا رفع احد جانبيه وخفض الاخر ليكون مصبا للماء ولو جعله مستويا لقام عليه الماء فافسده كذلك جعل مهب الشمال في كل بلد ارفع من مهب الجنوب ولولا ذلك لبقي الماء واقفا على وجه الارض فمنع الناس من العمل والانتفاع وقطع الطرق والمسالك واضر بالخلق افيحسن عند من له مسكة من عقل ان يقول هذا كله اتفاق من غير تدبير العزيز الحكيم الذي اتقن كل شيء .---------------------------------إذا تأملت الجبال وخلقتها العجيبة البديعة على هذا الوضع وجدتها في غاية المطابقة للحكمة فانها لو طالت واستدفت كالحائط لتعذر الصعود عليها والانتفاع بها وسترت عن الناس الشمس والهواء فلم يتمكنوا من الانتفاع بها ولو بسطت على وجه الارض لضيقت عليهم المزارع والمساكن ولملأت السهل ولما حصل لهم بها الانتفاع من التحصن والمغارات والاكنان ولما سترت عنهم الرياح ولما حجبت السيول ولو جعلت مستديرة شكل الكرة لم يتمكنوا من صعودها ولما حصل لهم بها الانتفاع التام فكان اولى الاشكال والاوضاع بها واليقها واوقعها على وفق المصلحة هذا الشكل الذي نصبت عليه -.لقد دعانا الله سبحانه في كتابه الى النظر فيها وفي كيفية خلقها فقال " أفلا ينظرون الى الابل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت " فخلقها ومنافعها من اكبر الشواهد على قدره باريها وفاطرها وعلمه وحكمته ووحدانيته هذا مع انها تسبح بحمده وتخشع له وتسجد وتشقق وتهبط من خشيته وهي التي خافت من ربها وفاطرها وخالقها على شدتها وعظم خلقها من الامانة إذ عرضها عليها واشفقت من حملها ومنها الجبل الذي كلم الله عليه موسى كليمه ونجيه ومنها الجبل الذي تجلى له ربه فساخ وتدكدك .
------------------------------------- تأمل ما اقتضت حكمته تبارك وتعالى ان جعل من الارض السهل والوعر والجبال والرمل لينتفع بكل ذلك في وجهه ويحصل منه ما خلق له وكانت الارض بهذه المثابة لزم من ذلك ان صارت كالأم التي تحمل في بطنها انواع الاولاد من كل صنف ثم تخرج الى الناس والحيوان من ذلك ما اذن لها فيه ربها ان تخرجه اما بعلمهم وإما بدونه ثم يرد اليها ما خرج منها وجعلها سبحانه كفاتا فلأحياء ما داموا على ظهرها فإذا ماتوا استودعتهم في بطنها فكانت كفاتا لهم تضمهم على ظهرها احياء وفي بطنها امواتا .-----إذا كان يوم الوقت المعلوم وقد اثقل الجبال الحمل وحان وقت الولادة ودنو المخاض اوحى اليها ربها وفاطرها ان تضع حملها وتخرج اثقالها فتخرج الناس من بطنها الى ظهرها وتقول رب هذا ما استودعتني وتخرج كنوزها باذنه تعالى ثم تحدث اخبارها وتشهد على بنيها بما عملوا على ظهرها من خير وشر .--------------------------------------تأمل حكمة الله عز وجل في عزة هذين النقدين الذهب والفضة وقصور خيرة العالم عما حاولوا من صنعتهما والتشبه بخلق الله اياهما مع شدة حرصهم وبلوغ اقصى جهدهم واجتهادهم في ذلك فلم يظفروا بسوى الصنعة ولو مكنوا ان يصنعوا مثل ما خلق الله من ذلك لفسد امر العالم واستفاض الذهب والفضة في الناس حتى صار كالسعف والفخار وكانت تتعطل المصلحة التي وضعا لاجلها وكانت كثرتهما جدا سبب تعطل الانتفاع بهما فانه لا يبقى لهما قيمة ويبطل كونهما قيما لنفائس الاموال والمعاملات وارزاق المقاتلة ولم يتسخر بعض الناس لبعض إذ يصير الكل ارباب ذهب وفضة فلو اغنى خلقه كلهم لأفقرهم كلهم .-------------------------------تأمل الحكمة البديعة في تيسيره سبحانه على عباده ما هم احوج اليه وتوسيعه وبذلك بذله فكلما كانوا احوج اليه كان اكثر واوسع وكلما استغنوا عنه كان اقل وإذا توسطت الحاجة توسط وجوده فلم يكن بالعام ولا بالنادر على مراتب الحاجات وتفاوتها فاعتبر هذا بالاصول الاربعة التراب والماء والهواء والنار وتأمل سعة ما خلق الله منها وكثرته فتأمل سعة الهواء وعمومه ووجوده بكل مكان لأن الحيوان مخلوق في البر لايمكنه الحياة إلا به فهو معه أينما كان وحيث كان لانه لا يستغنى عنه لحظه واحدة ولولا كثرته وسعته وامتداده في اقطار العالم لاختنق العالم من الدخان والبخار المتصاعد المنعقد .[ مفتاح دار السعادة - بن القيم رحمه الله] فسل الجاحد من الذي دبر هذا التدبير وقدر هذا التقدير