اقتباس:
وجاء في كبائر أخرى أنواع من الوعيد، فكل هذا وعيد لا يخرجها عن كونها تحت المشيئة؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- قد يعفو ولا ينفذ وعيده، وإخلاف الوعيد من صفات الكمال، بخلاف إخلاف الوعد،
قد سبق أن الصحابة قالوا ليست له توبة , وابن عباس أعلم بمعاني القرآن من كل الذين جاؤوا بعده
و هو فهم الآية عكس ما فهمه كل من جاء بعده ممن تأولها على غير ظاهرها
وحين جزم بأن توبته غير مقبولة لحقه الوعيد جزما وهذا مشهور عن ابن عباس من عدة طرق لا يصح عنه غيره
قال الطبري في التفسير بعد أن حكى قول من صحح توبة القاتل
(وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ إِيجَابٌ مِنَ اللَّهِ الْوَعِيدِ لِقَاتِلِ الْمُؤْمِنِ مُتَعَمِّدًا كَائِنًا مَنْ كَانَ الْقَاتِلُ , عَلَى مَا وَصَفَهُ فِي كِتَابِهِ , وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ تَوْبَةً مِنْ فِعْلِهِ. قَالُوا: فَكُلُّ قَاتِلِ مُؤْمِنٍ عَمْدًا فَلَهُ مَا أَوْعَدَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ , وَلَا تَوْبَةَ لَهُ. وَقَالُوا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ )) انتهى
فتأمل كيف جزم أن من قال بعدم قبول التوبة أنه مستحق للوعيد , والوعيد جاء يصيغة الماضي المفيدة لتحقق الوقوع
ثم روى الطبري باسناده الى ابن عباس والروايات عنه أخرجها البخاري ومسلم أيضا
قال الطبري ((ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ , وَابْنُ وَكِيعٍ , قَالَا: ثنا جَرِيرٌ , عَنْ يَحْيَى الْجَابِرِ , عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ , قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ مَا كُفَّ بَصَرُهُ , فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَنَادَاهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ , مَا تَرَى فِي رَجُلٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا؟ فَقَالَ: جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا , وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ , وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا. قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ , وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ وَالْهُدَى , فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ , رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا , جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا بِيَمِينِهِ أَوْ بِشِمَالِهِ , تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا , فِي قُبُلِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ , يَلْزَمُ قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَقُولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي «. وَالَّذِي نَفْسُ عَبْدِ اللَّهِ بِيَدِهِ لَقَدْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَمَا نَسَخَتْهَا مِنْ آيَةٍ حَتَّى قُبِضَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَا نَزَلَ بَعْدَهَا مِنْ بُرْهَانٍ»))
وقوله (بعدما كف بصره) دليل على أنه آخر أقواله وأنه لم يتراجع عنه كما زعم من زعم
ثم قال (عَنْ زَائِدَةَ , عَنْ مَنْصُورٍ , قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ - أَوْ حُدِّثْتُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبْزَى , أَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ , عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الَّتِي , فِي النِّسَاءِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ , وَالَّتِي فِي الْفُرْقَانِ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} إِلَى: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ فِي الْإِسْلَامِ وَعَلِمَ شَرَائِعَهُ وَأَمَرَهُ ثُمَّ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَلَا تَوْبَةَ لَهُ. وَأَمَّا الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ , فَإِنَّهَا لَمَّا أُنْزِلَتْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: فَقَدْ عَدَلْنَا بِاللَّهِ وَقَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَآتَيْنَا الْفَوَاحِشَ , فَمَا يَنْفَعُنَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: فَنَزَلَتْ {إِلَّا مَنْ تَابَ} )) انتهى
وهذه الرواية أيضا في الصحيح
وتأمل كيف أن الصحابي عبد الرحمن أمر سعيد بن جبير أن يسأل ابن عباس عن الآية لأنه يعرف قدره وعلمه
اقتباس:
ويقول شيخ الاسلام
-رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَهَذَا غَلَطٌ عَلَى الصَّحَابَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَلَا قَالَ : إنَّهُمْ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَلَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْهُ قَالَ : إنَّ الْقَاتِلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَعَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا وَالنِّزَاعُ فِي التَّوْبَةِ غَيْرُ النِّزَاعِ فِي التَّخْلِيدِ
كيف يكون غلطا عليه وهو مروي في الصحيحين بأصرح عبارة ؟
وكذلك قال أبو هريرة أنه لا يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط رواه عنه سعيد بن منصور باسناد حسن وكذلك هو قول ابن عمر كما سبق في رواية ابن المنذر
فهذه أقوال الصحابة وهم سلف هاته الأمة
فأخرجوا لنا أقوال الصحابة ممن قال عكس قولهم ؟
و قد صحح الامام مالك أنه لا توبة له
وفي الحديث ((كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ، إِلَّا مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا،
أَوْ مُؤْمِنٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا»،)
وهذا لا يقبل أي تأويل , أما رد هذه الأقوال بمجرد كونها مذهبا للمعتزلة فهذه دعوى لا ترد بمثلها النصوص
وابن عباس قد قال هذا المعنى قبل وجود المعتزلة , وهو الذي ناظر الخوارج ورد أكثرهم الى الحق
وهم يقولون أن مرتكب الكبيرة , أي كبيرة , مخلد في النار لا تنفعه شفاعة
وشتان بين هذا وذاك , وهم احتجوا بنصوص الوعيد العامة مثل قوله (ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها أبدا )
لكن هذا العصيان يغفره الله تعالى ويقبل التوبة من العاصي مطلقا
وبهذا يتبين الفرق بين القتل المتعمد وبين سائر الكبائر ,
أما من حمل الخلود على المكث الطويل , فهذا يرده حديث من يقتل نفسه فان لفظه (خالدا مخلدا فيها أبدا) والأبدية تنافي الانقطاع , وكلك هذا الذي يقتل نفسه فانه لا يستطيع أن يتوب , فلا يرد عليه الخلاف في توبة القتل المتعمد السابق
أما من حمل التخليد على المستحل فهو أضعف من الأول ..