فوائد منتقاه من قصة اصحاب الكهف للامام محمد بن عبد الوهاب
قال شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب على قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} : أن قصتهم مع كونها عجيبة، فيها مسائل جليلة، أعظمها: الدلالة على التوحيد، وبطلان الشرك; والدلالة على نبوته صلى الله عليه وسلم ومن قبله; والدلالة على اليوم الآخر.
ففي الآيات المشاهدة من خلق السماوات والأرض، وغير ذلك مما هو أعجب وأدل على المراد من قصتهم، مع إعراضهم عن ذلك؛ فأما دلالتها على التوحيد وبطلان الشرك فواضح، وأما دلالتها على النبوات فكذلك، كما جعلها أحبار يهود آية لنبوته. وأما دلالتها على اليوم الآخر، فمن طول مكثهم لم يتغيروا، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا}
وقوله: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ}الآية
رد: فوائد منتقاه من قصة اصحاب الكهف للامام محمد بن عبد الوهاب
لا ينبغي أن نمر على قصص القرآن مرورا سريعا ، إنما يجب التفكر والتدبر؛ للعظة والعبرة ، واستخلاص الدروس ؛ لتكون نبراسا نسير على هديه ، ونستضئ بنوره ، وإلا كنا كمثل الحمار يحمل أسفارا - أن ما يقصه الله علينا هو أكمل القصص وأحسنها ؛ لأنه صادر عن علم وصدق ، وبأفصح عبارة وأبينها ، وبأحسن إرادة حيث يريد بها أن يهدي عباده- ليس في قصة أصحاب الكهف عجب ، فقدرة الله تعالى لا حدود لها ، وخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ، ولئن عجب الكفار من بعثهم بعد الموت ، فإن الأنبياء يدركون قدرة الله فيزيدهم إيمانا --نحن نقص عليك نبأهم بالحق--أصحاب الكهف فتية فروا من قومهم خشية الفتنة في دينهم .
كانوا في زمن ملك يقال له دقيانوس ، وكانوا من أبناء الأكابر ، واتفق اجتماعهم في يوم عيد لقومهم ، فرأوا ما يتعاطاه قومهم من السجود للأصنام والتعظيم للأوثان ، فنظروا بعين البصيرة ، وكشف الله عن قلوبهم حجاب الغفلة ، وألهمهم رشدهم ، فعلموا أن قومهم ليسوا على شيء ، فخرجوا عن دينهم ، وانتموا إلى عبادة الله وحده لا شريك له " انتهى.[بن كثير] -
" وهم فتية وفقهم الله ، وألهمهم الإيمان ، وعرفوا ربهم ، وأنكروا ما عليه قومهم من عبادة الأوثان ، وقاموا بين أظهرهم معلنين فيما بينهم عقيدتهم ، خائفين من سطوة قومهم ، فقالوا :
رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا أي : إن دعونا غيره .[بن سعدى]
وحال هؤلاء الفتية الذين فروا ولجأوا إلى الله عز وجل يقولون: رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ، فجمعوا بين الفرار من الفتنة وبين التضرع، وسؤال الله أن ييسر أمورهم، إنهم لم يتكلوا على أنفسهم بل اتكلوا على ربهم عز وجل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما اشتد به الأمر يقول: اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك [رواه البخاري].
اللهم انجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في الأرض [رواه مسلم]، وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه صلى الله عليه وسلم، وكذلك موسى عليه السلام لما اشتد عليه الأمر، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار قال: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ هذه الكلمة التي قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حينما قيل لهم: إِنَّ النَّاسَ أي: الكفار قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
إذًا هؤلاء فتية كانوا في بلد -أهل البلد على الشرك، بالقوة يحملون عليه حملاً- هداهم الله إلى التوحيد واحدًا بعد واحد، ما كانوا في عائلة واحدة، وإنما تعرف بعضهم إلى بعض، ما الذي جمعهم؟الذي جمعهم توحيد الله تعالى - الذى جمعهم ترك عبادة غير الله -الذى جمعهم اعتزال الشرك والمشركين وبغضهم الذى جمعهم مزايلة المشركين وفراقهم.-فارقوا قومهم من أجل الشرك والكفر،
هؤلاء الفتية الذين اجتمعوا على التوحيد ، اجتمعوا على فراق الشرك والكفر - اجتمعوا على الدين الحق ، هؤلاء لما رأوا اضطهاد قومهم، وأنهم سيحملونهم على الشرك بالقوة آثروا الفرار بدينهم، إن ترك البلد صعب، إن هجرة الوطن صعبة، إن مفارقة الأهل عسيرة، ولكن الله سبحانه وتعالى ييسر على أهل الحق عندما يهاجرون ابتغاء وجهه، والذي عليه هؤلاء الفتية هو نوع من الهجرة لله، لأنهم تركوا وطنهم لله، فارقوا بلدهم لله، تركوا أهلهم لله، وخرجوا اجتمعوا في ذلك المكان، والله سبحانه وتعالى جعل قصتهم عبرة، وجعلها ممتدة موجودة في الأجيال نبراسا وقدوه لمن كان حاله حالهم،
جمعهم الحق جمعهم التوحيد جمعهم الدين، فالقلوب أرواح مجندة تعارفت فتآلفت، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ : إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ، وفتية من صيغ جموع القلة، إنهم دون العشرة، وسيأتي في التحقيق أنهم سبعة، -وفى هذا فائدة ان الحق قد يكون مع اقل القليل لئلا يستوحش السالك من قلة السالكين ولا يغتربكثرة الهالكين............. وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا
فالله ثبتهم، والله صبرهم وربط على قلوبهم، والله هداهم ودلهم على الحق والحقيقة، فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، فهو الذي خلقنا، ورزقنا، ودبرنا، وربانا، لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا لو قلنا بمثل ما يقول قومنا ، صارت القضية شطط، إن أصحاب الفطرة السليمة يستدلون بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، ما دام الرب هو الخالق الرازق إذًا هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً
يشكون إلى الله أمر قومهم المشركين، اتخذوا آلهة من دون الله بدون دليل، لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ أين الدليل على أن هذه الأصنام آلهة؟ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ، ما هو الحل إذًا إذا أطبقت الجاهلية على البلد، وصار الجميع على الباطل، ولم تنفع النصيحة، ولم تفد الدعوة، ؟ ما هو الحل؟ - الحل - الفرار بالدين من الفتنة - وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوه ُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ -
ما هو الحل؟ لو بقينا معهم فتنونا عن ديننا عذبونا، الحل الهجرة ترك البلد وما يعبدون، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوه ُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ - فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ
إذًا هناك حسن ظن بالله أن الله لا يخيب من لجأ إليه، وأن الله لا يتخلى عمن آوى إليه، يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ
هذا هو حسن الظن بالله، وعدم اليأس من رحمة الله، قال: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ، فهم يعتزلون أديان أهل الأرض إلا عبادة الله، وهم يتبرؤون من كل إله سوى الله، ويستشعرون معية الله للمؤمنين، ويدعون ربهم رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا - لما دخلوا إلى الكهف ليختبئوا فيه، ويأْوُوا إليه، والإنسان يحتاج إلى مأوى، ذهبوا إلى البرية فما الذي يحميهم من الأعداء من الذى يحميهم من القتل،كيف يختبئون من قومهم؟
الحل لجأوا الى الله فآواهم الى الكهف، وألقى عليهم الله سبحانه وتعالى النوم في الكهف، والله يلقي النوم على عباده للطمأنينة، كما ألقى النوم على الصحابة في بدر وأصحاب الكهف ألقى الله عليهم النوم راحة للأجساد، وطمأنينة للقلوب، -أن من أوى إلى الله أواه الله ، ولطف به ، وجعله سببا لهداية الضالين ; فإن الله لطف بهم في هذه النومة الطويلة ، إبقاء على إيمانهم وأبدانهم من فتنة قومهم وقتلهم ، وجعل هذه النومة من آياته التي يستدل بها على كمال قدرة الله ، وتنوع إحسانه ، وليعلم العباد أن وعد الله حق .إنهم فتية في ريعان الشباب، يجئرون إلى الله بالدعاء، أن يهيئ لهم من أمرهم رشدًا،و يثبتهم ويحفظهم من الشر، وأن ييسر لهم كل سبيل يوصل إلى الخير، - ولكن لا بدّ من حفظ بأسباب، وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ
فهي تميل يمينًا عنهم عن الكهف، وعند غروبها تميل شمالاً لئلا ينالهم الحر مباشرة، فتفسد الأبدان، وأين كانوا؟ في فجوة منه في متسع من الكهف؛ ليطرقهم الهواء والنسيم، ويزول عنهم التأذي بالمكان الضيق مع طول المكث، والله عز وجل يحفظهم بحفظه، فيسر لهم هذا الكهف، وجعل الشمس تميل عنهم يمينًا وشمالاً لئلا ينالهم حرها مباشرة، وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ .
........... وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ -- فالأعين مفتوحة، وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ - فلو لم يقلبهم لأكلتهم الأرض، ولتعفنت أجسادهم، وهذا من حفظ الله لأبدان أوليائه الصالحين كما حفظ ايمانهم، الله يحفظ أولياءه بحفظه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام احفظ الله يحفظك- -قال بن القيم - وهو الحفيظ عليهم وهو الكفيل ... بحفظهم من كل أمر عان
وهو اللطيف بعبده ولعبده ... واللطف في أوصافه نوعان
إدرك أسرار الأمور بخبرة ... واللطف عند مواقع الإحسان[منتقى ومقتبس من كلام العلماء]--