.....
كتاب البيوع "
(11/161)
{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} (الْجُمُعَة: 01، 11) . أَي: بِغَيْر حق، وَقَامَ الْإِجْمَاع على أَن التَّصَرُّف فِي المَال بالحرام بَاطِل حرَام، سَوَاء كَانَ أكلا أَو بيعا أَو هبة، وَغير ذَلِك،وَالْبَاطِل اسْم جَامع لكل مَا لَا يحل فِي الشَّرْع: كالربا وَالْغَصْب وَالسَّرِقَة والخيانة، وكل محرم ورد الشَّرْع بِهِ.
........
(11/161)
نهى الْعلمَاء والحكماء عَن أَن يكون الرجل لَا حِرْفَة لَهُ وَلَا صناعَة، خشيَة أَن يحْتَاج إِلَى النَّاس فيذل لَهُم. وَقد رُوِيَ عَن لُقْمَان، عَلَيْهِ السَّلَام،أَنه قَالَ لِابْنِهِ: يَا بني خُذ من الدُّنْيَا بلاغك، وَأنْفق من كسبك لآخرتك، وَلَا ترفض الدُّنْيَا كل الرَّفْض فَتكون عيالاً، وعَلى أَعْنَاق الرِّجَال كلالاً.
.........
(11/162)
وَقَالَ الْخَلِيل: كل صَاد تَجِيء قبل الْفَاء، وكل سين تَجِيء بعد الْقَاف،فللعرب فِيهِ لُغَتَانِ: سين وصاد، وَلَا يبالون اتَّصَلت أَو انفصلت بعد أَن تَكُونَا فِي كلمة إلاَّ أَن الصَّاد فِي بعض أحسن وَالسِّين فِي بعض أحسن. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَكَانُوا إِذا تبايعوا تصافقوا بالأكف إِمَارَة لانتزاع البيع، وَذَلِكَ أَن الْأَمْلَاك إِنَّمَا تُضَاف إِلَى الْأَيْدِي، والقبوض تبع لَهَا، فَإِذا تصافقت الأكف انْتَقَلت الْأَمْلَاك واستقرت كل يَد مِنْهَا على مَا صَار لكل وَاحِد مِنْهُمَا من ملك صَاحبه، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ تجارًا وَالْأَنْصَار أَصْحَاب زرع، فيغيبون بهَا عَن حَضْرَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَكثر أَحْوَاله وَلَا يسمعُونَ من حَدِيثه إلاَّ مَا كَانَ يحدث بِهِ فِي أَوْقَات شهودهم،وَأَبُو هُرَيْرَة حَاضر دهره لَا يفوتهُ شَيْء مِنْهَا: إلاَّ مَا شَاءَ الله، ثمَّ لَا يستولي عَلَيْهِ النسْيَان لصدق عنايته بضبطه وَقلة اسْتِعْمَاله بِغَيْرِهِ، وَقد لحقته دَعْوَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَامَتْ لَهُ الْحجَّة على من أنكر أمره واستغرب شَأْنه
وَقَالَ ابْن الْأَثِير: أهل الصّفة، هم فُقَرَاء الْمُهَاجِرين، وَمن لم يكن لَهُ مِنْهُم منزل يسكنهُ، فَكَانُوا يأوون إِلَى مَوضِع يظلل فِي مَسْجِد الْمَدِينَة يسكنونه، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة رئيسهم.
........
(11/165)
وَفِي (التَّلْوِيح) : والوليمة فِي الْعرس مُسْتَحبَّة، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي،وَفِي رِوَايَة عَنهُ: وَاجِبَة، وَهُوَ قَول دَاوُد، وَقتهَا بعد الدُّخُول،وَقيل: عِنْد العقد،وَعَن ابْن حبيب: استحبابها عِنْد العقد وَعند الدُّخُول، وَأَن لَا ينقص عَن شَاة. قَالَ القَاضِي: الْإِجْمَاع أَنه لَا حد لقدرها المجزىء. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّهَا قدر الشَّاة لمن قدر عَلَيْهَا، فَمن لم يقدر فَلَا حرج عَلَيْهِ، فقد أولم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالسويق وَالتَّمْر على بعض نِسَائِهِ، وكرهت طَائِفَة الْوَلِيمَة أَكثر من يَوْمَيْنِ، وَعَن مَالك أسبوعا.
.............
(11/168)
مالك بن أهيب وَيُقَال وهيب بن عبد منَاف بن زهرَة بن كلاب بن مرّة بن
كَعْب بن لؤَي بن غَالب الْقرشِي أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ يلتقي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كلاب بن مرّة وَيُقَال لَهُ فَارس الْإِسْلَام مَاتَ سنة خمس وَخمسين وَهُوَ الْمَشْهُور فِي قصره بالعقيق وَحمل على رِقَاب النَّاس إِلَى الْمَدِينَة وَدفن بِالبَقِيعِ وَهُوَ آخر الْعشْرَة وَفَاة وَكَانَ عمره حينما مَاتَ بضعا وَسبعين سنة وَقيل ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ وَقيل غير ذَلِك وَأمه حمْنَة بنت سُفْيَان بن أبي أُميَّة بن عبد شمس وَقيل بنت أبي سُفْيَان وَقيل بنت أبي أَسد وَعبد بن زَمعَة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر وَقَالَ أَبُو نعيم عبد زَمعَة بن الْأسود العامري أَخُو سَوْدَة أم الْمُؤمنِينَ كَانَ شريفا سيدا من سَادَات الصَّحَابَة قَالَ الذَّهَبِيّ كَذَا نسبه أَبُو نعيم فَوَهم إِنَّمَا هُوَ ابْن زَمعَة بن قيس وَزَمعَة بالزاي وَالْمِيم وَالْعين الْمُهْملَة المفتوحات وَقيل بِسُكُون الْمِيم وَالْولد الْمُتَنَازع فِيهِ اسْمه عبد الرَّحْمَن بن زَمعَة بن قيس وَكَانَت أمه من موَالِي الْيمن ولعَبْد الرَّحْمَن هَذَا عقب بِالْمَدِينَةِ وَله ذكر فِي الصَّحَابَة وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي تَجْرِيد الصَّحَابَة عبد الرَّحْمَن بن زَمعَة بن قيس الْقرشِي العامري هُوَ ابْن وليد زَمعَة صَاحب الْقِصَّة وَسَوْدَة بنت زَمعَة بن قيس القرشية العامرية أم الْمُؤمنِينَ يُقَال كنيتها أم الْأسود وَأمّهَا الشموس بنت قيس تزَوجهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد موت خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَكَانَت قبله عِنْد السَّكْرَان بن عمر وَأخي سهل بن عمر وروت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وروى عَنْهَا عبد الله بن عَبَّاس وَيحيى بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن سعد وَيُقَال ابْن أسعد بن زُرَارَة الْأنْصَارِيّ مَاتَت فِي آخر خلَافَة عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (
..........
(11/168)
وأجمعت جمَاعَة من الْعلمَاء بِأَن الْحرَّة فرَاش بِالْعقدِ عَلَيْهَا مَعَ إِمْكَان الْوَطْء وَإِمْكَان الْحمل فَإِذا كَانَ عقد النِّكَاح يُمكن مَعَه الْوَطْء وَالْحمل فَالْوَلَد لصَاحب الْفراش لَا يَنْتَفِي عَنهُ أبدا بِدَعْوَى غَيره وَلَا بِوَجْه من الْوُجُوه إِلَّا بِاللّعانِ
وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِي الْمَرْأَة يطلقهَا زَوجهَا من حِين العقد عَلَيْهَا بِحَضْرَة الْحَاكِم وَالشُّهُود فتأتي بِولد لسِتَّة أشهر فَصَاعِدا من ذَلِك الْوَقْت عقيب العقد فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ لَا يلْحق بِهِ لِأَنَّهَا لَيست بفراش لَهُ إِذا لم يتَمَكَّن من الْوَطْء فِيهِ الْعِصْمَة وَهُوَ كالصغير أَو الصَّغِيرَة اللَّذين لَا يُمكن مِنْهُمَا الْوَلَد وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه هِيَ فرَاش لَهُ وَيلْحق بِهِ وَلَدهَا وَاخْتلفُوا فِي الْأمة فَقَالَ مَالك إِذا أقرّ بِوَطْئِهَا صَارَت فراشا إِن لم يدع اسْتِبْرَاء الْحق بِهِ وَلَدهَا وَإِن ادّعى اسْتِبْرَاء حلفه وبريء من وَلَدهَا وَقَالَ الْعِرَاقِيُّون َ لَا تكون الْأمة فراشا بِالْوَطْءِ إِلَّا بِأَن يَدعِي سَيِّدهَا وَلَدهَا وَأما إِن نَفَاهُ فَلَا يلْحق بِهِ سَوَاء أقرّ بِوَطْئِهَا أَو لم يقر وَسَوَاء اسْتَبْرَأَ أَو لم يستبرى
.........
(11/175)
وروى الْحَاكِم من حَدِيث الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة يرفعهُ: (يَأْتِي على النَّاس زمَان لَا يبْقى فِيهِ أحد إلاَّ أكل الرِّبَا، فَإِن لم يَأْكُلهُ أَصَابَهُ من غباره) . وَقَالَ: إِن صَحَّ سَماع الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة فَهَذَا حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا يكون لضعف الدّين وَعُمُوم الْفِتَن، وَقد قَالَ،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا) . وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: (من بابت أكَّالاً من عمل الْحَلَال بَات وَالله عَنهُ راضٍ، وَأصْبح مغفورا لَهُ. وَطلب الْحَلَال فَرِيضَة على كل مُؤمن) . ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي (كتاب التَّرْغِيب والترهيب) من حَدِيث دَاوُد بن عَليّ بن عبد الله ابْن عَبَّاس عَن أَبِيه عَن جده ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا مُخْتَصرا. وَقَالَ ابْن التِّين: أخبر بِهَذَا تحذيرا، لِأَن فتْنَة المَال شَدِيدَة. وَقد دعِي أَبُو هُرَيْرَة إِلَى طَعَام، فَلَمَّا أكل لم ير نِكَاحا وَلَا ختانا وَلَا مولودا،قَالَ: مَا هَذَا؟ قيل خفضوا جَارِيَة. فَقَالَ: هَذَا طَعَام مَا كُنَّا نعرفه، ثمَّ قاءه،قَالَ: يُقَال: أول مَا ينتن من الْإِنْسَان بَطْنه، وروى أبان بن أبي عَيَّاش (عَن أنس قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! إجعلني مستجاب الدعْوَة. قَالَ: يَا أنس أطب كسبك تستجاب دعوتك. فَإِن الرجل ليرْفَع إِلَى فِيهِ اللُّقْمَة من حرَام فَلَا تستجاب لَهُ دَعوته أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
........
(11/175)
مَا أخرجه عبد الرَّزَّاق من كَلَام ابْن عمر، أَنه كَانَ فِي السُّوق فأقيمت الصَّلَاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا الْمَسْجِد،فَقَالَ ابْن عمر: فيهم نزلت، فَذكر الْآيَة،وَقَالَ ابْن بطال: وَرَأَيْت فِي تَفْسِير الْآيَة،قَالَ: كَانُوا حدادين وخرازين، فَكَانَ أحدهم إِذا رفع المطرقة أَو غرز الأشفى فَسمع الْأَذَان لم يخرج الأشفي من الغررة وَلم يُوقع المطرقة، وَرمى بهَا، وَقَامَ إِلَى الصَّلَاة. وَفِي الْآيَة نعت تجار الْأمة السالفة وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ من مُرَاعَاة حُقُوق الله تَعَالَى والمحافظة عَلَيْهَا والتزام ذكر الله فِي حَال
تجاراتهم وصبرهم على أَدَاء الْفَرَائِض وإقامتها، وخوفهم من سوء الْحساب وَالسُّؤَال يَوْم الْقِيَامَة
.............
(11/176)
وَاخْتلفُوا: هَل يسْتَحبّ تَقْدِيم السَّلَام ثمَّ الاسْتِئْذَان، أَو تَقْدِيم الاسْتِئْذَان ثمَّ السَّلَام؟ وَقد صَحَّ حديثان فِي تَقْدِيم السَّلَام،فَذهب جمَاعَة إِلَى قَوْله: السَّلَام عَلَيْكُم أَدخل،وَقيل: يقدم الاسْتِئْذَان.
...........
(11/176)
قالَ ابْن مَسْعُود: لَو أَن علم عمر وضع فِي كفة وَوضع علم أَحيَاء أهل الأَرْض فِي كفة لرجح علم عمر عَلَيْهِم. وَفِيه: دلَالَة على أَن طلب الدُّنْيَا يمْنَع من استفادة الْعلم، وَكلما ازْدَادَ الْمَرْء طلبا لَهَا ازْدَادَ جهلا، وَقل علما.
...........
(11/178)
قَول من زعم منع ركُوبه فِي أبان ركُوبه، وَهُوَ قَول يرْوى عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلما كتب إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ يسْأَله عَن الْبَحْر،فَقَالَ: خلق عَظِيم يركبه خلق ضَعِيف دود على عود، فَكتب إِلَيْهِ عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن لَا يركبه أحد طول حَيَاته، فَلَمَّا كَانَ بعد عمر لم يزل يركب حَتَّى كَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز، فَاتبع فِيهِ رَأْي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ منع عمر لشدَّة شفقته على الْمُسلمين، وَأما إِذا كَانَ أبان هيجانه وارتجاجه فالأمة مجمعة على أَنه لَا يجوز ركُوبه، لِأَنَّهُ تعرض للهلاك، وَقد نهى الله عباده عَن ذَلِك. بقوله تَعَالَى: {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} (الْبَقَرَة: 591) . وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم إِن الله كَانَ بكم رحِيما} (النِّسَاء: 92) .
والْفُلْكُ: السُّفُنُ، الوَاحِدُ والجَمْعُ سَوَاءٌ
...........
(11/180)
وَقَالَ النَّوَوِيّ: كرمان إسم لتِلْك الديار الَّتِي قصبتها برد سير وَقد غلب على برد سير حَتَّى كَانَت مقصد القوافل والملوك والعساكر. قلت: برد سير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الدَّال وَكسر السِّين المهملات وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء. وَقَالَ النَّوَوِيّ: كرمان، بِفَتْح الْكَاف. وَقَالَ الْكرْمَانِي الشَّارِح بِكَسْرِهَا،قَالَ: هُوَ بلدنا وَأهل الْبَلَد أعلم باسم بلدهم من غَيرهم، وهم متفقون على كسرهَا،وساعد بَعضهم النَّوَوِيّ فَقَالَ: لَعَلَّ الصَّوَاب فِيهَا فِي الأَصْل الْفَتْح ثمَّ كثر اسْتِعْمَالهَا بِالْكَسْرِ تغييرا من الْعَامَّة. قلت
ضبط هَذَا بِالْوَجْهَيْنِ ، وَلَكِن الَّذِي ذكره الْكرْمَانِي هُوَ الأصوب لِأَنَّهُ ادّعى اتِّفَاق أهل بَلَده على الْكسر، وَمَعَ هَذَا لَيْسَ هَذَا مَحل المناقشة، وَلَا يبْنى على الْكسر وَلَا على الْفَتْح حكم.
..............
(11/181)
لْخَامِس: أَن زِيَادَة الْأَجَل تكون بِالْبركَةِ فِيهِ وتوفيق صَاحبه لفعل الْخيرَات وبلوغ الْأَغْرَاض، فنال فِي قصر الْعُمر مَا يَنَالهُ غَيره فِي طويله. وَزعم عِيَاض أَن المُرَاد بذلك: بَقَاء ذكره الْجَمِيل بعد الْمَوْت على الْأَلْسِنَة، فَكَأَنَّهُ لم يمت،وَذكر الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ: أَن المُرَاد بذلك قلَّة الْمقَام فِي البرزخ.
........
(11/185)
الزِّرَاعَة وَالتِّجَارَة والصناعة، وأيها أطيب؟ فِيهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب للنَّاس، وأشبهها مَذْهَب الشَّافِعِي أَن التِّجَارَة أطيب، وَالْأَشْبَه عِنْدِي أَن الزِّرَاعَة أطيب لِأَنَّهَا أقرب إِلَى التَّوَكُّل. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَحَدِيث البُخَارِيّ صَرِيح فِي تَرْجِيح الزِّرَاعَة والصنعة لِكَوْنِهِمَا عمل يَده. لَكِن الزِّرَاعَة أفضلهما لعُمُوم النَّفْع بهَا للآدمي وَغَيره. وَعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهَا
.......
(11/189)
وَقد اخْتلفُوا فِي حد الْمُوسر،فَقيل: من عِنْده مُؤْنَته وَمؤنَة من تلْزمهُ نَفَقَته. وَقَالَ الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق: من عِنْده خَمْسُونَ درهما أَو قيمتهَا من الذَّهَب، فَهُوَ مُوسر. وَقَالَ الشَّافِعِي: قد يكون الشَّخْص بالدرهم غَنِيا يكسبه، وَقد يكون فَقِيرا بِالْألف مَعَ ضعفه فِي نَفسه وَكَثْرَة عِيَاله. وَقيل: الْمُوسر من يملك نِصَاب الزَّكَاة،وَقيل: من لَا يحل لَهُ الزَّكَاة. وَقيل: من يجد فَاضلا عَن ثَوْبه ومسكنه وخادمه وَدينه وقوت من يمونه، وَعند أَصْحَابنَا، على مَا ذكره صَاحب (الْمَبْسُوط) و (الْمُحِيط) : الْغَنِيّ على ثَلَاث مَرَاتِب: الْمرتبَة الأولى: الْغَنِيّ الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ وجوب الزَّكَاة. الْمرتبَة الثَّانِيَة: الْغَنِيّ الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ وجوب صَدَقَة الْفطر وَالْأُضْحِيَّة وحرمان الزَّكَاة، وَهُوَ أَن يملك مَا يفضل عَن حَوَائِجه الْأَصْلِيَّة مَا يبلغ قيمَة مِائَتي دِرْهَم، مثل دور لَا يسكنهَا وحوانيت يؤجرها وَنَحْو ذَلِك. والمرتبة الثَّالِثَة: فِي الْغنى غنى حُرْمَة السُّؤَال،قيل: مَا قِيمَته خَمْسُونَ درهما. وَقَالَ عَامَّة الْعلمَاء: إِن من ملك قوت يَوْمه وَمَا يستر بِهِ عَوْرَته يحرم عَلَيْهِ السُّؤَال، وَكَذَا الْفَقِير الْقوي المكتسب يحرم عَلَيْهِ السُّؤَال.
........
(11/200)
وَعَن الثَّعْلَبِيّ: كتبوه فِي الْمُصحف بِالْوَاو، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ كتبه بِالْيَاءِ بِسَبَب كسرة أَوله، وغلطهم البصريون فِي ذَلِك،وَقَالَ الْفراء: إِنَّمَا كتبوه بِالْوَاو لِأَن أهل الْحجاز تعلمُوا الْخط من أهل الْحيرَة ولغتهم الربو بمضموم، وَصُورَة الْخط على لغتهم،وَزعم أَبُو الْحسن طَاهِر ابْن غليون أَن أَبَا السماك قَرَأَ: الربو، بِفَتْح الرَّاء وَضم الْبَاء وَيجْعَل مَعهَا واوا. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: قَرَأَهُ أَبُو السماك وَأَبُو السوار بِكَسْر الرَّاء وَضم الْبَاء وواو سَاكِنة وَقِرَاءَة الْحسن بِالْمدِّ والهمزة وَقِرَاءَة حَمْزَة وَالْكسَائِيّ بالإمالة وَقِرَاءَة البَاقِينَ بالتفخيم وَفِي (شرح الْمُهَذّب) انت بِالْخِيَارِ وَفِي كتبه بِالْألف وَالْوَاو وَالْيَاء والرماء بِالْمدِّ وَالْمِيم
بِالضَّمِّ، والربية بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيف لُغَة فِيهِ،وَهُوَ فِي الشَّرْع: الزِّيَادَة على أصل المَال من غير عقد تبَايع،قَالَه ابْن الْأَثِير: وَقَالَ أَصْحَابنَا: الرِّبَا فضل مَال بِلَا عوض فِي مُعَاوضَة مَال بِمَال كَمَا إِذا بَاعَ عشرَة دَرَاهِم بِأحد عشر درهما، فَإِن الدِّرْهَم، فِيهِ فضل، وَلَيْسَ فِي مُقَابِله شَيْء، وَهُوَ عين الرِّبَا،
.........
(11/203)
وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَلَا يحل بيع كلب أصلا لَا كلب صيد وَلَا كلب مَاشِيَة وَلَا غَيرهمَا. فَإِن اضْطر إِلَيْهِ وَلم يجد من يُعْطِيهِ إِيَّاه فَلهُ ابتياعه، وَهُوَ حَلَال للْمُشْتَرِي حرَام للْبَائِع، ينتزع مِنْهُ الثّمن مَتى قدر عَلَيْهِ كالرشوة فِي دفع الظُّلم. وَفِدَاء الْأَسير ومصانعة الظَّالِم. ثمَّ قَالَ: وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد وَأبي سُلَيْمَان وَأبي ثَوْر وَغَيرهم انْتهى.
وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَابْن كنَانَة وَسَحْنُون من الْمَالِكِيَّة: الْكلاب الَّتِي ينْتَفع بهَا يجوز بيعهَا وتباح أثمانها. وَعَن أبي حنيفَة: أَن الْكَلْب الْعَقُور لَا يجوز بَيْعه وَلَا يُبَاح ثمنه، وَفِي (الْبَدَائِع) : وَأما بيع ذِي نَاب من السبَاع سوى الْخِنْزِير: كَالْكَلْبِ والفهد والأسد والنمر وَالذِّئْب والدب والهر وَنَحْوهَا، جَائِز عِنْد أَصْحَابنَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز بيع الْكَلْب. ثمَّ عندنَا: لَا فرق بَين الْمعلم وَغَيره،وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: فَيجوز بَيْعه كَيفَ مَا كَانَ وَعَن أبي يُوسُف أَنه: لَا يجوز بيع الْكَلْب الْعَقُور. وَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَن النَّهْي الَّذِي فِي
...........
(11/210)
وَذكر ابْن الْكَلْبِيّ عَن جمَاعَة فِي الْجَاهِلِيَّة أَنهم كَانُوا زنادقة، مِنْهُم الْعَاصِ بن وَائِل وَعقبَة بن أبي معيط والوليد بن الْمُغيرَة وَأبي بن خلف.
.......
(11/210)
ن الْحداد لَا يضرّهُ مهنة صناعته إِذا كَانَ عدلا. قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة:
(أَلا إِنَّمَا التَّقْوَى هُوَ الْعِزّ وَالْكَرم ... وحبك للدنيا هُوَ الذل والعدم)
(وَلَيْسَ على حر تَقِيّ نقيصة ... إِذا أسس التَّقْوَى وَإِن حاك أَو حجم)
...........
(11/211)
وَقَالَ أَبُو حنيفَة فِي (كتاب النَّبَات) : الدُّبَّاء من اليقطين ينقرش وَلَا ينْهض، كجنس الْبِطِّيخ والقثاء،وَقد روى عَن ابْن عَبَّاس: كل ورقة اتسعت ورقت فَهِيَ يَقْطِين
.......
(11/212)
وَقَالَ ابْن التِّين: وَلَيْسَ الهائم وَاحِد الهيم، فَانْظُر لم أَدخل البُخَارِيّ هَذَا فِي تبويبه؟وَأجِيب: عَن هَذَا: بِأَن البُخَارِيّ لما رأى أَن الهيم من الْإِبِل كَالَّذي قَالَه النَّضر بن شُمَيْل، شبهها بِالرجلِ الهائم من الْعِشْق،فَقَالَ: الهائم الْمُخَالف للقصد فِي كل شَيْء، فَكَذَلِك الْإِبِل الهيم تخَالف الْقَصْد فِي قِيَامهَا وقعودها ودورها مَعَ الشَّمْس كالحرباء.
........
(11/220)
فِي (صَحِيح مُسلم) : عَن أبي سعيد،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمسك أطيب الطّيب) . وَفِي كتاب (الْأَشْرَاف) : روينَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَنَد جيد أَنه كَانَ لَهُ مسك يتطيب بِهِ، وعَلى هَذَا جلّ الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَغَيرهم، وَهُوَ قَول عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأنس وسلمان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَمُحَمّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن الْمسيب وَجَابِر بن زيد وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَاللَّيْث وَأحمد وَإِسْحَاق. وَخَالف فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَذكر ابْن أبي شيبَة، قَالَ عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا تحنطوني بِهِ، وَكَرِهَهُ. وَكَذَا عمر ابْن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وَالْحسن وَمُجاهد وَالضَّحَّاك،وَقَالَ أَكْثَرهم: لَا يصلح للحي وَلَا للْمَيت، لِأَنَّهُ ميتَة، وَهُوَ عِنْدهم بِمَنْزِلَة مَا أبين من الْحَيَوَان. قَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا يَصح ذَلِك إلاَّ عَن عَطاء. قلت: روى ابْن أبي شيبَة عَن عَطاء من طَرِيق جَيِّدَة أَنه سُئِلَ: أطيب الْمَيِّت بالمسك؟قَالَ: نعم، أوليس الَّذِي تخمرون بِهِ الْمسك؟ فَهُوَ خلاف مَا قَالَه ابْن الْمُنْذر عَنهُ،وَقَوْلهمْ: إِنَّه بِمَنْزِلَة مَا أبين من الْحَيَوَان، قِيَاس غير صَحِيح، لِأَن مَا قطع من الْحَيّ يجْرِي فِيهِ الدَّم، وَهَذَا لَيْسَ سَبِيل نافجة الْمسك لِأَنَّهَا تسْقط عِنْد الاحتكاك كسقوط الشعرة. وَقَالَ أَبُو الْفضل عِيَاض: وَقع الْإِجْمَاع على طَهَارَته وَجَوَاز اسْتِعْمَاله. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الْمسك حَلَال بِالْإِجْمَاع بِحل اسْتِعْمَاله للرِّجَال وَالنِّسَاء،وَيُقَال: انقرض الْخلاف الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَاسْتقر الْإِجْمَاع على طَهَارَته، وَجَوَاز بَيْعه. وَقَالَ الْمُهلب: أصل الْمسك التَّحْرِيم لِأَنَّهُ دم، فَلَمَّا تغير عَن الْحَالة الْمَكْرُوهَة من الدَّم، وَهِي الزهم، وفاح الرَّائِحَة، صَار حَلَالا بِطيب الرَّائِحَة، وانتقلت حَاله كَالْخمرِ تتخل فَتحل بعد أَن كَانَت حَرَامًا بانتقال الْحَال. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : نقل أَصْحَابنَا عَن الشِّيعَة فِيهِ مذهبا بَاطِلا،وَهُوَ مُسْتَثْنى من الْقَاعِدَة الْمَعْرُوفَة: أَن مَا أبين من حَيّ فَهُوَ ميت أَو يُقَال: هُوَ فِي معنى الْجَنِين وَالْبيض وَاللَّبن، وَذكر المَسْعُودِيّ فِي (مروج الذَّهَب) : أَنه تدفع مواد الدَّم إِلَى سرة الغزال، فَإِذا استحكم لون الدَّم فِيهَا ونضح آذاه ذَلِك وحكه. فَيفزع حِينَئِذٍ إِلَى أحد الصخور والأحجار الحارة من حر الشَّمْس، فيجت بهَا ملتذا بذلك، فينفجر حِينَئِذٍ وتسيل على تِلْكَ الْأَحْجَار كانفجار الْجراح والدمل، ويجد بِخُرُوجِهِ لَذَّة، فَإِذا فرغ مَا فِي نافجته اندمل حِينَئِذٍ ثمَّ اندفعت إِلَيْهِ مواد من الدَّم تَجْتَمِع ثَانِيَة، فَيخرج رجال نبت يقصدون تِلْكَ الْحِجَارَة وَالْجِبَال فيجدونه قد جف بعد إحكام الْموَاد ونضج الطبيعة وجففته الشَّمْس وَأثر فِيهِ الْهوى، فيودعونه فِي نوافج مَعَهم قد أخذوها من غزلان اصطادوها، معدة مَعَهم، ولغزاله نابان صغيران محدودا الْأَعْلَى، مِنْهَا مدلًى على أَسْنَانه السُّفْلى، ويداه قصيرتان وَرجلَاهُ طويلتان، وَرُبمَا رَمَوْهَا بِالسِّهَامِ فيصرعونها ويقطعون عَنْهَا نوافجها وَالدَّم فِي سررها خام لم ينضج، وطري لم يدْرك، فَيكون لرائحته سهولة، فَيبقى زَمَانا حَتَّى تَزُول عَنهُ تِلْكَ الروائح السهلة الكريهة،
.......
(11/222)
أَن أَبَا طيبَة حجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيطلق عَلَيْهِ أَنه حجام
. وَأَبُو طيبَة، بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة،قيل: إسمه دِينَار. وَقيل: نَافِع،وَقيل: ميسرَة. وَقَالَ ابْن الْحذاء: عَاشَ مائَة وَثَلَاثًا وَأَرْبَعين سنة. وَهُوَ مولى محيصة،بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالصاد الْمُهْملَة: ابْن مَسْعُود الْأنْصَارِيّ، وَأَهله هم بَنو بياضة.
..........
(11/223)
جعل البُخَارِيّ هَذِه التَّرْجَمَة فيمَ يكره لبسه للرِّجَال وَالنِّسَاء، وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، شفقها خمرًا بَين الفواطم، وَكَانَ على زَيْنَب بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حلَّة سيراء،فَإِنَّمَا الْمَعْنى: من لَا خلاق لَهُ من الرِّجَال، فَأَما النِّسَاء فَلَا. فَإِن أَرَادَ شِرَاء مَا فِيهِ تصاوير فَحَدِيث عمر لَا يدْخل فِي هَذِه التَّرْجَمَة. انْتهى. قلت: بل يدْخل،لِأَن التَّرْجَمَة لَهَا جزآن: أَحدهمَا: قَوْله للرِّجَال،وَالْآخر: قَوْله للنِّسَاء، فَحَدِيث عمر يدْخل فِي الْجُزْء الأول، وَحَدِيث عَائِشَة يدْخل فِي الْجُزْء الثَّانِي إِن كَانَ اللّبْس على مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ. وَإِن جَعَلْنَاهُ بِمَعْنى: الِاسْتِعْمَال، كَمَا ذَكرْنَاهُ، يدْخل فِي الجزأين جَمِيعًا. فَافْهَم. فَإِنَّهُ مَوضِع تعسف فِيهِ الشُّرَّاح، وَهَذَا الَّذِي ذكرته فتح لي من الْأَنْوَار الإل هية والفيوض الربانية
..........
(11/224)
فِي (الصِّحَاح) : النمرقة وسَادَة صَغِيرَة، وَرُبمَا سموا الطنفسة الَّتِي تَحت الرحل نمرقة.
وَقَالَ عِيَاض وَغَيره: هِيَ وسَادَة،
.........
(11/224)
أَن الْمَلَائِكَة لَا تدخل بَيْتا فِيهِ صُورَة، وَقد مر عَن قريب أَن المُرَاد من الْمَلَائِكَة غير الْحفظَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أما الْمَلَائِكَة الَّذين لَا يدْخلُونَ بَيْتا فِيهِ كلب أَو صُورَة فهم مَلَائِكَة يطوفون بِالرَّحْمَةِ وَالِاسْتِغْفَا ر. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ كلب أَو صُورَة مِمَّا يحرم اقتناؤه من الْكلاب والصور، فَأَما مَا لَيْسَ بِحرَام من كلب الصَّيْد وَالزَّرْع والماشية وَالصُّورَة الَّتِي تمتهن فِي الْبسَاط والوسادة وَغَيرهمَا فَلَا يمْنَع دُخُول الْمَلَائِكَة بِسَبَبِهِ، وَأَشَارَ القَاضِي إِلَى نَحْو مَا قَالَ الْخطابِيّ، وَالْأَظْهَر أَنه عَام فِي كل كلب وكل صُورَة، وَأَنَّهُمْ يمْنَعُونَ من الْجَمِيع لإِطْلَاق الْأَحَادِيث. قَالَه النَّوَوِيّ. وَقَالَ أَيْضا: وَلِأَن الْجَرّ وَالَّذِي كَانَت فِي بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحت
السرير كَانَ لَهُ فِيهِ عذر ظَاهر، فَإِنَّهُ لم يعلم بِهِ، وَمَعَ هَذَا امْتنع جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، من دُخُول الْبَيْت، وَعلل بالجرو، فَلَو كَانَ الْعذر فِي وجود الصُّورَة وَالْكَلب لَا يمنعهُم، لم يمْتَنع جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام. انْتهى
........
(11/230)
قَالَ ابْن بطال: وَكَانَت السّنة تدل على أَن ذَلِك كَانَ فِي أول الْأَمر، فَأَما فِي الزَّمن الَّذِي فعل ابْن عمر ذَلِك، فَكَانَ التَّفَرُّق بالأبدان متروكا، فَلذَلِك فعله ابْن عمر، لِأَنَّهُ كَانَ شَدِيد الإتباع، وَاعْترض بَعضهم على هَذَا بقوله،وَقد وَقع فِي رِوَايَة أَيُّوب بن سُوَيْد: كُنَّا إِذا تبايعنا كَانَ كل وَاحِد منا بِالْخِيَارِ مَا لم يتفرق الْمُتَبَايعَان ِ، فتبايعت أَنا وَعُثْمَان، فساق الْقِصَّة،قَالَ: وفيهَا إِشْعَار باستمرار ذَلِك. انْتهى. قلت: القَوْل فِيهِ مثل مَا قَالَ ابْن بطال فِي حَدِيث الْبَاب،وَقَوله: وفيهَا إِشْعَار باستمرار ذَلِك، غير مسلَّم، لِأَن هَذِه دَعْوَى بِلَا برهَان. على أَنا نقُول: ذكر ابْن رشد فِي (الْمُقدمَات) لَهُ: أَن عُثْمَان قَالَ لِابْنِ عمر: لَيست السّنة بافتراق الْأَبدَان، قد انتسخ ذَلِك،وَقد اعْترض عَلَيْهِ بَعضهم بقوله: هَذِه الزِّيَادَة لم أر لَهَا إِسْنَادًا. قلت: لَا يلْزم من عدم رُؤْيَته إِسْنَاده عدم رُؤْيَة قَائِله أَو غَيره، فَهَذَا لَا يشفي العليل وَلَا يرْوى الغليل. قَ
.....
(11/233)
وَقَالَ البغداديون من أَصْحَابه: للمغبون الْخِيَار بِشَرْط أَن يبلغ الْغبن ثلث
الْقيمَة وَإِن كَانَ دونه فَلَا، هَكَذَا حَده أَبُو بكر وَابْن أبي مُوسَى من الْحَنَابِلَة،وَقيل: السُّدس،وَعَن دَاوُد: العقد بَاطِل،وَعَن مَالك: إِن كَانَا عارفين بِتِلْكَ السّلْعَة وسعرها وَقت البيع لم يفْسخ البيع، كثيرا كَانَ الْغبن أَو قَلِيلا، فَإِن كَانَ أَحدهمَا غير عَارِف بذلك فسخ البيع ألاَّ أَن يُرِيد أَن يمضيه، وَلم يحد مَالك حدا، وَأثبت هَؤُلَاءِ خِيَار الْغبن بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور
.........
(11/236)
وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ بِذكر الْأَسْوَاق إِبَاحَة المتاجر وَدخُول الْأَسْوَاق للأشراف والفضلاء. فَإِن قلت: روى أَحْمد وَالْبَزَّار وَالْحَاكِم،وَصَححهُ من حَدِيث جُبَير بن مطعم: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،قَالَ: أحب الْبِقَاع إِلَى الله تَعَالَى الْمَسَاجِد، وَأبْغض الْبِقَاع إِلَى الله تَعَالَى الْأَسْوَاق) . وَأخرجه ابْن حبَان وَالْحَاكِم أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر، نَحوه. قلت: هَذَا لم يثبت على شَرطه من أَنَّهَا شَرّ الْبِقَاع، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى هَذَا، وَلَكِن لَا يعلم إلاَّ من الْخَارِج. وَقَالَ ابْن بطال: وَهَذَا أخرج على الْغَالِب، وَالْأَقْرَب سوق يذكر الله فِيهَا أَكثر من كثير من الْمَسَاجِد.
.........
(11/238)
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَكَانَ فِي زمن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمَاعَة قد كَانُوا متسمين بِمُحَمد مكتنين بِأبي الْقَاسِم،مِنْهُم: مُحَمَّد بن طَلْحَة، وَمُحَمّد بن الْأَشْعَث،وَمُحَمّد بن أبي حُذَيْفَة قلت: مُحَمَّد بن طَلْحَة هُوَ مُحَمَّد بن طَلْحَة بن عبد الله، وَذكره ابْن الْأَثِير فِي الصَّحَابَة،وَقَالَ: حمله أَبوهُ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمسح رَأسه وَسَماهُ مُحَمَّدًا، وَكَانَ يكنى أَبَا الْقَاسِم، وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا يلقب بالسجاد لِكَثْرَة صلَاته وَشدَّة اجْتِهَاده فِي الْعِبَادَة، قتل يَوْم الْجمل مَعَ أَبِيه سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ، وَكَانَ هَوَاهُ مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إلاَّ أَنه أطَاع أَبَاهُ،فَلَمَّا رَآهُ عَليّ قَالَ: هَذَا السَّجَّاد قَتله بر أَبِيه. وَمُحَمّد بن الْأَشْعَث بن قيس الْكِنْدِيّ قيل: إِنَّه ولد على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقَالَ أَبُو نعيم: لَا تصح لَهُ صُحْبَة، وروى عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَمُحَمّد بن أبي حُذَيْفَة بن عتبَة ابْن ربيعَة بن عبد شمس بن عبد منَاف الْقرشِي العبشمي، كنيته أَبُو الْقَاسِم، ولد بِأَرْض الْحَبَشَة على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن خَال مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، وَلما قتل أَبوهُ أَبُو حُذَيْفَة أَخذه عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وكفله إِلَى أَن كبر، ثمَّ سَار إِلَى مصر فَصَارَ من أَشد النَّاس على عُثْمَان،وَقَالَ أَبُو نعيم: هُوَ أحد من دخل على عُثْمَان حِين حوصر فَقتل، وَلما استولى مُعَاوِيَة على مصر أَخذه وحبسه فهرب من السجْن، فظفر بِهِ رشد بن مولى مُعَاوِيَة فَقتله. قلت: وَمن جملَة من تسمى بِمُحَمد وتكنى بِأبي الْقَاسِم من أَبنَاء وُجُوه الصَّحَابَة: مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي طَالب، وَمُحَمّد بن سعيد بن أبي وَقاص، وَمُحَمّد بن حَاطِب، وَمُحَمّد بن الْمُنْتَشِر ذكرهم الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه)
........
(11/240)
قَالَ الْأَصْمَعِي: الكلع العيس الَّذِي لَا يتَّجه لنظر وَلَا لغيره، مَأْخُوذ من الملاكيع، وَهُوَ الَّذِي يخرج مَعَ السلا من الْبَطن. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: القَوْل قَول الْأَصْمَعِي،أَلا ترى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِلْحسنِ وَهُوَ صَغِير: أَيْن لكع؟ أَرَادَ أَنه لصغره لَا يتَّجه لمنطق وَلَا مَا يصلحه، وَلم يرد أَنه لئيم وَلَا عبد، وَعلم مِنْهُ أَن اللَّئِيم يُسمى لكعا أَيْضا، وَكَذَلِكَ العَبْد يُسمى بِهِ. وَفِي (التَّلْوِيح) الْأَشْبَه والأجود أَن يحمل الحَدِيث على مَا قَالَه بِلَال بن جرير الخطفي، وَسُئِلَ عَن اللكع؟فَقَالَ: فِي لغتنا هُوَ الصَّغِير. قَالَ الْهَرَوِيّ: وَإِلَى هَذَا ذهب الْحسن،إِذا قَالَ الْإِنْسَان: لَا يكع،يُرِيد: يَا صَغِير وَيُقَال للْمَرْأَة: لكيعة ولكعاء ولكاع وملكعانة، ذكره فِي (الموعب) . وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: لَا يُقَال ملكعانة إلاَّ فِي النداء، وَعَن ابْن يزِيد، اللكع الغلو، وَالْأُنْثَى لكعة. وَفِي (الْمُحكم) : اللكع الْمهْر. وَفِي (الْجَامِع) : أصل اللكع من اللكع وَلَكِن قلب.
.........
(11/241)
وَأما معانقة الرجل للرجل فاستحبها سُفْيَان وكرهها مَالك،قَالَ: هِيَ بِدعَة، وتناظر مَالك وسُفْيَان فِي ذَلِك فاحتج سُفْيَان بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك بِجَعْفَر،قَالَ مَالك: هُوَ خَاص لَهُ،فَقَالَ: مَا يَخُصُّهُ بِغَيْر ذَلِك؟ فَسكت مَالك. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : الْخلاف فِي المعانقة فِي إِزَار وَاحِد، وَأما إِذا كَانَ على المعانق قَمِيص أَو جُبَّة لَا بَأْس بِاتِّفَاق أَصْحَابنَا، وَهُوَ الصَّحِيح. وَفِيه: جَوَاز التَّقْبِيل، قَالَ الْفَقِيه أَبُو اللَّيْث فِي (شرح الْجَامِع الصَّغِير) الْقبْلَة على خَمْسَة أوجه: قبْلَة تَحِيَّة، وقبلة شَفَقَة، وقبلة رَحْمَة. وقبلة شَهْوَة، وقبلة مَوَدَّة. فَأَما قبْلَة التَّحِيَّة فكالمؤمنَيْن يقبل بعضهما بَعْضًا على الْيَد، وقبلة الشَّفَقَة قبْلَة الْوَلَد لوالده أَو لوالدته، وقبلة الرَّحْمَة قبْلَة الْوَالِد لوَلَده والوالدة لولدها على الخد، وقبلة الشَّهْوَة قبْلَة الزَّوْج لزوجته على الْفَم، وقبلة الْمَوَدَّة قبْلَة الْأَخ وَالْأُخْت على الخد،وَزَاد بَعضهم من أَصْحَابنَا: قبْلَة ديانَة، وَهِي الْقبْلَة على الْحجر الْأسود، وَقد وَردت أَحَادِيث وآثار كَثِيرَة فِي جَوَاز التَّقْبِيل، وَلَكِن مَحل ذَلِك إِذا كَانَ على وَجه المبرة وَالْإِكْرَام، وَأما إِذا كَانَ على وَجه الشَّهْوَة فَلَا يجوز إلاَّ فِي حق الزَّوْجَيْنِ، وَأما المصافحة فَلَا بَأْس بهَا بِلَا خلاف لِأَنَّهَا سنة قديمَة، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من حَدِيث حُذَيْفَة ابْن الْيَمَان عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: (إِن الْمُؤمن إِذا لَقِي الْمُؤمن فَسلم عَلَيْهِ وَأخذ بِيَدِهِ فصافحه تناثرت خطاياهما كَمَا يَتَنَاثَر ورق الشّجر) .
...........
(11/248)
هل الْمَدِينَة اصْطَلحُوا على لفظ: الصَّاع وَالْمدّ،كَمَا أَن أهل الْعرَاق اصْطَلحُوا على لفظ: المكوك. قَالَ عِيَاض: المكوك مكيال أهل الْعرَاق يسع صَاعا وَنصف صَاع بالمدني،وكما أَن أهل مصر اصْطَلحُوا على: الْقدح، وَالرّبع والويبة، وَإِذا ذكر الصَّاع وَالْمدّ يتَبَادَر أذهان النَّاس غَالِبا إِلَى أَنَّهُمَا لأجل الْمَدِينَة.
......
(11/262)
اخْتلف الْعلمَاء هَل الْمُدبر يُبَاع أم لَا؟ فَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَجَمَاعَة من أهل الْكُوفَة إِلَى أَنه لَيْسَ للسَّيِّد أَن يَبِيع مدبره، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق وَأهل الظَّاهِر، وَهُوَ قَول عَائِشَة وَمُجاهد وَالْحسن وطاووس، وَكَرِهَهُ ابْن عمر وَزيد بن ثَابت، وَمُحَمّد بن سِيرِين وَابْن الْمسيب وَالزهْرِيّ وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَابْن أبي ليلى وَاللَّيْث بن سعد، وَعَن الْأَوْزَاعِيّ لَا يُبَاع إلاَّ من رجل يُرِيد عتقه، وَجوز أَحْمد بَيْعه بِشَرْط أَن يكون على السَّيِّد دين، وَعَن مَالك يجوز بَيْعه عِنْد الْمَوْت، وَلَا يجوز فِي حَال الْحَيَاة، وَكَذَا ذكره ابْن الْجَوْزِيّ عَنهُ، وَحكى مَالك إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة على بيع الْمُدبر أَو هِبته.
وَعند أَئِمَّتنَا الْحَنَفِيَّة: الْمُدبر على نَوْعَيْنِ: مُدبر مُطلق: نَحْو مَا إِذا قَالَ لعَبْدِهِ: إِذا مت فَأَنت حر أَو أَنْت حر يَوْم أَمُوت. أَو أَنْت حر عَن دبر مني، أَو أَنْت مُدبر، أَو دبرتك،فَحكم هَذَا أَنه: لَا يُبَاع وَلَا يُوهب ويستخدم ويؤجر وتوطؤ الْمُدبرَة وَتنْكح، وبموت الْمولى يعْتق الْمُدبر من ثلث مَاله،وَيسْعَى فِي ثُلثَيْهِ أَي: ثُلثي قِيمَته إِن كَانَ الْمولى فَقِيرا، وَلم يكن لَهُ مَال غَيره، وَيسْعَى فِي كل قِيمَته لَو كَانَ مديونا بدين مُسْتَغْرق جَمِيع مَاله
........
(11/170)
(من اشْترى شَاة مصراة فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا لَا سمراء) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا،ثمَّ قَالَ: معنى من طَعَام: لَا سمراء، لَا بر. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: المُرَاد بِالطَّعَامِ هُنَا التَّمْر،لقَوْله: لَا سمراء قلت: لَا يعلم أَن المُرَاد من الطَّعَام هَهُنَا التَّمْر،
قَوْله: (لَا سمراء) نفي لقمح مَخْصُوص، وَهِي الْحِنْطَة الشامية،وَقد روى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين: أَن المُرَاد بالسمراء الْحِنْطَة الشامية، وَهِي كَانَت أغْلى ثمنا من الْبر الْحِجَازِي فَكَأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر برد الصَّاع من الْبر الْحِجَازِي لِأَن الْبر الشَّامي لكَونه أغْلى ثمنا قصد التَّخْفِيف عَلَيْهِم،وَجَاء فِي الحَدِيث أَيْضا: أَن الطَّعَام غير التَّمْر، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن رجل من الصَّحَابَة نَحْو حَدِيث الْبَاب،وَفِيه: وَإِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا من تمر، فَإِن ظَاهره يَقْتَضِي التَّخْيِير بَين التَّمْر وَالطَّعَام، وَأَن الطَّعَام غير التَّمْر.
وَقَالَ بَعضهم: قد أَخذ بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث جُمْهُور أهل الْعلم، وَأفْتى بِهِ ابْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة، وَلَا مُخَالف لَهُم من الصَّحَابَة، وَقَالَ بِهِ من التَّابِعين وَمن بعدهمْ من لَا يُحْصى عدده، وَلم يفرقُوا بَين أَن يكون اللَّبن الَّذِي احتلب قَلِيلا أَو كثيرا، وَلَا بَين أَن يكون تمر تِلْكَ الْبَلَد أم لَا. انْتهى.
قلت: أَبُو حنيفَة غير مُنْفَرد بترك الْعَمَل بِحَدِيث الْمُصراة، بل مَذْهَب الْكُوفِيّين وَابْن أبي ليلى وَمَالك فِي رِوَايَة مثل مَذْهَب أبي حنيفَة، وَقد نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التصرية،وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: أشهد على الصَّادِق المصدوق أبي الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: بيع المحفلات خلابة وَلَا تحل الخلابة لمُسلم) . انْتهى. قلت: وَالْكل مجمعون على أَن التصرية حرَام وغش وخداع، وَلأَجل كَون بيعهَا صَحِيحا مَعَ كَونهَا حَرَامًا
.......
(11/278)
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي العَبْد إِذا زنى: هَل الزِّنَا عيب فِيهِ يجب رده بِهِ أم لَا؟فَقَالَ مَالك: هُوَ عيب فِي العَبْد وَالْأمة، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر،وَقَول الشَّافِعِي: كل مَا ينقص من الثّمن فَهُوَ عيب. وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: هُوَ عيب فِي الْجَارِيَة دون الْغُلَام، كَمَا ذَكرْنَاهُ، ثمَّ هَل يجلدها السَّيِّد أم لَا؟فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: نعم،وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يُقيم الْجلد أَو الْحَد إلاَّ الإِمَام، بِخِلَاف التَّعْزِير،وَاحْتج بِحَدِيث: أَربع إِلَى الْوَالِي ... فَذكر مِنْهَا الْحُدُود
...........
(11/280)
قد أَكثر النَّاس فِي حَدِيث عَائِشَة فِي قصَّة بَرِيرَة من الإمعان فِي بَيَانه على اخْتِلَاف أَلْفَاظه وَاخْتِلَاف رُوَاته، وَقد ألف مُحَمَّد بن جرير فِيهِ كتابا، وَلِلنَّاسِ فِيهِ أَبْوَاب أَكْثَرهَا تكلّف وتأويلات مُمكنَة لَا يقطع بِصِحَّتِهَا.
.............
(11/283)
وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ إِبْرَاهِيم: وَالْعرب تطلق البيع على الشِّرَاء،ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا صَحِيح على مَذْهَب من جوز اسْتِعْمَال اللَّفْظ الْمُشْتَرك فِي معنييه،أللهم إلاَّ أَن يُقَال: البيع وَالشِّرَاء ضدان فَلَا يَصح إرادتهما مَعًا. فَإِن قلت: فَمَا تَوْجِيهه؟قلت: وَجهه أَن يحمل على عُمُوم الْمجَاز. انْتهى. قلت: قَول إِبْرَاهِيم: الْعَرَب تطلق البيع على الشِّرَاء، لَيْسَ مُبينًا أَنه مُشْتَرك، وَاسْتعْمل فِي معنييه، بل هما من الأضداد، كَمَا مر.
وكَرِهَهُ ابنُ سِيرينَ وإبْرَاهِيمُ لِلْبَائِعِ ولِلْمُشْتَرِي
أَي: كره مُحَمَّد بن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ شِرَاء الْحَاضِر للبادي كَمَا يكرهان بَيْعه لَهُ
........
(11/282)
قَالَ ابْن حزم: وَهُوَ حرَام سَوَاء خرج للتلقي أم لَا، بَعُدَ مَوضِع تلقيه أم قَرُبَ، وَلَو أَنه عَن السُّوق على ذِرَاع، والجالب بِالْخِيَارِ إِذا دخل السُّوق فِي إِمْضَاء البيع أَو رده. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: كره تلقي السّلع بِالشِّرَاءِ مَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِي ّ،فَذهب مَالك إِلَى أَنه: لَا يجوز تلقي السّلع حَتَّى تصل إِلَى السُّوق، وَمن تلقاها فاشتراها مِنْهُم يشْتَرك فِيهَا أهل السُّوق، إِن شَاءُوا كَانَ وَاحِدًا مِنْهُم. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: وَإِن لم يكن للسلعة سوق عرضت على النَّاس فِي الْمصر فيشتركون فِيهَا إِن أَحبُّوا، فَإِن أخذوها وإلاَّ ردوهَا عَلَيْهِ، وَلَا يرد على بَائِعهَا،وَقَالَ غَيره: يفْسخ البيع فِي ذَلِك. وَقَالَ الشَّافِعِي: من تلقاها فقد أَسَاءَ، وَصَاحب السّلْعَة بِالْخِيَارِ إِذا قدم بِهِ السُّوق فِي إِنْفَاذ البيع أوردهُ، لأَنهم يتلقونهم فَيُخْبِرُونَهُ مْ بكساد السّلع وَكَثْرَتهَا. وهم أهل غرَّة ومكر وخديعة، وحجته حَدِيث أبي هُرَيْرَة، فَإِذا أَتَى سَيّده السُّوق فَهُوَ بِالْخِيَارِ. وَذهب مَالك أَن نَهْيه عَن التلقي إِنَّمَا يُرِيد بِهِ نفع أهل السُّوق لَا نفع رب السّلْعَة، وعَلى ذَلِك يدل مَذْهَب الْكُوفِيّين وَالْأَوْزَاعِي ّ،وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ: مَعْنَاهُ: لِئَلَّا يَسْتَفِيد الْأَغْنِيَاء وَأَصْحَاب الْأَمْوَال بِالشِّرَاءِ دون أهل الضعْف، فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى الضَّرَر بهم فِي مَعَايشهمْ،وَلِهَذَا الْمَعْنى قَالَ مَالك: إِنَّه يشْتَرك مَعَهم إِذا تلقوا السّلع، وَلَا ينْفَرد بهَا الْأَغْنِيَاء
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجَاز أَبُو حنيفَة التلقي وَكَرِهَهُ الْجُمْهُور. قلت: لَيْسَ مَذْهَب أبي حنيفَة كَمَا ذكره على الْإِطْلَاق، وَلَكِن على التَّفْصِيل الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَالْعجب من ابْن الْمُنْذر وَأَمْثَاله كَيفَ ينقلون عَن أبي حنيفَة شَيْئا لم يقل بِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِك مِنْهُم من أريحية العصبية على مَا لَا يخفى.
....
(11/287)
الْمَنْع من بيع الْحَاضِر للبادي سَببه الرِّفْق لأهل الْبَلَد، وَاحْتمل فِيهِ غبن البادي، وَالْمَنْع من التلقي أَن لَا يغبن البادي؟فَالْجَوَاب: أَن الشَّرْع ينظر فِي مثل هَذِه الْمسَائِل إِلَى مصلحَة النَّاس، والمصلحة تَقْتَضِي أَن ينظر للْجَمَاعَة على الْوَاحِد لَا للْوَاحِد على الْوَاحِد، فَلَمَّا كَانَ البادي إِذا بَاعَ بِنَفسِهِ انْتفع جَمِيع أهل السُّوق واشتروا رخيصا فَانْتَفع بِهِ جَمِيع سكان الْبَلَد نظر الشَّرْع لأهل الْبَلَد على البادي، وَلما كَانَ فِي التلقي إِنَّمَا ينفع المتلقي خَاصَّة، وَهُوَ وَاحِد فِي قبالة وَاحِد، لم يكن فِي إِبَاحَة التلقي مصلحَة،لَا سِيمَا وينضاف إِلَى ذَلِك عِلّة ثَانِيَة: وَهُوَ لُحُوق الضَّرَر بِأَهْل السُّوق فِي انْفِرَاد المتلقي عَنْهُم بالرخص وَقطع الْمَوَارِد عَنْهُم، وهم أَكثر من المتلقي، فَنظر الشَّرْع لَهُم عَلَيْهِ، فَلَا تنَاقض فِي الْمَسْأَلَتَيْ نِ، بل هما متفقان فِي الْحِكْمَة والمصلحة.
..........
(11/289)
وَقَالَ النَّوَوِيّ،رَحمَه الله: هَذَا حَدِيث عَظِيم كثير الْأَحْكَام وَالْقَوَاعِد،وَفِيه مَوَاضِع تشعبت فِيهَا الْمذَاهب:
أَحدهَا: أَنَّهَا كَانَت مُكَاتبَة وباعها الموَالِي واشترتها عَائِشَة، وَأقر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيعهَا،فَاحْتَجت بِهِ طَائِفَة من الْعلمَاء أَنه: يجوز بيع الْمكَاتب، وَمِمَّنْ جوزه عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَأحمد،وَقَالَ ابْن مَسْعُود وَرَبِيعَة وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَبَعض الْمَالِكِيَّة وَمَالك فِي رِوَايَة عَنهُ: لَا يجوز بَيْعه. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: يجوز بَيْعه لِلْعِتْقِ لَا للاستخدام، وَأجَاب من أبطل بَيْعه عَن حَدِيث بَرِيرَة أَنَّهَا عجزت نَفسهَا وفسخوا الْكِتَابَة.
الْموضع الثَّانِي: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اشْتَرَيْتهَا. .) إِلَى آخِره، مُشكل من حَدِيث الشِّرَاء وَشرط الْوَلَاء لَهُم وإفساد البيع بِهَذَا الشَّرْط، ومخادعة البائعين وَشرط مَا لَا يَصح لَهُم، وَلَا يحصل لَهُم. وَكَيْفِيَّة الْإِذْن لعَائِشَة؟ وَلِهَذَا الْإِشْكَال أنكر بعض الْعلمَاء هَذَا الحَدِيث بجملته، وَهَذَا مَنْقُول عَن يحيى بن أَكْثَم، وَالْجُمْهُور على صِحَّته، وَاخْتلفُوا فِي تَأْوِيله. فَقيل: اشترطي لَهُم الْوَلَاء،أَي: عَلَيْهِم،كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم اللَّعْنَة} (الرَّعْد: 52) . أَي: وَعَلَيْهِم، نقل هَذَا عَن الشَّافِعِي والمزني،وَقيل: معنى اشترطي: أظهري لَهُم حكم الْوَلَاء. وَقيل: المُرَاد الزّجر والتوبيخ لَهُم لأَنهم لما ألحُّوا فِي اشْتِرَاطه وَمُخَالفَة الْأَمر قَالَ لعَائِشَة هَذَا،بِمَعْنى: لَا تبالي سَوَاء شرطته أم لَا، فَإِنَّهُ شَرط بَاطِل مَرْدُود. وَقيل: هَذَا الشَّرْط خَاص فِي قصَّة عَائِشَة، وَهِي قَضِيَّة عين لَا عُمُوم لَهَا. .
الثَّالِث: أَن الْوَلَاء لمن أعتق، وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على ثُبُوت الْوَلَاء لمن أعتق عَبده أَو أمته عَن نَفسه، وَأَن يَرث بِهِ، وَأما الْعَتِيق فَلَا يَرث سَيّده عِنْد الجماهير،وَقَالَ جمَاعَة من التَّابِعين: يَرِثهُ كَعَكْسِهِ.
الرَّابِع: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير بَرِيرَة فِي فسخ نِكَاحهَا، وأجمعت الْأمة على أَنه إِذا اعتقت كلهَا تَحت زَوجهَا، وَهُوَ عبد، كَانَ لَهَا خِيَار فِي فسخ النِّكَاح، فَإِن كَانَ حرا فَلَا خِيَار لَهَا عِنْد الشَّافِعِي وَمَالك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَهَا الْخِيَار.
الْخَامِس: أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل شَرط) إِلَى آخِره، صَرِيح فِي إبِْطَال كل شَرط لَيْسَ لَهُ أصل فِي كتاب الله تَعَالَى، وَقَامَ الْإِجْمَاع على أَن من شَرط فِي البيع شرطا لَا يحل أَنه لَا يجوز، عملا بِهَذَا الحَدِيث. وَاخْتلفُوا فِي غَيرهَا من الشُّرُوط على مَذَاهِب مُخْتَلفَة: فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل على نَص حَدِيث بَرِيرَة، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحكم وَابْن جرير وَأَبُو ثَوْر. وَذَهَبت طَائِفَة أُخْرَى إِلَى جوازهما، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي بَيْعه جمله واستثنائه حمله إِلَى الْمَدِينَة،
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع وَشرط. وَهُوَ قَول عمر وَولده وَابْن مَسْعُود والكوفيين وَالشَّافِعِيّ، وَقد يجوز عِنْد مَالك البيع وَالشّرط، مثل أَن يشْتَرط البَائِع مَا لم يدْخل فِي صَفْقَة البيع،مثل: أَن يَشْتَرِي زرعا وَيشْتَرط على البَائِع حصده، أَو دَارا وَيشْتَرط سكناهَا مُدَّة يسيرَة، أَو يشْتَرط ركُوب الدَّابَّة يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ، وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ لَا يجيزان هَذَا البيع كُله،وَمِمَّا أجَازه مَالك فِيهِ البيع وَالشّرط: شِرَاء العَبْد بِشَرْط عتقه إتباعا للسّنة فِي بَرِيرَة، وَبِه قَالَ اللَّيْث وَالشَّافِعِيّ فِي رِوَايَة الرّبيع، وَأَجَازَ ابْن أبي ليلى هَذَا البيع وأبطل الشَّرْط، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر، وأبطل أَبُو حنيفَة البيع وَالشّرط وَأخذ بِعُمُوم نَهْيه عَن بيع وَشرط،وَمِمَّا أجَازه مَالك فِيهِ البيع وَإِبْطَال الشَّرْط: كَشِرَاء العَبْد على أَن يكون الْوَلَاء للْبَائِع، وَهَذَا البيع أَجمعت الْأمة على جَوَازه وَإِبْطَال الشَّرْط فِيهِ لمُخَالفَته السّنة، وَكَذَلِكَ من بَاعَ سلْعَة وَشرط أَن لَا ينْقد المُشْتَرِي الثّمن إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام وَنَحْوهَا فَالْبيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل عِنْد مَالك، وَأَجَازَ ابْن الْمَاجشون البيع وَالشّرط، وَمِمَّنْ أجَاز هَذَا البيع الثَّوْريّ وَمُحَمّد بن الْحسن وَأحمد وَإِسْحَاق، وَلم يفرقُوا بَين ثَلَاثَة أَيَّام وَأكْثر مِنْهَا، وَأَجَازَ أَبُو حنيفَة البيع وَالشّرط إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، وَإِن قَالَ إِلَى أَرْبَعَة أَيَّام بَطل البيع، لِأَن اشْتِرَاط الْخِيَار بِأَكْثَرَ من ثَلَاثَة أَيَّام لَا يجوز عِنْده، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر.
......
(11/288)
وَمِمَّا حُكيَ عَن عبد الْوَارِث بن سعيد قَالَ: قدمت مَكَّة فَوجدت بهَا أَبَا حنيفَة وَابْن أبي ليلى وَابْن شبْرمَة، فَسَأَلت أَبَا حنيفَة،فَقلت: مَا تَقول فِي رجل بَاعَ بيعا وَشرط شرطا؟فَقَالَ: البيع بَاطِل وَالشّرط بَاطِل، ثمَّ أتيت ابْن أبي ليلى فَسَأَلته،فَقَالَ: البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل، ثمَّ أتيت ابْن شبْرمَة،فَقَالَ: البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز. فَقلت: سُبْحَانَ الله ثَلَاثَة من فُقَهَاء الْعرَاق اخْتلفُوا على مَسْأَلَة وَاحِدَة. فَأتيت أَبَا حنيفَة فَأَخْبَرته،فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدثنِي عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده (أَن النَّبِي،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نهى عَن بيع وَشرط) ، البيع بَاطِل وَالشّرط بَاطِل. ثمَّ أتيت ابْن أبي ليلى فَأَخْبَرته فَقَالَ: (مَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدثنِي هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة،قَالَت: (أَمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن أَشْتَرِي بَرِيرَة فأعتقيها، البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل) . ثمَّ أتيت ابْن شبْرمَة فَأَخْبَرته،فَقَالَ: (مَا أَدْرِي مَا قَالَا،حَدثنِي مسعر بن كدام عَن محَارب بن دثار عَن جَابر بن عبد الله (قَالَ: بِعْت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاقَة، فَاشْترط لي حملانها إِلَى الْمَدِينَة، البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز) .
.......
(11/296)
وروى الْحَاكِم من طَرِيق حبَان الْعَدوي،بِالْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: سَأَلت أَبَا مجلز عَن الصّرْف،فَقَالَ: كَانَ ابْن عَبَّاس لَا يرى بِهِ بَأْسا زَمَانا من عمره، مَا كَانَ مِنْهُ عينا بِعَين يدا بيد،وَكَانَ يَقُول: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة، فَلَقِيَهُ أَبُو سعيد بِالشَّعِيرِ، فَذكر الْقِصَّة، والْحَدِيث،وَفِيه: التَّمْر بِالتَّمْرِ وَالْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ وَالشعِير بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ يدا بيد مثلا بِمثل، فَمن زَاد فَهُوَ رَبًّا،فَقَالَ ابْن عَبَّاس: اسْتغْفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ. فَكَانَ ينْهَى عَنهُ أَشد النَّهْي.
وَاتفقَ الْعلمَاء على صِحَة حَدِيث أُسَامَة وَاخْتلفُوا فِي الْجمع ببينه وَبَين حَدِيث أبي سعيد،فَقيل: مَنْسُوخ،وَقيل: معنى لَا رَبًّا لَا رَبًّا أغْلظ شَدِيد التَّحْرِيم المتوعد عَلَيْهِ بالعقاب الشَّديد،كَمَا تَقول الْعَرَب: لَا عَالم فِي الْبَلَد إلاَّ زيد، مَعَ أَن فِيهَا عُلَمَاء غَيره، وَإِنَّمَا الْقَصْد نفي الْأَكْمَل، لَا نفي الأَصْل، وَأَيْضًا فنفي تَحْرِيم رَبًّا الْفضل من حَدِيث أُسَامَة إِنَّمَا هُوَ بِالْمَفْهُومِ، فَيقدم عَلَيْهِ حَدِيث أبي سعيد، لِأَن دلَالَته بالمنطوق، وَيحمل حَدِيث أُسَامَة على الرِّبَا الْأَكْبَر. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: معنى حَدِيث أُسَامَة: لَا رَبًّا إلاَّ فِي النَّسِيئَة، إِذا اخْتلف أَنْوَاع الْمَبِيع، وَالْفضل فِيهِ يدا بيد رَبًّا، جمعا بَينه وَبَين حَدِيث أبي سعيد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا التلفيق بَين حَدِيث أُسَامَة وَحَدِيث أبي سعيد؟قلت: الْحصْر إِنَّمَا يخْتَلف بِحَسب اخْتِلَاف اعْتِقَاد السَّامع، فَلَعَلَّهُ كَانَ يعْتَقد الرِّبَا فِي غير الْجِنْس حَالا،فَقيل: ردا لاعْتِقَاده لَا رَبًّا إلاَّ فِي النَّسِيئَة،أَي: فِيهِ مُطلقًا، وَقد أَوله الْعلمَاء بِأَنَّهُ مَحْمُول على غير الربويات، وَهُوَ كَبيع الدّين بِالدّينِ مُؤَجّلا، بِأَن يكون لَهُ ثوب مَوْصُوف فيبيعه بِعَبْد مَوْصُوف مُؤَجّلا، وَإِن بَاعه بِهِ حَالا يجوز أَو مَحْمُول على الْأَجْنَاس الْمُخْتَلفَة فَإِنَّهُ لَا رَبًّا فِيهَا من حَيْثُ التَّفَاضُل، بل يجوز مُتَفَاضلا يدا بيد، وَهُوَ مُجمل.
.......
(11/303)
الَ ابْن قدامَة فِي الْمُغنِي الْعَرَايَا لَا تجوز إِلَّا فِيمَا دون خَمْسَة أوسق وَبِهَذَا قَالَ ابْن الْمُنْذر وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَوْله الآخر تجوز فِي الْخَمْسَة وَرَوَاهُ الْجوزجَاني عَن إِسْمَاعِيل بن سعيد عَن أَحْمد واتفقا على أَنَّهَا لَا تجوز فِي الزِّيَادَة على خَمْسَة أوسق وَقَالَ أَيْضا إِنَّمَا يجوز بيعهَا بِخرْصِهَا من التَّمْر لَا أقل مِنْهُ وَلَا أَكثر وَيجب أَن يكون التَّمْر الَّذِي يَشْتَرِي بِهِ مَعْلُوما بِالْكَيْلِ وَلَا يجوز جزَافا وَلَا نعلم فِي هَذَا عِنْد من أَبَاحَ بيع الْعَرَايَا اخْتِلَافا وَاخْتلف فِي معنى خرصها من التَّمْر فَقيل مَعْنَاهُ أَن يطِيف الخارص بالعرية فَينْظر كم يَجِيء مِنْهَا تَمرا فيشتريها بِمثلِهِ من التَّمْر وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَنقل حَنْبَل عَن أَحْمد أَنه قَالَ بِخرْصِهَا رطبا وَيُعْطِي تَمرا وَلَا يجوز أَن يَشْتَرِيهَا بِخرْصِهَا رطبا وَهُوَ أحد
الْوُجُوه لأَصْحَاب الشَّافِعِي وَالثَّانِي يجوز وَالثَّالِث يجوز مَعَ اخْتِلَاف النَّوْع وَلَا يجوز مَعَ اتفاقه وَلَا يجوز بيعهَا إِلَّا لمحتاج إِلَى أكلهَا رطبا وَلَا يجوز بيعهَا لَغَنِيّ وَهَذَا أحد قولي الشَّافِعِ
...........
(11/307)
(قَالَ مُوسَى بن عقبَة والعرايا نخلات مَعْلُومَات تأتيها فتشتريها) هَذَا تَفْسِيره للعرايا قَالَ الْكرْمَانِي كَيفَ صَحَّ كَلَامه تَفْسِيرا للعرايا وَهُوَ صَادِق على كل مَا يُبَاع فِي الدُّنْيَا من النخلات بِأَيّ غَرَض كَانَ قلت غَرَضه بَيَان أَنَّهَا مُشْتَقَّة من عروت إِذا أتيت وترددت إِلَيْهِ لَا من العرى بِمَعْنى التجرد انْتهى قلت وَتَبعهُ بَعضهم بل أَخذ مِنْهُ بقوله لَعَلَّه أَرَادَ أَن يبين أَنَّهَا مُشْتَقَّة من عروت إِلَى آخِره نَحْو مَا قَالَه الْكرْمَانِي قلت هَذَا تَوْجِيه بعيد جدا فَأَي شَيْء من كَلَامه هَذَا يُوضح أَن غَرَضه بَيَان الِاشْتِقَاق وَيُمكن أَن يُقَال أَنه اخْتَصَرَهُ للْعلم بِهِ
............
قال العيني رحمه الله (11/307)
(كمل الْجُزْء الْحَادِي عشر من عُمْدَة الْقَارِي شرح صَحِيح الإِمَام البُخَارِيّ قدس الله سره وَهُوَ أول العقد الثَّانِي ويتلوه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الْجُزْء الثَّانِي عشر ومطلعه (بَاب بيع الثِّمَار) نَسْأَلهُ سُبْحَانَهُ التَّوْفِيق لإتمامه على هَذَا الْوَجْه الْحسن وَمَا ذَلِك على الله بعزيز انتهى.)
الحمد لله على تمام الاختصار